[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
لأن النفوس إذا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر
نأت بخير منها أو مثلها أي بشيء هو خير للعباد منها أؤ مثلها حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا لابد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم وإشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتي به بعده إما خير في الثواب أو مثل له والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه وعلى تقدير تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها إنتهى ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنةوهو المذهب المنصورومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا وأحتج بظاهر الآية أما على الأول فلأنه لا يتصور كون المأتي به خيرا أو مثلا إلا في بدل وأما على الثاني فلأن الناسخ هو المأتي به بدلا وهو خير أو مثل ويكون الآتي به هو الله تعالى والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى وأما على الثالث فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له ورد ذلك أما الأول والثالث فلأنا لا نسلم أن كون المأتي به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف بإختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في إنتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم ولا يرد أن المتبادر من نأت بخير منها بآية خير منها وإن عدم الحكم ليس بمأتي به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصولوأما الثاني فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتي به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير منها أو مثل لها ولا يلزم منه أن يكون ذلك هوالناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتي به الذي هو خير أو مثل آية أخرى وأيضا السنة مماأتى به الله سبحانه لقوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس المراد بالخيرية والمماثلة في الفظ حتى لا تكون السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما أشتملت عليه السنة خيرا في ذلك وأحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد
(1/353)

من النسخ والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي والقديم عندنا الكلام النفسي وأعترض بأنه مخالف لما أتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في الأحكام وقرأ أبو عمروناتبقلب الهمزة ألفا
ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير 601 الإستفهام قيل : للتقرير وقيل : للإنكار والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم ومبدأ علمهم ولإفادة المبالغة مع الإختصار وقيل : لكل واقف عليه على حد بشر المشائين وقيل لمنكري النسخ والمراد الإستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى عل ىالنسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عزوجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا والإلتفات بوضع الأسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة ولأنه الأسم العلم الجامع لسائر الصفات ففي ضمنه صفة القدرة فهوأبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم وكذا الحال في قوله عز شأنه : ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض أي قد علمت أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والإستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي إيجادا وإعداما وأمرا ونهياحسبما تقتضيه مشيئته لا معارض لأمره ولا معقب لحمه فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء ! فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان فيكون منزلا عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح فلذا ترك العطف وجوز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للإستشهاد على ما ذكر وإنما لم تعطف أن مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا بإستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود وخص السموات والأرض بالملكلأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرةولأن كل مخلوق لايخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الإستيلاء عليهما إشارة إلى الإستيلاء على ما أشتملا عليه وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الإستيلاء والسلطان ولم يقل جل شأنه : إن لله ملك إلخ قصدا إلى تقوى الحكم بتكرير الإسناد وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير 701 عطف على الجملة الواقعة خبرا ل أن داخل معها حيث دخلت وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا و من الثانية صلة فلا تتعلق بشيء و من الأولى لإبتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول من الثانيةوهو في الأصل صفة لهفلما قدم أنتصب على الحالية وفي البحر إنها متعلقة بما تعلق به لكم وهو في موضع الخبر ويجوز في ما أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرور او الولي المالك والنصيرالمعين والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكونبل يكون أجنبياوالمراد من الآية الإستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله البتة إنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا
(1/354)

أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل وجوز في أم هذه أن تكون متصلة وأن تكون منقطعة فإن قدر تعلمون قبل تريدون بناء على دلالة السباق وهو ألم تعلم والسياق وهو الإقتراح فإن لا يكون إلا عند التعنت والعم بخلافه كانت متصلة كأنه قيل : أي الأمرين من دم العلم بما تقدم أو العلم مع الإقتراح واقع والإستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما وإن لم يقدر كانت منقطعة للإضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الإستفهام عن إقتراحهم كإقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترحوذلك مخل بالإتصالوأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد وإرادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الأل كانت لمجرد التصوير والإتقال لما قدما أنها بطريق الكناية والمرادعلى التقديري نتوصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وترك الإقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في النسخ فكأنه قيل : لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة وإقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها فضلا عن السؤال يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك ولم يقل سبحانه : كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره ولا يقتضي سابقيه وقوع الإقتراح منهم ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع كيف وهو كفر كما يدل عليه ما بعدولا يكاد يقع من المؤمن ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى : ما ننسخ فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة و السلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب وقد ذكر بعض المفسرين أنهم أقترحوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : أجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم فلا أدري أتعبدون العجل أم لا وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون والسباق والسياق والتذييل تشهد له وعليه يترجح الإتصال لما نقل عن الرضى أن الفعليتين إذا أشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدتفأممتصلة وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملةكما نزلت التوراة على موسى عليه السلام وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تهديدا لهم وحينئذ يكون المضارع الآتي بمنى الماضي إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة وأختار هذا الإمام الرازي وقال : إنه الأصح لأن هذه سورة من أول قوله تعالى : يابني إسرائيل أذكروا نعمتي حكاية عن اليهود ومحاجة معهم ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم ولأن المؤمن بالرسول لايكاد يسأل ما يكون متبدلا به الكفر بالإيمان ولا يخفى ما فيه وكأنه رحمه الله تعالى نسي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا وقيل : إن المخاطب أهل مكة وهو قول إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد روى عنه أن الآية نزلت في عبدالله بن أمية ورهط من قريش قالوا ك يامحمد أجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك وحكى في سبب النزول غير
(1/355)

ذلك ولا مانعكما في البحر من جعل الكل أسبابا وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في رسولكم فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار و ما مصدرية والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف أي سؤالا كماورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال كما وأجاز الحوفي أن تكون 0 ما موصولة في موضع المفعول به ل تسألوا أي كالأشياء اتي سألها موسى عليه السلام قبل وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات وكونها في العاقبة وبالا عليهموفيه نظرلأن المشبه أن تسألوا وهو مصدر فالظاهر أن المشبه به كذلك وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول عنه بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابطفهو أولىو من قبل متعلق ب سئل وجيء به للتأكيد وقرأ الحسن وأبو السمال سيل بسين مكسورة وياء وأبو جعفر والزهري بإشمام الشين الضم وياء وبعضهم بتسهيل الهمزة بي بين وضم السين
ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل 801 جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الإقتراح المفهوم من قوله : أم تريدون إلخ معطوفة عليه فهي تذييل له بإعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة الضالين الطريق المستقيم المتبدلين و سواء بمعنى وسط أو مستوى والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الإتصاف كأنه نفس السواء على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلةوالفاء رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم علىالإستبدالوالإرتداد لا يترتب عليه ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن قد للتحقيق وما تأكد ورسخ لا ينقلب ولا يترتب الماضي على المستقبل ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيزعلى ما صرح به الرضى وغيرهفلا بد من التقدير بأن يقال : ومن يتبدل الكفر بالإيمان فالسبب فيه أنه تركه ويؤل المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيموهوالكفر الصريح في الآيات سبب للتبديل والإرتداد وفسر بعضهم التبدل المذكور بترك الثقة بالآيات بإعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض وحق بحت وأقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى وتاه في تيه الهوى وتردى في مهاوي الردى وأختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وإرتدادولعل ما أشرنا إليه أولى كما لايخفى على المتدبر وقريء ومن يتبدل منأبدلوإدغامالدال في الضاد والإظهار قراءتان مشهورتان
ود كثير من أهل الكتاب وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد : ألم تروا إلى ماأصابكم ولو كنتم على الحق لما هزمتم فأرجعوا إلى ديننا فهو خير لكم رواه الواحدي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه وروى أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل ذكر الحافظ إبن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث لو يردونكم حكاية لودادتهم وقد تقدم الكلام على لو هذه فأغنى عن الإعادة من بعد إيمانكم كفارا أي مرتدين وهو حال من ضمير
(1/356)

المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الإرتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه ولذا لم يقللو يردونكمإلى الكفر وجوز أن يكون حالا من فاعل ود وأختار بعضهم أنه مفعول ثانليردونكمعلى تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في لتعودن في ملتنا على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة وفي قوله تعالى : من بعد مع أن الظاهرعنلأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم وقيل : أورد متوسطا لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل : من بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى حسدا علةلودلاليردونكملأنه يودون أرتدادهم مطلقا لا إرتدادهم المعلل بالحسد وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر وفيه ضعف لأن جعل المصدرحالاكما قال أبو حيانلا ينقاس وقيل : يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى من عند أنفسهم متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا متناهيا وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم وإما للوداد المفهوم من ود أي ودادا كائنا من عند أنفسهم وتشيهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق وجعله ظرفا لغوا معمولالودأو حسدا كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة من كما قاله إبن الشجري من بعد ما تبين لهم الحق بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال ولعل من قال : إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين أعتقدوهم وأتخذوهم رؤوساء فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعى أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن منشاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في قيد الخذلان فأعفوا وأصفحوا العفو ترك عقوبة المذنب والصفح ترك التثريب والتأنيب وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها وآثر العفو على الصبر على أذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين
حتى يأتي الله بأمره هو واحد الأوامر والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى وهم صاغرون أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير وقيل : واحد الأمور والمراد به القيامة أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة ومن الناس من فسر الصفح بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره وفسره بإسلام من أسلم منهم كما قاله الكلبي وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور وهو عند المحققين مع بين الحقيقة والمجاز وعن قتادةوالسدي وإبن عباس رضي الله تعالى عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف وأستشكل
(1/357)

ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الإنتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأييد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤيدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع والأمر ههنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل فأعفوا وأصفحوا إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما إنتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وكان ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في التلويح من أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإيجاب الرجوع إليه وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لإحتمال أن يكون الرجوع إليه بإعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأييد فتبديلها يكون نسخا وأجيب عن الإستشكال بأنه لا يبعد أن يقال : إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال : لعلمهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام الساعة والتأييد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب وأما إذا كان غاية المواجب فلا ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي : إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر
إن الله على كل شيء قدير 901 تذييل مؤكد لما فهم من سابقه وفيه إشعار بالإنتقام من الكفار ووعد المؤمنين بالنصرة والتمكين ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره وأقيموا الصلاة واتوا الزكاة عطف على فأعفوا كأنه سبحانه أمرهم بالمخالفة والإلتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون وقول الطبري : إنهم أمرو هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود راعنا منحط عن درجة الإعتبار
وما تقدموا لأنفسكم من خير أي أي خير كان وفي ذلك توكيد للأمر بالفو والصفح والصلاة والزكاةوترغيب إليه واللام نفعية وتخصيص الخير بالصلاة والصدقة خلاف الظاهر وقريء تقدموا من قدم من السفر وأقدمه غيره جعله قادما وهي قريب من الأولى لا من الأقدام ضد الأحجام
تجدوه عند الله أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف وقيل : الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله تعالى والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه : إن الله بما تعملون بصير 011 حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير ههنا العالم ولا دلالة على كونه الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور وقريء يعملون بالياء والضمير
(1/358)

حينئذ كناية عن كثير أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى فأعفوا إلخ مؤكدا لمضمون الغاية والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح وإزالة لإستبطاء إتيان الأمر وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة والكلام وعيد للمؤمنين ويستفاد من الإلتفات الواقع من صرف من الخطاب إلى الغيبة وهو النكتة الخاصة بهذا الإلتفات ولايخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى عطف على ود وما بينهما أنى فأعفوا وأصفحوا إما إعتراض بالفاء أو عطف على ود أيضا وعطف الإنشاء على الأخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز والضميرلأهل الكتاب لا لكثيرمنهم كما يتبادر من العطف والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا وكأن أصل الكلام قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارىفلف بين هذين المقولين وجعلا مقولا واحدا إختصارا وثقة يفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد وللعلم بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة أو كما في معنى اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غباروهودجمع هائد كعوذ جمع عائذ وقيل : مصدر يستوي فيه الواحد وغيره وقيل : إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف وعلى القول بالجمعية يكون أسم كان مفردا عائدا على من بإعتبار لفظها وجمع الخبر بإعتبار معناها وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه ومنه قوله : وأيقظ من كان منكم نياما
وقرأ أبي يهوديا أو نصرانيافحمل الخبر والأسم معا على اللفظ
تلك أمانيهم الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى كالاضحوكة والأعجوبةوالجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم و تلك إشارة إلى لن يدخل الجنة إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها وقيل : إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان وقيل : لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن تلك محتوية على أمانأن لا يدخل الجنة إلا اليهود وأن لا يدخل الجنة إلا النصارىوحرمان المسلمين منها وأيضا فقائله متعدد وهو بإعتبار كل قائل أمنية وبإعتبار الجميع أمان كثيرة ومن الناس من جعلها إشارة إلى أنلا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردوهم كفارا وأن لا يدخل الجنة غيرهموعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة والثالث دعوى باطلة وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الإستعارة تشبيها بالمتمني في الإستحالة ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيهاودهملشيء قد أنفصلت وكملت وأستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها
قل هاتوا برهانكم أي على ما أدعيتموه من إختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى : قالوا لن يدخل إلخ على أنه جواب له لا غير و هاتوا بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزةآتواولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها أسم فعل أو صوت بمنزلةهاوفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف وأثبت أبو حيانهاتي يهاتي مهاتاةوالبرهان الدليل على صحة الدعوى قيل : هو مأخوذ من البره
(1/359)

وهو القطع فتكون النون زائدة وقيل : من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبني على هذا الإشتقاق الخلاف فيبرهان إذا سمى به هل ينصرف أو لا إن كنتم صادقين 111 جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لاالإيمان ولا الأمانيكم قيل وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به ولذا قيل : من أدعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لايخفىوتفسير الصادق هنا بلصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن بلى رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة والقول بأنه رد لما أشار إليه قل هاتوا برهانكم من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه من أسلم وجهه لله أي إنقاد لما قضى الله تعالى وقدر او أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن الحواس وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له وهو محسن حال من ضمير أسلم أي والحال إنه محسن في جميع أعماله وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى آمن وعمل الصالحات وقد فسر النبي الإحسان بقوله : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فله أجره أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمدهب الإعتزال والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة إرتباطه بالعمل عند ربه حال منأجره والعامل فيه معنى الإستقرار والعندية للتشريف والمراد عدم الضياع والنقصان وأتىبالربمضافا إلى ضمير من أسلم إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط وعلى التقديرين يكون الرد ب على وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زموه فما الحق في ذلك وجوز أن تكون من موصولة فاعل ليدخلها محذوفا و بلى مع ما بعدها رد لقولهم ويكون فله أجره معطوفا على ذلك المحذوف عطف الأسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد وبالثانية الثبوت وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا أختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانت المعنى فيتعاطفان ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة بإعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الأول بإعتبار اللفظ ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام قال في الموضعين للعهد وقيل : المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الأخبار عن الأمم السالفة وفيه تقريع لمن بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة و السلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس والأول هو المروي في أسباب النزول وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر ويحتمل أن يكون
(1/360)

المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم و على شيء خبر ليس وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلا منهما على شيء والأول عدم إعتبار الحذفوفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيءكم يشير إليه كلام سيبويهما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفى مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الإعتداد بما هم عليه وصار كقولهمأقل من لا شيءوهم يتلون الكتاب حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه والمراد من الكتاب الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل وقيل : المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا
كذلك قال الذين لا يعلمون وهم مشركو العرب في قول الجمهوروقيل : مشركو قريش وقيل : هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول الذين لا يعلمون والكاف من كذلك في موضع نصب على أنه عت لمصدر محذوف منصوب ب قال مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعلمون ويكون مثل قولهم على هذا منصوبا ب يعلمون والقول بمعنى الإعتقاد أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف وقيل : كذلك مفعول به و مثل مفعول مطلق والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالإبتداء والجملة بعده خبره والعائد محذوف أي قاله و مثل صفة مصدر محذوف أو مفعول يعلمون ولا يجوز أن يكون مفعول قال لأنه قداستوفى مفعوله وأعترض هذا بأن حذف العائدعلى المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبهمما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله : وخالد يحمد ساداتنا بالحق لا تحمد بالباطل وقيل : عليه وعلى ما قبله أن إستعمال الكاف أسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر ولعل الأولى أن يجعل مثل قولهم إعادة لقوله تعالى : كذلك للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى : جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه وبه قال بعض المحققين وقد يقال إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير : كذلك خيمهم ولكل قوم إذا مستهم الضراء خيم عن الإمام الجرجاني إن كذلك تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي وكذلك تثبت ومثله كذلك نسلكه في قلوب المجرمين وفي شرح المفتاح الشريفي إنه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول : إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للإستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر وقال الحماسي :
(1/361)

هكذا يذهب الزمان ويفنى ال
علم فيه ويدرس الأثر نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة وقال في شرح قول أبي تمام : كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
إنه للتهويل والتعظيم وهو في مصدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل وبعضهم يجعل التشبيه على حد إنما البيع مثل الربا وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا يسنخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا إنتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ
فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون 311 أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال : حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا وقد حذف هنا أحدهما إختصارا وتفخيما لشأنه بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن إستعماله بما ذكر مجاز وقال الحسن : المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم و يوم متعلق ب يحكم وكذا ما بعده ولا ضير لإختلاف المعنى وفيه متعلق ب يختلفون لا ب كانوا وقدم عليه للمحافظة على رؤوس الآي
ومن باب الإشارة في الآيات ما ننسخ من آية أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونركم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الأسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك ألم تعلم أن الله له ملك عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على إختلافها ظاهر شئون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم أ تريدون أن تسألوا رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية كما سئل موسى القلب من قبل ومن يتبدل الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا ولهدا قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين تلك أمانيهم أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها وأحتجبوا بها عما فوقها قل هاتوا دليلكم الدال على نفي دخول غيركم إن كنتم صادقين في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن من أسلم وجهه وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني فله أجره عند ربه أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لإختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من إحتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها وقالت اليهود ليست النصارى على شيء لإحتجابهم بالباطن عن الظاهر وقالت النصارى ليست
(1/362)

اليهود على شيء لإحتجابهم عن الباطن بالظاهر وهم يتلون الكتاب وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته كذلك قال الذين لا يعلمون المراتب مثل قولهم فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود فالله تعالى الجامع لجميع الصفات على إختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها يحكم بينهم بالحق في إختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق ومن أظلم ممن منع مساجد الله نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك انهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف ودبحوا فيه الخنازير وبقى خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وروى عطاء عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما إنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام وعلى الأول تكون الآية معطوفة على قوله تعالى : وقالت النصارى عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم وعلى الثاني تكون إعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني قالوا أتخذ والمعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرةوظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه و أظلم أفعل تفضيل خبر عنمنولايراد بالإستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤل إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك وأستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن كمن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا فمن أظلم ممن كذب بآيات الله إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤل معناه إلى السبق في المانعية أو الإفترائية مثلا وأعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها إستعجام المعنى فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم وإما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لإفراد من أتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ماأشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان ولا يخفى ما فيه وقد قال غير واحد إن قولك : من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والإستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل منأكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الإشكال وأرتفع القيل والقال فتدبر أن يذكر فيها أسمه مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى
(1/363)

منعها كراهية أن يذكر أو بدل إشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير والفعل متعد لواحد وكنى بذكر أسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها
وسعى في خرابها أي هدمها وتعطيلها وقل الودي : إن عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها أولئك الظالمون المانعون الساعون في خرابها
ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين اللامفي لهم إما للإختصاص على وجه اللياقة كما في الحل للفرس والمراد من الخوف الخوف من الله تعالى وإما للإستحقاق كما فيالجنة للمؤمنوالمراد من الخوفالخوف من المؤمنين وإما لمجرد الإرتباط بالحصول أي ما كان لهم في علم الله تعالى وقضائه أن يدخلوها فيما سيجيء إلا خائفين والجملة على الأول مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى : وسعى في خرابها كأنه قيل : فما اللائق بهم والمراد من الظلم حينئذ وضع الشيء في غير موضعه
وعلى الثاني جواب سؤال ناشيء من قوله سبحانه : من أظلم ممن منع كأنه قيل : فما كان حقهم والمراد من الظلم التصرف في حق الغير وعلى الثالث إعتراض بين كلامين متصلين معنى وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص المساجد عن الكفار وللإهتمام بذلك وسطه وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله فقد روى أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة وقال قتادة : لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا إنتهك ضربا وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض بإستيلاء الأقرع وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن أستخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما ولا دلالة فيه على التكرار وقيل : النفي بمعنى النهي ومعناه على طريق الكنايةالنهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد وذلك يستلزمأن لا يدخلوها إلا خائفينمن المؤمنين فذكر اللازم وأريد الملزوم ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الإشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والإستخلاص منهم فالحمل عليه منأول الأمر أولى وأختلف الائمة في دخول الكفار المسجد فجوزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا للآيةفإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوعولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة و السلام فأنزلهم المسجد ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل الكعبة فهو آمن والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى : إنما المشركون نجس والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات ولذا يمنع الجنب عن الدخول وجوزه لحاجةوفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال : الحديث منسوخ بالآية وقرأ عبدالله إلا حنيفا وهو مثل صيم لهم في الدنيا خزي أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم وكسر أصنامهم وتسفيه أحلامهم وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا وهو ما حكى من ظلمهم كذلك في العظم وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده
ومن باب الإشارة في الآية ومن أبخس حظا وأنقص حقا ممن منع مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب
(1/364)

التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أن يذكر فيها أسمه الخاص الذي هو الأسم الأعظم إذ لا يتجلى بهذا الأسم إلا في القلب وهو التجلي بالذات مع جميع الصفاتأو أسمه المخصوص بكل واحد منها أي الكمال اللائق بإستعداده المقتضي له وسعى في خرابها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس وداعي الشيطان والوهم أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ويصلوا إليها إلا خائفين منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لهم في الدنيا خزي وإفتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو إحتجابهم عن الحق سبحانه ولله المشرق والمغرب أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض وقال بعضهم : إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة والأرض كلها كذلك فلا حاجة إلى إلتزام الكناية وفيه بعد فأينما تولوا أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة وقرأ الحسن تولوا على الغيبة فثم وجه الله أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها فإذا مكان التولية لايختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر فأينما ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل تولوا والتوليةبمعنى الصرف منزل منزلة اللازم و ثم أسم إشارة للمكان البعيد خاصة مبني على الفتح ولا يتصرف فيه بغير من وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وهو خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر الجملة جواب الشرط والوجه الجهة كالوزن والزنة وإختصاص الإضافة بإعتبار كونها مأمورا بها وفيها رضاه سبحانه وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة وقيل : الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه إلا أنه جعل هنا كناية عن علمه وإطلاعه بما يفعل هناك وقال أبو منصور : بمعنى الجاه ويؤل إلى الجلال والعظمة والجملة على هذا إعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض لا في المساجد خاصة وفي الحديث الصحيح جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ولعل غيره عليه الصلاة و السلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس وصلاة عيسى عليه السلام في أسفاره في غيرها كانت عن ضرورةفلا حاجة إلى القول بإختصاص المجموع وجوز أن تكون أينما مفعول تولوا بمعنى الجهة فقد شاع في الإستعمال أينما توجهوا بمعنى أي جهة توجهوابناء على ما روى عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهماأن الآية نزلت في صلاة المسافر والتطوع على الراحلة وعلى ما روى عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم القبلة في غزوة كنت فيها معهم فصلوا إلى الجنوب والشمال فلما أصبحوا تبين خطؤهم ويحتملعلى هاتين الروايتين أن تكون أينما كما في الوجه الأول أيضا ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أيتوليةلأن حذف المفعول به يفيد العموم وأقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية ومن الناس من قال : الآية توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود أن يكون في حيز وجهة وإلا لكانت أحق بالإستقبال وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري والمراد ب أينما أي جهة وبالوجه الذات ووجه الإرتباط حينئذ أنه لما جرى ذكرالمساجد سابقا أورد بعدها تقريبا حكم القبلةعلى سبيل الإعتراض وأدعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال وفيه تأمل إن الله واسع أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة فلهذا وسع عليكم القبلة و يضيق عليكم عليم بمصالح العباد وأعمالهم
(1/365)

في الأماكن والجملة على الأول تذييل لمجموع ولله المشرق والمغرب إلخ وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه : فأينما تولوا إلخ ومن الغريب جعل ذلك تهديدا لمن منع مساجد الله وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى ولا مفر لمن بغى لأن فلك سلطانه حدد الجهات وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات أين المفر ولا مفر لهارب وله البسيطان الثرى والماء ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود والمغرب عبارة عن الغروب بتستره وإحتجابه وإختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن فثم وجه الله المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم : وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدد إن الله واسع لا يخرج شيء عن إحاطته عليم فلا يخفى عليه شيء منأحوال خليقته ومظاهر صفته
قالوا أتخذ الله ولدا نزلت في اليهود حيث قالوا عزيز إبن الله وفي نصارى نجران حين قالوا المسيح إبن الله وفي مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون وعطفه على قالت اليهود وقال أبو البقاء على وقالوا لن يدخل الجنة : وجوز أن يكون عطفا على منع أو على مفهوم من أظلمدون لفظه للإختلاف إنشائية وخبرية والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع وقالوا : وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل والإستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعدما عدد من قبائحهم هل أنقطع خيط إسهابهم في الإفتراء على الله تعالى أم أمتد فقيل : بل أمتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع والإتخاذ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد وإما بمعنى التصيير والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا وقرأ إبن عباس وإبن عامر وغيرهما قالوا بواو على الإستئناف أو ملحوظا فيه معنى العطف وأكتفى بالضمير والربط به عن الواو كما في البحر سبحانه تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا : بأبلغ صيغة ومتعلق سبحان محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه
بل له ما في السموات والأرض إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة وكل محقق قريب سريع ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الإبدي الدائم والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات واللام في له قيل للملك وقيل : إنها كالتي في قولك لزيد ضربت فيد نسبة الأثر إلى المؤثر وقيل : للإختصاص بأي وجه كان وهو الأظهر والمعنى ليس الأمر كما أفتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الإحتياج إلى التوالد كل له قانتون 611 أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا
(1/366)

منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه وإن لم يماثله وكان الظاهر كلمة من مع قانتون كيلا يلزم إعتبار التغليب فيه ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولى العلم كما قاله بعضهم : محتجا بقصة الزبعري مخالفا لما عليه الرضى منأنها في الغالب لما لا يعلم ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح وأعتبر التغليب في قانتون إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لإتخاذ الولد وقيل : أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات ويجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية والجمادات فيه بمنزلة العقلاء
ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطله ويراد بالقنوت الأنقياد لأمر لتكليف كما أنه على العموم الإنقياد لأمر التكوين وحينئذ لا تغليب في قانتون وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق وترك العطف للتنبيه على إستقلال كل منهما في الدلالة على الفساد وإختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله وذكر الجصاص إن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفى الولد بإثبات الملك بإعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه وقد حكم صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الإختصاص كما علمت بديع السموات والأرض أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل وقال إبن بري : قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين ومقعد وقعيد وموصي ووصى ومحكم وحكيم ومبرم وبريم ومونق وأنيق في أخوات له ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معدي كرب السابق والإستشهاد بناءا على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف وقيل : هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سمواته وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح إتصاف الموصوف بها نحوحسن الوجه حيث يصح إتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الأخوان لإتصافه بأنه متقو بهم وفيما نحن فيه وإن أمتنع إتصافه بالصفة المذكورة لكن يصح إتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة والإبداع إختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمباديكما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السموات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لإحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد إعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السموات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى : ثم أستوى إلى السماء
(1/367)

وهي دخان ناشيء من الغفلة عما ذكرنا والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة إنفعاله بإنفصال مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد وقرأ المنصور بديع بالنصب على المدح وقريء بالجر على أنه بدل من الضمير في له على رأي من يجوز ذلك وإذا قضى أمرا أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى : إنما أمرن إذا أراد شيئا وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من إستعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه وساوى إبن السيد بينه وبين القدر والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل : له أتفر من قضاء الله تعالى فقال : أفر من قضائه تعالى إلى قدره ففرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر
فإنما يقول له كن فيكون 711 الطاهر أن الفعلين من كان التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث وهي تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن بكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتاخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون بإعتبار التعلق ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم وأشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والإمتثال وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك إستعارة تمثيلية حيث شبهت هيأة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة وإمتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم أستعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير إعتبار إستعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقبيه دفعة فكأنما يقول له كن فيكون ثم حذف المشبه وأستعمل المشبه به مقامه وبعضهم يجعل في الكلام إستعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال بقال ولعل الذي دعى هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم إمتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم الأول أن قوله تعالى : كن إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف والمسبوق محدث لا محالة وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا ولأن إذا للإستقبال فالقضاء محدث و كن مرتب عليه بفاء التعقيب والمتأخر عن المحدث محدث ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل والثاني إما أن يخاطب المخلوق بكن قبل دخوله في الوجودوخطاب المعدوم سفه وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه
الثالث المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة الرابع إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كن فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تلكمه ب كن فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته الخامس أنا نعلم بالضرورة إنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا
(1/368)

السادس المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أم أحدهما وهو خلاف المفروض إنتهى وأنت إذا تأملت ماذكرنا ظهر لك إندفاع جميع هذه الوجوه ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع ! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبولولعلى أقول بهوالآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى : بديع السموات والأرض مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن إتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد إنفصال مادته نه وصيرورته حيوانا وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون إتخاذ الولد فعله تعالى وكأن السب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة بإعتبار أنه السبب ألأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فأعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد وقرأ إبن عامر فيكون بالنصب وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون وقيل : الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحوإئتني فأكرمك إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لايصح أنيكن يكنوإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه وأجيب بأن المراد إن يكن في علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله وبأن كون الأمر غير الحقيقي لاينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤل إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولايخفى ما فيه ووجه الرفع الإستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه وذهب الزجاج إلى عطفه على يقول وعلى التقديرين لا يكون يكون داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الإلتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول
وقال الذين لا يعلمون عطف على قوله تعالى : وقالوا إتخذ الله ووجه الإرتباط أن الأول كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة والمراد من الموصول جهلة المشركين وقد روى ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وقالوا لولا تأتنا بآية كما أرسل الأولون وقالوا لولا أنزل علينا الملائكة أونرى ربنا وقيل : المراد به اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن كنت رسولا من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك وقال مجاهد : المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية وهو كما ترى ونفى العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة
(1/369)

وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه لولا يكلمنا الله أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا وهو إستكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام أو تأتينا أية أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال وقيل : المراد إتيان آية مقترحة وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر كذلك قال الذين من قبلهم جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت وإستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته مثل قولهم هذا الباطل الشنيع فقالوا أرنا الله جهرة هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة أجعل لنا إلها وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين ولبعضهم هنا زيادة على ما مر إحتمال تعلق كذلك ب تأتينا وحينئذ يكون الوقف عليه لا على آية أو جعل مثل قولهم متعلقا ب تشابهت وحينئذ يكون الوقف على من قبلهم وأنت تعلم أنه لاينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الإحتمالات الباردة تشابهت قلوبهم أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد وقيل : في التعنت والإقتراح والجملة مقررة لما قبلها وقرأ أبو حيوة وإبن أبي إسحاق تشديد الشين قال أبو عمرو الداني : وذلك غير جائز لأنه ماض والتآن المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه ووجه ذلك الراغب بانه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الإشكال وقال إبن سهمي في الشواذ : إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تنفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم قد بينا الآيات أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لقوم يوقنون 811 أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقه لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا وأستكبروا وقالوا ما قالوا والجملة على هذا معللة لقوله تعالى : كذلك قال الذين من قبلهم كما صرح به بعض المحققين ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين والآيةرد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لايخفى من الجزالة والمعنى أنهم أقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم لولا يكلمنا الله إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت إنا أرسلناك بالحق أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر وقيل : لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه على عمومه أولى بشيرا ونذيرا حالان من الكاف وقيل : من الحق والآية إعتراض لتسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد إنا أرسلناك لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادى
ولا تسئل عن أصحاب الجحيم 911 تذييل معطوف على ما قبله أو إعتراض أو حال أي أرسلناك غير مسئول عن أصحاب الجحيمما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم !
(1/370)

وقرأ أبي و ما بدل و لا وإبن مسعود ولن بدل ذلك وقرأ نافع ويعقوب لا تسألعلى صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي أنه لغاية فظاعة ما حل به لايقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه والجملة على هذا إعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ والنهي مجازي ومن الناس من جعله حقيقة والمقصود منه بالذات نهيه عن السؤال عن حال أبويه على ما روى أنه عليه الصلاة و السلام سأل جبريل عن فبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال : ليت شعري ما فعل أبواي فنزلتولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كما في المنتخب عالم بما آل إليه أمرهما وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها وقال الإمام السيوطي : لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والثانية لها لا في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها قال السخاوي : الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول : إنهما أفضل من على القاري وأضرابه والجحيمالنار بعينها إذا شب وقودها ويقال : جحمت النار تجحم جحما إذا أضطربت
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللأشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة و السلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان وهو الإتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور إتباعهم لملته صلى الله تعالى عليه وسلم وأحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما روى أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت والملة في الأصل أسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب ومنه طريق ملولأي مسلوك معلومكما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع بإعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها وقد تطلق على الباطل كالفكر ملة واحدة ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله ولا إلى آحاد الأمة والدين يرادفها صدقا لكنه بإعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والإنقياد ولإتحاد ما صدقهما قال تعالى دينا قيما ملة إبراهيم وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الإعتبار كاف في صحة الإضافة ويقع على الباطل أيضا وأما الشريعة فهي المورد في الأصل وجعلت أسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه والنسخ والتبديل يقع فيها وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين : ووحدت الملة وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر وهو ملة واحدة ثم إن هذا ليس إبتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه
قل إن هدى الله هو الهدى فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم
(1/371)

حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل و هدى الله تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده ان وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري وجعله نفس الهدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف لخبر ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الإهتداء فيهما وقيل : يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطعمونه وليس بجواب ولئن أتبعت أهوآءهم أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بالملة وكان الظاهر ولئن أتبعتها إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الإختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا
بعد الذي جاءك من العلم أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره مالك من الله من ولي ولا نصير 021 جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء وقيل : إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الأسمية بالفعلية الإستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة وتأويل الأسمية بالفعلية لا دليل عليه وقيل : إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى والخطاب أيضا لرسول الله وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب وفيه أيضا من المبالغة في الإقناط ما لا يخفى وقيل : الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي إلا أن المقصود منه أمته وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى إلتزام ذلك الذين آتيناهم الكتاب إعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين واية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما قيل إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب إثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام يتلونه حق تلاوته أي يقرؤنه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه احال مخصصة لأن ليس كل من أوتيه يتلو و حق مصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى : أولئك يؤمنون به ويحتمل أن يكون ي تلونه خبرا لا حالا أولئك إلخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة وعلى أول الإحتمالين يكون الموصول للجنس وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض والضمير للكتاب أيأولئك يؤمنون بكتابهم دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به ومن هنا يظهر فائدة الإخبار على الوجه الأخير ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به
(1/372)

من الربح بقرينة ما يأتي ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإليه ذهب عكرمة وقتادة فالمراد من الكتاب حينئذ القرآن ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وإليه ذهب إبن كيسان فالمراد من الكتاب حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود الضمير به إلى الهدى أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى الله تعالى وعلى التقديرين يكون في الكلام إلتفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد
ومن يكفر به أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه وإحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه ايضا
فأولئك هم الخاسرون 121 من جهة أنهم أشتروا الكفر بالإيمان وقيل : بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف
يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين 221
وأتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون 321 تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح وللإيذان بأن ذلك فذلكه القصة والمقصود منهاوقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة اولا بلفظ القبول متقدمة علىالعدل وهنا بلفظ النفع متأخرة عنه ولعله كما قيل إشارة إلى إنتفاء أصل الشيء وإنتفاء ما يترتب عليه وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا والمتأخر وجودا تأخره ذكرا وقيل : إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة وما هنا لتذكير نعمة بها فضلهم على العالمين وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم وإنقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين لا المفضولين وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها كما أتقوا بمتابعة موسى عليه السلام وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات في متعلق إذ إحتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية وأختار أبو حيان تعلقها ب قال اتي وبعضهم بمضمر مؤخر أي كان كيت وكيت والمشهور تعلقها بمضمر مقدم تقديره أذكر أو أذكروا وقت كذا والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة والجامع الإتحاد في المقصد فإن المقصد منتذكيرهم وتخويفهم تحريضهم على قبول دينه وإتباع الحق وترك التعصب وحب الرياسة كذلك المقصد من قصة إبراهيم عليه السلام وشرح أحواله الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين وذلك لأنه إذا علم أنه نال الأمامة بالإنقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظالمين وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا كما هو في دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن نبينا عليه الصلاة و السلام من دعوته وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده ويزعم إتباع ملته ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته أن يكون حاله مثل ذلك وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نعمتي أي أذكروا وقت إبتلاء إبراهيم فإن فيه ما ينفعكم ويرد أعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في الظلمةويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فأنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظالمين وأعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل أتقوا بين المعطوفين والإبتلاء في الأصل الإختبار كما قدمنا
(1/373)

والمراد به هنا التكليف أو المعاملة معاملة الإختبار مجازا إذ حقيقة الختبار محالة عليه تعالى لكونه عالم السر والخفيات و إبراهيم علم أعجمي قيل : معناه قبل النقل أب رحيموهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام وإيذان بأن ذلك البتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير والكلمات جمع كلمةوأصل معناها اللفظ المفرد وتستعمل في الجمل المفيدة وتطلق على معاني ذلك لما بين اللفظ والمعنى من شدة الإتصال وأختلف فيها فقال طاوس عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما : إنها العشرة التي من الفطرة المضمضة والإستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الأبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والإستطابة والختان وقال عكرمة رواية عنه أيضا : لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم إبتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها في سورة براءة التائبون إلخ وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات إلخ وعشر في المؤمنين وسأل سائل إلى والذين هم على صلاتهم يحافظون وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة فالذي في براءة التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحفظ لحدود الله تعالى والإيمان المستفاد من وبشر المؤمنين أو من إن الله أشترى من المؤمنين في الأحزاب الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصيام والحفظ للفروج والذكر والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والإعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثةوالرعاية للعهد والأمانة أثنين والمحافظة على الصلاة وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة كالإيمان والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا إنما ينافي تغايرها ذاتا ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية بإعتبار تكررها في كل سورة وما في رواية عكرمة مبني على إعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم غير الفاعلين للركاة لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب وما روى أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الإعتبار الأول أيضافلا إشكال وقيل : إبتلاه الله تعالى أشياء بالكواكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثي إلى الشام وروى ذلك عن الحسن وقيل : هي ما تضمنته الآيات بعد من الأمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام وقيل وقيل إلى ثلاثة عشر قولا وقرأ إبن عامر وإبن الزبير وغيرهما إبراهام وأبو بكرة إبراهم بكسر الهاء وحذف الياء وقرأ إبن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع إبراهيم ونصب ربه فالإبتلاء بمعنى الإختبار حقيقة لصحته من العبد والمراد دعا ربه بكلمات مثل رب أرني كيف تحيي الموتى و أجعل هذا البلد آمنا ليرى هل يجيبه ولا حاجة إلى الحمل على المجاز وأما ما قيل : إنه وإن صح من العبد لا يصح أو لا يحسن تعليقه بالرب فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ الإبتلاء ويجوز أن يكون ذلك في مقام الإنس ومقام الخلة غير خفي فأتهمن الضمير المنصوب للكلمات لا غير والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود لإبراهيم وأن يعود لربه على كل من قرئتي الرفع والنصب فهناك أربعة إحتمالات الأول عدده على إبراهيم منصوبا ومعنى أتمهن حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن
(1/374)

كما يليق الثاني عوده على ربه مرفوعا والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على إتمامهن أو أتم له أجورهن أو أدامهن سنة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين الثالث عوده على إبراهيم مرفوعا والمعنى عليه أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها ولم يأت بعدها بما يضيعها الرابع عوده إلى ربه منصوباوالمعنى عليه فأعطى سبحانه إبراهيم 9 جميع ما دعاه وأظهر الإحتمالات الأول والرابع إذ التمدح غير ظاهر في الثاني مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته والإستعمال المألوف غير متبع في الثالث لأن الفعل الواقع في مقابلة الإختبار يجب أن يكون فعل المختبر أسم مفعول
قال إني جاعلك للناس إماما إستئناف بياني إن أضمر ناصب إذ كأنه قيل : فماذا كان بعد فأجيب بذلك أو بيان لأبتلى بناء على رأي من جعل الكلمات عبارة عما دكر أثره وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئيات هو إذا نصبت إذ ب قال كما ذهب إليه أبو حيان : يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مر تفصيله وقيل : مستطردة أو معترضة ليقع قوله تعالى : أم كنتم شهداء إن جعل خطابا لليهود موقعه ويلائم قوله سبحانه : قالوا كونوا هودا أو نصارى و جاعل منجعل بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين و الثاني إما متعلق ب جاعل أي لأجلهم وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم والإمام أسم للقدوة الذي يؤتم به ومنه قيل لخيط البناء : إمام وهو مفرد على قعال وجعله بعضهم أسم آلة لأن فعالا من صيغها كالإزار وأعترض بأنال إمام ما يؤتم به والإزار ما يؤتزر به فهما مفعولان ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك وليس فليس ويكون جمع آم أسم فاعل من أم يؤمك جائع وجياع وقائم وقيام وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة بل كل من يقتدي به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار إلا أن المراد به ههنا النبي المقتدي به فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته وهذه الإمامة إما مؤبدة كما هو مقتضى تعريف الناس وصيغة أسم الفاعل الدال على الإستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا بإتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم إتفاق الشرائع التي بعده في الكل فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ ولو بعضهلا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من الناس حينئذ أمته الذين أتبعوه ولك أن تلتزم القول بتأييد إمامة كل نبي ولكن في عقائد التوحيد وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم أقتده وعدم الشيوع غير مسلم ولئن سلم لا يضر والإمتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية أقتضت ذلك لا تكاد تخفي فتدبر
ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الإبتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما وقيل : إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من الكلمات يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة وكذا الختان أيضا بناء على ما روى أنه عليه الصلاة و السلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون إتمام الكلمات سبب الإمامة بإعتبار عمومها للناس وإستجابة دعائه في حق بعض ذريته ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى : فأتمهن أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه
(1/375)

يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المنى
قال إستئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام ومن ذريتي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ماذا يكون من ذريتي بعيد وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أيجعل من ذريتي إماما لأنه عليه السلام فهم من إني جاعلك الإختصاص به وأختاره بعضهم وأعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الإنفصال ومن ذريتي في معنى بعض ذريتي فكأنه قال : وجاعل بعض ذريتي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب : إنه وارد في القراءآت السبعة المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ودفع الثالث بأنه قبيل عطف التلقين فهو خير في معنى الطلب وكأن أصله وأجعل بعض ذريتي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعات الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الإختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير هذا العطف ما روى الشيخان عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : اللهم أرحم المحلقين قالوا والمقصرين يارسول الله قال : اللهم أرحم المحلقين قالوا : والمقصرين يارسول الله قال : والمقصرين
وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الإستثناء كما في الحديث إن الله تعالى حرم شجرة الحرم قالوا إلا الأذخر يارسول الله وأعترض أيضا بأن العطف المذكر يستدعي أن تكون إمامة ذريته عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل وليس كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الإشتراك في أصل المعنى وقيل : يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة و السلام والذرية نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكابر والصغار الواحد وغيره وقيل : إنها تشمل الآباء لقوله تعالى : إنا حملنا ذريتهم في الفك المشحون يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه وفيها ثلاث لغاتضم الذال وفتحها وكسرها وبها قريء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فأجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فأجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى ذريوية فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت ذرييةكالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية أو فعلية من الذر بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت وفي تقضضت تقضيت أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الآخيرة ياء فجاء الإدغام أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا : وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية وعدم إحتياجها إلى الإعلال وإنما ضمت ذالة لأن الأبنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر : دهري
قال إستئناف بياني أيضا والضمير لله عز أسمه لاينال عهدي الظالمين 421 إجابة لما
(1/376)

راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الإشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الأمامة وليست هي هنا إلا النبوة وعبر عنها به للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلا منهم في وقته المقدر له ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : أن أتبع ملة إبراهيم والمتبادر من الظلم الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده ويؤيده قوله تعالى : والكافرون هم الظالمون فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة نعم فيها قطع إطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة وسد ابواب آمالهم الفارغة عن نيلها وأستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك و إن الشرك لظلم عظيم والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم وأعترض بأن من تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الإمامة سواى كان عادلا في باق العمر أم لا أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب وعلى الثاني جهل الخليل وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأت خبير بأن مبني الإستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي يدعونها ودون إثباته خرط الفتاد وتصريح البعض كالجصاص لا يبني عليه إلزام الكل وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الأمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الإتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه وكذا إذا أختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة ويمكن الجواب بإختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول : هو على قسمين أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها إتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الأمامة متصفا بالعغدالة المطلقة والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الأمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة والعدالة المطلقة والإيمان الراسخ والإمام لا بد أن يكون وقت الأمامة كذلك ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره مجاز ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس وأيضا لو أطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة ومبني ذلك حمل العهد على الأمامة وجعلها شاملة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة وحمل الظالم على من أرتكب معصية مسقطة للعدالة
(1/377)

بناء على أن الظلم خلاف العدل ووجه الإستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الأمامة لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم إتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذا لخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا فيتعين الثاني وهو العصمة أو المراد بها ههنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الإتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الأمامة بعد ما دام إتصافه بذلك وإستفادة عدم صلاحية الفاسق للأمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل أو إلتزام جامع وهما مناط العيوق إنما يدعو إليه حمل الأمامة على النبوة وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطاريء والفسق العارض يمنع عن الأمامة بقاءا كما منع عنها إبتداءا لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آنوبه قال بعض السلفإلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الإبتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع وأستشهدوا له بأنه لو قال لأمرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله : هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الأمامة بقاءا أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا ومن الناس من أستدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روى عن الحسن أنه قال : إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش الظالمون بالرفع على أن عهدي مفعول مقدم على الفاعل إهتماما ورعاية للفواصل وإذ جعلنا البيت عطف على وإذ إبتلى والبيت من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مثابة للناس أي مجمعا لهم قاله الخليل وقتادةأو معاذا وملجأ قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم قاله مجاهد وجبيرأو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه قاله بعض المحققين أو موضع ثواب يثابون بحجه وإعتماره قاله عطاء وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي لتأنيث البقعة وهو قول الفراء والزجاج وقال الأخفش : إن التاى فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي أو ظرف مكان واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الإستغراق العرفي وقرأ الأعمش وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سواء العاكف فيه والباد فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد بإعتبار الإضافات وقيل : إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو بإعتبار أن كل جزء منه مثابة وأختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وأمنا عطف على مثابة وهو مصدر وصف به للمبالغة والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف أو لحجامه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح أو للجاني الملتجيء إليه من القتل وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ عنده لا يستوفي قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد وألتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه
(1/378)

وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفي من الملتجيء قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل أمنا مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أيوأ جعلوه أمنا كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن ظاهر النظم ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل إكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم إتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل أؤ عطف على أذكر المقدر عاملا ل إذ أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه وأتخذوا وهو معترض بإعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الإعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الإرتباط مع الجملة السابقة أظهر والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين و من إما للتبعيض أو بمعنى في أو زائدةعلى مذهب الأخفشوالأظهر الأول وقال القفال : هي مثل أتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه والمقام مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي أرتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت وفيه آثر قدميه قاله إبن عباس وجابر وقتادة وغيرهم وأخرجه البخاري وهو قول جمهور المفسرين وروى عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت وهو موضعه اليوم فالمقام في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما كذا قالوا إلا أنه أستشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبدالرزاق بسند قوي وأخرج إبن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو عمر رضي الله تعالى عنه وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام عليه حال كونه في موضعه اليوم ! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فأنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبلكما يشير إليه كلام روضة الأحباب وبه يحصل الجمع أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه وإشتغاله بالدعوة أو رفع البناء لإحالة القيام عليه ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه وأن الحجر
(1/379)

بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم كذا ذكره بعض المحقيين فليفهم وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث إبن عمر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى فقال : لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية والأمر فيها للإستحباب إذ المتبادر من المصلى موضع الصلاة مطلقا وقيل : المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ الآية فالأمر للوجوب على بعض الأقوال ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل وقراءته عليه الصلاة و السلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله وإبن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار ومعنى إتخاذها مصلى أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها والذي عليه الجمهور وهو ما قدمناه أولا وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده وقرأ نافع وإبن عامر وأتخذوا بفتح الخاء على أنه فعل ماض وهو حينئذ معطوف على جعلنا أيواتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده وهو الكعبة قبلة يصلون إليها فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا المصلى بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب إلى يكون بمعنى التوصية ويتجوز به عن الأمر وإسماعيل علم أعجمي قيل : معناه بالعربية مطيع الله وحكى أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا ويقول : أسمع إي لأي أستجب دعائي ياالله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون أن طهرا بيتي أي بأن ظهرا على أن أن مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به وسيبويه وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر وبأنه يجب في الموصول الأسمى كون صلته خبرية والموصول الحرفي مثله وقدروا هنا قلنا ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا ويرد عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي إتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمي إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية وأما الموصول الحرفي فليس كذلك وثالثا أن تقدير قلنا يفضي إلى أن يكون المأمور به القول وليس كذلك وجوز أن تكون أن هذه مفسرة لتقدم ما يتضمن معنى القول دون حروفه وهو العهد ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنالهما شيئا هو أن طهرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يطيق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض وخص مجاهد وإبن عطاء ومقاتل وإبن جبير التطهير بإزالة الأوثان وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهموأنه طال
(1/380)

العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها وقيل : المراد بخراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه وقيل : أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتاسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي وتمام البناء بمباشرته كما ينبيء عنه إيراده إثر حكاية جعله مثابة وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ناقة الله لا إنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا للطائفين أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت ضلة له والطائفأسم فاعل من طاف به إذا دار حوله والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد وإليه ذهب عطاء وغيره وقال إبن جبير : المراد الغرباء الوافدون مكة حجابا وزوارا
والعاكفين وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند إبن جبير وقال عطاء : هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب وقال مجاهد : المجاورون له من الغرباء وقيل : هم المعتكفون فيه والركع السجود 521 وهم المصلون جمع راكع وساجد وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلى لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع إختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيأة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيآت وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدولين وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا بلدا آمنا الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم أي أجعل هدا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم رب أجعل هذا البلد آمنا ولعل السؤال متكرر وما في تلك السورة كان بعد والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في إستمراره لأنه المقصد الأصلي أو لأن المعتاد في البلدية الإستمرار بعد التحقق بخلافه وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى وثانيا الأمن المعهود ولك أن تجعل هذا البلد في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رب إني أسكنت إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل أجعله بلدا معلوم الإتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل : في عيشة راضية وإما على الإتساع والإسناد المجازي والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك وهل الدعاء بأن يجعله آمنا من الجبابرة والمتغلبين أو من أن يعود حرمه حلالا أو من أن يخلو من أهله أو من الخسف والقذف أو من القحط والجدب أو من دخول الدجال أو من دخول أصحاب الفيل أقوال والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه كعمرو بن لحمي الحرهمي والحجاج القفي والقرامطة وغيرهم وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان
(1/381)

غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل
إذا مت عطشانا فلا نزل القطر
وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر
وأرزق أهله من الثمرات أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعةوقد حصل كلاهما حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روى أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فأقتلع بقعة من فلسطين وقيل : من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع وجمع القلة إظهارا للقناعة وقد اشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة و من للتبعيض وقيل : لبيان الجنس من آمن منهم بالله واليوم تلآخر بدل من أهله بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه وأقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به قال أي الله تعالى ومن كفر عطف على من آمن ايوأرزق من كفر أيضا فالطلب بمعنى الخبر على عكس و من ذريتي وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكان إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الأمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الأمامة أو أنه عليه السلام لما سمع لا ينال إلخ أحترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل وبما ذكرنا أندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم : وأرزق فينا فيه ما بعد ولك أن تجعل العطف على محذوف أيأرزق من آمن ومن كفر بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون من مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى : فأمتعه قليلا على الأول معطوف على كفر وعلى الثاني خبر للمبتد أو الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير أنا لأن إبن الحاجب نص على أن المضارع في لجزاء يصح إقترانه بالفاء إلا أن يكون إستحسانا وإلى عدم التقدير ذهب المبرد ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار وقليلا صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قليلا وقرأ إبن عامر فأمتعه مخففا على الخبر وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة وقرأ أبي فنمتعه بالنون وإبن عباس ومجاهد فأمتعه على صيغة الأمر وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قال عائدا إلى إبراهيم وحسن إعادة قال طول الكلام وأنه أنتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالىأي قال الله : فأمتعه ياقادر يارزاق خطابا لنفسه على طريق التجريدبعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه
ثم أضطره إلى عذاب النار الإضطراب ضد الإختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل بإختياره لكن بحيث لا يملك الإمتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على إختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض ويؤيد الأول قوله تعالى :
(1/382)

يوم يدعون إلى نار جهنم دعا و يسحبون في النار على وجوههم و يؤخذ بالنواصي والأقدام ويؤيد الثاني قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها وإن منكم إلا واردها الآية و إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الإضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محقا حتى كأنه مربوط به قيل : إن هذا ألإضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدر الله تعالى عليه النعمة التي أستدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الإمتناع مما أضطر إليه فأستعمل في المشبه ماأستعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل ثم على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر وقرأ إبن عامرإضطرهبكسر الهمزة ويزيد بن أبي حبيب أضطره بضم الطاء وأبي نضطره بالنون وإبن عباس ومجاهد على صيغة الأمر وإبن محيصن أطره بإدغام الضاد في الطاء خبرا قال الزمخشري وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس وفيه أن هذه الحروف أذغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في نغفر لكم والضاد في الشين فيلبعض شأنهم والشين في السين في العرش سبيلا والكسائي الفاء في الباء في نخسف بهم ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا مضطجع ومطجعإلا أن عدم الإدغام أكثر واصل أضطر على هذا على ما قيل : أصتر فأبدلت التاء طاءا ثم وقع الإدغام وبئس المصير 621 المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي وبئس المصير النار إن كان المصير أسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وإذ يرفع إبراهيم عطف على وإذ قال إبراهيم وإذ للمضى وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية إستحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الإبتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه القواعد من البيت القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات ولعله مجاز من المقابل للقيام ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن ما كانت هيأته قبل البناء عليه الإنخفاض ولما بنى عليه إنتقل إلى هيأة الأرتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بنى عليه تلك الهيأة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فأستعمل الرفع في البناء عليه وأشتق من ذلك يرفع بمعنى يبني عليها وقيل : القواعد ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ القواعد عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول وقيل : الرفع بمعنى الرفعة والشرف و القواعد بمعناه الحقيقي السابق فهو إستعارة تمثيلية وفيه بعدإذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر القواعد و من إبتدائية متعلقة ب يرفع أو حال من القواعد ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الإعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى
وإسماعيل عطف على إبراهيم وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخلتيه في رفع البناء والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة وقيل : كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب وأبعد بعضهم فزعم أن إسمعيل مبتدأ وخبره محذوف أي يقول : ربنا وهذا ميل
(1/383)

إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسمعيل فيه أصلا بناء على ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا والصحيح أن الأثر غير صحيح هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه ومن أي شيء كان باباه وكم مرة حجه آدم ومن أي شيء بناه إبراهيم ومن ساعده على بنائه ومن أين أتى بالحجر الأسود أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم ولا الحديث الصحيح وبعضها يناقض بعضا وذلك على عادتهم في نقل مأدب ودرج ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند وأستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها ورفع قواعدها وجعل بابيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فأنشق عن الحجر الأسود وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم أسود بملامسة النساء الحيض وهذا الخبر وأمثاله إن صحعند أهل الله تعالىإشارات ورموز لمن ألقى السمع وهو شهيد فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين والإعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب وإستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها إبنتيه وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلمائي إلى مقام القلب وإستقبال الملائكة تلقى القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين ودخوله إشارة إلى تمكينه وإستقامته فيه ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى إحتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب وبقاؤه في السماء إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى إهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه وموضع سره وتمخض أبي قبيس وإنشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن بإستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره ولهذا قيل : خبئت أي أحتجبت بالبدن وأسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب وإستيلائها عليه وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه
ولو ترك القطا ليلا لناما
ربنا تقبل منآ أي يقولان ربنا وبه قرأ أبي والجملة حال من فاعل يرفع وقيل : معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل إذ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا وإلا لم يطلب وفي إختيار صيغة التفعل إعتراف بالقصور لما فيه من الأشعار بالتكلف في القبول وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم
(1/384)

لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم وليس الثواب مما يخطر لهم ببال ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وإبنه إسمعيل عليهما السلام إنك أنت السميع العليم 721 تعليل لإستدعاء التقبل والمراد السميع لدعائنا والعليم بنياتنا وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول وتأكيد الجملة لإظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا
ربنا وأجعلنا مسلمين لك أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك فمسلمين إما من أستسلم إذا إنقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الإنقطاع إليه جل جلاله وقرأ إبن عباس رضي الله تعالى عنه مسلمين بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية وقد قيل به هنا ومن ذريتنآ عطف على الضمير المنصوب في أجعلنا وهو في محل المفعول الأول و أمة مسلمة لك في موضع المفعول الثاني معطوف على مسلمين لك ولو أعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الإهتمام بصلاحهم أكثر وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه أو من قوله عز شأنه : لا ينال عهدي الظالمين بإعتبار السياق إن في ذريتهما ظلمة وأن الحكمة الآلهية تستدعي الإنقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع وأستدل على ذلك بقوله تعالى : وأبعث إلخ ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره وأستدلال بما لا يدل وجوز أبو البقاء أن يكون أمة المفعول الأول ومن ذريتنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها ومسلمة المفعول الثاني وكان الأصل وأجعل أمة منذريتنا مسلمة لكف الواو داخلة في الأصل على أمة وقد فصل بينهما بالجار والمجرور و من عند بعضهم على هذا بيانية على حد وعد الله الذين آمنوا منكم ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون من للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وأرنا مناسكنا قال قتادة : معالم الحج وقال عظاء وجريج : مواضع الذبح وقيل : أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة و أرنا من رأى البصرية ولهمزة الأفعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم وإلا لتعدت إلى ثلاثة وأنكر إبن الحاجب وتبعه أبو حيان ثبوت رأي بمعنى عرف وذكره الزمخشري في المفصل والراغب
(1/385)

في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما وقرأ إبن مسعود وأرهم مناسكهم بإعادة الضمير إلى الذرية وقرأ إبن كثير ويعقوب وأرنا بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فخذ في إسكانه للتخفيف وقد أستعملته العرب كذلك ومنه قوله : أرنا إداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا وقول الزمخشري : إن هذه القراءة قد أسترذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فأسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء وتب علينآ أي وفقنا للتوبة أو أقبلها منا والتوبة تختلف بإختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن ونية الرد إذا لم يمكن وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء والفتور في الأعمال والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات والترقي في المقامات فإن كان إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبةالنبوة منه وإن قيل : إن الطلب للذرية فقط وأرتكب التجوز في النسبة إجراءا للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإجابة أو في الطرف حيث عبر عن الفرع بأسم الأصل أو قيل : بحذف المضاف أي على عصا تنازال الأشكال كما إذا قلنا : إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس إن تلك المواضع مواضع التنصل وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا كما لا يخفى وقرأ عبدالله وتب عليهم بضمير جمع الغيبة أيضا إنك أنت التواب الرحيم 821 تعليل للدعاء ومزيد إستدعاء للإجابة وتقديم التوبة للمجاورة وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل
ربنا وأبعث فيهم أي أرسل في الأمة المسلمة وقيل : في الذرية وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رسولا منهم أي من أنفسهم ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم ويكونوا أعز به واشرف وأقرب للإجابة لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وجميع أنبياء بني إسرائيل منذرية إبراهيم عليه الصلاة و السلام لا من ذريتهما فهو المجاب به دعوتهما كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : سأخبركم بأول أمري أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته أو مدعوه أو عين دعوته على المبالغة ولما كان إسمعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسمعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته وكونه أصلا في الدعاء ووهم من قال : إن الإقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسمعيل عليهما الصلاة والسلام وقرأ أبي وأبعث فيهم في آخرهم رسولا وهذا يويد أن المراد به نبينا وفي الأثر أنه لما دعى إبراهيم قيل له : قد أستجيب لك وهو يكون في آخر الزمان
يتلوا عليهم إياتك أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما
(1/386)

وقيل : خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة والجملة صفة رسولا وقيل : في موضع الحال منه
ويعلمهم الكتاب بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه ويوقفهم على حقائقه وأسراره
والظاهر أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون الرسول صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين
والحكمة أي وضع الأشياء مواضها أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا أو الفقه في الدين أو السنة المبينة للكتاب أوالكتاب وكرر للتأكيد إعتناء بشأنه وقد يقال : المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه ويكون تعليم الكتاب عبارة عن تفهيم ألفاظه وبيان كيفية أدائه وتعليم الحكمة الإيقاف على ما أودع فيه وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الحكمة النظرية والعملية قالوا : وبينها وبين ما في الكتاب عموم من وجه لإشتمال القرآن على القصص والمواعيد وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس علما وعملا غير مذكور في الكتاب وأنت تعلم أن هذا القول بعد سماع قوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقوله تعالى : سبحانه وتبيانا لكل شيء مما لا ينبغي الإقدام عليه اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الكتاب الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر ويزكيهم أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهرتهم أو يشهد لهم بالتزكية والعدالة بعيد إنك أنت العزيز الحكيم 921 أي الغالب المحكم لما يريد فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص وحمل العزيز هنا على من لا مثل لهكما قاله إبن عباس أو المنتقم كما قاله الكلبيو الحكيم على العالم كما قيللا يخلو عن بعد
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إنكار وإستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملته وهي الحق الواضح غاية الوضوح أي لا يرغب عن ذلك أحد إلا من سفه نفسه أي جعلها مهانة ذليلة وأصل السفه الخفة ومنه زمام سفيه أي خفيف وسفه بالكسر كما قال المبرد وثعلب : متعد بنفسه و نفسه مفعول به وأما سفه بالضم فلازم ويشهد له ما جاء في الحديث الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس وقيل : إنه لازم أيضا وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره وهو قول الزجاج أو أهلكها وهو قول أبي عبيدة وقيل : إن النصب بنزع الخافض أي في نفسه فلا ينافي اللزوم وهو قول لبعض البصريين وقيل : على التمييز كما في قول نابغة الذبياني : ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام وقيل : على التشبيه بالمفعول به وأعترض الجميع أبو حيان قائلا : إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة كما قيل به في البيت وأن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي و من إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يرغب لأنه إستثناء من غير موجب وسبب نزول الآية ما روى أن عبدالله
(1/387)

إبن سلام دعا إبني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما : قد علمتما أن الله تعالى قال في لتوراة : إني باعث من ولد إسمعيل نبيا أسمه أحمد فمن آمن به فقد أهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فنزلت ولقد أصطفيناه في الدنيا أي أخترناه بالرسالة بتلك الملة وأجتبيناه من بين سائر الخلق وأصله إتخاذ صفوة الشيء أي خالصه وإنه في الآخرة لمن الصالحين 031 أي المشهود لهم بالثبات على الإستقامة واليخر والصلاح والجملة معطوفة على ما قبلها وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون الراغب عن ملة إبراهيم سفيها إذ الإصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية والصلاح جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغيرالسفيه سوى خير الدارين وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار واللام لام الإبتداء أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك وهو الظاهر لفظا لعدم الإحتياج إلى تقدير القسم وأرتضاه الرضى ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله أو إعتراضا بين المعطوفين واللام جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الإستقلال ولافادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام وألأشعار بأن المدعي لا يحتاج إلى البيان والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الأخبار والثانية أسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن إنتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي نشاهد آثارها وكلمة في متعلقة ب الصالحين على أنألفيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر في الظرف مالا يغتفر في غيره أو بمحذوف أي صالح أو اعني وجعله متعلقا ب أصطفيناه وفي الآية تقديم وتأخير أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد
إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين 131 ظرفل أصطفيناه والمعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن أصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل إعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به أو تعليل له أو منصوب ب اذكر كأنه قيل : أذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والإنقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه وجوز جعله ظرفا ل قال وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة وأستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الإنتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى إستدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر وإطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وإبن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال : المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والإستقامة والثبات على التوحيد على حد فأعلم أنه لا إله إلا الله ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والإستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل لإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة كما قيل به وفي الإلتفات مع لتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والإعتناء بتربيته وإضافة الرب في الجواب إلى العاملين للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا
(1/388)

ووصى بها إبراهيم بنيه مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الإحتضار أولا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف إستعمالها في القول المخصوص حالة الإحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات ويقال : وصاه إذا وصله وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي والضمير في بها إما للملة أو لقوله أسلمت على تأويل الكلمة أو الجملة ويرجح الأول كون المرجع مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر وعطف يعقوب عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان تواصي الأنبياء بإستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه وهو والملة أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله ويؤيد الثاني كون الموصي به مطابقا في اللفظ ل أسلمت وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قال أسلمت أي ما أكتفى بالإمتثال بل ضم توصية بنيه بالسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على من يرغب لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي رخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر وقرأ نافع وإبن عامرأوصى ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل
ويعقوب عطف على إبراهيم ورفعه على الإبتداء وحذف الخبر أي يعقوب كذلك والجملة معطوفة على الجملة الفعلية وجعله فاعل الوصي مضمرا بعيد وقريء بالنصب فيكون عطفا على بنيه والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة و السلام كان نافلة وإنما سمى يعقوب لأنه وعيصا كانا توأمين فتقدم عيص وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روى عن إبن عباس ولا أظن صحته يابني على إضمار القول عند البصريين ويقدر بصيغة الأفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لإشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها وقرأ إبن مسعود رضي الله تعالى عنه : أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين وبنو إبراهيم على ما في الإتقان إثنا عشر وهم إسمعيل وإسحق ومدين وزمزان وسرح ونقش ونقشان وأميم وكيسان وسورج ولوطان ونافس وبنو يعقوب ايضا كذلك وهم يوسف وروبيل وشمعون ولاوي ويهوذا وداني وتفتاني وكاد وأسبر وإيساجر ورايكون وبنيامين إن الله أصطفى لكم الدين أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى والإنقياد له وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا إختصاص له بأحد وليس عند الله تعالى غيره ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون 231 نهى عن الإتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت والمفهوم
(1/389)

من الآية فظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما سمعت لما أن الإمتناع عن الإتصاف بتلك الحال يستتبع الإمتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال أستعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية وقال الفاضل اليمني : إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى : كيف تكفرون بالله من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فأفهم والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له والمقصود من التوصية ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غايلا الحذر وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لايكاد يمكن عند الموت ولهذا ورد في الحديث اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان ولا يخفى ما فيه أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهودي حين قالوا للنبي : ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودة و أم إما منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على إدعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه وفائدته الإنتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين إحتضاره عليه الصلاة و السلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون ! ولك أن تجعل الإستفهام للتقرير أي كانت أوئلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة و السلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون ! فيكون قد نزل علمهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا وإما متصلة وفي الكلام حذفوالتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين وليس الإستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وإنتفاء الثاني بل هو للألزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل أما على الأول فلأنه رجم بالغيب وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور وأعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أم المتصلة وإنما سمع حذف أم مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل وقيل : الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على إتباعه بإثبات بعض معجزاته وهو الأخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولاقراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول فعليكم بإتباعه إلا أنه أكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة و السلام بطريق الأولى ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي : لم أقف عليه والشهداءجمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر وحضر من باب قعد وقريء حضر بالكسر ومضارعه أيضا يحضر بالضم وهي لغة شاذة وقيل : إنها على التداخل إذ قال لبنيه بدل من إذ حضر بدل إشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إذ هنا ب قالوا لم ينتظم الكلام
(1/390)

ما تعبدون من بعدي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ما في محل رفع والعائد محذوف وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب لمقام : ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب من إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده وإذا سأل عن وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الإستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إستئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الإتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إسمعيل في الذكر على إسحاق لكونه أسن منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لإنخراطهما في سلك واحد وهو الإخوة فأطلق عليه لفظه ويؤيده ماأخرجه الشيخان عم الرجل صنو أبيه وحينئذ يكون المرادبآبائكما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والآية على حد ما أخرجه إبن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة و السلام أحفظوني في الباس فإنه بقية آبائي وقرأ الحسنأبيكوهو إما مفرد وإسمعيل وإسحاق عطف نسق عليه وإبراهيم وحده عطف بيان أو جمع وسقطت نونه للإضافة كما في قوله : فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا إلها واحدا بدل من إله آبائك والنكرة تبدل من المعرفة بشرط ان توصف كما في قوله تعالى بالناصية ناصية كاذبة والبصريون لا يشترطون فيها ذلك وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشيء من ذكر الإله مرتين أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر ونحن له مسلمون 331 أي مذعنون مقرون بالعبودية وقيل : خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا وقيل : داخلون في الإسلام ثابتون عليه والجملة حال من الفاعل أو المفعول أو منهما لوجود ضميريهما أو إعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام بلا كلام وقال أبو حيان : الأبلغ أن تكون معطوفة على نعبد فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال تلك أمة قد خلت الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام وأولاده والامة أتت بمعان والمراد بها هنا الجماعة من أم بمعنى قصد وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد أو زمان واحد أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده والخل والمضي وأصله الإنفراد
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم إستئناف أو بدل من قوله تعالى : خلت لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد أو الأولى صفة أخرى لأمة أو حال من ضمير خلت والثانية جملة مبتدأة إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام أي لكل أجر عمله وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند والمعنى أن إنتسابكم إليهم لا يوجب إنتفاعكم بأعمالهم وإنما تنتفعون بموافقتهم وإتباعهم كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم : يامعشر قريش إن أولى اناس بالنبي المتقون فكونوا بسبيل من ذلك فأنظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنىلها ما كسبته لا يتخطاها إلى غيرها والثانية على معنى
(1/391)

ولكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيرهم فيختلف القصران لإقتضاء المقام ذلك
ولا تسئلون عما كانوا يعملون 431 إن أجري السؤ العلى ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه أعني الجزاء فهو تذييل لتتميم ما قبله والجملة مستأنفة أو معترضة والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الإنتفاع بحسنات من مضى منهم وإنما أظل قال عمل إثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية وحمل الزمخشري الآية على معنىلا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم وأعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان إنتفائه وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر
هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إبراهيم وإسمعيل وإسحق وأن المنى كل واحد منهم أمة أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قد خلت أي مضت ولستم مأمورين بمتابعتهم لها ما كسبت وهو ما أمرها الله تعالى به ولكم ما كسبتم مما يأمركم به سبحانه وتعالى ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه ولا تسألون عما كانوا يعملون هل عملتم به وإنما تسألون عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه فدعوا أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره وتمسكوا بما أمر به نبيكم وأعتبروا إضافة العمل إليه دونهم ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك
ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فأتمهن بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه قال إني جاعلك للناس إماما بالبقاء بعد الفناء والرجوع إلى الخلق من الحق تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ويقتدون بك فيهتدون قال ومن ذريتي قال لاينال عهدي الظالمين فلا يكونون خلفايي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود وإذ جعلنا بيت القلب مرجعا للناس ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم وأتخذوا من مقام إبراهيم الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس ونجاسات وساوس الشيطان وأرجاس دواعي الهوى وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا الغائبين في الوحدة الفانين فيها وإذ قال إبراهيم رب أجعل هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمنا من إستيلاء صفات النفس وإغتيال العدو اللعين وتخطف جن القوى البدنية وارزق أهله من ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه قال : ومن أحتجب أيضا من الدين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام
(1/392)

العين لإحتجاجهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فأمتعه قليلا من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب إستعدادهم ثم أضطره إلى عذاب نار الحرمان والحجاب وبئس المصير مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت على الكيفية التي ذكرناها قبل وإسمعيل كذلك قائلين ربنا تقبل منا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بإمداد التوفيق إنك أنت السميع لهواجس خواطرنا فيك العليم بنياتنا وأسرارنا ربنا وأجعلنا مسلمين لك لا تكلنا إلى أنفسنا ومن ذريتنا المنتمين إلينا أمة مسلمة لك وأرنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك وتب علينا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا إنك أنت التواب الموفق للرجوع إليك الرحيم بمن عول دون السوى عليك ربنا وأبعث فيهم رسولا منهم وهو الحقيقة المحمدية يتلو عليهم آياتك الدالة عليك ويعلمهم كتاب العقل الجامع لصفاتك والحكمة لدالة على نفي غيرك ويزكيهم ويطهرهم عن دنس الشرك إنك أنت العزيز الغالب فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك ومن يرغب عن ملة إبراهيم وهي التوحيد الصرف إلا من أحتجب عن نور العقل بالكلية وبقى في ظلمة نفسه ولقد أصطفيناه فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك وأنه في عالم الملكوت من أهل الإستقامة الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع إذ قال له ربه أسلم أي وحد وأسلم لله تعالى ذاتك قال أسلمت لرب العالمين وفنيت فيه ووصى بكلمة التوحيد إبراهيم بنيه السالكين على يده وكذلك يعقوب يابني إن الله أصطفى لكم دينه الذي لا دين غيره عنده فلا تموتن بالموت الطبيعي وموت الجهل بل كونوا ميتين بأنفسكم أحياء بالله أبدا فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تلك أمة قدخلت فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل وألإعتقاد والسيرة فكونوا على بصيرة في أمركم وأطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ومن دق باب الكربم ولج ولج
قالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا الضمير الغائب لأهل الكتاب والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد إدعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام و أو لتنويع المقال لا للتخيير بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر أي قال اليهود للمؤمنين : كونوا هودا وقالت النصارى لهم كونوا نصارى و تهتدوا جواب الأمر أي إن كنتم كذلك تهتدوا روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وأبي ياسر بن أحطب وفي نصارى أهل نجران وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها فقالت اليهود : نبينا موسى أفضل الأنبياء : وكتابنا التوراة أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن وقالت النصارى : نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفرت بمحمد والقرآن وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين : كونوا على ديننا فلا دين إلا ذلك في رواية إبن إسحاق وإبن جرير وغيرهما عنه أن عبدالله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فأتبعنا يامحمد تهتد وقالت النصارى : مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية قل خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم
(1/393)

وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه بل ملة إبراهيم أي لا نكون كما تقولون بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته أو بل نتبع ملة إبراهيم والأول يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدموأن أحتاج إلى حذف المضاف والثاني يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤل الأول إلى أتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الإحتياج إلى التقدير وجوز أن يكون المعنى بل أتبعوا أنتم ملته أو كونوا أهل ملته وقيل : الأظهر بل نؤتي ملة إبراهيم ولم يظهر لي وجهه وقريء بل ملة بالرفع أي بل ملتنا أو امرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها وقيل : بل الهداية أو تهدي ملة إبراهيم وهو كما ترى حنيفا أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين او تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى : إن رحمة الله قريب من المحسنين وهذا على قراءة النصب وتقدير نتبع ظاهر وإما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جمل أسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لإشتهار ملته عليه الصلاة و السلام بذلك فالنظم على حد أنا حاتم جوادا أو من المضاف إليه بناءا على ما أرتضوه منأنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور : إذا كان المضاف مشتقا عاملا أو جزءا أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح أتبعوا إبراهيم بمعنى أتبعوا ملته وقيل : إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام وإليه يشير كلام أبي البقاء ولعله أولى لإظراده في التقدير الاول وقيل : هو منصوب بتقدير أعني وما كان من المشركين 531 عطف على حنيفا على طبق حنفاء لله غير مشركين به فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدروما كان دين المشركين وهو تكلف والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون إتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالواعزير إبن الله والنصارى المسيح إبن الله والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله قولوا آمنا بالله خطاب للمؤمنين لا للكافرين كما قيللما فيه من الكلف والتكلف وبيان للإتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه : بل ملة إبراهيم لأن الإتباع يشمل الإعتقاد والعمل وهذا بيان الإعتقاد أو بدل الإشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول وقيل : إستئناف كأنهم سألوا كيف الإتباع فأجيبوا بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول من جانب كل المؤمنين بخلاف الإتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول ولذا ترك العطفلا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات
وما أنزل إلينا اي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه
وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة و السلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة
(1/394)

نزولها إليهم أيضا كما صح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا و الأسباط جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل وقيل : هم في أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم وقيل : من السبوطة وهي الإسترسال وقيل : إنه مقلوب البسط وقيل : للحسنين سبطا رسول الله لإنتشار ذريتهم ثم قيل لكل إبن بنت : سبط وكذا قيل له : حفيد أيضا وأختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا والذي صح عندي الثاني وهو لمروى عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنهوإليه ذهب الإمام السيوطيوألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة و السلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون وعلى تقدير التسليم لايجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شان الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فأحفظ ذلك هديت
وما أوتي موسى وعيسى أي التوراة والإنجيل ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وأدعوا أنهما أنزلا كذلك والمؤمنون ينكرونه أهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى موسى وعيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة لا بإعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إسحاق ويعقوب والأسباط ولم يعد الموصول لذلك في عيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة موسى إلا في النزر ولذلك الإهتمام عبربالإيتاء دون الإنزال أبلغ لكونه المقصود منه ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض ولهذا يقال : أنزلت الدلو في البئر ولا تقول : آتيتها إياها ولك أن تقول : المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل وإيثار الإيتاء له التعميم وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام معاليهود والنصارى
وما أوتي النبيون وهي الكتب التي خصت من خصته منهم أو ما يشمل ذلك والمعجزات وهو تعيميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء من ربهم متعق ب أوتي قبل والضمير للبيين خاصة وقيل : ل موسى وعيسى ايضا ويكون ما أوتي تكريرا للأولى والجار متعلقا بها وهوعلى التقديرينظرف لغو وجوز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف وإحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار خبره بعيد لا نفرق بين أحد منهم أي كما فرق أهل الكتاب فآمنوا ببعض وكفروا ببعضبل نؤمن بهم جميعاوإنما أعتبر عدم التفريق بينهم مع أن الكلام فيما أوتوه لإستلزام ذلكعدم التفريقفيه بينما أتوهو أحد أصله وحد بمعنى واحد وحيث وقع في سياق النفي عم وأستوى فيه الواحد والكثير وصح إرادة كل منهما وقد أريد به هنا الجماعة ولهذا ساغ أن يضاف إليه بين ويفيد عموم الجماعات كذا قاله بعض المحققين وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في ألإثبات همزته أصلية بخلاف ما أستعمل في ألثبات بدون كل فإن همزته منقلبة عن واو ومن هنا قال العلامة التفتازاني : إن أحد في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه أسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع ويشترط أن يكون إستعماله مع
(1/395)

كلمة كل أو مع النفي نص على ذلك أبو علي وغيره من أئمة العربية وهذا غير الأحد الذي هو أول العدد في قوله تعالى : قل هو الله أحد وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي على ما سبق إلى كثير من الأوهام ألا ترى أنه لا يستقيم لا نفرق بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول و لستنك أحد من النساء ليس في معنىكأمرأة منهن إنتهى وأنتبعد التأمل تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض وإنما ترد عليه المخالفة في الإصالة وعدمها فقط ولعل الأمر فيها سهل على أن دعوى عدم تلك الإستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه فقد ذكر في الإنتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله الآحاد مطابقة لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوغ لدخول بين عليها هنا ومن الناس من جوز كون أحد في الآية بمعنى واحد وعمومه بدلي وصحة دخول بين عليه بإعتبار معطوف قد حذف لظهوره بين أحد منهم وغيره وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال : لا نفرق بينهم ولا يخفى ما فيه والجملة حال من الضمير في آمنا ونحن له مسلمون 631 أي خاضعون لله تعالى بالطاعة مذعنون بالعبودية وقيل : منقادون لأمره ونهيه ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد والجملة حال أخرى أو عطف على آمنا
فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد أهتدوا متعلق بقوله سبحانه : قولوا آمنا إلخ أو بقوله عز شأنه : بل ملة إبراهيم إلخ وإن لمجرد الفرض والكلام من باب الإستدراج وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين فلا باس بحمل كلام الله تعالى عليه يعني نحن لا نقول : إننا على الحق وأنتم على الباطل ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد أهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير إذ لا مثل لما آمنوا به وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه ولا دين كدينهم ف آمنوا متعدية بالباء ومثل على ظاهرها وقل : آمنوا جار مجرى اللازم والباء إما للإستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا وإعتقادا فقد أهتدوا أو فإن تحرواالإيمان بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق كما قيل : الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه وإما زائدة للتأيد و ما مصدرية وضمير به لله أو لقوله سبحانه : آمنا بالله إلخ بتأويل المذكور أو للقرآن أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والمعنى فإن آمنوا بما ذكر مثل إيمانكم به وإما للملابسة أي فآمنوا متلبسين بمثل ما آمنتم متلبسين به أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام وقيل : المثل مقحم كما في قوله تعالى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله أي عليه ويشهد له قراءة أبي بالذي آمنتم به وقراءة إبن عباس بما أمنتم به وكان رضي الله تعالى عنه يقول : أقرءوا ذلك فليس لله تعالى مثل ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة
(1/396)

المتواترةوخفي عليه معناها ومن الناس من قال : يمكن الإستغناء عن جميع ذلك بأن يقال : فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليهولم يكن ذلك قبله إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم : إن أكرمتني فقد أكرمتك فتأمل إنتهى وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاى الكلام على ظاهره والإستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال وتوسيع دائرة النزاع والجدال فتدبر
وإن تولوا أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به أو عن قولكم في جواب قولهم
فإنما هم في شقاق أي مخالفة لله تعالى قاله إبن عباسأو منازعة ومحاربةقاله إبن زيدأو عداوةقاله الحسنوأختلف في إشتقاق الشقاق فقيل : من الشق أي الجانب وقيل : من الشقة وقيل : مأخوذ من قولهم : شق العصا إذا أظهر العداوة والتنوين للتفخيم والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان واؤثرت الأسمية للدلالة على ثباتهم وأستقرارهم على ذلك وإما بتأويل فأعلموا
فسيكفيكهم الله تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعى النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة أو للتذييل الآتي حيث أن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم الأصل والعمدة في ذلك وهوسلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وهو السميع العليم 731 تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هوالسميع لما تدعو به العليم بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى يسمعما يبدون ويعلمما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين صبغة الله الصبغة بالكسر فعلة منصبغ كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ علىالمصبوغوت في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك إستعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر وقيل : للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا يصبغون أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة و السلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم وقيل : هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى : آمنا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها صبغنا كأنه قيل صبغنا الله صبغته وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق
(1/397)

شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا وقيل : إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزم واصبغة الله لا عليكم وإلا لوجب ذكره كما قيل وإليه ذهب الواحدي ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم ومن أحسن من الله صبغة مبتدأ وخبر والإستفهام للإنكار وقوله تعالى : صبغة تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها والتقدير وصبغته أحسن من صبغة الله تعالى كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنه أحسن من كل صبغة وحيث كان مدار التفضيل على تعميم الحسن للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صبغة غيره تعالى حسن في الجملة والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والإبتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء ونحن له عابدون 831 أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في إتباع تلك الملة وتقديم الجار لإفادة إختصاص العبادة له تعالى وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الإختصاص عليهم وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الإنقياد له تعالى بإتباع ملة إبراهيم والجملة عطف على آمنا وذلك يقتضي دخول صبغة الله في مفعول قولوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي وإيثار الجملة الأسمية للإشعار بالدوام ولمن نصب صبغة على الأغراى أو البدل أن يضمر قولوا قبل هذه الجملة معطوفا على ألزموا على تقدير الأغراء وإضمار القول سائغ شائع والقرينة السياق لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر أتبعوا في بل ملة إبراهيم لا نتبع ويكون قولوا آمنا بدلا من أتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل في إتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل : إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول والمبدل منه ففيه أن قولوا ليس بدلا من الفعل فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور وأما القول بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه : ومن أحسن من الله صبغة أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الأصباغ حال إخلاص العبادة له فليس بشيء كما لا يخفى قل أتحاجوننا تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة و السلام والهمزة للإنكار وقرأ زيد والحسن وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا
في الله أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والإهتداء عليهما وقيل : المراد في شأن الله تعالى وإصطفائه نبيا من العرب دونكم بناءا على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قبل : وما أنزل إلينا وبعد ومن أظلم ممن كتم شهادة حيث أنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلموما روى في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين
(1/398)

أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روى في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن
وهو ربنا وربكم جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه ونحن له مخلصون 931 في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأتني لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه والجملة حالية كالتي قبلها وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي ونحن له مسلمون ونحن له عابدون إعتراض وتذييل للكلام الذي عقب له مقول على ألإسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف وتحريره أن ونحن له مسلمون مناسب لآمنا أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى : ونحن له عابدون ملائم لقوله تعالى : صبغة الله لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كاف ذلك لما سبق وهذه الآية موافقة لما قبلها ولعل الذوق السليم لاي أباه وأما القول بأن معنى وهو ربنا إلخ أنه لا إختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أمركم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كراة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور إعتبار تلك الأعمال في إستحقاق النبوة وإستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا ! وقد أختلف الناس في الإخلاص فروى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أه قال : سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال : سألت رب العزة عنه فقال : سر من أسراري أستودعته قلب من أحببته من عبادي وقال سعيد بن جبير : الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياءا والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر وقال أبو يعقوب : المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيآته وقال سهل : هو الإفلاس ومعناه إحتقار العمل وهو معنى قول رويم إرتفاع عملك عن الرؤية قيل : ومقابل الإخلاص الرياء وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له الكسل عند العبادة في الوحدة والنشاط في الكثرة وحب الثناء على العمل
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى أم إما متصلة معادلة للهمزة في أتحاجوننا داخلة في حيز الأمر والمراد بالإستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لايكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والإفتراء
(1/399)

على الأنبياء عليهم السلام وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا أجتمعا كما تقول لمن أخظا تدبيرا ومقالا : أتدبيرك أم تقريرك وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الإتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إد وقعتا معا وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والإنتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الإفتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقرأ غير إبن عامر وحمزة والكسائي وحفص أم يقولون بالياءويتعين كون أم حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام إستئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم وإنكارا عليهم وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الإتصال لأنك إذا قلت أتقوم يا زيد أم يقوم عمر وصح الإتصال وأعترض عليه إبن عطية بان المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من إثنين والمخاطب إثنان غير أن يتجه معادلة أم للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى قل أتحاجوننا أي يحاجون يا محمد أم يقولون ولا يخفى أن القول بالإنقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى
قل أنتم أعلم أم الله أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في بابا الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه وأحتج على إنتفائهما عنه بقوله : وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين رفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض ومنأظلم إنكار لأن يكون أحد اظلم ممن كتم شهادة ثابتة
عنده واصلة من الله إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفا وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت الشهادة عندهوكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الإفتراء والجملة يقرر ما أنكر عليهم من إدعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان أو لاأحد أظلم منا لو كتمنا هذه الشهادة ولم نقمها في مقام المحاجة والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى : أأنتم أعلم أم الله من أنهم شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما أعلمهم وجعلها على هذا من تتمة قولوا آمنا لانه في معنى إظهار الشهادة وعلى الأول من تتمة قل أتحاجوننا لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه وفي إطلاق الشهادة مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل وفي رى الظمآن أنمنصلة أظلم والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل : ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم أن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك وقيل : إن من صلة كتم
(1/400)

والكلام على حذف مضاف أي كتم من عباد الله شهادة عندهومعناه أنه تعالى ذمهم على منع ان يوصلوا إلى عباد الله تعالى ويؤدوا إليهم شهادة الحق ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وإنحطاط المعنى فيلنزه كتاب الله تعالى العظيم عنه على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رايت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بدلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي أدعى فيه خلاف الظاهر أيضا
وما الله بغافل عما تعملون 041 وعيد وتهديد لاهل الكتاب أي إن الله تعالى لايترك أمركم سدى بل هو محصل لإعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وإفتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام وقريء عما يعملون بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم بإعتبار المعنى أو لأهل الكتاب
تلك أمة قدخلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون 141 تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما أستحكم في الطباع من الإفتخار بالآباء والإتكال عليهم كما يقال : أتق الله أتق الله أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم وقيل : الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الإقتداء بهم وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني اسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه إنهم كانوا ما كانوا فكأنهم قالوا إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر 2
(1/401)

بسم الله الرحمن الرحيم
سيقول السفهاء
أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض والإعراض عن التدبر والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغير القبلة من المنافقين واليهود والمشركين وروى عن السدي الإقتصار على الأول وعن إبن عباس الإقتصار على الثاني وعن الحسن الإقتصار على الثالث ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن الجمع فيها محلى باللام وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل والتخصيص بالبعض لايدعو إليه داع وتقديم الأخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما والعلم به قبل الوقوع أبعد من الإضطراب ولما أن فيه إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل قبل الرمي يراش السهم وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه أن التعليم والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال والجواب ولو بعد الوقوع وقال القفال : إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة وأن لفظ سيقول مراد منه الماضي وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه : أنا أعلم أنهم سيطعنون فيكأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : لما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء إلى آخر الآية فقال : السفهاء وهم اليهود ماولاهم عن قبلتهم إلى آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل الله تعالى سيقول السفهاء إلخ ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول وهذا في أمر متعلق بالفروع وإنما لم يعطف تنبيها على إستقلال كل منهما في الشناعة
من الناس
في موضع نصب على الحال والمراد منهم الجنس وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس وقيل : الكفرة وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد والأول أولى كما لا يخفى
ماولهم
أي أي شيء صرفهم وأصله من الولي وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والإستفهام للإنكار
عن قبلتهم
يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من الواجهة وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام أسم للمكان
(2/2)

المقابل المتوجه إليه للصلاة
التي كانوا عليها
أي على إستقبالها والموصول صفة القبلة وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم إستحالة النسخ وكراهتم مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له : أرجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة و السلام وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا من التوجه إليها والإنصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون : إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف بإختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم وأختلف الناس في مدة بقائه مستقبلا بيت المقدس ففي رواية البخاري ما علمت وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا وعن الصادق سبعة أشهر وهل أستقبل غيره قبل بمكة أم لا قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه
قل لله المشرق والمغرب
أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا إختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لإمتثال أمره فله أن يكلف عباده بإستقبال أي مكان وأي جهة شاء
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 241
أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى والجملة بدل إشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل : إن للتولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد
وكذلك جعلناكم مة وسطا
إعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم إستطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق بإتباعهم والإقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه بجعلنا كموجيء بما يدل على البعد تفخيما والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم أمة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا وقد ذكرنا قبل أن كذلك كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك هذا الثوب كهذا الثوبفي كونه خزا أو بزا وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة وهذا معنى قولهم إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم وأما إستفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما أهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب أو الحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي ومن الناس من جعل كذلك للتشبيه بجعل مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل جعلناكم امة وسطا ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل
(2/3)

واحد القبلتين في وقته صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائلكما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلناإلا أنه على ما فيه لا يسحم لايراد كما لايخفى ومعنى وسطا خيارا أو عدولا وهو في الأصل أسم لما يستوي نسبة الجوانب إليهكالمركزثم أستعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الأفراط والتفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور والحكمة بين الجربزة والبلادة ثم اطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل وأستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم : خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهمعلى الذم أثقل من مغن وسطلأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك وقولهم : أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني إستعمالها قفيما ينبغي على ما ينبغي ولما كان علم العباد لم يعط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الإجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلكوسموه عدالةفي إحياء الحقوق فيلحفظ وشاع عن أبي منصور الإستدلال بالآيةعلى أن الإجماع حجة إذ لو كان ما أتفقت عليه الأمة باطلا لأنثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لايقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلاينافي إتفاقهم على الخطألا يخلو عن شيء أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الإجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطيء مأجور وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وسطا بالنسبة إلى سائر الأمم وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر ولا تدلعلى حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك وأجيب عن الأول والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الإعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن إمتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم أفتقرنا إلى إجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفةلكن يدخل المعتبرون في إجتماعهمومتى دخلوا وحصل الخطأ أنثلمت عدالة المجموع
وعن الرابع بأن جعلناكم يقتضي تحقق العدالة بالفعل وإستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر
وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرينأعني الصحابة كما هو أصلهفيدل على حجية الإجماع في الجملة وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الأثني عشر ورووا عن الباقر أنه قال : نحن الأمة الوسط ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في أرضه وعن علي كرم الله تعالى وجهه : نحن الذين قال الله تعالى فيهم : وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقالوا : قول كل واحد من أولئك حجة
(2/4)

أفضلا عن إجماعهم وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لتكونوا شهدآء على الناس أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية للجعل المذكور مترتبة عليه أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك فيقول : نعم فيقال له : من يشهد لك فيقول : محمد وأمته فيدعى وأمته فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه فيقولون : نعم فيقال : وما علمكم فيقولون : جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا وفي رواية فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله عزوجل : ويكون الرسول عليكم شهيدا وكلمة الإستعلاء لما في الشهيد من معنى الرقيب أو لمشاكلة ما قبله وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الثاني إختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم وقيل : لتكون واشهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار يوكون الرسول عليكم شهيدا ويزكيكم ويعلم بعدالتكم والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه وما جعلنا القبلة التي كنت عليها وهي صخرة بيت المقدس بناءا على ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة بل يجعلها بينه وبينه و التي مفعول ثانلجعللاصفة القبلة والمفعول الثاني محذوف أي قبلة كما قيل وقال أبو حيان : إنا لجعل تحويل الشيء من حالةإلى أخرى فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما فيجعلت الطين خزفا فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثاني هو القبلة وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ماذكرنا لأن القبلة عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاةوهو كليوالجهة التي كنت عليها جزئى من جزئياتها فالجعل المدكور من باب تصيير الكلي جزئيا ولا شك أن الكلي يصير جزئيا كالحيوان يصير إنسانا دون العكس والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة كما هو الآن وما جعلنا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء إلا لنعلم أي في ذلك الزمان من يتبع الرسول أي يتبعك في الصلاة إليها والإلتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الإتباع
ممن ينقلب على عقبيه أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه و من هذه للفصل كالتي في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح والكلام من باب الإستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يده ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يده من الدلائل على أسوأ حال و نعلم حكاية حال ماضية و يتبع و ينقلب بمعنى الحدوث والجعلمجاز بإعتبار أنه كان الأصل إستقبال الكعبة أو المعنى ما جعلنا قبلتك بيت المقدس إلا لنعلم الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ ممن لا يتبعك كبعض أهل الكتاب أرتدوا لما تحولت القبلة فنعلم على حقيقة الحال والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارضوهو إمتحان الناس
(2/5)

إما في وقت الجعل أو في وقت التحويل وما كان لعارض يزول بزواله وقيل : المراد ب القبلة الكعبة بناءا على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة والمعنى ما رددناك إلا لنعلم الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه إضطرابا ممن يرتد بقلقلة وإضطاراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأولوالجعلعلى هذا حقيقة و يتبع للإستمرار بقرينة مقابله ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ القبلة مرتين وأستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث العلمفي المستقبل وهو تعالى لم يزل عالما وأجيب بوجوه الأول أن ذلك على سبيل التمثيل أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم الثاني أن المرادالعلم الحالي الذي يدور عليه فلك الجزاء أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل فالعلم مقيد بالحادث والحدوث راجع إلى القيد الثالث أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون ويجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والإختصاص فهو كقول الملك : فتحنا البلد وإنما فتحها جنده الرابع أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج وتجوز بإطلاق أسم السبب على المسبب ويؤيده تعديه ب من كالتمييز وبه فسره إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ويشهد له قراءة ليعلم على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه العلم وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد الخامس أن المراد به الجزاء أي لنجازي الطائع والعاصي وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم السادس أن نعلم للمتكلم مع الغير فالمراد ليشترك العلمبيني وبين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز فمن وممن مفعولاه بواسطة وبلا واسطة وإن كان حقيقة فأما أن يكون من الإدراك المعدي إلى مفعول واحد فمن موصولة في موضع نصب به و ممن حال أي متميزا ممن أو من العلم المعدي إلى مفعولين ف من إستفهامية في موضع المبتدأ و يتبع في موضع الخبر والجملة في موضع المفعولين ممن ينقلب حال من فاعل يتبع وبهذا يندفع قول أبي البقاء : إنه لا يجوز أن تكون من إستفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى : ممن ينقلب متعلق لأن ما قبل الإستفهام لا يعمل فيما بعده ولا معنى لتعلقه ب يتبع والكلام دال على هذا التقدير فلا يراد أنه لا قرينة عليهثم إن جملة وما جعلنا إلخ معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل وقيل : معطوفة على لله المشرق والمغرب ويحتاج إلى أن يقال حينئذ : إنه مأمور بأداء مضمون هذا الكلام بألفاظه إذ لايصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة و السلام وفيه بعد ما كما لا يخفى وإن كانت لكبيرة أي شاقة ثقيلة والضمير لما دل عليه قوله تعالى : وما جعلنا إلخ من الجعلة أو التولية أو الردة أو التحويلة أو الصيرورة أو المتابعة أو القبلة وفائدة إعتبار التأنيث على بعض الوجوه الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة وإختصاصه بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا والقول بأن تأنيث كبيرة يجعله صفة حادثة وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلىالجعلأو الرد أو التحويل بدون تكلف تكلف عري عن الفائدة وإن هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط كان
(2/6)

واللام هي ألفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن إن هي النافية واللام بمعنى إلا وقال البصريون : لو كان كذلك لجاز أن يقال : جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا على معنى إلا زيدا وليس فليس وقريء لكبيرة بالرفع ففي كان ضمير القصة و كبيرة خبر مبتدأ محذوف أي لهي كبيرة والجملة خبر كان وقيل : إن كانت زائدة كما في قوله : وإخوان لنا كانوا كرام
وأعترض بأنه إن أريد أن كان مع أسمها زائدة كانت كبيرة بلا مبتدأ وإن المخففة بلا جملة ومثله خارج عن القياس وإن أريد إن كان وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالإبتداء فلا وجه لإتصاله وإستتاره وأجيب بأنه لما وقع بعد كان وكان من جهة المعنى في موقع أسم كان جعل مستترا تشبيها بالأسم وإن كان مبتدأ تحقيقا ولا يخفى أنه من التكلف غايته ومن التعسف نهايته إلا على الذين هدى الله أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا والمراد بهم من يتبع الرسول من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم
وما كان الله ليضيع إيمانكم أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا : يا رسول الله فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فنزلت فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم وقيل : المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة واللام في ليضيع متعلقة بخبر كان المحذوف كما هو رأي البصريين وإنتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريد الأن يضيع وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه وقال الكوفيون : اللام زائدة وهي الناصبة للفعل و يضيع هو الخبر ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل وبهذا يندفع إستبعاد أبي البقاء خبرية يضيع بأن اللام لام الجر وإن بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم فيحوج للتأويل لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى
إن الله بالناس لرؤوف رحيم 341 تذييل لجميع ما تقدم فإن إتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم والباء متعلقة ب رؤوف وقدم على رحيم لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله أي لا ترأفو بهما فترفعوا الجلد عنهماأعم منه ومن الأفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله : لعل تقديم الرؤوف مع أنه أبلغ محافظة على الفواصل ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع فالمراعاة حاصلة على كل حال ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى : رأفة ورحمة ورهبانية إبتدعوها في وسط الآية وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه وقول عصام : إنه لا يبعد أن يقال : الرؤوف إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده والرحيم إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم فقدم الرؤوف لتقدم متعلقه شرفا وقدرا لا شرف ولا قدر بل ولا عصام له ولأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا إستعمال وقرأ نافع وإبن كثير وإبن عامر وحفص لرؤوف بالمد والباقون بغير مد كندس
(2/7)

قد نرى تقلب وجهك في السماء أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون : يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة و السلام ولم يذكر لأن تقلب الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة ولعل ذلك بعد حصول الأذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أستأذن جبريل أن يدعوا الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها ولا يتوقف ذلك على الإستئذان ولا الأذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأذب وأما معاتبته صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ولكن لإسرار خفية وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها بقى هل دعا صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا الظاهر الثاني بناءأ على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال : صلينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة و السلام فنزلت قد نرى الآية وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى هذا ومن الناس من جعل قد هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم وأعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له : قلب بصره إلى السماء وإنما يقال : قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالةلأن التقلبالذي هو مطاوع التقليب يدل عليها وهل التكثير معنى لقدأو حقيقي قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب وذكر بعض النحاة أن قد تقلب المضارع ماضيا ومنه ما هنا وقوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه ولقد نعلم أنك يضيق صدرك إلى غير ذلك فلنولينك قبلة أي لنمكننك من إستقبالها من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته أدنيته منه والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها وجاء قبل الأمر لفرح انفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ونولي يتعدى لإثنين الكاف الأول وقبلة الثاني وقوله تعالى : ترضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة
(2/8)

التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفةلقبلة ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة
فول وجهك
الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره وقيل : المراد به جميع البدن وكنى بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على إختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني وهي هنا بهذا المعنى فوجهك مفعول أول وقوله تعالى : شطر المسجد الحرام أي نحوه كما روى عن إبن عباس أو قبله كما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أو تلقاءه كما روى عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فان مؤديول وجهكنحو أو قبل أو تلقاء المسجدوول وجهك إلى المسجد وإنما لم يجعل الأمر من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون شطر مفعوله الثاني كما قيل به لأن ترتبه بالفاء وكونه إنجازا للوعد بأن الله تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا بإستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف وشطرظرفا فإنه يصير المعنى أصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته قاله بعض المحققين وقيل : الشطر في الأصل لما أنفصل عن الشيء ثم أستعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا وفيه أنهوإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بإنجاز الوعد باق والقول بأن الشطر هنا بمعنى النصف مما لا يكاد يصح والحرامالمحرم أي محرم فيه القتال أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطركما قاله جمعلأنه لو قيل : فول وجهك شطر الكعبة لكان المعنى أجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية ورجحه حجة الإسلام في الإحياء إلا إنهم قالوا : يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة وقال العراقيون والقفال منهم : يجب إصابة العين وقال الإمام مالك : إن الكعبة قبلة أهل المسجد والمسجد قبلة مكة وهي قبلة الحرم وهو قبلة الدنيا وفي حديث إبن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر وقيل : لأن الآية نزلت وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها وأستدل هذا القائل بماذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة وأستقبل الميزاب وتبادل الرجال والنساء صفوفهم فسمى المسجد مسجد القبلتين
(2/9)

وهذاكما قال الإمام السيوطيتحريف للحديث فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت : حدث أمر فجلست فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى فصليناهما ثم نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ وروى أبو داؤد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس فلما نزلت هذه الآية مر برجل ببني سلمة فناداهم وهم كروع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه وقرأ أبي تلقاء المسجد الحرام وهي تؤيد القول الأول في شطر كما لا يخفى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره عطف على فول وجهك ومن تتمة إنجاز الوعد والفاء جواب الشرط لأن حيث إذا لحقه ما الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة والفراء لا يشترط ذلك فيها و كان تامة أي في أي موضع وجدتم وأصل ولوا وليوا فأستثقلت الضمة على الياء فحذفت فألتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبةفوزنه فعواوهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق إعتناءأ به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر إختصاصه به عليه الصلاة و السلام وفائدة تعميم الأمكنةعلى ما ذهب إليه البعضدفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة وقيل : لما كان الصرف عن الكعبة لإستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال : صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم وقرأ عبدالله فولوا وجوهكم قبله
وإن الذين أوتوا الكتاب أي من اليهود والنصارى ليعلمون أنه أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية الحق من ربهم لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى وأما إشتراك النبي وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلإشتراكهما في الشريعة على ما ينبيء عنه قوله تعالى : بل ملة إبراهيم حنيفا ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه يصلى إلى القبلتين والجملة عطف على قد نرى بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل : أو إعتراضية لتأكيد أمر القبلة وما الله بغافل عما يعملون 441 إعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم وقرأ إبن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين وقيل : على قراءة الخطاب وعدلهم وعلى قراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل : الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين
(2/10)

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب عطف على وإن الذين بجامع أن كلا منهما مؤكد لآمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بكل آية وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تبعوا قبلتك جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء ههنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاءا وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق والمعنى أنهم ما تركوا قبلتك لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض الناد وبحت المكابرة وليس المراد من التعليق بالشرط الأخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا وإن أتيت بكلحجة فأندفع ما قيل : كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق وأستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره لأن الله تعالى تعبده بإستقبالها وما أنت بتابع قبلتهم أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا : يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا وقيل : إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم إتباعها وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما أشتركتا في كونهما باطلتين فصار الإثنان واحدا من حيث البطلان وحسن ذلك المقابلة لأن قبله ما تبعوا قبلتك وقد يقال : إن الأفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الإستقبال إلى الشرق وأعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى : إذ إنتبذت من أهلها مكانا شرقيا وأستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق وقيل : إن بعض رهبانهم قال لهم : إني لقيت عيسى عليه الصلاة و السلام فقال لي : إن للشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل إستقبال الشرق وذهب إبن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة وإجتهاد منهم أما النصارى فأجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع أجتهدوا فأدى إجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس وهذا القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر
ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه : كونها أسمية وتكرر فيها الأسم مرتين وتأكيد نفيها
(2/11)

بالباء وفعل ذلك إعتناء بما تقدم وما بعضهم بتابع قبلة بعض أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصلبهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشيء عن فرط العناد وتسلية للرسول ولئن أتبعت أهوآءهم أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لإستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الإنتفاء فيما سبق والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لإتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع
من بعد ما جاءك من العلم أي المعلوم الذي أوحى إليك بقرينة إسناد المجيء إليه والمراد بعد ما بان لك الحق أنك إذا لمن الظالمين 541 أي المرتكبين الظلم الفاحش وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر القبلة وفيها وجوه من التأكيد والمبالغة وهي القسم واللام الموطئة له وإن الفرضية وأن التحقيقية واللام في حيزها وتعريف الظالمين والجملة الأسمية وإذا الجزائية وإيثار من الظالمين علىظالم أو الظالملإفادته أنه مقرر محقق وانه معدود في زمرتهم عريق فيهم وإيقاععلى ما سماه هوى أي لا يعضده برهان ولا نزل في شأنه بيان والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس العلم وعد أيضا من ذلك عده واحدا من الظالمين مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين فإن فيه مبالغة عظيمة للأشعار بالإنتقال من مرتبة العدل إلى الظلم ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية ولو جعل كنت في كنت عليها بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الإستعمال لا المجهولية ولو أقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على إقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى وإستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الإنذار عليه أحوج حفظا لمرتبته وصيانة لمكانته فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعنى به غيره
ألذين آتيناهم الكتاب يعرفونه مبتدأ وخبر والمراد بهم العلماء لأن العرفان لهم حقيقة ولذا وضع المظهر موضع المضمر ولأن أوتوا يستعمل فيمن لم يكن له قبول و آتينا أكثر ما جاء فيمن له ذلك وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول أو من الظالمين فتكون الجملة حالا من الكتاب أو من الموصول ويجوز أن يكون نصبا بأعنى أو رفعا على تقديرهم وضمير يعرفونه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن لم يسبق ذكره لدلالة قوله تعالى : كما يعرفونه أبناءهم عليه فإن تشبيه معرفته بمعرفةالأبناء دليل على أنه المراد وقيل : المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب فلا حاجة إلى إعتبار التقديم المعنوي غاية الأمر أن يكون ههنا إلتفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة و السلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين كأنه قال : الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه وأجيب بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن القبلة مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأه هذه الجملة إعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر القبلة وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن ولذا لم تعطف فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع إتصال ولم يحسن ذلك
(2/12)

الحسن ودليل الإستطراد ولكل وجهة نعم إن قيل : بمجرد الجواز فلا بأس به إذ هو محتمل ولعله الظاهر بالنظر الجليل وقيل : الضمير للعلم المذكور بقوله تعالى : من بعد ما جاءك من العلم أو القرآن بإدعاء حضوره في الأذهان أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة وأن التخصيص ب أهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من الكتاب وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما والكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محدوف أي يعرفونه بالأوصاف المذكورة في الكتاب بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل عرفانهم أبناءهم بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلا منهما يتعذر الإشتباه فيه والمراد بالأبناء الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات فكان ظن إشتباه أشخاصهم أبعد وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لايعرف فيها نفسه كزمن الطفولية بخلاف الأبناء فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف إبنه وما حكى عن عبدالله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم : أنا أعلم به مني بإبني فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : لم قال : لإني لست أشك بمحمد أنه نبي فأما ولدي فلعل والدته خانت فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه فمعناه أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة و السلام بوجه وأما ولدي فأشك في نبوته وإن لم أشك بشخصه وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أنمعرفة الأبناءلا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للإحتمال ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه بهوإن لم يكن أقوىومعرفة الأبناءأشهر من غيرها ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافةالأبناءإليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا وما ذكره إبن سلام كونه إبنا له في الواقع وإن فريقا منهم وهم الذين لم يسلموا
ليكتمون الحق الذي يعرفونه وهم يعلمون 641 جملة حالية و يعلمون إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم أو المفعول محذوف أي يعلمونه فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه إذا لكتم إخفاء ما يعلم أو يعلمون عقاب الكتمان أو أنهم يكتمون فتكون مبينة وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم وإستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان الحق من ربك إستئناف كلام قصد به رد الكاتمين وتحقيق أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا فصل و الحق إما مبتدأ خبره الجار واللام إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها أو للجنس وهو يفيد قصر جنس الحق على ما ثبت من الله أي أن الحق ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو هذا الحق و من ربك خبر بعد خبر أو حال مؤكدة واللام حينئذ للجنس كما في ذلك الكتاب ومعناه أن ما يكتمونه هو الحقلا ما يدعونه ويزعمونه ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج
(2/13)

إلى تكلف وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه الحق بالنصب على أنه مفعول يعلمون أو بدل و من ربك حال منه وبه يحصل مغايرته للأول وإن إتحد لفظهما وجوز النصب بفعل مقدر كالزم وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى فلا تكونن من الممترين 741 أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به أو في أنه من ربك وليس المراد نهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم فلا فائدة في نهيه ولأن المكلف به يجب أن يكون إختياريا وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد وإختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل إمتراء الأمة إمتراءه مبالغة لا تخفى ولك أن تقول : إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء ولعل النهي عنه بهذا الإعتبار ولهذا قال الله تعالى : فلا تكونن من الممترين دون فلا تمتر ومن ظن أن منشأ الإشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء ولكل وجهة أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية وتنوين كل عوض عن المضاف إليه وجهة جاء على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو إتجه والمصدر التوجه أو الإتجاه ولم يستعمل منه وجه كوعد وقيل : إنها أسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبي ولكل قبلة هو موليها الضمير المرفوع عائد إلى كلب إعتبار لفظه والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أيالله موليهاإياه وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ ولكل وجهة بالإضافة وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم وخرجها البعض أنكلكان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره موليها وضمير هو عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين كونه أسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف أي لكل وجهة الله مولى موليهاورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لإثنين لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح وإن أجيب بأطلاق النحاة يقتضي جوازه والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل : إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به وله واللام مزيدة أو أن الكلام من باب الإشتغال بالضمير ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية وجعله مفعولا مطلقا كقوله :
هذا سراقة للقرآن يدرسه
لئلا يقال : كيف يعمل الوصف مع إشتغاله بالضمير وثانيهما إلى القول : بأنه قد يجيء المجرور من باب الإشتغال على قراءة من قرأ والظالمين أعد لهم والقول : بأن اللام أصلية والجار متعلق بصلوا محذوفا أو بأستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه وقرأ إبن عامر وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما مولاها على صيغة أسم المفعول أي هو قد ولى تلك الجهة فالضمير المرفوع حينئذ عائد
(2/14)

إلى كل البتة ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى وأخرج إبن جرير وإبن أبي داؤد في المصاحف عن منصور قال : نحن نقرأ ولكل جعلنا قبلة يرضونها فأستبقوا الخيرات جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء والتأنيث بإعتبار الخصلة واللام للإستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره والخطاب للمؤمنين والإستباق متعد كما في التاج وقيل : لازم و إلى بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من إستقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الإجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد : دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى وقيل : الإقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه ويجوز أن تكون اللام للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها وقيل : يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات والمراد بالإستباق السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها وفيه بعد وأبعد منه ما قيل : إن المعنى فأستبقوا قبلتكم وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى إشتمالها على كل خير
وأستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يخبز وكذلك في أمر الدين واحد يجمع الحديث وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول وهم في الظاهر مختارون وفي اباطن مسخرون وإليه الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم : كل ذلك طرق إلى الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشئون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى وقيل : المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش والروحانيين الكرسي والكروبين البيت المعمور والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة وهي قبلة جسدك وأما قبلة روحك فأنا وقبلتي أنت كما يشير إليه أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط و ما مزيدة و يأت جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر والجملة معلة لما قبلها وفيها حث على الإستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ففيها حث على الإستباق بإغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان أو أينما تكونوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل الله تعالى صلاتكم مع إختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام فيأت بكم مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالإستباق ومنهم من قال : الخطاب
(2/15)

في أستبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له وعلى الثاني الخصوصأي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لإتحادكم في الجهة التي أمرتم بالإتجاه إليهاوليس بشيء كما لا يخفى إن الله على كل شيء قدير 841 ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم وجمعكم والجملة تذييل وتأكيد لما تقدم
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام عطف على فأستبقوا وحيث ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقةبولوالفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأنحيثوإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط ولا يجوز تعلقها بخرج تلفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع خرجت فول وجهك من ذلك الموضع شطر إلخ ومن إبتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للإستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد وقيل : إن حيث متعلقة بول والفاء ليست زائدة وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لإجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير أفعل ما أمرت به من حيث خرجت فول فيكون فول عطفا على المقدر ويجوز أن يجعل من حيث خرجت بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون فول جزاءا له على أنها شرطية العامل فيها الشرط ولا يخفى ما فيه من التكلف والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية حيث بدون ما حتى قالوا : إنه لم يسمع في كلام العرب ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب إستقبال القبلة في غير ذلك
وإنه أي الإستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير بإعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الإعتداد بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد للحق من ربك أي الثابت الموافق للحكمة
وما الله بغافل عما تعملون 941 فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين وقريء يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين والجملة عطف على ما قبلها وهما إعتراض للتأكيد
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره معطوف على مجموع قوله تعالى : ولكل وجهة إلخ أو على قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى : ومن حيث خرجت الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى : ولكل وجهة لأنه معلل بقوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة وهو وإن كان علةلولوالا لمحذوف أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم والحجة في ذلك كما قيل به : إلا أنه يفهم منه كونه علة لول لأن إنقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الأولى ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله والحصر المستفاد من إلا لنعلم إلخ إضافي
(2/16)

أو إدعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل تعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بإبتغاء مرضاته أولا وجرى العادة الآلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة ثانيا ودفع حجج المخالفين ثالثا فإن التولية إلى الكعبة تدفع إحتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يدعى أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة وتدفع إحتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة و السلام يدعى ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة إكتفاء بالعموم المستفاد من العلة وزاد من حيث خرجت دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم
وقد يقال فائدة هذا التكرار الإعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء وقيل : لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة كونه في المسجد وكونه في البلد خارج المسجد وكونه خارج البلد فالأول محمول على الأول والثاني على الثاني والثالث على الثالث ولا يخفى أنه مجرد تشبه لا يقوم عليه دليل
إلا الذين ظلموا منهم إخراج من الناس وهو بدل على المختار والمعنى عند القائلين : بأن الإستثناء من النفي إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها بإعتبار أنهم يسوقونها مساقها وأعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الإستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة بإعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الإستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفى عن المستثنى منه للمستثنى بناء على أن الإستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثنى لزم الجمع وإلا لم يتحقق الإستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثنى شيء آخر ولا محيص للتقصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الإستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولك أن تحمل الحجة على الإحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى : لا حجة بيننا وبينكم فأمر الإستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الإستعمال عند إرادة هذا المعنى وقيل : الإستثناء منقطع وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله : ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يلام بنسيان الأحبة والوطن وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ألا بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الأصغاء و الذين مبتدأ خبره قوله تعالى : فلا تخشوهم والفاء زائدة فيه للتأكيد وقيل : لتضمن المبتدأ
(2/17)

معنى الشرط وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير والمشهور أنالخشيةمرادفة للخوف أي فلا تخافون الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد
وأخشوني أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء وأستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله
ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون 051 الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى : لئلا يكون كأنه قيل : فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس حجة ولأتم إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالإستثناء وما بعده لأنهكلا فصلإذ هو فمن متعلق العلة الأولى نعم أعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الإهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتوليةوالخشيةلإتمام نعمتي عليكم وإرادتي إهتداءكموالجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة أو عطف على علة مقدرة مثقل وأخشوني لأحفظكم ولأتم إلخ ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد والترمذي من حديث معاذ بن جبل تمام النعمة دخول الجنة ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤل الكلام إلى معنىفأعبدوا وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق فإن قيل إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية : ولأتم نعمتي عليكم أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم متصل بما قبله فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف والتقديرلأتم نعمتي عليكم في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إرسال الرسول وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب و فيكم متعلق بأرسلنا وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول وقيل : متصل بما بعده أي أذكروني ذكرا مثل ذكرى لكم بالأرسال أو أذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق بأذكروني ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد إفتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا الإرسال وهذا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتلوا عليكم آياتنا صفة رسولا وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة و السلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر بإعتبار بلاغتها وإشتمالها على الأخبار بالمغيبات والمصالح ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته ويزكيكم أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشيء عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه ويعلمكم الكتاب والحكمة صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الكتاب 9 وتفهيم ما أنطوى عليه من الحكمة الآلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالإتباع وأما قبل ذلك فالكفر حجاب وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم
(2/18)

لإختلاف المراد بها في الموضعين ولكل مقام مقال وقيل : التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة و السلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة وقيل : قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الكتاب والحكمة وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما وأعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة و السلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به وغاية ما يمكن أن يقال : إن التعليم بإعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو بإعتبار غاية وبإعتبار مغياك الرمي والقتل في قولهم : رماه فقتله فأفهم ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون 151 مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر و ما لم تكونوا ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون فأذكروني بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح فالأول كما في المنتخب الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى والثاني الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الآلهية والأسرار الربانية
والثالث إستغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهى عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكرا في قوله : فأسعوا إلى ذكر الله وقال أهل الحقيقة : حقيقة ذكر الله تعالى أن ينسى كل شيء سواه أذكركم أي أجازكم بالثواب وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه وفي الصحيحين من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وأشكروا لي ما أنعمت به عليكم وهو أشكرونيبمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر إشتغالا بذاته وفي الشكر إشتغالا بنعمته والإشتغال بذاته تعالى أولى من الإشتغال بنعمته
ولا تكفرون 251 بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم
ياأيها الذين آمنوا أستعينوا بالصبر على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة بطعن المعاندين في أمر القبلة والصلاة التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى
إن الله مع الصابرين 351 معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لإشتمال الصلاة على الصبر ولا تقولوا عطف على وأستعينوا إلخ مسوق لبيان
(2/19)

إنه لا غائلة للمأمور به وإن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية لمن يقتل في سبيل الله أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم : أموات أي هم أموات
بل أحياء
أي بل هم أحياء والجملة معطوفة على لا تقولوا إضراب عنه وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بلقولوا أحياء لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم أنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا ولكن لا تشعرون 451
أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي وأختلف في هذه الحياة فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة وأستدلوا بسياق قوله تعالى : عند ربهم يرزقون وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم إمتياز بذلك على من عداهم وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلكفقد روى عن الحسن أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق والإمتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من إختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا وأخرج الجملة الأسمية الدالة على الإستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها وقال : معنى بل أحياء إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء فالآية على حد إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا : إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل : ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقى الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة وحكى عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها ولا يخفى أن هذه الأقوالما عدا الأولينفي غاية الضعف بل نهاية البطلان والمشهور ترجيح القول الأول ونسب إلى إبن عباس وقتادة ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين لكنهم أختلفوا في المراد بالجسد فقيل : هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الأحياء فقد جاء في الحديث إن المؤمن يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا وقيل : جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه وأستدل بما أخرجه عبدالرزاق عن عبدالله بن كعب بن مالك قال قال رسول الله : إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة ولا يعارض هذا ما أخرجه مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وإبن ماجه عن كعب بن مالك : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن
(2/20)

أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنةأوشجر الجنة ولا ما أخرجه مسلم في صحيحه عن إبن مسعود مرفوعا إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها وقيل : جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال : رأيت فلاناوإلى ذلك ذهب بعض الإماميةوأستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس إبن ظبيان قال : كنت عند أبي عبدالله جالسا فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش فقال أبو عبدالله : سبحان الله ! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا ووجه الإستدلال إذا كان المراد بالمؤمنين الشهداء ظاهر وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره وأن الأرواح وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه والعود حاصل في النشأة الجنانية بل لو قلنا بعدم عودها إليه وألتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناءا على أنها من المشكك لا المتواطيء أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة إذ فرق بين العالمين وشتان ما بين البرزخين ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك في حديث خلق آدم على صورة الرحمن وإستبعاد أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة إستبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا في فيه علىعلىوهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روحالشهيدفلا يمكن أن تتعلق بها روحان والأمر على خلاف ما يظنون وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئتهوإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده لكن ليس إليه كثير حاجة ولا فيه مزيد فضل ولا عظيم منة بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام وما يحكي من
(2/21)

مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مآت سنين وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابةعنها فلذلك مما رواههيان بن بيان وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة
هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوا أصلا ولا طرفة عين وإلا لقال تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ماتوا فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم أمتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم : أموات وعدل سبحانه عنقتلواالمعبر عنه في آل عمران إلى يقتل روما للمبالغة في النهي وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين والآية نزلتكما أخرجه إبن منده عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهفي شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين ولنبلونكم عطف على قوله تعالى : وأستعينوا إلخ عطف المضمون على المضمون والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر ومضمون الثانية بيان مواطنه والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر ففي الكلام إستعارة تمثيلية لأن الإبتلاء حقيقة لتحصيل العلم وهو محال من اللطيف الخبير والخطاب عام لسائر المؤمنين وقيل : للصحابة فقط وقيل : لأهل مكة فقط
بشيء من الخوف والجوع أي بقليل من ذلك والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة
ونقص من الأموال والأنفس والثمرات عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على الخوف ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت شيء والمراد من الخوف خوف العدو ومن الجوع القحط إقامة للمسبب مقام السببقاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ومن نقص الأموال هلاك المواشي ومن نقص الأنفس ذهاب الأحبة بالقتل والموت ومن نقص الثمرات تلفها بالجوائح ونص عليها مع أنها من الأموال لأنها قد لا تكون مملوكة وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : الخوف خوف الله تعالى والجوع صوم رمضان والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل كما يقال : ثمرة العلم العمل وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي فيقولون : نعم فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه فيقولون : نعم فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي فيقولون : حمدك وأسترجع فيقول الله تعالى : أبنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد وأعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل
(2/22)

نزول الآية وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل فلا معنى للوعد بالإبتلاء بذلك وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاةوهي النمو والزيادةبالنقص وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي إبتلاءهم في الإستقبال بخوف آخر فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات وكذا الأمراض وموت الأولاد أمور متجددة يصح الإبتلاء بها في الآتي من الأزمان والتعبير عن الزكاةبالنقصلكونها نقصا صورةوإن كانت زيادة معنىفعند الإبتلاء سماها نقصا وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها وبشر الصابرين 551 خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائيةوالجامع ظاهركأنه قيل : الإبتلاء حاصل لكموكذا البشارةولكن لمن صبر منكم وقيل : على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون 651 إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها كما في الخبر إنما الصبر عند أول صدمة والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهلقليلا كان المكروه أو كثيراحتى لدغ الشوكة ولسع البعوضة وإنقطاع الشسع وإنطفاء المصباح وقد أسترجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك وقال : كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر وليس الصبر بالإسترجاع باللسان بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة والإسترجاع من خواص هذه الأمة فقد أخرج الطبراني وإبن مردويه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه قالك قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون وفي رواية أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول : يا أسفا على يوسف ويسن أن يقول بعد الإسترجاع : اللهم آجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت : سمت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم آجرني إلخ إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله ومفعول بشر محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل بدليل قوله تعالى : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة وقيل : الثناء وقيل : التعظيم وقيل : المغفرة وقال : الإمام الغزالي : الإعتناء بالشأن ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار ويخالف ما روى نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة وحملها على التعظيم والإعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما
(2/23)

والرحمة تقدم معناها وأتى بعلي إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وبحللهم فهو أبلغ من اللام وجمع صلوات للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب إختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة وقيل : للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في لبيك وسعديك وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم ومنإبتدائية وقيل : تبعيضية وثم مضاف محذوف أي من صلوات ربهم وأتى بالجملة أسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة فقد أخرج إبن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا من أسترجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه وأولئك إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما ذكر من النعوت والتكرير لإظهار كمال العناية بهم ويجوز أن يكون إشارة إليهم بإعتبار حيازتهم ما ذكر من الصلوات والرحمةالمترت على ما تقدم فعلى الأول المراد بالإهتداء في قوله عز شأنه
هم المهتدون 751
هو الإهتداء للحق والصواب مطلقا والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل : وأولئك هم المختصون بالإهتداء لكل حق وصواب ولذلك أسترجعوا وأستسلموا لقضاء الله تعالى وعلى الثاني هو الإهتداء والفوز بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب
ومن باب الإشارة والتأويل ياأيها الذين آمنوا الإيمان العياني أستعينوا بالصبر معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي والصلاة أي الشهود الحقيقي إن الله مع الصابرين المطيقين لتجليات أنواري ولا تقولوا لمن يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد أموات أي عجزة مساكين بل هم أحياء عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به ولكن لا تشعرون لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح ولنبلونكم بشيء من الخوف أي خوفي الموجب لإنكسار النفس وإنهزامها والجوع الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب ونقص من الأموال التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها والأنفس المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلى والثمرات أي الملاذ النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة وبشر الصابرين معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي الذين إذا أصابتهم مصيبة من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي وأستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا في وشاهدوا هلكهم بيفقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري ورحمة أي هداية يهدون بها خلقي ومن أراد التوجه نحوي وألئك هم المهتدون بي الواصلون إلى بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي
إن الصفا والمروة من شعآئر الله لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال وقيل : لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج
(2/24)

لما فيه من الأمور المحتاجة إليه و الصفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص واحده صفاةكحصى وحصاة ونوى ونواةوقيل : إن الصفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لايخالطه غيره من طين أو تربا وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته والمروة في الأصل الحجر الأبيض اللين والمرو لغة فيه وقيل : هو جمع مثل تمرة وتمر ثم صارا في العرف علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة واللام لازمة فيهما وقيل : سمى الصفا لأنه جلس عليه آدم صفى الله تعالى وسمى المروة لأنه جلست عليه أمرأته حواء والشعائر جمع شعيرة أو شعارة وهي العلامة والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية وقيل : المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية فمن حج البيت أو أعتمر الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار والعمرةالزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين و البيت خارج من المفهوم والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو أعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الأسمين خارج عن مفهوم الفعلين وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت فلا جناح عليه أن يطوف بهما أي لا إثم عليه في أن يطوف وأصل الجناح الميل ومنه فإن جنحوا للسلم وسمى الأشم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء وسبب النزول ما صح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف وعلى المروة صنم على صورة أمرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ومنه يعلم دفع ما يتراءى إنه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم أختلفوا في الوجوب فروى عن أحمد أنه سنةوبه قال أنس وإبن عباس وإبن الزبيرلأن نفي الجناح يدل على الجواز والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى : فلا جناح عليهما أن يتراجعا وليس مباحا بالإتفاق ولقوله تعالى : من شعائر الله فيكون مندوبا وضعف بأن نفي الجناح وإن دل على الجواز المتبادر منهعدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيهوالمقصود ذلكفلعل ههنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى : لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك : لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح ولا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر وعن الشافعي ومالك إنه ركن وهو رواية عن الإمام أحمد وأحتجوا بما أخرج البطراني عن إبن عباس قال : سئل رسول الله فقال : إن الله تعالى كتب عليكم السعي فأسعوا ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لاتدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد والحديث إنما يفيد
(2/25)

حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظي السند وإن فرض قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها والمسألة إجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت يارسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال : من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه وليس فيه السعي بينهما ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله وقرأ إبن مسعود وأبي أن لا يطوف ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولإحتمال أن لا زائدة كما يقتضيه السياق
ومن تطوع خيرا أي من إنقاد إنقيادا خيرا أو بخير أو آتيا بخير فرضا كان أو نفلا وهو عطف على فمن حج إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة وفائدة خيرا على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناءا على أنه سنة والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين وقرأ إبن مسعود ومن تطوع بخير وحمزة والكسائي ويعقوب يطوع على صيغة المضارع المجزوم لتضمن من معنى الشرط وأصله يتطوع فأدغم فإن الله شاكر أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد
عليم 851
مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها ومن قال : أتى بالصفتين ههنا لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر بإعتبار الفعل وذكر العلم بإعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآيلم يأت بشيء
وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل : ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم إن الذين يكتمون
إخرج جماعة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه قال : سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى وقيل : نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وإبن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال : لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله : من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب فالموصول
(2/26)

للإستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى أرتكبوا كلا الأمرين ما أنزلنا على الأنبياء من البينات أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد
والهدى عطف على البينات والمراد بهما يهدي إلى الرشد مطلقا ومنهما يهدي إلى وجوب إتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة و السلام والعطف بإعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب وقيل إنه عطف على ما أنزلنا إلخ والمراد بالأول الأدلة النقلية وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية أو المراد بالأول التنزيل وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه : من بعد ما بيناه للناس أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متع لقب يكتمون واللام في الناس صلة بينا أو لام الأجل والمراد بهم الجنس أو الإستعراق وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح للناس وإلى عظم الأثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام في الكتاب متعلق بيناه وتعلق جارين بفعل واحد عند إختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله والمراد به الجنس وقيل : التوراة وقيل : هي والإنجيل وقيل : القرآن والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن الناس من حمل البينات على ما في القرآن وعلق من بعد ب أنزلنا وفسر الكتاب بالتوراة والكتمان بعدم الإعتراف بالحقية ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أولئك يلعنهم الله أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والإلتفات إلى الغيبة بإظهار أسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه : فأولئك أتوب عليهم مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السبيية في الموضعين ولذا أورد أسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق قيل : لئلا يتوهم أن لعنهم إنما هو بهذا السبب بناءا على أنفاءالسببية في الأصل لكونه فاء التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن أسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للإنحصار بناءا على إمتناع التوارد
ويلعنهم اللاعنون 951 أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين فالمراد باللاعنون معناه الحقيقي وليس على حد منقتل قتيلا في المشهور والإستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالأبعاد عن رحمة الله تعالى وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين وأستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن أشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا أن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر
(2/27)

من نفعه قالوا : وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناءا على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال إلا الذين تابوا أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناءا على أن حذف المعمول يفيد العموم وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة وأصلحوا ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف وبينوا أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة وقيل : أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى : وأصلحوا فأولئك أتوب عليهم بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وأنا التواب الرحيم 061 عطف على ما قبله تذييل له والإلتفات إلى التكلم للإفتنان مع ما فيه من الرمز إلى إختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار
الموصول للعهد كما هو الأصل والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به والجملة عديلة لما فيها إلا ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال : أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد أستقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم وأورد كلمة الإستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحتهقاله بعض المحققين وفيه إرتكاب خلاف الظاهر في الإستثناء ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن وإستمراره وعليه يدور الإستثناء المتصل وجملة إن الذين كفروا إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراى الإستثناء وتأكيد دوامه وأستمراره على غير التائبين والإقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبنى على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين والفرق بين الدوامين أن الأول تجددي والثاني ثبوتيولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا وقيل : الموصول عام الذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا وأعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى : إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون فلا يبعد القول بحسن هذا القيل وإليه ذهب الإمام وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر
(2/28)

أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين 161 المراد إستمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكرالملائكة والناس التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المعتدون من خلفه وأجمعين تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدون منهم والكفار كالأنعام لأنه لا يحسم مادة الأشكال وقيل : إنه باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة أو الجملة مساقة للأخبار بإستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل إكتفاءا به وإفتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد وقرأ الحسن والملائكة والناس أجمعون بالرفع وخرج على وجوه فقيل : عطف على لعنة بتقدير لعنة الله ولعنة الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل : مبتدأ محذوف الخبر أي والملائكة والناس يلعنونهم أو فاعل لفعل محدوف أي يلعنهم وقيل إن لعنة مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله :
مشى الهلوك عليها الخيعل الفضل
برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما وأدعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير وأيضا لعنة وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا إنحل لأن والفعل وهنا المقصود الثبوت فلا يصح إنحلاله لهما وسلمه له غيره وقالوا : إنه مذهب سيبويه خالدين فيها أي في اللعنة وهو يؤكد ما تفيده أسمية الجملة من الثبات وجوز رجوع الضمير إلى النار والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالإعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل وقيل : إن اللعن يدل عليها إذ إستقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا والموت على الكفر وإن أستلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه و خالدين على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لإستقرار اللعنة لا كما قيل : إنه على الثاني حال مقدرة
لا يخفف عنهم العذاب
إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير خالدين
ولا هم ينظرون 261
عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثار الجملة ألاسمية لإفادة دوام النفي وإستمراره والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير أي لا يمهلون عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة وإما من النظر بمعنى الإنتظار أي لا ينتظرون ليعتذروا وإما من النظر بمعنى الرؤية أيلا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه المجهول
وإلهكم إله واحد
نزلت كما روى عن إبن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : صف لنا ربك والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول والجملة معطوفة على إن الذين يكتمون عطف القصة على القصة والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه لإثبات وحدانيته تعالى وقيل : الخطاب للكاتمين وفيه إنتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته ويقولون : عزير وعيسىإبنا لله عز و جل وفيه أنه وإن حسن الإنتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية وهو باطل وإضافة إله إلى ضمير المخاطبين بإعتبار الإستحقاق لا بإعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة وإعادة
(2/29)

لفظ إله وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الآلوهية وإستحقاق العبادة ولولا ذلك لكفى وإلهكم واحدفهو بمنزلة وصفهم الرجل بأنه سيد واحد وعالم واحدوقال أبو البقاء : إلهخبر المبتدأ و واحد صفة له والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال : وإلهكم واحد لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك : مررت رجلا صالحا وكقولك في الخبر : زيد شخص صالح ولعل الأول ألطف وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقيل : إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الإنقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا وليس المعنى به هنا مبدأ العدد وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في إستحقاق العبادة وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال لا إله إلا هو
خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية ومزيح على ما قيل لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع وقد أختلف في المنفى هل المعبود بحق أو المعبود بباطل فقال محمد الشيشيني : النفي إنما تسلط على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم وقال عبدالله الهبطي : إنما تسلط على الآلهة المعبودة بحق ولكل أنتصر بعض وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلا ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفي لأن الذات لا تنفي وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفي أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا وإنما ينفي من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق فلم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فأفهم وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى : الرحمن الرحيم 361
خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى إلهكم أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة أو بدلان على رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى وما سواه إما خير محض أو خير غالب وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لإستواء الكل في الإحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات
إن في خلق السموات واللأرض أخرج البيهقي عن أبي الضحى معضلاأنه كان للمشركين حول الكعبة ثلثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا : إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان وإنما جمع السموات وأفرد الأرض للإنتفاع بجميع أجزاء الأولى بإعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها وهي ما نشاهده منها وقال أبو حيان : لم تجمع الأرض لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد وجمع لم يقع مفرده كالألباب وفي المثل السائر نحوه وقال بعض المحققين : جمع السموات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى : فسواهن سبع سموات سواء كانت متماسة كما هو رأي الحكيم أو لا كما جاء
(2/30)

في الآثار أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام مختلفة الحقيقة لما أن الإختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى : فأوحى في كل سماء أمرها يدل عليه ولم يجمع الأرض لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها كما ورد في الأحاديث من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءينأو لا تكون متفاصلةكما هو رأي الحكيمغير مختلفة في الحقيقة إتفاقا
وإختلاف الليل والنهار أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر أو إختلاف كل منهما في أنفسهما إزديادا وإنتقاصا أو ظلمة ونورا وقدم الليل لسبقه في الخلق أو لشرفه
والفلك التي تجري في البحر عطف على خلق السموات لا على السموات أو عطف على الليل والنهار والفلك من الألفاظ التي أستعملت مفردا وجمعا وقدر بينهما تغاير إعتباري فإن أعتبر أن ضمته أصلية كضمة قفل فمفرد وإن أعتبر أنها عارضة كضمةأسد فجمع ومن الأول قوله تعالى : في الفلك المشحون ومن الثاني قوله تعالى : إذا كنتم في الفلك وجرين بهم وقيل : إنه جمع فلك بفتح الفاء وسكون اللام وقيل : إنه أسم جمع وزعم بعضهم أنه قريء فلك بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير وقال الكواشي : الفلك والفلك بضمتين لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده
بما ينفع الناس ما إما مصدرية أي بنفعهما وموصولة أي بالذي ينفعهم وعلى الأول ضمير الفاعل اما للفلك لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى كما قيل أو للجري أو للبحر وإحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الإستدلال وما أنزل الله من السماء من مآء عطف على الفلك قيل : وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل وقيل : المقصود من الأول الإستدلال ب البحر وأحواله لا ب الفلك الجاري فيه لأن الإستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء أو العلم بكيفية إجرائه أو بتخسير الريح والبحر لذلك أو توسله إلى ما ينفع الناس وشيء منها ليس من حاله في نفسه ولأن الإستدلال بالف الجاري في البحر إستدلال بحال من أحوال البحر بخلاف ما لو أستدل ب البحر وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام إلا أنه خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال : والعجائب التي في البحرلأنه سبب الإطلاع على أحواله وعجائبه فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله وطريقا إلى العلم بوجوده دلالته ولذلك قدم على ذكرالمطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر وإلا فالمناسب بعد ذكر إختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر المطر والسحاب اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا وإن جل قائله إذ يؤول المعنى إلىوالبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناسوهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه وأي مانع من كون الإستدلال بإختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الآلهية أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة متعلقة بحبال الهواء على لطفه وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه وإضطراب لججه وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم ووجه الترتيب على ما أرى أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي وإختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي ثانيا إذ تعاقب الليل والنهار أو إختلافهما
(2/31)

إزديادا وإنتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيايا بما ينفع الناس في أمر معاشهم وإنتظام أحوالهم وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الآلهية في هاتيك المسالك فالآية حينئذ على حد قوله تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون
والشمس تجري المستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالأحياء وفي ذلك النفع التام والفضل العام و من الأولى إبتدائية والثانية بيانية وجوز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى والمراد من السماء جهة العلو وقد تقدم تحقيق ذلك فأحيا به الأرض بتهييج قواها النامية وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار بعد موتها وعدم ظهور ذلك فيها لإستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها وبث فيها من كل دابة عطف إما على أنزل والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الإشتراك في الفاعل و أحيا من تتمة الأول كان الإستدلال بالإنزال المسبب عنه الأحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف إما على أحياء فيدخل تحت فاء السببية وسببية إنزال الماء للبث بإعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدوابوالبثفرع الحياة ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لإغناء فاء السببية عنه في المشهور وقيل : يحتاج إلى تقدير بهأي بالماءليشعر بإرتباطه ب إنزال إستقلالا ك أحيا وفاء السببية لا تكفي في دلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثرى لا كلي و من بيانية على التقدير الأول على الصحيح والمراد من كل دابة كل نوع من الدواب ومعنى بثها تكثيرها بالتوالد والتولد فالإستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم إنحصاره في البعض وقيل : تبعيضية لأن الله تعالى لم يثب إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة حمعسق وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء على أن مدلول التبعيضيةكون شيء جزءا من مدخولها لافردا منه وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين وعدم صحة التبعيض وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش وتصريف الرياح
أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقيما ولواقح وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب وقرأ حمزة والكسائي الريح على الأفراد وأريد به الجنس وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهماالرياحللرحمة والريح للعذاب وروى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح قال : اللهم أجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ولعله قصد بالأول والثاني قوله تعالى : ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وقوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم
(2/32)

وعقب إحياء الأرض بالمطر وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار
والسحاب
عطف على ما قبله وهو أسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لإنسحابه في الجو أو لجر الرياح له المسخر بين السماء والأزض صفةللسحاببإعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك سحابا ثقالا و بين ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا وقيل : الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محدوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى وتعقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدى به منها لأنه أرضى سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه وبما ذكرنا علم جه الترتيب في الآية وقال بعض الفضلاء : لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع إنكعاس الترتيب الخارجي للإشعار بإستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى : لآيات أسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لإختصاص الآلهية به سبحانه لقوم يعقلون 461 أي يتفكرون فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته أخرج إبن أبي الدنيا وإبن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وفيها تعريض بجعل المشركين الذين أقترحوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى وأستغنى عن سائرها ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لابد له من موجد لإمتناع وجود الممكن بلا موجد قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم إجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم إجتماع العلتين التامتين وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لإستوائهما في إرادة إيجاده عى الإستقلال وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده وإن أختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة وفي الآية إثبات الإستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده
(2/33)

تعالى و من دون الله حال من ضمير يتخذ والأنداد الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين وقيل : الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال وروى عن السدي ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنهوقيل : المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى ومن الناس من يتخذ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شئونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه وإيثار الأسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات يحبونهم كحب الله إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد أو صفةلمنإذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الإتخاذ والمحبةميل القلب من الحب واحد الحبوب أستعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لإعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على إنحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم والعارفون بالله سبحانه قالوا : إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها وقيل : إرادة إكرامه وإستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطعيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بمضير العقلاء بإعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين وقيل وهو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملةيحبونهم بيانا لوجه الإتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول وأستغنى عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين ولا ينافي ذلك قوله تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبتين وذلك يقتصر أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى والترجيح بين المحبتين لكن بإعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤن منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوهكما يحكي : أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كإنتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر وليس المراد من شدة المحبة شدتها وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال : إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه إختيار أشد حبا على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ولهذا نزل فأستقم كما أمرت وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها وقال العلامة : عدل عن أحب إلى اشدلأنه شاع في الأشد محبوبيةفعدل
(2/34)

عنه إحترازا عن اللبس وقيل : إن أحب أكثر من حب فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد
ولو يرى الذين ظلموا أي لو يعلم هؤلاء الذين ظلموا بالإتخاذ المذكور ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلكالإتخاذظلم عظيم وأن أتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم والموصول والصلة للأشعار بسببرؤيتهم العذاب المفهومة من قوله سبحانه : إذ يرون العذاب أي عاينوا العذاب المعد لهم وابصروه يوم القيامة وأورد صيغة المستقبل بعد لو و إذ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان
أن القوة لله جميعا ساد مسد مفعولي يرى وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف وقيل : هو متعلق الجواب والمفع ولا محذوفانوالتقدير ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع لعلموا أن القوة لله جميعا لا ينفع ولا يضر غيره وقرأ إبن عامر ونافع ويعقوب ترى على أن الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة وإبن عامر إذ يرون بالبناء للمفعول ويعقوب إن بالكسر وكذا وأن الله شديد العذاب على الإستئناف أو إضمار القولأي قائلين ذلك وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن إختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إذ تبرأ الذين أتبعوا بدل من إذ يرون مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقه لطول البدل وجوز أن يكون ظرفا ل شديد العذاب أو مفعولالا ذكرواوزعم بعضهم أنه بدل من مفعول ترى على قراءة الخطاب كما أن إذ يرون بدل منه أيضا وأن القوة في موضع بدل الإشتمال من العذاب ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الإشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منهوكلاهما مفقودانوالمعنى إذ تبرأ الرؤساء المتبعون من الذين أتبعوا أي المرؤوسين بقولهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الإتباع وانفصلوا عن متبوعيهم وندموا على عبادتهم وزاوا العذاب حال من الأتباع والمتبوعين كما في لقيته راكبين أي رائين له فالواو للحال و قد مضمرة وقيل : عطف على تبرأ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال إذ رأوا العذاب من إذ يرون العذاب وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين وإن كانا متغايرين إلا أن تهويل الوقت بإعتبار ما وقع فيه وهو رؤية العذاب ولأن الحقيق بالإستفظاع هو تبرؤهم حال رؤية العذاب لا هو نفسه وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحدوهو الرؤية فقطوفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إذ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى رؤية العذابلا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب
وتقطعت بهم الأسباب 661 إما عطف على تبرأ أو رأوا أو حال ورجح الأول لأن
(2/35)

الأصل فيالوا العطف وفي الجملة الإستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والإستقطاع مع عدم الإحتياج إلى تقدير قد والباء من بهم للسببية أي تقطعت بسبب كفرهم الأسباب التي كانوا يرجون منها النجاة وقيل : للملابسة أيتقطعت الأسباب موصولة بهم كقولك : خرج زيد بثيابه وقيل : بمعنى عن وقيل : للتعدية أيقطعتهم الأسباب كما تقول : تفرقت بهم الطريق ومنه قوله تعالى : فتفرق بكم عن سبيله وأصل السبب الحبل مطلقا أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف أو الحبل الذي يرتقي به النخل والمراد ب الأسباب هنا الوصل التي كانت بين الأتباع والمتبوعين في الدنيا من الأنساب والمحاب والإتفاق على الدين والإتباع والإستتباع وقريء تقطعت بالبناء للمفعول وتقطعجاء لازما ومتعديا وقال الذين أتبعوا لو أن لنا كرة أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا
فنتبرأ منهم أي من المتبوعين كما تبرؤا منا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرؤا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبريء المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم ولذا لم يتبرؤا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لايغيظ المتبوعين حيث تبرؤا من الأتباع أو لا ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤا الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالإنفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم وذلك لا يغيظ المتبوعين لإشتغال كل منهم بما يقاسيه فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤا منهم تبرؤا يغيظهم وأما قوله سبحانه : كما تبرؤا فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعينوهو منصوص في آية أخرىولايقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق وقيل : إن الأتباع بعد أنتبرؤامن المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرؤا منهم فيها ويخذلوهم فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة ويحتاج هذا التوجيه إلى إعتبار التغليب في لنا أي لنا ولهم إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين
كذلك في موضع المفعول المطلق لما بعده والمشار إليه الأراء المفهوم من إذ يرون أي كأراء العذاب المتلبس بظهور أن القوة لله والتبري وتقطع الأسباب وتمني الرجعة
يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وجوز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده أسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا أي ذلك الأراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا والجملة تذييل لتأكيد الوعيد وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم ويجوز أن تكون إستئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم فأجيب بما ترى و حسرات أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية وحال من أعمالهم إن كانت بصرية ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أعمالهم السيئة يوم القيامة حسرات رؤيتها مسطورة في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وتيقن الجزاء عليها فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى و علهم صفة حسرات وجوز تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأنحسر يتعدى بعليوأستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع وما هم بخارجين من النار 761 المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وما أنا
(2/36)

بطارد الذين آمنوا وما أنت عليهم بعزيز ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى : والذين آمنوا أشد حبا لله في النار وإذا أريد من الذين ظلموا الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم فإن الشركة تهون العقوبات وقيل : إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيدلا حصر النفيإذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الإنفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود والإقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا وزيادةالباءوإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر ومن ذلك قوله تعالى : يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها فليس القول بعدم الحصر نصا في الإعتزال كما وهم
ومن باب الإشارة في الآيات إن الصفا أي الروح الصافية عن درن المخالفات والمروة أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية ودخل بيت الحضرة الآلهية بالفناء عن السوي أو زار الحضرة بتوحيد الصفات وأتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ أن يطوف بهما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب ومن تبرع خيرا بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه إن الذين يكتمون ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال من بعد ما بيناه للناس في كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة أولئك يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه ويلعنهم اللاعنون من الملأ الأعلى فلا يمدونهم ومن المستعدين فلا يصحبونهم إلا الذين رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه إبتلاء منه عز و جل وأصلحوا أحوالهم بالرياضة وأظهروا ما أحتجب عنهم بصدق المعاملة فأولئك أقبل توبتهم وأنا الثواب الرحيم
إن الذين كفروا وأحتجبوا عن الحق وبقوا على إحتجابهم حتى زال إستعدادهم وأنطفأ نور فطرتهم أولئك أستحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت خالدين في ذلك لا يخفف عنهم العذاب لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم ولا هم ينظرون للزوم تلك الهيآت المظلمة إياهم وإلهكم إله واحد بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه وهو العدم البحت إن في إيجاد سموات الأرواح وأرض النفوس وإختلاف النور والظلمة بينهما وفلك البدن التي تجري في بحر الإستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم وتكميل نشأتهم وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الإحتراق بإلتهاب نار الوجد لآيات ودلائل لقوم يعقلون بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم ومن الناس من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه والذين آمنوا الإيمان الكامل أشد حبا لله لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد ألست بربكم لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن
(2/37)

يزول حبهم أو يميل إلى الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه ولو يرى الذين ظلموا وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيى ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الإحتجاب عن رب الأرباب وإن القدرة لله جميعا وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه وعند ذلك يتبرؤ الإتباع من المتبوعين وقد رأوا عذاب الحرمان وتقطعت بهم الوصل للتي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامكما ذكره إبن جرير وإبن عباس رضي الله تعالى عنهماوقيل : في عبدالله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود وقيل : في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم و حلالا إما مفعول كلوا أو حال من الموصول أي كلوه حال كونه حلالاأو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا و من على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا بهلكلواوعلى التقدير الأول يجوز أن تكون إبتدائية متعلقة بكلوا أو حالا من حلالا وقدم عليه لتنكيره وأن تكون إبتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مدهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة وأن تكون تبعيضية بناءا على ما أرتضاه الرضى من أن التبعيضية في الأصل إبتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور بمن ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موقع المفعول به حينئذ والفعل لا ينصب مفعولين وهو مبني على ما التسهيل وغيره أن التبعيض معنى حقيقي لمن وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك ومناسبة الآية لما قبلها أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الأنعام وقوله تعالى طيبا صفة حلالا ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله وبهذا ما لم يرد فيه نص ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كأسكار وضرر والأولى نظرا للمقام أن يقال إن التقييد ليس للإحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على إمتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطيب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة وبيبن المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققينوأستدل بعضهم بالآية
(2/38)

على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه وفيه خفاء لا يخفى ولا تتبعوا خطوات الشيطان اي آثارهكما حكى عن الخليلأو أعمالهكما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهأو خطاياهكما نقل عن مجاهدوحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهمالغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة وفي توجيهها وجهان الأول ما قيل : إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة والثاني إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحوأجوهوهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج : وهذا جائز في العربية وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو
إنه لكم عدو مبين 861 تعليل للنهي و مبين من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهرالعداوةعند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمى وليا في قوله تعالى : أولياؤهم الطاغوت ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف وقيل : أبانبمعنى أظهر أي مظهرالعداوةوالأول أليق بمقام التعليل إنما يأمركم بالسوء والفحشاء إستئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وإنحصار معاملته معهم في ذلك أو علة للعلة بضم وكل من هذا شأنه فهو عدو مبين أو علة للأصل بضم وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معلالا بعلتين العداوةوالأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ينافي ذلك لكونه مبنيا على أن المعتبر في الأمر العلو كما هو مذهب المعتزلة وإلا فمجرد الإستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان وعلى أن يكون عبادي لعموم الكل بدليل الإستثناء وعلى أن الخطاب في يأمركم لجميع الناس لا للمتبعين فقط ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو إستعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال : يأمر لكم وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال : يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق إستعماله والسوء في الأصل مصدر ساءه يسؤوه سوءا أو مساءة إذا أحزنه ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لإشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها و الفحشاء أقبح أنواعها وأعظمها مساءة وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه و الفحشاء ما فيه حد وقيل : هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة وأستقبحه الشرع والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لإغتمام العاقل وفحشاء بإستقباله إياه ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه : من كسب سيئة و إن الحسنات يذهبن السيئات وجزاء سيئة سيئة مثلها وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويمكن أن يقال : سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا أجتمعا أفترقا وإذا أفترقا أجتمعا فلا يتم الإستدلال وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون 961 عطف على سابقه أيويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذاوأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر بإتخاذ الأنداد ورضى بما أنتم عليه من الأفساد
(2/39)

والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للإهتمام بشأنه ومفعول العلم محذوف أيما لا تعلمونالأذن فيه منه تعالى والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الأذن فيه كما هو حال كثير من المشركين إستلزاما ظاهرا وظاهر الآية المنع من إتباع الظن راسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ إتباعه للمقلد ! وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به الدليل القاطع وهو الإجماع وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى : وإلا لم يجب العمل به قطعا وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وأنقلب الظن علما فتقليد المجتهد ليس من إتباع الظن في شيء وزعم ذلك من إتباع الظن وتحقيقه في الأصول وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على صلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك وقيل : الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناءا على ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام وقيل : إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون والجملة مستأنفة بناءا على ما روى أنها نزلت في المشركين وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى : والمطلقات يتربصن وقوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى وإما خاص بما يقتضيه المقام قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أي وجدناهم عليه والظرف إما حال منآبائنا وألفينامتعد إلى واحد وإما مفعول ثان له مقدم على الأول
أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون 071 جواب الشرط محذوف أيلو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لأتبعوهم والواو للحال أو للعطف والجملة الشرطية إما حال عن ضمير قالوا أو معطوفة عليه والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو إلتزامهم الإتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لإلتزامهم الإتباع على أي حال كانوا من غير تمييز وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أييتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين ولو كانوا غير عاقلين وإلى الأول ذهب الزمخشري وإلى الثاني الجرمي ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء ولعل ماذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء لو على معناها المشهور والهمزة الإستفهامية على أصلهاوهو إيلاء المسئول عنه وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم وأختار الرضى أن الواو الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا إعتراضية وعني بالجملة الإعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا قيل : وفي الآية دليل
(2/40)

على المنع من التقليد لمن قدر على النظر وأما إتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه محق فإتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى وليس من التقليد المذموم في شيء وقد قال سبحانه : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء وندآء جملة إبتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق ووضع المظهر وهو الموصول موضع المضمر وهو البهائم ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه وحاصل المعنى على التقديرين أن الكفرة لأنماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى مايتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودوي الصوت وقيل : المراد تمثيلهم في إتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى : إلا دعاء ونداء لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للإستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع لا يسمع إلا دعاء ونداء كناية عن عدم الفهم والإستجابة والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر ويقال : نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل : نعب بالياء والدعاء والنداء بمعنى وقيل : إن الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع وقيل : إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد صم بكم عمي رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به فهم لا يعقلون 171 أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل : من فقد حسا فقد فقد علما وليس المراد نفي العقل الغريزي بإعتبار إنتفاء ثمرتهكما قيل بهلعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي مستلذاته أو من حلاله والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر و كلوا لعموم جميع وجوه الإنتفاع دلالة وعبارة وأشكروا لله على ما أنعم به عليكم والإلتفات لتربية المهابة إن كنتم إياه تعبدون 271 بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل : وأشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العباداتولذا جعل نصف الإيمانوورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول إنما حرم عليكم الميتة أي أكلها والإنتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العينمع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيانآشارة إلى حرمة التصرف في الميتة وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب الميتة ما أبين من حي للحديث الذي أخرجه
(2/41)

أبو داؤد والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما قطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي أخرجه إبن ماجه والحاكم من حديث إبن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب وعليه أكثر المالكية وأستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لانفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية وقرأ أبو جعفر : الميتة مشددة والدم قيد في سورة الأنعام بالمسفوح وسيأتي وأستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت وما لا نفس له تسيل ولحم الخنزير خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له وقيل : خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكى أو لم يذك وفيه ما لا يخفى ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما أستطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم وأستعظموه وقوع تحريمه وأستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البحر وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : لا بأس به وروى عن الإمام مالك أنه قال له شخص : ما تقول في خنزير البحر فقال : حرام ثم جاء آخر فقال له : ما تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير فقال حلالفقيل لهفي ذلك فقال : إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته والسؤال مختلف في الصورتين وما أهل به لغير الله أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى واصل الأهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤى سمى بذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره والمرادبغير اللهتعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها بأسم المسيح وهذا خلاف ما أتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه فمن أضطرغير باغ بالإستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر ولا عاد أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للإضطرار وقد أندفع به وقال عبدالله بن الحسن العبري : يأكل منها قدر ما يسد جوعته وخالف في ذلك الإمام مالك فقال : يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غنى عنها طرحها ونقل عن الشافعي أن المراد غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا وهو خلاف مذهبنا ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لايكون زائدا على قدر الضرورة من خارج وأستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي فمن أضطر بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من أضطر فلا إثم عليه أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول إن الله غفور رحيم 371 فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص وقيل : الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لإضطراره كما هو الظاهر من تقييد الإثم بعليه وأستدل للأول بقوله تعالى : إلا ماأضطررتم إليه حيث أستثنى من الحرمة
(2/42)

ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ماذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما أعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ماذكر فكأنه قيل : إنما حرم عليكم ماذكر من جهة ما أستحللتموه لأشياء أخر والمقصود من قصر الحرمة على ماذكروه إعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد إعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما أستحلوه بل تأكيد الجزء الأول والخطاب للناس بإعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن ياايها الناس كلوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الإختيار كأنه قيل : إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب أو تشريفهم بالإمتنان بهذا الترخيص بعد الإمتنان عليهم بإباحة المستلذات وأختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالىمن البحيرة والوصيلة والحاموأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية فكأنهم قالوا : تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا فقيل : ما حرمت إلا هذهفهو إذا إضافيوذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم قاله بعض المحققين فليتدبر
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحلالات والمحرمات والآية نزلتكما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهفي علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رياستهم وتنقطع هداياهم ويشترون به أي يأخذون بدله في نفس الأمر والضميرللكتابأو لما أنزل أو للكتمان ثمنا قليلا أي عوضا حقيرا
أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار إما في الحالكما هو أصل المضارعلأنهم أكلوا ما يتلبس ب النار وهوالرشال كونها عقوبة لها فيكون في الآية إستعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة منأكلهم النارمن حيث إنه يترتب علىأكلكل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر فأستعمل لفظ المشبه به في المشبه وإما في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار فالنار في الإحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي وقيل : إنها مجاز عنالرشاإذا أريد الحال والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد والجار والمجرور حال مقدرة أي ما يأكلون شيئا حاصلا في بطونهم إلا النار إذ الحصول فيالبطنليس مقارنا للأكل وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الإستثناء ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يأكلون والمراد في طريق بطونهم كما أختاره أبو البقاء والتقييد بالبطون لإفادة للتأكيد كما قيل بهوالظرفية بلفظة في وإن لم تقتض إستيعاب المظروف الظرف لكنه شاع إستعمال ظرفيةالبطن في الإستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله :
(2/43)

كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص ولا يكلمهم الله يوم القيامة أي كلام رحمةكما قال الحسن فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم وقيل : لا يكلمهم أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم والسؤال بواسطة الملائكة
ولا يزكيهم أي لا يطهرهم من دنس الذنوب أو لايثنى عليهم
ولهم عذاب أليم 471 أي مؤلم وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى لأنه لما ذكر سبحانه إشتراءهم بذلك الثمن القليل وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى : ما يأكلون في بطونهم إلا النار ثم قابلكتم انهم الحقوعدم التكلم به بقوله تعالى : ولا يكلمهم الله تعالى وإبتنى على كتمانهم وأشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه : ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم وبدأ أولا بما يقابل فردا فردا وثانيا بما يقابل المجموع أولئك الذين أشتروا بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية والأغراض الدنيوية الضلالة بالهدى في الدنيا والعذاب بالمغفرة في الآخرة والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم فقيل : إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة وإما خبر بعد خبر لأن والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم وهذه لبيان شناعة كتمانهم
فما أصبرهم على النار أي ما أشد صبرهم وهو تعجب للمؤمنين من إرتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم و ما في مثل هذا التركيب قيل : نكرة تامة وعليه الجمهور وقيل : إستفهامية ضمنت معنى التعجب وإليه ذهب الفراء وقيل : موصولة وإليه ذهب الأخفش وحكى عنه أيضا أنها نكرة موصوفة وهي على هذه الأق والفي محل رفع على الإبتداء والجملة خبرها أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة وتمام الكلام في كتب النحو ذلك
أي مجموع ما ذكر من أكل النار وعدم التكليم والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان بأن الله نزل الكتاب بالحق
أي بسبب أن الله تعالى نزل القرآن أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان
وإن الذين أختلفوا في الكتاب
أي في جنسه بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض أو في التوراة ومعنى أختلفوا نخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها أو في القرآن وإختلافهم فيه قول بعضهم : إنه سحر وبعضهم إنه شعر وبعضهم إنه أساطير الأولين
لفي شقاق
أي خلاف بعيد
عن الحق موجب لأشد العذاب وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه ومن الناس من جعل الواو للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب
البر أسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى والخطاب لأهل الكتابين والمراد من قبل المشرق والمغرب السمتان المعينان فإن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس من أفق مكة والنصارى قبل المشرقوالآية
(2/44)

نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وأدعى كل طائفة حصرالبر على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس البر عن قبلتهم لأنها منسوخة فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفيلا للقصر إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين فيكون عودا على بدء فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل والمراد من ذكر المشرق والمغرب التعميم لا تعيين السمتين وتعريف البر حينئذ إما للجنس فيفيد القصر والمقصود نفي إختصاص البر بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الإشتغال والإهتمام بذلك والذهول عما سواه وإما للعهد أي ليس البر العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب وقرأ حمزة وحفص البر بالنصب والباقون بالرفع ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله : سلي أن جهلت الناس عنا وعنهم فليس سواءا عالم وجهول وحسن ذلك أن المصدر المؤل أعرف من المحلي باللام لأنه يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالأسمية ولأن في الأسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم ووجه الثانية أن في كل فريق يدعى أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر أسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الإستدراك وقرأ إبن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس البر بالنصب بأن تولوا بالباء ولكن البر من آمن بالله تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل وإلفي البر إما للجنس فيكون القصر إدعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله والكلام على حذف مضاف أيبر من آمنإذ لا يخبر بالجنة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى أسم الفاعل أو يقال بإطلاق البر على البار مبالغة والأول أوفق لقوله : ليس البر وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤل إلى الأول والمراد بهذا الإيمان إيمان فحال عن شائبة الإشراك لا كأيمان اليهود والنصارى القائلين عزير إبن اللهوقرأ نافع وإبن عامر ولكن بالتخفيف وقرأ بعضهم البار بصيغة أسم الفاعل اليوم الآخر أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم والملائكة أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب والكتاب أي جنسه فيشمل جميع الكتب الآلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه ولما ورد في الحديث أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه وقيل : التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا بإعتبار إستلزامه الإيمان بالقرآن والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما أقتضته الحكمة من اللغات والنبيين أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس
(2/45)

حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة
وأتى المال على حبه حال من ضمير أتى والضمير المجرور للمالأي أعطى المال كائنا على حب المالوالتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر وة تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان لفلان وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى إن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة و السلام : افضل الأعمال أحمزها وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل والتقييد حينئذ للتكميل وبيان إعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا والأول هو المأثور عن السلف الصالح ولعله المروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذوي القربى مفعول أول ل آتى قدم عليه مفعوله الثاني للإهتمام أو لأن فيه مع ما عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف وهو الذي أقتضى تقديم الحال أيضا وقيل : هو المفعول الثاني والمراد ب ذوي القربى ذو قرابة المعطى لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقةوإيتاءالأغنياء هبة لا صدقة وقدم هذا الصنف لأن إيتاءهم أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت : سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان إبن عامر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم إثنتان صدقة وصلة واليتامى
عطف على ذوي القربى وقيل على القربى إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم وفيه ما لا يخفى
والمسكين
جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون والإلتجاء إلى الناس وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه
وإبن السبيل
أي المسافر كما قاله مجاهد وسمى بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفرداه لإنفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع ويشتاق إلى الربع والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل والمعطى تعارف غالبا يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم وروى عن إبن عباس وقتادة وإبن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين والسائلين
أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراى كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داؤد وإبن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : للسائل حق وإن جاء على فرس فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا وقيل : أراد المساكين
(2/46)

الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم والمساكين السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للإستحقاق وإن فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم
وفي الرقاب متعلق ب آتي أي آتي المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين أو فك الأسارى أو إبتياع الرقاب لعتقها الرقبة مجاز عن الشخص وإيراد كلمة في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر وأقام الصلاة عطف على صلة من والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في وآتى الزكاة بناءا على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله : في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك وأختلف هل بقى هذا الحق أم لا فذهب قوم إلى الثاني وأستدلوا بما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا نسخ الأضحى كل ذبح ورمضان كل صوم وغسل الجنباة كل غسل والزكاة كل صدقة وقال جماعة بالأول لقوله تعالى : وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ولقوله عليه الصلاة و السلام : لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه وللإجماع على أنه إذا إنتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو أمتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض وفي إسناده المسيب بن شريك وهو ليس بالقوى عندهم وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود ههنا بيان أبواب الخير دون الحصر وقدم بيان المصرف إهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى : قل ما أنفقتم من خير فللو الدين والأقربين وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء والموفون بعهدهم إذا عاهدوا عطف على من آمن ولم يقل وأوفي كما قبله إشارة إلى وجوب إستقرار الوفاء وقيل : رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات وقيل : إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق وحذف المعمول يؤذن بذلك والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة وقيل : للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل : به والصابرين في البأسآء والضرآء نصب على المدح بتقدير أخص أو أمدح وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا وأستحسنه الآجلة وجعلوه أبلغ من الإتباع وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي : ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالي
(2/47)

والبأساء البؤس والفقر والضراء السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقريء والصابرون كما قريء والموفين
وحين البأس
أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض وعدى الصبر على الأولين بقى لأنه لايعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له
وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى بحينفي الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات أولئك الذين صدقوا
في إيمانهم أو طلب البر
وأولئك هم المتقون 771
عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وإمتثال أوامره وأتى بخبر أولئك الأولى موصولا بفعل ماض إيذانا بتحقق إتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم وأستقر وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الإعتقاد وآخرها قوله : والنبيين وأفتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أولا غاية الإلتئام والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها وآتى المال وآخرها وفي الرقاب والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها وأقام الصلاة وآخرها وحين البأس ولعمري من عمل بهذه الآية فقد أستكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان ومن باب التأويل ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد وإحتجاب ولكن البر بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن وآتى العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن وأبناء السبيل السالكين إلى منازل الحق والسائلين الطالبين بلسان إستعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد وأقام صلاة الحضور وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة والصابرين في بأساء الإفتقار إلى الله تعالى دائما وضراء كسر النفس وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود وأولئك هم المتقون عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل يأأيها الذين آمنوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلاقي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد كتب عليكم أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما أعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين وأصل الكتابة الخط ثم كنى به عن الإلزام
(2/48)

وكلمة على صريحة في ذلك القصاص في القتلى أي بسببهم على حد إن أمرأة دخلت النار في هرة ربطتها وقيل : عدى القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ومنه سمى المقص مقصا لتعادل جانبيه والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس و القتلى جميع قتيل كجريح وجرحى وقريء كتب على البناء للفاعل و القصاص بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر وقيل : مأخوذ به روى أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم أن يتباوؤا فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس أما الأول فقد أخرج إبن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به وأخرج أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد وأما الثاني فقد روى أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم وأما الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالإتفاق فيقاس القتل عليه وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى : أن النفس بالنفس وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ومن الناس من قال : إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الحر بالحر بيان وتفسير لقوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى فدل على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة وإيجاب القصاص علىالحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى ومقتضى هذا أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ولا تقتل الأنثى إلا بالأنثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه وخالف الظاهر للقياس والإجماع ومن سلم هذا منا إدعى نسخ الآية بقوله تعالى : أن النفس بالنفس لأنه لعمومه نسخ إشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها وهو المروي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري
(2/49)

وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد وهو العمد ولما تعين بالعمد لايعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي وأعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما فمن عفي له من أخيه شيء أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به و من أخيه يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ والمراد بالأخ ولي الدم سماه أخا إستعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين وقيل : المراد به المقتول والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل و عفي تعدي إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال : عفوت عن زيد وعن ذنبه وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أو لا كما في الآية عدى إلى الجاني باللام لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الإهتمام بشأن الجاني وقدر بعضهم عن هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت أرتفع لوقوعه موقع الفاعل وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع ومن الناس من فسر عفي بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله وأعترض بأنه لم يثبتعفا الشيء بمعنى تركه وإنما الثابت أعفاه ورد بأنه ورد ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح إعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل والقول بأن شيء مرفوع بترك محذوفا يدل عليه عفي ليس بشيء لأنه بعد إعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان أي فليكن إتباعأو فالأمر إتباع والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان وإلى هذا ذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد وقيل : المراد فعلى المعفو له الإتباع والأداء والجملة خبر من على تقدير موصوليتها وجواب الشرط على تقدير شرطيتها وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص وأستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض وأعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير
(2/50)

الباقي مالا وإن لم يرض القاتل وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا أستعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال : إنها نزلت في العفو كما هو ظاهر اللفظ وبه قال أكثر المفسرين
ذلك أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية تخفيف من ربكم ورحمة لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل وفي شرعية الدية نفع لأولياء المقتول وعن مقاتل أنه كتب على اليهود القصاص وحده وعلى النصارى العفو مطلقا وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل وعلى هذا يكون فمن تصدق بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة وليس داخلا تحت الحكاية فمن أعتدى بعد ذلك أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هدا الحكم أو قتل القاتل بعد العفوو أخذ الدية فله عذاب أليم 871 أي نوع من العذاب مؤلم والمتبادر أنه في الآخرة والمروي عن الحسن وإبن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية لما أخرجه أبو داؤد من حديث سمرة مرفوعا لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية
ولكم في القصاص حياة عطف على قوله تعالى : كتب عليكم والمقصود منه توطين النفس على الإنقياد لحكم القصاص لكونه شاقا للنفس وهو كلام في غاية البلاغة وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى القتل أنفي القتل وفضل هذا الكلام عليه من وجوه الأول قلة الحروف فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا الثاني الإطراد إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفي للقتل فإن للقتل ظلما أدعى للقتل الثالث ما في تنوين حياة من النوعية أو التعظيم
الرابع صنعة الطباق بين القصاص والحياة فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها
الخامس النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته
السادس الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق فكان القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات السابع الخلو عن التكرار مع التقارب فإنه لا يخلو عن إستبشاع ولا يعد رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا الثامن عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم : حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام التاسع عدم الإحتياج إلى الحيثية وقولهم : يحتاج إليها
العاشر تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة علىالضرب والجرح والقتل وغير ذلك وقولهم : لا يشمله الحادي عشر خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا
الثاني عشر إشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشتمل على نفي أكتنفه قتلان وإنه لمما يليق بهم الثالث عشر خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لإنتفاء نفسهوهو محال إلى غير ذلك فسبحان من علت كلمته وبهرت آيته ثم المراد ب الحياة إما الدنيوية وهو الظاهرلأن في
(2/51)

شرع القصاص والعلم به يروع القاتل عن القتل فيكون سبب حياة نفسين في هذه النشأة ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة بينهم وتقوم حرب البسوس على ساق فإذا أقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سببا لحياتهم ويلزم على الأول الإضمار وعلى الثاني التخصيص وأما الحياة الأخروية بناءا على أن القاتل إذا أقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل حياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له أو حال من المستكن فيه وقرأ أبو الجوزاء في القصص وهو مصدر بمعنى المفعول والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه أو القرآن مطلقا وحينئذ يراد بالحياة حياة القلوب لا حياة الأجساد وجوز كون القصص مصدرا بمعنى القصاص فتبقى الحياة على حالها ياؤلي الألباب ياذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من إستبقاء الأرواح وحفظ النفوس وقيل : للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان لعلكم تتقون 971 ربكم بإجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من القصاص وهو المروي عن إبن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم والجملة متعلقة بأول الكلام
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا كما فصل اللاحق لذلك ولم يصدره ب ياأيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله والمراد منحضور الموتحضور أسبابه وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها
إن ترك خيرا اي مالا كما قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال : خيرا إلا إذا كان كثيرا كما لا يقال : فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير ويؤيده ما أخرجه البيهقي وجماعة عن عروة أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم فقال : ألا أوصى قال : لا إنما قال الله تعالى : إن ترك خيرا وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك وما أخرجه إبن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها : أريد أن أوصي قالت : كم مالك قال : ثلاثة آلاف قالت : كم عيالك قال : أربعة قالت : قال الله تعالى : إن ترك خيرا وهذا شيء يسير فأتركه لعيالك فهو افضل والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار بل تختلف بإختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغنى ولا يوصف به غيره لكثرة العيال وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها فقد أخرجح عبد بن حميد عنه من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا ومذهب الزهري أن الوصية مشروعة مما قل أو كثر فالخيرعنده المال مطلقا وهو أحد إطلاق اتهولعل إختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصي به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الوصية فيه
الوصية للوالدين والأقربين
مرفوع ب كتب وفي الرضى إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك
(2/52)

العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غير هو لهذا أختير هنا تذكير الفعلو الوصية أسم من أوصى يوصي وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية عهد إليه والأسم الوصاية و الوصية وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور أو بالمصدر بناءا على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله وهو الراجح ولذلك ذكر الراجح في بدله وجوز أن يكون النائب عليكم و الوصية خبر مبتدأ كأنه قيل : ما المكتوب فقيل هو الوصية وجواب الشرط محذوف دل عليه كتب عليكم وقيل : مبتدأ خبره للوالدين والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الأسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها والجملة الشرطية مرفوعة ب كتب أو عليكم وحده والجملة إستئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجتريء عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل والعامل في إذا معنى كتب والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع والمعنى توجه خطاب الله تعالى عليكم ومقتضى كتابته إذا حضر وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل وجوز أن يكون العامل الوصية وهي وإن كانت أسما إلا أنها مؤلة بالمصدر أو بأن والفعل والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم إنفكاكه عنه ولهدا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها وليس كل مؤل بشيء حكمه حكم ما أول به وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام والتقدير تكلف ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة علىمن حضره الموت لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن أحدكم يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إذا حضر أحدكم إذا حضر واحدا بعد واحد وإنما زيد لفظ أحد للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كتب عليكم القصاص في القتلى والقول بأن الوصية تفرض على من حضره الموت فقط بل عليه بأن يوصى وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل ولهذا قال : عليكم وقال أحدكم لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالإفتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الإحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية إذا حضر أحدكم الموت ولأن إرادة الإيصاء وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى وأختار بعض المحققين أن إذا شرطية وجواب كل من الشرطين محذوف والتقدير إذا حضر أحدكم الموت فليوص إن ترك خير افليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل : إذا حضر أحدكم الموت تاركا للخير فليوص ومجموع الشرطين معترض بين كتب وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ أحد أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الإعتراض بين الفعل وفاعله للإهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة إنتهى وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله إبن عباس وإبن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وإبن ماجه عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال : إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول : إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول أنتظمت في سلك المتواتر
(2/53)

في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض : إنها من المتواتر وأن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين
الأول
أنها نزلت بعد آية الوصية بالأتفاق وقد قال تعالى : من بعد وصية يوصى بها أو دين فرتب الميراث على وصية منكرة والوصيةال كانت معهودة فلو كانت تلك الوصية باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين
والثاني
أن النسخ نوعان أحدهما إبتداء بعد إنتهاء محض والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته وإليه الإشارة بقوله تعالى : بالمعروف أي بالعدل ثم لما كان الموصى قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصى لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولي بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال : يوصيكم الله في أولادكم أي الذي فوض إليكم تولى شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه إنتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك إنتهى حكم الوكالة وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن الفاء تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل : إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر ولعله أحترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عز و جل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه يوصيكم الله أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل : من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل : إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لإنتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد ثم إن القائلين بالنسخ أختلفوا فمنهم من قال : إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقى في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين وإليه ذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنه وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ومنهم من قال : إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون وأستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه حقا على المتقين 081 مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كتب وعامله إما كتب أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كتب عليكم وإن أعتبر إنشاء فيكون على طرزله على ألفعرفا وجعله صفة
(2/54)

لمصدر محذوف أي إيصاءا حقا ليس بشيء وعلى التقديرين على المتقين صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل والمراد بالمتقين المؤمنو ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى فمن بدله أي غير الإيصاء من شاهد ووصى وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبدل صفتها أو غير ذلك وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص فالموصي شيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بعد ما سمعه أي علمه وتحقق لديه وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله فإنما إثمه على الذين يبدلونه
أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل والأول رعاية لجانب اللفظ والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الأفراد إن الله سميع عليم 181
فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين وأستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاء هو إلى ذلك ذهب الكيا والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره كما يقوله الناس أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقى حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم في أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يارب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة نعم المؤاخذة معقولة فيمن أستدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم
فمن خاف من موص جنفا أو إثما الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد ومعنى خاف توقع وعلم ومنه قوله : إذا مت فأدفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند إنقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة أستعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فأستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان إستعماله فيه أظهر ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب من موصب التشديد والباقون بالتخفيف فأصلح بينهم أي بين الموصي لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصي له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء
(2/55)

وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصي له لم يقع بينهما شقاق فلآ إثم عليه في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق وأستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إن الله غفور رحيم 281 تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى وقيل : المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيآته والكل بعيد يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الإعتناء مع بعد العهد و الصيام كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام قال إبن دريد : كل شيء تمكث حركته فقد صام ومنه قول النابغة : خيل صيام وخيل غيرصائمة تحت العجاجوأخرى تعلك اللجما فصامت الريح ركدت وصامت الشمس إذا أستوت في منتصف النهار وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة كما كتب على الذين من قبلكم أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة و السلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول وعن إبن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما أتهم أهل الكتاب وعن الحسن والسدي والشعبي أنهم النصارى وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل الوجوبوعليه أبو مسلم والجبائي وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد إحتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل وأخرج إبن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه الله تعالى لتزيدن عشرا ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن سبعة ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما وفي كما خمسة أوجه أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أيكتب كتبا مثل ما كتب الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أيكتب عليكم الصيام الكتب مشبها بما كتب و ما على الوجهين مصدرية الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب و ما على الوجهين موصولة الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرفبألالجنسية
(2/56)

قريب من النكرة لعلكم تتقون 381 أي كي تحذروا المعاصي فأن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبدالله رضي الله تعالى عنه قال : قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يامعشر الشباب من أستطاع منكم الباءة فليتزوج فأنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن له وجاء ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله كتب من غير نظر إلى التشبيه وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي تتقوا الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك كما قيل بهوجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى
أياما معدودات أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل : كل معدودات في القرآن أو معدودة دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد والمراد بهذه الأيام إما رمضان وأختار ذلك إبن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين وهو أحد قولي الشافعي فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عزوجل : آياما معدودات فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل : شهر رمضان توطينا للنفس عليه وأعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا وأجيب بأنه كان في الإبتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض على ما روى عن عطاء ونسب إلى إبن عباس رضي الله تعالى عنه أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روى عن قتادة وأتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان وأستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة كما قيل به فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل وأجيب أما على إختيار الأول فبأن الإتصال في التلاوة لا يدل على الإتصال في النزول وأما على إختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر
وإنتصاب أياما ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضصمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية إتساعا وقيل : منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل : كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أياما معدودات أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها وقيل : نصب على أنه مفعول ثان لكتب على الإتساع ورده في البحر بأن الإتساع مبني على جواز وقوعه ظرف الكتب وإذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في يعلم ما في السموات والأرض وبأن معنى كتب فرض وفرضيه الصيام واقعة في الأيام فمن كان منكم مريضا مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وعليه أكثر الفقهاء وذهب إبن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرخص مطلق
(2/57)

المرض عملا بإطلاق اللفظ وحكى أنهم دخلوا على إبن سيرين في رمضان وهو يأكل فأعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية أو على سفر
أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن أشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا وأستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع فعدة من أيام أخر
أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه وأما الثاني فلأنه لما قيلمن كان مريضا أو مسافرا فعليه عدةأي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر وأستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شآء صاما وإن شآء أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا : الصوم أحب والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا : الفطر أحب ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية ونسب ذلك إلى إبن عباس وإبن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهموبه قال الإمامية وأطالوا بالإستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت وأستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداؤد وعلى أن من أفطر رمضان كله قضيأ ياما معدودة فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقص لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين وأحتج بها أيضا من قال : لا فدية مع القضاء وكذا من قال : إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفى أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه ولا يخفى ما فيه وقريء فعدة بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا وعلى الذين يطيقونه أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا فدية أي إعطاؤها
طعام مسكين
هي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فأشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية أخرج البخاري ومسلم وأبو داؤد والترمذي والنسائي والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال : لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدى فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقرأ سعيد بن المسيب : يطيقونه بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية ومجاهد وعكرمة يطيقونه بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي وقد جعلت الواو ياءا فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه وعائشة رضي الله تعالى عنها يطوقونه بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ورويت الثلاث
(2/58)

عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعنه يتطوقونه بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونهبإدغام التاء في الطاءوذهب إلى عدم النسخكما رواه البخاري وأبو داؤد وغيرهماوقال : إن الآية نزلت في النسخ الكبير الهرم والعجوز الكبيرة الهرمة ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم وهو مبني على أنالوسعأسم للقدرة على الشيء على وجه السهولةوالطاقةأسم للقدرة مع الشدة والمشقة فيصير المعنى وعلى الذين يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه وجاز أن تكونالهمزةللسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلككما في الكشفوالحق أن كلا من القرآءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ وعلى ما لا يحتمله ولكل ذهب بعضوروى عن حفصة أنها قرأت وعلى الذين لا يطيقونه وقرأ نافع وإبن عامر بإضافة فدية إلىالطعام وجمع المسكينوالإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسهكخاتم فضةلأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها وجمع المسكين لأنه جمع في وعلى الذين يطيقونه فقابل الجمع بالجمع ولم يجمع فدية لأنها مصدروالتاء فيها للتأنيث لا للمرةولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع
فمن تطوع خيرا بأن زاد على القدر المذكور فيالفديةقال مجاهد : أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعداقاله إبن عباسأؤ جمع بين الإطعام والصومقاله إبن شهاب فهو خير له أي التطوع أو الخير الذي تطوعه وجعل بعضهم الخير الأول مصدرخرت يارجل وأنت خائرأي حسن والخير الثاني أسم تفضيلفيفيد الحمل أيضا بلا مريةوإرجاع الضمير إلى من أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده وأن تصوموا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء أو المطوقون من الشيوخ والعجائز أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين والمرضى والمسافرين وفيه إلتفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة وقرأ أبي والصيام خير لكم من الفدية أو تطوع الخير على الأولين أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير إن كنتم تعلمون 481 ما في الصوم من الفضيلة وجواب إن محذوف ثقة بظهورهأي أخترتموهوقيل : معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم وعلى الأول تأسيسا
شهر رمضان مبتدأ خبره الموصول بعده ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله أو فمن شهد والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه أو المكتوب شهر رمضان أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب كتب لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا وإن أعتبرته بدل إشتمال أستغنيت عن التقدير إلا أن كون الحكم السابقوهو فرضية الصوممقصودا بالذات وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك وقريء شهر بالنصب على أنه مفعول ل صوموا محذوفا وقيل : إنه مفعول وأن تصوموا وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية
(2/59)

بالخبر وجوز أن يكون مفعول تعلمون بتقدير مضافأي شرف شهر رمضان ونحوهوقيل : لاحاجة إلى التقدير والمراد إن كنتم تعلمون نفس الشهر ولا تشكون فيه وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك وليس بشيء كما لا يخفىوالشهر المدة المعينة التي أبتداؤها رؤية الهلال ويجمع في القلة على أشهر وفي الكثرة على شهور وأصله من شهر الشيء أظهره وهولكونه ميقاتا للعبادات والمعامةتصار مشهورا بين الناس و رمضان مصدر رمضبكسر العينإذا أحترق وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلانبفتح الفاءوأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والإضطرابكالخفقان والعسلان واللمعانوقد جاء لغير المجيء والذهاب كما فيشنأته شنآنا إذا بغضتهفما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقلفإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازمفإن جاء شيء منه كان شاذا فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشيء عن قلة الإطلاع والخليل يقول : إنه من الرمضمسكن الميموهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم ولولا ذلك لم يحسن إضافة شهر إليه كما لا يحسنإنسان زيدوإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا أشتهر كون الخاص من أفراده ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني وفي البواق لا يضاف شهر إليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال : ولا تضف شهرا إلى اسم شهر إلا لما أولهالرافادر وأستثن منها رجبا فيمتنع لأنه فيما رووه ما سمع ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وإمتناعاللامووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل شهر رمضان وإبن داية من الصرف ودخولاللاموينصر في مثل شهر ربيع الأولوإبن عباسويجباللامفي مثلأمريء القيسلأنه وقع جزءا حال تحليته باللام ويجوز في مثل إبن عباس أما دخوله فللمح الأصل وأما عدمه فلتجرده في الأصل وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباسكذا قيلوفيه بحثأما أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك وتقبح أخرىكإنسان زيدوقبحها في شهر رمضان لايعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم وأما ثانيا فإن قولهم : لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرينولا أصل لهففي شرح التسهيل جواز إضافة شهر إلى جميع أسماء الشهور وهو قول أكثر النحويينفإدعاء الإطباق غير مطبق عليه ومنشأ غلط المتأخرين ما فيأدب الكاتبمن أنه أصطلاح الكتاب قال : لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين فهو أمر إصطلاحيلا وضعي لغويووجهه في رمضان موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموموحيث حذف أفادهوعليه يظهر الفرق بينإنسان زيدو شهر رمضان ولا يغم هلال ذلك وأما ثالثا فلأن قوله : ثم في الإضافة إلخ مما صرح النحاة بخلافه فإنإبن دايةسمع منعه وصرفه كقوله :
(2/60)

ولما رأيت النسر عزإبن داية وعشش في وكريه جاش له صدري قالوا : ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكانكطلحةمفردا وهو غير منصرف وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله أسم جنسوالمضاف كذلكوكل منهما بإنفراده ليس بعلم وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه : ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ وبالجملة المعول عليه أن رمضان وحده علم وهو علم جنس لما علمت ومنع بعضهم أن يقال : رمضان بدون شهر لما أخرجه إبن أبي حاتم وأبو الشيخ وإبن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا لا تقولوا : رمضان فإن رمضان أسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا : شهر رمضان وإلى ذلك ذهب مجاهدوالصحيح الجوازفقد روى ذلك في الصحيحوالإحتياط لا يخفىوإنما سمى الشهر به لأن الذنوب ترمض فيهقاله إبن عمروروى ذلك أنس وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة وكان أسمه قبل ناتقا ولعل ما روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين وإلا فهذا الأسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر الذي أنزل فيه القرآن أي إبتديء فيه إنزالهوكان ذلك ليلة القدرقاله إبن إسحاق وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وإبن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة وقيل : أنزل في شأنه القرآن وهو قوله تعالى : كتب عليكم الصيام وأخرج ألإمام أحمد والطبراني من حديث وائلة بن الأسقع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقرآن لأربع وعشرين ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الآلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية
هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير وآيات واضحات من جملة الكتب الآلهية الهادية إلى الحق والفارقة بين الحق والباطل بإشتمالها على المعارف الآلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منه فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا وقيل : مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم تحرير فمن شهد منكم الشهر فليصمه من شرطية أو موصولة والفاء إما جواب الشرط أو زائدة في الخبر و منكم في محل نصب على الحال من المستكن في شهد والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون و شهد من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما وقد قيل : بكل منهما هنا و الشهر على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهروألفيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل فييصمهعلى الإتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم ومفاد الآية على هذا عدم وجوب
(2/61)

الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد إنقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد إنقضائه وعليه يكون قوله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة و ما هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم الإحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في فمن شهد عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى : شهر رمضان من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم ومن كان مريضا أو على سفر فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل لكن ذكر المريض يقوى كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول بهفالفاءللسبب أو للتعقيب لا للتفصيل
يريد الله بهذا التخصيص بكم اليسر ولا يريد بكم العسر لغاية رأفته وسعة رحمته وأستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه : فعدة من أيام أخر من غير تخلف وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب وفيه إلتزام لمذهب الإعتزال من أن إرادته تعالى لإفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا وتفسير اليسر بما يسر بعيد وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون 581 علل لفعل محذوف دل عليه فمن شهد منكم الشهر إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى : فعدة من أيام أخر ومن الترخيص المستفاد من قوله عزوجل : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر أو من قوله تعالى فعدة إلخلتكملواإلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت ولتكبروا الله علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته ولعلكم تشكرون علة الترخيص والتيسير وتغيير الأسلوب للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة ألأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدي إليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال : من لم يبلغ درجة الكمال أنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه إختياره أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الإعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل
(2/62)

بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال والتفصيل يصح عطفه عليه وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الإعتناء وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير ولتكملوا العدةأوجب عليكم عدة أيام أخر ولتكبروا الله على ما هداكم علمكم كيفية القضاء ولعلكم تشكرون رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما بإعتبار أنفسها أو بإعتبار الإعلام بها فقوله : ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق بإعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أيويريد بكم لتكملواإلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل : بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك وقيل : إنها بمعنى أن كما في الرضى إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن يكون ولعلكم تشكرون عطفا على يريد إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد ولإستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل : رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدى بعلي وإعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا وأخرج إبن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال وأخرج إبن جرير عنه أنه قال : حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرعوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة و ما يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية وقرأ أبو بكر عن عاصم ولتكملوا بالتشديد وإذا سألك عبادي في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة و السلام ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل عني أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى فإني قريب أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو إستعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم وإطلاعه على سائر أحوالهم وأخرج سفيان بن عيينة وعبدالله بن أحمد عن أبي قال : قال المسلمون يارسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله الآية أجيب دعوة الداع إذا دعان دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الإتصال وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة إذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ولا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى : لبيك ياعبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا
(2/63)

إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم أو الداعي بالمطيع المخبت نعم كونه كذلك ازجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة والكيفية المشهورة ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى فليستجيبوا لي أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم وأستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجوب بمعنى القطع وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه وليؤمنوا بي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان لعلهم يرشدون 681 أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم وأصل الباب إصابة الخير وقريء بفتح الشين وكسرها ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان وتقريرا لهم على الإستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة والتزلزل فالجملة على التقديرين إعتراضية بين كلامبن متصلين معنى أحدهما ما تقدم والثاني قوله سبحانه وتعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد أمرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت : إني قد نمت فقال : ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت وفي رواية إبن جرير عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يارسول الله إني إعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة قال : لم تكن حقيقا بذلك ياعمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال : أحل لكم إلخوليلة الصيامالليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة والمراد بها الجنس وناصبهاالرفثالم أو المحذوف الدال هو عليه بناءا على أن المصدر لا يعمل متقدما وجوز أن يكون ظرفالأحللأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان و الرفث من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح وما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم : وهن يمشين بنا هميسا إن صدق الطير ننك لميسا فقيل له : أرفثت فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا والأصل فيه أن يتعدىبالباءوعدى بالي لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو
(2/64)

الجماع فقصرت المسافة وإيثاره ههنا على ما كنى به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها إستقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة ولذا سماه إختيانا فيما بعد والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع أمرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للإختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن أختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك وقرأ عبداللهالرفوث هن لباس لكم وأنتم لباس لهن أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله إبن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك قول الذبياني : إذا ما الضجيع ثنى عطفه تثنت عليه فكانت لباسا ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور وقد جاء في الخبر من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه والجملتان مستأنفتان إستئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى وصعوبة إجتنابهن كما تفيده الثانيةولظهور إحتياج الرجل إليهن وقلة صبره قدم الأولى وفي الخبر لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم جملة معترضة بين قوله تعالى : أحل إلخ وبين ما يتعلق به أعنى فالآن إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال ومعنى علم تعلق علمه والإختيانتحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك والمراد الإستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبيء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض فتاب عليكم عطف على علم والفاء لمجرد التعقيب والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي أرتكبتموه وعفا عنكم أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه وقيل : الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فالآن مرتب على قوله سبحانه وتعالى أحل لكم نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى : باشروهن وقيل : إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو إنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة واطلقت على الجماع للزومها لها
وأبتغوا ما كتب الله لكم أي طلبوا ما قدره الله تعالى لكم في اللوح من الولد وهو المروي عن إبن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا : اللهم أرزقنا ما كتبت لنا وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد وقيل : المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى : والسماء وما بناها وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسللا قضاء الشهوة فقطلأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى
(2/65)

غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل أو عن إتيان المحاش وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع منصب الماء في محله أي طلب ذلك دون العزل والإتيان المذكورينوالمشهور حرمتهماأما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على إختلاف بين الإمام وصاحبيه ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى وروى عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر وحكى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد إبتغوا الرخصة التي كتب الله تعالى لكم فإن الله تعالى يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها وعن عطاء أنه سئل إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية إبتغوا أو أتبعوا فقال : أيهما شئت وعليك بالقراءة الأولى وكلوا وأشربوا الليل كله حتى يتبين أي يظهر لكم الخيط الأبيض وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل إنتشاره وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم من الخيط الأسود وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل من الفجر بيان لأول الخيطينومنه يتبين الثانيوخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل : بيان لهما بناءا على أن الفجر عبارة عن مجموعهما لقول الطائي :
وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه
فهو على وزان قولك : حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم وبهذا البيان خرج الخيطان عن الإستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية وإدعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المرادمثل هذا الخيط وهذا الخيط إذ هما لا يحتاجان إليه وجوز أن تكون من تبعيضية لأن ما يبدو جزء من الفجر كما أنه فجر بناء على أنه أسم للقدر المشترك بين الكل والجزء و من الأولى قيل : لإبتداء للغاية وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد وعلامتها أن يحسن في مقابلتها إلى أو ما يفيد مفادهاوما هنا ليس كذلكفالظاهر أنها متعلقة ب يتبين بتضمين معنى التميز والمعنى حتى يتضح لكم الفجر متميزا عن غبش الليل فالغاية إباحة ما تقدم حتى يتبين أحدهما من الآخر ويميز بينهما ومن هذا وجه عدم الإكتفاء ب حتى يتبين لكم الفجر أو يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال : أنزلت وكلوا وأشربوا إلخ ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد من الفجر فعلموا إنما يعني الليل والنهار فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما إلا أنه صرح بالبيان لما ألتبس على بعضهم ويؤيد ذلك أنه وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح بالبلادة ولو كان الأمر موقوفا على البيان لأستوى فيه الذكي والبليد فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري ومسلم وأبو داؤد والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال : لما أنزلت هذه الآية
(2/66)

وكلوا وأشربوا إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله فأخبرته بالذي صنتعت فقال : إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل وفي رواية إنك لعريض القفا وقيل : إن نزول الآية كان قبل دخول رمضانوهي مبهمةوالبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضرولا يخفى ما فيهوقال ابو حيان : إن هذا من باب النسخ ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هده الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناءا على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنةوليس في القرآن ما يدل عليها و أحل أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه وأستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح وليس بلازم للجماع كالجنابة وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها وأحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها
وأستذل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيا بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت إذن له فيه وعن سعيد بن منصور مثلهوليس بالمنصوروالأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر وكذا الإمامية وحمل من الفجر على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لايمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال : كلوا وأشربوا إلى النهار ثم أتموا الصيام إلى الليل مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا وما ذكر من إستحسان تساوي طرفي الشيء مع كونهمما لا يسمن ولا يغني من جوعفي هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان ممايدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الإنتهاء غاية الإتمام ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم إمتداده وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة وقد أستنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل فقد روى أحمد منطريق ليلى أمرأة بشير بن الخصاصية قالت : أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه وقال : يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى و أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخل الإفطار خلافا لزاعمه
(2/67)

نعم أستدل بها على صحة نية رمضان في النهار وتقرير ذلك أن قوله تعالى : ثم أتموا إلخ معطوف على قوله : باشروهن إلى قوله سبحانه : حتى يتبين وكلمة ثم التراخي والتعقيب بمهلةواللامفي الصيام للعهد على ما هو الأصل فيكون مفاد ثم أتموا إلخ الأمربإتمام الصيامالمعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى ثم فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب وتوجهه بالإتمامبعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل لمعنى التراخي والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به إنقطع الليل وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية فإن قبل : لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع وبأن إعمال الدليلين ولو بوجهأولى من إهمال أحدهما فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل بخبر لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل ولو قلنا بإشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية فقلنا بالجواز عملا بهما فإن قيل : مقتضى الآيةعلى ما ذكرالوجوب وخبر الواحد لا يعارضها أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعةفيجوز أن يكون الخبر بيانا لهاولبعض الأصحاب تقرير الإستدلال بوجه آخر ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر
وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت لأن معنى ثم أتموا صيروه تاما بعد الإنفجار وهو يقتضي الشروع فيه قبلهوما ذاك إلا بالنيةإذ لا وجوب للإمساك قبل ولا يخفى ما فيه ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد أي معكتفون فيهاوالإعتكاففي اللغة الإحتباس واللزوم مطلقا ومنه قوله : فباتت بنات الليل حوليعكفا عكوفبواكي حولهن صريع وفي الشرع لبث مخصوص والنهي عطف على أول الأوامروالمباشرة فيه كالمباشرة فيهوقد تقدم أن المراد بها الجماع إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنهلا يستلزم النهي عن الجماعالنهي عنهما فهما إما مباحان إتفاقا بأن يكونا بغير شهوة وإما حرامان بأن يكونا بها يبطل الإعتكاف ما لم ينزل وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلانوقيل : المراد منالمباشرة ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن مطلق المباشرةوليس بشيءفقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف وفي تقييدالإعتكاف بالمساجددليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيتوهو باطل بالإجماعويختص بالمسجد الجامع عند الزهري وروى عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن رابت وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه : يختص بالمساجد الثلاث وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام وعن إبن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناءا على عموم اللفظ وعدم إعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل وأستدل بالآية على صحة إعتكاف المرأة في غير المسجد بناءا على أنها لا تدخل في خطاب الرجال وعلى إشتراط الصوم في الإعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى وهو المروى عن نافع مولى إبن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهم وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يومكما أن الصوم لا يكون كذلكوالشافعي رضي الله
(2/68)

تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما لما أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ومثله عن إبن مسعود وعن على كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما إبن أبي شيبة منطريقين إحداهما الإشتراط وثانيتهما عدمه وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه وأجيب بأن المعنى لا تباشروهن حال ما يقال لكم : إنكم عاكفون في المساجد ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فإعتكافه باق ويؤيده ما روى عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى أمرأته فيباشرها ثم يرجعفنهوا عن ذلكوأستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الإعتكاف لأن النهي للتحريم وهو في العبادات يوجب الفساد وفيه أن المنهي عنه هناالمباشرة حال الإعتكافوهو ليس من العبادات لا يقال : إذا وقع أمر منهي عنه في العبادةكالجماع في الإعتكافكانت تلك العبادة منهية بإعتبار إشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال : فرق بين كون الشيء منهيا عنه بإعتبار ما يقارنه وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الاول وما نحن فيه من قبيل الثاني تلك أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حدود الله أي حاجزة بين الحق والباطل فلا تقربوها كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب منتلك الحدودالتي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من لا تعتدوها لأنه نهى عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي ابلغ من الصريح وذلك نهى عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح وعلى هذا لا يشكل لا تقربوها في تلك الأحكام مع إشتمالها على ما سمعت ولا وقوع فلا تعتدوها وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح لا تقربوها في الكل وقيل : يجوز أن يراد ب حدود الله تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه : ولا تباشروهن وأمثاله وقال أبو مسلم : معنى لا تقربوها لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم فيشمل جميع الأحكامولا يخفى ما في الوجهين من التكليفوالقولبأن تلك إشارة إلى الأحكاموالحدإما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء فلا تقربوها أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيءفإن الحكم لله تعالى عز شأنهوعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية فالإله يحكم والعباد تنقاد فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالىلا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفي
كذلك أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم يبين الله آياته إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها للناس لعلهم يتقون 781 مخالفة أوامره ونواهيه والجملة إعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى إمتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه وإعتكافه فقال : ولا تأكلو أموالكم بينكم بالباطل والمراد منالأكلما يعم الأخذ والإستيلاء وعبر به
(2/69)

لأنه أهم الحوائج وبه يحصل إتلاف المال غالبا والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض فهو على حد ولا تلمزوا أنفسكم وليس من تقسيم الجمع على الجمع كما فيركبوا دوابهمحتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه بدليل قوله سبحانه : بينكم فإنه بمعنى الواسطة يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين يكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما وذلك ظاهر على المعنى المذكور والظرف متعلق ب تأكلوا كالجار والمجرور بعده أو بمحذوف حال من الأموال والباء للسببية والمراد من الباطل الحرام كالسرقة والنصب وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع
وتدلوا بها إلى الحكام عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه وإلادلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم أستعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء والباء صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور للأموال أي لا تتوصلوا أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى الحكام وقيل : لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة وقرأ أبي ولا تدلوا لتأكلوا بالتحاكم والرفع إليهم فريقا قطعة وجملة
(2/70)

من أموال الناس بالإثم
أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة ويحتمل أن تكون الباء للمصاحبة أي متلبسينبالإثموالجار والمجرور على الأول متعلق بتأكلوا وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك
(2/0)

وأنتم تعلمون 881
ومفعول العلم محذوف أيتعلمونأنكم مبطلون وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه أخرج إبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي وأمرؤ القيس بن عابس أختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف أمرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا فأرتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت
وأستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويويده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار
وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما وإن كان الشهود زورا كما روى أن رجلا خطب أمرأة هو دونها فأبت فأدعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه : قد زوجك الشاهدان وذهب فيمن أدعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وإن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك والآية ليست نصا في مدعي مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول : ولها تفصيل في أدب القاضي فأرجع إليه
(2/0)

يسئلونك عن الأهلة أخرج إبن عساكر بسند ضعيفأن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم قالا : يارسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد فنزلت وفي رواية أن معاذا قال : يارسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناءا على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم و الأهلة جمع هلال وإشتقاقه من أستهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية وسمى به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيقوإليه ذهب الأصمعيأو حتى يبهر ضوءه سواد الليل وغيا ذلك بعضهم بسبع ليالوسمى بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكرهأو بالتكبير ولهذا يقال أهل الهلاك وأستهل ولا يقال هل والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب إختلافها وأن يقدر ما حكمته وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن إختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع إختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسئول حينئذ حقيقة أمر الهلاك وشأنه حال إختلاف تشكلاته النورية ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى : قل هي مواقيت للناس والحج مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانهوهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج فإن الوقت مراعي فيه أداءا وقضاءا ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به ولم يذكر صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون إختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لإختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله واختاره السكاكي وجماعةفيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الأرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة والمرتاضين في رواق الفتوة والفائزين بإشراق الأنوار والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الإختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فسنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ومما ينادي على أن ماذهبوا إليه مجرد تخيل
(2/71)

لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمر أن المتأخرين مما أنتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة وقالوا : بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث أتفقت الأحكام مع إختلاف المبنيين وتضاد المشائين ورد أحد الزعمين بالآخر أرتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة والإعتماد على ما قاله الشارع الأعظم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى و المواقيت جمع ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمانعلى ما يفهم من كلام الراغبأن المدة المطلقة إمتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات والوقت الزمان المقدر والمعين وقريء بإدغام نون عن في الأهلة بعد النقل والحذف وأستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج وإنما أحتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام وذكر شهر رمضان وبحث الأهلة يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلالوكذا الإفطار ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هذا ومن باب الإشارة في الآيات أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة فمنها القصاص الذي لإزالة عدوان القوة السبعية وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا وعن عبد قلبه قلبا وعن أنثى نفسه نفسا فإنه كما كتب القصاص في قتلاكمكتب على نفسه الرحمة في قتلاهففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول : من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة الله تعالى إياكم بماذكر حياة عظيمة لا موت بعدها ياأولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق ومنها الصيام وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي ايام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فأجعلها كلها أيام صومك وأجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى وشهر رمضان هو وقت إحتراق النفس وإضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة بإعتبار الجمع ودلائل مفصلة من الجمع والفرقفمن حضر منكم ذلك الوقت
(2/72)

وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له وبه وفيه ومنه وإليه ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه يريد الله بكم اليسر والوصول إلى مقام التوحيد والإقتدار بقدرته ولا يريد بكم العسر وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة ولتكملوا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هداتيه لكم إلى مقام الجمع ولعلكم تشكرون بالإستقامة وإذا سألك عبادي المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فإني قريب منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا إفتراق أجيب من يدعوني بلسان الحال والإستعداد بإعطائه ما أقتضى حاله وإستعداده فليستجيبوا لي بتصفية إستعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين
ولما كان للإنسان تلونات بحسب إختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم وتنقضونها حظوظها الباقية بإستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن اي وقت الإستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء باشروهن بقدر الحاجة الضرورية وأبتغوا بقوة هذه المباشرة ما كتب الله لكم من التقوى والتمكن على توفير حقوق الإستقامة والوصول إلى المقامات العقلية وكلوا وأشربوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش وإليه الإشارة بخبر لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولي وقت مع حفصة وزينب ولا تقاربوهن حال إعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب ولا تأكلوا أموال معارفكم بينكم بباطل شهوات النفس وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لتأكلوا الطائفة من أموال القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وأنتم تعلمون أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يسألونك عن الأهلة وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها قل هي مواقيت للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب والوقوف في عرفة العرفان والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة وقيل : الأهلة للزاهدين مواقيت أورادهم وللصديقين مواقيت مراقباتهم والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم وأفاض علينا من بركاتهم وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها أخرج إبن جرير والبخاري عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله وليس البر الآية وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية إبن جرير
(2/73)

عنهويعدون فعلهم ذلك برافبين لهم أنه ليس ببر ولكن البر من أتقى أيبر من أتقىالمحارم والشهوات أو لكن ذا البر أو البار من أتقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقولقلفلا بد من الجامع بينهما فاما أن يقال : إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما أتفق فجمع بينهما في الجواب بناءا على الإجتماع الإتفاقي في السؤال والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا وإكتفاءا بدلالة الجواب عليه وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه أو يقال : إن السؤال واقع عن الأهلة فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للإستطراد حيث ذكرمواقيت الحجوالمذكور ايضا من أفعالهم فيه إلا الخمس أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الإستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال فالمعنى وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من أتقى ذلك ولم يجبر على مثله وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه : يسألونك والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات
وأتوا البيوت من أبوابها إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها والجملة عطف على وليس البر إما لأنه في تأويلولا تأتوا البيوت من ظهورهاأو لكونه مقول القول وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول وقرأ إبن كثير وكثير بكسر باء البيوت حيثما وقع وأتقوا الله في تغيير أحكامهكإتيان البيوت من أبوابهاوالسؤال عما لا يعني ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء أو في جميع أموركم
لعلكم تفلحون 981 أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر فإن من أتقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وأنكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وقاتلوا في سبيل الله أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمتهفالسبيلبمعنى مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للإستعارة الذين يقاتلونكم أي يناجزونكم القتال من الكفار وكان هذاعلى ما روى عن أبي العاليةقبل أن أمروا بقتال المشركين كافةالمناجزين والمحاجزينفيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه أي لا تقاتلوا المحاجزينوكذا المنطوق في النهي الآتي فإنه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتاهم أيضا وقيل : معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل : المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا ويؤيد الأول ما أخرجه أبو صالح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي
(2/74)

لهم قريش بذلك وأن يصدرهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية وجعل ما يفهم من الأثروجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعضبعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم ولا تعتدوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد أعتديتم رواه إبن أبي حاتم عن إبن عباسأو لا تعتدوابوجه من الوجوه كإبتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إن الله لا يحب المعتدين 091 اي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما
وأقتلوهم حيث ثقفتموهم
أي وجدتموهم كما قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع إبن الأزرق وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه : فأما يثقفن بني لوي جذيمة أن قتلهم دواء وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك والفعل منه ثقف ككرم وفرح وأخرجوهم من حيث أخرجوكم اي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه والمراد أفعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فأندفع ما قيل : إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى والفتنة أشد من القتل أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه إرتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها ومن هنا قيل : لقتل بحد سيف أهون موقعا على النفس من قتل بحد فراق والجملة على الأول من باب التكمل والإحتراس لقوله تعالى : وأقتلوهم إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه : وأخرجوهم إلخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه وأصل الفتنةعرض الذهب على النار لإستخلاصه من الغش ثم أستعمل في الإبتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه نهى للمؤمنين أن يبدؤا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدؤن فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل إثنين بإعتبار نهيهم عن الإبتداء بها الذي يكون سببا لحصولها وكذا كونها غاية بإعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون للشيء غاية لنفسه
فإن قاتلوكم فأقتلوهم نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذي هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث
(2/75)

أمرتم بقتلهم وقرأ حمزة والكسائيولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فأقتلوهم وأعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له : أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره فقال حمزة إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا : قتلنا وإذا ضرب منهم الرجل قالوا : ضربنا وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر بسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير ولذا أكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول وكذا قوله سبحانه : ولا تقتلوهم جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم
ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه فيلا تقاتلوهملأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين وقد خفى على بعض الناظرين فتدبر كذلك جزآء الكافرين 191 تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا و الكافرين إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر وأختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم فإن إنتهوا عن الكفر بالتوبة منه كما روى عن مجاهد وغيره أو عنه وعن القتال كما قيل : لقرينة ذكر الأمرين فإن الله غفور رحيم 291 فيغفر لهم ما قد سلف وأستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة عطف على قاتلوا الذين يقاتلونكم والأول مسوق لوجوب أصل القتال وهذا لبيان غايته والمراد من الفتنة الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تقاتلونهم أو يسلمون ويكون الدين لله أي خالصا له كما يشعر به اللام ولم يجيء هنا كلمةكلهكما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا فإن إنتهوا تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشركوالفاءللتعقيب فلا عدوان إلا على الظالمين 391 علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه والتقدير فإن إنتهوا وأسلموافلا تعتدواعليهم لأن العدوان على الظالمين والمنتهون ليسوا بظالمين والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن العدوان واقع على غير الظالمين والمراد من العدوان العقوبة بالقتل ومسى القتل عدوانا من حيث كان عقوبةللعدوانوهو الظلم كما في قوله تعالى : فمن أعتدى عليكم فأعتدوا عليه وجزاء سيئة سيئة مثلها وحسن ذلك لأزدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمى جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل : لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل فلا عدوان إلا على الظالمين بمعنىفلا عدوان على غير الظالمينالمكنى به عن المنتهين أو جعل إختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون وأعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء
(2/76)

ومعنى الظالمين المتجاوزين عن حد حكم القتال كأنه قيل : فإن إنتهوا عن الشرك فلا عدوان إلا على المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين ويؤل المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكموفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفىوذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء وجعل المذكور علة له على معنى فإن إنتهوا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدوا عليكم لأنالعدوانلا يكون إلا على الظالمين أو فإن إنتهوا يسلط عليكم من يعدوا عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر
الشهر الحرام بالشهر الحرام قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة فأتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته فقيل : هذا الشهر الحرام بذلك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به والحرمات قصاص أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قصاص أو مقاصة وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق كأنه قيل : لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة وهتك حرمة هذا الشهر إبتداءا بالغلبة فإن الحرمات يجري فيهاالقصاصفالصد قصاصه العنوة فإن قاتلوكم فأقتلوهم فمن أعتدى عليكم فأعتدوا عليه بمثل ما أعتدى عليكم فذلكة لما تقدمه وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا وفيه تأكيد لقوله تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفابالفاءوالأمر للإباحةإذ العفو جائزو من تحتمل الشرطية والموصولية وعلى الثاني تكونالفاءصلة في الخبروالباءتحتم الزيادة وعدمها وأستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح : وأستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة كما في ذوات الأمثالوقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وأتقوا الله في الإنتصار لأنفسكم وترك الإعتداء بما لم يرخص لكم فيه وأعلموا أن الله مع المتقين 491 بالنصر والعون وأنفقوا في سبيل الله عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الغزو والإنفاق فيه فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحدعن أبي عمرانقال : كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم فقال الناس : ألقى بيديه إلى التهلكة فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله تعالى قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وأنفقوا إلخ فكانت التهلكة إلاقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو وقال الجبائي : التهلكة الإسراف في الإنفاق فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط
(2/77)

بين الإفراط والتفريط فيه وروى البيهقي في الشعبعن الحسنأنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق وأختار البلخي أنها إقتحام الحرب من غير مبالاة وإيقاع النفس في الخطر والهلاك فيكون الكلام متعلقا ب قاتلوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة وأخرج سفيان بن عيينة وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل قال : لا ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقى بيديه فيقول : لا يغفر الله تعالى لي أبداوروى مثله عن عبيدة السلمانيوعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه : فإن الله غفور رحيم وهو في غاية البعد ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكموتصحيحه لايوثق بهوظاهر اللفظ العموموإلا لقاءتصير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه ومنه قول لبيد في الشمس : حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها وعدىبإليلتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاءوالباءمزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي لأن ألقييتعدى بنفسه كما في فألقي موسى عصاه وزيادتها في المفعول لا تنقاس والمرادبالايديالأنفس مجازا وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها وقيل : تحتمل أن تكون زائدةوالأيديبمعناها والمعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم قابضة إياها وأن تكون غير مزيدةوالأيديأيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة وفائدة ذكرالأيديحينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والإختيار و التهلكة مصدر كالهك والهلاك وليس في كلام العرب مصدر على تفعلةبضم العينإلا هذا في المشهور وحكى سيبويه عن العربتضرة وتسرةأيضا بمعنى الضرر والسرور وجوز أن يكون أصلهاتهلكة بكسر اللاممصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت الكسرة ضمةوفيه أن مجيء تفعلةبالكسرمن فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ والقياس تفعيل وإبدال الكسرة بالضم من غير علةفي غاية الشذوذ وتمثيله بالجوارمضموم الجيمفي جوار مكسورها ليس بشيءإذ ليس ذلك نصا في الإبدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعالمضموم الفاء شذوذايويده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجواراوالكسر أفصح وفرق بعضهم بين التهلكة والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه والثاني ما لا يمكن وقيل : الهلاك مصدر و التهلكة نفس الشيء المهلك وكلا القولين خلاف المشهور وأستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وأحسنوا أي بالعود على المحتاجقاله عكرمةوقيل : أحسنوا الظن بالله تعالى وأحسنوا في أعمالكم بإمتثال الطاعات ولعله أولى
إن الله يحب المحسنين 591 ويثيبهم وأتموا الحج والعمرة لله أي أجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية لاضي الله تعالى عنهم فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء ولا تدل على وجوب الأصل والقول بالدلالة بناءا على أن الأمربالإتماممطلقا يستلزم الأمر
(2/78)

بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجبليس بشيءلأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وإدعاء أن المعنى أئتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه ويؤيده قراءة وأقيموا الحج والعمرة ليس بسديد أما أولا فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيدأعني تامينلا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : بيعوا سواء بسواء وأما ثانيا فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوبأعنى طلب الفعلوالقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على إستحباب العمرة فقد أخرج الشافعي في الأم وعبدالرزاق وإبن أبي شيبة وعبد بن حميد وإبن ماجه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : الحج جهاد والعمرة تطوع وأخرج الترمذي وصححهعن جابرأن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي قال : لا وأن تعتمروا خير لكم ويويد ذلك أن إبن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه إبن أبي شيبة وعبد بن حميد : الحج فريضة والعمرة تطوع وأخرج إبن أبي داؤد في المصاحفعنه أيضاأنه كان يقرأ ذلك ثم يقول : والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت : إن العمرة واجبة مثل الحج وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيهولعله سمع ما يخالفهولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج وإستحباب العمرة وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناءا على إمتناع إستعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب نعم لا يعد ما ذكر صارفا إلا إذا ثبت كونه قبل الآية أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان على ما وهموالقولبأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لهاسهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الإستحباب والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض
ثم إن هذا الذي ذكرناهوإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا وأدعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على إستحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت وأخرج أبو داؤد والنسائي أن رجلا قال لعمر : إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي أهللت بهما جميعا فقال : هديت لسنة نبيك فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الإستدلال بما حكاه الصحابي من سننه عليه الصلاة و السلام يكون إستدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي والقول بأنأهللت بهماجملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب إبتداءا ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل : فما فعلت فقال : أهللت فيدل على ان الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لإني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع
(2/79)

في الشيء موجبا لإتمامه لا يقال فيه أنه طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات فأهللتبالفاء الدالة على الترتب وما ذكر عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روى عنه من القول بالوجوب وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ : وأقيموا أيضا كما رواه عنه إبن جرير وغيره وكذا إبن عباس وإبن عمر رضي الله تعالى عنهم إنتهى والإنصاف تسليم تعارض الأخابر وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع والإختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من إستطاع إليه سبيلا ومن أدعى من المخالفين أنه دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقي السمع وهو شهيد وأخرج إبن جرير وإبن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه إتمام الحج والعسرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله وأخرج عبدالرزاق وإبن أبي حاتم عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج وقيل : إتمامهما أن تكون النفقة حلالا وقيل : أن تحدث لكل منهما سفرا وقيل : أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها وقريء إلى البيت وللبيت والأول مروى عن إبن مسعود والثاني عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن أحصرتم مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو والإحصار بما يكون من المرض والخوفكما توهم الزجاجمن كثرة إستعمالهما كذلك فإنه قد يشيع إستعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده والدليل على ذلك أنه يقال : حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل والمراد من الإحصار هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى : فإذا أمنتم فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول إبن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما فقد أخرج أبو داؤد والترمذي وحسنه والنسائي وإبن ماجه والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل وروى الطحاوي من حديث عبدالرحمن بن زيد قال : أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم إبن مسعود فسألوه فقال : أبعثوا بالهدى وأجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل وأخرج إبن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس وروى البخاري مثله عنه وقال عروة : كل شيء حبس المحرم فهو إحصار وما أستدل به الخصم مجاب عنه أما الأول فستعلم ما فيه وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام إستقلالا والقول بأن أحصرتمليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالإتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول إبن عباس
(2/80)

رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه إبن جرير وإبن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ماأستيسر من الهدي فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقولبأن حديث الحجاج ضعيفضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داؤد أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا : صدق وحمله على ما إذا أشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله لضباعة : حجي وأشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلأ إذا أتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى
فما أستيسر من الهدي أي فعليكم أو فالواجب أو فأهدوا ما أستيسر أي تيسر فهو كصعب وأستصعب وليست السين للطلب و الهدي مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على الفرد والجمع أو جمع هدية كجدي وجديةوقريء هدي بالتشديد جمع هديةكمطي ومطيةوهو في موضع الحال من الضمير المستكن والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة قال إبن عباس رضي الله تعالى عنه : وما عظم فهو أفضل وعن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدى ببقرة أو جزور فقيل له : أو ما يكفيه شاة فقال : لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى : ثم محلها إلى البيت العتيق هديا بالغ الكعبة وما روى من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم والحنفية يقولون : إن محصر رسول الله كان في طريق الحديبية أسفل مكة والحديبية متصلة بالحرم والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم وكون الرواية عنه ليس بثبت في حيز المنع وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق وأستدل بإقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناءا على عطف ولا تحلقوا على قوله سبحانه : وأتموا لا على فما أستيسر يقتضي بتر النظم لأن فإذا أمنتم عطف على فإن أحصرتم كما لا يخفى والمحلبالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية وللزمانكما يقالمحل الدين لوقت حلوله وسنقضاء أجله
فمن كان منكم مريضا يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه ولا تحلقوا متفرع عليه
(2/81)

أو به أذى من رأسه من جراحة وقمل وصداع
(2/82)

ففدية
أي فعليه فدية إن حلق
من صيام أو صدقة أو نسك
بيان لجنس الفدية وأما قدرها فقد أخرج في المصابيح عن كعب إبن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال : أيوذيك هوامك قال : نعم قال : فأحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين والفرق ثلاثة آصعأو صم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وإبن ماجه والترمذي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة فقال : لا قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام وأحلق رأسك وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله إبن الفرس وهو مذهب الإمام مالك
فإذا أمنتم
من الأمن ضد الخوف أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار ويفهم منه حكم من كان آمنا إبتداءا بطريق الدلالةوالفاءللعطف على أحصرتم مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود ويقال للمريض إذا زال مرضه وبريء : آمن كما روى ذلك عن إبن مسعود وإبن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف إستدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه
فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الفاء واقعة في جوابإذا والباء وإلىصلة التمتع والمعنى فمن أستمتع وأنتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الإنتفاع بالحج في أشهره وقيل : الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه والمعنى ومن أستمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها بإستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي والثاني هو الإنتفاع مطلقا والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فما أستيسر من الهدي الفاء واقعة في جواب من أي فعليه دم أستيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خلالا فيه فجبر بهذا الدم ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه ويذبحه إذا أحرم بالحج ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر فمن لم يجد أي الهدي وهو عطف على فإذا أمنتم
فصيام ثلاثة أيام في الحج أي فعليه صيام وقريء فصيام بالنصب أي فليصم وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له فقال أبو حنيفة : المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر
(2/0)

عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل وقال الشافعي : المراد وقت أداء الحج وهو أيام الإشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لإحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة إحتجاجا بما أخرجه إبن جرير والدارقطني والبيهقي عن إبن عمر قال : رخص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى وفاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها وأخرج مالك عن الزهري قال : بعث رسول الله عبدالله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال : إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يضمن إلا لمتمتع لم يجد هديا وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا : إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والإبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة
وسبعة إذا رجعتم أي فرغتم ونفرتم من أعماله فذكر الرجوع وأريد سببه أو المعنى إذا رجعتم من منى وقال الشافعي رضي الله تعالى عنهعلى ما هو الأصح عند معظم أصحابه : إذا رجعتم إلى أهليكم ويؤيده ما أخرجه البخاري عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه إذا رجعتم إلى أمصاركم وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيهعند بعضوالفراغ بالوصول إليهمعند آخرينوفي الكلام إلتفات وحمل على معنى بعد الحمل على لفظه في إفراده وغيبته وقريء سبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام لأنه مفعول إتساعا ومن لم يجوزه قدروصومواوعل أبو حيان
تلك عشرة كاملة الإشارة إلىالثلاثة والسبعةومميز العدد محذوف أي أيام وإثباتالتاءفي العدد مع حذف المميز أحسن الإستعمالين وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أنالواوبمعنى أو التخييرية وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر كذلك وإن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن وأن يعلم العدد جملةكما علم تفصيلافيحاط به من وجهين فيتأكد العلم ومن أمثالهمعلمان خير من علملا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع لا أهل الأرتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الإفهام والإيذان بأن المرادبالسبعةالعدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين فإن قلت : ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الهدى والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير
(2/83)

ولم يجعلالسبعةفيه لمشقة الصوم في الحج وللإشارة إلى هذا التعادل وصفتالعشرةبأنها كاملة فكأنه قيل : تلك عشرة كاملة في وقوعها بدلا من الهدي وقيل : إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها وقيل : إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد فإن الواحد مبتدأ العدد والأثنين أول العدد والثلاثة أول عدد فرد والأربعة أول عدد مجذور والخمسة أول عدد دائر والستة أول عدد تام والسبعة عدد أول والثمانية أول عدد زوج الزوج والتسعة أول عدد مثلث والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين
وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجهلكنها عشرة غير كاملةولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ذلك إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه : فمن تمتع عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قرآن لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاق لا في حق أهل مكة ومن لم في حكمهم وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه : إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم ولكي يجب إحرامه من الميقات فإقدمه على التمت لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتيبعليدون اللام في قوله سبحانه : لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعملبعليلا باللام وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في أشترطي لهم الولاء خلاف الظاهر والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب والمراد من حضور الأهل حضور المحرم وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل : أن يسكن حيث أهله ساكنون وللمسجد الحرامإطلاقان أحدهما نفس المسجد والثاني الحرم كله ومنه قوله سبحانه : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام بناءا على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين وأتقوا الله في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الإنتظام وأعلموا أن الله شديد العقاب 691 لمن لم يتقه أي أستحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان وإظهار الأسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها الحج أشهر اي وقته ذلك وبه يصح الحمل وقيل : ذو أشهر أو حج أشهر وقيل : لا تقدير ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى ومعنى قوله سبحانه وتعالى : معلومات معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا وهو المروي عن إبن عباس وإبن مسعود وإبن الزبير وإبن عمر والحسن
(2/84)

رضي الله تعالى عنهم وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحجوهو طواف الزيارةوبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر ولأن أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة والحلق ورمي الجمار والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى إنقضاء أيامه بعد العشرة ولأنه يجوزكما قيلتأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهرعلى ما روى عن عروة بن الزبيرولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد الثلاثة أشهر الحج وأخرج سعيد بن منصور وإبن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها قاله الرازي وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظموهو الوقوفلا بفوت وقته مطلقا ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقاأو وقت إحرامه والشافعي رضي الله تعالى عنهعلى الأخيروالإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر ومالك على الثاني فإنهعلى ما قيلكره الإعتمار في بقية ذي الحجة لما روى أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوف الناس بالدرة وينهاهم عن ذلك فيهن وإن إبنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل : إن أطعمتني أنتظرت حتى إذا هل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة
والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي والحلق وغيرهما وغيرها من بقية أيام النحروإن كان وقتا لذلك أيضاإلا أنه خصص بالعشر إقتضاءا لما روى في الآثار من ذكر العشر ولعل وجهه أن المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر فللتيسير في أداء الطواف ولتكميل الرمي و الأشهر مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع وقيل : إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الإجتماع وليس من الجمع حقيقة بناءا على المذهب المرجوع فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على إثنين فقط أو ثلاثةلا على إثنينوبعض ثالث والقول بأن المراد به إثنان والثالث في حكم العدمفي حكم العدم وقيل : المراد ثلاثة ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنىفيفيقال : رأيته في سنة كذا أو شهر كذا أو يوم كذا وأنت قد رأيته في ساعة من ذلكولعله قريب إلى الحقوصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيءبالألف والتاء فمن فرض أي ألزم نفسه فيهن الحج بالإحرام ويصير محرمابمجرد النيةعند الشافعي لكون الإحرام إلتزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم وعندنالا بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمة الصلاة ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبيةفارسيا كان أو عربياوفعل كذلك من سوق الهدى أو تقليده وأستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر كما قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما إذ لو جاز في غيرهاكما ذهب إليه الحنفيةلما كان لقوله سبحانه : فيهن فائدة وأجيب بأن فائدة ذكر فيهن كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز
(2/85)

الإحرام قبله فلو قدم الإحرام أنعقد حجا مع الكراهة وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة ومدار الخلاف أنه ركن عندهوشرط عندنافأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت والكراهة جاءت للشبهة فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج فلا رفث أي لا جماع أو لا فحش من الكلام ولا فسوق ولا خروج عن حدود الشرع بإرتكاب المحظورات وقيل : بالسباب والتنابز بالألقاب ولا جدال ولا خصام مع الخدم والرفقة
في الحج أي في أيامه والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الإعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيآتها في القرآن وقرأ إبن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى انهي أي لا يكونن رفث ولا فسوق والثالثبالفتح على معنى الإخبار بإنتفاء الخلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة أرتفع الخلاف فأخبر به وقريء بالرفع فيهن ووجهه لا يخفى
وما تفعلوا من خير يعلمه الله بتأويل الأمر معطوف على فلا رفث أي لا ترفثوا وأفعلوا الخيراتوفيه إلتفاتوحث علىالخيرعقيب النهي عن الشر ليستبدل به ولهدا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر والمراد منالعلمإما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه وإما المجازاة مجازا وتزودوا فإن خير الزاد التقوى أخرج البخاري وأبو داؤد والنسائي وإبن المنذر وإبن حبان والبيهقي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون : نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلتفلتزودبمعناه الحقيقيوهو إتخاذ الطعام للسفرو القتوى بالمعنى اللغويوهو الإتقاء من السؤالوقيل : معنى الآية إتخذوا التقوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد فمفعول تزودوا محذوف بقرينة خبر إنوهو التقوى بالمعنى الشرعيوكان مقتضى الظاهر أن يحمل خير الزاد على التقوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا والمطلوب هنا إثبات خير الزاد للتقوى لكونه دليلا على تزودها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خير الزاد وأنتم تطلبون نعته هو التقوى فيفيد إتحاد خير الزاد بها وأتقون يأولي الألباب 791 أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيهعلى هذاشائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى
ليس عليكم جناح أي حرج في أن تبتغوا أي تطلبوا فضلا من ربكم أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج أخرج البخاري وغيرهعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهقال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(2/86)

عن ذلك فنزلت وأستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحيط أجرا ولا ينقص ثوابا ووجه الإرتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج وحمل الآية على ما بعد الحج وقال المراد : وأتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فأنتشروا في الأرض وأبتغوا من فضل الله وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الإشتباه هو التجارة في زمان الحج وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت إبن عمر فقلت : إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال : ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم قلت بلى قال : إن رجلا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت ليس عليكم جناح الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال : أنتم الحجاج وكان إبن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاريوعبد إبن حميد وإبن جرير وغيرهم عنه ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج وكذلك روى عن إبن مسعود وأيضاالفاءفي قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب إبتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج نعم قال بعضهم : إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى بهوليس بالعيدو أفضتم من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية ومفعوله مما ألتزم حذفه للعلم به وأصله أفيضتم فنقلت حركةالياءإلىالفاءقبله فتحركتالياءفي الأصل وأنفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات و من لإبتداء الغاية وعرفات موضع بمنى وهي أسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء : ولا واحد له بصحة وقول الناس : نزلتا عرفة شيبه بمولدوليس بعربي محضوأعترض عليه بخبر الحج عرفة وأجيب بأن عرفة فيه أسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني والذي أنكره إستعماله في المكان فالإعتراض ناشيء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل : إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم والتعدد حينئذ بإعتبار تسمية كل جزء منذلك المكان عرفة كقولهم : جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة : من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محضا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلةنون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الأسم فقطوليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الأسم فقط وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقالة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الأسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف وهنا ليس كذلكقاله الجمهوروقال الزمخشري : إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث
(2/87)

المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب وإختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة وأختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمى بمسلمات وبنت مؤنث كان منصرفا وقول إبن الحاجب : إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الإقتضاء غير مسلم وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الإستدلال ليس على إعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث نعم يرد ما أورده الرضى من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لماألتزم تأنيث الضمير الراجع إليه ويجاب بأن إختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا وإنما سمى هذا المكان المخصوص بلفظ ينبيء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة و السلام فعرفه وروى ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وإبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال : قد عرفت وروى عن عطاء أو لأن آدم وحواء أجتمعا فيه فتعارفا وروى عن الضحاك والسدي أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه : إعترف بذنبك وأعرف مناسكك قاله بعضهم وقيل : سمى بذلك لعلوه وإرتفاعه ومنه عرف الديك وأختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل فأذكروا الله بالتلبية والتهليل والدعاء وقيل : بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عند المشعر الحرام إلا الصلاة والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها فقد أخرج وكيع وسفيان وإبن جرير والبيهقي وجماعة عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال : هذا المشعر الحرام وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عند المشعر يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتونة بالمزدلفة وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى فزح وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأموريه في جميع المزدلفة لأنها كلها موقف إلا وادي محسركما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضلهوشرفه وعن سعيد بن جبيرما بين جبلي مزدلفة فهو المشعر الحرام ومثله عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وإنما سمى مشعرالأنه معلم العبادة ووصفبالحرام لحرمته والظرف متعلق بأذكروا أو بمحذوف حال من فاعله وأذكروا كما هداكم اي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي أذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي أذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها
وما على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كما هداكم النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها وذهب بعضهم إلى أنالكافللتعليل وأنها متعلقة بما عندها ومامصدرية لا غير أي أذكروه وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم
(2/88)

وإن كنتم
أي وإنكم كنتم فخففت إن وحذف الأسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها وقيل : إن إن
(2/0)

نافية واللام بمعنى إلا من قبله
أيالهديوالجار متعلق بمحذوف يدل عليه لمن الضالين 891 ولم يعلقوه به لأن ما بعدالالموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل : أذكروه الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هداكم لأنه من الضلالة وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس
أي من عرفة لا منالمردلفةوالخطاب عام والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه : ثم أفيضوا الآية ومعناها ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا وهو عرفة لا من مزدلفة وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة : والجملة معطوفة على قوله تعالى : فإذا أفضتم ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتىبثمإيذان بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب والأخرى خطأ ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع وكذا لا يضر إنفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ثم تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي وجوز أن يكون العطف علىفأذكرواويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكمثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فأذكروا الله عند المشعر الحرام وأستغفروا وإذ أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منىكما قال الجبائيبقيت كلمة ثم على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من عرفاتلأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى والخطاب على هذا عام بلا شبهة والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهرأي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا وقيل : المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمى ناسا لأنه كان إماما للناس وقيل : المراد هو وبنوه وقريء الناسبالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه : فنسي وكلمة ثمعلى هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءا على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر وأستغفروا الله من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إن الله غفور للمستغفرين رحيم 991 بهم منعم عليهم فإذا قضيتم مناسككم أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها فأذكروا الله كذكركم آباءكم أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم ومايعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك أو أشد ذكرا إما مجرور معطوف
(2/89)

على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنىوأذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغأو على ما أضيف إليه بناءا على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنىأو كذكر قوم أشد منكم ذكراوإما منصوب بالعطف على آباءكم و ذكرا من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل وأختار في البحر أن يكون أشد نصب على الحال من ذكرا المنصوببأذكرواإذ لو تأخر عنه لكان صفة له وحسن تأخر ذكرا لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فأذكروا الله كذكركم آباءكم أو أذكروا ذكرا أشد وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو اشد بدون ذكرا بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لاطلبه حال الأشدية
(2/90)

فمن الناس من يقول
جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الأغراض والإعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى : ورضوان من الله أكبر وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة وفي الآية إلتفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه : ومن الناس من يعجبك إلخ ومن الناس من يشري نعم سبب النزولكما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهماطائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص ربنا آتنا في الدنيا أي أجعل كل آياتنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهبا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا وماله في الآخرة من خلاق 002 إخبار منه تعالى ببيان حال هذا الصنف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ والخلاقمن خلق به إذا لاق أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر وقيل : الجملة بيان لحال ذلك قفي الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال : إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب و من صلة ولهخبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق
(2/0)

بما تعلق به أو حال مما بعده ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة يعني العافيةوالكفاف قاله قتادة أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه أو العلم والعبادة قاله الحسن أو المال الصالح قاله السدي أو الأولاد الأبرار أو أثناء الخلق قاله إبن عمر أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى أو صحبة الصالحين قاله جعفر والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكدا الكلام في قوله تعالى : وفي الآخرة حسنة فقد قيل هي الجنة وقيل : السلامة من هول الموقف وسوء الحساب وقيل : الحور العين وهو مروى عن علي كرم الله وجهه وقيل : لذة الرؤية وقيل وقيل والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان وقنا عذاب النار 102 أي أحفظنا منه بالعفو والمغفرة وأجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب وقال الحسن : أحفظنا من الشهوات والذنوب المؤية إلى عذاب النار وقال علي كرم الله تعالى وجهه : عذاب النار الأمرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له : هل كنت تدعو الله تعالى بشيء قال : نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه الله تعالى أولئك إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة وما لهم في الآخرة من خلاق والتعبير بأسم الإشارة للدلالة على أن إتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف ههنا لكونه كالنتيجة لما قبله قيل : وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى : لهم نصيب مما كسبوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا أو من أجله أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قرناه ومنإما للتبعيض أو للأبتداء والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل وفي الآية على الإحتمال الثالث وضع الظاهر المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من ربنا آتنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقريءمما أكتسبوا
(2/91)

والله سريع الحساب 202
يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا وروى بمقدار فواق ناقة وروى بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات وإكتساب الحسنات والجملة تذييل لقوله تعالى فأذكروا الله كذكركم آباءكم إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا أو مجازاتهم عليها هذا ومن باب الإشارة في الآيات
و ليس البر بأن تأتوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم واوماثكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن ولكن البر من إتقى شواغل
(2/0)

الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت من أبوابها التي تلي الروح ويدخل منها الحق وأتقوا الله عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر ولا تعتدوا بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لاتتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية
فرب مخمصة شر من التخم
إن الله لا يحب المعتدين الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة وأقتلوهم حيث وجدتموهم أي أمنعوا هاتيك القوى عنشم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وأخرجوهم عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها وأستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند إستيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الإستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم فأقتلوهم بسيف الصدق وأقطعوا مادة تلك لدواعي كذلك جزاء الكافرين الساترين للحق فإن إنتهوا عن نزاعهم فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم على دوام الرعاية وصدق العبودية حتى لا تكون فتنة ولا يحصل إلتفات إلى السوي ويكون الدين كله لله بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس فإن إنتهوا فلا عدوان إلا على المجاوزين للحدود الشهر الحرام الذي قامت به النفس لحقوقها بالشهر الحرام الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم والحرمات قصاص فلا تبالوا بهتك حرمتها وأنفقوا في سبيل الله ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوابأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له وأتموا حجتوحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال فإن أحصرتم بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدى النفس وذبحها بفناء كعبة القلب ولإختلاف النفوس في الإستعداد قال : ماأستيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدى النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فمن كان منكم مريضا ضعيف الإستعداد أو به أذى من رأسه أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى فإذا أمنتم من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدى بحسب حاله فمن لم يجد لضعف نفسه وإنقهارها فصيام ثلاثة أيام في الحج أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والإستغراق في الجمع والفناء وهي العقل والوهم والمتخيلة وسبعة إذا رجعتم إلى مقام التفصيل والكثرة وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الإستقامة في الأشياء بالله عزوجل تلك عشرة كاملة موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد أستراح الحج أشهر معلومات وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك
ومن هنا قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان فمن فرض فيهن الحج على نفسه بالعزيمة فلا رفث أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها ولا فسوق ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل
(2/92)

لا يخرج عن الوقت ولايدخل فيما يورث المقت ولا جدال في الحج أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الإجتناب عن الرذائل فإن خير الزاد التقوى وتمامها بنفي السوي وأتقون ياأولي الألباب فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادةإتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة فأذكروا الله عند المشعر الحرام أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمى مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال وووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وأذكروه كما هداكم إلى ذكره في المراتب وإن كنتم من قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لمن الضالين عن هذه الإذكار في طلب الدنيا ثم أفيضوا إلى ظواهر العبادات من حيث أفاض سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم وأستغفروا الله فقد كان الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة ومن أنت يامسكين بعده إن الله غفور رحيم فإذا قضيتم مناسككم وفرغتم من الحج فأذكروا الله كذكركم آباءكم قبل السلوك أو أشد ذكرا لأن المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وماله في مقام الفناء من نصيب لقصور همته وإكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الإحتجاب بالظمة والتعذيب بنيران الطبيعة أولئك لهم نصيب مما كسبوا من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب وأذكروا الله أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابينورمي الجمار وغيرها
في أيام معدودات وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي وإبن عباس رضي الله تعالى عنهم وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة آيام بضم يوم النحر إليها وأستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه فأذكروا الله إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فأذكروا الله في أيام معدودات والفاء للتعقيب فأقتضي ذلك إخراج يوم النحر من الأيام ومن أعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما أستدل بالآية على إبتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر وأستدل بعمومها من قال : يكبر خلف النوافل وأستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر و معدودات واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع مالا يعقل بالمفرد المؤنث جائز وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات وقيل : إنه قدر اليوم مؤنثا بإعتبار ساعاته وقيل : إن المعنى أنها في كل سنة معدودة وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فمن تعجل أي عجل في النفر أو أستعجل النفر من متنى وقد ذكر غير واحد أن عجل وأستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل يقال : تعجل في الأمر وأستعجل ومتعديين يقال : تعجل الذهاب والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى : ومن تأخر كما هي كذلك في قوله :
(2/93)

قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون من المستعجل الزلل لأجل المتأني وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمورالعجللا التعجيل مطلقا وقيل : لأن اللازم يستدعي تقدير في فيلزم تعلق حر في جر أحدهما المقدر والثاني في يومين بالفعل وذا لايجوزواليومانيوم القر ويوم الرؤوس واليوم الذي بعده والمراد فمن في ثاني أيام التشريق قبل الغروبوبعد رمي الجمار عند الشافعيةوقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندناوالنفر في أول يوم منها لا يجوزفظرفية اليومين له على التوسع بإعتبار أن الإستعداد له في اليوم الأول والقول بأن التقدير في أحد يومين إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني أو في آخر يومين خروج عن مذاق النظر فلا إثم عليه بإستعجاله ومن تأخر في النفر حتى رمي في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا وعند الشافعي بعده فقط فلا إثم عليه بما صنع من التأخر والمراد التخيير بين التعجيل والتأخرولايقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحبالإنصافوإنما وردبنفي الإثمتصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه فمن مؤثم للمعجل ومؤثم للمتأخر لمن أتقى خبر لمحذوف واللامإما للتعليل أو للإختصاص أي ذلك لتخيير المذكور بقرينة القرب لأجلالمتقيلئلا يتضرر بترك ما يقصده من التعجيل والتأخرلأنه حذر متحرز عما يريبه أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصةبالمتقيلأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع بها والمراد منالتقوىعلى التقديرين التجنب عما يؤثم منفعل أو تركولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين وأستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا أتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها وروى ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج إبن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال : إن الناس يتأولونها على غير تأويلها وهو من الغرابة بمكان
وأتقوا الله في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة أو أحذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج وأعلموا أنكم إليه تحشرون 302 للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث وأصلالحشرالجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للإمتثال به فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى وقدم إليه للإعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل ومن الناس من يعجبك قوله عطف على قوله تعالى : ومن الناس من يقول والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان إنقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرينالمنافق والمخلصوأصلالتعجب حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله : في الحياة الدنيا أي في أمور الدنيا وأسباب المعاشسواء كانت عائدة إليه أم لافالمراد من الحياة ما به الحياة والتعيش
(2/94)

أو في معنى الدنيا فإنها مرادة من إدعاء المحبة وإظهار الإيمانفالحياة الدنياعلى معناها وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : في النفس المؤمنة مائة من الإبل أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن الدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضى قاله بعض المحققين وجوز تعلق المجروربالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لايؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك والآية كما قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بن زهرة أقبل إلى النبي في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال : إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر وقيل : في المنافقين كافة ويشهد الله على ما في قلبه أي بحسب إدعائه حيث يقول الله يعلم أن ما قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على يعجبك وفي مصحف أبي ويستشهد الله وقريء ويشهد الله بالرفع فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة ويؤيده قراءة إبن عباس رضي الله تعالى عنهما والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له والجملة حينئذ إعتراضية
وهو ألد الخصام 402 أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأستشهد عليه بقول مهلهل : إن تحت الحجار حزما وجورا وخصيما فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في علي الظرفية للتقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب فالمعنى أشد الخصوم خصومة والإضافة فيه للإختصاص كما في أحسن الناس وجها وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم وأخرج أحمد عن أبي الدرداء كفى بربك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عزوجل وشدة الخصومة من صفات المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها وإذا تولى أي أدبر وأعرض قاله الحسن أو إذا غلب وصار والياقاله الضحاك
(2/95)

سعى
أي أسرع في المشي أو عمل
(2/0)

في الأرض ليفسد فيها
ما أمكنه
ويهلك الحرث والنسل
كما فعله الأخنس أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر و الحرث الزرع والنسل كل ذات روح يقال ينسل نسولا إذا خرج فسقط ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائروسمى العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه وذكر الأزهري
(2/0)

أن الحرث هنا النساء والنسل الأولاد وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس وقريء ويهلك الحرث والنسل على أن الفعل للحرث والنسل والرفع للعطف على سعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغةأبى يأبى وروى عنه ويهلك على البناء للمفعول
والله لا يحب الفساد 502
لايرضى به فأحذروا غضبه عليه والجملة إعتراض للوعيد وأكتفى فيها على الفساد لإنطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد لأنه يقال : الإفسادكما قيل في الحقيقةإخراج الشيء عن حالة محمودةلا لغرض صحيحوذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا وإما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا
وإذا قيل له أتق الله في فعلك أخذته العزة أي أحتوت عليه وأحاطت به وصار كالمأخوذ بها و العزة في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا
(2/96)

بالإثم
أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق ويجوز أن يكون أخذمن الأخذ بمعنى الأسر ومنه الأخيذ للأسير أي جعلته العزة وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه فحسبه جهنم مبتدأ أو خبر أي كافيه جهنم وقيل : جهنم فاعل ل حسبه ساد مسدخبره وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوى لإعتماده علىالفاءالرابطة للجملة بما قبلها وقيل : حسب أسم فعل ماض بمعنى كفىوفيه نظر و جهنم علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثاثل ووزنه فعلل وفي البحر إنها مشتقة من قولهم : ركية جهنامإذا كانت بعيدة القعروكلاهما من الجهم وهي الكراهية والغلظ ووزنها فعنلل ولا يلتفت لمن قال : وزنها فعنلل كعرندس وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما وقيل : إنها فارسي وأصلها كهنام فعربتبإبدال الكاف جيما وإسقاط الألفوالمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة ولبئس المهاد 602 جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه و المهاد الفراش وقيل : ما يوطيء للجنبوالتعبير به للتهكموفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له : أتق الله ولهذا قال العلماء : إذا قال الخصم للقاضي : أعدل ونحوه له أن يعزره وإذا قال له : أتق الله لا يعزره وأخرج إبن المنذر عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه : أتق الله تعالى فيقول : عليك بنفسك عليك بنفسك
(2/0)

ومن الناس من يشري نفسه
أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روى عن إبن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما أخرج إبن جرير عن أبي الخليل قال : سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فأسترجع وقال : قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل
(2/0)

إبتغاء مرضات الله
أي طلبا لرضاه ف إبتغاء مفعول له و مرضات مصدر بنيكما في البحرعلى التاى كمدعاة والقياس تجريده منها وكتب في المصحف بالتاءووقف عليهبالتاء والهاءوأكثر الروايات أن الآية نزلت في صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه
(2/0)

فقد أخرج جماعة أن صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : يامعشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقى في يدي منه شيء ثم أفعلوا ما شئتم فقالوا دلنا علي بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل فلما قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أبا يحيى ربح البيع ربح البيع وتلا له الآية وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الإشتراء
وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة و السلام : من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة فقال : أنا وصاحبي المقدادوكان خبيب قد صلبه أهل مكةوقال الإمامية وبعض منا : إنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه حين أستخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار وعلى هذا يكون يرتكب في الشراى مثل ما أرتكب أولا والله رؤوف بالعباد 702 اي المومنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه
ياأيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم كآفة أخرج غير واحد عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبدالله بن سلام وأصحابه وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا فأنكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا : إنا نقوي على هذا وهذا وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم : إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله تعالى هذه الآية فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب و السلم بمعنى الإسلام و كافة في الأصل صفة من كف بمعنى منع أستعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرقوالتاءفيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الإسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة وأختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما ولا يختص بمن يعقل ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لإبن هشاموليس له في ذلك ثبتوهو هنا حال من الضمير في أدخلوا والمعنى أدخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام وقيل : الخطاب للمنافقين و السلم بمعنى الإستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه و كافة حال من الضمير أيضا أي أستسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة وأتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا وقيل : الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم والمراد من السلم جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناءا على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وحملاللامعلى الإستغراق و كافة حال من السلم والمعنى أدخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها وقيل : الخطاب للمسلمين الخلص والمراد من السلم شعب الإسلام و كافة حال منه والمعنى أدخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم في شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه وقال الزجاج في هذا الوجه : المراد من السلم الإسلام والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بيعد غاية البعد وهذا ما أختاره بعض المحققين من ستة عشر إحتمالا في الآية حاصلة من ضرب
(2/97)

إحتمالي السلم في إحتمالي كافة وضرب المجموع في إحتمالات الخطاب ومبني ذلك على أمرين أحدهما أن كافة لإحاطة الأجزاء والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء ونص عليه الشيخ في دلائل الإعجاز وإذا أعتبرت إحتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله : خرجت بها نمشي تجر وراءنا على أثرينا مرط مرحل بلغت الإحتمالات أربعة وعشرين ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول وقرأ إبن كثير ونافع والكسائي السلم بفتح السين والباقونبكسرهاوهما لغتان مشهورتان فيه وقرأ الأعمش بفتح السين واللام ولا تتبعوا خطوات الشيطان بمخالفة ما أمرتم به أو بالتفرق في جملتكم أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إنه لكم عدو مبين 802 ظاهر العداوة أو مظهر لها وهو تعليل للنهي والإنتهاء
فإن زللتم أي ملتم عن الدخول في السلم وتنحيتم وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا
من بعد ما جاءتكم البينات أي الحجج الظاهرة على أنه الحق أو آيات الكتاب الناطقةبذلك الموجبة للدخول فأعلموا أن الله عزيز غالب على أمره لا يعجزه شيء من الإنتقام منكم
(2/98)

حكيم 902
لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين
هل ينظرون
إستفهام في معنى النفي والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب أو إلى من يعجبك إن أريد به مؤمنوا أهل الكتاب أو المسلمون
(2/0)

إلآ أن يأتيهم الله
بالمعنى اللائق به جل شأنه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات
(2/0)

في ظلل
جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك وقريء ظلال كقلال
(2/0)

من الغمام
اي السحاب أو الأبيض منه
والملائكة
يأتون وقريء والملائكة بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الملائكة أخرج إبن مردويه عن إبن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي وأخرج إبن جرير وغيره عن عبدالله بن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة وقرأ أبي إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال : في الآية الإسناد مجازي والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه : إن الله عزيز حكيم فإن العزة والحكمة تدل على الإنتقام بحق وهو البأس والعذاب وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه : يخادعون الله والذين آمنوا على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب
(2/0)

من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات ولم يحم حول هذه التأويلات وقضي الأمر أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على هل ينظرون لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة وإلى الله ترجع الأمور 012 تذييل للتأكيد كأنه قيل : وإلى الله ترجع الأمور التي من جملتها الحساب أو الإهلاك وعلى قراءة معاذ عطف على هل ينظرون أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى وقرأ نافع وإبن كثير وأبو عمرو وعاصمترجععلى البناء للمفعول على أنه من الرجع وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع وقريء أيضا بالتذكير وبنأء المفعول سل بني إسرائيل أمر للرسول كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه وربط الآية بما قبلها على ما قيل : إن الضمير في هل ينظرون إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن يعجبك فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك كم آتيناهم من آية بينة أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الحسن ومجاهد وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره وبينة من بان المتعدي فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنةلنعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به و كم إما خبرية والمسؤل عنه محذوف والجملة إبتدائية لا محل لها من الإعراب مبنية لإستحقاقهم التقريع كأنه قيل : سل بني إسرائيل عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقدآتيناهم آيات كثيرة بينة وزعم لزوم إنقطاع الجملة على هذا التقديركما تزى وإما إستفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل سل وقيل : في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال وقيل : في موضع الحال أي سلهم قائلاكم آتيناهموالإستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار وقيل : بمعنى التحقيق والتثبيت وأعترض بأن معنى التقريع الإستنكار والإستبعاد وهو لا يجامع التحقيق وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه ومحلها النصب على أنها مفعول ثانلآتيناوليس من الإشتغال كما وهم أو الرفع بالإبتداء على حذف العائد والتقديرآتينا هموماأو آتيناهم إياها وهوضعيف عند سيبويه و آية تمييز و من صلة أتى بها للفصل بين كون آية مفعولالآتيناوكونها مميزة ل كم ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضى : وإذا كان الفصل بينكمالخبري ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو كم تركوا من جنات وكم أهلكنا من قرية وحالكمالإستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحالكمالخبرية في جميع ما ذكرنا إنتهى وحكى عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الإستفهامية وهو محمول على الزيادة فلا فصل لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه ومن يبدل نعمة الله أي آياته فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ أو جعلها سببا للضلالة وإزدياد
(2/99)

الرجس وعلى التقديرين لا حذف في الآيةوقال أبو حيان حذف حرف الجر من نعمة والمفعول الثاني ل يبدل والتقدير ومنيبدل بنعمة الله كفرا ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى وقريء ومن يبدل بالتخفيف من بعد ما جآءته أي وصلته وتمكن من معرفتها وفائدة هذه الزيادةوإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموماالتعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم وأستدلال على إستحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره فإن الله شديد العقاب 112 تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الأسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة
زين للذين كفروا الحياة الدنيا
أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات وبدلوها : وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب
(2/100)

ويسخرون من الذين آمنوا
الموصول للعهد والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزؤن بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى و من للتعدية وتفيد معنى الإبتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أن لغة رديئة والعطف على زين وإيثار صيغة الإستقبال للدلالة على الإستمرار وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤوساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا لأتبعه أشرافنا وروى ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه وقيل : نزلت في إبن أبي بن سلول وقيل : في رؤوساء اليهود ومن بني قريظة والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم والذين أتقوا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعار بعلة الحكم ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا
فوقهم يوم القيامة
مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا والجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الأسمية للدلالة على دوام مضمونها وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى
(2/0)

والله يرزق
في الآخرة
من يشآء بغير حساب 212
أي بلا نهاية لما يعطيه وقال إبن عباس رضي الله تعالى عنه : هذا الرزق في الدنيا وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزيء بهم أموال بني قريظة والنضير ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين
كان الناس أمة واحدة
متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد وهو المروي عن أبي بن كعب أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناءا على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما
(2/0)

أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وأمرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة و السلام فالإستغراق على الأول والأخير حقيقي وعلى الثاني والثالث إدعائي بجعل القليل في حكم العدم وقيل : متفقين على الجهالة والكفر بناءا على ما أخرجه إبن أبي حاتم من طريق العوفي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة و السلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة و السلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة و السلام
(2/101)

فبعث الله النبيين
أي فأختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة إبن مسعود رضي الله تعالى عنه وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه
مبشرين
من آمن بالثواب
ومنذرين
من كفر بالعذاب وهم كثيرون فقد أخرج أحمد وإبن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم الأنبياء قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت : يارسول الله كم الرسل قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير ولا يعارض هذا قوله تعالى : ورسلا قد قصصناهم عليك الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى والجمعان منصوبان على الحال من النبيين والظاهر أنها حال مقدرة والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر
وأنزل معهم الكتاب
اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس لكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب يخصه أو من كتاب من قبله والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور أنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيت ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين بإعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بالحق متعلق ب أنزل أو حال من الكتاب أي متلبسا شاهدا به ليحكم بين الناس علة للإنزال المذكور أوله وللبعث وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الإختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيت وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناءا على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدي بعلي والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي بإعتبار تضمنه ما به الفصل وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لابد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين
فيما أختلفوا فيه أي في الحق الذي أختلفوا فيه بناءا على أن وحدة الأمة بالإتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالإتفاق على الجهالة والكفر يكون الإختلاف مجازا عن الإلتباس والإشتباه اللازم له والمعنى فيما ألتبس عليهم وما أختلف فيه أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية
(2/0)

إلا الذين أوتوه
أي الكتاب المنزل لأزالة الإختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مريحا للإختلاف سببا لرسوخه وإستحكامه وبهذا يندفع السؤال بأنه
(2/0)

لما لم يكن الإختلاف إلا من الذين أوتوهفالإختلاف لا يكون سابقا على البعثةوحاصله أن المراد ههنا إستحكام الإختلاف وإشتداده وعبر عنالإنزال بالإيتاءللتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإنالإنزاللا يفيد ذلك وقيل : عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم من بعد ما جآءتهم البينات أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق و من متعلقة ب أختلفوا محذوفا والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل ووقوع الظرف بعد حرف الإستثناء لفظا أو من تقدير المحذوف مؤخراوفي الدر المصون تجويز تعلقه بما أختلف قبلهولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أن إستثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين لا على وجه البدل ولا غيرهوجيوز عند جماعة مطلقاوفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جازوإلا فلاوأستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى : وما نراك أتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي فإنه لم يذكر فيه المستثنى أصلا والتقدير ما نراك أتبعك أحد في حال إلا أراذلنا في بادي الرأي وأجاب من لم يجوز بأن النصب بفعل مقدر أي أتبعوا وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيرهقاله الرضيوهو مبني الإختلاف في الآية وقوله تعالى : بغيا بينهم متعلق بما تعلق به من والبغيالظلم أو الحسد و بينهم متعلق بمحذوف صفة بغيا وفيه إشارة على ما أرىإلى أن هذاالبغيقد باض وفرخ عندهم فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم ولا ملجأ له سواهم وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيهوهو فائدة التوصيف بالظرفوقيل : أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأن كلهم سفل ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فهدى الله الذين آمنوا لما أختلفوا فيه من الحق بإذنه أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره و من بيان لما والمراد للحق الذي أختلف الناس فيهفالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقينوليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر السابقة والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على إختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد إختلافهم وقيل : المراد من الذين آمنوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والضمير في أختلفوا للذين أوتوه أي الكتاب ويؤيده ما أخرجه إبن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : أختلفوا في يوم الجمعة فأخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة و أختلفوا في القبلة فأستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس وهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقبلة و أختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك و أختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم النهار والليل ومنهم من يصوم عن بعض الطعام فهدى الله أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك و أختلفوا في إبراهيم عليه الصلاة و السلام فقالت اليهود : كان يهوديا وقالت النصارى : كان نصرانيا وجعله الله تعالى حنيفا مسلما فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وأختلفوا في عيسى عليه الصلاة
(2/102)

والسلام فكذبت به اليهود وقالوا لأمه : بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله الله تعالى روحه وكلمته فهدى الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبي بن كعب فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 312 وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أم حسبتم أن تدخلوا الجنة نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى حتى بلغت القلوب الحناجر وقيل : في غزوة أحد وقال عطاء : لما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المدينة أشتد الضر عليهم لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين وآثروا رضا الله تعالى ورسوله وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأسر قوم من الأنبياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية والخطاب إما للمؤمنين خاصة أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولهم ونسبة الحسبان إليه عليه الصلاة و السلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه : أو لتعودن في ملتنا و أم منقطعةوالهمزة المقدرةلإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون وقيل : متصلة بتقدير معادل وقيل : منقطعة بدون تقدير وفي الكلام إلتفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه : كان الناس أمة واحدة كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أدى المشركين أو للمؤمنين خاصةفكانوا من هذا الوجه مرادين غائبينويؤيده فهدى الله الذين آمنوا إلخ فإذا قيل : بعد أم حسبتم كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب أو لأن الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم كما يدل عليه ما أخرجه البخاري وأبو داؤد والنسائي والإمام أحمد عن خباب إبن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا فقال : إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال : والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون وهذا هو المضرب عنهببلالتي تضمنتها أم أي دع ذلكأحسبوا أن يدخلوا الجنةفترك هذا إلى الخطاب وحصل الإلتفات معنى ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها وقيل : وجه ذلك أنه سبحانه لما قال : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكان المراد ب الصراط الحق الذي يفضي إتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا بإحتمال الشدائد والتكليف ولما يأتكم الواو للحال والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم ولما جازمةكلموفرق بينهما في كتب النحو والمشهور أنها بسيطة وقيل : مركبة منلم وما النافيةوهي نظيرة قد في أن الفعل المدكور بعدها منتظر الوقوع
(2/103)

مثل الذين خلوا من قبلكم أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة فالكلام على حذف مضاف و الذين صفة لمحذوف أي المؤمنين ومن قبلكم متعلق ب خلوا وهو كالتأكيد لما يفهم منه
مستهم الباساء والضراء بيانللمثلعلى الإستئناف سواء قدر كيف ذلك المثل أو لا وجوز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد زلزلوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه أي إنتهى أمرهم من البلاء إلى حيث أضطروا إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى وما تقتضيه حكمته والمؤمنون المقتدون بآثاره المهتدون بأنواره متى يأتي نصر الله طلبا وتمنيا له وأستطالة لمدة الشدةلا شكا وإرتياباوالمراد من الرسول الجنس لا واحد بعينه وقيل : هو اليسع وقيل : شعياء وقيل : أشعياء وعلى التعيين يكون المراد من الذين خلوا قوما بأعيانهموهم أتباع هؤلاء الرسلوقرأ نافع يقول بالرفع على أنها حكاية حال ماضية و معه يجوز أن يكون منصوبا ب يقول أي أنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب آمنوا أي وافقوه في الإيمان إلاأن نصر الله قريب 412 إستئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الأسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى وإختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والإقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لإستحالة الخلف وقيل : لما كان السؤالبمتىيشير إلى إستعلام القرب تضمن الجواب القرب وأكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الإعتراض لا واردا عند وقوع المحكي والقول بأن هذه الجملة : مقول الرسول ومتى نصر الله تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء أما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين وأما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول ألا إن نصر الله قريب في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة والقولبأن ترك العطف للتنبيه على أن كلا مقول لواحد منهما وإحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزللا ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والإنزعاج أعظم من الخوف وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لايتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبيء عنه خبر حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيآت ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد أفتتن ومن باب الإشارة في الآيات ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا يدعى المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة
(2/104)

ويشهد الله على ما في قلبه من المعارف والإخلاص بزعمه وهو ألد الخصام شديد الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها بإلقاء الشبه على ضعفاء المريدين ويهلك الحرث ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين والله لا يحب الفساد فكيف يدعى هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه وإذا قيل له أتق الله حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه فحسبه جهنم أي يكفيه حبسه في سبجين الطبيعة وظلماتها وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم ومن الناس من يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل ياأيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة فإن زللتم عن مقام التسليم والرضا بالقضاء من بعد ما جاءتكم دلائل تجليات الأفعال والصفات فأعلموا أن الله تعالى عزيز غالب يقهركم حكيم لايقهر إلا على مقتضى الحكمة هل ينظرون إلا أنيتجلى الله سبحانه في ظلل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية وقضي الأمر بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل وإلى الله ترجع الأمور بالفناى كان الناس أمة واحدة على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم أختلفوا في النشأة بحسب إختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم وإحتجاب كل بمادة بدنه فبعث الله النبيين ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا فالسفليون أزدادوا خلافا وعنادا والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم أم حسبتم أن تدخلوا جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة ولما يأتكم حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقر وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي فأجيبوا : إذا بلغ السيل الربى وقيل : لهم ألا إن نصر الله برفع الحجاب وظهور آثار الجمال قريب ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق : ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون إجتناء النحل ما جنت النحل
(2/105)

يسئلونك ماذا ينفقون
قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح : كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال : يارسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق فنزلت وفي رواية عطاء عنه لا أنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إن لي دينارا فقال : أنفقه على نفسك فقال : إن لي دينارين فقال : أنفقهما على أهلك فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك فقال : إن لي أربعة فقال : أنفقها على والديك فقال : إن لي خمسة فقال : أنفقها على قرابتك فقال : إن لي ستة فقال : أنفقها في سبيل الله تعالى وعن إبن جريج قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أين يضعون أموالهم فنزلت
قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وإبن السبيل ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن إعتداد النفقة بإعتباره وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن من
(2/0)

خير يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال مايقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم يطلبه ولما كانت حاجتهم إلى من بنفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراى فأستأذن طبيبا في أكل العسل فقال : كله مع الخل فالكلام إذا من أسلوب الحكيم ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسئول عنهما والإقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا أو عن المذكور تبعا والأكثرون على أن الآية في التطوع وقيل : في الزكاة وأستدل بها من أباح صرفها للوالدين وفيه أن عموم خير مما ينافي في كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين و الرقاب إما إكتفاءا بما ذكر في المواضع الأخر وإما بناءا على دخولهم تحت عموم قوله تعالى : وما تفعلوا من خير فإنه شامل لكل خير واقع في أي مصرف كان وما شرطية مفعول بهلتفعلواوالفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب
فإن الله به عليم 512 يعمل كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الإسمية المؤكدة والجملة جواب الشرط بإعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب وقيل : إنها دليل الجواب وليست به ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنةحتى ورد الصدقة تطفيء غضب الرد كتب عليكم القتال أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقريء بالبناء للفاعل وهو الله عزوجل ونصب القتال وقريء أيضا كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة وهو كره لكم عطف على كتب وعطف الأسمية على الفعلية جائز كما نص عليه وقيل : الواو للحال والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيءبالواووالمنتقلة لا فائدةفيها والكره بالضمكالكره بالفتحوبهما قريء الكراهة وقيل : المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته وقيل : المفتوح أسم بمعنى الإكراه والمضموم بمعنى الكراهة وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤل أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز مخبوز وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى
(2/106)

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة
(2/0)

وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم
وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى
(2/0)

الرديء ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم والجملتان الأسميتان حالان من النكرة وهو قليل ونص سيبويه على جوازه كما في البحر وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لماأن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وعسى الأولى للإشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا أرتاضت وصفت أنعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالإرتياض لمثل هذا الإنعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى : عسى ربه إن طلقكن والله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحدف المفعول للإيجاز وأنتم لا تعلمون 612 ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وأنتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال
يسئلونك عن الشهر الحرام أخرج إبن إسحاق وإبن جرير وإبن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال : بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبدالله بن جحش وهو إبن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال : كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال وذلك في الشهر الحرام وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال : أخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فأفتح كتابك وأنظر فيه فما أمرتك به فأمض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه أن أمض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش بما أتصل إليك منهم فقال لأصحابه : وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا ببخران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ونوفل بن عبدالله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبدالله وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا : عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا : لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشهر الحرام ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلةمكة الحرام فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبدالله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأستأسر عثمان بن عبدالله والحكم إبن كيسان وأفلت نوفل وأعجزهم وأستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال : سقط في أيديهم وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمينوقالت قريش : حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال وأستحل الشهر الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(2/107)

العير وفدى الأسيرين وفي سيرة إبن سيد الناس إن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أيحل القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية ومن هنا قيل : السائلون هم المشركون وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين وأختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا : وأكثر الروايات تقتضيهوليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من الشهر الحرام رجب أو جمادى فأل فيه للعهد والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وسميت حرما لتحريم القتال فيها والمعنى يسئلونك أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أن قتال فيه بدل إشتمال من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني ملابس له بغير الكلية والجزئيةولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضى وقرأ عبدالله عن قتال وهو أيضا بدل إشتمال إلا أنه بتكرير العامل وقرأ عكرمة قتل فيه وكذا في قل قتال فيه كبير أي عظيم وزرا وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام وأن ما أعتقد من إستحلاله القتال فيه باطل وما وقع من أصحابه عليه الصلاة و السلام كان من باب الخطأ في الإجتهاد وهو معفو عنهبل من إجتهد وأخطأ فله أجر واحدكما في الحديث والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه : فإذا أنسلخ الأشهر الحرم فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد إنسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام وساداتنا الحنفية يقولون به وأما الشافعية فيقولون : إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي وقال الإمام : الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ وأعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الحنس كما في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه وقول الشاعر
ولاترى الضب بها ينحجر
وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناءا على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أنه ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه فقد قال عليه الصلاة و السلام : أحلت لي ساعة من نهار وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك وأخرج
(2/108)

إبن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام وخالف عطاء في ذلك فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهرالحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافة في سائر الأمصار وصد أي منع وصرف عن سبيل الله وهو الإسلام قاله مقاتل أو الحج قاله إبن عباس والسدي أو الهجرة كما قيل أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات فالإضافة إما للعهد أو للجنس وكفر به أي بالله أو بسبيله والمسجد الحرام أختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا وأعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان بإعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى : ومن يكفر بالطاغوت وأختار القاضي تقدير مضاف معطوف على صد أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود وأعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماعورد بمنع الإطلاق ففي التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا سبق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على إنجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلكأي مثل أبيهونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة وإذا أنتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه وأختار الزمخشري عطفه على سبيل الله تعالى وأعترض بأن عطف وكفر به على وصد مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة وذكر لصحة ذلك وجهان أحدهما أن وكفر به في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيلوصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحراموالفاصل ليس بأجنبي ثانيهما أن موضع وكفر به عقيب والمسجد الحرام إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذور الفصل ويزيد محدورا آخر وأختار السجاوندي الطف علىالشهر الحراموضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام وأختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصدأي ويصدون عن المسجد الحرامكما قال سبحانه : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر وقيل : إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى وإخراج أهله منه وهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه وقيل : إن ذلك بإعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة أكبر عند الله خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الإجتهاد ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم والفتنة أكبر من القتل تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أكبر عند الله من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا وقيل : المراد بالفتنة الكفر والكلام كبرى لصغرى
(2/109)

محذوفة وقد سبق تعليلا للحكم السابق ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم عطف على يسئلونك بجامع الإتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الإخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكتابة تحذيرا للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور و حتى للتعليل والمعنى لا يزالون يعادونكم لكي يردوكم عن دينكموقوله تعالى : إن أستطعموا متعلق بما عنده والتعبير بأن لإستبعاد إستطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الفرض وليس متعلقا بلا يزالون يقاتلونكم إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن إستطاعوها لكنها مستبعدة وذهب إبن عطية إلى أن حتى للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى : حتى يلج الجمل في سم الخياط وفيه أن إستبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم إنقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام والقول بالتأكيد غير أكيد نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلةمعناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقابلا يزالونفيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم إستطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لايخفى ومن يرتدد منكم عن دينه الحق بإضلالهم وإغوائهم أو الخوف من عداوتهم فيمت وهو كافر بأن لم يرجع إلى الإسلام فأولئك إشارة إلى الموصول بإعتبار إتصافه بما في حيز الصلة من الإرتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للأشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى حبطت أعمالهم أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن قيل : وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال : حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره وهو من قولهم : حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت وقريء حبطت بالفتح وهو لغة فيه
(2/110)

في الدنيا والآخرة
لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى
وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 712
كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئاوأستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناءا على أنها لو أحبطت مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه : فيمت وهو كافر فائدة والقول بأن فائدته أن إحباط جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا لا يحبط إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الإرتداد بمجرد الإرتداد مما لا يعني له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الإرتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لايخفى وقيل : بناءا على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند إنتفاء الشرط ينتفي المشروط وأعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وإنتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب إنتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور إختلاف القول بمفهوم الشرط وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الإرتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وما أستدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا
(2/0)

كانت جملة وأولئك إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته ومن زعم ذلك أعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده بكون الإطلاق والتقييد في الحكم وإتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد وثمرة الخلاف على ما قيل : تظهر فيمن صلى ثم أرتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج وأختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب ودهب الجل إلى الثاني وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق بين الصحبة وغيرهاولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فأفهم
إن الذين آمنوا أخرج إبن أبي حاتم والطبراني في الكبير من حديث جندب بن عبدالله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر
(2/111)

والذين هاجروا
أي فارقوا أوطانهم وأصله من الهجر ضد الوصل
(2/0)

وجاهدوا في سبيل الله
لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما
(2/0)

أولئك
المنعوتون بالنعوت الجليلة
يرجون رحمت الله
أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام وأقتصر البعض عليها بناءا على ما رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا : يانبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطي فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا إستحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الإتكال على العمل
(2/0)

والله غفور رحيم 812
تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درا المفاسد مقدم على جلب المصالح يسئلونك عن الخمر والميسر قال الواحدي : نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : أفتنا في الخمر والميسر فإنمها مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم : ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبدالرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ قل ياأيها الكافرين إلخ بحذف لا فأنزل الله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فقل من يشربها ثم إتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم أنهم أفتخروا عند ذلك
(2/0)

وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فأنطلق سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال : اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى إنما الخمر والميسر إلى قوله تعالى : فهل أنتم منتهون وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه : إنتهينا يارب وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي وعن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعنيوهذا هو الإيمان والتقى حقا
والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى وأشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها والخامر وهو من يكتم الشهادة وقيل : لأنها تغطي حتى تشتد : ومنه خمر آنيتكم أي غطوها وقيل : لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه وقيل : لأنها تترك حتى تدرك ومنه أختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة وعليها فالخمر مصدر يراد به أسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة وذهب الإمامان إلى عدم إشتراط القذف ويكفي الإشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب إحتياطا ثم إطلاق الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان وأبو داؤد والترمذي والنسائي كل مسكرخمر
وأخرج أبو داؤد نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة و الخمر ما خامر العقل وأخرج مسلم عن أبي هريرة الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرم والنخلةوأخرج البخاري عن أنس حرمت الخمر حين حرمت وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل وعامة خمرنا البسر والتمر ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم وتعليم أن ما أسكر حرامكالخمروهو الذي يقتضيه منصب الإرشادلا تعليم اللغات العربيةسيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها وما يقال : إنه مشتق من مخامرة العقل وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم ولا ينافي كون الإسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور ثم هو أسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهروهذا كثير النظير وتوسط بعضهم فقال : إن الخمر حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا وإذا أستعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة والصوم والزكاة في معانيها المعروفة شرعا والخلاف قوى ولقوته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره أكفروا مستحل الأول ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا : إن عين الأول حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه ومن أنكر حرمة العين وقال إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكروكذا قليله ولو قطرةويحد شاربه مطلقا وفي الخبر حرمت الخمر لعينها وفي رواية بعينها قليلها وكثيرها سواء والسكر من كل شراب وقالوا : إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمةلا لرفعها بعد ثبوتهاإلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناءا على أن الحد
(2/112)

بالقليل النيء خاصةوهذا قد طبخوأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخةويسمى الباذقوالمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى وأشتد وقذف بالزبد أو إذا أشتد على الإختلاف وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة : إنه مباح لأنه مشروب طيبوليس بخمرولنا أنه رقيق ملد مطرب ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به وأما نقيع التمر وهو السكروهو النيء من ماء التمرفحرام مكروه وقال شريك : إنه مباح للإمتنان ولا يكون بالمحرم ويرده إجماع الصحابة والآية محمولة على الإبتداء كما أجمع عليه المفسرون وقيل : أراد بها التوبيخ أي أتتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا وأما نقيع الزبيبوهو النيء من ماء الزبيبفحرام إذا أشتد وغلى وفيه خلاف الأوزاعي ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال وإن أشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأول والثاني وعند محمد والشافعي حرام أيضا وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة وذكر إبن وهبان أنه مروى عن الكل ونظم ذلك فقال : وفي عصرنا فأختير حد وأوقعوا طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر وعن كلهم يروى وأفتى محمد بتحريم ما قدقلوهو المحرر وعندي أن الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخد مما عدا العنب كيف كان وبأي أسم سمى متى كان بحيث يسكر من لم يتعوده حراموقليله ككثيرهويحد شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة
وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن النقيعوهو نبيذ العسلفقال : كل شراب أسكر فهو حرام وروى أبو داؤد نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر وصح ما أسكر كثيره فقليله حرام وفي حديث آخر ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام والأحاديث متظافرة على ذلك ولعمري إن إجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها فوق إجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير وقد وضعوا لها أسماءكالعنبرية والإكسيرونحوهما ظنا منهم أن هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمةوهيهات هيهاتالأمر وراء ما يظنون فإنا لله وإنا إليه راجعون نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدمنا لأنها إجتهادية ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل والميسر مصدر ميمي منيسركالموعد والمرجع يقال : يسرته إذا قمرته وإشتقاقه إما مناليسرلأنه أخذ المال بيسر وسهولة أو مناليسارلأنه سلب له وقيل : من يسروا الشيء إذا أقتسموه وسمى المقامرياسرالأنه بسبب ذلك الفعل يجزيء لحم الجزور وقال الواحدي : من يسر الشيء إذا وجب والياسر الواجب بسبب القدح وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلي والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤنها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة وهو المنيح والسفيح والوغد للفذ سهم وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابةوهي خريطةويضعونها على يدي عدل ثم
(2/113)

يجلجلها ويدخل يده فيخرج بأسم رجل رجل قدحا منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر الوغدفي الأسماء بل ذكر غيره والذي أعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال : كل سهام الياسرين عشره فأودعوها صحفا منشره لها فروض ولها نصيب الفذ والتوأم والرقيب والحلس يتلوهن ثم النافس وبعده مسبلهن السادس ثم المعلى كأسمه المعلى صاحبه في الياسرين الأعلى والوغد والسفيح والمنيح غفل فما فيما يرى ربيح وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان وعن إبن سيرينكل شيء فيه خطر فهو من الميسرومعنى الآية يسألونك عما في تعاطي هذين الأمرين ودل على التقدير بقوله تعالى : قل فيهما إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إثم كبير من حيث إن تناولهما مؤد إلى ما يوجب الإثموهو ترك المأمور وفعل المحظور ومنافع للناس من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف وهي باقية قبل التحريم وبعده وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل وخبر ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرم عليها لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى وإثمهما أكبر من نفعهما أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان وإذا كانت عدوة للإشراف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمى عقلا لأنه يعقلأي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعهفإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفهاوهو الطبعفأرتكبها وأكثر منها وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله ذكر إبن أبي الدنيا أنه أمر بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيأة المتوضيء ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم ومنها صدها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب ومنها أن الإنسان إذا ألفها أشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الإستقامة لكفى فإنه إذا أختل العقل حصلت الخبائث بأسرها ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم : أجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا ومن مفاسد الميسر أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا
(2/114)

من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وإرتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة أقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الأخبار بأن فيها الإثم الكبير والإثم إما العقاب أو سببه وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة : إذ للقائل أن يقول : الإثم بمعنى المفسدة وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها وقالوا : إنما نشرب ما ينفعنا ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقريء إثم كثير بالمثلثة وفي تقديم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى وقرأ أبيوإثمهما أقرب من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون أخرج إبن إسحاق عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه وأخرج إبن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله فقالا : يارسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي معطوفة على يسئلونك قبلها عطف القصة على القصة وقيل : نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفيبة الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسئلونك عن صفة ما ينفقونه قل العفو أي صفته أن يكون عفوا فكلمة ما للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد فيقال كريم إلا أنه قليل في الإستعمال وأصل العفو نقيض الجهد ولذا يقالللأرض الممهدة السهلة الوطءعفو والمراد به ما لا يتبين في الأموال وفي رواية عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال وعن الحسن ما لا يجهد أخرج الشيخان وأبو داؤد والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وأبدأ بمن تعول وأخرج إبن خزيمة عنه أيضا أنه قال : قال رسول الله : خير الصدقة ما أبقت غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وأبدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق علي أو طلقني ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني ويقول ولدك إلى من تكلني وأخرج إبن سعد عن جابر قال : قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال : يارسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال : يأتي أحدكم بما يملك فيقول : هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وأبدأ بمن تعول
وقرأ ابو عمر وبالرفع بتقدير المبتدأ على أن ماذا ينفقون مبتدأ وخبر والباقون بالنصب بتقدير الفعل وماذا مفعول ينفقون ليطابق الجواب السؤال كذلك يبين الله لكم الآيات أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للبان وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه : قل العفو وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه
(2/115)

معنى متقدم الذكر ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه : يسئلونك ماذا ينفقون إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه : وإثمهما اكبر من نفعهما على ما فيه لا يخفى بعده والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف واللام في الآيات للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقالكذلكمعلى طبق لكم لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة أو الجمع مما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب بأسم الإشارة وقيل : إن الإفراد للأيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى : ثم عفونا عنكم من بعد ذلك وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضى لعلكم تتفكرون 912 أي في الآيات فتسنتنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات في الدنيا والآخرة أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب تتفكرون بعد تقييده بالإول وقيل : يجوز أن يتعلق ب يبين أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون وقدم التفكر للإهتمام وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المرادلعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرةوفي التكرار ركاكة وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه ومن الناس من لم يقدرليتفكرونمتعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن
(2/116)

ويسئلونك عن اليتامى عطف على ما قبله من نظيره أخرج أبو داؤد والنسائي وإبن جرير وجماعة عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وإن الذين يأكلون أموال اليتامى اةية أنطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به فأشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت والمعنى يسئلونك عن القيام بأمر اليتامى أو التصرف في أموالهم أو عن أمرهم وكيف يكونون معهمقل إصلاح لهم خير أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم وفي الإحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه وإن تخالطوهم فإخوانكم عطف على سابقه والمقصود الحث على المخالطة المشروطة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين وبذلك قرأ إبن عباس رضي الله تعالى عنه وأخرج عبد بن حميد عنه المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته وأختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة وأيد بما نقله الزجاج أنهم كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم
(2/0)

فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى : فإخوانكم ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل : المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والإنتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة والله يعلم المفسد في أمورهم بالمخالطة من المصلح لها بها فيجازي كلا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم وقدم المفسد إهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد وقيل : للإستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا وكلمة من للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها ولو شاء الله لأعنتكم أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاقاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهوأصل الأعنات الحمل على مشقة لا تطلق ثقلا ويقال : عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى إن الله عزيز غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم حكيم 022 فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبالكنه لم يشأ لكونه حكيما وفي الآيةكما قال الكيادليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح وفيها دلالة على جواز الإجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الإجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن روى الواحدي وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غنى يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به أمرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت : ويحك يامرثد ألا تخلو فقال لها : إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت : نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله أستأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له : أبي تتبرم ثم أستعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا ثم خلوا سبيله فلما قضى
(2/117)

حاجته بمكة أنصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقى بسببها فقال : يارسول الله أيحل أن أتزوجهوفي روايةأنها تعجبني فنزلت وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة وروى السدي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبدالله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم أنه فزع فأتى البي صلى الله تعاللى ليه سلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ما هي يا عبدالله فقال : هي يارسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال ياعبدالله هي مؤمنة قال عبدالله فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقتها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا : أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى ولا تنكحوا الآية وقريء بفتحالتاءوبضمنها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أولا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين و ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين والعطف يقتضي المغايرة وأخرج إبن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب وعن حماد قال : سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال : لا بأس به فقلت : أليس الله تعالى يقول : ولا تنكحوا المشركات فقال : إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل : لأن من جخد نبوة نبينا عليه الصلاة و السلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله : وقالت اليهود عزير إبن الله وقالت النصارى المسيح إبن الله إلى قوله سبحانه : عما يشركون وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم الله تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية وجعلوا آية المائدة والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي الإتقان ومن المائدة قوله تعالى : ولا الشهر الحرام منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى : فإن جاؤك فأحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله سبحانه : وأن أحكم بينهم بما أنزل الله وقوله تعالى : وآخران من غيركم منسوخ بقوله عز شأنه : وأشهدوا ذوي عدل منكم والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر فقد أخرج أبو داؤد في ناسخه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ولا تنكحوا المشركات نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهن للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ ومبني الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ عندنا ولأمة مؤمنة خير من مشركة تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الإبتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الإنزجار وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله :
(2/118)

أما الإماء فلا يدعونني ولدا إذا تداعى بنو الأموان بالعار وظهورها في المصدر يقال : هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموة وهل وزنها فعلةبسكون العينأو فعلةبفتحا قولان أختار الأكثرون ثانيهما وتجمع على آم وهو في الإستعمال دون إماء وأصله أأمو بهمزتينالأولى مفتوحة زائدة والثانية ساكنة هي فاء الكلمة فوقعتالواوطرفا مضموما ما قبلها في أسم معرب ولا نظير له فقلبت ياءا والضمة قبلها كسرة لتصح الياءفصار الإسم من قبيلغاز وقاضثم ثبتالهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة فصارأ آم وإعرابه كقاض والظاهر أن المراد بالأمةما تقابل الحرة وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرة مشركة ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة عل المشركة مطلقاولو حرةويعلم منه تفضيل الحرة عليها بالطريق الأولىثم إن التفضيل يقتضي أن في الشركة خيرا فإما أن يراد بالخير الإنتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما أؤ يكون على حد أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وقيل : المرادبالأمةالمر حرة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيداله تعالى وإماؤه ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بد من تقدير الموصوف في مشركة فإن قدر أمة بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة وإن قدر حرة أو أمرأة كان خلاف الظاهر والمذكور في سبب النزول التزوجبالأمةبعد عتقها و الأمة بعد العتق حرة ولا يطلق عليها أمة بإعتبار مجاز الكون والحق أن الأمة بمعنىالرقيقةكما هو المتبادر وأن الموصوف المقدر ل مشركة عاموكونه خلاف الظاهرخلاف الظاهر
وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام ولعل إرتكاب ذلك آخرا أهون من إرتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماءوما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليهوقد قيل فيه : إن عبدالله نكح أمةإن حقا وإن كذبافالمعنى ولأمة مؤمنة مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر خير مما أتصفت بالشرك مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن ولو أعجبتكم لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها أخرج سعيد بن منصور وإبن ماجه عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن وأنكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فأظفر بذات الدين تربت يداك والواو للحالولو لمجرد الفرضمجردة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفرضوا إعجابها لكن بالحسن ونحوه وقال الجرمي : الواو للعطف على مقدر أي لم تعجبكم ولو أعجبتكم وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة وقال الرضي : إنها إعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير وأستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح الأمة المؤمنة مع وجود طول الحرة وإعتراضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرة المشركة لأن العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح الأمة فقيل لهم : إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولىوفيه تأملوفي البحر أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح الأمة الكافرة
(2/119)

كتابية أو غيرها وأما وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانتالمؤمنة أمةأو حرة ف تنكحوا بضم التاء لا غير ولا يمكن الفتحوإلا لوجبولا ينكحن المشركين وأستدل بها على إعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين منه وكل المسلمين أولياء في ذلك ولعبد مؤمن مع ما فيه من ذل المملوكية
خير من مشرك مع ما ينسب إليه من عز المالكية ولو أعجبتكم بما فيه من دواعي الرغبة أولئك أي المذكورون من المشركين والمشركات يدعون إلى النار أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم فإن قيل : كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين أجيب بان المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويتجنب عما فيه الإحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدي إلى النار وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلكقاله بعض المحققينوالجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات والله يدعو بواسطة المؤمنين من يقاربهم إلى الجنة والمغفرة أي إلى الإعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الجنة على المغفرة مع قولهم : التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار إبتداءا بإذنه متعلق ب يدعو أي يدعو إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير فهم أحقاء بالمواصلة ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون 122 لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناءا على أن معرفة الله تعالى مركوزة في العقول والجملة تذييل للنصح والإرشاد والواو إعتراضية أو عاطفة وفصلت الآية السابقة ب يتفكرون لأنها كانت لبيان الاحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر وهذه الآية ب يتذكرون لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الجنة و النار التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر
ومن الناس من قدر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم وأعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه : بإذنه بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى بإذنه ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر الإذن وأمر التكفيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائركما في الكشف ولا يخفى ما فيهوعلى العلات هو أولى مما قيل : إن المراد والله يدعو على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لإتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين أولئك يدعون إلى النار وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى ويسئلونك عن المحيض أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داؤد والترمذي والنسائي وإبن ماجه وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم أن اليهود كانوا إذا
(2/120)

حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت فسئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية فقال : جامعوهن في البيوت وأصنعوا كل شيء إلا النكاح وعن السديإن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله تعالى عنهوالجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح وهو حكم النكاح في الحيض ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي وهو وقت السؤال عن الخمر والميسر فكأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا : وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ولم يقصد الجمع بينهما بل الأخبار عن كل واحد على حدة فلهذا لم يورد الواو بينها وقال صاحب الإنتصاف في بيان العطف والترك : إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم وإن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفة ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة بإعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الإنفاق وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على إعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من إعتزال اليتامى وإذا أعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشهر الحرام والثالث عن الخمر والميسر وبينها من التباين والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز
ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر والمحيض كما قال الزجاج : وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال : حاض السيل وفاض قال الأزهري : ومنه قيل : للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد وقيل : إنه هنا أسم مكان ونسب إلى إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكى الواحدي عن إبن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل وحاض يحيض فأسم المكان منه مكسور والمصدر منه مفتوح وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل إن الكسر والفتح جائزان في أسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان وأختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى : قل هو أذى أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى إعتبار الزمان في قوله سبحانه :
(2/121)

فأعتزلوا النسآء في المحيض
لركاكة قولنا فأعتزلوا في موضع الحيض وإن أختاره الإمام وقال : إن المعنىأعتزلوا مواضع الحيض والأذىمصدر من أذاه يؤذيه إذا وإذءا ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة وأستعمل فيه بطريق الكناية والمراد من إعتزال النساء إجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا وقد يقال لا وضع وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى إعتباره فيما أشرنا
(2/0)

إلى عدم إعتباره لضعف النسبة وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للأشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس
ولا تقربوهن حتى يطهرن تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالإعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر وفيه بيان لغايته فإن تقييد الإعتزال بقوله سبحانه وتعالى : في المحيض وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت ويفهم منه عقلا إنقطاعها بعده ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف حتى يطهرن والغاية إنقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان الإنقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الإنقطاع وإن كان لأقل منها لم يحل إلا بالإغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة وعند الشافعية هي الإغتسال بعد الإنقطاع قالوا : ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية إبن عياش يطهرن بالتشديد أي يتطهرن والمراد به يغتسلن لا لأن الإغتسال معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم لأن إستعماله فيما عدا الإغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبعبل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الإغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الإغتسال والأصل في القرءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الإغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة أنقطع دمها وأغتسلت من الحيض كتطهرت وأيضا قوله تعالى : فإذا تطهرن فأتوهن يدل إلتزاما على أن الغاية هي الإغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل فهو يقوى كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الإنقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الإغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في إنقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة وقراءة التشديد من التطهر ويستفاد منه الإغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في الكشف : إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة وبالتخفيف لبيان الناقصة وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة وبيانه أن الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا والناقصة ما تكون غاية بإعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فإنقطاع الدم غاية للحرمة بإعتبار آخره فيكون وقت الإنقطاع داخلا فيها والإغتسال غاية لها بإعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الإنقطاع مما بعده ولما رأى ساداتنا الحنفية أن ههنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدي الأولى إنتهاء الحرمة العارضة على الحل بإنقطاع الدم مطلقا فإذا أنتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وإن مؤدي الثانية عدم إنتهائها عنده بل بعد الإغتسال ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الإغتسال لغة بل معناه فيها إنقطاع الدم وهو المروي عن إبن عباس ومجاهد وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت وفي شمس العلو أم أمرأة طاهر بغيرهاءإنقطع دمها وفي الأساس أمرأة طاهر ونساء طواهر طهرن من الحيض ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز أن يكون بيانا للإستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الإغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح وإعتبار فإذا تطهرن فأتوهن قرينة بناءا على ماذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه
(2/122)

الدلالة من الإقتضاء فيه بحث لأنالفاءالداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه إبن هشام في المعنى ومثل له بقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فأتبعوني ولو سلم فاللازم تأخر جواز الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر أحتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الإنقطاع بأكثر المدة والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجر في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الإنقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها طاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالإتفاق بقى أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضى أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا وإعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الإنقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير والإحتياط لا يخفى وحكى عن الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أمرأة سألت رسول الله عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال : خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت : كيف أتطهر بها قال : تطهري بها قالت : كيف قال : سبحان الله تطهري بها فأجتذبتها فقلت : تتبعي بها أثر الدم وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الإتيانوإليه ذهب الإماميةولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى الله تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال وأستدل بالآية على أنه لا يحرم الإستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه إبن جرير ما يحل للرجل من أمرأته إذا كانت حائضا قالت : كل شيء إلا الجماع وذهب جماعة إلى حرمة الإستمتاع بما بين السرة والركبة إستدلالا بما أخرجه مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ماذا يحل لي من أمرأتي وهي حائض فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم : لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد إذا حللتم فأصطادوا ففيها إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه : من حيث أمركم الله أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله إبن عباس ومجاهد وقتادة والربيع وقال الزجاج : معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت
(2/123)

فيأظهر فيه منمنلأن الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن ولعله في حيز المنع عند أهل القول الأول إن الله يحب التوابين مما عسى يندر منهم من إرتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر والمستدعي عقاب الله تعالى فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي قال : من أتى حائضا فقد كفر كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : يارسول الله أصبت أمرأتي وهي حائض فأمره رسول الله أن يعتق نسمة وقيمة النسمة حينئذ دينار وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار ويحب المتطهرين 222 أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في الأساس وشمس العلوم وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم نساؤكم حرث لكم أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال : كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل أمرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون وقال الجوهري : الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر فأتوا حرثكم أي ما هو كالحرث ففيه إستعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم المحارث في عدم الإختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى فأتوهن من حيث أمركم الله لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق والفاء جزائية وما قبلها علة لما بعدها وقدم عليه إهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معلالا فيكون أوقع ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الإخبار جائز بعاطف سوى الواو أنى شئتم قال قتادة والربيع من أين شئتم وقال مجاهد : كيف شئتم وقال الضحاك : متى شئتم ومجيء أنى بمعنىأين وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير وتلزمها على الأولمن ظاهرة أو مقدرة وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه وأختار بعض المحققين كونها هنا بمعزل بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الإدبار ناشيء من عدم التدبر في أنمنلازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كإبن عمر والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة والروايات عنه بخلافها على خلافها وكإبن أبي مليكة وعبدالله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه : ما أدركت أحدا أفتدى به في ديني يشك في أنه حلال وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له :
(2/124)

الساعة غسلت رأس ذكري منه وكبعض الأمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم وكسحنون من المالكية والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به وياليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الإحتمال كيف ينتهض الإستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الإعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه وهو يقتضي وجوب الإعتزال عن الإتيان في الإدبار لإشتراك العلة ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الإستحاضة ومن قاس فقد أخطأت أسته الحفرة لظهور الإتسقذار والنفرة مما في المحاش دون دم الإستحاضة وهو دم إنفجار العرق كدم الجرح وعلى فرض تسليم أن أنى تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج إبن جرير وإبن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند إبن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال : ألا تشفيني من آية المحيض قال : بلى فقرأ ويسئلونك عن المحيض إلى فأتوهن من حيث أمركم الله فقال إبن عباس : من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال : كيف بالآية نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم فقال : ويحك وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من ههنا جئت من ههنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار وما قيل من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الإعكان لأنه ليست موضع حرث كالمحاش مدفوع بأن الأمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الإستمناء فحرمة الإستمناء بين الساقين وفي الإعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاءا وجماعا وأنى به ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي والإمام محمد بن الحسن فقد أخرج الحاكم عن عبدالحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فأحتج عليه إبن الحسن بأن الحرث إنما يكون في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فألتزمه فقال : ازايت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو في ذلك حرث قال : لا قال : أفيحرم قال : لا قال : فكيف تحتج مما لا تقول به وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك : ما صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الإخبار أو ظهر له من الآية وقدموا لأنفسكم ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا مات الإنسان إنقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى وأتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه
وأعلموا أنكم ملاقوه بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى : فأتوا حرثكم وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون
(2/125)

المعطوف عليها كذلك وبشر المؤمنين 322 الذين تلقوا ما خوطبوا به بالقبول والإمتثال بما لا تحيط به عبارة من الكرامة والنعيم وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناءا على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف وبشر عطف على قل المذكور سابقا أو على قل مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة ومن باب الإشارة يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر إحتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما لأن فوات الوصال في حضائر الجمال لا يقابله شيء ولا يقوم مقامهوصال سعدي ولا ميولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار : وأسكر القوم ورود كأس وكان سكرى من المدير وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان : وما مل ساقيها ولا مل شارب عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا ويسألونك ماذا بنفقون قل العفو وهو ما سوى الحق من الكونين كذلك يبين الله لكم الآيات المنزلة من سماء الأرواح لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك ويسألونك عن المحيض وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية قل هو أذى تنفر القلوب الصافية عنه فأعتزلوا بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس وإضمحلال هواها إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إرادتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها وأتقوا الله من النظر إلى ما سواه وأعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا أتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أخرج إبن جرير عن إبن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح بن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها وقال الكلبي : نزلت في عبدالله بمن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين أمرأته بعد ان كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك ونصبه
(2/126)

له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتوه من أنوا الخير فيكون المراد بالإيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالإيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمى المفعول بالمصدر كما في قوله فيما أخرجه مسلم وغيره : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير وقيل : على في الحديث زائدة لتضمن معنى الإستعلاء وقوله تعالى أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس عطف بيان لإيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر وقيل : بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وههنا ليس كذلك واللام صلة عرضة وفيها معنى الإعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المآل واحدا وجوز أن تكون الإيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة والمعنى لا تجعلوا الله تعالى : حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجتريء على الله تعالى والمجتريء عليه بمعزل عن الإتصاف بتلك الصفات ويؤل إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان أن تبروا في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناءا على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل : كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف والله سميع لأقوالكم وأيمانكم عليم 422 بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن إبتذال أسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون أسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها لا يؤخذاكم الله باللغو في أيمانكم اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سيق له اللسان وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد وهو المروى عن عائشة وإبن عمر وغيرهما في أكثر الروايات والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان
ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم أي بما قصدتم من الإيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة من قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يواخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين إلخ بناءا على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموض لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه : بما عقدتم الإيمان فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب ويحتمل ربط الشيء بالشيء والكسب مفسر ومن القواعد حمل المجمل على المفسر وإذا حمل عليه شمل الغموس وكان اللغو
(2/127)

ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بإحداهما فيما فيه قصد وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناءا على إتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار وأيد العموم بما أخرجه إبن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال : أصبت والله أخطأت والله فقال الذي معه : حنث الرجل يارسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق وحمل المؤاخذة على الأخروية بناءا على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق ومما لا قصد فيه أصلاوفيه وفاق الشافعيوحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها : فكفارته إلخ وقوله تعالى : بما عقدتم على المعقودة لأن المتبادر منالعقدربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في المعقودة فالمراد باللغو في تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيويةبالكفارةعلى غير المعقودة وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرةكما علم من آية البقرةوالحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليهفلا تدافع بين الآيتين عنده أيضالأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخدة الأخروية في الغموس ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه ومن هذا يعلم أن ما فيالهدايةوشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال : إن الأيمان على ثلاثة أضرب يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظنكما قالوالأمر بخلافه وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيرهليس بشيءلو كان المقصود بما في التفسير الحصر لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون ما كسبت مقابلا للغو من غير واسطة بينهما وبقصد الحصر يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الإسم ولا الرسم وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من الناس
(2/128)

وذهب مسروق إلى أن اللغو هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروى عن إبن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها
وأخرج إبن أبي حاتم عن إبن عباس قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول : مالي على حرام إن فعلت كذا مثلاوبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة وأخرج إبن جرير عن زيد بن أسلم قال : هو كقول الرجل : أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكقوله : هو مشرك هو كافر إن لم يفعل كذا فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه وقيل : لغو اليمين يمين المكرهحكاه إبن الفرس ولم ير مسنداهذا ولم يعطف قوله تعالى :
(2/0)

لا يؤاخذكم الآية على ما قبله لإختلافها خبرا وإنشاءا وإن كانا متشاركين في كون كل منهما بيانا لحكم الإيمان والله غفور حث لم يؤاخذكم باللغو حليم 522 حيث لم يجعل بالمؤاخذة على يمين الجد والجملة تذييل للجملتين السابقتين وفائدته الإمتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم والحليم من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب وأصل الحلم الإناة وأما حلم الأديمفبالكسر يحلم بالفتحإذا فسد وأما حلم أي رأى في نومهفبالفتحومصدر الأولالحلمبالكسر ومصدر الثانيالحلم بفتح اللارم ومصدر الثالث الحلم بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها للذين يؤلون من نسائهم الإيلاءكما قال الراغبالحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى : لا يألونكم خبالا أي باطلا ولا يأتل أولوا الفضل منكم وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة ف يؤلون أي يحلفون و من نسائهم على حذف المضاف أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة وعدى القسم على المجامعة ب من لتضمنه معنى البعد فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين وقيل : إن هذا الفعل يتعدى م من وعلى ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب من وقيل : بها بمعنى على وقيل : بمعنى في وقيل : زائدة وجوز جعل الجار ظرفا مستقرا أي أستقر لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر وقرأ ألوا من نسائهم وفي مصحف أبي للذين يقسمون وهو المروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهماوالتربص الإنتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الإتساعوإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرفعلى ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد والجملةعلى التقديرينبمنزلة الإستثناء من قوله سبحانه ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم فإنالإيلاءلكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيهاالمؤاخذةبهما أو بأحذهما عند الشافعيوالمؤاخذةالأخروي عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فكأنه قيل : إلا الإيلاء فإن حكمه غير ما ذكر ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها وبعد أن ذكر سبحانه وتعالىإن للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهربين حكمه بقوله تعالى جل شأنه : فإن فاؤا أي رجعوا في المدة فإن الله غفور رحيم 622 لما حدث منهم من اليمين على الظلم وعقد القلب على ذلك الحنث أو بسبب الفيئة والكفارة ويؤيده قراىة إبن مسعود فإن فاؤا فيهن وإن عزموا الطلاق أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا وأستمروا على الإيلاء فإن الله سميع لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضى العدة عليم 722 بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم وهذا ما حمل علي الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا : الإيلاء من المرأة أن يقول : والله لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا عل ىالتقييد بالأشهر أو لا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وإبن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها وحكمه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على العاجز وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج
(2/129)

أو الحكم وقالت الشافعية : لا إيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر فلو قال : والله لا أقربك أربعة أشهر لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان إن حنث كفر وإن بر فلا شيء عليه وللمولى التلبث في هذه المدة فلا يطالب بفيء ولا طلاق فإن فاء في اليمين بالحنث فإن الله غفور رحيم للمولى إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وإن عزم الطلاق فإن الله سميع لطلاقه عليم بنيته وإذا مضت المدة ولم يفيء ولم يطلق طولب بأحد الأمرين فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم وأيد كون مدته أكثر من أربعة أشهر بأنالفاءفي الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاءا شرعا لإنتفاء حكمهوبذلك أعترضوا على الحنفيةوأعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدة لزم وقوع الطلاق من غير موقع وإن النص يشير إلى أنه مسموع فلو بانت من غير طلاق لا يكون ههنا شيء مسموع وأجيب عن الأول بأنالفاءللتعقيب في الذكر وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما أستمروا عليه من الظلم أو الإيلاء الدي صار طلاقا بائنا بالمضي وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى : فإن عزموا الطلاق حيث أكتفى بمجرد العزم بخلاف ا قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير وبعده لا يحتاج إلى عزموا او يحتاج إلى جعل عزم الطلاق كناية عنه فما قيل : من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال : الإيلاء آن إيلاء في الغضب وإيلاء في الرضا فأما الإيلاء في الغضب فإذا مضت أربعة أشهر فقد بانت منه وأما ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به وأخرج عبدالرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال : أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال : إني حلفت أن لا آتي أمرأتي سنتين فقال : ما أراك إلا قد آليت قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي قال فلا إذا وروى عن إبراهيم ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى فإن فاؤا وإنما الفيء من الغضب وروى ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر وبأي يمين كان ومن غير الدخول بها والصغيرة والخصى وأن العبد تضرب له الأربعة أشهر كالحر وأستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولى على أن من ترك الوطء ضرارا بلا يمين لا يلزمه شيء وما روى عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر أمرأته : إياك ياخالد وطول الهجر فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولى من الأجل محمول على إرادة العطف وللتحذير من التشبه بالإيلاء
والمطلقات أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل وأن عدة الأمة قرآن أو شهرانفألليست للإستغراق لأنه ههنا متعذر لما بين فتحمل على الجنس كما فيلا أتزوج النساءويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابقولا عموم ههناوقال الشافعية : إن المطلقات عام وقد خص البعض بكلام مستقل غير موصول وأعترضه الإمام بأن التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي
(2/130)

تحت العام أكثر وههنا ليس كذلك وليس بشيء لآنه مما لا شاهد له فإن المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم
يتربصن أي ينتظرن وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل وقيل : إن الجملة الأسمية خبرية بمعنى الأمر أي ليتربص المطلقات ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب إحتمال عقلي والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى إمتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبدالقاهر والسكاكي وقيدالتربص هنا بقوله سبحانه وتعالى : بأنفسهن وتركه في قوله تعالى : تربص أربعة أشهر لتحريض النساء علىالتربصلأن الباءللتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الإنتظار وفيه إشعار بكونهن ماثلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها بالتربصالأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم إستنكاف منه فذكرالأنفسفيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثلاثة قروء نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدة والمفعول به محذوف لأنالتربصمتعد قال تعالى : ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله أي يتربصن التزوج وفي حذفه إشعار بأنهن يتركن التزوج في هذه المدة بحيث لا يتلفظن بهوجوز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يتربصن مضيهاوالقرؤجمع قرءبالفتح والضموالأول أفصح وهو يطلق للحيض لما أخرج النسائي وأبو داؤد والدار قطني أن فاطمة إبنة أبي حبيش قالت : يا رسول الله إني إمرأة أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لا دعي الصلاة أيام أقرائك ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى : أفي كل عام أنت جاشم غزوة تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قرؤ نسائكا أي أطهارهن لأنها وقت الإستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الإنتقال من الطهر إلى الحيض لإستلزامه كل واحد منهما والدليل على ذلك كما قال الراغب : إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي أستمر لها الدم لا يقال لها ذلك أضا والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الإنتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وإبن عمر وريد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض وأستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعروف لبراءة الرحم هو الإنتقال إلى الحيض لأنه يدل على إنفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب إنسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الإنتقال من الحيض إلى الطهر يدل على إنسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم إنسداده وأما الثاني فقوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة
وأقم الصلاة لدلوك الشمس فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق
(2/131)

في الحيض غير مشروع لما أخرج الشيخان إن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالإطهار وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروى عن إبن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجمع غفير وكون الإنتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن إعتبار المعرف أولى من إعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضى إن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للإختصاص الذي هو أصلها والإختصاص ههنا على ثلاثة أضرب : إما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو أختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت فمع الإطلاق يكون الإختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله إنتهى وفيما نحن فيه بقرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر ووقع السهم بقبل الهدف وبدبرهوقد قميصه من قبل ودبرأي من مقدمه ومؤخره ويقال : أنزل بقبل هذا الجبلأي بسفحهفمعنى في قبل عدتهن في مقدم عدتهن وأمامهاكما يقتضيه ظاهر الأمثلةوما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا وعلى تسليم عدم الرجوع يرجع المقدم على الأول بالتبادر وكثرة الإستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أنالعدةهي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر ولا يقوم عليه دليل فإن اللامفي يطلق لها النساء كاللام في لعدتهن يجوز أن تكون بمعنىفيوأن تكون بمعنى قبلفيجوز أن يكون المشار إليه الحيض وأنث أسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإن الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات والمعنى فتلك الحيض العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساءلا أن يطلق فيها النساءكما يفهمه إبن عمر وأوقع الطلاق فيه وقول الخطابي : الأقراء التي تعتد بها المطلقة الأطهار لأنه ذكر فتلك العدة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أن الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأول بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني وأن لا يكون الرجعة لغرض الطلاق فقط وأن يكون كالتوبة عن المعصية بإستبدال حاله وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيدهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع وأما الإستدلال على أن القرء الحيض فهو ما أخرجه أبو داؤد والترمذي وإبن ماجه والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتانفصرح بأن عدة الأمة حيضتان ومعلوم أن الفرق بين الحرة والأمة بإعتبار مقدار العدة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى : ثلاثة قرؤ للإجمال الكائن بالإشتراك بيانا وكونه لا يقاوم ما أخرجه
(2/132)

الشيخان في قصة إبن عمر رضي تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعي وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر فإن إبن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه إبن حبان وقال الحاكم : ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته : حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وغيرهم وفي الدارقطني قال القاسم وسالم : وعمل به المسلمون وقال مالك : شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح ومن أصحابنا من أستدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشيء من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا أعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الإنتقال من الطهر إلى الحيض أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين والإنتقال المذكور أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة أسما لعدد كامل غير مسلم والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو إبن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع أسم العدد الكامل ومن الشافعية من جعل القرء أسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل قالوا : والإشتقاق مرشد إلى معنى الضم والإجتماع وهذا الطهر يحصل فيه إجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء وأطالوا الكلام في ذلكوالإمامية وافقوهم فيه وأستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم وأستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا
هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لإختياره ههنا أن المراد بالمطلقات ههنا جميع المطلقات ذوات الإقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق الشعرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الإقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما أستعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال إبن عمر : الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض : قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني إستعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق والحسن ومجاهد وغيرهم والقولبأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنهفلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن إبن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الإتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل : إن الكلام في المطلقات ذوات الإقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكى عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام
(2/133)

وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي إعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع وأستدل بالآية على أن قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن قال إبن الفرس : وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب لأن كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه وفيه تأمل إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر شرط لقوله تعالى : لا يحل لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات حل لهن الكتمانبل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهن وهذه طريقة متعارفة يقال : إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك وقيل : إنه شرط جزاؤه محذوفأي فلا يكتمنوقوله سبحانه : لا يحل علة له أقيم مقامه وتقدير الكلام إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن وفيه أن لا يكتمن المقدر إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى وبعولتهن أي أزواج المطلقات جمعبعلكعم وعمومة وفحل وفحولةوالهاءزائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة والأمثلة سماعية لا قياسية ولا يقال : كعب وكعوبة قاله الزجاح وفي القاموس البعلالزوج والأنثىبعل وبعلةوالرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقي بماء المطر وقال الراغب البعل النخل الشارب بعروقه عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص وقيل : باعلها جامعها وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح ففي إختيار لفظالبعولةإشارة إلى أن أصل الرجعة بالمجامعة وجوز أن يكونالبعولةمصدرا نعت به من قولك : بعل حسن البعولةأي العشرة مع الزوجةأو أقيم مقام المضاف المحذوف أي وأهل بعولتهن أحق بردهن إلى النكاح والرجعة إليهن وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها فالضميربعد إعتبار القيدأخص من المرجوع إليه ولا إمتناع فيه كما إذا كرر الظاهر وقيل : بعولة المطلقات أحق بردهن وخصص بالرجعي و أحق ههنا بمعنىحقيقعبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة كأنه قيل : للبعولة حق الرجعة أي حق محبوب عندالله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض ولذا ورد للتنفير عنه أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى وقرأ أبي بردتهن في ذلك أي زمانالتربصوهو متعلق ب أحق 9 أو بردهن إن أرادوا إصلاحا أي إن أراد البعولة بالرجعة إصلاحا لما بينهم وبينهن ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدة عليهن مثلا وليس المراد من التعليق إشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفى بإنتفائه ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف فيه صنعة الإحتباك ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني وفي الثاني بقرينة الأول كأنه قيل : ولهن عليهم مثل الذي لهم عليهن والمرادبالمماثلةالمماث في الوجوب لأ في جنس الفعلفلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك ولكن يقابله بما يليق بالرجال أخرج الترمذي وصححه والنسائي وإبن ماجه
(2/134)

عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : ألا إن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتنه وطعامهن وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي لأن الله تعالى يقول : ولهن الآية وجعلوا مما يجب لهن عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر وقيل : صفة ل مثل وهي لا تتعرف بالإضافة وللرجال عليهن درجة زيادة في الحق لأن حقوقهم في أنفسهن فقد ورد أن النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحراس لهن يشاركوهن في غرض الزواج من التلذذ وإنتظام مصالح المعاش ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن والدرجةفي الأصلالمرقاةويقال فيها : درجة كهمزة وقال الراغب الدرجةنحو المنزلة لكن تقال إذا أعتبرت بالصعود دون الإمتداد على البسيطكدرجة السطح والسلمويعبر بها عن المنزلة الرفيعة ومنه الآية فهي على التوجيهن مجاز وفي الكشف إن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من درج الصبي إذا حباوكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهماوالدرجةالتي يرتقى عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالإنحدار والمشي على مستو فلا بد من تدرج والدرجالمواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا ومنه التدرج في الأمور والإستدراج من الله والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الإنحدار والرجال جمع رجل وأصل الباب القوة والغلبة وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكرالرجوليةالتي بها ظهرت المزية للرجال على النساء والله عزيز غالب لا يعجزه الإنتقام ممن خالف الأحكام حكيم 822 عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها والجملة تذييل للترهيب والترغيب
الطلاق مرتان إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجلكالسلام بمعنى التسليملأنه الموصوف بالوحدة والتعدد دون ما هو وصف المرأة ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى : فإمساك بمعروف أي بالرجعة وحسن المعاشرة أو تسريح بإحسان أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين أو يطلقها الثالثةوهو المأثورفقد أخرج أبو داؤد وجماعة عن أبي رزين الأسدي أن رجلا قال : يارسول اللهصلى الله تعالى عليه وسلمإني أسمع الله تعالى يقول الطلاق مرتان فأين الثالثة فقال : التسريح بإحسان هو الثالثة وهذا يدل على أن معنى مرتان إثنتان ويؤيد العهدكالفاءفي الشق الأول فإن ظاهرها التعقيب بلا مهلة وحكم الشيء يعقبه بلا فصل وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية ولعله أليق بالنظم حيث قد أنجز ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق ثم أنجز ذلك إلى ذكر حكم المطلقات من العدة والرجعة ثم أنجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة ثم أنجر ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثةوأوفق بسبب النزولفقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم عن عروة قال : كان الرجل إذا طلق أمرأته ثم أرتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها
(2/135)

ألف مرة فعمد رجل إلى أمرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت إنقضاء عدتها أرتجعها ثم طلقها ثم قال : والله لا آويك إلي ولا تخلين أبدا فأنزل الله تعالى الآية والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم وأستدلوا عليه بأنعويمرا العجلانيلما لاعن أمرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليهرواه الشيخانفلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية ومع إعتقادها يحرم الجمع عند المخالف ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون وقال ساداتنا الحنفية : إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة وإنما السنة التفريق لما روى في حديث إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له : إنما السنة أن تستقبل الطهر إستقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدينأعني ما لا يستوجب عقاباوقد حصره عليه الصلاة و السلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع والطلاق في الحيض بدعةأي موجب لإستحقاق العقابوبهذا يندفع ما قيل : إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة وأما إنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى وفي الهداية وقال الشافعي : كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع حتى يستفاد به الحكمالمشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرم تطويل العدة عليها لا الطلاقولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث وهي في المفرق علىالإطهارثابتة نظرا إلى دليلها والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيرهوهو ما ذكرناهإنتهى ومنه يعلم أن المخالف معمملا مقسموإذا قلنا إنه مقسم بناءا على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الإقراء أو الأشهر وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم غير تقسيمه وأجيب عما في خبر عويمر بأنها واقعة حالفلعلها من المستثنياتلما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه : فإمساك بمعروف تكرارا إلا أن يقال المطلوب ههنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكر يردون التثنية على حد ثم أرجع البصر كرتين أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر وكذا إخراجالفاء أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل الفاءحينئذ على الترتيب الذكريأي إذا علمتم كيفية الطلاق فأعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح
(2/136)

فالإمساك في الرجعي والتسريح في غيره وإذا كان معنىمرتينالتفريق مع التثنية كما قال به المحققون بناءا على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتينإندفع حديث إرتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من مرتان الدالة على التفريق والتثنية وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه : أو تسريح حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل : إنه المستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنةكالشيخ أحمد بن تيمية ومن أتبعهقالوا : لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة إحتجاجا بهذه الآية وقياسا على شهادات اللعان ورمي الجمرات فإنه لو أتى بالأربع بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى على النبي ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف وتمسكا بما أخرجه مسلم وأبو داؤد والنسائي والحاكم والبيهقي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر : إن الناس قد أستعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه
وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما أخرج البيهقي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : طلق ركانة أمرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها طلقتها ثلاثا قال : في مجلس واحد قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله
والجواب عن الإحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي : وأحسن الأجوبة إنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم أقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث وأعترضته العلامة إبن حجر قائلا : إنه عجيب فإن صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه أستعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم فهو إخبار عن إختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة وأعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول إبن عباس رضي الله تعالى عنهما : الثلاث إلخ فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن ثم قال : والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما أستشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص ومن ثم أطبق علماء الأمة عليه وأخبار إبن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته إنتهى وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام إبن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد وحينئذ يكون الإستدلال به على المدعي ظاهرا ويؤيد هذا الإحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داؤد عنه إذا قال الرجل لأمرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق ويحمل ما أخرجه أبو داؤد على هذا بأن
(2/137)

يكون ثلاثا متعلقا بقاللا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للإبهام الذي في الجملة قبله وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داؤد والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لإبن عباس قال : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق أمرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر قال إبن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق أمرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم وهذه مسألة إجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة وليس في كلام إبن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالإجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا وهو مذهب كثير من الصحابة حتى إبن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داؤد والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبدالله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس إبن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق أمرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان فقال إبن الزبير : إن هذا الأمر ما لنا فيه قول أذهب إلى إبن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فأسألهما فذهب فسألهما فقال إبن عباس لأبي هريرة : أفته ياأبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه : الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره وقال إبن عباس مثل ذلك وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل أمرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها : قتل علي كرم الله وجهه قالت : لتهنك الخلافة قال : يقتل علي وتظهرين الشماتة أذهبي فأنت طالق ثلاثا قال : فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت : متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال : لولا أني سمعت جديأو حدثنيأبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق أمرأته ثلاثا عند الإقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها وما أخرجه إبن ماجه عن الشعبي قال : قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت : طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأما حديث ركانة فقد روى على أنحاء والذي صح ما أخرجه الشافعي وأبو داؤد والترمذي وإبن ماجه والحاكم والبيهقي أن ركانة طلق أمرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وقال : والله ما أردت
(2/138)

إلا واحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : والله ما أردت إلا واحدة فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة قال : هو ما أردت فردها عليه وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة وقد يستدل به على صحة وتنوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للإستحلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان ورمى الجمرات قياس في غير محله ألا ترى أنه لا يمكن الإكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الإكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بإنقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة مؤكدات بالإيمان مقرونة خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم مع قوله سبحانه بعده : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات إلخ فكما أنشهادة الشهودمتعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها ورمى الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الإحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد ومجلس واحد ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر إقتضاه القصد والعرف وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق أمرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت وعن مسلمة بن جعفر الأحمس قال : قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم قال : معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال وقد سمعت ما رويناه عن الحسن وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه وقد أفتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالإفتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فيلحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب
و يحل لكم أن تأخذوا في مقابلة الطلاق مما آتيتموهن أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه عل أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من باب الأولى والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من شيئا لأنه لو أخر عنه كان صفة له والتنوين للتحقير والخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع وقيل : إنه خطاب للأزواج ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى : إلآ أن يخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما ألأ يقيما حدود الله بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الإلتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني وهو أن الإستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات
(2/139)

أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله وقريء تخافا و تقيما بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات والتعبير بالتثنية بإعتبار الفريقين وقرأ حمزة ويعقوب يخافا على البناء للمفعول وإبدال أن بصلته منألف الضمير بدل إشتمال كقولك : خيف زيد تركه حدود الله ويعضده قراءة عبدالله إلا أن يخافوا وقال إبن عطية : عدى خاف إلى مفعولين أحدهما أسند إليه الفعل والآخر بتقدير حرف جر محذوف فموضع أن جر بالجار المقدر أو نصب على إختلاف الرأيين ورده في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى إثنين وأصل أحدهما بحرف الجر وفي قراءة أبي إلا أن يظنا وهو يؤيد تفسيرالظن بالخوف فإن خفتم خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة ألا يقيما حدود الله التي حدها لهم
فلا جناح عليهما أي الزوجين وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح فيما أفتدت به نفسها وأختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه أخرج إبن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل قال : كان إبن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول : إن أول خلع كان في الإسلام في أخت عبدالله بن أبي أمرأة ثابت بن قيس أنها أتت رسول الله فقالت : يارسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها : يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي قال : ما تقولين قالت : نعم وإن شاء زدته قال : ففرق بينهما وفي رواية البخاريأن المرأة أسمها جميلة وأنها بنت عبدالله المنافقوهو الذي رجحه الحفاظ وكون أسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ إبن حجر : فلعل لها أسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي ؤابو داؤد أن أسم أمرأة ثابت حبيبة بنت سهل قال الحافظ : والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في أمرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين وإختلاف السياقين تلك حدود الله إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه : الطلاق مرتان إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فلا تعتدوها بالمخالفة والرفض ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون 922 تذييل للمبالغة في التهديد والواو للإعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأنمنفي مما آتيتموهن تبعيضية فيكون مفاد الإستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف وأما كلمة ما في قوله سبحانه : فيما أفتدت فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في الحكم المذكور بل فاء التفسير في فإن خفتم يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الإستثناء وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الإستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز
(2/140)

الخلع بجميع ما يساق ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه : أخلعها ولو بقرطها ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد وأبو داؤد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : أيما أمرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة وقال : المختلعات هي المنافقات ويويد الثاني ما روى من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة أتردين عليه حديقته فقالت : أردها وأزيد عليها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أما الزائد فلا وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما أفتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الإستثناء وهو البعض وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه ولكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمى الإختلاع إفتداءا وأختلف في أنه إذا جرى لفظ الطلاق فسخ أو طلاق ومن جعله فسخا أحتج بقوله تعالى : فإن طلقها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة بإختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فإن طلقها متعلقا بقوله سبحانه الطلاق مرتان تفسيرا لقوله تعالى : أو تسريح بإحسان لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور ويكون ذكر الخلع إعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم
فلا تحل له من بعد أي من بعد ذلك التطليق حتى تنكح زوجا غيره أي تتزوج زوجا غيره ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه إبن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا والجماع من تنكح وبتقدير عدم الفهم وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : جاءت أمرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبدالرحمن بن الزبير وما معه الأمثل هدبة الثوب فتبسم النبي فقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وعن عكرمة إن هذه الآية نزلت في هذه المرأة وأسمها عائشة بنت عبدالرحمن بن عيتك وكان نزل فيها فإن طلقها فلا تحل له من حتى تنكح زوجا غيره فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول وعلى أنه لو أشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجا غيره وعلى أن الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد عليها والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر
ولعله عدوه أرتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين وأستدلوا على ذلك بما أخرجه إبن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا : بلى يارسول الله قال : هو المحلل والمحلل له وأخرج عبدالرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان
(2/141)

رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج أمرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما وقال : لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة وعندنا هو مكروه والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنه سبب الحل وحمل بعضهم الحديث على من إتخذه تكسيا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل : إن فاعل ذلك مأجور فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليهما أي على الزوج الأول والمرأة أن يتراجعا أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إن ظنا أن يقيما حدود الله إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم ههنا قيل : غير صحيح لفظا أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقن في بعض الأمور وهو يكفي للصحة وبأن سيبويه أجازوهو شيخ العربيةما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي ولا يخفى أن الإعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وتلك إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا حدود الله أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يبينها بهذا البيان اللائق أو س يبينها بناءا على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة والجملة خبر على رأي من يجوزه في مثل ذلك أو حال من حدود الله والعامل معنى الإشارة وقريء نبينها بالنون على الإلتفات لقوم يعلمون 032 أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العملكما قيلأو لأنهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون أو ليخرج غير المكلفين وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن أي آخر عدتهن فهو مجاز من قبيل إستعمال الكل في الجزء إن قلنا : إن الأجل حقيقة في جميع المدةكما يفهمه كلام الصحاحوهو الدائر في كلام الفقهاء ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير وكلا الإستعمالين ثابت في الكتاب الكريم فإن كان من باب الإشتراك فذاك وإلا فالتجوز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكسوالبلوغفي الأصل الوصول وقد يقال للدنو منهوهو المراد في الآيةوهو إما من مجاز المشارفة أو الإستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه
فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف إذ لا إمساك بعد إنقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدته فلا سبيل له عليهاوالإمساك مجاز عن المراجعة لأنها سببهوالتسريحبمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو خلوهن حتى تنقضي عدتهن من غير تطويل وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهن أجلهن إعناءا لشأنه ومبالغة في إيجاب المخالفة عليه ومن الناس من حمل الإمساك بالمعروفعلى عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرةوالتس بالمعروفعلى ترك العضل عن التزوج بآخر وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في بلغن ولا يخفى بعده عن سبب النزول فقد أخرج إبن جرير وإبن المنذر عن السدي أن رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا أنقضت
(2/142)

عدتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا تمسكوهن ضرارا تأكيد للأمربالإمساك بالمعروفوتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه و ضرارا نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين ومتعلق النهي القيدواللامفي قوله تعالى : لتعتدوا متعلق ب ضرارا أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الإفتداء وأعترض بأنالضرارظلموالإعتداء فيؤل إلى ولا تمسكوهن ظلما لتظلموا وهو كما ترى وأجيب بأن المرادبالضرارتطويل المدةوبالإعتداءالإلجاء فكأنه قيل : لا تمسكوهن بالتطويل لتلجئوهن إلى الإختلاع والظلم قد يقصد ليؤدي إلى ظلم آخر والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في ضرارا ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدد إلا بالعطف أو على البدلوهو غير ممكن لإختلاف الإعرابويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني وجوز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت اللامللعاقبة ولا ضرر في تعدي الفعل إلى علة وعاقبة لإختلافهما وإن كانت اللامحقيقة فيهما على رأي ومن يفعل ذلك المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فقد ظلم نفسه بتعريضها للعذاب أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لإشتهاره بهذا الفعل القبيح ولا تتخذوا آيات الله المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها هزوا مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة أكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن وهذا نهي أريد به الأمر بضده أي جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وأرعوها حق رعايتها وأخرج إبن أبي عمرة وإبن مردويه عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ثم يقول : لعبت ويعتق ثم يقول : لعبت فنزلت وأخرج أبو داؤد والترمذي وحسنه وإبن ماجه والحاكم وصحهه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ثلاث هزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة وعن أبي الدرداء ثلاث اللاعب فيها كالجاد النكاح والطلاق والعتاق وعن عمر رضي الله تعالى عنه أربع مقفلات النذر والطلاق والعتق والنكاح وأذكروا نعمت الله عليكم أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقهاوالنعمةإما عامة فعطف
وما أنزل عليكم عليها من عطف الخاص على العام وإما أن تخص بالإسلام ونبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة كأنه لما قيل : جدوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة وهو قريب من عطف التفسيرولا بأس أن يسمى عطف التقرير قيل : ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن ولا يخفى أنه في حيز المنع والظرف الأول متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض الصلة ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها أسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عملهتاء التأنيثلأنه مبني عليها كما في قوله :
(2/143)

فلولا رجاء النصر منك وهيبة عقابك قد كانوا لنا كالموارد والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم و ما موصولة حذف عائدها من الصلة و من في قوله تعالى : من الكتاب والحكمة بيانية والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين أو القرآن والسنة والإفراد بالذكر بعد الإندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماءا إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الإندراج وذاك من قبيل فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال يعظكم به أي بما أنزل حال من فاعل أنزل أو من مفعوله أو منهما معا وجوز أن يكون ما مبتدأ وهذه الجملة خبره و من الكتاب حال من العائد المحذوف وقيل : الجملة معترضة للترغيب والتعليل
وأتقوا الله في أوامره والقيام بحقوقه وأعلموا أن الله بكل شيء عليم 132 فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه أو أنه عليم بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة وليس هذا من التأكيد المقتضى للفصل لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه
وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن أي أنقضت عدتهن كما يدل عليه السياق
فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن أي لا تمنعوهن ذلك وأصل العضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج والفعل مثلث العين وأختلف في الخطاب فقيلوأختاره الإمام أنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخطبهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه والعرب كثيرا ما تسمي الشيء بأسم ما يؤول إليه وقيل وأختاره القاضيإنه للأولياء فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وإبن ماجه وأبو داؤد وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال : كانت لي أخت فأتاني إبن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى أنقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له : يالكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية قال : ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه وفي لفظ فلما سمعها معقل قال : سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء بإعتبار التسبب كما ينبيء عنه التصدي للعضل وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر إتكالا على ظهور المعنى وقيلوأختاره الزمخشريإنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا ويسلم من إنتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الإسنادين مع المطابقة لسبب النزول وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم وجعل بعضهم الخطابات السابقة
(2/144)

كذلك وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة أدوا الزكاة وزوجوا الإكفاء وأمنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهى الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف والإلزام المجاز وهو خلاف الظاهر وجوز في أن ينكحن وجهان : الأول أنه بدل إشتمال من الضمير المنصوب قبله والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على إختلاف الرأيين إذا تراضوا ظرفللاتعضلواوالتذكير بإعتبار التغليب والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي وقيل ظرف لأن ينكحن وقوله تعالى بينهم ظرف للتراضي مفيد لرسوخه وإستحكامه بالمعروف أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بالمعروف وإما بتراضوا أو بينكحن وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل ذلك إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما
والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بي الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عندالله تعالى يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الإمتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه و منكم إما متعلق بكانعلى رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يؤمن ذلكم أي الأتعاظ به والعمل بمقتضاه أزكى لكم أي أعظم بركة ونفعا وأطهر أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام وحذف لكم إكتفاء بما في سابقه وقيل : إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما والله يعلم ما فيه من المصلحة وأنتم لا تعلمون 232 ذلك فلا رأى إلا الإتباع ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الإمتثال
والوالدات يرضعن أولادهن أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الإستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لإستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروى عن مجاهد وإبن جبير وزيد بن أسلم وأحتج عليه بأمرين : الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاءا له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والإهتمام بشأنه والثاني أن إيجاب
(2/145)

الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع وقال الواحدي : الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه بإعتبار البعض على أنه على ما قيل : ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال : إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حولين أي عامين والتركيب يدور على الإنقلاب وهو منصوب على الظرفية و كاملين صفته ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لمن أراد أن يتم الرضاعة بيان للمتوجه عليه الحكم والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقابيرضعنفإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة وأستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما وقريء أن يتم بالرفع وأختلف في توجيهه فقيل : حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الأعمال في قوله : كما تكونوا يولي عليكم على رأي وقيل : أن يتموا بضمير الجمع بإعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لإلتقاء الساكنين فتبعها الرسم وعلى المولود له أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الإنتساب المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا وقيل : عبر بذلك لأن الوالد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رزقهن وكسوتهن أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن وإستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بالمعروف أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه
لا تكلف نفس إلا وسعها تعليل لإيجاب المؤمن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة ونصب وسعها على أنه مفعول ثانلتكلفوقريء ولا تكلف بفتحالتاء ولا نكلفبالنون لا تضار ولدة بولدها ولا مولود له بولده تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل والمضارة مفاعلة من الضرر والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له أمرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى
(2/146)

لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الإشتمال مما قبلها وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضار مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول ويبين ذلك أنه قريءولا تضار بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد النهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعدما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه وقرأ أبو جعفرلا تضاربالسكون مع التشديد على نية الوقف وعن الأعرجلا تضاربالسكون والتخفيف وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول وإلا لكان القياس حذف الألف وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنهلا تضرروالتعبير بالولد في الموضعين وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للإستعطاف والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنىلا تضار والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيعولا يضار مولود بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده وحينئذ تتعين الباء للسببية ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين وتخرج الآية عما يقتضيه السياق وبعيد عن الباقر والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وعلى الوارث مثل ذلك عطف على قوله تعالى : وعلى المولود له إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وإبن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبدالله بن عتبة وخلق كثير ويؤيده أن أل كالعوض عن المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الإستعمال وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي وبه قال حماد ويؤيده قراءة إبن مسعود وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك وقيل : عصباته وبه قال أبو زيد ويورى عن عمر رضي الله تعالى عنه ما يؤيده وقال الشافعي : المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب وأعترض أن هذا الحمل يأباه أنه لا يخص كون المؤنة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر وقيل : المراد الباقي من الأبوين وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم متعني بسمعي وبصري وأجعلهما الوارث مني قيل : وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأنمنإن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو إرتكاب خلاف الظاهر وإن كانت للإبتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فإن أرادا أي الوالدان فصالا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروى عن مجاهد وقتادة وأهل البيت وقيل : قبلهما أو بعدهما وهو مروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لمن أراد أن يتم وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام والتنكير للإيذان بأنهفصالغير معتاد وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة
(2/147)

الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عن تراض متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عن تراض وجوز أن يتعلق بأراد منهما أي الوالدين لا من أحدهما فقط لإحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب وتشاور في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو إجتناء العسل وكذاالمشاورة والمشورة والمشورةوالمراد من ذلك إستخراج الرأي وتنكيره للتفخيم
فلا جناح عليهما في ذلك وإنما أعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمابل شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وإن أردتم خطاب للآباء هزا لهم للإمتثال على تقدير عدم الإتفاق على عدم الفطام أن تسترضعوا أولادكم بحذف المفعول الأول إستغناءا عنه أيتسترضعوا المراضع أولادكممن أرضعت المرأة طفلا وأسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي وأستنجحتها إياه وقد صرح الإمام الكرماني بأن الإستفعال قد جاء لطلب المزيد كالإستنجاء لطلب الإنجاء والإستعتاب لطلب الإعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق وقيل : إن أسترضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال : أسترضعت المرأة للصبي والمراد أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف الجار كما في قوله تعالى : وإذا كالوهم أي كالوهم فلا جناح عليكم أي في ذلك وأستدل بالإطلاق على أن للزوج أنيسترضع للولد ويمنع الزوجة من الأرضاعوهو مذهب الشافعية وعندنا أن الأم أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن وبه يخصص هذا الأطلاق وإلى ذلك يشير كلام إبن شهاب إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم أي ضمنتم وألتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل وقرأ إبن كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله وشيبان عن عاصم أوتيتم أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة بالمعروف متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطا لرفع الإثم بل هو أولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للإعتناء به فأستعير له عبارته وقيل : لا حاجة إلى هدا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الإسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير وفيه تأمل لأن الأثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي والإسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وأتقوا الله في شأن مراعاة الأحكام وأعلموا أن الله بما تعملون بصير 332 لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها وفي إظهار الأسم الجليل تربية للمهابة وفي الآية من التهديد ما لا يخفى والذين مبتدأ
يتوفون أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال : مالي من فلان وأستوفيته منه أي قبضته وأخذته وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبدالرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم يتوفون
(2/148)

بفتحالياء أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفي بمعنى مستوف لحياته وأستشكل بما حكى أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من الموتفي بكسر الفاء فقال : الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلى كرم الله تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح للخطاب به منكم في محل نصب على الحال من مرفوع يتوفون ومن تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب ويذرون أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل أسم الفاعل ولا أسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ أزواجا أي نساءا لهم
يتربصن خبر عن الذين والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفي وقيل : خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم وفيه أنه لا يبقىليذرون أزواجافائدة جديدة يعتد بها ويورى عن سيبويهإن الذينمبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ وحينئذ يكون جملةيتربصنبيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف وذهب بعض المحققين إلى أن الذين مبتدأ و يتربصن خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أربعة أشهر وعشرا لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده والقولبأنه لعل المقتضى لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فأعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة إستظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة للحديث الصحيح إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك يم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله وورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقالا يورى الغليل ولا يشفي العليل وتأنيث العشر قيل : لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى بن سعيد وقيل : بل هو بإعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى إنهم يقولونكما حكى الفراءصمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى : إن لبثم إلا عشرا ثم إن لبثتم إلا يوما وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود وأما عند حذفه فيجوز لأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل وأستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفي عنها سواء كان مدخولا بها أو لا وذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الإقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمةكما قاله الأصموالحامل وغيرها لكن القياس أقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وعن علي كرم الله تعالى وجهه وإبن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين إحتياطا وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين وأستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بإنقضائها وهو
(2/149)

الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه ويؤيده أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في إنقضاء عدتها هذه المدة وقيل : إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدتها بهذه الأيام لما روى أمرأة المفقود أمرأة حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه فإذا بلغن أجلهن أي أنقضت عدتهن فلا جناح عليكم أيها القادرون عليهن وقيل : الخطاب للأولياء وقيل : لجميع المسلمين فيما فعلن في أنفسهن مما حرم عليهن في العدة وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بالمعروف أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهن فإن قصروا أثموا والله بما تعملون خبير 432 فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به والظاهر أن المخاطب به هو المخاطب في سابقه وجوز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبانالخطاب على الغيبةوالذكور على الإناثوفيه تهديد للطائفتين ويحتمل أن يكون وعدا ووعيا لهما ولا جناح عليكم أيها الرجال المبتغون للزواج
فيما عرضتم به من خطبة النسآء بأن يقول أحدكمكما روى البخاري وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهماإني أريد التزوج وإني لأحب أمرأة من أمرها وأمرها وإن من شأني النساء ولوددت أن الله تعالى كتب لي أمرأة صالحة أو يذكر للمرأة فضله وشرفه فقد روى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند إبن عمها أبي سلمة فتوفى عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب وأستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن أستعمل في الموضوع لا على وجه القصدبل لينتقل منه إلى الشيء المقصود فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة وقرر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه فمثل قول المحتاج : جئتك لأسلك عليك كناية وتعريض ومثلزيد طول النحادكناية لا تعريض ومثل قولك : في عرض من يؤذيك وليس المخاطبآديتني فستعرفتعريض بتهديد المؤذي لا كناية والمشهور تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده وعدوا جعل السكاكي له أسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثلكثير الرمادللمضياف إ صطلاحا جديدا وفي الكشف وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الإستواء على العرش وبسط اليد ويجعل الإلتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به فلا ينتهض نقضا على الأصل والخطبة بكسر الخاءقيل : الذكر الذي يستدعي به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب وهو توجيه الكلام للإفهاموبضمها الوعظ المتسق على ضرب من التأليف وقيل : إنهما أسم الحالة غير أنالمضمومةخصت بالموعظةوالمكسورةبطلب المرأة وإلتماس نكاحهاوأل في النساء للعهد والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى : ويذرون أزواجا ولا يمكن حملها على الإستغراق لأن من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدة كالرجعيات والبائناتفي قول والأظهر عند
(2/150)

الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في عدتهن قياسا على معتدات الوفاة لا يقال : كان ينبغي ان تقدم هذه الآية على قوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن لأن ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول : لا نسلم ذلك بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهن قبل البلوغ من الأجل وبعده وأستدل الكيا بالآية على نفي الحد بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح وأيد بما روى من عرض عرضنا ومن مشى على الكلا ألقيناه في النهر وأستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها ولا يخفى ما فيه أو أكننتم في أنفسكم أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهن بعد مضي عدتهن ولم تصرحوا بذلك لهن علم الله أنكم ستذكرونهن ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهن فلهذا رخص لكم ما رخص وفيه نوع ما من التوبيخ
ولكن لا تواعدوهن سرا أستدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فأذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل أكتفوا بما رخص لكم وجواز ان يكون إستدراكا عن لا جناح فإنه في معنى عرضوا بخطبتهنأو أكنوا في أنفسكم ولكن إلخ وحمله على الإستدراك على ما عنده ليس بشيءوإرادة النكاح منالسربواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر ومنه قول أمريء القيس : ألا زعمت بسياسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسنالسرأمثالي وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر والمروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنالسرهنا الجماع وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريحبالنكاح مما لا يكاد يخطر ببال وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروى عن الحبر أيضا أنه العهد على الإمتناع عن التزوج بالغيروهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية وجوز إنتصابه على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن
إلا أن تقولوا قولا معروفا وهو التعريض الذي عرف تجويزه والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا تواعدوهن نكاحا مواعدة ما إلا مواعدة معروفة أو إلا مواعدة بقول معروف أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الإمتناع عن الغير إلا قولكم قولا معروفا والإستثناء في جميع ذلك متصل وفي الكلام على الوجه الأول تصريح بما فهم من ولا جناح على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطردوالعكس حسنوعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض فيهما علىالتعريضبالوعد لها أو الطلب منها وهو غيرالتعريضالسابق لأنه بنفس الخطبة وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة أحتمل الإستثناء الإتصال والإنقطاع والإنقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تواعدوهن بالمستهجن ولكن واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الإستثناء من سرا وضعف بأنه يؤدي إلى كون التعريض موعودا وجعله من قبيل إلا من ظلم يأبى أن يكون إستثناءا منه بل من أصل الحكم
ولا تعزموا عقدة النكاح أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عقدة النكاح وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي
(2/151)

عن الشيء على وجه أبلغ وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الإختيار ولذا يثاب على النية والمراد به العزم المقارن لأن من قال : لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر الفعل إلى ربيع ودلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل والعقدةليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل ويحتمل أن يكون الكلام من باب حرمت عليكم أمهاتكم وعلى كل تقدير هي مفعول به وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنىلا تعزموالا تعقدوا فهو على حدقعدت جلوساوأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله وقيل : المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول وبهذا ينحط عنه ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفي بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد وقول الزمخشري : حقيقة العزم القطع بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروى لم يبيت ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفي بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو ومن هنا قيل : إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها ونفى القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع : وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز حتى يبلغ الكتاب أجله أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وأعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لايجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فأحذروه ولا تعزموا عليه أوأحذروهبالإجتناب عن العزم إبتداءا أو إقلاعا عنه بعد تحققه وأعلموا أن الله غفور يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حليم 532 لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهى عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل إعتناءا بشأن الحكم ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك أسمه لا جناح عليكم لا تبعة من مهر وهو الظاهر وقيل : من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض وقيل : كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما ينهى عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن اي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع وقرأ حمزة والكسائيتماسوهنوالأعمش من قبل أن تمسوهنوعبدالله من قبلأن تجامعوهن أو تفرضوا لهن فريضة أي حتى تفرضوا أو إلا أن تفرضوا على ما في شروح الكتاب و فريضة فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الأسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز وجوز أن يكون نصبا على المصدرية وليس بالجيد والمعنى إنه لا تبعة عل ىالمطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل وأما إذا كان
(2/152)

بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى وفي صورة عدمها تمام مهر المثل هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها وأقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر قيل : وههنا إشكال قوي وهو أن ما بعد أو التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لالزمنك أو تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح وليس المعنى عليه وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل : أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذافرضت الفريضةفيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل ومن الناس من جعل كلمة أوعاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم مسيس ولا فرض على حد ولا تطع منهم آثما أو كفورا وأعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفييم لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس ولا يخفى أنه غير وارد ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في قوله تعالى : أو يزيدون على رأي ومتعوهن أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل : إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون إعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد التطليق والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن ياباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان وأخرج إبن جرير عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة وعن إبن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما وقال الإمام أبو حنيفة : هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا كثر ماله وأتسعت حاله والمقتر من يكون ضيق الحال منأقترإذا أفتقر وقل ما في يده وأصل الباب الإقلال والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلقإيسارا وإقتاراوالجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل متعوهن والرابط محذوف أي منكم ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم إلخ أستغنى عن القول بالحذف
وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وإبن ذكوان قدره بفتح الدال والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه وقيل : القدربالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار وقريء قدره بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى متعوهن إلخ ليؤد كل منكم قدر وسعه قال أبو البقاء : وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قدره متاعا أسم مصدر أجرى مجراه أي تمتيعا بالمعروف أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة
(2/153)

لمتاعا و حقا أي ثابتا صفة ثانية له ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا على المحسنين 632 متعلق بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الإمتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك إعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا
وقال الإمام مالك : المحسنون المتطوعون وبدلك أستدل على إستحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى : وللمطلقات متاع بالمعروف لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس وجعله مقدما عل ىالمفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر المحسن على المتطوع بل هو أعم منه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع مأ أنضم من لفظ حقا وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة بيان لحكم التي سمى لها مهر وطلقت قبل المسيس وجملة وقد إلخ إما حال من فاعل طلقتموهن أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن إتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في إتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق فنصف ما فرضتم أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر وقريءفنصفبالنصب على معنى فأدوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام وذكر الأشق فالأشق والقول بأن ذلك لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج أمرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله فقال له عليه الصلاة و السلام : أمتعتها قال : لم يكن عندي شيء قال : متعها بقلنسوتك مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي : لم أقف عليه إلآ أن يعفون إستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حد ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث والفرق بالإعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه أن هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى : أو يعفوا وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله كما أخرجه إبن جرير وإبن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن إبن عمر مرفوعاوبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهمومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى : يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو وقول زهير :
(2/154)

حزما وبرا للاله وشيمة تعفو على خلق المسيء المفسد فمرجع الإستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إل ىمنع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفى أو ينحط أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في فنصف غير ملاحظ فيه الوجوب وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الإستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر وذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلىأن الذي بيده عقدة النكاحهو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى : وأن تعفوا أقرب للتقوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعدواللامللتعدية ومن قواعدهم التي قل من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدىبالباءكأعلم بالفقه وأجهل بالنحو وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعولبفيكهو أحب في بكر وأبعض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى كزيد أحب إلى خالد من بشرا وأبغض إليه منه وقريء وأن يعفوا بالياء ولا تنسوا الفضل بينكم عطف على الجملة الأسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه اي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم عل ىبعض كالشيء المنسي والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة في الدرك الأسفل من الضعف وقيل : إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أيلا تنسوا الإحسانالكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول وقرأ علي كرم الله تعالى وجههولا تناسواوبعضهمول تنسوابسكون الواو
إن الله بما تعملون بصير 732 فلا يكاد يضيع ما عملتم حافظوا على الصلوات أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبيء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو والنهي عن ترك الفضل لأنها تهييء النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة عل ىخلقه وقيل : أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الإعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير إشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين والصلاة الوسطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها وعلى الأول أستدل بالآية على أن الصلوات خمس
(2/155)

بلا زيادة دون الثاني وفي تعيينها أقوال : أحدها أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار الثاني أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروى عن علي والحسن وإبن عباس وإبن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية والثالث أنها المغرب وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في الطول والقصر والرابع أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتي لا يقصران والخامس أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروى عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد وأختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه وقيل : المراد بها صلاة الوتر وقيل : الضحى وقيل : عيد الفطر وقيل : عيدالأضحى وقيل : صلاة الليل وقيل : صلاة الجمعة وقيل : الجماعة وقيل : صلاة الخوف وقيل وقيل
والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما أخرج مسلم من حديث علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت إشتغال الناس لا سيما العرب قال بعض المحققين : والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان : مرفوعة وموقوفة والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها صحابة آخرين أنها غيرها وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الإحتجاج به عند عدم المعارضة وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال قسمان : مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة والمختصر مأخوذ من المطول أختصره بعض الرواة فوهم في إختصاره على ما ستسمع والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من إحتمال فلا يصح الإستدلال بها فقوله من حديث مسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر فيه إحتمالان أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس يعني العصر الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر ويؤيد ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر ومع هذين الإحتمالين لا يتأتى الإستدلال بالحديث والإحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي تفسيرا أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا وقد أخرج إبن جرير عن سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله مختلفين في الصلاة الوسطى هكدا وشبك بين أصابعه ثم على تقدير عدم الإحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر وإذا تعارض الحديثان ولم يمكن الجمع طلب الترجيح وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب والحديث الوارد في أنها الظهر مبيبن فيه سب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف حديث شغلونا إلخ فوجب الرجوع إليه وهو ما أخرجه أحمد وأبو داؤد بسند جيد عن زيد بن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا أن رسول الله
(2/156)

صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات إلخ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لينتهين رجال أو لأحرقن بيو تهم ويؤكد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليحافظوا عل ىالصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروقالت : سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والعطف يقتضي المغايرة وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال : كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأملت عليحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروأخرج إبن أبي داؤد في المصاحف عن عبدالله إبن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت ائشة وحفصة وأخرج إبن أبي داؤد عن إبن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال : كتبت مصحفا لحفصة فقالت أكتبحافظوا عل ىالصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصرفلقيت أبي بن كعب فقال : هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة الصلوات المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان وأسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وقرأ عبدالله وعلي الصلاة الوسطى وروى عن عائشة والصلاة بالنصب على المدح والإختصاص وقرأ نافعالوسطىبالصاد وقوموا لله أي في الصلاة قانتين 832 أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناءا على أن القنوت هو الذكر فيه وقيل : خاشعين وقيل : مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما ينبغي فيها ويؤيده ما أخرجه إبن جرير عن مجاهد قال : من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داؤد وجماعة عن زيد بن أرقم قال كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود ولعل الأوضح منه ما أخرجه إبن جرير عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال : أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد علي فلما قضى الصلاة قال : إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة وقال إبن المسيب : المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده فإن خفتم من عدو أو غيره فرجالا أو ركبانا حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين والأول جمع راجل وهو الماشي على رجليهورجل بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه وقيل : الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا وأستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة
(2/157)

وإن لم يكن الوقوف وذهب إمامنا إلى أن المشي وكذا القتال يبطلها وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح ع أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوى من الليل حتى كفينا القتال وذلك قوله تعالى : وكفى الله المؤمنين القتال فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي ثم أقام العصر فصلاها كذلك ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ثم أقام العشاء فصلاها كذلك وفي لفظ فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاعوهي قبل الخندقكما قاله إبن إسحاق وغيره من أهل السير وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير ويجعل ناسخا لما في الآيةكما قيلوالمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها وإذأ كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة لا صلاة شدة الخوف المبينة بهذه الآية والنزاع إنما هو فيهاوهي لم تشرع قبل الخندق بل بعدهوفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراجل فيها بمعنى الواقف على رجليه وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية وأنت تعلمإذا أنصفتأن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق وقوموا والدين يسر لا عسر والمقامات مختلفة والميسور لا سقط بالمعسور وما لا يدرك لا يترك فيلفهم وقريء رجالا بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد وقريء فرجلا أيضا فإذا أمنتم وزال خوفكم وعن مجاهدإذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامةولعله على سبيل التمثيل فأذكروا الله أي فصلوا صلاة الأمنكما قال إبن زيدوعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها وقيل : المرادأشكروه على الأمنوبعضهم أوجب الإعادة وفسر هذأبأعيدوا الصلاةوهو من البعد بمكان كما علمكم أي ذكرا مثل ما علمكم من الشرائع وكيفية الصلاة حالتيالأمن والخوف أو شكرا يوازي ذلك و ما مصدرية وجوز أن تكون موصولهوفيه بعد ما لم تكونوا تعلمون 932 مفعول علمكم وزاد تكونوا ليفيد النظم ووقع في موضع آخر بدونها كقوله تعالى : علم الإنسان ما لم يعلم فقيل : الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي أنتقل عنها فإنه أوضح في الإمتنان وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته وتصدير الثانية ب إذا المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى والإطناب في جواب الثانية المبنين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأول في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والإعتبار كما قيلما فيه عبرة لذوي الأبصار والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق وفي يتوفون مجاز المشارقة وصية لأزواجهم قرأ أبو عمرو وإبن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وصية على المصدرية أو على أنها مفعول به والتقدير ليوصوا أو يوصون وصية أو كتب الله تعالى عليهم أو
(2/158)

ألزموا وصية ويؤيد ذلك قراءة عبدالله كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول مكان والذين إلخ وقرأ الباقونبالرفععلى أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية الذين يتوفون أو حكمهم وصية أو والذين يتوفون أهل وصية وجوز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف أو مبتدأ لخبر محذوف مقدم عليه أي كتب عليهم أو عليهم وصية وقرأ أبي متاع لأزواجهم وروى عنه فمتاع بالفاء
متاعا إلى الحول نصب ب 0 يوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال وإلا ف بالوصية لأنها بمعنى التوصية و ب متاع على قراءة أبي لأنه بمعنى التمتع غير إخراج بدل منه إشتمال إن أعتبر اللزوم بين التمتع إلى الحول وبينغير الإخراجوبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات ومتغايران بالوصف وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره متاعا إلى الحول متاع غير إخراج وإلا لم يصح لان متاعا مفسر بالإنفاق وغير إخراج عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدلول الأول ولا جزأه ولا ملابسا له فيكون بدل غلط وهو لا يصح في الكلام المجيدفيتعين التقدير وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قبيل إبدال الكل من الجزء نحورأيت القمر فلكهوهو بدل الإشتمال كما صرح به صاحب المفتاحوأجيب بأنا لا نسلم أن متاعا مفسر بالإنفاق فقط بلالمتاععام شامل للإنفاق والإسكان جميعا فيكون غير إخراج عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من متاعا فيكون بدل البعض من الكل وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأنالوصية بأن يمتعن حولايدل على أنهن لا يخرجن فكأنه قيل : لا يخرجن غير إخراج ويكون تأكيدا لنفيالإخراجالدال عليه لا يخرجن فيؤول إلى قولك : لا يخرجن لا يخرجن وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييدالإيصاءبمفهوم هذه الحالة وأنها مقدرة لأن معنى نفيالإخراج إلى الحول ليس مقارناللإيصاءوفيه تأمل وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل أن يحتضروا لازواجهم بأن يمتعن بعدهم حولابالنفقة والسكنى وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى : أزبعة أشهر وعشرا وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن وأختلف في سقوط السكنى وعدمه والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث وأنقطع ملكه بالموت وذهب الشافعية إلى الثاني لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله وأعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج والكلام فيه فإن خرجن بعد الحول ومضى العدة وقيل : في الأثناء بإختيارهن فلا جناح عليكم ياأولياء الميت أو أيها الأئمة
في ما فعلن في أنفسهن من معروف لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهن من الخروج أو قطع النفقة عنهن فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهن ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه وإنما كن مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة وبين الخروج وتركها والله عزيز غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره فيالإيصاء وإنفاذ الوصية وغير ذلك حكيم 042 يراعى
(2/159)

في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه
وللمطلقات سواء كن مدخولا بهن أو لا متاع أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل وقيل : المراد بالمتاع نفقة العدة ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوحات وغير المفروض لهن والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا ويؤيده ما أخرجه إبن جرير عن إبن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : متاعا بالمعروف حقا على المحسنين قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه إبن المسيب وهو أحد قولي الإمامية بالمعروف حقا على المتقين 142 أي من الكفر والمعاصي كذلك أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة يبين الله لكم إياته الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا لعلكم تعقلون 242 أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها ألإم تر هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأحبار وأهل التواريخ وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه وقد أشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من لم ير الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجري مع من رأ قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب والرؤية إما بمعنى الإبصار مجازا عن النظر وفائدة التجوز الحث على الإعتبار لأن النظر إختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والإنتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى : إلى الذين كما قاله غير واحد وقال الرغب : إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما أستعير لمعنىألم تنظرعدى تعديته بإلى وفائدة إستفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها أستعيرت له وقلما أستعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا إنتهى وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول أمريء القيس : ألمياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا ولم تتطيب والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خرجوا من ديارهم فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه وهم ألوف حذر الموت وكانوا فوق عشرة آلاف على ما أستظهره الأكثر بناءا على أنه لا يقالعشرة ألوف ولا تسعة ألوفوهكذا وإنما يقال آلاف فقول عطاء الخراساني : إنهم كانوا ثلاثة آلاف وإبن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف ومقاتل والكلبي إنهم ثمانية آلاف وأبي صالح إنهم تسعة آلاف وأبي رؤفت إنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الإستعمال والقائلون بالفوقية أختلفوا فقيل : كانوا بضعة وثلاثين ألفا وحكى ذلك عن السدي وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك وحكى عن إبن زيد أن المراد خرجوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع
(2/160)

آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر وليس فيه كثير إعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبيء عنه قوله تعالى : فقال لهم الله موتوا على جمع عظيم أبلغ في الإعتبار وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة وقيل : هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع وقيل : ناداهم ملك بذلك وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثم أحياهم عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثم أحياهم قيل : وإنما حذف للدلالة على الإستغناء عن ذكره لإستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية وجوز أن يكون عطفا علىقاللما أنه عبارة عن الأماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بإبن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون وقيل شمعون وروى ذلك عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال وهب : إنه شموئيل وهو ذو الكفل وقيل : يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام أن الله تعالى سأمركم أن تجتمعي فأجتمعت حتى ألتزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام أن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فأكتست لحما ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أن الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا آله إلا أنت والروايات في هذا الباب كثيرة
والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة ويمكن أن يقال أنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى : لا يذوقون فيها الموت الآية لأن ذلك لم يكن عن إستيفاء آجالكما قال مجاهدوإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا ومن الناس من قال : إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور وإنما هو نوع إنقطاع تعلق الروح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بإنقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقى تعلق ما لكنه لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى إنقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء
وقد ذهب إلى مثله إبن الراوندي في جميع الأموات فقال : إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الإحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن إعتقاد مثله إن الله لذو فضل على الناس جميعا أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الإعتبار وهذا كالتعليل لما تقدم ولكن أكثر الناس لا يشكرون 342 إستدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله ولكن إلخ وجوز أن يراد بالشكر الإستبصار والإعتبار ولا يخفى بعده والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام
(2/161)

التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة وإستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق
وقيل : وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته وقيل : جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة والحث على التوكل والإستسلام للقضاء تمهيدا لقوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله وهو عطف في المعنى على ألم تر لأنه بمعنى أنظروا وتفكروا والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للإهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية والجهاد لما كان ذروة سنام الدين وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدأ من قوله سبحانه : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله منتهيا إلى هذا المقال الكريم مختتما بذكر الإنفاق في سبيله للتتميمقاله في الكشفوجوز في العطف وجوه أخر الأول أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فأشكروا فضله بالإعتبار بما قص عليكموقاتلوا في سبيلهلما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحي فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب الثاني أنه عطف على ما يفهم من القصة أي أثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا الثالث أنه عطف على حافظوا على الصلوات إلى فإن خفتم الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدو وما جاء جاى كالإعتراض الرابع أنه عطف على قال لهم الله والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى وأعلموا أن الله سميع لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه عليم 442 بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلا حسب عمله ونيته من ذا الذي يقرض الله من إستفهامية مرفوعة المحل بالإبتداء و ذا خبره و الذي صفة له أو بدل منه ولا يجوز ان يكون من ذا بمنزلة أسم واحد مثل ما تكون ماذا كدلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما منمنوإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبا للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا وعلى كلا التقديرين لا يخفى إنتظام الجملة بما قبلها قرضا إما مصدر بمعنىإقراضافيكون نصبا على المصدرية وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية وقوله سبحانه : حسنا صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأول الخلوص مثلا وعل ىالثاني الحل والطيب وأخرج إبن أبي حاتم عن عمر إبن الخطاب رضي الله تعالى عنهالقرض الحسنالمجاهدة والإنفاق في سبيل الله تعالى وعليه يلتئم النظم أتم إلتئام فيضعفه أيالقرض له وجعلهمضاعفامجاز لأنه سبب المضاعفةوجوز تقدير مضاف أيفيضاعفجزاءه وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما أختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة
وقرأ عاصم بالنصب وفيه وجهان : أحدهما أن يكونمعطوفاعلى مصدريقرضفي المعنى أيمن ذا الذييكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى وثانيهما أن يكون جوابا لإستفهام معنى أيضا لأن المستفهم
(2/162)

عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل : أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه وهذا ما أختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الإستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرينعلى ما قيلالأول أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل والثاني إن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل وقرأ إبن كثير : يضعفه بالرفع والتشديد ويعقوب وإبن عامر يضعفه بالنصب أضعافا جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في يضاعفه وأن يكون مفعولا ثانيا عل ىالمعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير وجوز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة والمراد به أيضا إذ ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن انواعها الداخلة تحتها كثيرة لا يعلم قدرها إلا الله تعالى وأخرج الإمام أحمد وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له : فقال : ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة والله يقبض ويبسط أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الإنفاق وعن قتادة والأصم والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر ووجه تأخيره على الأول الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء وقريء يبصط
وإليه ترجعون 542 فيجازيكم على حسب ما قدمتم ومن باب الإشارة إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف وصلاة الروح بمشاهدة الوصل وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والإنحراف عن كعبة الذات وقوموا لله بالتوجه إليه قانتين أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فإن خفتم صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء
(2/163)

المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فإذا أمنتم بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فأذكروا الله أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فأذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا إمتياز ولا تفصيل وقد قيل : للمجنون أتحب ليلى فقال : ومن ليلى ! أنا ليلى وقال بعضهم : أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته وإذا أبصرته أبصرتنا ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والإنقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فقال لهم الله موتوا أي أمرهم بالموت الإختياري أو أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقانيوالبقاء بعد الفناءإن الله لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وقاتلوا في سبيل الله النفس والشيطان وأعلموا أن الله سميع هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عليم بما في قلوبهم من ذا الذي يقرض الله ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة فيضاعفه له أضعافا كثيرة بظهور نعوت جماله وجلاله فيهوالله يقبض أرواح الموحدينبقبضته الجبروتية في نور الأزلية ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية ويقال : القبض سره والبسط كشفه وقيل : القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال
ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو أسم للجماعة لا واحدا من لفظه وأصل الباب الإجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمى الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤن أي يتعاونون بما لا مزيد عليه ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملا من بعد موسى أي من بعد وفاته عليه السلام ومن للإبتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر إتحاد الحرفين لفظا لإختلافهما معنى إذ قالوا لنبي لهم قال أبو عبيدة : هو أشمويل بن حنة بن العاقروعليه الأكثر وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة : هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الإتصال ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داؤد قرون كثيرة والإتصال غير لازم و إذ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي ألم تر قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا أبعث لنا ملكا أي أقم لنا أميرا وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف بإختلاف متعلقه يقال : بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالإرتحال
(2/164)

نقاتل في سبيل الله مجذوم بالأمر وقريء بالرفع على أنه حال مقدرة أي أبعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف إستئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا تفعلون مع الملك فأجيب نقاتل وقريء يقاتلبالياءمجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر والوصف لملكاوسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوتوكانوا سكان بحر الرومبين مصر وفلسطين وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا أمرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسمعيل وقيل : شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا : إن كنت صادقافأبعث لنا ملكاالآية وكان قوام أمر بني إسرائيل بالإجتماع عل ىالملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط إعتناءا به والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل وأعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا معناه توقع عدم القتال وهل لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الإستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الإستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك ! وأجيب بأن الإستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع ومتوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع ولما كان الإستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن وقيل : لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الإستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا وقيل : إن عسى ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم : إنها خبر لا إنشاء وأستدل على ذلك بدخول الإستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله :
لا تكسرن إني عسيت صائما
ولا يخفى ما فيه وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما ألتمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماءا إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه للفرضية وقريءعسيتمبكسر السين وهي لغة قليلة قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن ما ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنهقاله أبو البقاءوجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع مناوما لنا أن لا نقاتلوإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه ألتزم فيه ما ألتزم والأخفش أدعى
(2/165)

زيادة إن وأن العمل لا ينافيها والجملة نصب على الحال كما في الشائع وقيل : إنه على حذف الواو ويؤول إلى مالنا ولأن لا نقاتل كقولك : إياك وأن تتلكم وقد يقال : إياك أن تتكلم والمعنى علىالواو و قيل : إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض الأخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والإغتراب من الأهل والأولاد وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا وقيل : لا حذف والعطف على حد
علقتها تبنا وماءا باردا
وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم
فلما كتب عليهم القتال بعد سؤال النبي وبعث الملك تولوا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في إبتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إلا قليلا منهم وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير والله عليم بالظالمين 642 ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك وقال لهم نبيهم شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحي لهم ما أوحي إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا يدبر أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال و طالوت فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبريكداؤدولذلك لم ينصرف وقيل : إنه عربي من الطول وأصله طولوتكرهبوت ورحموتفقلبتالواو ألفالتحركها وإنفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية العرب وأما إدعاء العدل عن طويل والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف و ملكا حال من طالوت أخرج إبن أبي حاتم عن السدي أننبيهملما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طاولت وأخرج إبن إسحاق وإبن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا الله تعالى قال له : أنظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فأدهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم وقيل : كان سقاءا وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في إبتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له : لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت : ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت : قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال : أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس : ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك
قالواا أنى يكون له الملك علينا أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك وألإستفهام حقيقي أو للتعجب
(2/166)

لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي وموضعه نصب على الحال من الملك ويكونيجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له وعليناحال من الملك أو الخبر علينا وله حال ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها و علينا حال ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال الواو الأولى حالية والثانية عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك وأصلسعةوسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما فييعدوإنما أرتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض ولذا أجرى عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة
قال إن الله أصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم 742 رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل : لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وإنحطاط نسبه عنكم أما أولا فلأن ملاك الأمر هو إصطفاء الله تعالى وقد أصطفاه وأختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهما وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بأذنه وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عليم بما يليق بالملك من النسيب وغيره وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل : إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله مع أنه عليه الصلاة و السلام كان ربعة من الرجال ولعل ذكر ذلك على ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحققأن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه
وفي إختيار واسع وعليم في الأخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الأخبار إذ الإصطفاء من سعة الفضل أيضا ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الأسم الجليل لتربية المهابة
وقال لهم نبيهم عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للأشعار بعدم إتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم : ما آية ملكه وإصطفائه علينا فقال : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له ويكتفي بالإضمار كما أكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما أستفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب
(2/167)

السؤال لتقوية العلم وهذا بناءا على أن القوم كانوا مؤمنين وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال : ياأبتاه دعوتني فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال : يا بني أرجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال : دعوتني فقال : أرجع فنم فإن دعوتك الثلثة فلا تجبني فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له : أذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه وقالوا : أستعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا : إن كنت صادقا فأبعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال : إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا فقالوا : ما كنت قط أكذب منك الساعة وأعترضوا وأجيبوا ثمقالوا إن كنت صادقا فأتنا بآيةأن هذا ملك فقال : ما قص الله تعالى وحينئذ لا يبعد أن يكون الإستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جليا للشارد وتقييدا للوارد وليزدادوا الذين آمنوا هدى والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق وقريء تابوه بالهاء وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذعلى ما أختاره الزمخشريفاعلو لأن شبهة الإشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير وأما جعل الهاء بدلا من التاء لإجتماعهما في الهمسوأنهما من حروف الزيادةفضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبيت وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو إنقلبت هاء التأنيث تاءا والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم وأختلف في تحقيق ذلك فقال : أرباب الأخبار هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيهثم وثمإلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده أبتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلموا أن ذلك بسبب إستهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طاولت
وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان وروى غير ذلك مما يطول وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان
(2/168)

يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا أختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فيه سكينة من ربكم أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة وقيل : وليس بالصحيحكما قاله الراغبصورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا أستقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر والجملة في موضع الحال و من لإبتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم
وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هرون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين وآلهما أتباعهما أو أنفسهما أو أنبياء بني إسرائيل لأنهم أبناء عمهما تحمله الملائكة حال من التابوت والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد
حمل زيد متاعي إلى مكة
إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو إبتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وجيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على النقديرين بتأويل الفريق ونحوه لأية عظيمة كائنة لكم دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إن كنتم مؤمنين أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات و إن شرطية والجواب محذوف إعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه وقيل : هي بمعنى إذ فلما فصل طالوت بالجنود أي أنفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة وأصله فصل نفسه عنه ولما أتحد فاعله ومفعوله شاع إستعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصركأنفصلوقيل : فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا أو صده صدا وهو باب مشهور والجنود الأعوان والأنصار جمع جند وفيه معنى الجمع وروى أنه قال لقومه : لا يخرج معي رجل بنى بناءا لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بأمرأة لم يبن عليها ولا أبتغى إلا الشاب النشيط الفارغ فأجتمع إليه ممن أختاره ثمانون ألفا وقيل : سبعون ألفا وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قال إن الله مبتليكم أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بنهر بفتح الهاء وقريء بسكونها وهي لغة فيه وكان ذلك نهر فلسطين كما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن قتادة والربيع أنه نهر بين فلسطين وازدن فمن شرب منه أي إبتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك وقيل : الكلام على حذف مضاف أي فمن شرب من مائة مطلقا فليبس مني أي من أشياعي أو ليس بمتصل بي ومتحد معي فمن إتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية هنده وعينها عند آخرين
(2/169)

ومن لم يطعمه فإنه مني أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث وذكر الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين إستعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب إستعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله : وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لمأطعمنقاخا ولا بردا وأما إستعماله بمعنى شربه وأتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم طعام طعم وشفاء سقم فإنه تنبيه على أنها تغذى بخلاف سائر المياه ولا يخدش هذا ما حكى أن خالد بن عبدالله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد : أطعموني ماءا فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه وقيل فيه : بل المنابر من خوف ومن وهل وأستطعمالماءلما جد في الهرب وألحن الناس كل الناس قاطبة وكان يولع بالتشديق بالخطب لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بتلك بل ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناءا على أنه نبيء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إلا من أغترف غرفة بيده إستثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الإستثناء منقطعا وإلا كان متصلا وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنهما من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه وإفادة أن المغترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الإغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولأختل النظم لدلالة الإستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الإستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتريء في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقديروالذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس منيولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتريء المذكور مخرج من حكم الإتحاد معه لأن التقديروالذين لم يذوقوه فإنهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معيوليس بالمراد أصلا والغرفة ما يغرف وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وأهل المدينةغرفةبفتح الغين على أنها مصدر وقيل : الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان والباء متعلقة بإغتراف أو بغرفة في قول أو بمحذوف وقع صفة لها فشربوا منه عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فأبتلوا به فشربوا والمراد إما كرعواوهو المتبادر وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو أفرطوا في الشرب إلا قليلا منهم لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل أقتصروا عل ىالغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإدواتهم كما أخرجه إبن أبي حاتم عن إبن عباس رضي الله عنهما وأخرج عنه أيضا أن من شرب
(2/170)

لم يزدد إلا عطشا وفي رواية إن الذين شربوا أسودت شفاههم وغلبهم العطش وكان ذلك من قبيل المعجزة لذلك النبي وقرأ أبي والأعمشإلا قليلبالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى : فشربوا منه في قوة أن يقال : فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق : وعض زمان ياإبن مروانلم يدع من المال إلا مسحت أو مجلف فإن قوله : لم يدع في حكم لم يبق وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله : وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان ولا يخفى ما فيه فلما جاوزه أي النهر وتخطاه هو أي طالوت والذين آمنوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماءا إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان معه متعلقيجاوزلابآمنواوجو أن يكون مخبرا عن الذين بناءا على أن الواو للحال كأنه قيل : فلما جاوزه والحال إن الذين آمنوا كائنون معه
قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم وجالوت كطالوت والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة قيل : كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح وقيل : ثلثمائة ألف قال على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو إستئناف بياني الذين يظنون أي يتيقنون أنهم ملاقوا الله بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى وقيل : الموصول عبارة عن المؤمنين كافة وضمير قالوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك إعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن المارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب معه كم من فئة أي قطعة من الناس وجماعةمن فأوت رأسهإذا شققته أو من فاء سليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها فوزنها فله و كم هنا خبرية ومعناها كثير و من زائدة و فئة تمييز وجوز أبو البقاء أن يكون من فئة في موضع رفع صفة لكمكما تقول عندي مائة من درهم ودينار وجوز بعضهم أن تكون كم إستفهامية ولعله ليس على حقيقته ونقل عن الرضى أن من لا تدخل بعد كم الإستفهامية فالقول بالخبرية أولى قليلة نعتلفئةعلى لفظها غلبت أي قهرت عند المحاربة فئة كثيرة بالنسبة إليها
بإذن الله أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم وإذا حمل التنوين في فئة الأولى للتحقير وفيفئةالثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله :
(2/171)

له حاجب عن كل أمر يشينه وليس له عن طالب العرف حاجب وهذا كما ترى ناشيء من كمالإيمانهم بالله واليوم الآخروتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الأحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا القيد قيد شبر فأندفع بهذا ما قالهمولانا مفتي الديار الروميةمن أن هذا الجواب كما ترى ناشيء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع إستعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن إستعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى : والله مع الصابرين المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف إستعماله في مثل ذلك كما لا يخفى وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه ويحتمل أن يكون إبتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاءا للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم ولما برزوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما أنكشف منها وأستوى لجالوت وجنوده أي لمحاربتهم وقتالهم قالوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة
ربنا أفرغ علينا صبرا أي صب ذلك علينا ووفقنا له والمراد به حبس النفس للقتال وثبت أقدامنا أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل وليس المراد بتثبيت الأقدام مجرد تقررها في حيز واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى وأنصرنا على القوم الكافرين 052 أي أعنا عليهم بقهرهم وهزمهم ووضع الكافرين موضع الضمير العائد إلىجالوت وجنوده للإشعار بعلة النصر عليهم وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ وهو يؤذن بالكثرة وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه وأما ثالثا فلأن فيه التعبيربعليالمشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الإقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدو حيث أن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث أن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة وقيل : إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه وثالثا النصر لأنه الغاية القصوى وأعترض
(2/172)

هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي فهزموهم أي كسروهم وغلبوهم والفاء فيه فصيحة أي أستحباب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بإذن الله أي بإرادته إنهزامهم ويؤل إلى نصره وتأييده والباء إما للإستعانة والسببية وإما للمصاحبة وقتل داؤد هو إبن إيشا جالوت أخرج عبدالرزاق وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : لما برز طالوت لجالوت قال جالوت : أبرزوا إلي من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتى بداؤد إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه إبنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داؤد أن يقاتله بسلاح وقال : إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع وخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت : أنت تقاتلني قال داؤد : نعم قال : ويلك ما خرجت إلا كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داؤد : بل أنت عدو الله تعالى شر من الملب فأخذ داؤد حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وأنهزم من معه وأحتز رأسه وآتاه الله الملك في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت وذلك أن طالوتكما روى في بعض الأخبارلما رجع وفي بالشرط فأنكح داؤد إبنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داؤد وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داؤد فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داؤد وقد هرب داؤد فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منخ فقال : يرحم الله تعالى داؤد ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داؤد أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما أستيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال : يرحم الله تعالى داؤد هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم أنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال : اليوم أقتل داؤد وكان داؤد إذا فزغ لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داؤد فأشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما إنتهى طالوت إل الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل ههنا لخرق بيت العنكبوت فرجع وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داؤد وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داؤد حتى قتل كثيرا من الناس ثم أنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فأجتمعت بنو إسرائيل على داؤد وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك والحكمة المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط والملك في سبط وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى وعلمه مما يشاء كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى وعوده إلى داؤد كما قالالسمين ضعيفلأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته ولولا دفع الله الناس بعضهم وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما ببعض آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره
(2/173)

وقرأ نافع هنا وفي الحجدفاععلى أن صيغة المغالبة للمبالغة لفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل و سائر ما يصلح الأرض ويعمرها وقيل : هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما أستتب أمر العالم ولهذا قيل : الدين والملك توأمان ففي إرتفاع أحدهما إرتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع
ولكن الله ذو فضل لا يقدر قدره على العالمين 152 كافة وهذا إشارة إلى قياس إستثنائي مؤلف من وضع نقيض المقدم منتجلنقيضالتالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل : ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره
وأعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج إستثناء عين مقدمها عين تاليها لإستلزام وجود الملزوم وجود اللازم وإستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لإستلزام عدم اللازم وعدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج إستثناء عين التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم وأجيب بأن ذلك إنما هو بإعتبار الهيئة وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة وقد صرح إبن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعلول ينتج إستثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا : لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال : منتج ولم يقل ينتج
وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الإطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وإدعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم ههنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فأفهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق تلك أيات الله إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه من البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه وقيل : إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد والجملة على التقديرين مستأنفة وقوله تعالى : نتلوها عليك أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب بالحق في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور اي متلبسا بالحق وهو معك
(2/174)

وإنك لمن المرسلين حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا إجتماع بأحد يخبر بذلك ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والإعلام أنه لا ينجي حذر من قدر أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الإشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الإنفراد هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات ألم تر إلى ملأ القوى من بني إسرائيل البدن من بعد موسى القلب إذ قالوا لنبي عقولهم أبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا اي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لإنغماسكم في أو حال الطبيعة قالوا وما لنا ألا نقاتل في طريق السير إلى الله تعالى وقد أخرجنا من ديار إستعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها وأغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الإغتراب وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وأنتظموا في سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة والله عليم بالظالمين الذين نقصوا حظوظهم وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الألهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية قالوا لإحتجاجهم بحجاب الإنانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع إنحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا ونحن أحق بالملك منه لإشتراكنا في عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب أتباعه له
ولكل شيء آفة من جنسسه
ولم يؤت سعة من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال : إن الله تعالى أختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الألهي وقوة في الذات النوراني والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه والله واسع لسعة الإطلاق عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هرون السر وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الإستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الإفهام ونظام الحواس قال إن الله مبتليكم بنهر الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الإنس إلا من أغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولإحتياج من غير حرص وإنهماك فشربوا منه وكرعوا وأنهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه قال بعضهم وهم الضعفاء الذين
(2/175)

لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقوا الله بالرجوع إليه : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله وتيسيره والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرؤا من الحول والقوة وقالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا وإستقامة وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقري من بعد وأنصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله وقتل داؤد القلب جالوت النفس ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الإلتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فأتى الله تعالى داؤد ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان ولولا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض إستعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند إستيلاء جالوت النفس ولكن الله ذو فضل على العالمين ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل 3
(2/176)

بسم الله الرحمن الرحيم تلك الرسل استئناف مشعر بالترقى كأنه قيل : إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وما فيه من معنى البعد كما قيل للايذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم واللام للاستغراق ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلى الله عليه و سلم أو المذكورة قصصها في السورة واللام للعهد واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح فضلنا بعضهم على بعض بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر وقيل : المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع ومنهم من لم يشرع وقيل : هو تفضيل بالدرجات الاخروية ولا يخفى ما في كل ويؤيد الأول قوله تعالى : منهم من كلم الله فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا والجملة لامحل لها من الإعراب وقيل : بدل من فضلنا والمراد بالموصول إمل موسى عليه السلام فالتعريف عهدى أو كل من كلنة الله تعالى عن رضا بلا واسطة وهم آدم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة وموسى وهو الشهير بذلك ونبينا صلى الله عليه و سلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب وقرئ كلم الله بالنصب وقرأ اليماني كالم الله من المكالمة قيل : وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت ورفع بعضهم درجت أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من المرسلين بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة وتغيير الاسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله عليه و سلم كما ينبئ عنه الاخبار بكونه صلى الله عليه و سلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الامانى حسرى وامتاز بخواص علمية وعملية لايستطيع لسان الدهر لها حصرا ورقى أعلام فضل رفعت له على كواهله الاعلام وطأطأت له رءوس شرفات الشرف فقبلت منه الاقدام فهو المبعوث رحمه للعالمين والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين والمنزل عليه قرآن مجيد لايأيته الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والمؤيد دينه المؤبد بالمعجزات المستمرة الباهرة والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة والابهام لتفخيم شأنه وللاشعار بأنه العلم الفرد الغنى عن التعيين وقيل : المراد يه إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلا المراتب ولا يخفى ما فيه وقيل : إدريس لقوله تعالى : ورفعناه مكانا عليا وقيل : أولو العزم من الرسل وفيه كما في الكشف أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام ألبتة وكذا الكلام عندى في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضى المجاز كما لا يخفى
(3/2)

و درجات قيل : حال من بعضهم على معنى ذا درجات وقيل : انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل : ورفعنا بعضهم رفعات وقيل : التقدير على أو في درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه وقيل : إنه مفعول به ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ وقيل : إبه بدل اشتمال وليس بشئ وآتينا عيسى ابن مريم البينت أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والأخبار بما يأكلون ويدخرون أو الأنجيل أو كلما يدل على نبوته وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه وهذا يقتضى أفضلية نبينا صلى الله عليه و سلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب
وأيدنه بروح القدس قد تقدم تفسيره وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والافراط والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لان الظن في الاعتقاديات لا يغنى من الحق شيئا ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم أي جاءوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي ما شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق واتباع الرسل جاءوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة ومن قدر ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل الخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكتفى فيه عدم تعلق الارادة بالوجود لم يأت شىء من بعد ما جاءتهم من جهة أولئك الرسل وقيل : الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل المجرور متعلق باقتتل وقيل : بدل من نظيره مما قبله البينت أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدى إلى الاقتتال ولكن اختلفوا استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقض تاليها إلا أنه قد وضع فيه لاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للايذان الاقتتال ناشئ من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداءا كأنه قيل : ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا فمنهم من ءمن أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الاعراب ومنهم من كفر بذلك كفرا لا اعواءله عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم ولو شاء الله عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة ما اقتتلوا وما رفعوا رأس التطاول والتعادى لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس اتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس كوجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز و جل : ولكن الله يفعل ما يريد
252
- حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبدالباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس وذكر أنه خلاف استعمال لو عند أرباب العربية وأرباب الاستدلاك
(3/3)

ولعل الجواب عن هذا الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فيما أعلم والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه كما ذكره صاحب الانتصاف وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى : من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الامر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهى نافذة في كل فعل ةاقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى : ولكن الله يفعل ما يريد طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعليق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح به السر ولعله أحسن من القول بأن الاول واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا
يا ايها الذين ءامنوا انفقوا مما رزقنكم قيل : أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لان الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروى عن الحسن وقيل : يدخل فيه الفرض والنقل وهو المروى عن ابن جريج واختاره البلخى وجعل الامر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الاخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الانفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب وقال الاصم : المراد به الانفاق في الجهاد والىليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغى أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الانفاق المذكور فيه دخولا أوليا وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الانفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه و م موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الانفاق والترغيب فيه
من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة أي لا مودة ولا صداقة ولا شفعة أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة والمراد من وصفه بما ذكر الاشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به وإما أن يعينه أصدقاؤه وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عز و جل و من متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضى التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح وقد فنحها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات والمغلوب منقاد لحكم الغالب وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد يوم جملة وقعت بعد نكرة فهى صفة غير مقطوعة ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا واعتبار كون
(3/4)

النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقديرا له فيصبح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم والكفرون هم الظلمون
254
- أي المستحقون لاطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم والجملة معطوفة على محذوف أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون الخ والمراد بهم تاركو الانفاق رأسا وعبر عن التارك بالكافر تغليظا شبه فعله وهو ترك الانفاق بالكفر أو جعل مشارفة عليه أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال : إنه عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك الله لا إله إلا هو مبتدأ وخبر والمراد هو المستحق للعبودية لا غير قيل : وللناس في رفع الضمير والمنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله أقوال خمسة : قولان معتبران وثلاثة لا معول عليها فالقولان المعتبران : أحدهما أن يكون رفعه على البدلية وثانيهما أن يكون على الخبرية والاول هو الجارى على ألسنة المعربين وهو رأى ابن مالك وعليه إما أن يقدر للأخير أو لا والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والامكان ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق واعترض تقدير للعام بأنه يلزم منه أحد المجذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفى الوجود يستلزم نفى الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجود الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب وأما على تقدير الامكان فلأنا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفى وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الاسلام ويكتفى بها من أكثر العوام وإن لم يعملوا نفى إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم : إن إيجاب النفى جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة وقد قامت عبادتها على ساق وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق فأمر الناس بنفى وجودها من حيث أنها آلهة حقه ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفى ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه وعترض بأنه لا يدل على نفى التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال : إن المراد إما نفى المستحق غيره تعالى بالفعل أو الامكان والأول لا ينفى الامكان والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتسجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفى الاستحقاق يستلزم نفى التعدد مطلقا والقائلون بعدم
(3/5)

تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن لا هذه لا خبر لها واعترض بأنه يلزم حينئذ إنتقاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة إقتضاء التوحيد ذلك وأجيب بأن القول بعدم الإحتياج لا يخرج المركب من لا وإسمها عن العقد لأن معناه إنتقى هذا الجنس من غير هذا الفرد والا عند هولاء بمعنى غير تابعة لمحل إسم لا وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للإستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم إنتقاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى واستشكل الإبدال من جهتين الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي وأحيب عن الأول بأن إلا تغني عن الضمير لإفهامها البعضية وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الإستثناء على حدة لم يبعد
والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد إلا ذهب إليه جماعة وضعف يأنه يلزم عمل لا في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن إسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا وقد قالوا : بإمتناع الحيوان إنسان وأجيب عن الأول بأن لا لاعمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم والتخصيص بواحد من أفراد مادل عليه العام وفيه ما فيه
وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة إستثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع إسمه تعالى شأنه صفة لا إسم لا بإعتبار المحل والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود وثانيها وقد نسب للزمخشري أن لا إله في موضع الخبر و إلا وما بعدها في موضع المبتدأ والأصل هو أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا إقترن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه وثالثها أن ما بعد إلا مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الألهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان إلا فيها للإستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الألهية عن غيره تعالى وأما إثباتها له عز إسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبره ولو عند القائلين بالمفهوم إذا لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبينا مع لا وهى لا يبنى معها إلا المبتدأ وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الإسم الواقع بعد إلا في مثل هذا التركيب وجه وقد جوزه فيه جماعة وعلى الثالث أنا لا نسلم أن ألها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به
هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام وفي قوله تعالى الحي سبعة أوجه من وجوه الإعراب : الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة الثاني أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه : لا إله إلا هو الرابع أن يكون
(3/6)

بدلا من هو وحده الخامس أن يكون مبتدأ خبره لا تأخذه السادس أنه بدل من الله السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لإختصاصه بالنعت وفى أصله قولان : الأول أن أصله حي بياءين من حي يحى والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياءا ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه ووزنه قيل : فعل وقيل : فيعل فخفف كميت في ميت والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للإعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية أو قوة التغذية أو قوة الحس أو قوة تقتضي الحس والحركة والكل مما يمتنع إتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة كما قيل بكل فالحي ذات قامت به تلك الصفة وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحى في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لايكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية إنتهى ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله : إن الحي بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن يمدح الله تعالى به نفسه في غاية السقوط لأنه إن أراد الإشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع والبصيرا أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة وإن أراد الإشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الإشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب وبين الأزلي والزائل ومتى قلت إن الإشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الإشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال : إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الإشكال بحصول الإشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان فإن قال : كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا : فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به وليس كمثل الله تعالى شيء وكأنى بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم
ويا حبذا هند وأرض بها هند
والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء ولعلى من وراء المنع لذلك نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعي القيوم صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فإجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءا
(3/7)

وأدغمت ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرئ وروي أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه وقرئ القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك وابن جبير : الدائم الوجود وقيل : القائم بذاته وقيل : القائم بتدبير خلقه من إنشائهم إبتداءا وإيصال أرزاقهم إليهم وهو المروي عن قتادة : وقيل : هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه وقال بعضهم : هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه وذكر الراغب أنه يقال : قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطي له ما به قوامه والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الإدامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها كان بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام ولعله من حيث أن الإستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل وذهب جمع إلى أن القيوم هو إسم الله تعالى الأعظم وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى : لا تأخذه سنة ولا نوم السنة بكسر أوله فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع : وسنان أقصده العناس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من إسترخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله وتقديم السنة عليه وقياس المبالغة يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ وقيل : إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفى السنة يقتضى نفى النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والإبتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى : لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولهذا توسطت كلمة لا تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما وقيل : إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن وقال بعض المحققين : هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والإعتراء وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة كما ذكره الراغب وغيره من أئمة اللغة ومنه قوله تعالى : أخذ عزيز مقتدر فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه : السنة ولا النوم الذي هو أكثر غلبة منها والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس
(3/8)

رضي الله تعالى عنهما أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك قال : إتقوا الله تعالى فناداه ربه ياموسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فإنكسرتا فقال : يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهى إما إستئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الإسم الجليل له ما في السموات وما في الأرض تقريرا لقيوميته تعالى وإحتجاج على تفرده في الألهية والمراد بما فيها ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر وسائر النجوم والملائكة والأصنام والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إستفهام إنكارى ولذا دخلت إلا والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والإستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعة عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكفار حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى يعلم ما بين أيديهم أي أمر الدنيا وما خلفهم أي أمر الآخرة قاله مجاهد وابن جريج وغيرهما وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة كذلك وقيل : ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل ووجه الإطلاق فيه ظاهر وضمير الجمع يعود على ما في ما في السموات الخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره وقيل : للعقلاء في ضمنه فلا تغليب وجوز أن يعود على مادل عليه من ذا من الملائكة والأنبياء وقيل : الأنبياء خاصة والعلم : بما بين أيديهم وما خلفهم كناية عن إحاطة علمه سبحانه والجملة إما إستئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في بإذنه ولا يحيطون بشء من علمه أي معلومة كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا والإحاطة بالشئ علما علمه كما هو على الحقيقة والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى إلا بما شاء أن يعلم وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا إلا من إرتضى من رسول وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل وسع كرسيه السموات والأرض الكرسي جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته أي الكرسى إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الكرسي فقال : يا أبا ذر مالسموات السبع والأرضون السبع عند الكرسى إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة وفي رواية الدار قطني الخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما
(3/9)

قال : سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن قوله تعالى : وسع كرسيه الخ قال : كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره وقيل : هو العرش نفسه ونسب ذلك إلى الحسن وقيل : قدره الله تعالى وقيل : تدبيره وقيل : ملك من ملائكته وقيل : مجاز عن العلم من تسمية الشئ بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : عن الملك أخذا من كرسي الملك وقيل : أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة ففى الكلام إستعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي إختاره الجم الغفير من الخلف فرارا من توهم التجسيم وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعرى الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل وفي رواية عن عمر مرفوعا له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن إتباع الشارع التسليم له
وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لايحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين وقد وسع السموات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا ولا الأطيط عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو إجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب وإشتاقه من الكرسي وهو الجمع ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم وقيل : كأنه منسوب إلى الكرسي : بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي كبختى وبخاتي وفيه لغتان ضم كافه وهى المشهورة وكسرها للأتباع والجمهور على فتح الواو والعين وكسر السين في وسع على أنه فعل والكرسي فاعله وقرئ بسكون السين مع كسر الواو كعلم في علم وبفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر كرسيه ورفع السموات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده و السموات والأرض خبره ولا يؤده أي لايثقله كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مأخوذ من الأود بمعنى الإعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته وماضيه آد والضمير لله تعالى وقيل : الكرسي حفظهما
(3/10)

أي السموات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيها لما أن حفظهما مستتبع لحفظه وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس والقول بالإستخدام ليدخل هو والعرش وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد وهو العلى أي المتعلى عن الأشباه والأنداد والأمثال والأضداد وعن أمارات النقص ودلالات الحدوث وقيل : هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والمهلك وعلو الشأن والقهر والإعتلاء والجلال والكبرياء العظيم
255
- ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الآلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية والوحدانية والحياة والعلم والملك والقدرة والإرادة واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها أسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حى واجب والوجود لذاته موحد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده بجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيئ لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد
أخرج مسلم وأحمد وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن أعظم آية في القرآن آية الكرسى وأخرج البيهقى من حديث أنس مرفوعا من قرأ آية الكرسى في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبى أو صديق أو شهيد وأخرج الديلمى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أعطيت آية الكرسى من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئآته إلى الغد من تلك الساعة وبعضها منكر جدا كخبر إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية الكرسى في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين
ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال : إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعرى والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لانفقص فيه وأولوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل وأجازه إسحق بن راهويه وكثير من العلماء والمتكلمين وهو المختار ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء لما شاء ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب أن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضة وتدفقت حياضة وصدح عند ليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة
هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحى عليك ملابسه للحق الثابت الذي لايعتريه تغيير وإنك لمن المرسلين الذين عبرو هذه المقامات
(3/11)

وصح لهم صفاء الأوقات تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض بمقتضى استعلاء أنوار إستعداداتهم منهم من كلم الله عند تجليه على طور قلبه وفي وادى سره ورفع بعضهم درجات بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الآلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فأوحى إلى عبده ما أوحى من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوى الابصار وآتينا عيسى ابن مريم البينات والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وأيدناه بروح القدس الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية ولو شاء الله ما أقتتل الذين جاءوا من بعدهم بسيوف الهوى ونبال الضلال من بعد ما جاءتهم من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات ولكن اختلفوا حسبما اقتضاه إستعدادهم الأزلى فمنهم من آمن بما جاء به الوحى ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتلوا عن اختلاف بأن يتحد إستعدادهم ولكن الله يفعل ما يريد ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الاختلاف يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلى الجلالي ولكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وما ظلمناهم إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول الله لا إله في الوجود العلمى إلا هو الحى الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته القيوم الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به وقيل : الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به والقيوم الذي ربى بتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه
لا تأخذه سنة ولا نوم بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سموات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه إذ كلهم له ومنه واليه وبه يعلم ما بين أيديهم من الخطرات وما خلفهم من العثرات أو ما بين أيديهم من المقامات وما خلفهم من الحالات أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية إستعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك ولا يحيطون بشئ من معلوماته التى هى مظاهر أسمائه إلا بما شاء كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشئ من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات ! وسع كرسيه الذي هى قلب العارف السموات والأرض لأنه معدن العلوم الآلهية والعلم اللدنى الذي لا نهاية له ولا حد ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي : لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به وقيل : كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت ولا يؤده ولا يثقله حفظهما في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه وهو العلى الشأن الذي لا تقيده الأكوان العظم الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لإ طلاقه حتى عن قيد الإطلاق لا إكراه في الدين قيل : إن هذه إلى قوله سبحانه : خالدون من بقية آية الكرسي والحق أنها ليست منها بل هي كملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله والجملة على هذا خبر بإعتبار
(3/12)

الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عيه حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالد جاهد الكفار والمنافقين وهو المحكى عن ابن مسعود وابن زيد وسليمان بن موسى أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية وهو المحكى عن الحسن وقتادة والضحام وفى سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين كان له إبنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه مسلم : ألا أستكرههما فانهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله تعالى فيه ذلك
وأل في الدين للعهد وقيل : بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى ومن الناس من قال : إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبنى الأمر على التمكين والإختيار ولولا ذلك لما حصل الإبتلاء ولبطل الإمتحان فالآية نظير قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وإلى ذلك ذهب القفال قد تبين الرشد من الغي تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التى يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ و الرشد بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر رشد بفتح الشين يرشد بضمها : ويقرأ بفتح الراء والشين وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض الغي وأصله سلوك طريق الهلاك وقال الراغب هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالإعتقاد والغى اعتبارا بالأفعال ولهذا قيل : زوال الجهل بالعلم وزوال الغي بالرشد ويقال لمن أصاب : رشد ولمن أخطأ غوى ويقال لمن خاب : غوى أيضا ومنه قوله ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لم يعدم على الغى لائما فمن يكفر بالطغوت أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم وبه قال مجاهد وقتادة وعن سعيد بن جبير وعكرمة أنه الكاهن وعن أبى العالية أنه الساحر وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى وعن بعضهم الأصنام والاولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى ويجعل الإقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت واختلف فيه فقيل : هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان وإلى ذلك ذهب الفارسي وقيل : هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير واليه ذهب سيبويه وقيل : هو جمع وهو مذهب المبرد وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان والثاني الطغوان وأصله على الأول طغيوت وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعى أو للإتصال بلفظ الغى ويؤمن بالله أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام فقد استمسك أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه بالعروة الوثقى وهي الإيمان قاله مجاهد أو القرآن قال أنس بن مالك أو كلمة
(3/13)

الإخلاص قاله ابن عباس أو الإعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبينا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لايحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للإعتقاد الحق كما قيل ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حين الشرط أصلا لا انفصام لها أي لا إنقطاع لها والإنفصام والإنقصام لغتان وبالفاء أفصح كما قال الفراء وفرق بعضهم بينهما بأن الأول إنكسار بغير بينونة والثاني إنكسار بها وحينئذ يكون إنتفاء الثاني معلوما من نفى الأول بالأولوية والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة والعامل إستمسك أو من الضمير المستكن في الوثقى لانها للتفضيل تأنيث الأوثق و لها في موضع الخبر والله سميه بالأقوال عليم
256
- بالعزائم والعقائد والجملة تذييل حامل على اليمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد قيل : وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد في الإيمان من الإعتقاد والإقرار
الله ولى الذين إمنوا أي معينهم أو محبهم أو متولى أمورهم والمراد من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل يخرجهم بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في ولى من الظلمت التابعة للكفر أو ظلمات المعاصى أو الشبه كيف كانت
إلى النور أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقاف بمراتبه وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات واقتصر الواقدى في تفسير الظلمات والنور على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى : وجعل الظلمات والنور فان المراد بهما هناك الليل والنهار والأول أن يحمل الظلمات على المعنى الذي بعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه أنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك مما لا ولا وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال أو أن الأول إيماء إلى القلة والثانى إلى الكثرة والذين كفروا أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل أولياؤهم حقيقة أو فيما عندهم الطغوت أي الشيطان أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق والموصول مبتدأ أول و أولياؤهم مبتدأ ثان و الطاغوت خبره والجملة خبر الإول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها قيل : ولعل تغيير السبك للإحتراز عن وضع الطاغوت في مقابلة الإسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا وقرئ الطواغيت على جمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار إسما لما يعبد من دون الله تعالى يخرجونهم بالوساوس وإلقاه الشبه أو بكونهم بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى والتعبير
(3/14)

عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو إدعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك من النور أي الفطرى الذي جبل عليه الناس كافة أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الإستضاءة بها منزلة نفسها فلا يردأنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه وقيل : التعبير بذلك للمقابلة وقيل : إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم إرتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان إلى الظلمت وهي ظلمات الكفر والإنهماك في الغي وعدم الإرعواء والإهتداء بما يترى من الآيات ويتلى والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالإنفصال لكمال الإتصال ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر أولئك إشارة إلى الموصول بإعتبار إتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم وفيه بعد أصحب النار أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه هم فيها خلدون
257
- ما كثون أبدا وفي هذا وعد وتحذير للكافرين ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل : للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء أو أن ما أعد لهم لاتفي ببيانه العبارة وقيل : إن قوله سبحانه ولي المؤمنين دل على الوعد وكفى به
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف وإهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون وقيل : إستشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير لهم كما أن ما بعده إستشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها وبدأ به لرعاية الإقتران بينه وبين مدلوله ولإستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو إجتراؤه على المحاجة في الله عز و جل وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه إنتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة و السلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وإدحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه وهمزة الإستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي والجمهور على أن في الكلام معنى التعجب أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك إلى قصة هذا الكافر الذي لست بولي له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناءا على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل وأين مقام الخليل من الحبيب وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب وهو أول من تجبر وإدعى الربوبية كما قاله وغيره وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها وأختلف في وقتها فقيل : عند كسر الأصنام وقبل إلقائه في النار وهو المروي عن مقاتل وقيل : بعد إلقائه في النار وجعلها علية بردا وسلاما وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام تشريف له وإيذان
(3/15)

من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فان التربية نوع من الولاية أن ءاته الله الملك أي لأن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في أن وإن وليس هناك مفعول لأجله منصوب لعدم إتحاد الفاعل والتعليل فيه على وجهين : إما أن إيتاء الملك حملة على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية وعلى الثاني تهكمية كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت اليه وجوز أن يكون آتاه الخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظة كجئت خفوف النجم وصياح الديك ولا يجوز إن خفف وإن صاح
وأجيب باعتبار الوقت ممتدا وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن ما المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح والذى جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب والحق أن التعليل لما أمكن وهو متفق عليه خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالإمتداد وإلتزام قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور في غاية من التعسف والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع أو على أن الله تعالى ملكه إمتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح ليس بشئ إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالإمتحان ولقوة هذا الإعتراض إلتزم بعضهم جعل ضمير آتاه لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال : لا ينال عهدي الظالمين وقال سبحانه : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر
وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي وإيجاب الطاعة على الخلق وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان والقول : بأن هذا المارد أعطى الملك بالإعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما من الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكنى أشم منه ريح الضلال ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى إذ قال إبراهيم ظرف لحاج وجؤز أن يكون بدلا من آتاه بناءا على القول الذي علمت وإعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام ربي الذي يحي ويميت فانه على ما روى قاله أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له وقد كان أوتي قبل الملك : من ربك الذي تدعو إليه وأجاب السفاقسي بالتجوز في آتاه وعدم إرادة إبتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان
(3/16)

بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية وقد جاء ذلك وقال الحلبي : وهذا بناءا منه على أن إن مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل غلط بل بدل كل من كل وفيه ما تقدم من الكلام وقيل : يجوز أن يكون بدلا من آتاه بدل إشتمال واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى : قال أنا أحي وأميت إلا أن يجعل إستئنافا جواب سؤال وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك ومن هنا قيل : إن الظرف متعلق بقوله سبحانه : قال أنا الخ ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل : كيف حاج إبراهيم فأجيب بما أجيب ولا يخفى أن الإباء هو الإباء فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه : حاج و ربي بفتح الياء وقرئ بحذفها وأراد عليه السلام يحي ويميت يخلق الحياة والموت في الأجساد وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال : ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة و السلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس
قال إبرهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب وفيه دليل على جواز إنتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها وهي مسألة متنازع فيها وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية وثانيهما أن الإنتقال إنما هو في المثال كأنه قال : ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالأحياء والإماتة مثالا فلما إعترض جاء بمثال أجلي دفعا للمشاغبة قال الإمام : والإشكال عليهما من وجوه
الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الإشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والإنتقال إلى شيء آخر والثان أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز والثالث أنه وإن كان الإنتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب وههنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لاقدرة للخلق عليه وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسموات فعلى هذا الإستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الإستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الإحياء والإمات 4 ة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الإنتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك إلتزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب ومن المعلوم أن الإشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من إلتزام هذا الإطلاع وأيضا فبتقدير أن يحصل طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بإلتزام إطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثانى كما ضاع
(3/17)

الأول ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن افضل العلماء وأعلم الفضلاء
فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالاماتة والاحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والاماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الاحياء والاماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فانهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والاماتة صادرين منهم ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى
ولا يخفى ما فيه أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس الها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشعب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأى تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روى أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له : إنك أحييت الحى ولم تحى الميت وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له : أحى من قتله إن كنت صادقا لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاءا بظهور الفساد جدا وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المتنقل اليه أوضح في المقصود من المتنقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الافلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب فما هو الجواب هنا هو الجواب وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الاتيان بالشمس من مغربها فسكت أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام وهو ضعيف بل الجواب أنه عليه السلام أستدل بأنه لابد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لان حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية وبديهى أنه ليس بنمروذ فقال : هو ذا ربى فان ادعيت أنك الذي تفعل فأت بها من المغرب وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها مع أها مسبوقة بالغير ولو بآ حاد الحركات كان منع البديهى ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتى بها من المشرق والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث يوسط حركات الافلاك ولم يوقف له على أثر ليجات بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الاحياء والاماتة منه تعالى شأنه ولا أظنك في مرية من هذا ولعل الاظهر مما ذهب اليه الامام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصائبة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والافعال من الايجاد وغيره منسوب اليهن فجوز أن يكون في الارض أيضا من يفوض اليه إما قولا بالحلول أولا كتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضرورى بأنه مولود أحدث بعد أن لم يكن
(3/18)

وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الايجاد الذي هو إفاضة الوجود ألبتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداءا ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفردة تعالى بالالهية على أنه لوح اليه من حيث أنه لا فرق بين الايجاد والاعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الامكان والافتقار كما برهن عليه في محله فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لا ستغنائه عن الفاعل فيالبقاء كما عند بعض القاصرين من المتكلمين مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير وهذا قد خفى على الأذكياء فضلا عن الاغبياء وقال : أنا أحي وأميت وأبدى فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير البارى ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياءا إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة اليه الدوام والابتداء فان الله تعالى يأتى بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند اليه ابتداءا مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبى على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالاذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل : ربى الذي يوجد الممكنات وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بآخر أجلى دفعا للمشاغبة لانه مع أن فيه ما في الاول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق كما لا يخفى هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدير
وإنما أتى في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتى بها في الجملة الاولى بأن يقال : إن ربى ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة مالترقى من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن التأكيد بأن والامر للتعجيز والفاء الاولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال إن الله يأتى بالشمس الخ والباء للتعدية و من في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل وقيل : متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخرة أو منقادة فبهت الذي كفر أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه وقرئ بهت بفتح الباء وضم الهاء وبهت بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم وبهت بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا و الذي فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم و الذي مفعوله أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته وإيراد الكفر في حيز الصلة للاشعار بعلة الحكم قال الكيا : وفى الأية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا والله لا يهدى القوم الظلمين
258
- أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه وقيل : لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة أو كالذى مر على قرية عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة لأ رأيت محذوفا أي أو أرأيت مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائى والفراء وأبو على وأكثر
(3/19)

النحويين وحذف لدلالة ألم تر عليه على أنه قد قيل : إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله : قال لها كلابها أسرعى كاليوم مطلوبا ولا طالبا جئ بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك الفعل الماضى مثل : نصر وتخصيص هذا بذلك على ما قيل : لأن منكر الاحياء كثير والجاهل بكفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعى الربوبية وقيل : إنها زائدة وإلى ذلك ذهب الأخفش أي ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر الخ وقيل : إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل : ألم تر كالذى حاج أو كالذى مر وقيل : إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر وتقديره وإن كنت تحى فأحى كإحياء الذي مر ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على الذي نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم وهو عن وذلك على قلة أيضا وقال بعضهم : إن كلا من لفظ ألم تر أرأيت مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال : ألم تر إلى الذي صنع كذا بمعنى انظر اليه فتعجب من حاله والثاني بمثل المتعجب منه فيقال أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح ألم تر إلى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع ولذا لم يستقم عطفك الذي مر على الذي حاج ويحتاج إلى التأويل في المعطوف يجعله متعلقا بمحذوف أي أرأيت كالذى مر فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في المعنى أرأيت كالذى حاج فيصح العطف عليه ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت ألم تر إلى الذي حاج أو مثل الذي مر فعدم الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لابد في التعجب بكلمة أرأيت من إثبات كاف أو ما في معناه ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان فان ألم تر يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير اليه كلام سيبويه و أرأيت كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه وفي الثاني بمثله والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أو لا سوى أن تقدير أرأيت مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر
و أو للتخيير أو للتفصيل والمار هو عزير بن شرخيا كما أخرجه الحاكم عن على كرم الله وجهه وإسحق بن بشر عن ابن عباس وعبدالله بن سلام واليه ذهب قتادة وعكرمة والربيع والضحاك والسدى وخلق كثير وقيل : هو أرميا بن خلقيا من بسط هرون عليه السلام وهو المروى عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واليه ذهب وهب وقيل : هو الخضر عليه السلام وحكى ذلك عن ابن اسحق وزعم بعضهم إن هذين القولين واحد وإن أرميا هو الخضر بعينه وقيل : شعيا وقيل : غلام لوط عليه السلام وقال مجاهد : كان المار رجلا كافرا بالبعث وايد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالانكار ظاهرا وليست هى فيه مثلها في أنى يكون لى غلام و أنى يكون لى ولد وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوى فان كليهما طلبا
(3/20)

معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجرى مع كافر وإذا انظم إلى ذلك تحرية الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين لموجب لإيمانه على زعم من يدعى كفره قوى المعارض جدا وإن قلنا : بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الايمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في الله ولى الذين آمنوا الخ حسب ما أشرنا اليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى والقرية قال ابن زيد : هى التى خرج منها الألوف وقال الكلبى : دير ساير أباد وقال السدى : دير سلما باذ وقيل : دير هرقل وقيل : المؤتفكة وقيل : قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس وقال عكرمة والربيع ووهب : هى بيت المقدس وكان قد خربها بخنتصر وهذا هو الاشهر واشتقاقها من القرى وهو الجمع وهى خاوية على عرشها أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه وقيل : المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق بخاوية وعلى الثانى بمحذوف وقع خبرا بعد خبر لهى والجملة قيل في موضع الحال من الضمير المستتر في مر وقيل : من قرية ويجئ الحال من النكرة على القلة وقيل : في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو ومن الناس من جوز كون على عروشها بدلا من قرية بإعادة الجار وكونه صفة لها وجملة وهى خاوية إما حال من العروش أو من القرية أو من ها والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغى حمل التنزيل عليه قال في نفسه أو بلسانه أنى يحى هذه الله بعد موتها المشار اليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر فالإحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب أو بتقدير مضاف أي أصحاب هذه القرية فالإحياء والإماتة على حقيقتها وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة والسياق دال على ذلك والاحياء والاماتة على حالها أيضا فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الامرين في نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده وعلى القول الثانى يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظامه لقدرة المحى إذا قلنا : إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار اليه بأن إرادة إحياء لأهل أو عظامهم يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعانيه المار لها كما ستسمعه وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل و أتى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل فيه على أي حال يحي فأماته الله مائة عام أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الاماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد والعام السنة من العوم وهو السباحة وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروحها ثم بعثه أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة
(3/21)

تأتيه على البارى عز اسمه وللإيذان بأنه قام كهيئة يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاسدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية ففى البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له : كوسك فقال : إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقى من بنى إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى قال استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل : فماذا قال له فقيل قال : كم لبثت ليظهر له العجز عن الإحاطة بشئون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و كم نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره كم وقتا والناصب له لبث والظاهر أن القائل هو الله تعالى وقيل : هاتف من السماء وقيل : جبريل وقيل : نبى وقيل : رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الاسناد إليه تعالى مجازا قال لبثت يوما أو بعض يوم قاله بناءا على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه وقيل : إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس : يوما ثم التفت فرأى بقية منها فقال : أو بعض يوم على الاضراب واعتراض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناءا على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله قال بل لبثت مائة عام عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار فانظر إلى طعامك وشرابك قيل : كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا لم يتسنه أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة واشتقاقه من السنة وفى لا مها اختلاف فقيل : هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء وقيل : واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفى الوصل لا جرائه مجراه ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضى السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنة كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج وقيل : أصله لم يتسنن ومنه الحمأ المسنون أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظنيب : تظنيب وفى تقضضت : تقضيت وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأى ياء ثم أبدلت الياء ألفا ثم جذفت للجازم والجملة المنفية حال وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى : لم يمسسهم سوء و أوحى إلى ولم يوح إليه شيء وصاحبها إما الطعام والشراب وإفراد الضمير لا جرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبدالله وهذا شربك لم شربك لم يتسنه وقرأ أبى لم يسنه بإدغام التاءفى السين واستشكل تفرع فانظر على لبث المائة بالفاء وهو يقتضى التغير وأجيب بأن المفرع عليه ليس لبث المائة بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء وقيل : إن التقدير إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر بعكر علبه قوله تعالى : وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا
(3/22)

هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده وكون المراد انظر إليه سالما في مكانه كما رطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب ليس بشئ ولا يسلعده المأثور ولنجعلك متعلق بمقدار أي وفعلنا ذلك لنجعلك ومنهم من قدره متأخرا وقيل : إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على لبث أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك وقيل : إنه عطف على قال ففيه التفات ءآية أي عبرة أو مرشدا للناس اي جنسهم أو من بقى من قومه أو للموجودين فيى هذا القرن بأن يشلهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الامر بالنظر إلى حماره وانظر إلى العظام أي عظام الحمار كما قاله السدى وكرر الامر لما أن المأمور به أولا هو النظر اليها من حيث الدلالة على المكث المديد وثانيا هو النظر اليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها وقيل : عظام أموات أهل القرية وعن قتادة والضحاك والربيع عظام نفسه قالوا : أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها وقيل : عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه
كيف ننشزها بالزاى المعجمة من الانشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد وقال الكسائى : نلينها ونعظمها وقرأ أبى ننشيها وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ننشرها من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقى لقوله تعالى ثم نكسوها لحما أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس وقرأ أبان عن عاصم ننشرها بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطى كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسطها والجملة قيل : إما حال من العظام أي وأنظر اليها مركبة مكسورة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهى لا تقع حالا وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح كما قيل لما أنها مما لا تقتضى الحكمة بيانها وفى بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم البسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا فلما تبين له أي اتضح اتضاحا تاما له مادل عليه الامر من كيفية الاحياء بمباديه والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الامر المذكور وإنما حذف للايذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللاشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل : فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر اليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك قال أعلم أن الله على كل شيء ومن جملته ما شوهد قدير
259
- وقيل : فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فاكلام من باب التنازع على مذهب البصريين وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربنى أهنت زيدا قيل : وليس بشئ لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور وقد صرح بازات الفن بخلافه كأبى على وغيره مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى : هاؤم اقرؤا كتابيه و لما رابطة للجملتين فيكفى مثله في
(3/23)

الربط وإن لم يصرحوا به ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاغل فكان معنا فلما حصل له التبين قال أعلم الخ ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله عنهما فلما تبين له على البناء للمفعول وإيثار صبغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفة وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناءا على الاستبعاد العادى واستعظاما للأمر وقرأ ابن مسعود قيل أعلم على وجه الامر وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ قال اعلم ويقول : لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى له : إعلم أن الله وبذلك قرأ حمزة والكسائى والآمر هو الله تعالى أو النبي أو الملك ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد ويروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزيز وهى بنت عشرين سنة فقال لها : يا هذه أهذا منزل عزيز قالت : نعم وبكت وقالت : ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال : فإنى أنا عزير قالت : سبحان الله فان عزيرا قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال : فإنى عزير كان الله تعالى أماتنى مائة سنة ثم بعثنى قالت : فان عزير كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد على بصرى حتى أراك فان كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال : قومى بإذن الله تعالى فأنطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محله بنى إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد هلى بصرى وأطلق رجلى وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا اليه فقال ابنة : كانت لأبى شامة سوداء بين كتفيه عن كتفيه فاذا هو عزير فقالت بنو إسرائيل : فانه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فا كتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبنى إسرائيل وفى رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر : حدثنى أبى عن جدى أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فان أريتمونى كرم جدى أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزير عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا
ومن باب الاشارة والتأويل في الآيات لا إكراه في الدين لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للاكراه فيه قد تبين ووضح الرشد الذي هو طريق الوحدة وتميز من الغى الذي هو النظر إلى الاغيار فمن يكفر بالطاغوت وهو ما سرى الله تعالى ويؤمن باله إيمانا حقيقيا شهوديا فقد استمسك بالعروة الوثقى التى هي الوحدة الذاتية لا انفصام لها في نفسها
(3/24)

لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشئون الداخلة في دائرتها غير منقطعة عنها والله سميع يسمع قول كل ذى دين عليم نبيته الله ولى الذين آمنوا وليس ولى سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره يخرجهم من ظلمات النفس وشبه الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الارواح والذين كفروا بالميل إلى الاغيار أولياؤهم الطاغوت الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا اليه يخرجونهم من نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات أولئك المبعدون عن الحضرة أصحاب النار الطبيعية هم فيها خالدون ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه وهو نمروذ النفس الأمارة الجادلة لإبراهيم الروح القدسية التى ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام أن آتله الله الملك الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية إذ قال إبراهيم الروح أو إبراهيم الخليل ربى أنى من غذيت ببيان أنواره أو ايجاده وهدايته الذي يحيى من توجه اليه ويميت من اعرض عنه أو يحيى ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين قال نمروذ النفس الامارة أو الجبار أنا أحي بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات وأميت لعضها بتعطيلة عن ذلك برهة أو أحى بالعفو وأميت بالقتل قال إبراهيم الروح أو الخليل إن الله يأتى بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض فأت بها من المغرب آى أظهرها بعد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها أو أن الله يأتى بشمس الروح من مشرقها وهو مبدأها الاصلى فتشرق أنوارها على صفحات البدن فأت بها بعد ما غربت أي فأرجعها إلى من قتلته وأمته وعلى هذا يكون من تتمة الأول فبهت وغلب الذي كفر وهو النفس الامارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين أو كالذى مر وهو العقل الانسانى على قرية القلب الذي هو البيت المقدس أو هو عزير النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلى باسمه تعالى المحي وهى خاوية خالية من التجليات النافعة ثابتة على عروشها صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم قال لذهوله عن النظر إلى الحقائق أنى متى أو كيف يحيى هذه القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال بعد موتها بداء الجهل والالتفات إلى السوى فأماته الله أبقاه جاهلا مئة عام أي مدة طويلة وقيل : هى عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها : إلا يوما أو بعض يوم استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية أو أماته بالموت الإرادى في إحدى المدد المذكور فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه مجاهدته في سبيل الله تعالى أو أماته حتنف أنفه بالموت الطبيعى ثم بعثه بالاحياء قال : بل لبثت في الحقيقة مائة عام فانظر إلى طعامك وكان التين أو العنب والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التى في التين والثانى شارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم وشرابك وكان عصير العنب واللبن والأول إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق والثانى إشارة إلى العلم النافع كالشرائع لم يتسنة أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت وانظر إلى حمارك وهو القالب الحامل للقلب أو
(3/25)

المعنى الظاهر ولنجعلك آية أي دليلا للناس بعثناك وانظر إلى العظام من القوى كيف ننشزها ونرفعها عن أرض الطبيعة ثم نكسوها لحما وهو العرفان الذي يكون لباسا لها وعبر عنه باللحم لنموه وريادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك قال أعلم علما مستمرا إن الله على كل شيء ومن جملته ما كان قدير لا يستعصى عليه ولا يعجزه وإذ قال إبراهيم بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى : واذكروا إذ جعلكم خلفاء وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهانى وإما بقال الآتى وقد تقدم تحقيق ذلك رب كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة أرنى من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأول وقوله تعالى : كيف تحي الموتى في محل مفعوله الثانى المعلق عنه وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين واعترض بأن البصرية لا تعلق وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها وفى شرح التوضيح يجوز كونها علمية ومن الناس من لم يجعل ما هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة كيف الخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى : وتبين لكم كيف فعلنا بهم ثم الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسؤل فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي بصرنى كيفية إحيائك للموتى وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين وفى الخبر ليس الخبر كالمعانية وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن والضحاك وقتادة وهو المروى عن أهل البيت وروى عن ابن عباس والسدى وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحي الموتى بدعائه فسأله لذلك وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الاحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحى الله تعالى الميت بحيث يشلهده فدعا حينئذ قال استئناف مبنى على السؤال والضمير للرب أو لم تؤمن عطف على مقدر أي ألم تعلم ولم تؤمن بأنى قادر على الاحياء كيف أشاء حتى تسألنى عنه أو بأنى قد اتخذتك خليلا أو بأن الجبار لا يقتلك قال أي إبراهيم بلى آمنت بذلك ولكن سألت ليطمئن أي يسكن قلبي بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإبقان بأنك قادر على ذلك أو ليطمئن قلبى بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلنى وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافى منصب النبوة أصلا وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية : وما ذكر هو المشهور فيها ويعجبنى ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينى والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الاحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الاحاطة بصورتها فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الايمان على علمه ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كيف وموضوعها السؤال عن الحال ونظير هذا أن يقول القائل : كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن
(3/26)

ثبوت ذلك لقام أيحكم زيد في الناس ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع : نحن أحق بالشك من إبراهي أي نحن لم نشك فلأن لايشك إبراهيم أحرى وقيل : إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفى المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا ومن هذا الباب أهم خير أم قوم تبع أي لا خير في الفريقين وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الاثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له : أرنى كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظى في العبارة الاولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الاحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد وعدم حصول هذا الطمأنينة قبل لا ينافى حصول الايمان بالقدرة على الاحياء على أكمل الوجوه ولا أرى رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئاوإنما أفادت أمر ألا يجب الايمان به ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الايمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله : لو كشفت لى الغطاء ما ازددت يقينا كماظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامى الخليل والامير من أفضلية الثانى على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى ك وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم والطمأنينة لا يتصور طرو ذلك عليها ونسب هذا لحجة الاسلام الغزالى وفي القلب منه شيء وبعض قرر في دفعة أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينة بحسبه ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينة بحسبه ايضا وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى : ألم تر إلى ربك كيف مد الظل على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة كما أبانا عن أنفسهما برب أرنى كيف تحي الموتى ورب أرنى أنظر اليك وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله : لو كشف الخ وكان الاستعداد في صديقى سائر الانبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله عليه و سلم على سائر إخوانه من الانبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمانينتهم الفضيلة على الانبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجىه الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر دضى الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إنى لأسهو فقال : ياليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما بعده رسول الله صلى الله عليه و سلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الابرار سيآت المقربين وحسنات المقربين سيآت النبيين وهذا أولى مما سبق وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الامة وصديقيهم أعلى كعبا من الانبياء ولو نالوا مقام الصديقية
(3/27)

محتجين بما روي عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبدالقادر الكيلانى قدس سره أنه قال : يامعاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك وأنت تعلم أن إلتزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به وما روي عن الشيخ عبدالقادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس شره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول : إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه والوقوف عند رتبته وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة وبعيد عنه بمراحل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة ولكل مقام مقال هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الإستدلال حيث يجوز معه ذلك وإعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قيل التشكيك قبولا مطلقا هو الإعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا ينحط الإعتقاد الصحيح عن العلم وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره وقد قيل عليه ما قيل فتدبر واللام في ليطمئن لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن وليس بمبني كما زلق السمين ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف ما منه الإستدراك وقيل المتعلق أرني ولا أراه شيئا والماضى للفعل إطمأن على وزن إقشعر وإختلف هل هو مقلوب أم لا فمذهب سيبويه أنه مقلوب من إطأمن فالطاء فاء الكلمة والهمزة عينها والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه إفلعل ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول : إطأمن وإطمأن مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة وقيل : طمأنينه بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرد عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس إطمأن أن يكون مصدره على الإطمئنان وقرئ أرنى بسكون الراء قال أي الرب فخذ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ
أربعة من الطير المشهور أنه إسم جمع كركب وسفر وقيل : بل هو جمع طائر كتاجر وتجر وإليه ذهب أبو الحسن وقيل : بل هو مخفف من طير بالتشديد وقال أبو البقاء : هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لإعتباره مذكرا وأسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق بخذ والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق والطاوس والديك والحمامة وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب وفي رواية بدل الحمامة بطة وفي رواية نسر وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان بإعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها مزيد ظهور القدرة
(3/28)

ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة و السلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته فصرهن قرأ حمزة ويعقوب بكسرالصاد والباقون بضمنها مع التخفيف من صاره يصوره ويصيره لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي وقال الفراء : الضم مشترك بين المعنيين والكسر بمعنى القطع فقط وقيل الكسر بمعنى القطع والضم بمعنى الإمالة وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعه والصحيح أنه عربي وعن عكرمة أنه نبطي وعن قتادة أنه حبشي وعن وهب أنه رومي فإن كان المراد أملهن فقوله تعالى : إليك متعلق به وإن كان المراد فقطعهن فهو متعلق بخذ بإعتبار تضمينه معنى الضم وإختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي فقطعهن مقربة ممالة إليك وزعم ابن هشام تبعا لغيره : أنه لا يصح تعليق الجار بصرهن مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدى بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فصرهن بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه والراء إما مضمومة للإتباع أو مفتوحة للتخفيف أو مكسورة لإلتقاء الساكنين وعنه أيضا فصرهن من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياءا وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللبن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع أي إجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا ثم إجعل أي ألق أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة
على كل جبل يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك كما روي عن مجاهد والضحاك وروي عن ابن عباس والحسن وقتادة أن الجبال كانت أربعة وعن ابن جريج والسدي أنها كانت سبعة وعن أبي عبدالله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة منهن أي من تلك الطير جزءا أي قطعة وبعضا ربعا أو سبعا أو عشرا أو غير ذلك وقرئ جزءا بضمتين وجزا بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول لا جعل والجار أن قبله متعلقان بالفعل ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير و منهن حال من جزءا لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها ثم أدعهن أي نادهن أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : إنه عليه الصلاة السلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة إجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال والصبا والجنوب والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما إجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وعن مجاهد أنه دعاهن بإسم إله إبراهيم تعالين وإستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين وقيل : في الآية حذف كأنه قيل : فقطعهن ثم إجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فأدعهن
(3/29)

يأتينك سعيا فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده وأعظم منه فسادا ما قيل : إنه عليه الصلاة و السلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء وفي بعضها أن رءوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رءوسهن فإنضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة وسعيا حال من فاعل يأتينك أي ساعيات مسرعات أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا وقيل : إطلاق السعي على الطيران مجاز وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل قال : سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى : يأتينك سعيا هل يقال الطائر إذا طار سعى فقال : لا قلت : فما معناه قال : معناه يأتينك وأنت تسعى سعيا وهو من التكلف الغير المحتاج اليه بمكان وإنما إقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لإمتثال خليله عليه الصلاة و السلام ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التى علمت النزر منها للإيذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة وإستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة و السلام لم يفعل شيئا مما إقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا : خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم إستعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الإمتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم و الرؤية هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية وإطمأن قلبه وسكن لبه ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للإمتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه بقال أو حال ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا وقال : إن إبراهيم عليه الصلاة و السلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه والمراد بصرهن أملهن ومرنهن على الإجابة أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين وضرب من الهذيان لا يركن اليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الأسماع ولا يدعو اليه داع فالحق إتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة بجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية وإحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو وقال القاضي : دلت الآية على أنه لابد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة والإنفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة وفيه تأمل والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الايمان لا يزيد
(3/30)

ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والإستدلال ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الإيمان ونقصه بناءا على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة و السلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه وأرى عزيرا عليه الصلاة و السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام
واعلم أن الله عزيز غالب على أمره حكيم
260
- ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح حكي أن الله سبحانه لما وفى لإبراهيم عليه الصلاة و السلام بما سأل قال له : يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة و السلام وهو من باب الإنبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا
ومن باب الإشارة في هذه القصة وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى أي موتى القلوب بداء الجهل قال أو لم تؤمن أي ألم تعلم ذلك علما يقينيا قال بلى أعلم ذلك
ولكن للعيان لطيف معنى له سأل المشاهدة الخليل وهو المشار إليه بقوله سبحانه : ليطمئن قلبي الذي هو عرشك قال فخذ أربعة من الطير إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم وهي أربعة من أطيار الغيب العقل والقلب والنفس والروح فصرهن إليك أي ضمهن وإذبحهن فإذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت وإذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت وإذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية وإذبح طير الروح بسكين العجز في تية عزة أسرار الربانية ثم إجعل على كل جبل منهن جزءا فإجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة البوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في وإجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكر منعوتا بصرف نور المحبة وإجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية وإجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الإنبساط راسخة في التجليات ثم أدعهن ونادهن بصوت سر العشق يأتينك سعيا إلى محض العبودية بجمال الأحدية واعلم أن الله عزيز يعزك بعرفانك هذه المعاني وإطلاعك على صفاته القديمة حكيم في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك وقد يقال : أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التى تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية ووقع في أثر أنها كانت طاوسا وديكا وغرابا وحمامة ولعل الطاوس إشارة إلى العجب والديك إلى الشهوة والغراب إلى الحرص والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج وفي أثر بدل الحمامة بطة وفي آخر نسر وكأن الأول إشارة إلى الشره الغالب والثاني إلى طول الأمل ومعنى فصرهن إليك حينئذ ضمهن وأملهن إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها وفي الأثر أنه عليه الصلاة و السلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رءوسها عنده أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيآتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعادتها بالرياضة
(3/31)

ويبقى أصولها فيه ثم أمر أن يجعل على كل جبل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهن وكأنه عليه الصلاة السلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وإمتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم مثل الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره وقيل : المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها كمثل حبة خبر عن المبتدأ قبله ولابد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للإقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر أنبتت سبع سنابل أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة
في كل سنبلة مائة حبة كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل وقيل : وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس
والله يضعف هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى وإقتصر بعض على الأول وبعض على الثاني والتعميم أتم نفعا لمن يشاء من عباده المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه أخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه وأبي الدرداء وأبي هريرة وعمران بن حصين وأبي أمامة وعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية وعن معاذ بن جبل إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد والله وسع لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عليم
261
- بينه المنفق وسائر أحواله ومناسبه هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية وقصة إبراهيم عليه الصلاة و السلام وكانا من أدل دليل على البعث ذكر ما ينفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله تعالى عز شأنه : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتلوا بقوله سبحانه : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم الخ
(3/32)

وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع إشتركا فيه من التغذية والنمو الذين ينفقون أمولهم في سبيل الله إستئناف جيء به لبيان كيفية الإنفاق الذي بين فضله
ثم لا يتبعون ما أنفقوا أي إنفاقهم أوما أنفقوه منا على المنفق عليه ولا أذى أي له والمن عبد الإحسان وهو في الأصل القطع ومنه قوله : حبل منين أي ضعيف وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه و الأذى التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا لشمول النفي لإتباع كل واحد منهما و ثم للتفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات وذكر في الإنتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في إستصحابه وعلى هذا لايخرج عن الإشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى : ثم استقاموا أي داوموا على الإستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الإستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات وكذلك ثم لا يتبعون الخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الإعتداد به والإمتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المن وبسببه مثله يقع في السين نحو إني ذاهب إلى ربي سيهدين إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوام الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها وهو كلام حسن ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة
والآية كما أخرج الواحدي عن كلبي والعهدة عليه نزلت في عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف أما عبدالرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأربعة الآف درهم صدقة فقال : كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال : علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين وقال أبو سعيد الخدري : رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول : يارب عثمان بن عفان رضيت عنه فإرض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر فأنزل الله تعالى فيه الذين ينفقون الخ لهم أجرهم حسبما وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى لهم عند ربهم من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك : الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الإستحقاق به إستحقاق وصفي وفيه ترغيب دقيق لايهتدى إليه إلا بتوفيق وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن
(3/33)

ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك إتباع المن والأذى أمر بين لايحتاج إلى التصريح بالسببية ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
262
- المراد بيان دوام إنتفائهما لا بيان إنتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها قول معروف أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا ومغفرة أي ستر لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه خير للسائل من صدقة عليه يتبعها من المتصدق أذى له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر وقيل : يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسئول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول خير للمسئول من تلك الصدقة وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد وعلى هذين الوجهين ليس كذلك على أن إعتبار الخيرية فيهما يؤدى إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خير في الجملة مع بطلانها بالمرة وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشئ والجملة مستأنفة مقررة لإعتبار ترك إتباع المن والأذى وإنما لم يذكر المن لأن الأذى يشمله وغيره وصح الإبتداء بالنكرة في الأول لإ ختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة وقد يقال : إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ
والله غني عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها لمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمن والأذى فلا يقبلها أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مئونة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى حليم
263
- فلا يعجل بالعقوبة على المن والإيذاء لاأنهم لا يستحقونها بسببهما والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لإعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا يأيها الذين آمنوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى أي بكل واحد منها لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه والمراد بالمن المن على الفقير كما تقدم وهو المشهور وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المن على الله تعالى و بالأذى الأذى للفقير وإستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الإبطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ومن العقيدة أن السيآت لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة والآية أحد متمسكاتهم وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمن ويؤذي لا تقبل حتى قيل : إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك فمعنى لا تبطلوا حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى : كالذي ينفق ماله رئاء الناس فيه نوع تأييد له بناءا على أن كالذي في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي الخ وإما على أنه حال من فاعل لا تبطلوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء ووجه التأييد أن المرائى بالإجماع
(3/34)

لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا وإنما آتى به باطلا مردودا وقد وقع التشبيه في البين فتدبر وإنتصاب رياء إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم أو على أنه حال من فاعله أي ينفق ماله مرائيا وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشئ وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه وأصل رياء رئاء فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياءا فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة وقد قرأ به الخزاعي والشموني وغيرهما والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر كما قيل وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى : ولا يؤمن بالله واليوم الأخر حتى يرجوا ثوابا أو يخشى عقابا فمثله أي المرائي في الإنفاق والفاء لربط ما بعدها بما قبلها كمثل صفوان أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة أو صفاء أو إسم جنس ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى : عليه تراب أي شيء يسير منه فأصابه وابل أي مطرد شديدالوقع والضمير للصفوان وقيل : للتراب
فتركه صلدا أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الإنتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح وقيل : إنه هو الوجه والأول ليس بشئ
لا يقدرون على شيء مما كسبوا أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياءا ولا ينتفعون به قطعا والجملة مبينة لوجه الشبه أو إستئناف مبني على السؤال كأنه قيل : فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل : لايقدرون وجعلها حال من الذي كما قال : السمين مهزول من القول كما لا يخفى والضمير راجع إلى الموصول بإعتبار المعنى بعدما روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والفريق أو هو مستعمل للجمع كما قوله تعالى : وخضتم كالذي خاضوا على رأي وقوله : إن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد وقيل : إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته ولا يخفى بعده ورجوع الضمير إلى الذين آمنوا من قبل بالإلتفات مما لا يلتفت إليه والله لا يهدي القوم الكفرين
264
- إلى ما ينفعهم والجملة تذليل مقرر لمضمون ما قبله وفيه تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها و مثل الذين ينفقون أمولهم إبتغاء مرضاة الله أي لطلب رضاه أو طالبين له
وتثبيتا من أنفسهم أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان فمن تبعيضية كما في قولهم : هز من
(3/35)

عطفية وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم فمن إبتدائية كما في قوله تعالى حسدا من عند أنفسهم ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة مجاهد وتبيينا من أنفسهم وجوز أن تكون من بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وليس بالبعيد وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية للنفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة
كمثل جنة بربوة أي بستان بنشز من الأرض والمراد تشبيه هؤلاء في الزكاة بهذه الجنة وأعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده
وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح والباقون بالضم وابن عباس بالكسر وقرئ رباوة وكلها لغات وقرئ كمثل حبة بالحاء والباء أصابها وابل مطر شديد فأتت أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز أكلها بالضم الشئ المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع بسكون الكاف تخفيفا ضعفين أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل أو أربعة أمثاله بناءا على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان وقيل : المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى : تأتي أكلها كل حين ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا فإن لم يصبها وابل فطل اي فيصيبها أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها والمراد أن خيرها لا يخلف على حال لجودنها وكرم منبتها ولطافة هوائها و الطل الرذاذ من المطر وهو اللين منه
وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك فهناك تشبيه حال النفقة النامية لإبتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين والوابل والطل والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل : وهو محتمل لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق ويحتمل أن يكون من المركب والكلام مساق للإرشاد إلى إنتزاع وجه الشبه وطريق التركيب والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني
والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثير منهم الأضعاف لأجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها واختار بعضهم الأول وأبى آخرون الثاني فأفهم والله بما تعملون بصير 265 فيجازي كلا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به ففي الجملة ترغيب للأول وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة
(3/36)

إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغني رؤيته من لا تغني رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه
أيود أحدكم أي أيحب أحدكم وكذلك قرأ عمر رضي الله تعالى عنه في رواية عنه والهمزة فيه للإنكار أن تكون له جنة وقرئ جنات من نخيل وأعناب أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما والنخيل قيل : إسم جمع وقيل : جمع نخل وهو إسم جنس جمعي و أعناب جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك لأن النخلة كلها منافع ونعمت العمات هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره وفي بعض الآثار ولم أجده في كتاب يعول عليه إن الله تعالى يقول : أتكفرون بي وأنا خالق العنب و الجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة وعلى الأرض المشتملة عليها والأول أنسب بقوله تعالى : تجرى من تحتها الأنهر إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الإحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة في موضع رفع صفة جنة أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل له فيها من كل الثمرت الظرف الأول في محل رفع جبر مقدم والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر والثالث نعت لمبتدأ محذوف أي رزق أو ثمر كائن من كل الثمرات وجوز زيادة من على مذهب الأخفش وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم إحتواء الجنة على ما سواهما ومنهم من قال : إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشئ وأصابه الكبر أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر والواو للحال والجملة بتقدير قد في موضع نصب علىالحال من فاعل يود أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش وقيل : الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر وإعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني وأصابه الكبر لا يتمناها أحد والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الإستفهام للإنكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفي ما فيه وله ذرية ضعفآء في موضع الحال من الضمير في أصابه أي اصابة الكبر والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم و الضعفاء جمع ضعيف كشركاء جمع شريك وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى وقرئ ضعاف فأصابها إعصار أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية وسبب الأولى أنه إذا إنفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضهافي طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما
(3/37)

زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب إلتواء مسامه وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت وإستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما إشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نارا تدور أيضا ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه : فيه نار وتذكير الضمير لإعتبار التذكير فيه وإنما سمى ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل : لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروي عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال فأصابها نار فاحترقت لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر والفعل المقرون بالفاء عطف على أصابها وقيل : على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها فإحترقت وهذا كما روي عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة وإشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباءا منثورا بحال من هذا شأنه
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى : أيحب أحدكم أن تكون له الخ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر : فلم تحقر نفسك ! فقال : يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورق عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل بعمل أهل الشفاء فأفسد عمله فأحرقه قال : فوقعت على قلب عمر وأعجبته
وفي رواية البخاري والحاكم وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : فيم ترون هذه الآية نزلت أيود أحدكم الخ قالوا الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال : قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر : يا ابن أخى قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله قيل : وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء وفصل عنه لإ تصاله بما ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وإرتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه كذلك أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة يبين الله لكم الأيت لعلكم تتفكرون
266
- أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعملوا بموجبها أو لعلكم تعملون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها يأيها الذين إمنوا أنفقوا من طيبت أي جياد أو حلال
(3/38)

ما كسبتم أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي
وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في طيبات ما كسبتم : من الذهب والفضة وفي قوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته واعاد من في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل أو للتأكيد ولعله أولى وترك ذكر الطيبات لعلمه مما قبله وقيل : لعلمه مما بعد وبعض جعل ما عبارة عن ذلك ولا تيمموا أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف وقرأ عبدالله ولا تأمموا وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى الخبيث أي الردئ وهو كالطيب من الصفات الغالبة التى لا تذكر موصوفاتها منه تنفقون الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق بتنفقون والتقديم للتخصيص والجملة حال مقدرة من فاعل تيمموا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة
فعن عبيدة السلمانى قال : سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال : نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الردئ فقال الله تعالى : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثر وكذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه و تنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى : ولستم بآخذيه حال على كل حال من ضمير تنفقون أي والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه إلا أن تغمضوا فيه إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم وقد إستعير هنا كما قال الراغب للتغافل والتساهل وقيل : إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا وهو الأكثر ولازما مثل أغضى عن كذا والآية محتملة للأمرين وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم وقرأ الزهرى تغمضوا بتشديد الميم وعنه أيضا : تغمضوا بضم الميم وكسرها مع فتح التاء وقرأ قتادة تغمضوا على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمنسبك من أن والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا اليه وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية وسيبويه لا يجوز أن تقع أن وما في حيزها حالا وزعم الفراء أن هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم وينبغى أن تغمض طرف القبول عنه ومن البعيد في الآية ما قيل : إن الكلام تم عند قوله تعالى : ولا تيمموا الخبيث ثم إستؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتفريع : منه تنفقون والحال أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم فيه ومآله الإستفهام الإنكارى فكأنه قيل : أمنه تنفقون الخ وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم
(3/39)

واعلموا أن الله غني عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لإنتفاعكم وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه حميد
267
- أي مستحق للحمد على نعمه ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به وقيل : حامد بقبول الجيد والإثابة عليه وإحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيره حتى البقل وإستدل بها على أن من زرع في أرض إكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجير على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله الشيطن يعدكم الفقر إستئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر وأما في الإستعمال الشائع فالوعد في الخير والإ يعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم وقد إستعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم : لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا وتسمية ذلك وعدا مع أنه إعتبر فيه الإخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجئ الفقد إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الإخبار بتحقيق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعال الواقعة حسب إرادته أو لوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق الكشاكلة ومن الناس من زعم أن إستعمال الوعد هنا في الخير حسب الإستعمال الشائع والمراد أن مايخوفكم به هو وعد الخير لأن الفقر للإنفاق أجل خير ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل وقرئ الفقر بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر ويأمركم بالفحشاء أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب : أخي يا أخي لا فاحشا عند بيته ولا برم عند اللقاء هيوب والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففى الكلام إستعارة مصرحة تبعية وقيل : المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الإطمئنان إليه فإذا إطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه إستعلاء على المأمور والله يعدكم في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم مغفرة لذنوبكم وعن قتادة لفحشائكم والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى منه فهو مؤكد لفخامتها وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان وفضلا أي رزقا وخلفا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة وهذا إشارة إلى منافع الدنيا
وفي الحديث ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها وقيل : المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح وفي الآية فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وحذف صفة الثانى لدلالة المذكور عليها والله وسع بالرحمة والفضل عليم
268
- بما تنفقون فيجازيكم عليه والجملة تذليل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى :
(3/40)

يؤتي الحكمة أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وفي رواية عنه الفقه في القرآن ومثله عن قتادة والضحاك وخلق كثير وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له إقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك فإذا بيده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه وفيالأخرى العلم الذ تعظم منفعته وتجل فائدته وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى وقال أبو عثمان : هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام وقيل : غير ذلك وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض وعد بعضهم الأكثر منها إصطلاحا وإقتصارا على مارآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهى في الأصل مصدر من الاحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة
قيل : ولعل الأنسب بالمقام ما ينظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها من يشاء من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بيينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فإغتنموها وسارعوا إلى العمل بها ومن يؤت الحكمة بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للإعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم وقرأ يعقوب يؤتى على البناء للفاعل وجعل من الشرطية مفعول مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن يؤته الحكمة فقد أوتى خيرا عظيما كثيرا إذ قد جمع له خير الدارين
أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن لقمان قال لإبنه : يا بني عليك بمجالسة العلماء وإسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحي القلب الميت بنور الحكمة كما يحي الأرض الميتة بوابل المطر وأخرج البخارى ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا حسد إلا في أثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول : يامعشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم إذهبوا فقد غفرت لكم وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول : إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن
(3/41)

أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس وديمقراطيس وأفلاطون وإرسطاليس ومن مشى على آثارهم وإعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى أن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم وإستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى من حديث جابر أن عمر رضي الله تعالى عنه إستأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا إتباعي وفي رواية يكفيكم كتاب الله تعالى ووجه الإستدلال أنه صلى الله عليه و سلم لم يبح إستعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الإشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب وما يذكر إلا أولوا الألبب
269
- أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم إتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإ ظهار الإعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر والجملة إما حال أو إعتراض تذييلي
ومن باب الإشارة في الآيات أنها إشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة الأول الإنفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال وإلى هذا أشار بقوله سبحانه : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة الخ والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الإنفاق لطلب رضا الله تعالى وإليه أشار بقوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ولتأكيد الإشارة إلى إرتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض والثالث الإنفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم والنفس مكتسبة بهذا الإعتبار وجزاء الإنفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للأضعاف وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم الآلهية والعلوم اللدنية لإرتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المن والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر وهو حال له بالنسبة إليه تعالى وكونه مزيلا لرذائل البخل وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه وكونه نافعا مريحا وهو حال له بالنسبة إلى المستحق فإذا من صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالإستطالة والإعتداء والعجب والإحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لأنسبه وما أنفقتم من نفقة قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل فالآية بيان لحكم كلي شامل
(3/42)

لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى أو نذرتم من نذر متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية والنذر عقد القلب على شيء وإلتزامه على وجه مخصوص قيل : وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب : هم ينذرون دمي وأن ذر إن لقيت بأن أشدا وفعله كضرب ونصر وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب : نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا فإن الله يعلمه كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم والفاء داخلة في الجواب إن كانت ما شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لإتحاد المرجع بناءا على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين وقال ابن عطية : إن التوحيد بإعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لإعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان بأو دونهما وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي إعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث وإعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا إنفضوا إليها وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن إعتبر المذكور صريحا وإلتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى نعم جوز إرجاع الضمير إلى ما لكن على تقدير كونها موصولة كما قال غير واحد
وما للظلمين أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمن والأذى والمتحرين للخبيث في الإنفاق والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمن والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى من أنصار
270
- أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير كحبيب وأحباب أو ناصر كشاهد وأشهاد والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفى الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد
والقول بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت من زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشئ كما يخفى والجملة إستئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله ونفى أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصى غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه وإستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكره ما يكفر اليمين وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى
إن تبدو الصدقت أي تظهروا إعطاءها قال الكلبي : لما نزلت وما أنفقتم من نفقة الآية قالوا : يارسول الله
(3/43)

أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع وقيل : الصدقات المفروضة وقيل : العموم فنعما هي الفاء جواب للشرط ونعم فعل ماضي و ما كما قال ابن جني : نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف والجملة خبر عن هي والرابط العموم وقرأ ابن كثير وورش وحفص بكسر النون والعين للإتباع وهي لغة هذيل قيل : ويحتمل أنه سكن ثم كسر لإلتقاء الساكنين وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم وقرأ ابو عمرو وقالون : وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين وروي عنهم الإسكان أيضا وإختاره أبو عبيدة وحكاه لغة والجمهور على إختيار الإختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة وممن أنكره المبرد والزجاج والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حده وإن تخفوها أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناءا على أن المراد بالصدقات المبداة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قولى تعالى : وتوتوها الفقراء الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل : ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لابد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الإلتباس والإشتباه فإن الغني ربما يدعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس وتخصيص الفقراء بالذكر إهتماما بشأنهم وقيل : إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشئ لأنه بعد تسليم أن المبدأة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط ودون إثبات ذلك الموت الأحمر وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف فهو خير لكم أي فالإخفاء خير لكم من الإبداء و خير لكم من جملة الخيور والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى
أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال : صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية وأخرج الطبراني مرفوعا إن صدقة السر تطفىء غضب الرب
وأخرج البخاري سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله إلى أن قال : ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها ويكفر عنكم من سيئاتكم أي والله يكفر أو الإخفاء والإسناد مجازي و من تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات وقيل : مزيدة على رأي الأخفش وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ويعقوب نكفر والنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو أسمية معطوفة على ما بعد الفاء
(3/44)

أي ونحن نكفر وقيل : لا حاجة إلى تقدير المبتدأ والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط وقرأ حمزة والكسائي نكفر بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد وإستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء و ما دخلت عليه في محل جزم وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وإدعى أن جرم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوفة عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدير وقرئ وتكفر بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات والله بما تعملون في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء خبير
271
- عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن إختلفا في الأفضلية ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثانى لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح
ليس عليك هدهم أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الإئتمار والإنتهاء إن أنت إلا بشير ونذير وما عليه إلا البلاغ المبين ولكن الله يهدي بهدايته الخاصة المواصلة إلى المطلوب قطعا من يشاء هدايته منهم والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الإلتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بألئك المكلفين مبالغة في حملهم علىالإمتثال وإلى هذا المعنى ذهب الحسن وأبو على الجبائي وهو مبني على رجوع ضمير هداهم إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية وأخرج ابن جرير عنه قال : كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله تعالى ليس عليك هداهم أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات وإنما هناك تلوين الخطاب فقط والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والإرتباط على التقديرين ظاهر وجعلها مرتبطة بقوله سبحانه : يؤتي الحكمة من يشاء إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها ليس بشئ وما تنفقوا في وجوه البر من خير أي مال فلأنفسكم أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم فلا تيمموا الخبيث ولا تبطلوه بالمن والأذى ورئاء الناس أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فان نفعكم به ديني ونفع الكافر منهم دنيوي و ما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعول و من تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لإسم الشرط ومخصصة له وما تنفقون إلا إبتغاء وجه الله
(3/45)

استثناء من أعم العلل وأعم الاحوال أي ما تنفقون بسبب من الاسباب إلا لهذا السبب أو في حال من الاحوال إلا في هذه الحال والجملة إما حال او معطوفة على ما قبلها على معنى وما تنفقوا من خير فانما يكون لكم لا عليكم إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى أو إلا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وقيل : إنه نفى بمعنى النهى أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لانك إذ قلت فعلته لوجه زيد كان أجل من قولك : فعلته له لان وجه الشئ أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلا وأيضا قول القائل : فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال : فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حملة هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا ابتغاء رضاة الله تعالى والسلف بعد أن نزهو افوضوا كعادتهم في المتشابه وما تنفقوا من خير يوف إليكم أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل وهو المروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد نفى أن يكون لهم عذر في المخالفة الامر المشار إليه في الإنفاق فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الامر فكأنه قيل : كيف يمن او يقصر فيما يرجع اليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما له عوض وزيادة وهى بهذا الاعتبار أمر مستقل وقيل : إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقول صلى الله تعالى عليه وسلم : اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا والتوفية إكمال الشى وإنما حسن معها اليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى ما مجازى وحقيقته ما سمعت والآية بناءا على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر وأما الواجبة التى للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف والامام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه وظاهر قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا يؤيده إذ الأسير في دار الاسلام لا يكون إلا مشركا
وأنتم لا تظلمون
272
- أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم والجملة حال من ضمير اليكم والعامل يوف للفقراء متعلق بمحذوف ينساق اليه الكلام ولهذا أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء والجملة استئناف مبنى على السؤال وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى : وما تنفقوا وقوله سبحانه : وانتم لا تظلمون اعتراض أي وما تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله أي حبسهم الجهاد او العمل في مرضاة الله تعالى يوف اليكم ولا يخفى بعده لا يستطيعون لا شتغالهم بذلك ضربا في الأرض أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم قاله ابن عباس ومحمد بن كعب القرطى وكانوا نحوا من ثلثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن سعيد بن جبير هم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين
(3/46)

حقا ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفرادها هذا المفهوم ودخوله فيه إد ذاك دخولا اوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين يحسبهم أي يظنهم الجاهل الذي لا خبرة له بحالهم
أغنياء من التعفف أي من أجل تعففهم على المسألة فمن للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل وقيل : لابتداء الغية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم والتعفف ترك الشئ والاعراض عنه مع القدرة على تعاطيه ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا اليه وحال هذه الجملة كحال سابقتها تعرفهم بسيمهم أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال
أخرج ابو نعيم عن فضالة بن عبيد قال : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الاعراب إن هؤلاء مجانين
وأخرج هو أيضا عن أبى هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم ووزن سيما عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياءا لوقوعها بعد كسرة لا يسئلون الناس إلحاقا أي إالحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفنى من فضل لحافه أي أعطانى من فضل ما عنده وقيل : سمى الالحاح بذلك لأنه يغطى القلب كما يغطى اللحاف من تحته نصبه على المصدر فانه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين والمعنى أنهم لا يسألون أصلا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه واليه ذهب الفراء والزجاج وأكثر ارباب المعانى وعليه يكون النفى متوجها لامرين على حد قول الاعشى : لايغمز الساق من أين ومن وصب ولا يغص على شرسوفة الصغر واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان ألقيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهانى وما هنا ليس كذلك إذا لالحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه وأجيب بان هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضى عدم السؤال راسا وأيضا تعرفهم بسيماهم مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان بالسيما وقيل : المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفى أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم
273
- فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء أخرج البخارى ومسلم عن ابى هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف واقرءوا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافا وتقدم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماءا للمبالغة
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية أي يعممون الاوقات والأحوال بالخيروالصدقة فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الاظهار وانتصاب سرا وعلانية على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرين
(3/47)

ومعلنين أو على أنهما حالان من ضمير ألإنفاق على مذهب سيبويه أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا والباء بمعنى في واختلف فيمن نزلت فأخرج عبدالرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في على كرم الله تعالى وجهه كانت له اربعة دراهم فانفق الليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما وفى رواية الكلبى فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ما حملك على هذا قال حملنى أن استوجب على الله تعالى الذي وعدنى فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألا إن ذلك لك
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان وعبدالرحمن بن عوف غى نفقتهم في جيش العسرة وأخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم والواحدى من طريق حسن بن عبدلله الصنعانى أنه سمع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية : الذين ينفقون الخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى وهو قول أبى أمامة وأبى الدرداء ومكحول وألأوزاعى ورباح بن يزيد ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى وقال بعضهم : إنها نزلت في ابى بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصديق باربعين الف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية وتعقبه ألأمام السيوطى بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وخبر إن الآية نزلت فيه لم أقف عليه وكأن من إدعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق قال : لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستحلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فانفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة وأنت تعلم أنها دلالة فيها على المدعى فلهم أجرهم المخبوء لهم في خزائن الفضل عند ربهم والفاء راخلة في حين الموصول للدلالة على سببية ما قبلها وقيل : للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين الخ ولذلك جوز الوقف على علانية ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
274 - تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة
الذين يأكلون الربوا أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به والربا في الأصل الزيادة من قولهم : ربا الشئ يربو إذا زاد وفى الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معارضة مال بمال وإنما بكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بشابهته معنى لفظ البيع لإشتمال المعنيين على معارضة المال بالمال بالرضا وإن كان أحد العوضين أزيد وقيل : الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الإلتباس بالجمع وقال الفراء : إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم ربوا بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين وأجاز الكوفيون كتابته وكذا نثنيته بالياء لأجل الكسرة التى في أوله قال أبو البقاء : وهو خطأ عندنا لايقومون أي يوم القيامة وبه قرئ كما في الدر المنثور
(3/48)

إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطن أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا و التخبط تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به ألآثار فقد أخرج الطبرانى عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إياك الذنوب التى لا تغفر الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط ثم قرأ الآية وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له ويشهد لذلك أن هذه الامة يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وإلى هذا ذهب ابن عباس وابن مسعود وقتادة واختاره الزجاج وقال ابن عطية : المراد تشبيه المرابى في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة : قد جن ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير وداع سوى الإستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات من المس أي ا 4 لجنون يقال : مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمى به لأن الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون وهذا لا ينافى ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء لأن ما ذكروه سبب قريب وما تشير اليه الآية سبب بعيد وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبى والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها وقد يدخل في بعض الاجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشئ من ذلك أصلا وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات
وقال المعتزلة والقفال من الشافعية : إن كون الصرع والجنون من الشيطان باطل لأنه لايقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه : وما كان لى عليكم من سلطان الآية و ما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجنى يمسه فينخلط عقله وليس لذلك حقيقة وليس بشء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردود بقواطع الشرع فقد ورد ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا وفى بعض الطرق إلا طعن الشيطان في خاصرته ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وإبنها لقول أمها وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت إنتشار الشياطين وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفه الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة و السلام أنه حدث من شأنه معهم قال : فجاءنى طائر كأنه جمل قبعثري فإحتملني على خافية من خوافيه إلى غير ذلك من الآثار وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها وإعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنه وإلتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك نحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والآية التي ذكروها في معرض الإستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما
(3/49)

هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل وخبر الطاعون من وخز أعدائكم الجن صريح في ذلك وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال : إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى إما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الإستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس لأحد سوانا فليحفظ
والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناءا على أن ما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب أكلهم الربا أو بيقوم أو بيتخبطه ذلك إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله : ومهمه مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه وقيل : يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناءا على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم وأحل الله البيع وحرم الربوا جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا وهو أن من باع ثوبا يساوى درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابلة شيء من الثوب وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد آخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابلة المال وقيل : الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية وفيها قد مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا وقيل هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعو الربا والريبة فمن جاءه موعظة أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا وإستحلاله و من
(3/50)

شرطية أو موصولة و موعظة فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير وقرأ أبي والحسن جاءته بإلحاق التاء من ربه متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفى ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده و من لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف فانتهى عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهى فله ما سلف أي ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه وهذا هو المروى عن الباقر وسعيد بن جبير وقيل : المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر و ما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت من موصولة وبالإبتداء إن جعلت شرطية على رأى من يشترط الإعتماد وكون المرفوع إسم حدث ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف وأمره أي المنتهى بعد التحريم إلى الله إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل وقيل : المراد إنه يجازيه على إنتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء إعتراض لكم عليه
ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سلف أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر ومن عاد أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا وإعتقاد جوازه والإحتجاج عليه بقياسه على البيع فأولئك إشارة إلى من عاد والجمع بإعتبار المعنى أصحب النار أي ملازموها هم فيها خلدون
275
- أي ما كثون أبدأ لكفرهم والجملة مقررة لما قبلها وجعل الزمخشري متعلق عاد الربا فإستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا وهو التفسير المأثور لا يبقى للإستدلال بها مساغ وإعترض بأن الخلود لو جعل جزاءا للإستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير إستحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود ألأهم بخلاف ما لو جعل ذلك جزاء أصل الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الإستحلال وأنه أمر فوق الخلود وأجيب بأن ما يكفر مستحلة لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره وقال بعض المحققين في الجواب : إن جعل إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب إجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أولا
وأما قوله سبحانه : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى وقوله تعالى : فمن عاد فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد والقول بأن المتعلق والربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر
يمحق الله الربوا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه أخرج أحمد وابن ماجه وابن جريج والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل
وأخرج عبدالرزاق عن معمر قال : سمعنا أنه لا يأتى على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق ولعل هذا مخرج مخرج الغالب وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى
(3/51)

لاهله منه شيء ويربى الصدقت يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة أخرج البخارى ومسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل وأخرج الشافعى وأحمد مثل ذلك والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان كذا قيل وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا
والله لا يحب لا يرضى كل كفار متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد لة آثيم
276
- منهمك في إرتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد وإختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الإستحلال ! أعاذنا الله تعالى من ذلك
فقد أخرج الطبرانى والبيهقى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبى صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية وقال : من نبت لحمه من سحت فالنار اولى به وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمة وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه
وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبى عبدالله الحسين رضي الله تعالى عنه قال : : درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام وأخرج عبدالرزاق وغيره عن على كرم الله تعالى وجهه أنه قال : لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه إن الذين ءآمنوا بما وجب الإيمان به وعملوا الأعمال الصلحت على الوجه الذي أمروا به وأقاموا الصلوة وأتوا الزكوة تخصيصها بالذكر مع إندراجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلها فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية والثانية أفضل الأعمال المالية لهم أجرهم الموعود له 444 م حال كونه عند ربهم وفى التعبير بذلك مزيد لطف ةتشريف ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
277
- لو فور حظهم يايها الذين ءآمنوا في الظاهر اتقوا الله أي قوا أنفسكم عقابه وذروا أي إتركوا ما بقى من الربوا لكم عند الناس إن كنتم مؤمنين
278
- عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ئقة بما قبله و من تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقى وقيل : متعلقة يبقى وقرأ الحسن بقى بقلب الياء ألفا على لغة طئ والآية كما قال السدى : نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال : نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفى ومسعود ابن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو وربيعه بن عمرو وحبيب بن عمير وكلهم أخوة وهم الطالبون والمطلوبون
(3/52)

بنو المغيرة من بنى مخزوم وكانوا يداينون بنى المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقفيا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة : والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل ويقال عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن بنى عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بنى المغيرة فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا الخ فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رءوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله وذلك قوله تعالى : فإن لم تفعلوا أي ما أمرتم به من الإتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الإعتراف فأذنوا أي فأيقنوا وبذلك قرأ الحسن وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بحرب من الله ورسوله وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثانى قبل : لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف وجمهور المفسرين على الإول وقرأ حمزة وعاصم في رواية بن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير حرب للتعظيم ولذا لم يفل بحرب الله تعالى بالإضافة أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قال : ثقيف لا يدى لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
وإن تبتم عما يوجب الحرب فلكم رءوس أمولكم تأخذونها لا غير لا تظلمون غرماءكم بأخذ الزيادة ولا تظلمون
279
- أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل وقرأ المفضل عن عاصم لا تظلمون الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى والجملة إما مستأنفة وهو الظاهر وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الإستقرار لوقوعه خبرا وهو رأى الإخفش ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون وما لهم المسكسوب في حال الردة فئ للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذا سائر أموالهم عند الشافعى رضي الله تعالى عنه وعندنا هو لورثتهم ولا شيء على كل حال وإن كان مع الإعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فان نزع وإلا ضرب عنقه ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه وأما عند غيرهما محبوسون لى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم قال المولى أبو المسعود وغيره : وإستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وإن كان ذو عسرة أي إن وقع المطلوب ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على إن كان تامة وجوز بعض الكوفيين إن تكون ناقصة و ذو اسمها والخبر محذوف أي وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة وقرئ ومن كان ذا عسرة وعلى القراءتين كان ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم وإن لم يذكر والآية نزلت كما قال الكلبى : حين قالت بنو المغيرة لبنى عمرو
(3/53)

ابن عمير : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنظرة الفاء جواب الشرط ونظرة مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي فالأمر أو فالواجب نظرة والنظرة كالنظرة بسكون الظاء الإنتظار والمراد به الإمهال والتأخير وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير ذو عسرة أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق لإبن وتامر وعنه أيضا فناظره أمرا من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة إلى ميسرة أي إلى وقت أو وجود يسار وقرأ حمزة ونافع ميسرة بضم السين وهما لغتان كمشرقه ومشرقه وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة كما قيل في مكرم جمع مكرمة وقيل : أصله ميسور فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وأن تصدقوا بحذف إحدى التاءين وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسرى غرمائكم برءوس أموالكم كلا أو بعضا خير لكم أي أكثر ثوابا من الإنظار أو خير مما تأخذونه لنفاذ ذلك وبقاء هذا
أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة وقيل : المراد بالتصديق الإنظار لما أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه : خير لكم لا يليق بالواجب بل بالمندوب واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا ام لا وهو الذي ذهب اليه ابن عباس دضى الله تعالى عنه والحسن والضحاك وأئمة اهل البيت وذهب شريح وإبراهيم النخعي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يحب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك إن كنتم تعلمون
280
- جواب إن محذوف أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه وفيه تحريض على الفعل واتقوا يوما وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الإتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التى تجعل الولدان شيبا ترجعون فيه على البناء للمفعول من الرجع وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل : في التهويل وقرئ يرجعون على طريق الإلتفات وقرأ أبى تصبرون وعبدالله تردون إلى الله أي حكمه وفصله ثم توفى أي تعطى كملا كل نفس كسبت خيرا أو شرا ما كسبت أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار وكسب الأشعرى لا يشعر به سوى الأشاعرة وهم لا يظلمون
281
- جملة حالية من كل نفس وجمع بإعتبار المعنى وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن إعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن ولك أن تقول : إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله
أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية واتقوا يوما الخ آخر
(3/54)

ما نزل من القرآن واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة و السلام فقيل : تسع ليال وقيل : سبعة أيام وقيل : ثلاث ساعات وقيل : أحدا وعشرين يوما وقيل : أحدا وثمانين يوما ثم مات بنفسي هو حيا وميتا صلى الله عليه و سلم
روي أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين وفى رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : جاءني جبرائيل فقال : اجعلواها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخارى وأبو عبيد وابن جرير والبيهقى من طريق الشعبى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا ومثله ما أخرجه البيهقى من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكتم الحقوق المؤجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل : يأيها الذين ءامنوا بالله تعالى وبما جاء منه إذا تداينتم أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بدين فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تداينهم يجئ بمعنى ما تعاملتم بدين وبمعنى تجازيتم ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لايتنبه له إلا الفطن وقيل : ذكر ليرجع اليه الضمير إذ لولاه لقيل : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذى الذوق العارف بأساليب الكلام واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعدلوا هو أقرب وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس وقيل : ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لإحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك إلى أجل أي وقت وهو متعلق بتداينتم ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مسمى بالأيام أو الأشهر أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فاكتبوه أي الدين بأجله لانه أرفق وأوثق والجمهور على استجابة لقوله سبحانه : فان أمن بعضكم بعضا والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخارى عنه أنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه ثم قرأ الآية واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وليكتب بينكم كاتب بالعدل بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا ومفعول يكتب محذوف ثقة بإنفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للإيذان بأنه ينبغى للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بكاتب أو بفعله والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم فالكلام : كما قال الطيبي مسوق لمعنى ومدمج فيه آخر بإشارة النص وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور
(3/55)

الخطرة إلا من كان فقيها ولهذا إستدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين
ولا يأب كاتب أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر أن يكتب بين المتداينين كتاب الدين كما علمه الله أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابه الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق بيكتب والكلام على حد وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك أي لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لإجل أن الله تعالى تفضل عليه وميزه ويجوز أن يتعلق الكاف بأن يكتب على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه والقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه : بالعدل وجوز أن يتعلق بقوله تعالى : فليكتب والفاء غير مانعة كما في وربك فكبر لأنها صلة في المعنى والأمر بالكتابة بعد النهى عن الأداء منها على الأول للتأكيد وإحتيج إليه لأن النهي عن الشئ ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا إعتناءا بشأن الكتابة ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل وأما على الوجه الثانى فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الإمتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الإمتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا وإدعاه بعضهم لأنه إذا كان الإمتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الإمتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى والنهي عن الإمتناع عن المتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد والحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليقيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الإمتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى !
و ما قيل : إما مصدرية أو كافة وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة عليها فالضمير لها وعلى الأولين للكاتب وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثانى لعلم كتابة الوثائق فإفهم وليملل من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت وقد يبدل أحد المضاعفين ياءأ ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال : إملاءا فهو والإملال بمعنى أي وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الذي عليه الحق وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وإنفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى وليتق أي الذي عليه الحق الله ربه جمع بين الإسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال ولا يبخس أي لا ينقص منه أي من الحق الذي يمليه على الكاتب شيئا وإن كان حقيرا وقرئ شيا بطرح الهمزة وشيا بالتشديد وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير وقيل : يجوز أن يرجع ضمير يتق للكاتب وليس بشئ لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة وإما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي
(3/56)

عن كليهما وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل إرجاع كل منهما لكل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل وإنما شدد في تكليف المملى حيث جمع فيه بين الأمر بالإتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعى إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن وفي منه وجهان : أحدهما أن يكون متعلقا بيبخس و من لإبتداء الغاية وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصبت حالا و شيئا إما مفعول به وإما مصدر فإن كان الذي عليه الحق صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الامر والنهى لغيره وعليه متعلق بمحذف أي وجب والحق فاعل وجوز أن يكون عليه خبرا مقدما الحق مبتدوءا مؤخرا فتكون الجملة إسمية وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سفيها أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعى أو ضعيفا أي صبيا أو شيخا خرفا أو لا يستطيع أن يمل هو جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في أن يمل وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتخصيص على أنه غير مستطيع بنفسه وقيل : إن الضمير فاعل ليمل وتغيير الأسلوب إعتناءا بشأن النفي ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم ومثله الفك في قوله تعالى : فليملل وليه أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيم والوكيل والمترجم والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فأعرفه بالعدل بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعيم ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس وإستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميما ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبداأو مرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس وليس بشيء كما لا يخفى
ومن الناس من إستدل بقوله سبحانه : فليكتب ولا يأب على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي والجبائي والرماني إلا أنهم قالوا : إنها واجبة على الكفاية وإليه يميل كلام الحسن وقال مجاهد والضحاك : واجب عليه أن يكتب إذا أمر وقيل : هي مندوبة وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك
واستشهدوا شهيدين أي إطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي إشهدوا وفي إختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك من رجالكم متعلق بإستشهدوا و من لإبتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين و من تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على إشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله وذهب الإمامية إلى عدم إشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما
(3/57)

الشرط فيه عندهم الإسلام و العدالة وإلى ذلك ذهب شريح وابن سيرين وأبو ثور وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن على كرم الله وحهه فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن إختلفت مللهم
فإن لم يكونا أي الشهيدان رجلين أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى : فرجل وامرأتان أي فإن لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وإمرأتان أو فرجل وإمرأتان يشهدون أو يكفون أو فالشاهد رجل وإمرأتان أو فليستشد رجل وإمرأتان أو فليكن رجل وإمرأتان شهودا وإن جعلت يكن تامة إستغنى عن تقدير شهود وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا وعند الشافعى في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح وقال مالك : لا تجوز شهادة أولئك فدى الحدود ولا القصاص ولا الولاء ولا الإحصان وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والإستهلال وما يجري مجرى ذلك مما بين في الكتب الفقهية وقرئ وإمرأتان بهمزة ساكنة ولعل ذلك لإجتماع المتحركات ممن ترضون متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وإمرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق إعتباره في كل شهيد لقلة إتصاف النساء به فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بإنتفاء هذا الوصف عن شهيدين وقيل : هو صفة لشهيدين وضعف بالفصل الواقع بينهما وقيل : بدل من رجالكم بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا وإختار أو حيان تعلقه بإستشهدوا ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين إشتراط المرأتين وتعليلة وهو كما ترى والخطاب للمؤمنين وقيل للحكام ولم يقل من المرضيين لإفهامه إشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر و لا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر من الشهداء متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعد التهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب
أن تضل إحدهما فتذكر إحدهما الأخرى بيان لحكمه مشروعية الحكم وإشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك وإعترض بأن النسيان وعدم الإهتداء للشهادة لا ينبغى أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالإستشهاد وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعنى عدم الإهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى : فتذكر قيل : والنكتة في إيثار أن تضل الخ على أن تذكر إن ضلت الإيماء إلى شدة الإهتمام بشأن الإذكار بحيث صار
(3/58)

ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه و إحداهما الثانية يجوز أن تكون فاعل تذكر وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر والأخرى فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى : كما وهم حتى يتعين الأول بل من قبيل أرضعت الصغرى الكبرى لأن سبق إحداهما نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الإهتمام بتذكير الضال ةلهذا كما قيل عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الإهتمام كما ينبه عليه المفعول الظاهر الذي لو آخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي وذكر غير واحدا أن العدول عن فتذكرها الأخرى وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمشى إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الإحتزاز عن توهم إختصاص الضلال بإحدهما بعينها والتذكير بالأخرى وأبعد الحسين بن علي المغربى في هذا المقام فجعل ضمير إحدهما الأولى راجعا إلى الشهادتين وضمير إحداهما الأخرى إلى المرأتين فالمعنى أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الاخرى منهما وأيده الطبرسى بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال : ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه : ضلوا عنا أي ضاعوا منا وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشئ إذ لا يكون لإحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الإنتظام وما ذكر في التأييد ينبيء عن قلة الإطلاع على اللغة
ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع والسدي وغيرهم ويقرب هذا في الغرابة مما قيل : إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فتذكر الخ فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا يعنى أنهما إذا إجتمعتا مانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى ةاللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بين ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامة وبعد التجوز ليس على ظاهره لأن الإحتياج إلى إقتران ذكر البتة معهما وقوله سبحانه : فإن لم يكونا رجلين ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا وإلتزام توجيه مثل ذلك وعرضه في سوق القبول لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار إحدى معرضا بما ذكره المغربي فقال : يا رأس أهل العلوم السادة البرره ومن نداه على كل الورى نشره ماسر تكرار إحدى دون تذكرها في آية لذوى الإشهاد في البقرة وظاهر الحال إيجاز الضمير على تكرار إحداهما لو أنه ذكره وحمل الإحدى على نفس الشهادة في أولاهما ليس مرضيا لدى المهره فغض بفكوك لإستخراج جوهره من بحر علمك ثم ابعث لنا درره فأجاب القاضي يا من فوائده بالعلم منتشره ومن فضائله في الكون مشتهره يا من تفرد في كشف العلوم لقد وافى سؤلك والإسرار مستترة
(3/59)

تضل إحداهما فالقول محتمل كليهما فهي للاظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضيا تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رددتم عليه الحل فهو كما أشرتم ليس مرضيا لمن سبره هذا الذي سمح الذهن الكليل به والله أعلم في الفحوى بما ذكره وقرئ أن تضل بالبناء للمفعول والتأنيث وقرئ فتذاكر وقرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو والحسن فتذكر بسكون الذال وكسر الكاف وحمزة أن تضل على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لإلتقاء الساكنين والفاء في الجزاء قيل : لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة وقيل : لا تقدير لان الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه وقيل : الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير الذاكرة و إحداهما بدل عنه أو عن الضمير في تذكر وقال بعض المحققين : الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما تذكر إحداهما الأخرى وعليه كلام كثير من المعربين والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبا لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لإداء الشهادة أو لتحملها وهو المروي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وخص ذلك مجاهد وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم إحتياجه إلىإرتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فان ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة و ما صلة وهى قاعدة مطردة بعد إذا ولا تسئموا أي تملوا أو تضجروا ومنه قول زهير : سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم أن تكتبوه أي الدين أو الحق أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به لتسأموا ويتعدى بنفسه وقيل يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به وقيل : المراد من السأم الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ولذا وقع في الحديث لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت وقرئ ولا يسأموا أن يكتبوه بالياء فيهما صغيرا أو كبيرا حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا وقيل : منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير إهتماما به وانتقالا من الأذى إلى الأعلى إلى أجله حال من الهاء في تكتبوه أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقربه وليس متعلقا بتكتبوه لعدم إستمرار الكتابة إلى الأجل إذ هى مما ينقضى في زمن يسير ذلكم أي الكتب وهو ألأقرب أو ألأشهاد وهو إلابعد أو جميع ما ذكر وهو الأحسن والخطاب للمؤمنين أقسط أي أعدل عند الله أي في حكمه سبحانه وأقوم للشهدة أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبينان من أقسط وأقام على رأى سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ وقيل من قاسط بمعنى ذى قسط وقويم وقال أبو حيان : قسط يكون
(3/60)

بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع وعليه لا حاجة إلى رأى سيبويه فى أقسط وقيل : هو من قسط بوزن كرم بمعنى صارذا قسط أى عدل وإنما صحت الواو فى أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب فى فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه وأدنى الا ترتابوا أى أقرب إلى انتقاء ريبكم وشككم فى جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك قيل : وهذا حكمه خلق اللوح المحفوظ والكرام الكابتين مع أنه الغنى الكامل عن كل شئ تعليما للعباد وإرشادا للحكام وحرف الجر مقدر هنا وهو إلى كما سمعت وقيل : اللام وقيل : من وقيل فى ولكل وجهه إلا أن تكون تجره حاضرة حاضرة تديرونها بينكم استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى فليكتب بينكم كاتب بالعدل إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أى لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد كذا قيل
وفى الدر المصون يجوز أن يكون استثناءا متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد فى كل حال إلا فى حال حضور التجارة وقيل : إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أى لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة وقيل : غير ذلك ولعل الأول أولى ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة كما قال الفراء وعود الضمير فى مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار فى فصيح الكلام وقال بعضهم : يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين ورفعها الباقون على أنها اسم تكون ولخبر جملة تديرونها ويجوز أن تكون تكون تامة فجملة تديرونها صفة فليس عليكم جناح ألا تكتبوها أى فلا مضرة عليكم أو لا إثم فى عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان أو لأن فى تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها وأشهدوا إذا تبايعتم أى هذا التبايع المذكور أو مطلقا ولا يضار كاتب ولا شهيد نهى عن المضارة والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول والدليل عليه قراءة عمر رضى الله تعالى عنه ولا يضار بالفك والكسر وقراءة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بالفك والفتح والمعنى على الأول نهى الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان وعلى الثانى عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مئونة المجئ من بلد ويؤثد هذا المعنى ما اخرجه ابن جريح عن الربيع قال : لما نزلت هذه الآية ولا يأب كاتب الخ كان أحدهم يجي إلى الكاتب فيقول : اكتب لى فيقول : إنى مشغول أولى حاجة فانطلق إلى غيرى فليزمه ويقول : إنك قد أمرت أن تكتب لط فلا يدعه ويضاره بذلك وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشئ كما لا يخفى وقرأ الحسن ولا يضار بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفى بمعنى النهى وان تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فإنه أى ذلك الفعل فسوق بكم أى خروج عن طاعة متلبس بكم وجوز كون الباء للظرفية قيل : وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم والله بكل شئ عليم
282
- فلا يخفى عليه حاكم وهو مجازيكم بذلك فأن قيل كيف كرر سبحانه الاسم الجليل فى الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله
(3/61)

فما للنوى جذ النود قطع النود حتى قيل : سلط الله تعالى شاة تأكل نواة أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير فى جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها والمستقبح هو أن يكون التكرير فى جملة واحدة أو فى جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير وما في البيت من القسم الثانى لان جذ النوى قطع النوى فيه بمعنى واحد وما فى الآية درة تاج القسم الأول لأن اتقوا الله حث على تقوى الله تعالى ويعلمكم الله وعد بإنعامه سبحانه والله بكل شئ عليم تعظيم لشأنه عز شأنه ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها فى الظاهر خبرا وإنشاءا ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتقوا أى اتقوا الله مضمونا لكم التعليم ويجوز أن تكون حالا مقدرة والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو
وإن كنتم على سفر أى مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم فى السفر بتمكن الراكب من مركوبه ولم تجدوا كاتبا يكتب لكم حسبما بين قيل والجملة عطف على فعل الشرط أو حال
وقرأ أبو العالية كتبا والحسن وابن عباس كتابا جمع كاتب فرهن مقبوضة أى فالذى يستوثق به أو فعليكم أو فليؤخذ أو فالمشروع رهان وهو جمع رهم وهو فى الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب فى شرعية الارتهان لأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه فى المدينة من يهودى على ثلاثين صاعا من شعير كما فى البخارى بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة فى السفر الذى هو مظنة إعوازها وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا فى السفر وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز فى السفر إلا عند فقد الكاتب وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه فى حكم الكاتب توثقا وإعوازا والجمهور على وجوب القبض فى تمام الرهن وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الرهن بالعقد تسليمه يشترط عنده بقاؤه فى يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى لما فى الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو على : فالخبز وللحم لهن راهن
وقهوة راووقها ساكب وفى التعبير بمقبوضة دون تقبضونها إياءا إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ فرهن كسقف وهو جمع رهن أيضا وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فإن أمن بعضكم بعضا أى بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن وقرأ أبى فان أو من أى أمنه الناس ووصفوا المديون بالامانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله و بعضا على على هذا منصوب بنزع الخافض كما قيل فليؤد الذى اؤتمن وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الاداء أمنته أى دينه والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه والأمانة مصدر أطلق على الدين الذى فى الذمة وإنما سمى أمانة وهو مضمون لائمانه عليه بترك الإرتهان به
(3/62)

وقرئ الذيتمن بقلب الهمزة ياءا وعن عاصم انه قرأ الذتمن بإدغام الياء فى التاء وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة فى حكمها فلا يدغم ورد نأنه مسموع فى كلام العرب وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال : إنه مقصور على السماع ومنه قرءة بن محيصن اتمن ونقل لصاغانى أن القول بجوازه مذهب الكوفيين وورد مثله فى كلام أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها وهى من الفصحاء المشهود لهم ففى البخارى عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرنى فأتزر فالمخطئ مخطئ وليتق الله ربه فى الخيانة وإنكار الحق وفى الجمع بين عنوان الألوهية وصفة البوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى وقد أمر سبحانه بالتقوى عند الوفاء حسبما أمر بها عند الاقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد
ولا تكسبوا السهدة أى لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روى عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتوا شهادتكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة أو لا تحتالوا بإبطال الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح وقرئ يكتموا على الغيبة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه الضمير فى أنه راجع إلى من وهو الظاهر وقيل : إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له و آثم خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يحئ هذا على القول بأن الضمير للشأن لأنه ل يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصرى والكوفى بجيز ذلك وقيل : إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون لمن وقيل : آثم خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد اليه ضمير إنه وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل وقيل : آثم مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر والجملة خبر إن وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين والاخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوز ونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لة قيل : فانه آثم لئم المعنى مع الاختصار لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإستاد الفعل بالجارحة التى يعمل بها أبلغ ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عينى ومما سمعته أذنى ومما عرفه قلبى ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الاسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الاجزاء ورئيسها وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح فيكون فى الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب وقيل : أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقه ومعدن اقترافه وقيل : للاشارة الى أن أثر الكتمان يظهر فى قلبه كما جاء فى الخبر إذا أذنب العبد يحدث فى قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه أو للاشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله فقد ورد إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب والكل ليس بشئ كما لا يخفى وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول
و آثم صفة مشبهة وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء وقرأ ابن أبى عبلة آثم قلبه أى جعله آثما والله بما تعملون من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك عليم
382
- فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر
(3/63)

لله ما فى السموات وما فى الأرض من الامور الداخلة فى حقيقتهما والخاجة عنهما كيف كانت أى كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شأنه من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لاحد أن يقول المال مالى أتصرف به كيف شئت ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها وإن تبدوا أى تظهروا للناس ما فى أنفسكم أى ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والاخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان السهادة أو تخفوه بأن لا تظهروه
يحاسبكم به الله أى يجازيكم به يوم القيامة وأما تصور المعاصى والاخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه مالم يوجد فى الأعيان وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها مالم تعمل أو تتكلم أى إن الله تعالى لا يعاقب أمتى على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع فى حيص بيص لدفعه ولا يشكل على هذا أنهم قالوا : إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به القول تعالى : ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم لأنا نقول : المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية فى الاعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التى تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث فى النفس ونظمه بعضهم بقوله : مراتب القصد هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الاخير ففيه الأخذ قد وقعا فالآية على ما قررنا محكمة وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه أحمد ومسلم عن أبى هريرة قال : لما نزلت على رسول الله وإن تبدوا ما فى أنفسكم الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فاتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا : يارسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فلما اقتررأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى فى إثرها آمن الرسول الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها الخ وصح مثل ذلك عن على كرم الله وجهه وابن عباس وابن مسعود وعائشة رضى اللعه تعالى عنهم وأخرج البخارى عن مروان الاصغر عن رجل من أصحاب رسول الله أحسبه ابن عمر إن تبدوا مافى أنفسكم أو تخفوه قال نسختها الآية التى بعدها وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه ويكون الحديث اخبارا عما كان بعد النسخ واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالانشاء ولا يجرى فى الخبر والآية الكريمة من القسم الثانى
ومن هنا قال الطبرشى : وأخطأ أن الروايات فى النسخ كلها ضعيفة وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهى المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فان ذلك صريح فى أنهم فهموا من الآية تمليفا والحكم الشرعى المفهوم من
(3/64)

الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف فى قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة اليه عند قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا كأنه قيل : كيف يحمل ما فى أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم التكليف بما ليس فى الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها واعترض هذا بانه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذى جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور فى هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة و السلام وقال : أخطأت أم أصبت ي ارسول الله فقال له : أصبت بعضها وأخطأت بعضها ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما فى صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لا ستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى وقيل : معنى الآية إن تعلنوا ما فى أنفسكم من السوء أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه ويؤول إلى قولنا أن تدخلوا الاعمال السيئة فى الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما فى أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام أو تخفوه بأن تقولوا له ليس فى علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون فى ذلك يحاسبهم به الله وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبى حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه فى الآية الكريمة قال : نزلت فى الشهادة وقيل : الآية على ظاهرها و ما فى أنفسكم على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى يحاسبكم يخبركم به الله تعالى يوم القيامة وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم وجميع هذه الاقوال لا تخلو عن نظر فتدبر وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه او مثله فى كتاب
وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به وأما تقديم الابداء على الاخفاء على عكس ما فى قوله تعالى قل إن تخفوا ما فى أنفسكم أو تبدوه يهلمه الله فلما قيل : إن المعلق بما فى أنفسكم هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية وإما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شئ يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر فى النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية فيغفر بالرفع على الاستثناء أى فهو يغفر بفضله لمن يشاء أن يغفر له من عباده ويعذب بعدله
من يشاء أن يعذبه من عباده وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه وقرأ غير ابن عامر وعاصم ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار أن وتكون هى وما فى حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك
والفعل من بعد الجزا إن يقترن بالفاء أو الواو بتثليب قمن
(3/65)

وقرأ ابن مسعود يغفر ويعذب بالجزم بغير فاء ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من يحاسبكم بدل البعض من الكل أو الاشتمال فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه بيحاسبكم ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلى لافراده يكون بدل اشتمال كذا وقيل : إن اريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال كأحب زيدا علمه وإن أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض كضربت زيدا رأسه وقيل : غير ذلك وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال : ووقوعه فى الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفى انتفت جميع أناع ذلك الجنس وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن فى الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزى فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد واعترضه الحلبى بأنه ليس بظاهر لأن الكلية ةوالبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين فى الفعل وقد قيل بهما فى قوله : متى تأتنا تلم بنا فى ديارنا تجد خير نار عندها خير موقد فانهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو لشتمال لأنه نزول خفيف وروى عن أبى عمرو إدغام الراء فى اللام وطعن الزمخشرى على عادته فى الطعن فى القرآت السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا فى الراء لما فيها من التكرار الفائت بالادغام فى اللام وقد يجاب بأن القراآت السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمى وقول النحاة نفى ظنى ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجح بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء فى اللام عن أبى عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له وممن روى ذلك عنه أبو محمد اليزيدي وهو إمام فى النحو إمام فى القرسآت إمام فى اللغات ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام فى الراء فى اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه فى اللام لازما على أن منع إدغام الراء فى اللام مذهب البصريين وقد اجازه الكوفيون وحكوه سماعا منهم الكسائى والفراء وأبو جعفر الرواسى ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم
والله على كل شئ قدير
482
- تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب وفى الآية دليل لأهل السنة فى نفى وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فأنه لا يقتضى عدم الوجوب خلاف الظاهر ءامن الرسول قال الزجاج : لما ذكر الله تعالى عز و جل فى هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة الزكاة والطلاق والحيض والايلاء والجهاد وقصص الأنبياء عليهم الصلاة السلام والدين والربا ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم فى صدر السورة بكمال الايمان وحسن الطاعة واتصافهم بذلك بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك
(3/66)

بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التى من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غنى عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده
أخرج الحاكم والبيهقى عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آمن الرسول قال عليه الصلاة و السلام : وحق له أن يؤمن وفى رواية عبد بن حميد عن قتادة وهى شاهد لحديث أنس فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن بما أنزل إليه من ربه من الأحكام المذكورة فى هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة السلام بتفاصيل نا أنزل إليه وإحاطته نجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت اليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه وفى تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره مالا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعه محله المنيف والمؤمنون يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه ويدل عليه ما أخرجه ابو داود فى المصاحف عن على كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ وآمن المؤمنون وعليه يكون قوله تعالى : كل إمن جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر وسوغ الابتداء بالنكرة كونها فى تقدير الاضافة ويجوز أن يكون مبتدءأ و كل مبتدأ ثان و آمن خبره والجملة الاول وارابط مقدرولا يجوز كون كل تأكيدا لانهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها ورجع الوجه الأول بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى فى التلقى بالقبول لأن الرسول حينئذ يكون أصلا فى حكم الايمان مما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويافخرهم بذلك ويلزم على الوجه فى الثانى أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة وعورض بأن فى الثانى إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للاشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبنى على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين النلشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرقوالواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى فى هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة و السلام وضاع التكرير وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الامة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا اليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة اليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العيانى المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الامة على الإيمان المكتسبة من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الاجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التى ظنت معارضة مدفوعة بأن الاتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوى للحكم لما فى الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتى من نوع خفاء محوج لذلك وتوحيد الضمير فى آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر فى قوله تعالى : وكل أتوه داخرين وهو أبعد عن التقليد الذى هو إن لم يجرح خدش أى كل واحد
(3/67)

منهم على حياله آمن بالله أى صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بمبريائه من نحو الشريك فى الألوهية والربوبية وغير ذلك وملئكته من حيث أنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحى ولهذا ذكروا فى النظم قبل قوله تعالى : وكتبه ورسله أى من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الايمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والاجمالى فيما علم إجمالا وإنما يذكر ههنا الايمان باليوم الآخر كما ذكر فى قوله تعالى : ولكن البر من آمن الخ لاندراجه فى الإيمان بكتبه والثوانى كثيرا ما يختصر فيها وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وكتابه بالافراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الاضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع على ما ذهب اليه إمام الحرمين والزمخشري وروى عن الامام ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداءا فلا يخرج عنه شئ منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فانه بستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسرى إلى الآحاد وهذا المبحث من معضلات علم المعانى وقد فرغ من تحقيقه هناك
لا نفرق بين أحد من رسله فى حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كل مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ولعله أولى والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير آمن أو مرفوعة على أنها خبر آخر لكل أى يقولون أو يقول : لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة اولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الايمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين
ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند اليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه فى دعواها ومن اعتبر إدراج الرسول فى كل واستبعد هذا قال : بالتغليب ههنا ومن لم يستبعد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتى بكلمة الشهادة كما يأتى بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقيق التلازم لما أن الاصل فى تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الاضمار الواقع مثله فى قوله تعالى : وما أوتى التبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد فى الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس فى التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم فى الظاهر وإن كان فقليل أو للاشعار بعلة عدم التفريق أو للايماء إلى عنوانه لان المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات وقرأ يعقوب وأبو عمرو فى رواية عنه لايفرق بالياء على لفظ كل وقرئ لا يفرقون حملا على معناه والجملة نفسها حينئذ حال او خبر على نحو ما تقدم فى القول المقدر ولا حاجة اليه هنا والكلام على أحد وإدخال بين عليه قد سبق فى تفسير قوله تعالى : لا نفرق بين أحد منهم وقالوا عطف على آمن والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لا متثالهم الاوامر والنواهى إثر حكاية إيمانهم سمعنا أى أجبنا وهو المعنى
(3/68)

العرفى للسمع واطعنا وقبلنا عن طوع ما دعوتنا اليه فى الآوامر والنواهى وقيل : سمعنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته و أطعنا ما فيه من الأمر والنهى غفرانك ربنا أى اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك أو نسالك غفرانك ذلك فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ولعل الاول أولى لما فى الثانى من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاقة لتقدم العام على الخاص أو لان التكليف طريقة السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الاجابة والقبول والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة وإليك المصير
582
- أى الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمى والجملة قيل : معطوفة على مقدر أى فمنك المبدأ واليك المصير وهى تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذى لم يصرح به قبل
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها جملة مستأنفة سيقت أخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم فى ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداءا لا بعد السؤال كما سيجئ والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة و الوسع ما تسعه قدرة الانسان أو ما يسهل عليه من المقدرة وهو ما دون مدى طاقته أى سنته تعالى أنه لا يكلف نفسا من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما دون ذلك كما فى سائدر مل كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فانه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنه على هذه الأمة خاصة
وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بفتح السين والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمجال لا على امتناعه أما على الاول فظاهر وأما على الثانى فبطريق الأول وقيل : إنها على التفسير الثانى لا تدل على ذلك لان الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الامة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمجال كما وهم قد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى
لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الاخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمه التخفيف والتيسير يتضمن مراعاة منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الاخلال بها مضرة تحيق بها لابغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعى إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته قاله المولى مفتى الديار الرومية قدس سره وهو الذى ذهب إليه الكثير وقيل : يجوز أن تجعل الجملتان فى حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقول المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله فى تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ولا يخفى أنه بعيد من جهة قريب من أخرى والضمير فى لها للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب فى الأول وعقاب فى الآخر ومبين ما الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه ومبين ما الثانية الشر لدلالة على الدالة على الضر عليه وإيراد الإكتساب فى جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليهفكانت أجد فى تحصيله
(3/69)

ففيه إشارة إلى ماجبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك فى الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا شروع فى حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف وقيل : استيفاء لحكاية الأقوال وفى البحر وهو المروى عن الحسن أن ذلك على تقدير الأمر أى قولوا فى دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الاحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم ولذلك قيل وقد تقدم : لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من فيض جودك ما علمتنى الطلبا والمؤاخذة المعاقبة وفاعل هنا بمعنى فعل وقيل : المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكليف واختلفوا فى المراد من النسيان والخطأ على وجوه الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله : ولم أك عند الجود للجود قاليا ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا والمراد من الثانى العصيان لأن المعاصى توصف بالخطأ الذى هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل : ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات الثانى أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والاغفال إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر أو مطلقا إذ لا امتناع فى المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصى كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصى أيضا لا يبعد أن يفضى إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الانسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه
ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبرانى وقال النووى حديث حسن : رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمه يعتد بها ربنا ولا تحمل علينا إصرا أى عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أى يحبسه مكانه
والمراد به التكاليف الشاقة وقيل : الاصر الذنب الذى لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه وقرئ آصارا على الجمع وقرأ أنى ولا تحمل بالتشديد للمبالغة كما حملته على الذين من قبلنا فى حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أى حملا مثل حملك إياه على من قبلنا أو على أنه صفة لإصرا أى إصرا مثل الإصر الذى حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من قتل النفس فى التوبة أو فى القصاص لانه كان لا يجوز غيره فى شريعتهم وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها وقيل : من البدن وصرف ربع المال فى الزكاة
ربنا ولا تحملنا وا لا طاقة لنا به استعفاء عن العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدى إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجازيا باعتبار ما يؤدي إليه وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة وقيل : هو استغناء عن التكليف بما لا تفى به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوئ والتشديد ههنا
(3/70)

لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير وأعف عنا أى امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة
واغفر لنا بستر القبيح وإظهار الجميل وارحمنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد وقيل : اعف عنا منالأفعال واغفر لتا من الأقوال وارحمنا بثقل الميزان وقيل : واعف عنا فى سكرات الموت واغفر لنا فى ظلمة القبور وارحمنا فى أهوال يوم النشور قال أبو حيان : ولم يأت فى هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التى افتتحت بذلك فجاء فاعف عنا مقابلا لقوله تعالى : لا تؤاخذنا واغفر لنا لقوله سبحانه : ولا تحمل علينا إصرا وارحمنا لقوله عز شأنه : ولاتحملنا ما لا طاقة لنا به لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أنت مولنا أى مالكنا وسيدنا وجوز أن يكون بمعنى متولى الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب فى الاستعمال تقديم المولى فيقال : مولانا وسيدنا كما فى قول الخنساء : وإن صخرا لمولانا وسيدنا وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار وخطئوا من قال : سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى كما قاله ابن أبيك ولى فيه تردد قيل : والجملة على معنى القول أى قولوا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكفرين
682
- أى الاعداء فى لبدين المحاربين لنا أو مطلق الكفرة وأتى بالفء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه دعوة بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك انت الجواد فتكرم على وأنت البطل فاحم الجار
ومن باب الاشارة فى هذه الآيات لله مافى السموات أى العوالم الروحانية كلها وا استتر فى أستار غيوبه وخزائن علمه وما فى الارض أى العالم الجسمانى والظواهر لمشاهدة التى هى مظاهر الاسماء والافعال وإن تبدوا ما فى أنفسكم يشهده بأسمائه وظواهره فيحاسبكم به وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فيغفر لكم لمن يشاء لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيآته وعدم رسوخها فى ذاته ويعذب من يشاء لفساد اعتقاده ووجود شكه أو رسوخ سيآته فى نفسه والله على كل شئ قدير لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمن الرسول الكامل الأكمل بما أنزل اليه من ربه أى صدقه بقبول والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقى بمعانيه والتحقق به والمؤمننون كل آمن بالله وحده مشاهدة حين لم يروا فى الوجود سواه وملائكته وكتبه ورسله حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نفرق بين أحد من رسله برد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وقالوا4 سمعنا أجبنا ربنا فى كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا فى سيرنا غفرانك ربنا أى اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ واليك المصير بالفناء فيك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لها ما كسبت من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وعليها ما اكتسبت وتوجهت إليه بالقصد من السوء ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أو أخطأنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك ربنا ولا تحمل علينا إصرا وهو عبء الصفات والافعال الحابسة للقلوب من
(3/71)

معاينة القلوب منا حملته على الذين من قبلنا من المحتجين بظواهر الافعال أو بواطن الصفات ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك واعف عنا سيآت أفعالنا وصفاتنا فانها سيآت حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصلك ولذة رضوانك واغفر لنا ذنوب وجودنا فانه أكبر الكبائر وارحمنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أنت مولانا أى سيدنا ومتولى أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فانصرنا على القوم الكافرين من قوى نفوسنا الامارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم هذا وقد أخرج مسلم والترمذى من حدث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت وأخرج ابو سعيد ولبيهقى عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرع منها وأخرج ابو عبيد عن أبى ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين وأخرج الائمة الستة فى كتبهم عن ابن مسعود عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من قرأ الأيتين من آخر سورة البقرة فى ليلة كفتاه وأخرج الطبرانى بسند جيد عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بالفى عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقران فى دار ثلاث ليال فيقربها شيطان وأخرج ابن عدى عن ابن مسعود الانصارى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفى عام من قرأهما بعد العشاء الاخرة اجزأتاه عن قيام الليل وأخرج الحاكم وصححه والبيهقى فى الشعب عن أبى ذرأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذى تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فانهما صلاة وقرآن ودعاء وفى رواية أبى عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن وأخرج مسدد عن عمر رضى الله تعالى عنه والدارمى عن على كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال : ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة
والآثار فى فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وقفه الله تعالى
اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب ووفقنا للعمل الصالح ولقول المصيب واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء اسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه وصل وسلم على خليفتك الاعظم وكنزك المطلسم وعلى آله الواقفين على أسارا كتابك وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح
(3/72)

سورة آل عمران
وهى مائتا آية أخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقى من طرق عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة واسمها فى التوراة كما روى سعيد بن منصور طيبة وفى صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين وتسمى الامان والكنز والمعنية والمجادلة وسورة الاستغفار ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما فى هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذى هو بيان حقية الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم وتكررت آية قولوا آمنا بالله وما أنزل بكمالها ولذلك ذكر فى هذه ما هو تال لما ذكر فى تلك أو لازم له فذكر هناك خلق الناس وذكر هنا تصويرهم فى الأرحام وذكر هناك مبدأ خلق آدم وذكر هنا مبدأ أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم وذكر فى هذه نظيره فى الخلق من غير أب وهو عيسى ولذلك ضرب له المثل بآدم واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول فى الوجود وسابق ولأنها الاصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا فى مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت فى أذهانهم فلا تأتى قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم والسورة التى هى فيها جديرة بالتقديم
وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال فى البقرة فى صفة النار : أعدت للكافرين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا وقال فى آخر هذه : وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة ومما يقوى المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لان الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى : واتقوا الله لعلكم تفلحون وافتتحت الأولى بقوله سبحانه : الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وختمت آل عمران بقوله تعالى : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل اليكم وما أنزل اليهم وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل من ذا الذى يقرض الله الآية : يا محمد افتقر ربك بسأل عباده القرض فنزل لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن اغنياء وهذا مما يقوى التلازم أيضا ومثله أنه وقع فى البقرة حكاية قول إبراهيم : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية وهنا لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية إلى غير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
الم الله لا إله إلا هو الحى القيوم
2
- قرأ ابو جعفر والاعمشى والبرجمى عن أبى بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة كص ولاموازنة المفرد كحم حسبما ذكر فى الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر فى باب الوقف قطعا ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل :
(3/73)

وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها فى حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم فى حكم الوقف كقوله : واحد اثنان لا لالتقاء الساكنين كما قال سيبويه فإنه غير محذوف فى باب الوقف ولذلك لم تحرك فى لام وإلى ذلك ذهب الفراء وفى البحر إنه ضعيف لا جماعهم على أن الألف الموصولة فى التعريف تسقط فى الوصل وما يسقط لا تلقى حركته كما قاله أبو على وقولهم : إن الميم فى حكم الوقف وحركتها حركة الالقاء مخالف لاجماع العرب والنحاة أنه لا يوقف على متحرك ألبتة سواء فى ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز فى قد أفلح إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال قد بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا وأما تنظيرهم بواحد اثنان يالقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتكمنه ولم يحك الكسر لغة فان صح فليس واحد موقوفا عليه كما زعموا ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم : اثنان فالتقى ساكنان دال واحد وثان اثنين فكسرت الدال لا لتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لاتثبت فى الوصل وأما قولهم : إنه غير محذور فى باب الوقف ولذلك لم يحرك فى لام فجوابه إن الذى قال : إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من ألم فى الوقف بل أرادة الميم الاخير من ألم ولام التعريف فهو كالتقاء نون من ولام الرجل إذا قلت من الرجل على أن فى قولهم تدافعا فان سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو علىنية الوصل ونية الوصل توجب حذف الهمزة ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها وهذا متناقض ولذا قال الجاربردى : الوجه ما قاله سيبويه ولكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل واختار ذلك ابن الحاجب وادعى أن فى مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوى فى اللغة
وقال غير واحد : لابد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف والقول : بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوى فيما المطلوب منه الخفة كثلاثة أربعة وههنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لابناء وحقها أن يوقف عليها و ألم رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لاسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الاعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعار بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لا لتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت فى حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر وكلام الزمخشري فى هذا المقام مضطرب ففى الكشاف اختار مذهب الفراء وفى المفصل اختار مذهب سيبويه ولعل الاول مبنى على الاجتهاد والثانى على التقليد والنقل لما فى الكتاب لان المفصل مختصره فتدبر
وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الاعراب وغيره وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستأنفة أى هو المستحق للعبودية لا غير و الحى القيوم خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أى هو الحى القيوم لا غير وقيل : هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الاول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الإسم الكريم أو حال منه على رأى من يرى صحة ذلك وأيا ما كان فهو كالدليل
(3/74)

على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه وقد أخرج الطبرانى وابن مردوية من حديث أبى أمامة مرفوعا إن اسم الله الأعظم فى ثلاث سور سورة البقرة وآل عمران وطه وقال ابو أمامة : فالتمستها فوجدت فى البقرة الله لا إله إلا هو الحى القيوم وفى آل عمران الله لا إله إلا هو الحى القيوم وفى طه وعنت الوجوه للحى القيوم
وقرأ عمر وابن مسعود وأبى وعلقمة الحي القيوم وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان ربا فقد أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : قدم على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة والعاقب وعبد المسيح والايهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون : هو الله تعالى هو ولد الله تعالى ويقولون : هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية وهم يحتجون لقولهم يقولون : هو الله تعالى فانه كلن يحيى الموتى ويبرى الاسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا ويحتجون فى قولهم إنه ولد الله تعالى : بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم فى المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله ويحتجون فى قولهم إنه ثالث ثلاثة : إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم ففى كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما العاقب والسيد كما فى رواية الكلبى والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : اسلما قالا : قد أسلمنا قبلك قال : كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير قالا : فمن أبوه يا محمد وصمت فلم يجب شيئا فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد واحتج عليهم بقولهم فى صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال : ألم الله لا إله إلا هو الحى القيوم أى ليس معك غيره شريك فى أمره الحى الذى لا يموت وقد مات عيسى عليه السلام فى قولهم : القيوم القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى وفى رواية ابن جرير عن الربيع قال : إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخاصموه فى عيسى ابن مريم وقالوا له : من أبوه وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم : ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه قالوا بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا حى لا يموت وأن عيسى يأتى عليه الفناء قالوا : بلى قال : ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شئ يكلؤه ويحفظه ويرزقه قالوا : بلى قال : فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا : لا قال : الستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شئ فى الارض ولا فى السماء قالوا : بلى قال : فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم قالوا : لا قال : ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى فى الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث قالوا : بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا : بلى قال : فكيف يكون هذا كما زعمتم فعرفوا ثم أبو إلا جحودا فأنزل ألم الله لا إله إلا هو الحى القيوم نزل عليك الكتب أى القرآن الجامع للاصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة وفى التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الافراد فى الانطواء على كمالات
(3/75)

الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه أسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح اليه التصريح باسم التوراة والانجيل وفى الاتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب وإيثار على على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة و السلام والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هى الخبر وما قبل كله اعتراض أو حال الحى القيوم صفة أو بدل وقرأ الاعمش نزل بالتخفيف ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها وقيل : متعلقة به بتقدير من عنده بالحق أى بالصدق فى أخباره أو بالعدل كما نص الرافب أو بما يحقق من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو فى موضع الحال أى متلبسا بالحق أو محقا وفى البحر يحتمل أن يمون الباء للسببية أى بسبب إثبات الحق مصدقا حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الاول أو حال من الضمير فى المجرور وعلى كل حال فهى حال مؤكدة لما بين يديه أى الكتب السالفة والظرف مفعول مصدقا واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت وأنزل التوراة والإنجيل
3
- ذكرهما تعيينا لما بين يديه وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لان الكلام فى الكتابين لا فيمن نزلا عليه والتعبير بأنزل فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ونزول من ذلك اليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما فى ثلاث وعشرين سنة على المشهور ولهذا يقال فيه : نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل : إن نزل يقتضى التدريج وأنزل يقتضى الإنزال الدفعى إذ يشكل عليه لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة حيث قرن نزل بكونه جملة وقوله تعالى : وقد نزل عليكم فى الكتاب وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما فى تسلسل والالفاظ لابد فيها من ذلك فصيغة نزل تدل عليه والانزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم وبالانزال الذى قد قوبل به خلافه أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام
واختلف فى اشتقاق التوراة والانجيل فقيل : اشتقاق الاول من ورى الزناد إذا قدح فظهر منه النار لانها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل : من ورى فى كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة ووزنها عند الخليل وسيبويه فوعلة كصومعة وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاءا وتحركت الياء وانفتح ما قبلها ألفا فصارت توراة وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت وقال الفراء : ومنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا فى توصية توصاة واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهى لاتزاد كذلك إلا فى مواضع ليس هذا منها وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا وقيل : اشتقاق الثانى من النجل بفتح فسكون وهو الماء الذى ينز من الأرض ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد كما قاله الزجاج وهو من نجل بمعنى ظهر سمى به لانه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة وقيل : من النجل وهو التوسعة ومنه عين نجلاء لسعتها لان فيه توسعة ما لم تكن فى التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها وقيل : مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمى
(3/76)

به لكثرة التنازع فيه كذا قيل ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر وأما على تقدير انهما أعجميان أولهما عبرانى والآخر سريانى وهو الظاهر فلا معنى له على الحقيقة لان الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لا ثباته ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم فى الزيادة والاصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا اليه فيما قبل والاستدلال على عربيتهما بدخول اللام لان دخولها فى الاعلام العجمية محل نظر لانهم ألزموا بعض الاعلام الاعجمية الألف واللام علامة للتعريف كما فى الاسكندرية فإن ابا زكريا التبريزى قال إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته ومما يؤيد أعجمية الانجيل ما روى عن الحسن أنه بفتح الهمزة وأفعيل ليس من أبنية العرب من قبل متعلق بأنزل أى أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب ويل : من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة فى البيان كذا قالوا برمتهم وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالها نتضمن للإرهاص لبعثه حيث قيد الانزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه : هدى للناس أى أنزلهما كذلك لاجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذى من جملته الايمان به واتباعه حين يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة و السلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامها بالقرآن إنما هى من هذا الوجه لا غير والقول بأنه يهتدى بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الامور التى يصدقها القرآن ليس بشئ لان الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف ويجوز أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والافراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف اى ذوى هدى وجعله حالا من الكتاب مما لا ينبغى أن يرتكب فيه وأنزل الفرقان أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت فى محاجة النصارى للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد بالفرقان بعض القرآن ولم يكتف باندراجه فى ضمن الكل اعتناءا به ومثل هذا القول ما روى عن أبى عبدالله رضى الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة وقيل : المراد به جنس الكتب الالهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر وقيل : نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الانزال تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى وقيل : المراد به الزبور وتقديم الانجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة فى الاشتمال على الاحكام وشيوع اقترانهما فى الذكر واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الاحكام وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقه أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به واورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضى شهرته به حتى يغنى عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضى إثبات الوصف دون التعبير به وقيل : المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق
(3/77)

والمبطل وعلى أى تقدير كان فهو مصدر فى الاصل كالغفران اطلق على الفاعل مبالغة إن الذين كفروا بأيت الله يحتمل أن تكون الاضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلية ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق فى ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لا مرهم وتأكيدا لا ستحقاقهم العذاب والمراد بالموصول إما من تقدم فى سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا أوليا لهم عذاب شديد ابتداء وخبر فى موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذى هو حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام والله عزيز أى غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ذو انتقام
4
- افتعال من النقمة وهى السطوة والتسلط يقال : انتقم منه إذا عاقبه بجنايته ومجرده نقم بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن منه السيف مطلقا والجملة اعتراض تذييلى مقرر للوعيد مؤكد له
إن الله لا يخفى عليه شئ فى الأرض ولا فى السماء استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما فى العالم الذى من جملته إيمان من آمن وكفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفى بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الآلهية والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره وجعله الكثير مجازا من إطلاق الجزء وإرادة الكل ومن قال : إنه لا يصح فى كل كل وجزء بناءا على اشتراط التركيب الحقيقى وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازا وتقديم الأرض على السماء إظهارا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوى الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل : ولذا وسط حرف النفى بينهما والجملة المنفية خبر لان وتكرير الاسناد لتقوية الحكم وكلمة فى متعلقة بمحذوف وقع صفة لشئ مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه فى سياق النقى أى لا يخفى عليه شئ ما كائن فى العالم بأسره كيفما كانت الظرفية والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعالم وجوز أبو البقاء الظرف بيخفى
وقوله تعالى : هو الذى يصوركم فى الأرحام كيف يشاء جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالاشياء قبل وجودها و التصوير جعل الشئ على صورة لم يكن عليها والصورة هيئة يكون عليها الشئ بالتأليف و الأرحام جمع رحم وهى معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم بها ويتعاطف وكلمة فى متعلقة بيصور وجوز أن يكون حالا من المفعول أى يصوركم وأنتم فى الارحام مضغ و كيف فى موضع نصب بيشاء وهو حال والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم وقيل : كيف ظرف ليشاء والجملة فى موضع الحال أى يصوركم على مشيئته أى مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين على مشيئته تابعين لها فى قبول الاحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم وثم وفى الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والانوثة والحسن
(3/78)

والقبح وغير ذلك وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام مع تقلبه فى الاطوار ودوره فى فلك هذه الادوار حسبما شاءه الملك القهار وركاكة عقولهم ما لا يخفى وقرأ طاوس تصوركم على صيغة الماضى من التفعل أى اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب أى اتخذه وسادة فما قيل : كانه من تصورت الشئ بمعنى توهمت صورته فالتصديق أنه توهم محض لا إله إلا هو العزيز الحكيم
6
- كرر الجملة الدالة على نفى الالهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة فى الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العالم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالالوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهى فى القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك وهو الذى أنزل عليك الكتب استئناف لابطال شسبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن فى نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه
قيل : إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : ألست أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه قال : بلى قالوا : فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه كذا قيل ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها واعترض بأن هذا الاثر لم يوجد له أثر فى الحاح ولا سند يعول عليه فى غيرها وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتى الوفد وفيه ان الاثر بعينه أخرجه فى الدر النثور عن أبى حاتم وابن جرير عن الربيع وعن بعضهم أن الآية نزلت فى اليهود وذلك حين مر أبو ياسر بن أخطب فى رجال من يهود برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ألم ذلك الكتاب فاتى أخاه حى بن أخطب فى رجال من يهود فقال : أتعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه ألم ذلك الكتاب فقال : أنت سمعته قال : نعم فمشى حى فى أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك ألم ذلك الكتاب فقال : بلى فقال : لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبى منهم ما مده ملكه وما أجل أمته غيرك الألف واحدة وللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل من هذا غيره قال : نعم المص قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم اربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا عيره قال : نعم الر قال : هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره قال : بلى المر قال : هذه أثقل وأطول ثم قال : لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندرى أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قال : قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه : وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد فقالوا : لقد تشابه علينا أمره
وقد أخرج ذلك البخارى فى التاريخ وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية إن الله تعالى أنزل فىشأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية وعلى تقدير الاغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن فى المتشابه خفاءا كما أن تصوير ما فى الأرحام كذلك أو أن فى هذه تصوير الروح بالعلم وتكميلة به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن فى كل منهما تصويرا وتكميلا فى الجملة ناسب
(3/79)

ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقى الحسمانى والذى ليس هو كذلك منالروحانى من التفاوت والتباين ترك العطف وقوله سبحانه : منه آيات الظرف فيه خبر مقدم و آيات مبتدأ مؤخر أو بالعكس ورجح الأول بأنه الأوفق بقواعد الصناعة والثانى بأنه ادخل فى جزالة المعنى إذ المقصود الأصلى انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب والجملة إما مستأنفة أو فى حيز النصب على الحالية من الكتاب أى هو الذى أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أى منقسما إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال و آيات ملاتفع به على الفاعلية محكمات صفة آيات أى واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه هن أم الكتب أى أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمى كل جامع يكون مرجعا أما والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد الأم مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة واخر نعت لمحذوف معطوف على آيلا أى وآيات أخر وهى كما قال الرضى : جمع أخرى التى هى مؤنث آخر ومعناه فى الأصل أشد تأخرا فمعنى جاءنى زيد ورجل آخر جاءنى زيد ورجل أشد تأخرا منه فى المعنى من المعانى ثم نقل إلى معنى عيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيدولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال : جاءنى زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعنى من والاضافة واللام وطريق بالمجرد عن اللام والاضافة ما هو له نحو رجلان آخران ورجال آخرون وامرأة أخرى وامرأتان أخريان ونسوة أخر وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا : لأن الأصل فى أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام كالكبر والصغر فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا مالا يعطي غيره إلا مقرونا وقيل : الدليل عى عدل أخر أنه لو كان مع من المقدرة كما فى الله أكبر للزم أن يقال بنسوة آخر على وزن أفعل لان افعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده ولا يجوز ان يكون بتقدير الاضافة لان المضاف اليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف أو مع ساد مسد المضاف اليه او مع دلالة ما أضيف اليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا ان يكون أصله اللام واعترض عليه ابو على بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر وأجيب بأنه لا يلزم فى المعدل عن شئ أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بالف ولام يضمن معناها فيبنى أو إما بعلمية كما فى سحر فيمنع من الصرف ولما لم يقصد فى أخر إرادة الالف واللام أعرب ولا يصح إرادة العلمية لانها تضاد الوصفية المقصودة منه
وقال ابن جنى : إنه معدول عن آخر من وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبى حيان اختياره واستدلوا عليه بما لا يخلو عن نظر ووصف آخر بقوله سبحانه متشبهت وهى فى الحقيقة صفة لمحذوف اى محتملات لمعان نتشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض فى استحقاق الارادة ولا يتضح الامر إلا بالنظر الدقيق وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للاجمال أو لان ظاهره التشبيه فالمتشابه فى الحقيقة وصف لتلك المعانى وصف به الآيات على طريقه وصف الدال بما هو وصف للندلول فسقط ما قيل : إن واحد متشابهات متشابهة
(3/80)

وواحد أخر أخرى والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال : أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحد يشبه بعضا وليس المعنى على ذلك وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده ولا حاجة إلى ما تكلف فى الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الاوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الاسناد اليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما فى فوجد فيها رجلين يقتتلان إذ الرجل لا يقتتل وقيل : إنه لما كان من شأن الامور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمى كل ما لا يهتدى العقل اليه متشابها وإن لك يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل فى الاصل ما دخل فى إشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم اطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وعليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذى ذكره فى تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس وعليه الشافعية
وتقسيم الكتاب اليهما من تقسيم الكل إلى أجزاء بناءا على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثانى المضاف اليه أم الاول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشئ معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناءا بشأن المظهر وتفخيما له والاضافة على معنى فى كما فى واحد العشرة فلا يلزم كون الئ أصلا لنفسه لان المعنى على أن الآيات المحكمات التى هى جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع اليه المتشابه منه واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشئ لنفسه وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقى فيه الكتاب على حال إلا أنه لا يخلو عن تكلف وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين فى الاصول ويراد من هذا الجنس ما هو فى ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والاضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الاعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشئ أما لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الاضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك وبعض فضلاء العصر العاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر جوز كون الاضافية لامية و الكتاب المضاف اليه هو الكتاب الاول بعينه وليس فى الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشئ أما لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فان أمومته لغيره من المتشابه باعتبار رده اليه وإرجاعه له وأمومته لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شئ سوى نفسه ولا يخفى عليك أن الأم إن كانت فى كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك فى معنييه وإن كانت فى كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين وإن كانت حقيقة فى الاصل باعتبار ما يرجع اليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا فى الاصل بمعنى المستغنى عن غيره لزم الجمع بين الجقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز وهذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلى إلى جزيئاته فأل فى الكتاب للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب فى الاول الماهية من حيث هى كما هو الامر المعروف فى مثل هذا التقسيم وفى الثانى الماهية باعتبار تحقيقها فى ضمن بعض الافراد وهو المتشابه ويجوز أن يراد من الثانى أيضا محموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق قيل : وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الابعاض وهو
(3/81)

مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر بالقدر المشترك وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر
وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهرة الذى لا يحتمل النسخ والمتشابه الخفى الذى لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المفطعة فى أوائل السور وقيل : المحكم الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه القصص والامثال أخرج ابن ابى حاتم من طريق على ابن أبى طلحة عن ابن عباس قال المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه و المتشابهات ما يؤمن به ولا يعمل به وأخرج الفريابى عن مجاهد قال المحكمات ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال م المحكمات مالم ينسخ المتشابهات ما قد نسخ وقال الماوردى : المحكم ما كان معقول المعنى والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان وقيل : المحكم ما لم يتكرر ألفاظه والمتشابه نا يقابله وقيل : غير ذلك وهذا الخلاف فى المحكم والمتشابه هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا فى البلاغة وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى : ألر كتاب أحكمت آياته وقوله سبحانه : كتابا متشابها مثانى فأما الذين فى قلوبهم زيغ أى عدول عن الحق وميل عنه إلى الاهواء
وقال الراغب : الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال : إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود واليه ذهب ابن عباس وقيل : منكرو البعث وقيل : المنافقون وأخرج الامام أحمد وغيره عن أبى أمامة عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم لخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص وفى جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة فى عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد وزيغ مبتدأ أو فاعل فيتبعون ما تشبه منه أى يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التى توافق أغراضهم الفاسدة فى ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه : ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أى طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن الواقدى وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهون فالاضافة فى تأويله للعهد أى بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهى والتأويل التفسير كما قاله غير واحد وقال الرغب : إنه من الاول وهو الرجوع إلى الاصل ومنه الموئل للموضع الذى يرجع اليه وذلك هو رد الشئ إلى المرادة منه علما كان أو فعلا ومن الاول ما ذكر هنا ومن الثانى قوله : وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى : يوم يأتى تأويله أى بيانه الذى هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه : ذلك خير وأحسن تأويلا قيل : أحسن ترجمة ومعنى وقيل : أحسن ثوابا فى الآخرة انتهى
وجوز فى هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون ابتغاء الفتنة طلبه بعض وابتغاء التأويل
(3/82)

حسب التشهى طلبه آخرين ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبين وهوالخليق بالمعاند لانه لقوة عناده ومزيد فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو مناسب بحال الجاهل لانه متحير تارة ظاهرة وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه فى قبضة هواه يتبعه كلما دعاه ومن الناس من حمل الفتنة على المال فان الله سبحانه قد سماه فتنة فى مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشئ مدعى : دليلا وفى تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل فى عير ولا نفر ولا قبيل ولا دبير وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم فى موضع الحال من ضمير يتبعون باعتبار العلة الاخيرة أى يتبعون المتشابه لا بتغاء تأويله والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والاضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين فى العلم أى الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا فى مزال الاقدام ومداحض الافهام دونهم حيث أنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر فى تفسير الراسخين وأخرج ابن عساكر من طريق عبدالله بن يزيد الازدى قل : سمعت أنس بن مالك يقول : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الراسخين فى العلم فقال : من طدق حديثه وبر فى يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون فى العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغى أن يكونوا عليه والمراد بالعلم العلم الشرعى المتقبس من مشكاة النبوة فان أهله هم الممدوحون
يقولون ءآمنا به استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما أى هم يقولون وقد قيل : إنه لا حاجة اليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر وجوز أن يكون حالا من الراسخين والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لان مآله كل من أجزاء الكتاب أو جزيئاته وذلك لا يخلو عن الأمرين ثم هذا القول وإن لم يخص الراسخين لكن فيه تعريض بأن مقتضى الايمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق مت تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن كل من عند ربنا من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أى كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما وفى التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه والمحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر فى المصلحة والايصال إلى معارج الكمال أو لا فأولا وقد قالوا إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبره وتحصيل العلوم التى نيط بها استنباط ما أريد به من الاحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخرج المقاصد الرائقة والمعانى اللايقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجابويطيب لهم المقام فى رياض الصواب وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية فى رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية
وما يذكر إلا أولوا الألبب
7
- عطف على جملة يقولون سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر لما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الاهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق وللارشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع
(3/83)

الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على الراسخون وهو الذى ذهب اليه الشافعية وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه وأما على تقدير أن يكون الوقف على إلا الله وهو الدى ذهب اليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ يقولون خبر عنه ورجح الأول بوجوه : أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ فى قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب فى المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر العبارة حيث لم يقل ومنه متشابهات لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدى العلماء ألى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشابها بالمعنى الذكور وهو كثير جدا وأما رابعا فلأن المحكم حينئذ لا يكون أم الكتاب بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا وأما خامسا فلأنه قد ثبت فى الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى وأما سادسا فلأن ابن عباس رضى الله تعالى عنه كان يقول : أنا ممن يعلم تأويله وأما سابعا فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكير فى هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك وأما ثامنا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته والقول : بأن م أما للتفصيل فلا بد فى مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل غاية الأمر أنه حذفت أما والفاء وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع فى قوله سبحانه : أنزل عليك الكتاب والتقسيم فى قوله تعالى : منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات والتفريق فى قوله عز شأنه : فأما الذين فى قلوبهم زيغ الخ فلا بد فى مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه : والراسخون فى العلم الخ مجاب عنه بأن كون أما للتفصيل أكثرى لا كلى ولو سلم فليس ذكرا المقابل فى اللفظ بلازم
ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعنى يقولون الخ كاف فى ذلك ورجح الثانى بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعانى وغيره ويد الله تعالى مع الجماعة ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة الأول ما أخرجه عبدالرزاق فى تفسيره والحاكم فى مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون فى العلم آمنا به فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فاقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه وحكى الفراء أن فى قراءة أبى بن كعب أيضا ويقول الراسخون فى العلم
وأخرج ابن أبى داود فى المصاحف من طريق الأعمش قال فى قراءة ابن مسعود وإن تأويله إلا عندالله والراسخون فى العلم يقولون آمنا به الثانى ما أخرج الطبرانى فى الكبير عن ابى مالك الأشعرى أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول : لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله وما ينبغى تأويله إلا الله تعالى
الحديث الثالث ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن رسول الله
(3/84)

صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعلموا به وما تشابه فآمنوا به
الرابع ما أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال : الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة ابواب على سبعة زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمة وآمنوا بمتشابهه وقالوا : آمنا به كل من عند ربنا
وأخرج البيهقى فى الشعب نحوه عن أبى هريرة الخامس ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسيره العلماء متشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على ان المتشابه مما لا يعلم تاويله إلا الله تعالى وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز ولكل منهما وجه وجيه وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب محكم على الاطلاق ومتشابه على الاطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه فالمتشابه فى الجملة ثلاثة أضرب متشابه من جهة اللفظ فقط ومن جهة المعنى ومن جهتها معا فالاول ضربان أحدهما يرجع إلى الالفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الاب ويزفون أو الاشتراك كاليد والعين وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب صرب لاختصار الكلام نحو وإن خفتم أن لا تقسطوا فى اليتامد فانكحوا ما طاب لكم وضرب لبسطه نحو ليس كمثله شئ لانه لو قيل : ليس مثله شئ كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام نحو أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما إذ تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل فى نفوسنا صورة ما لم نحسه او ليس من جنسه والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب الاول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو اقتلوا المشركين والثانى من جهة الكيفية كالوجوب والندب فى نحو فانكحوا ما طاب لكم من النساء والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته والرابع من جهة المكان والامور التى نزلت فيها الآية نحو وليس البر بأن تاتوا البيوت من ظهورها وإنما النسئ زيادة فى الكفر فإن من لا يعرف عادتهم فى الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه والخامس من جهة الشروط التى يصبح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح ثم قال : وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون فى تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك وقسم للانسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والاحكام الغلفة وضرب متردد بين الامرين يختص بمعرفته بعض الراسخين فى العلم ويخفى على من دونهم وهو المشار اليه بقوله لابن عباس رضى الله تعالى عنه : اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل
وإذا عرفت هذا ظهر لك جواز الأمرين الوقف على إلا الله والوقف على الراسخون وقال بعض أئمة التحقيق : الحق أنه إن اريد بالمتشابه ما لا سبيل اليه للمخلوق فالحق الوقف على إلا الله وإن اريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف ويجوز الوقف ايضا لانه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى وأما إذا فسر بما دل القاطع أى النص النقلى أو الدليل الجازم العقلى على أن ظاهره غير مراد ولم يقم
(3/85)

دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة فى مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم فى ترجيح اليه من الوجوه فعن الاول بأنه أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائفين إلا أنه لم يقل وأما الراسخون م مبالغة فى الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان فى الأغلب فى مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى : الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت حيث لم يقل والطاغوت اولياء الذين كفروا ولا الذين آمنوا وليهم الله تعظيما لشانه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين وعن الثانى بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة فى قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى
وعن الثالث بأنه يلتزم القول بعدم الحصر وفى الاتقان أن بعضا قال : إن الآية لا تدل على الحصر فى الشيئين إذ ليس فيها شئ من طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى : لتبين للناس ما نزل اليهم لان المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذى يبينه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم وعن الرابع بالتزام أن إضافة أم إلى الكتاب على معنى فى والمحكم أم فى الكتاب ولكن لا للمتشابه الذى استأثر الله تعالى بعلمه بل هو أم واصل فى فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وعلى تقدير القول بأن الاضافة لا مية يلتزم الامومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع اليه فى خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار وعن الخامس بأن التأويل الذى دعا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تاويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز جمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره
وعن السادس بأن الرواية عن ابن عباس انه قال : أنا ممن يعلم تأويله معارضة بما هو اصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال : مراده رضى الله تعالى عنه أنا ممن يعلم تأويله أى المتشابه فى الجملة حسبما دعا لى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا وإن قيل : إنه متشابه لكنه فى الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد وعن السابع بان مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا فى معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حد لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكير تةنتفاع مجازا أى إن الراسخين هم الدين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما انهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل : يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين وعن الثامن بأنه لا بعد فى أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها والسر فى هذا الابتلاء قص جناح العقل وكسر سورة الفكر وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما فى هاتيك القصور وفى
(3/86)

ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا اريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلىمعرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر وأما إذا اريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الاجمال أو التفصيل بالوحى أ بالالهام لنبى أولولى فوجود مثل هذا المخاطب به فى القرآن فى حيز المنع ولعل القائل بكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الوحى مثلا ولا إلقاءه فى روع الولى الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الاحاطة كعلم الله تعالى وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ورتبة اولياء أمته الكاملتين وإنما المنع من الاحاطة ومن نعرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك فى معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا اسند إلى الراسخين منع إسناده اليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الاسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الارادة من ظاهر الكلام خرط القتاد فلهذا شاعالقول بعدم العطف وكان القول به أسلم
ويؤيد ما قلنا ما ذكره الامام الشعرانى قال : أخبرنى شيخنا على الخواص قدس سره إن الله تعالى اطلعه على معانى سورة الفاتحة فخرج منها مائتى الف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما وكان يقول : لا يسمى عالما اى عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة وقال فى الكشف فى نحو ق حم طس : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدرا كنا للأوليات ولا يستبعد ففيض البارى عم نواله غير محصور واستعداد الانسان الكامل عن القبول غير محسور ومن لم يصدق إجمالا بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا او أطوارا حظ العقل منها حظ الحس من المعقولات فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقى بعد كشف الغطا فى هذا التيه ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الاحاطة على الحقائق الالهية كما هى مستحيلة إلا للبارى جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الايمان بع غيبا وهو من لمتشابه الدى يقول الراسخون فيه : آمنا به كل من عند ربنا فهذا ما يجب أن يعتقد كى لا يلحد
ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه ومذهب السلف والاشعرى رحمه الله تعالى من اعيانهم كما أبانت عن حاله الإبانة أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون : الاستواء مثلا يمعنى الاستيلاء والغلبة وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التى ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتى وليته سكت أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا والله تعالى لا يتصف إلا بواجب وذكر الشعرانى فى الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤل انتقل عن شرح الاستواء الجسمانى على العرش المكانى بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطانى الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله فى التنزيه مبلغ الشرع فيه فى قوله تعالى : ليس كمثله شئ ألا ترى أنه استشهد فى التنزيه العقلى فى الاستواء بقول شاعر :
(3/87)

قد استوى بشر على العراق من غير حرب ودم مهراق وأين استواء بشر على العراق من استواء الرحمن على العرش ونهاية الامر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من اول الامر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الامة وساداتها وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها واليها دعا أئمة الحديث فى القديم والحديث حتى قال محمد ابن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائى : اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الايمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه وورد عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع : قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فارسل اليه عمرو بن الخطاب رضىالله تعالى عنه وقد أعدله عراجين النخل فقال : من أنت فقال : أنا عبدالله ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى ادمى راسه وفى رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ ثم عاد اليه ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا فأذن له إلى ارضه وكتب إلى ابى موسى الاشعرى أن لا يجالسه أحد من المسلمين لا يقال إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التاويل على ما قالوا : إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول : نختار الشق الثانى ولا نسلم ان التاويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن التاويل معنيين مشهورين لا يصدق شئ منهما على نفى الظاهر من غر تعيين للمراد احدهما ترجمة الشئ وتفسيره الموضح له وثانيهما بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو العقل فإن من قال : بعد التنزيه لا ادرى من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل فى حقه أنه ترجم وأوضح ولا بين الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول ومن أمعن النظر فى مأخذ التاويل لم يشك فى صحة ما قلنا نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذمورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازنها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون : إنما هى لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها فى صفاتنا الحادثة وأما فى صفات من ليس كمثله شي فليست بلوازم فى الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة واين التراب من رب الأرباب وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تاويل و الراسخون فى العلم لا يذهبون إليه او أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل والكلبى عن ابن عباس فى استوى أنه بمعنى استقر وما أخرجه ابو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن ام سلمة فى قوله تعالى : الرحمن العرش استوى إنها قالت : الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر
وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية قالوا : إن هذه التشابهات تجرى على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى : ليس كمثله شئ حيث ان وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذله كمال الاطلاق حتى عن قيد الاطلاق ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل
وذكر بعض أإمة التدقيق إن العقل سبيله فى العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التى يدعى الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات ايضا
(3/88)

لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان قسم يناسب ما عندنا من صفات نوع مناسبو وإن كانت بعيدة ولا يقال : فلا بد فيه فى أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا لا دواة ولا قلما وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو استأثرت به فى علم الغيب عندك فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للانسان الكامل منه نصيب بطريق التخلف والتحقيق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهانى والشهود الوجدانى بتنزيه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذى علم بالاجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جلية الحال وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة السلام : من عرف الله تعالى كل لسانه وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الاغيار من نحو تلك الفواتح ولعل إدراكها عند أهلها كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لابد من بقاء شئ كما أشير اليه وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو والأرض جميعا قبضته يوم القيامة مثلا إذ لا يسلم أنه داخل فى ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع فى كلام العرب والكتابة البالغة فى الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى كجهول نعم لو قيل : إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذى دلت الآية عليه ويجب الايمان به كان حسنا وجميعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذى يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال : لام الاشعرية كنون اليهودية اعاذنا الله تعالى من ذلك وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه فى الآية بما يعم القسمين والحكم أم يرجع اليه فى تمييز القسمين أحدهما فرعه الايمانى والثانى فرعه الايقانى وابن دقيق العيد توسط فى مسألة التأويل ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق اخيرا من المتشابه فقال : إذا كان التاويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذى اريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الالفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما فى قوله تعالى يا حسرتا على ما فرطت فى جنب الله فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه اقوام بعد أقوام ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين ويحتمل أن يكون على معنى التعليم أى قولوا ربنا لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتاويل لا ترضيه بعد إذ هديتنا إلى معالم الحق من التفويض فى المتشابه او الايمان بالقسمين أو التأويل الصحيح ويؤل المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب فى مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الاضلال وصحة نسبه ذلك إلى الله تعالى على مذهب أهل السنة فى افعال العباد ظاهرة والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ بسببها قلوبنا ولا تمنعنا الطافك بعد أن لطفت بنا وإنما دعوا بذلك او أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب ففى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يدعوا يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك قلت : يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامة وإن شاء أن يزيغه أزاغة
(3/89)

وأخرج الحكيم الترمذى من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله : إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهى تدل على حواز عروض الكفر بعد الايمان بطرق الشك مثلا والعياذ بالله تعالى وفى كلام الصحابة رضى الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن ابى عطاف أن أبا هريرة كان يقول أى رب لا أزنين أى رب لا أسرقن أى رب لا أكفرن قيل له : أو تخاف قال : آمنت بمحرف القلوب ثلاثا واخرج الحكيم الترمذى عن ابى الدرداء قال : كان عبد الله بن رواحة إذا لقينى قال : أجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال : يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنت قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب اسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا وعن أبى أيوب الأنصارى ليأتين على الرجل أحايين وما فى جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما فى جلده موضع إبرة من إيمان
وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق وأما بعى حصول الايمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفرا أصلا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت فى الصدر هى أو هن من بيت العنكبوت فى التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر و بعد منصوب على الظرفية والعامل فيه تزغ و إذ مضاف اليه وهى متصرفة كما ذكره أجلة النحويين وأما القول بانها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة والمعنى بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفى فى إعراب القرآن ولم ير لغيره والمذكور فى النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤل مع ما بعدها بالمصدر نحو ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أى لظلمكم فان كان أخذ من هذا فهو كما ترى وقرئ لا تزغ بالياء والتاء ورفع القلوب وهب لنا من لدنك كلا الجارين متعلق بهب وتقديم الاول اعتناءا به وتشويقا إلى الثانى ويجوز تعلق الثانى بمحذوف هو حال من المفعول أى كائنة من لدنك و من لابتداء الغاية المجازية و لدن ظرف وهى لاول غتية زمان او مكان أو غير هما من الذوات نحو من لدن زيد وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها وبعضهم يقيدنا بظرف المكان وهى ملازمة للاضافة فلا تنفك عنها بحال فتارة تضاف إلى المفرد وتارة إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن من وفيها لغتان الاعراب وهى لغة قيس والبناء وهى اللغة المشهورة وسببه شبهها بالحرف فى لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف عند والدى فانهما لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضله وعمدة وغاية وغير غاية قيل : ولقوة هذا الشبه لا تعرف إذا أضيفت فى المشهور واللغتان المذكورتان من الاعراب والبناء مختصان بلدن المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون وأما بقية لغاتها فانها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم ولدن ولدن بفتح الدال وكسرها ولدن ولدن بفتح اللام وضمها مع سكون الدال ولدن بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاءا سلمنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون رحمة مفعول لهب وتنوينه للتفخيم والمراد بالرحمة الاحسان والانعام مطلقا وقيل الانعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق وفى سؤال ذلك بلفظ لانه إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول
(3/90)

الصريح للتشويق إنك أنت الوهاب
8
- تعليل للسؤال أو لاعطاء و أنت إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم إن وحذف المعمول لافادة العموم كما فى قولهم : فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل : لمناسبة رءوس الآى ربنا إنك جمامع الناس المكلفين وغيرهم ليوم أى الحساب يوم أو لجزء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه تهويلا لما يقع فيه وقيل : اللام بمعنى إلى أى جامعهم فى القبور إلى يوم لا ريب فيه أى لا ينبغى أن يرتاب فى وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزء وقيل : الضمير المجرور للحكم أى لا ريب فى هذا الحكم فالجملة على الاول صفة ليوم وعلى الثانى لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا كما قال غير واحد عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها الرغبة فى استنزال طائر الاجابة وقرئ جامع الناس بالتنوين إن الله لا يخلف الميعاد
9
- تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتقاء الريب وقيل : تأكيد بعد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للاشارة إلى تعظيم الموعود الاجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل وللاشعار بعلة الحكم فان الألوهية منافية الإخلاف وهذا بخلاف ما غى آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الانعام وقال الكرخى : الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالا افظيا فقط وما فى الآخر متصل اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد وجوز أت تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ قال السفاقسى : وهو الظاهر و الميعاد مصدر ميمى بمعنى الحدث لا بكعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعوليه يخلف وياؤه منقلبة عن واو الانكسار ما قبلها واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصى عليه تعالى والإ يلزم الخلف وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا وقيل : هو إنشاء فلا يلزم محذوف فى تخلفه وقيل : ما فى الآية ليس محلا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لان الأول مقتضى الكرم كما قال : وإنى إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادى ومنجز موعدى واعترض بأن الوعيد الذى هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهى على حد فبشرهم بعذاب أليم واعترض أيضا بأن كون الخلف فى الايعاد مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لانه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول هذا ومن باب الاشارة فى الآيات ألم تقدم الكلام عليه وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن أ إشارة إلى الذات الذى هو أول الوجود وهو مرتبة الاطلاق و ل إلى العقل المسمى بجبريل الذى هو وسط الوجود الذى يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى و م إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذى هو آخر الوجود وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم وقال بعضهم : إن ل ركبت من ألفين أى وضعت بإذاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الالهية التى أشرنا
(3/91)

اليها فهو اسم من أسمائه تعالى وأما م فهى إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والافعال التىاحتجبت بها فى الصورة المحمدية التى هى اسم الله تعالى الاعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن أ التى هى لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفى الياء ألف ولتضمن ألم الاشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطأوا فى التوحيد ولم يعرفوه على وجهه ولهذا أردفه سبحانه بقوله : الله لا إله إلا هو إذ لا موجود فى سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد اغير من الله تعالى جل جلاله الحى أى المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته القيوم القائم بتدبير الاعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الازلى الغير المجعول نزل عليك الكتاب وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذى تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد نتلبسا بالحق وهو الثابت الذى لا يعتريه تغير فى ذاته مصدقا لما بين يديه من التوحيد الاول الازلى السابق العلوم فى العهد الاول المخزون فى غيب الاستعداد وأنزل التوراة والانجيل من قبل هدى للناس إلى معالم التوحيد وأنزل الفرقان وهو التوحيد التفصيلى الذى هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ لبدعوة إن الذين كفروا أى احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والاكوان ورؤية الاغيار ولم يؤمنوا بآيات الله تعالى الدالة على أ ن له سبحانه رتبة الاطلاق وله الظهور والتجلى بما شاء لهم عذاب شديد فى البعد والحرمان عن حظائر العرفان والله عزيز قاهر ذو انتقام شديد بمقتضى صفاته الجلالية وهو الذى يصوركم فى ارحام الوجود كيف يشاء لأنكم المظاهر لاسمائه والمجلى لذاته لا إله فى الوجود إلا هو العريز القاهر للاعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها ابدا الحكيم الذى يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة هو الذى أنزل عليك الكتاب متنوعا فى الظهور منه آيات محكمات أحكمت من أن يتطرق اليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا هن أم الكتاب والاصل وأخر متشابهات تحتمل معنيين فأن كثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقى بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك فأما الذين فى قلوبهم زيغ أى ميل عن الحق فيتبعون ما تشابه لا حتجابهم بالكثرة عن الوحدة وما يعلم تأويله الذى يرجع اليه إلا الله ويعلمه الراسخون فى العلم الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذى منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكرى الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على إلا الله والوقف على الراسخون وما يذكر بذلك العلم الواحد المفصل فى التفاصيل المتشابهة التكثرة إلا أولو الالباب الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة ربنا لا تزغ قلوبنا بالنظر إلى الاكوان والاحتجاب بها عن مكونها بعد إذ هديتنا بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك فى مراتب الوجود والمرايا النتعددة وهب لنا من لدنك رحمة خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك إتك أنت الوهاب المعطى للقوابل حسب القابليات ربنا إنك جامع الناس على اختلاف مراتبهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم الجمع الذى هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الفطا وطلوع شمس العيان إن الله لا يخلف الميعاد لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للاعيان فأظهرها كيف شاء هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به
(3/92)

وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه : إن الذين كفروا الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الاصناف وقيل : وفد نجران او اليهود من قريظة والنضير وحكى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أو مشركوا العرب لن تغنى عنهم أي لن تنفعهم وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد فى استثقال الحركة على حروف اللين أمولهم التى أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح ولا أولدهم الذين يتناصرون بهم فى الأمور المهمة ويعولون عليهم فى الملمات المدهلة وتأخيرهم عن الاموال مع توسيط حرف النفى كما قال شيخ الاسلام إما لعراقتهم فى كشف الكروب أو لان الاموال أول عدة يفزع اليها عند نزول الخطوب من الله أى من عذابه تعالى فمن لابتداء الغاية كما قال المبرد وقوله تعالى شيئا نصب على المصدرية أى شيئا من الاغنام وجوز أن يكون مفعولا به لما فى أغنى من عمنى الدفع و من للتبعيض وهى متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا وأن يكون مفعولا ثانيا بناءا على أن المعنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه وقال أبو عبيدة من هنا بمعنى عند وهو ضعيف وقال غير واحد : هى بدلية مثلها فى قوله فليت لنا من ماء زمزم شربه مبردة باتت على طهيان ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عايه وسلم : ولا ينفع ذا الجد منك الجد وقوله تعالى : ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة فى الأرض والمعنى لن تغنى عنهم بدل رحمة الله تعالى أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلىأن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم واولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغى له إلى حيث يخيل للرائى انهم ممن يعتقد انها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته
وقريب من ذلك قوله تعالى : وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى واعترض بأن أكثر النحاة كما فى البحر ينكرون إثبات البدلية لمن مع ان الأول هو الأليق فى الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى : وأولئك هم وقود النار
1
- وكذا بما بعد و الوقود بفتح الواو وهى قراءة الجمهور الحطب أى أولئك المتصفون بالكفر المعبدون عن عز الحضور حطب النار التى تسعر به لكفرهم وقيل : الوقود بالفتح لغة فى الوقود بالضم وبه قرا الحسن م مصدر بمعنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاف أى أهل وقودها والاول هو الصحيح وإص \ يثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقيق الامر وتقرره أو للايذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم فى حال كونهم فى الدنيا وقود النار باعيانهم وهى إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الاولى الواقعة خبرا لأن و هم يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا كدأب آل فرعون الدأب العادة والشأن وأصله من دأب فى الشئ دابا ودءوبا إذا اجتهد فيا وبالغ أى حال هؤلاء فى الكفر واستحقاق العذاب حكال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف والجملة منفصلة عما قبلها مستأنفة استئنافا بيانيا بتقدير ما سبب هذا هلى ما قاله بعض المحققين
ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر تغنى أى إغناءا كائنا كعدم إغناء
(3/93)

أو بوقود أى توقد بهم بأولئك ولا يخفى ما فى الوجهين أما الأول فقد قال فيه أبو حيان : إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التى هى و أولئك الخ إذا قدرت معطوفة فان قدرت استئنافية وهو بعيد جاز
وأما الثانى فقد اعترضه الحلبى بأن الوقود على المشهور الاظهر فى اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له فان قيل إنه مصدر كما فى قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور فى تفسير الدأب إنما هو التكذيب والاخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون من بدلية ولا لإيقاد النار فليفهم والذين من قبلهم وهم كفارا الامم الماضية فالضمير لآل فرعون وقيل : للذين كفروا والمراد بالموصول معاصر ورسول الله كذبوا بئايتنا تفسير لدأبهم الدى فعلوا على سبيل الاستئناف البيانى والمراد بالآيات إما المتلوة فى كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فأخذهم الله تفسير لدأبهم الدى فعل بهم أى فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا وقيل : إن جملة كذبوا الخ فى حيز النصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم بإضمار قد ويجوز على بعد أن تكون فى حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولا فى آياتنا للجرى على سنن الكبرياء وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعن
بذنوبهم أى بسببها أو متلبسين بها غير تائبين والمراد من الذنوب على الأول التكذيب بالآيات المتعددة وجئ بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء وعلى الثانى سائر الذنوب وفى ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر وأصل الذنب التلو والتابع ثم اطلق على الجريمة لأنها يتلو أى يتبع عقابها فاعلها والله شديد العقاب امن كفر بآياته والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ قل للذين كفروا ستغلبون روى ابو صالح عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر : هذا والله النبى الامى بشرنا به موسى عليه الصلاة و السلام ونجده فى كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم احد ونكب أصحاب رسول الله شكوا وقالوا : لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الاشرف فى ستين راكبا إلى أهل مكة أبى سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمره وقالوا : لتكونن كامتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية
وأخرج ابن جرير وابن اسحاق والبيهقى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أيضا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود فى سوق نبى قينقاع وقال يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما اصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلن فأنزل الله تعالى قل للذين كفروا إلى قوله سبحانه : لأولى الابصار فالمراد من الموصول اليهود والسين لقرب الوقوع أى تغلبون عن قريب وأريد منه فى الدنيا وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم
(3/94)

فقتل كما قيل من بنى قريظة فى يوم واحد ستمائة جمعهم فى سوق بنى قيننقاع وأمر السياق بضرب أعناقهم وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم وهذا من أوضح سةاهد النبوة وتحشرون عطف على ستغلبون والمراد فى الآخر إلى جهنم وهى غاية حشرهم ومنتهاه فإلى على معناه المتبادر وقيل : بمعنى فى والمعنى أنهم يجمعون فيها والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالاموال والأولاد الحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودا لها وقرأ أهل الكوفة غير عاصم سيغلبون ويحشرون بالياء والباقون بالتاء وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ان يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا اليه وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدى ما أخبره الله تعالى به من الحكم بأنهم سيغلبون بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى وقوله سبحانه : وبئس المهاد
21
- إما كمن تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها ومهاد كفراش لفظا ومعنى والمخصوص بالذم مقدر وهو جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم قد كان لكم من تتمة القول المأمور به جئ به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا واختاره شيخ الاسلام وذهب اليه البلخى أى قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم آية أى علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم أنكم ستغلبون فى فئتين أى فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما اصابها التقتا يوم بدر فئة تقاتل في سبيل الله فهو فى أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم وقرئ يقاتل على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق وأخرى كافرة بالله تعالى فهى أبعد من أن تقاتل فى سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الاولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة والوجل و كان ناقصة وعليه جمهور المعربين و آية اسمها وترك التأنيث فى الفعل لأن المرفوع غير حقيقى التأنيث ولأنه مفصول ولان الآية والدليل بمعنى وفى الخبر وجهان : أحدهما لكم و فى فئتين نعت لآية والثانى أن الخبر هو هذا النعت و لكم متعلق ب كان على رأى من يرى ذلك وجوز أن يكون لكم فى موضع نصب على الحال وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا و التقتا فى حيز الجر نعت لفئتين وفئة خبر لمحذوف أى إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أى وفئة أخرى والجملة مستأنفة لتقرير ما فى الفئتين من الآية وقيل فئة وما عطف عليها بدل من الضمير فى التقتا وما بعدهما صفة فلابد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضمير أى فئة منهما تقاتل الخ وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أى فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل : كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أى منهما فئة الخ وقرئ فئة وأخرى كافرة بالنصب فيهما وهو على المدح فد الأول والذم فى الثانية وقيل : على الاختصاص واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له فى النحو كما فى نحن معاشر الانبياءلا نورث وإنما عنى النصب بئضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا كما قاله الحابى
(3/95)

وجوز أن يكون حالين كأنه قيل : التقتا مؤمنة وكافرة وفئة وأخرى على هذا نوطئه للحال وقرئ بالجر فيهما على البدلية من فئتين بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما فى قوله : وكنت كذى رجلين رجل صحيحة ورجل رماها صائب الحدثان وقوله سبحانه : يرونهم مثليهم فى حيز الرفع صفة للفئة الاخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية
والمراد كما قال السدى : ترى الفئة الاخيرة الكافرة الفئة الاولى المؤمنة مثلى عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح وعن على كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود كانوا ألفا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أو جهل وأبو سفيان وغيرهم ومن الابل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال : أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم قال : ثلثمائة وبضعة عشر قالوا : ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا واسعمائة وهو المراد من يرونهم مثلهم وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لانك إذا قلت : عندى ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين اليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة امثالهم وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام أو مثلى عدد المرئيين أى ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الانصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين على الكرار كرم الله تعالى وجهه وصاحب راية الانصار سعد بن عبادة وكان معهم من الابل سبعون بعيرا ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو وفرس لمرثد بن أبى مرثد ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجاله واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الانصار وقد مرت إليه الاشارة وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوى وكان ذلك عند تدانى الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى فى أعينهم عند الترائى ليجترءوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب وذهب جماعة من العلماء إلى المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود فى قوله تعالى : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين قال شيخ الاسلام مولانا مفتى الديار الرومية : والاول هو أولى لان رؤية المثلين غير متعينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فانه روى أن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا اليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى ايضا فى أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه : لقد قللوا فى أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبى : تراهم سبعين قال : أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم قال : ألفا فلو اريد رؤية المؤمنين المشركين اقل من عددهم فى نفس الأمر كما فى الأنفال لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر فى كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب فى قلوبهم بسبب ذلك أدخل فى كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعليق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى
(3/96)

ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المومنين المشركين مثلى أنفسهم بأنه بالتفسير المأثور عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر فى كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادى للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم من عددهم فكأنه قيل : يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتهم فانهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون ينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل
لا يقال : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم او يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول : نعم الامر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى : فان يكن منكن مائة صابرة يغلبوا مائتين اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما فى قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين ولا إلى القول بأن ضمير مثلهم راجع إلى الفئة الأخيرة أى ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلى عدد الفئة الكافرة أعنى قريبا من ألفين وإن ذهب إلى ذلك البعض ويرد ايضا على قوله : على أن إبانة الخ بعد تسليم أن الإرادة نفسها كانت هى الآية أن إرادة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل فى كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك اقرب لا عترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف يخيل إليه أن اشجار البيداء شجعان شاكية وأسد ضارية وإثبات كل من هذه الأمور صعب على ان فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تلك الواقعة : لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ما يشعر فى الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل اشد الخ فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعى أولوية جعل أول المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن فى العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام وهنا قد كان ذلك ولا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة فى سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذى هو الأساس إليه ولا شك ان مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى وقرأ نافع ويعقوب ترونهم بالتاء واستشكلت على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلى أنفسهم ولا مثلى الكافرين ولم يروا الكافرين ايضا مثلى أنفسهم ولا مثلى المؤمنين واجيب بأنه يصح أن يقال : إنهم رأوا المؤمنين مثلى أنفسهم أو مثلى الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد فى الكفر والاتفاق فى الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الاشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية اليهم مبالغة فى البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم ةكذا يصح أن يقال : إنهم رأوا حقيقة الكافرين مثلى المؤمنين
(3/97)

وتحمل الروية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الاولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على اقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم فى نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى
ولما فى هذين الجوابين : كيفما كان التزم بعضهم كون الخطاب من أول الامر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه : قد كان لكم خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الامر بناءا على أن الوعيد كان بوقعه بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها وجعل ذلك داخلا فى مفعول الأمر إلا انه عبر عن المستقبل بلفظ الماضى لتحقق وقوعه لا يخلو عن شئ وجعل بعضهم الخطاب فى قراءة نافع للمؤمنين والتزام كون الخطاب السابق لهم ايضا على أنه ابتداء خطاب فى معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به وقيل : إنه لجميع الكفرة وقال بعض أئمة التحقيق : القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركى مكة هو الذى يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه : والله يؤيد الخ موقع المسك فى الختام ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده فى الآية على بعض احتمالاتها ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين فى الآية من هذه الحيثية واختلافهم فى وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر
وقرأ ابن مصرف يرونهم على البناء للمفعول بالياء والتاء أى يريهم الله تعالى ذلك بقدرته رأى العين مصدر مؤكد ليرونهم على تقدير جعلها بصرية فمثليهم حينئذ حال ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية أى رأيا مثل رأى العين فمثليهم حينئذ مفعول ثان وقيل : إن رأى منصوب على الظرفية أى فى رأى العين والله المتصف بصفات الجمال والجلال يؤيد أى يقوى بنصره أى بعونه وقيل : بحجته وليس بالقوى من يشاء أن يؤيده من غير توسط الاسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة فى سبيله وهو من تمام القول المأثور به إن فى ذلك المذكور من النصر وقيل : من تلك الرؤية لعبرة أى اتعلظا ودلالة وهى فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز ومنه عبرت النهر وسمى الاتعاظ عبرة لان المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة والتنوين للتعظيم أى عبرة عظيمة كائنه لاولى الأبصر
31
- جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف لذةى العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعينى رأسه وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذليل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زين للناس كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التى كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أمولاهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك والمراد من الناس الجنس حب الشهوات أى المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز فى الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض : ما تشتهى فقال : أشتهى أن أشتهى أو تنبيها على خستها لان الشهوات خسيسة عند الحكماء
(3/98)

والعقلاء ففى ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبى حاتم عن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه وروى عن الحسن الشيطان والله زينها لهم لانا لا نعلم أحدا اذم لها من خالقها وفى الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها فى القلوب وهو بهذا المعنى مضاف اليه تعالى حقيقة لانه لا خالق إلا هو ويطلق ويراد به الحض على تعاطى الشهوات المحضورة فتزيينها بالمعنى الثانى مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بهل والحض على تعاطيها وكلام الحسن رحمة الله تعالى محمولا على التزين بالمعنى الثانى لا بالمعنى الاول فانه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد فى كل حقيقة كما أشرنا اليه فيما تقدم ومن قال : الظاهر أنه من قبيل أقدمنى بلدك حق لى عليك إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة والمراد أن الشهوات زينت فى أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها فى الحقيقة من غير أن يكون هناك مرين إلا أنه أثبت مزين مبالغة فى الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف ومن قال : المزين فى الحقيقة هو الشيطان لان التزيين صفة تقوم به
والقائل : بأنه هو الله تعالى لانه الخالق للافعال والدواعى مخطئ فى الدعوى وغير مصيب فى الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته وقرأ مجاهد زين بالبناء للفاعل ونصب حب من النساء والبنين فى محل النصب على الحال من الشهوات وهى مفسرة لها فى المعنى وقيل : من لبيان الجنس وقدم النسء لعراقتهن فى معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان وقد روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : ما تركت بعدى فتنة أضر على الرجال من النساء ويقال : فيهن فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء فى الفتن وقد روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الولد مبخلة مجبنة ويقال فيهم فتنة واحدة وهى جمع المال ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد فى حبهن وقيل : إن البنين تشملهن على سبيل التغليب والقناطير المقنطرة جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك
وأخرج أحمد عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : القنطار إثنا عشر ألف أوقية وأخرج الحاكم عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال : القنطار ألف أوقية وفى رواية ابن أبى حاتم عنه القنطار ألف دينار وأخرج ابن جرير عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله : القنطار ألف أوقية ومائتا دينار وعن معاذ ألف ومائتا أوقية وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار وفى رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار ومن الفضة ومائتل مثقال وعن أبى سعيد الخدرى ملء جلد الثور ذهبا وعن مجاهد سبعون الف دينار وعن ابن المسيب ثمانون الفا وعن أبى صالح مائة رطل وعن قتادة قال : كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب او ثمانون الفا من الورق وعن أبى جعفر خمسة عشر الف مثقال والمثقال اربعة وعشرون قيراطا وقيل : القنطار عند العرب وزن لا يحد وقيل : ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك ولعل الأولى كما قيل : ما روى عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين فى هذه الاقوال على التمثيل لا التخصيص والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والاضافات واختلف فى وزنه فقيل م فعلان وقيل : فعنلان فالنون على الاول أصلية وعلى الثانى زائدة ولفظ المقنطرة مأخوذ منه ومن عادة العرب أن يصفوا الشئ بما يشتق منه للمبالغة كظل ظليل وهو كثير
(3/99)

فى وزن فاعل ويرد فى المفعول ك حجرا محجورا و نسيا منسيا وقيل : المقنطرة المضعفة وخصها بعضهم بتسعة قناطير وقيل : المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشئ إذا عقدته وأحكمته وقيل : المضروبة دنانير أو دراهم وقيل : المنضدة التى بعضها فوق بعض وقيل : المدفونة المكنوزة من الذهب والفضة بيان للقناطير وهو فى موضع الحال منها والذهب مؤنث يقال : هى الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهبية وقال الفراء : وربما ذكر ويقال فى جمعه : أذهاب وذهوب وذهبان وقيل : إنه جمع فى المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشئ إذا تفرق والخيل عطف على النساء أو القناطير لا على الذهب والفضة لأنها لا تسمى قنطارا وواحده خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير وقال قوم : لا واحد له من لفظة بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل المسمومة أى الرعية قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى إحدى الروايات عنه فهى من سوم ماشيته إذا ارسلها فى المرعى أو المطهمة الحسان قاله مجاهد فهى من السما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل قاله عكرمة فهى من السمة أو السومة بمعنى العلامة والانعم أى الابل والبقرة والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولنيه والنعم مختصة بالابل والحرث مصدر بمعنى المفعول أى المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا ذلك أى مازين لهم من المذكور ولهذا ذكر وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو متع الحيوة الدنيا أى ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول هن صاحبه والله عنده حسن المئاب
41
- أى المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤب أى رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر اوب وإياب
أخرج ابن جرير عن السدى أنه قال : حسن المآب حسن المنقلب وهى الجنة وفى تكرير الإسناد إلى الإسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعم المقيم والتزهيد فى ملاذ الدنيا السريعة الزوال ومن غريب ما استنبط من الآية كما قال أبو حيان وجوب الزكاة فى الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة والثانى النساء والبنون ولا يخفى ما فيه
قل اؤنبئكم بخير من ذلكم تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا والمراد من الإنباء الإخبار و ذلكم إشارة إلى المذكور من النساء وما معه والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة كما هنا وكما فى سورة أأنزل وسورة القمر أألقى على خمس مراتب : إحداها مرتبة قالون وهى تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين الثانية مرتبة ورش وابن كثير وهى تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما الثالثة مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهى تحقيق الثانية من غير إدخال الف الرابعة مرتبة هشام وهى أنه روى عنه ثلاثة أوجه : الاول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين الوجه الثانى التحقيق وإدخال الف بينهما فى السور الثلاث الوجه الثالث
(3/100)

التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد فى الأخيرتين الخامسة مرتبة أبى عمرو وهى تسهيل الثانية إدخال الألف وعدمه واظرف الاول متعلق بالفعل قبله والثانى متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة كما قال أبو البقاء لانه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها وقوله تعالى : للذين اتقوا عند ربهم جنت استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن للذين خبر مقدم و جنات مبتدأ مؤخر و عند ربهم وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات فى الاصل قدم فانتصب حالا منها وفى ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شانها وفى التعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم والمراد منهم المتبتلون اليه تعالى المعرضون عمن سواه كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية وتعليق حصول الجنات وما يأتى بعد بهذا العنوان للترغيب فى تحصيله والثبات عليه وجوز أن تكون اللام متعلقة بخير أيضا أو بمحذوف صفة له و م جنت حينئذ خبر لمحذوف أى هى جنات والجملة مبينة م لخير و عند ربهم م حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة اهم بالاخلاص وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ واعترض بأنه يقال : عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة وبذلك يصرح كلام السعد وغيره وفى النفس منه شئ وقرئ جنات بكسر التاء وفيه وجهان : أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ م خير وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعنى مثلا أو البدلية من محل م بخير تجرى فى محل الرفع أو النصب أو الجر صفة لجنات على القراءتين من تحتها الانهر تقدم ما فيه خلدين فيها حال مقدرة من المستكن فى للذين والعامل ما فيه من معنى الاستقرار وجوز ابو البقاء كونه حالا من الهاء فى تحتها أو من الضمير فى اتقوا ولا يخفى ما فيه وازوج مطهرة أى منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا والعطف على جنات على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بد نت تقدير اهم فى الكلام ورضون أى رضا عظيم على ما يشعر به التنوين وقرأه عاصم بضم الراء وهما لغتان وقراءتان سبعيتان فى جميع القرآن إلا فى قوله تعالى : من اتبع رضوانه سبل السلام فإنه بالكسر بالاتفاق وقيل : المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لاثبت له من الله صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة والله بصير بالعباد
51
- أى خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسئ عدلا أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعد لهم ما أعد فالعباد على الأول عام وعلى الثانى خاص وقد بدأ سبحانه فى هذه الآية أولا بذكر المقر وهو الجنات ثم ثنى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز و جل
وفى الحديث أنه سبحانه يسال أهل الجنة هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى يارب وقد أعطيتنا مالم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه الا اعطيكم افضل من ذلك فيقولون يارب وأى شئ أفضل من ذلك قال : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا
الذين يقولون ربنا إتنا امنا يجوز أن يكون فى محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل : من
(3/101)

أولئك المتقون فقيل : هم الذين الخ وأن يكون فى موضع نصب على المدح وأن يكون فى حيز الجر على أنه تابع للذين اتقوا نعتا أو بدلا أو العباد واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم واعترض ايضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا م بخير لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة فى المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع فى قبح الفصل وعدمه خفى لابد له من دليل نبيل وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغى من جاهل فضلا عن عالم فاضل والتزام حذف الناصب أو المبتدأ فى صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال : إنه لدفع توهم الاخبار والمقصود الانشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط وفى ترتيب طلب المغفرة فى قوله تعالى : فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار
61
- على مجرد الايمان دليل على كفايته فى استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات والمراد من الذنوب الكبائر والصغار الصبرين يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة للذين إن جعلته فى موضع جر أو نصب وإذا جعلته فى محل رفع كان هذا منصوبا على المدح
والمراد بالصبر الصبر على طاعة الله تعالى والصبر عن محامه قاله قتادة وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس والصدقين فى نياتهم وأقوالهم سرا وعلانية وهو المروى عن قتادة أيضا والقنتين أى المطيعين قاله ابن جبير أو المداومين على الطاعة والعبادة قاله الزجاج أو القائمين بالواجبات قاله القاضى والمنفقين من أموالهم فى حق الله تعالى قاله ابن جبير أيضا والمستغفرين بالاسحار
71
- قال مجاهد والكلبى وغيرهما : أى المصلحين بالاسحار
وأخرج ابن أبى شيبة عن زيد بن أسلم قال : هم الذين يشهدون صلاة الصبح وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيى الليل صلاة ثم يقول : يانافع اسحرنا فيقول : لا فيعاود الصلاة فإذا قال : نهم قعد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالاسحار سبعين استغفار وروى الرضا عن أبيه عن أبى عبدالله أن من استغفر الله تعالى فى وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية والباء فى بالاسحار بمعنى فى وهى جمع سحر بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أو اخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء كالسحر للشئ الخفى وقال بعضهم : السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر
تخصيص الاسحار بالاستغفار لان الدعاء فيها أقرب إلى الاجابة إذ العبادة حينئذ اشق والنفس أصفى والروع أجمع وفى الصحيح أنه تعالى وتنزه عن سماة الحدوث ينزل إلى سماء الدنيا فى ثلث الليل الاخير فيقول : من يدعونى فأستجيب له من يسألنى فأعطيه من يستغفر فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر
وأخرج ابن جرير وأحمد عن سعيد الجريرى قال : بلغنا أن دود عليه الصلاة و السلام سأل جبريل
(3/102)

عليه السلام فقال : ياجبريل أى الليل افضل قال : يا داود ما ادرى سوى ان العرش يهتز فى السحر وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكما لهم فيها وقول أبى حيان : لا نعلم أن العطف فى الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبى بأن علماء البيان علموه وهم هم هذا ومن باب الاشارة فى الآيات قد كان لكم يا معشر السالكين إلى مقصد الكل آية دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد فى فئتين التقتا للحرب فئة منهما وهى فئة القوى الروحانية التى هى جند الله تعالى تقاتل فى سبيل الله وطريق الوصول اليه وأخرى منهما وهى جنود النفس وأعوان الشيطان كافرة ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الاخيرة الفئة الاولى لحول عين بصيرتها مثليهم عند الالتقاء فى معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لاخفاء فيها مثل رؤية العين وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بألانوار الالهية والإشراقات الجبروتية وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء تأييده لقبول استعداده لذلك إن فى ذلك التأييد لعبرة أى اعتبارا أو أمرا يعتبر به قى الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الانوار الازلية فى آفاق المظاهر الالهية زين للناس حب الشهوات بسبب ما فيهم من العالم السفلى والغشاوة الطبيعية والغواشى البدنية من النساء وهى النفوس والبنين وهى الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة وهى العلوم المتداولة وغير المتداولة أو الأصول والفروع والخيل المسومة وهى مراكب الهوى وأفراس اللهو والانعام وهى رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية والحرث وهو زرع الحرص وطول الامل ذلك متاع الحياة الدنيا الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلى والموطن القديم
ولك أن تبقى هذه المذكورات على ظواهرها فان النفوس المنغمسة فى أوحال الطبيعة لها ميل كاى إلى ذلك أيضا قل أؤنبئكم بخير من ذلكم المذكور للذين اتقوا النظر إلى الاغيار جنات جنة يقين وجنة مكاشفة وجنة مشاهدة وجنة رضا وجنة لاأقوالها وهى التى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وليس فى تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز و جل تجرى من تحتها أنهار التجليات المترعة بماء الغيةب خالدين فيها ببقائهم بعد فنائهم وأزواج مطهرة وهى الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة فى خيام الصفات الالهية ورضوان من الله لا يقدر قدره والله بصير بالعباد فى تقلب أرواحهم فى عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها فى طلب وجهه الازلى وجماله الأبدى الذين يقولون ربنا آمنا بأنوار وصفاتك فاغفر لنا ذنوب وجوداتنا بذاتك وقنا عذاب نار الحرمان ووجود البقية الصابرين على مضض المجاهدة والرياضة والصادقين فى المحبة والارادة والقانتين فى السلوك اليه والمنفقين ما عداه فيه والمستغفرين من ذنوب تلونهم وتعيناتهم فى أسحار التجليات ويقال : الصابرين الذين صبروا على طلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شئ منالدنيا والعقبى والصادقين الذين صدقوا فى الطلب فوردوا ثم صدقوا فشهدوا ثم صدقوا فوجدوا ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد ثم ورود ثم شهود ثم وجود ثم خمود والقانتين الذين لا زموا الباب
(3/103)

وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب والمنفقين الذين جادوا بنفوسهم من حيث الاعمال ثم جادوا بميسورهم من الأموال ثم جادوا بقلوبهم الاحوال ثم جادوا بكل حظ لهم فى العاجل والآجل استهلاكا فى أنوار الوصال والمستغفرين هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه هل من سائل هل من مستغفر هل من كذا هل من كذا ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه : شهد الله أنه لا إله إلا هو قال الكلبى : لما ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم الذى يخرج فى آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له : أنت محمى قال : نعم قالا : أنت أحمد قال : نعم قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : سلانى فقالا له : أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية وأسلما وقيل : نزلت فى نصارى نجران لما حاجوا فى امر عيسى عليه السلام وهو الذى يشعر به ما أشرنا اليه قبل من الآثار ويميل اليه كلام محمد ابن جعفر بن الزبير وقيل : نزلت فى اليهود والنصارى لما تراكوا اسم الاسلام وتسموا باليهودية والنصرانية وقيل : إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت
والجمهور على قراءة شهد بلفظ الماضى وفتح همزة أنه على معنى بأنه أو على أنه وقرئ إنه بكسر الهمزة إما بإجراء شهد مجرى قال وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على إن الدين الخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع اليه تعالى ويحتمل أن يكون ضميرا الشأن وقرئ شهداء لله بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد كظرفاء فى جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء فى جمع شاعر والنصب إما على الحالية من المذكورين وإما على المدح والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومآله المدح أى هم شهداء والاسم الجليل فى الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده وقرئ شهداء الله بالرفع والاضافة وفى شهد مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لان المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التى لا يقدر عليها غيره وما بصبه من الدلائل التكوينية فى الآفاق والانفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك كسورة الاخلاص وآية الكرسى وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد فى البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعى لما أن البيان لازم للشهادة وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم وهذا الحمل ضرورى على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة والملئكة وأولوا العلم عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازى شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أى أقر الملايكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه وبعضهم قدر فى كل من المعطوفين لفظ شهد مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه ولعل القول بعموم المجاز أولى منه قيل : والمراد بأولوا العلم : الانبياء عليهم السلام وقيل : المهاجرون والأنصار
(3/104)

وقيل : علماء مؤمنى الكتاب وقيل : جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة وقدم الملائكة لان فيهم من هو واسطة لافادة العلم لذويه وقيل : لأن علمهم كله ضرورى بخلاف البشر فإن علمهم ضرورى واكتسابى ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ماشذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أى والملائكة وأولوا العلم شهداء بذلك وقيل : بالعطف على الضضمير فى شهداء وصح ذلك للفصل واعترض بأن ذلك على قراة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة واولوا العلم وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى
وقوله تعالى : قتئما بالقسط بيان لكماله تعالى فى أفعاله إثر بيان كماله فى ذاته و القسط العدل والباء للتعدية أى مقيما بالعدل وفى انتصاب قائما وجوه : الأول أن يكون حالا لازمة من فاعل شهد ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذا قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية ومنه ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتها وقرب منزلتهما والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناءا بشأنه ولعله السر فى تقديمه على المعطوفين مع الايذان بأصالته تعالى فى الشهادة به والثانى أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا فى المعرفة لكنه ثابت فى غيرها أيضا والثالث أن يكون وصفا لاسم لا المبنى واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه والمعطوف على فاعل شهد أجنبى مما هو فى صلة أن لفظا ومعنى وبأنه متلبس بالحال فينبغى على هذا أن يرفع حملا على محل اسم لا رفعا للالتباس
والرابع أن يكون مفعول العلم أى وأولوا المعرفة قائما بالقسط ولا يخفى بعده الخامس ولعله الأوجه أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أى تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه فى الصفة لأن الحال المؤكدة فى هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيدة تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج فى المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه وعلى التقدريرين الأخيرين يندرج لا محالة
وقرأ عبدالله القائم بالقسط على أنه خبر لمبتدأ محذوف وكونه بدلا من هو لا يخلو عن شئ وقرأ ابو حنيفة : قيما بالقسط لا إله إلا هو تكرير للمشهود به للتأكيد وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل والاعتناء به يقتضى الاعتناء بأدلته ولينبنى عليه قوله تعالى : العزيز الحكيم
81
- فيعلم أنه المنعوت بهما وقيل : لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده والثانى شهادة الملائكة وأولى العلم وهو ظاهر عند من يرفع الملائكة بفعل مضمر ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التى يفهمها العزيز على العلم بحكمته تعالى التى يؤذن بها الحكيم وجعل بعضهم العزير ناظرا إلى قوله سبحانه : لا إله إلا هو و الحكيم ناظرا إلى قوله تعالى : قائما بالقسط ورفعها على الخبرية لمبتدأ محذوف أو البدلية من هو أو الوصفية له بناءا على ما ذهب إليه السكاكى من جواز وصف الغائب وجعلها نعتا لفاعب شهد بعيد وقد روى فى فضل الآية أخبار
أخرج الديلمى عن أبى أيوب الأنصارى مرفوعا لما نزلت الحمد لله رب العالمين وآية الكرسى وشهد الله
(3/105)

وقل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب تعلقن بالعرش وقلن : أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك فقال : وعزتى وجلالى وارتفاع مكانى لا يتلوكن عبد عند دبر صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة
وأخرج ابن عدى والطبرانى والبيهقى وضعفه والخطيب وابن النجار عن غالب القطان قال أتيت الكوفة فنزلت قريبا من الأعمش فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية شهد الله الخ فقال : وأنا أشهد الله بم شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهى لى وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت : لقد سمع فيها شيئا فسالته فقال : حدثنى ابو وائل بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدى عهد إلى عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدى الجنة وروى عن سعيد بن جبير أنه كان حول المدينة ثلثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة
إن الدين عند الله الإسلم جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للاولى وتعريف الجزئين للحصر أى لا ديم مرضى عند الله تعالى سوى الاسلام وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذى شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به وروى على بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال فى خطبة له لأنسبن الاسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلى الاسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين واليقين هو التصديق والتصديق هو الاقرار والاقرار هو الاداء والاداء هو العمل ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه فى عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره ايها الناس دينكم دينكم فان السيئة فيه خير من الحسنة فى غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة فى غيره لا تقبل وقرأ أبى إن الدين عند الله للاسلام م والكسائي أن الدين بفتح الهمزة على أنه بدل الشئ من الشئ إن فسر الاسلام بالايمان وأريد به الاقرار بةحدانية الله تعالى والتصديق بها الذى هو الجزء الاعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبى صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لان ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يازما فهى عينة مآ لا وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لان الشريعة شاملة للايمان والإقرار بالوحدانية وفسرها بعضهم بعلم الاحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الاصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الامر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الاديان الحقة كلها وقيد كون الدين الاسلام بالعندية لان الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ةلهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والاوقات ولا يخفى ما فيه أو على أن شهد واقع عليه على تقدير قراءة إنه بالكسر كما أشير اليه و عند على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذى يشير اليه الجملة وقيل : متعلق بكون خاص ينساق اليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أى إن الدين المرضى عند الله الاسلام وقيل : متعلق بمحذوف وقع حالا من الدين وقيل : متعلق به وقيل : متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف والجملة معترضة أى هذا الحكم ثابت عندالله وأرى الكل ليس بشئ أما الاول فلأنه خلاف القاعدة المعرفة فى الظروف إذا وقعت بعد النكرات وأما الثانى
(3/106)

فلأن المشهور أن إن لا تعمل فى الحال وأما الثالث فلأنه لا وجه للتعليق بلفظ الدين إلا أن يكتفى بأنه فى الاصل بمعنى الجزاء وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغنى عنه أظهر من أن يخفى هذا وقد أختلف فى إطلاق الاسلام على غير ما جاء به نبينا والاكثرون على الاطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغى أن يقع اختلاف وما اختلف الذينأوتوا الكتب قيل : المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد اليهم موسى عليه الصلاة و السلام وأخرج ابن جرير عن الربيع قال : إن موسى عليه الصلاة و السلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بنى إسرائيل فايستودعهم التوراة وجعلهم امناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الاول والثانى والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلطالله تعالى عليهم جبابرتهم وقيل : النصارى واختلفوا فى التوحيد وقيل : المراد بالموصول اليهود والنصارى و بالكتاب م الجنس واختلفوا فى التوحيد وقيل : فى نبوته وقيل : فى الايمان بالانبياء والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين والذى اختلفوا فيه الاسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح وقوله تعالى : إلا من بعد ما جاءهم العلم زيادة أخرى فان الاختلاف بعد مجئ العلم أزيد فى القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الاحوال أو أعم الاوقات والمراد من مجئ العلم التمكن منه لسطوح براهينه أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحى وقوله سبحانه : بغيا بينهم زيادة تشنيع والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه ما و إلا من ثبوت الاختلاف بعد مجئ العلم كما تقول ما ضربت إلا ابنى تأديبا فلا دلالة للكلام على حصر الباعث وادعاه بعضهم أى الباعث الاختلاف هو البغى والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناءا على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أى ما اختلفوا فى وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغى كما تقول : ما ضرب إلا زيد عنرا أى ما ضرب أحدا إلا زيد عمرا ومن يكفر بئايت الله قيل : المراد بها حججه وقيل : التوراة وقيل : هى والانجيل وقيل : القرآن وقيل : آياته الناطقة بأن الدين عند الله الاسلام والظاهر العموم أى أية آية كانت والمراد بمن أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم فإن الله سريع الحساب قائم مقام جواب الشرط علة له أى ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب فإنه سريع الحساب أى يأتى حسابه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة وقيل : إن سرعة الحساب تقتضى إحاطة العلم والقدرة فتقيد الجملة الوعيد وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير ولعله أولى وأدق نظرا
وفى إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة وفى ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدة عقابهم فإن حاجوك أى جادلوك فى الدين بعد أن أقمت الحجج والضمير للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى قاله الحسن م وقال أبو مسلم : لجميع الناس وقيل : وفد نصارى نجران وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير فقل أسلمت وجهى لله أى أخلصت
(3/107)

وخضعت بقلبى وقالبى لله لا أشرك به غيره وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس فى موقعه لأنه إنما يكون فى أمر خفى والذى جادلوا به أمر مكشوف وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم وقيل : إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال : هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعى الخلق اليه وإنما الخلاف فى امور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام والمشركون يدعون وجوب عبادة الاوثان فهؤلاء هم الدعون فعليهم الاثبات ونظير ذلك قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا وعن ابى مسلم أن الآية فى هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام : إنى وجهت وجهى للذى فطر السموات والأرض فكأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد فى هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا فى قوله صادقا فى دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى : وجادلهم بالتى هى أحسن ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الاشارة إلى سوء حالهم وحط مقدارهم وعبر عن الجملة بالوجه لأنه اشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شئ وفتح الياء نافع وابن عامر وحفص وسكنها الباقون ومن اتبعن عطف على الضمير المتصل فى أسلمت وحسن للفصل أو مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم فى إسلام وجهه وليس المعنى أسلمت وجهى وهم اسلموا وجوههم إذ لا يصح أكلت رغيفا وزيدا وقد أكل كل منهما رغيفا فالواجب أن يكون من مبتدأ والخبر محذوف أى ومن اتبعن كذلك أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الالباس يسوغ كلا الامرين ويستغنى بذلك عن مئونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا وأثبت الياء فى اتبعنى على الأصل أبو عمرو ونافع وحذفها الباقون وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف وقد جاء الحذف فى مثل ذلك كثيرا كقول الاعشى : فهل يمنعنى ارتيادي البلا دمن حذر الموت أن يأتين وقل للذين أوتوا الكتب والأمين عطف على الجملة الشرطية والمعنى فإن حاجك أهل الكتاب فقابلهم فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر ءأسلمتم متبعين لى كما فعل المؤمنين فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد وهذا كما تقول إذا لخصت لسائل مسالة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته فهل فهمتها على طرز فهل أنتم منتهون إثر تفصيل الصوارف عن تعاطى ما حرم تعاطيه وفى ذلك تعيير بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود القريحة والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفى ضمنه الامر ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركى العرب قاله ابن عباس وغيره
فإن أسلموا أى اتصفوا بالاسلام والدين الحق فقد اهتدوا على تضمين معنى الخروج أى اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أى فقد نفعوا انفسهم قالوا : وسبب
(3/108)

إخراجه غن ظاهرة أن الاسلام عين الاهتداء فإن فسر على الاصل اتحد الشرط والجزاء وفيه منع ظاهر
وإن تولوا أى أعرضوا عن الاسلام ولم يقبلوا فإنما عليك البلغ قائم مقام الجواب أى لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه وهذا قبل الامر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف والله بصير بالعباد
2
- تذييل فيه وعد على الاسلام ووعيد على التوالى عنه
إن الذين يكفرون بئايت الله أية آية كانت ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الاسلام دخولا اوليا ويقتلون النبين بغير حق هم أهل الكتاب الذينكانوا فى عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا معنى لانذار الماضين قال القطب : وإسناد القتل اليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين : أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة اسلافهم صحت إضافتهااليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الإبن لا سيما إذا كان راضيا به الثانى أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت أل هنا دون ما سبق اتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك فى هذه الآية فتذكر
وقرأ الحسن يقتلون النبيين ويقتلون الذين يامرون بالقسط من الناس أى بالعدل ولعل تكرير الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما فى الوقت أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن أبى عبيدة بن الجراح قال : قلت : يا رسول الله : أى الناس أشد عذابا يوم القيامة قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأ الآية ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار فى ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى وقرأ حمزة ويقاتلون الذين وقرأ عبدالله وقاتلوا وقرأ أبى ويقتلون النبيين و الذين يأمرون فبشرهم بعذاب أليم
12
- خبر إن ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذى لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير كليت ولعل امتنع ذلم إجماعا وسيبويه والاخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى : أولئك الذين حبطت اعمالهم فى الدنيا والآخرة وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما فى قولك زيد فافهم رجل صالح وقد صرح به النحاة فى قوله : فاعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف ياتى كل ما قدرا ومن لم يفهم هذا قال : ان الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح وإذا قلنا لك ذلك فافهم وعلى الاول هو استئناف و اولئك مبتدأ وما فيه من العبد على المشهور للايذان ببعد منزلتهم فى فظاعة الحال والموصول خبره أى أولئك المتصفون بتلك الصفات الذين بطلت اعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة فى الدنيا حيث لم يتحقق دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناءا وفى الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب وهذا شامل للاعمال المتوقفة على النية ولغيرها
ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر فى الآخرة ولا يحبط بالكفر فالمراد بالاعمال هنا ما كان من القسم الاول وإن اريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا
(3/109)

الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل وما لهم من نصرين ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه فى أحد الدارين وجمع الناصر لرعاية ما وقع فى مقابلته لا لنفى تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعى أن مجئ الجمع هنا أحسن من مجئ المفرد لأنه رأس آية والمراد من انتقاء الناصرين انتقاء ما يترتب علىالنصر من المنافع ولفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يوذن به قوله تعالى : وما للظالمين من انصار إلا أن له هنا موقعا حيث أن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق على ما أشار اليه الحديث ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل اولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه
ومن الناس من زعم أن فى الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء الكفر بالعذاب وقتل الانبياء بحبط الاعمال وقتل الآمرين بانتقاء الناصر وهو كما ترى الم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب تعجيب للنبى ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجئ العلم وقيل : إنه تنوير لنفى الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم والمراد بالموصول اليهود وبالنصيب الحظ ومن إما للتبعيض وإما للبيان على معنى نصيبا هو الكتاب أو نصيبا منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فان جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه وعلى التقديراللام فى الكتاب للعهد والمراد به التوراة وهو المروى عن كثير من السلف والتنوين للتكثير وجوز أن يكون اللام فى الكتاب للعهد والمراد به اللوح وأن يكون للجنس وعليه النصيب التوراة و من للابتداء فى الاول ويحتملها والتبعيض فى الثانى والتنوين للتعظيم ولك أن تجعله على الوجهالسابق أيضا كذلك وجوز على تقدير أن يراد بالنصيب ما حصل لهم من العلم أن يكون التنوين للتحقير واعترض بأنه لا يساعده مقام المبالغة فى تقبيح حالهم وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المقصود تعيرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم والتعبير عما أوتوه بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التى يجب مراعاتها والعمل بموجبها وقوله تعالى : يدعون إلى كتب الله إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب وإما حال من الموصول والمراد بكتاب الله التوراة والاظهار فى مقام الاضمار لإيجاب الاجابة والاضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضى الله تعالى عنه وغيره
وقد أخرج ابن إسحاق وجماعته عنه قال : دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو والحرث بن زيد : على اى دين أنت يا محمد قال : على ملة إبراهيم ودينه قالا : فان إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : فهلما إلى التوراة فهى بيننا وبينكم فأييا عليه فأنزل الله تعالى الآية وفى البحر زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد فى ديننا الرجم فتحا كموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله : إنما
(3/110)

أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجئ بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبدالله بن سلام جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت وهو المروى عن ابن جريج وحكى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أيضا وذهب الحسن وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا اليه لأن ما فيه موافق لما فى التوراة من أصول الديانة وأركانه الشريعة والصفة التى تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون فى أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله ليحكم بينهم قيل : أى ليفصل الحق من الباطلل بين الذين أوتوا وهم اليهود وبين الداعى لهم وهو النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى أمر إبراهيم عليه السلام أو فى حكم الرجم أو فى شأن الإسلام أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف فى الدين الحق وعلى هذا وهو المرضى عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز فى مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقرئ ليحكم على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبى حنيفة ثم يتولى فريق منهم عطف على يدعون و ثم للتراخى الرتبى وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه و منهم صفة لفريق ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولى سائرهم من باب الأولى قيل : وهذا سبب العدول عن ثم يتولون وقيل : الذين لم يسلموا ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر وهم معرضون
22
- جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها قالواو للعطف وأن تكون فى محل نصب على الحال من الضمير المستكن فى منهم أو من فريق لتخصيصة بالصفة فالواو حينئذ للحال وهى إما مؤكدة لأن التولى والاعراض بمعنى وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناءا على ما قيل : إن التولى عن الداعى والاعراض عن المدعو إليه أو التولى بالبدن والاعراض بالقلب أو الأول كان من العلماء
والثانى من أتباعهم وجوز أن لا يكون لها محل من الاعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة والمراد وهم قوم ديىنهم الاعراض وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها ذلك أى المذكور من التولى والاعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى : بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا اياما معدودت أى حاصل لهم بسبب هذا القول الذى رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصى والذنوب والمراد بالأيام المعدودات أيام عبادتهم العجل وجاء هنا معدودات بصيغة الجمع دون ما فى البقرة فإنه معدودة بصيغة المفرد تفننا فى التعبير وذلك لأن جمع التكسير لغيرالعاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال : هذه جبال راسية وإن شئت قلت راسيات وجمال ماشية وإن شئت ما شيات وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفه وذلك اليق بمقام التعجيب والتشنيع وغرهم فى دينهم أى أطمعهم فى غير مطمع وخدعهم ما كانوا يفترون
42
- أى افتراؤهم وكذبهم أو الذى كانوا يفترونه من قولهم : لن تمسنا النار الخ قاله مجاهد أو من قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه قاله قتادة أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم : إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب ابناءه إلا تحلة القسم والظرف متعلق بما عنده أو بيفترون واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله وأجيب بالتوسع فكيف استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه وكلمة الاستفهام
(3/111)

فى موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف أى كيف تكون حالهم أو كيف يصنعون أو كيف يكونون وجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أى كيف حالهم وقوله تعالى : إذا جمعناهم ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل فى كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر وإن قلنا : إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل فى إذا ذلك المقدر اى كيف حالهم فى وقت جمعهم ليوم أى فى يوم أو لجزاء يوم
لا ريب فيه أى فى وقوعه ووقوع ما فيه روى أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رءوس الاشهاد ثم يأمر بهم إلى النار ووفيت كل نفس ما كسبت أى ما عملت من خير أو شر والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شئ واحد وهم لا يظلمون
52
- شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون فى عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر قل اللهم ملك الملك تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالعلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله وبهذا تنتظم هذه الآية الكريمة بما قبلها
روى الواحدى عن ابن عباس وأنس بن مالك أنه افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع فى ملك فارس والروم ! ! فأنزل الله تعالى هذه الآية
وروى أبو الحسن الثعالبى عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال : حدثنى أبى عن أبيه قال : خط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخندق عام الاحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف : كنت أنا وسليمان الفارسى وحذيفة والنعمان بن مقرن المزنى وستة من الانصار فى أربعين ذراعا فخفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا : يا سلمان إرق إلى رسول الله صاى الله تعالى عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال : فرقى سلمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال : يارسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم وكبر رسول الله تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فبرق منها برق اضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا فى جوف بيت مظلم وكبر تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة السلام لثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقى فقال : سلمان بأبى أنت وامى يا رسول الله لقد رأيت شيئا
(3/112)

مارأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان قالوا : نعم يا رسول الله قال : ضربت ضربتى الاولى فبرق لى الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لى الذى رأيتم أضاءت لى منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتى الثالثة فبرق لى الذى رأيتم أضاءت لى منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا : الحمد لله وعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر المنافقون : ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن وإذ يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غزورا وأنزل هذه الآية قل اللهم الخ وأصل اللهم يا ألله فحذفت يا وعوض عنها الميم وأوثرت لقربها من الواو التى هى حرف علة وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع يا كما فى قوله : إنى إذا ما حدث ألما أقول يا اللهم يا اللهما شاذ وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام فى القسم التعجبى نحو لله لا يؤخر الاجل ودخول أيمن ويمين عليه فى القسم أيضا وميم فى م الله ووقوع همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه فى نحو لاها الله ذا وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب وزعم الكوفيون أن أصله يا الله آمنا بخير أى اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته ويجوز الجمع عندهم بين يا والميم بلا بأس ولا يخفى ما فيه ويقتضى أن لا يلى هذه الكلمة أمر دعائى آخر إلا بتكلف الابدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف وأل فى الملك للجنس أو الاستغراق و الملك بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق نسبة بين من قام به ومن تعلق وإن شئت قلت : صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضى استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الاطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لانه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف فى الموضوع اللغوى وبزيادة كونه حقا فى الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار فمالك الملك هو الملك الحقيقى المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادا وإعداما إحياءا وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع ولهذا لايقا ملك الملك إلا على ضرب من التجوز وحمل الملك على هذا المعنى أوفق بمقام المدح وقيل : المراد منه النبوة واليه ذهب مجاهد وقيل : المال والعبيد وقيل : الدنيا والآخرة وانتصاب مالك على الوصفية عند المبرد والزجاج وسيبويه ويوجب كونه نداءا ثانيا ولا يجوز أن يكون صفة لأللهم لانه لا تصال الميم به اشبه أسماء الأصوات وهى لا توصف ونقض دليل سيبويه بسيبويه فانه مع كونه فيه اسم صوت يوصف وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه ومن هنا قال أبو على : قول سيبويه عندى اصح لأنه ليس فى الاسماء الموصوفة شئ على حد اللهم ولذلك خالف سائر الاسماء ودخل فى حيز ما لا يوصف نحو فانهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف والعلامة التفتازانى
(3/113)

على هذا وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكاتن مكان الخلف بعده تؤتى الملك من تشاء جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذى يستدعيه مالكية الملك وجوز جعلها حالا من المنادى وفى انتصاب الحال عنه خلاف وصحح الجواز لانه مفعول به والال تاتى منه كما تأتى من الفاعل وجعل الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أى أنت تؤتى وإن اختاره أبو البقاء ليس فيه كثير نفع وتنزع الملك ممن تشاء عطف على تؤتى وحكمه حكمه ومفعول تشاء فى الوضعين محذوف أى من تشاء نزعه منه و الملك الثالث هو الثانى والام فيهما للجنس أو العهد وليسا هما عين الأول عند المحققين حقيقى عام ومملوكيته حقيقى عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية واعتبر بعضهم فى التفرقة كون المراد من الاول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتى لا يمكن أن يكون الجميع والمنزوع هو ذاك لأنه معرفة معادة ويراد بها إن لم يمنع مانع عين الاول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لان الثانى مسبوق بالاول
ومن الناس من حمل الملك هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أى تؤتى النبوة بنى إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب وقيل : المعنى تعطى اسباب الدنيا محمدا وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما فى أيديهم المسلمون وروى ذلك عن الكلبى وقيل تنزعه من صناديد قريش وتعز من تشاء أن تعزه فى الدنيا والآخرة أو فيها بالنصر والتوفيق وتذل من تشاء أن تذله فى إحداهما أو فيها من غير ممانعة الغير وقيل : المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وتذل أبا جهل واضغاث الشرك بالقتل والالقاء فى القليب وقال عطاء : تعز المهاجرين والانصار وتذل فارس والروم وقيل : تعز المؤمنين بالظفر والغنيمة وتذل اليهود بالقتل والجزية وقيل : تعز بالاخلاص وتذل بالرياء وقيل : تعز الاحباب بالجنة والرؤية وتذل الاعداء بالنار والحجاب وقيل : تعز بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمه وقيل : وقيل : وينبغى حمل سائر الاقوال على التمثيل لانه لا مخصص فى الآية و تعز مضارع أعز ضد أذل والمجرد من الهمزة منه عز ومضارعه يعز بكسر العين ومنه ما فى دعاء قنوت الشافعية وله استعمالان آخران الضم والفتح وقد نظم ذلك الامام السيوطي بقوله : يا قارئا كتب الآداب كن يقظا وحرر الفرق فى الافعال تحريرا عز المضاعف يأتى فى مضارعه تثليث عين بفرق جاء مشهورا فما كقل وضد الذل مع عظم كذا كرمن علينا جاء مكسورا وما كعز علينا الحال أى صبعن فافتح مضارعه إن كنت نحريرا وهذه الخمسة الافعال لازمة واضم مضارع فعل ليس مقصورا عززت زيدا بمعنى قد غلبت كذا أعنته فكلا ذا جاء مأثورا وقيل : إذ كنت فى ذكر القنوت ولا يعز يارب من عاديت مكسورا واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا بيدك الخير جملة مستأنفة وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر
(3/114)

للتخصيص أى بيدك التى لا يكتنه كنهها وبقدرتك التى لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الادب وإلافذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق وتحقيقه إنك على كل شئ قدير
62
- فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء وقيل : إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات وقيل لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام الأول ما لا شر فيه أصلا والثانى ما يغلب خيره على شره والثالث ما يكون محضا والرابع ما يكون غالبا على خيره والخامس ما يتساوى الخير والشر فيه والموجود من هذه الاقسام فى العالم القسم الاول والثانى والشر الذى فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمه بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا ياباها الكرم المطلق ألا ترى أن الفصد ةالحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الامور المؤلمة لكونه وسيلة حصول الصحة يحسن ارتكابه فى مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل ولهذا ورد فى الحديث لا تتهم الله تعالى على نفسك وورد لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين
وجاء لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب ومن هنا قيل : يا من إفسلده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير فى جنبها لكونه وسيلة وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا : جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح وذب المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل فى قوله سبحانه : بيدك الخير فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما استلزاما وهذا من باب ليس فى الإمكان أبدع مما كان وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه وفى شرح الهياكل أن الشر مقضى بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجرى فى ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الاصلح ولا ينافيه لا يسئل عما يفعل إذ لا يفعل ما يسئل عنه كرما وحكمة وجودا ومنه ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع تولج الليل فى النهار وتولج النهار فى الليل الولوج فى الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار فى الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب فى أكثر البلدان وروى ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد ولا يضر تساوى الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفى الزيادة والنقصان فيهما فى الأغلب وقال الجبائى : المراد بإيلاج أحدهما فى الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهور ان عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول : ووراء ذلك ايام السلخ التى يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التى يعقلها العلماء الحكماء
(3/115)

وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الالهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين وهكذا إلى آخر المنازل ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها وأخفى من ذلك إلى اقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهى من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلثمائة وستيم يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسمانى وفيه اليوم الروحانى فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام فى هذا اليوم الجسمانى أغذيتها وزيادتها ونموها وصحتها وسقمها وحياتها وموتها فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة فى العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام روحانية لها أحكام فى الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذى قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الالهية وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى فى المشهود من الأيام المحسوسة : يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال فى آية : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فهذا أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد ان يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه ويرد كل فرع إلى أصله ويلحق كل ابن بابيه وقال فى الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى : يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الاشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عن قائلا : يغشى الليل النهار ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد فى النهار فأمه النهار وابوه الليل وكلما تولد فى الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذ حكم الايلاج حكم السلخ فان السلخ إنما هو فى وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من أجل الظاهر والباطن والغيب والشهادة والروح والجسم والحرف والمعنى وشبه ذلك فالايلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجى ولهذا كرر الليل والنهار فى الإيلاج كما كررهما فى التكوير هذا فى عالم الجسم فى عالم الروح فتكوير النهار لايلاج الليل وتكوير الليل لايلاج النهار وجاء السلخ واحدا للظاهر لأ ربابه وقد اختلف العجم والعرب فى أصالة أى المكورين على الآخر فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسى فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التى تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمرى أولئك كتب فى قلوبهم الايمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هى الليلة التى يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ فى هذا النظر غير أنهم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لان عوامهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة ورثة الانبياء يعملون ما وراء ذلك من ايام السلخ وايام الايلاج الشانى ولما كانت الايام شيئا وكل شئ عندهم ظاهر وباطن وغيب وشهادة وروح وجسم وملك وملكوت ولطيف وكثيف قالوا : إن اليوم نهار وليل فى مقابلة باطن وظاهر والايام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لانه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الآلهية وقد أطلق سبحانه فى آية السلخ ولم يبين أى نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال
(3/116)

فصل الخطاب فعلى المفهوم مناللسان بالحساب القمرى أن ليلة الاحد سلخ الله تعالى منها نهار الاربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة ومن ليلة الاربعاء نهار السبت ومن ليلة الخميس نهار الاحد ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاث نهارات فكانت ستة وهى نشأتك ذات الجهات فالليالى منها للتحت والشمال والخلف والنهارات منها للفوق واليمين والامام فلا يكون الانسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به ارضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك فى الشأن الظاهر لستر الحكمة الالهية على يد الموكلين بالساعات وفى اليوم الايلاجى الشانى يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع فى الموجودات بحسب استعداداتها ولهذا قال سبحانه : كل يوم هو فى شأن ولم يقل فى شؤون وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثير الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وآل واحد قد ولاء من لا يكون فى ماكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله اميرا فى ذلك والمتصرف الحقيقى هو الله تعالى لا هو من حيث هو فاليوم الشأنى ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا فى أيام التكوير وكذا فى ايام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك فى الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه وقد أرسل سبحانه آية الايلاج ولم يقل : يولج الليل الذى صبيحته الأحد فى الأحد ولا النهار الذى مساؤه ليلة الاثنين فى الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هى ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل احدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات والحاكم المولى من قبل المولى الأحد الايلاجى مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس والثانية منها والثالثة من يوم الخميس والعاشرة منها والخامسة من ليلة الجمعة والثانية عشرة منها والسابعة من يوم الجمعة والثامنة من ليلة السبت والتاسعة منها والرابعة من يون السبت والحادية عشرة منه والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله
وأما ساعات نهاره من ايام التكوير فالأولى من يوم الأحد والثامنة والثالثة من يوم الاثنين والعاشرة منه والخامسة من يوم الاثنين والثانية عشرة منه والسابعة من ليلة الثلاثاء والثانية من يوم الثلاثاء والتسعة منه والرابعة من ليلة الأربعاء والحادية عشرة منها والسادسة من يوم الأربعاء فهذه اربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الايلاجى الشانى كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد وهكذا تقول فى سائر الأيام حتى تكمل سبعة ايام متميزة بعضها من بعض مولجه بعضها فى بعض نهارها في ليلها وليلها فى نهاره لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد فى الأيام ويظهر ذلك من ايام التكوير
وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن فى كل يوم فى رسالته المسماة بالشأن الالهى ولعلى إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى : كل يوم هو فى شأن وهذه الأيام ايضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا ويوم الرب ويوم المعارج ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل ويوم الحمل ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم وقد ذكر كل ذلك فى الفتوحات وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء فى بيان مشرب القوم ليس بدعا فى هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لحهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون وفى هذا كفاية لمن القى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت
(3/117)

وتخرج الحى من الميت أى تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة وعليه ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومجاهد والسدى وحلق كثير وتخرج الميت من الحى أى النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف
وأخرج ابن مردويه من طريق ابى عثمان النهدى عن سلمان الفارسى قال : قال رسول الله : لما خلق اللهة تعالى آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال : هؤلاء اهل الجنة ولا ابالى وقبض بالاخرى قبضة فجاء فيها كل ردئ فقال هؤلاء اهل النار ولا ابالى فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المومن والمؤمن من الكافر فذلك قوله تعالى : وتخرج الحى من الميت الآية وإلى هذا ذهب الحسن وروى عن اإمة اهل البيت فالحى والميت مجازيان ولطف هذه الجملة بعد الاولى لا يخفى والقائلون بعموم المجاز قالوا : المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات والنخلة من النواة والنواة من النخلة والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب والعالم من الجاهل والجاهل من العالم والذكى من البليد والبليد من الذكى إلى غير ذلك ولا يلزم من الآية ان يكون إخراج كل حى من ميت وكل ميت من حى ليلزم التسلسل فى جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلف شيئا إلا من شئ فلا كما لا يخفى وقرأ الميت بالتخفيف فى الموضعين وترزق من تشاء بغير حساب
72
- الظرف فى محل الحال من المفعول أى ترزق من تشاء غير محاسب له أو من الفاعل اى ترزقه غير محاسب له أو غير مضيق عليه وجوز ان يكون نعتا لمصدر محذوف أو مفعول محذوف اى رزقا غير قليل وفى ذكر هذه الافعال العظيمة التى تحير العقول ونسبتها اليه تعالى دلالة عى أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين
هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية وقد اخرج ابن ابى الدنيا عن معاذ بن جبل قال : شكوت إلى انبى صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان على فقال : يا معاذ اتحب ان يقضى دينك قلت : نعم قال : قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطى منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عنى دينى فلو كان عليك ملء الارض ذهبا ادى عنك وفى رواية للطبرانى الآية بتمامها
ومن باب الاشارة فى الآيات شهد الله أنه لا إله إلا هو أى ابان بدلائل الآفاق والانفس أنه لا إله فى الوجود سواه أو شهد بذاته فى مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره وشهد الملائكة وأولو العلم م بذلك وهى شهادة مظاهره سبحانه فى مقام التفصيل ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة اولى العلم من حيث المشاهدة وايضا قالوا : شهادة الملائكة من رؤية الافعال وشهادة أولى العلم من رؤية الصفات وقيل : شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء وشهادة العلماء متفاوتة نشادة بعض من الحالات وشهادة آخرين من المقامات وشهادة طائفة من المكاشفات وشهادة فرقة من المشاهدات وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية فشادتهم مستغرقة فى شهادة الحق لانهم فى محل المحو قائما بالقسط أى مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد
(3/118)

فيتجلى عليه على قدر دعائه لا إله إلا هو العزيز فلا يصل احد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته الحكيم الذى يدبر كل شئ فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق ان الدين المرضى عند الله الاسلام وهو المقام الابراهيمى المشار إليه بقوله : اسلمت وجهى اى نفسى وجملتى وانخلعت عن آنيتى لله تعالى ففنيت فيه إن الذين يكفرون بآيات الله وهم المحجوبون عن الدين والسائرون للحق بالميل مع الشهوات ويقتلون النبيين الداعين إلى التوحيد وهم العباد الواصلون الكاملون ويقتلون الذين يأمرون بالقسط وهو نفى الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى من الناس ويحتمل ان يشار الذين كفروا م إلى قوى النفس الامارة م بالنبيين م إلى انبياء القلوب المشرفة بوحى إلهام الغيوب وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التى هى من جنود أولئك الانبياء واتباعهم فبشر أولئك الكافرين بعذاب اليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الارباب أولئك الذين حبطت أى بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار أعمالهم لعدم شرطها وهو التوحيد فى الدنيا وهى عالم الشهادة والآخرة وهى عالم الغيب وما لهم من ناصرين لسوء حظهم وقلة استعدادهم الم تر إلى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب كعلماء السوء واحبار الضلال يدعون إلى كتاب الله الناطق بمقام الجمع والفرق 0 ليحكم بينهم وبين الموحدين ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار نار البعد إلا أياما معدودات أى قليلة يسيرة وغرهم فى دينهم الذى هم عليه 0 ما كانوا يفترون من القضايا والأقيسة التى جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم بعد تفرقهم فى صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم ليوم لا ريب فيه وهو يوم القيامة الكبرى الذى يظهر فيه الحق لمنكره ووفيت كل نفس صالحة وطالحة ما كسبت بواسطة استعدادها وهم لا يظلمون جزاء ذلك قل اللهم مالك الملك اى الملك المتصرف فى مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة تؤتى الملك من تشاء وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفا بارادتك وقدرتك وتنرع الملك ممن تشاء بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته فى عالم الاجسام وتكميل النشأة أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من ان ينال عهدك أو يمنح رفدك وتعز من تشاء إلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا وتذل من تشاء بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا بيدك الخير كله وأنت القادر مطلقا تعطى على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك تولج الليل فى النهار تدخل ظلمة النفس فى نور القلب فيظلم وتولج النهار فى الليل وتدخل نور القلب فى ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما وتخرج حى القلب من ميت النفس وميت النفس من حى القلب أو تخرج حى العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حى العلم وترزق من تشاء من النعم الظاهرة والباطنة او من إحداهما فقط بغير حساب إذ لا حجر عليك
هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والاعزاز من الله تعالى وانه على كل شئ قدير نبه المؤمنين على أنه لا ينبغى أن يوالوا اعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية او نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا : لا يتخذ المؤمنون الكفرين أولياء قال ابن عباس : كان الحجاج بن عمرو وكهمس بن أبى الحقيق وقيس بن زيد والكل من اليهود يباطنون نفرا من الانصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا
(3/119)

لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى اولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية وقال الكلبى : نزلت فى المنافقين عبدالله بن ابى واصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالاخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم
وروى الضحاك عن ابن عباس انها نرلت فى عبادة بن الصامت الانصارى وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الاحزاب قال عبادة : يا نبى الله إن معى خمسمائة من اليهود وقد رايت ان يخرجوا معى فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى لا يتخذ الخ والفعل مجزوم بلا الناهية وأجاز الكسائى فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهى ايضا وهو متعد لمفعولين وجوز أن يكون متعديا لواحد فأولياء مفعول ثان أو حال وهو جمع ولى بمعنى الموالى من الولى وهو القرب والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم فى الجاهلية بل ينبغى أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الاسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا : إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة او جديدة خاجة عن الاختبار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم فى الغرو مما ذهب اليه البعض وذهبنا وعليه الجمهور أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها انها قالت : خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح اصحاب النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم : ارجع فلن استعين بمشرك فمنسوخ بأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بنى قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن امية فى هوازن وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق اما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس فى سبب النزول وبه يحصل الجمع بين ادلة المنع وأدلة الجواز على ان بعض المحققين دكر أن الاستعانة المنهى عنها إنما هى استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى
ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز حعلهم عمالا ولا استخدامهم فى أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا فى الموالاة المنهى عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوفير بالمجالس وفى فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام فى المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والاحسان المأذون به فى قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهى عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا فى قلوب ضعفاء المومنين ولا ارى القيام لأهل الذمة فى المجلس إلا من الامور المحظورة لان دلالته على التعظيم قوية وجعله من الاحسان لااراه من الاحسان كما لا يخفى من دون المؤمنين حال من الفاعل أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد فى قوم باعيانهم والوا الكفار دون المومنين فهو لبيان الواقع او لأن ذكره للاشارة إلى ان الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضى ان يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين فى حيز المنع وكونه إشارة إلى أن ولا يتهم لا تجامع ولاية المؤمنين فى غاية الخفاء
(3/120)

وقيل : الظرف فى حيز الصفة لأولياء وقيل : متعلق بفعل الاتخاذ و من لابتداء الغاية اى لاتجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين ومن يفعل ذلك أد الاتخاذ والتعبير عنه بالفعل كما قال شيخ الاسلام للاختصار أو لا يهام الاستهجان بذكره و من شرطية و يفعل فعل الشرط وجوابه
فليس من الله فى شئ والكلام على حذف مضاف اى من ولايته او من دينه والظرف الاول حال من شئ والثانى خبر ليس وتنوين شئ للتحقير أى ليس فى شئ يصح ان يطلق عليه اسم الولاية او الدين لان موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل : تود عدوى ثم تزعم أننى صديقك ايس النوك عنك بعازب وقيل أيضا : إذا والى صديقك من تعادى فقد عاداك وانقطع الكلام والجملة معترضة وقوله تعالى : إلا أن تتقوا هلى صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من اعم الاحوال والعامل فيه فعل النهى معتبرا فيه الخطاب اى لا تتخذوهم اولياء فى حال من الاحوال إلا حال اتقائكم وقيل : استثناء مفرغ من المفعول لأجله أى لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشئ من الأشياء إلا للتقية منهم أى من جهتهم و من للابتداء متعلق بمحذوف وقع حال من قوله تعالى : تقاة لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها والمراد بالتقاة م ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاه وهو الشائع فعلى الاول يكون مفعولا به لتتقوا وعلى الثانى مفعولا مطلقا له و منهم متعلق به وتعدى بمن لأنه بمعنى خاف وخاف يتعدى بها نحو وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا ومن خاف من موص جنفا والمجرور فى موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعلم به اى شررا ونحوه وأصل تقاة وقية بواو مضمونة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاءا كتجاه وابدلت الياء المتحركة الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعله : كتخمة وتؤدة م وهو فى المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء ماقتداء وقرأ أبو الرجاء وقتادة تقية بالياء المشددة ووزنها فعيل والتاء بدل من الواو ايضا وفى الآية دليل
على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الاعداء والعدو قسمان : الاول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم والثانى من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والامارة ومن هنا صارت التقية قسمين : أما القسم الاول فالحكم الشرعى فيه أن كل مؤمن وقع فى محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له اصلا ان يبقى هناك ويخفى دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن ارض الله تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعى فى ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل أو قتل الاولاد أو الآباء أو الأمهات تخويفا يضن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق أو بحبس القوت أو بنحو ذلك فانه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى فى الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التى يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم وفى صورة الجواز ايضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه لذلك فانه شهيد قطعا ومما يدل على أنها رخصة ماروى عن الحسن
(3/121)

أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله قال : نعم فقال : أتشهد أنى رسول الله قال نعم ثم دعا بالآخرة فقال له : أتشهد ان محمدا رسول الله قال : نعم فقال : أتشهد أنى رسول الله قال : إنى اصم قالها ثلاثا وفى كل يجيبه بانى اصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : اما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعه عليه وأما القسم الثانى فقى اختاف العلماء فى وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم : يجب لقوله تعالى : ولا تلقوا بايديكم إلى التهلكة وبدليل النهى عن إضاعة المال وقال قوم : لا تجب إذا الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان فى الدين لاتحاد الملة وعدوه القوى المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن وقال بعضهم : الحق إن الهجرة هنا قد تجب ايضا إذا خاف هلاك نفسه او اقاربه او هتك حرمته بالافراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فان وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل الكثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة او المظنونة فى المرض وعن تناول السموم فى حال الصحة وغير ذلك وهذه الهجرة ايضا من هذا القبيل ةليست هى كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة وعدم قوم من باب التقية مداراة الكفار والفلسفة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم فى وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف اذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهى عنها بل هى سنة وامر مشروع
فقد روى الديلمى عن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : إن الله تعالى أمرنى بمداراة الناس كما أمرنى باقامة الفرائض وفى رواية بعثت بالمداراة وفى الجامع سيأتيكم ركب مبغضون فاذا جاءوكم فرحبوابهم وروى ابن أبى الدنيا رأس العقل بعد الايمان بالله تعالى مداداة الناس وفى رواية البيهقى رأس العقل المداداة وأخرج الطبرانى مداراة الناس صدقة وفى رواية له ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة
وأخرج ابن عدى وابن عساكر من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه وعن بردة عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت : استأذن رجل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : بئس ابن الشعيرة أو أخ العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت : يارسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول فقال : ياعائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه وفى البخارى عن أبى الدرداء إنا لنكشر فى وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وفى رواية الكشميهنى وإن قلوبنا لتقليهم وفى رواية ابن أبى الدنيا وإبراهيم الحرمى بزيادة ونضحك اليهم إلى غير ذلك من الاحاديث لكن لا تنبغى المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسئ الظنون
ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس وهم الخوارج والشيعة : أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض فى مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات فى هذا الباب عجيبة منها أن أحدا لو كان يصلى وجاء سارق أو غاضب ليسرق أو يغضب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمى صحانى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه
(3/122)

فى صلاته كى لا يهرب ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان وأما الشيعة فكلامهم مضطرب فى هذا المقام فقال بعضهم : إنها جائزة فى الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز فى الافعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد فى الدين وقال المفيد : إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فى وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها وقال أبو جعفر الطوسى : إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس وقال غيره : إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم فى صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سنى نقية فكأنما صلى وراء نبى وفى وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف وكذا فى وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الافطار قولان أيضا وفى أفضلية التقية من سنى واحد صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن خلاف أيضا وأقى كثير منهم بالأفضلية ومنهم من ذهب إلى جواز بل وجوب إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان وحملوا أكثر أفعال الائمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا عندهم وأسسوا عليه دينهم وهو الشائع الآن فيما بينهم حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضى الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك
ففى كتبهم ما يبطل كون امير المؤمنين على كرم الله وحهه وبنيه رضى الله تعالى عنهم ذوى تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذى زعموه ففى كتاب نهج البلاغة الذى هو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى فى زعمهم أن الامير كرم الله تعالى وجهه قال : علامة الايمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى : إن اكرمكم عند الله أتقاكم بأكثركم تقية ! وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال : إنى والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإنى من ضلالتهم التى هم فيها والهدى الذى أنا عليه لعلى بصيرة من نفسى ويقين من ربى وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنظر راج
وفى هذا دلالة على أن الامير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين وروى العياشى عن زرارة بن أعين عن أبى بكر بن حزم أنه قال : توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء على كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال ويلك تصلى وأنت على غير وضوء فقال : أمرنى عمر فأخذ بيده فانتهى اليه ثم قال : انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضى الله تعالى عنه فقال عمر : أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق
وروى الراوندى شارج نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسى أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله فى بعض طرقات بساتين المدينة وفى يد على قوس فقال : يا عمر بلغنى عنك ذكرك لشيعتى فقال : أربع على صلعتك فقال : على إنك ههنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هى ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر : الله الله تعالى يا أبا الحسن لاعدت بعدها فى شئ فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما مانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان : فلما كان الليل دعانى على فقال : سر عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك على : أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هولهم ولا تخبه فأنصحك قال سلمان : فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال : أخبرنى عن أمر صاحبك من أين
(3/123)

علم به فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا فقال : يا سلمان أقبل عنى ما أقول لك ما على إلا ساحر وإنى لمستيقن بك والصواب أن تفارقه وتصير من جملتنا قلت : ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا قال : ارجع إليه فقل : السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى على فقال : أحدثك عما جرى بينكما فقلت : أنت أعلم منى فتكلم بما جرى بيننا ثم قتا : إن رعب الثعبان فى قلبه إلى أن يموت وفى هذه الرواية ضرب عنف التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية
وروى الكلينى عن معاذ بن كثير عن أبى عبدالله أنه قال : إن الله عز و جل أنزل على نبيه صلى اللهة تعالى عليه وسلم كتابا فقال جبلايل : يا محمد هذا وصيتك إلى النجباء فقال : ومن النجباء يا جبريل فقال : على بن أبى طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى على وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل ثم دفعه إلى على ابن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل ثم دفعه إلى ابنه محمد بن على ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فانه لا سبيل لأحد عليك ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك ختما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فانك فى حرز وأمان ففعل ثم دفعه إلى موسى وهكذا إلى المهدى
ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبى عبدالله وفى الخاتم الخامس وقل الحق فى الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم لبتقية كما تزعمه الشيعة وروى سليم بن قيس الهلالى الشيعى من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال : لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس إلى أبى بكر رضى اللهة تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والانصار إلا ناشدتهم الله تعالى حفى ودعوتهم إلى نصرتى فلم يستجب لى من جميع الناس إلى أربعة الزبير وسلمان وأبو ذر والمقداد وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لان هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضى الله تعالى عنه فيه ما فيه
وفى كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه بعث إلى على قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه على وقال : انطلق إلى على وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له : ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيري وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب على وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرقع عمر السيف وهو فى غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فصاحت يا أبتاه فأخذ على بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته وفيه أيضا أن عمر قال العلى : بايع أبا بكر رضى الله تعالى عنه قال : إن لم افعل ذلك قال : إذا والله تعالى لا ضربن عنقك قال : كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الامام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر : يا مغرور إنى أراك فى الدنيا قتيلا بجراحه من عند أم معمر تحكم عليه جوزا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك
(3/124)

وروى أيضا أنه قال اعمر مرة : إن لك ولصاحبك الذى قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والا كما ثم يؤتى بالنار التى أضرمت لإبراهيم ويأتى حر جيس ودانيال وكل نبى وصديق فتصلبان فيها افتحرقان وتصيران رمادا ثم تاتى ريح فتنسفكما فى اليم نسفا فانظر بالله تعالى عليك من يروى هذه الاكاذيب عن الامام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغى له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى هذا العجب العجاب والداء العضال ومما يرد قولهم ايضا : إن التقية لا تكون إلا لخوف والخوف قسمان : الأول الخوف على النفس وهو منتف فى حق حضرات الائمة يوجهين : أحدهما ان موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسالة الكلينى فى الكافى وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الامامية وثانيهما أن الائمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون فى دينهم ويغرون عوام المؤمنين القسم الثانى خوف المشقة والايذاء البدنى والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك ان تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما فى امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوى أولى بتحمل الشدائد فى نصرة دين جدهم صلى الله تعالى عليه وسلم
وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الائمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من اداء الواجب أول وهلة ومما يرد قولهم فى نسبة التقية إلى الانبياء عليهم السلام بالمعنى الذى أراده قوله تعالى فى حقهم : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشونه أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا وقوله سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم : يا ايها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إلى غير ذلك من الآيات نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التى اشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه وهذا احد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن انه قال التقية جائزة إلى يوم القيامة والثانى حمل التقية ظاهرها وكونها جائزة إنما هو على التفصيل الذى ذكرناه
ومن الناس من اوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار األإلهية عن الافشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل ةعلى علمائهم ما فهموه وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر انفاسهم وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمى الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا انهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التى تعم الارض وحنانيك بعض الشر أهون من بهض وكتم الاسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب اليم وقد يقال ليس هذا من باب التقية فى شئ إلا أن القوم تكلموا بما طفح على السنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعانى لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة ومن حذا حذوهم واقتفى فى التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقيق ما إليه مالوا ويؤخذ هذا ما ذكره الشعرانى قدس سره فى الدرر المنثورة فى بيان زبدة العلوم المشهورة مما نصه وأما زبدة علم التصوف الذى وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد فى باب الادب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخى فلان يدق على فهمه فقال : لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك وهذا هو الذى دعا
(3/125)

الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى
فعلى هذا الانكار على القوم ليس فى محله ويحذركم الله نفسه أى عقاب نفسه قاله ابن عباس رضى الله تعالى عنه وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهى المنهى عنه فى القبح حيث علق التحذير بنفسه وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذى أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح وقيل : النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا كشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات الا مشاكلة وإلى الله المصير
82
- أى المرجع والاظهار فى مقام الضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة قيل : والكلام على حذف مضاف أى إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما قل إن تخفوا ما فى صدوركم أى تسروا ما فى قلوبكم من الضمائر التى من جملتها ولاية الكفار وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب أر تبدوه أى تظهروه فيما بينكم
يعلمه الله فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه وتقديم الاخفاء الابداء قد مرت الإشارة إلى سره ويعلم ما فى السموات وما فى الأرض من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا والجملة مستانفة غير معطوفة عل جواب الشرط
والله على كل شئ قدير
92
- إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير فكأنه سبحانه قال : يحذركم الله نفسه لانه متصف بعلم ذاتى محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت او ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها والاظهار فى مقام الاضمار لما علمت يوم تجد كل نفس من النفوس المكلفة
ما علمت فى الدنيا من خير وإن كل مثقال ذرة محضرا لديها مشاهدا فى الصحف وقيل : ظاهرا فى صور وقيل : تجد جزاء اعمالها محضرا بأمر الله تعالى وفيه التهويل فى حاضرا وهو مفعول ثان لتجد وما علمت من سوء عطف على ما علمت و محضرا محضر فيه معنى إلا انه خص بالذكر فى الخير للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية كما قال شيخ الاسلام وتقدير محضرا فى النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره فد الاول مما قاله الاكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز كما فى الدر المصون ولم يجعلوه من قبيل علمت زيدا فاضلا وعمرا وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الاول بل من قبيل زيد قائم وعمرو وهو مما حذف فيه الخبر كما صر حوا به فيلزم الاقتصار صرورة والفرق بين المبتدأ أو المفعول فى هذا الباب وهم ولك أن تجعل تجد بمعنى تصيب فيتعدى لواحد و محضرا حال تود أى تتمنى وهو عامل فى الظرف اى تتمنى يوم ذلك
لو ان بينها وبينه أى بين ذلك اليوم أمدا بعيدا وقيل : الضمير لما عملت لقربه ولان اليوم احضر فيه الخير والشر والمتمنى بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير اليوم وإلى ذلك ذهب فى البحر
(3/126)

ورد بأنه ابلغ لانه يود البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى من السوء و الأمد غاية الشئ ومنتهاه والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة وقيل : مقدار العمر وقيل : قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة ولعله الأظهر فالتمنى هنا من قبيل التمنى فى قوله تعالى : ياليت بينى وبينك بعد المشرقين وهذا الذى ذكر فى نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير وقال أبو حيان : إنه الظاهر فى بادئ الرأى مبنى على أمر اختلف النحاة فى جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به مفعول الفعل المتقدم نحو غلام هند ضربت هى والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيود عائد على شئ اتصل بمفعول يود وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس والتقدير تود كل نفس يوم وجدانها ما علمت من خير وشر محضرا لو أن بينها الخ وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح ومنه قوله : أجل المرء يستحث م ولا يد رى إذ يبتغى حصول الأمانى أى المرء فى وقت ابتغائه حصول الأمانى يستحث أجله ولا يدرى والفراء والأخفش وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضله فيجوز الاستغناء عنه وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه وفى الآية اوجه أخر منها أن ناصب الظرف قدير ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحاه بذلك اليوم لأنه إذ قدر فى مثله علم قدرته فى غيره بالطريق الأولى ومنها انه منصوب بالمصير أو بالذكر أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به أو بالعقاب المضاف الذى أشعر به كلام ابن عباس رضى الله تعالى عنه وصرحوا بأنه على تقدير نعلقه بنحو اذكروا يجوز فى ما عملت أن يكون مبتدأ خبره جملة تود وأن يكون معطوفا على ما الأولى وجملة تود إما مستانفة جوابا لسؤال مقدر كان سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم : فماذا يكون إذ ذاك فقيل : تود لو ان بينها الخ أو حال من فاعل تجد اى اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادت تباعد ما بينها وبينه وجوز ان يكون حالا من ضمير عملت لقربه واعترض بأن الوداد إنما هو وقت وجد ان العمل حاضرا فى الآخرة لا وقت العمل فى الدنيا والحالية من ضمير عملت تقتضيه فلا وجه لها وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى يوم تجد كل نفس كذا مقدرا وداده أى حال كونه ثابتا فى قدرنا وداده فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا فى قدر الله تعالى وقضائه مقارن له وهذا مثل ما قيل فى قوله تعالى وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين واعترض ايضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير عمات يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به وجوز ايضا أبو البقاء أن تكون ما فى 0 ما عملت من سوء 9 شرطية وإلى ذلك مال السفاقسى ورفع تود ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز فى الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية واسماء الشرط واعترض بأن رفع المضارع فى الجزاء شاذ كرفعه فى الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا فى قول زهير : وإن اتاه خليل يوم مسبغة يقول لا غائب مالى ولا حرام
(3/127)

فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة أينما تكونوا يدرككم الموت يرفع يدرك عليه واجيب بأنا لا نسلم الشذوذ وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا فى لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة انه احسن من الجزم وبيت زهير مثله قول أبى صخر : ولا بالذى إن بان منه حبيبه يقول ويخفى الصبر إنى لجازع وقوله الآخر : إن يسالونك الخير يعطوه وإن خبروا فى الجهد ادرك منهم طيب إخبار برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط وقوله : وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر إلى غير ذلك وفى البحر : إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما فى الآية جزاءا لما ذكر سيبويه أن النية فى المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذ يؤدى إلى تقديم المضمر على ظاهره فى غير الابواب المستثناة لان ضمير وبينه م عائد على اسم الشرط وهو ما فيصير التقدير تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء وذلك لا يجوز ورده السفاقسي بانا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور ايضا لان الجملة لاشتمال لها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة فى النية ألا ترى ان الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الاكثر وإن كان متقدما عليه فى النية وقرأ عبدالله ودت م وعليها يرتفع الارتفاع بالاجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثانى قال : إن فى الصحة كلاما لان الجملة على تقدير الموصولية حال او عطف على تجد والشرطية لا تقع حالا ولا مضافا اليها الظرف فلم يبق إلا عطفها على اذكر وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى وهو كون هذه الحالة والودادة فى ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أى وهى ما عملت من سوء ودت ولا يخفى ما فيه فانهم اعربوا ان الوصلية مع جملتها الحالية ولم ينص النحاة على منع الاضافة اليها وقال غير واحد من الأئمة : إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لانه كلام كحكاية الحال الكائنة فى ذلك اليوم فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على انها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء فى استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفى الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه وحديث الاستقبال تقدير وما كان عملت كما فى نظائر له فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شئ ويحذركم الله نفسه قيل : ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا وجوز أن يكون كعطوفا على تود أى تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السئ ويحذركم الله نفسه بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغى ان يخرج الكتاب العزيز عليه وأهون منه عطفه على تجد والظرف معمول لا ذكروا أى اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته وقد يقال : إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لا فادة ما يفيده وقوله تعالى : والله رؤف بالعبار من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسى صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا
(3/128)

فالجملة على الأول تذليل وعلى الثانى حال وإلى الاول يشير كلام الحسن رضى الله تعالى عنه و أل فى العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجيه الذهن إلى هذا الحكم اتم توجه
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الادارة وهى لا تتعلق حقيقة إلا بالمعانى والمنافع فيستحسل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهى هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعباد وذلك إما من باب إطلاق الملزوم اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا اليه أو من باب مجاز النقص أى إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعونى فيما آمركم به وأنهاكم عنه كذا قيل وهو خلاف مذهب العارفين من اهل السنة والجماعة فانهم قالوا المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغى للكامل ان يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة قال الغزالى عليه الرحمة فى الاحياء : الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشئ الملذ فان تأكد ذلك الميل وقوى يسمى عشقا والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فاذا قوى سمى مقتا ولا يظن ان الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال : إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لانه صلى الله تعالى عليه وسلم سمى الصلاة قرة عين وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ با حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعانى المدركة بالعقل اعظم من جمال الصور الظاهرة للابصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الامور الشريفة الالهية التى تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح اليه أقوى ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما فى إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور فى درجة البهائم فلم يجز إدراكه الحواس اصلا نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق : تعصى الاله وأنت تظهر حبه هذا لعمرى فى القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعمه إن الحب لمن يحب مطيع والقول : بان المحبة تقتضى الجنسية بين المحب والمحبوب فلا يمكن ان تتعلق بالله تعالى ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالاعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر يحببكم الله جواب الامر وهو رأى الخليل وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أى إن تتبعونى يحببكم اى يقربكم رواه ابن أبى حاتم عن سفيان بن عيينة وقيل : يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل او الاستعارة أو المشاكلة وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذى لا يعلم تاويله إلا الله تعالى
ويغفر لكم ذنوبكم أى يتجاوز لكم عنها والله غفور رحيم
13
- اى لمن تحب اليه بطاعته وتقرب اليه باتباع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم والجملة تذييل وقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمن ووضع الاسم الجليل مع الاضمار لما مر وللاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة وقرئ تحبونى ويحبكم ويحببكم من حبه يحبه ومنه قوله : أحب أبا ثروان من حب تمره وأعلم أن الرفق بالجار أرفق والله لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
(3/129)

ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبى : أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا : قل اللهم مالك الملك الخ تعلق قلب العبد المومن بمولى عظيم الشأن ذى الملك والملكون والجلال والجبروت ثم لما ثنى نبهى المومنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عن قائلا : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الخ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه : إن تخفوا ما فى صدوركم او تبدوه الآية واكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق اقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله : قل إن كنتم تحبون الله ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول : بأى شئ ينال كمال المحبة وموالاة الرب فقيل : بعد قطع موالاة اعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه سدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود واختلف فى سبب نزولها فقال الحسن وابن جريج : زعم اقوام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمى : إنا نحب ربنا فانزل الله تعالى هذه الآية وروى الضحاك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه قال : وقف النبى على قريش فى المسجد الحرام وقد نصبوا اصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا فى آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : يا معشر قريش لقد خالفتم ملة ابيكم إبراهيم وإسمعبل ولقد كانا على الاسلام فقالت قريش : يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنرل الله تعالى قل إن كنتم تحبون الخ وفى رواية ابى صالح إن اليهود قالوا : نحن ابناء الله وأحباؤه انزل هذه الآية فلما نزلت عرضها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها وروى محمد بن إسحق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال : نزلت فى نصارى نجران وذلك انهم قالوا : إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم يروى أنها لما نزلت قال : عبدالله بن ابى إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويامرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى : قل اطيعوا الله والرسول أى فى جميع الاوامر والنواهى ويدخل فى ذلك الامر السابق دخولا وإيثار الاظهار على الاضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الاطاعة والاشعار بعلتها وفيه إشارة إلى رد شبهة المنافق كأنه يقول : إنما اوجب الله تعالى عليكم متابعتى لا لما يبقول النصارى فى عيسى بل لكونى رسول الله فإن تولوا أى اعرضوا او تعرضوا على أن تكونإحدى التائين محذوفة فيكون حينئذ داخلا فى حيز المقول وفى ترك ذكر احتمال الاطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم فإن الله لا يحب الكفرين
23
- أى لا يقربهم او لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليهم يوم رضاه عن المومنين
والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للايذان بأن التولى عن الطاعة كفر وبان محبته عز و جل مخصوص بالمومنين لأن نفيها عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة يقتضى الحصر فى ضدهم
إن الله اصطفى ءادم ونوحا وءال إبراهيم وال عمران على العلمين
33
- روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنه أن اليهود قالوا : نحن ابناء إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت وقيل : إن نصارى نجران لما غلوا فى عيسى عليه الصلاة و السلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إاها نرلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين فى الاطوار المستحيلة على الالة وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها
(3/130)

وقال شيخ الاسلام رحمه الله تعالى فى وجه المناسبة : إنه سبحانه لما بين إن الدين عند الله الاسلام وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغى والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شرع فى تحقيق رسالته وأنه من اهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلاله اقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام واتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقا للحق وإبطال لما عليه اهل الكتابين من الإفراط والتفريط فى شأنهما ثم بين محاجتهم فى إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على ان جميع الرسل دعاة عبادة الله تعالى وتوحيده وأن اممهم قاطبة مامورون بالايمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الايمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتى تفصيله انتهى وهو وجه وجيه
وبدأ بآدم عليه الصلاة و السلام لانه اول النوع وثنى بنوح عليه الصلاة و السلام لانه آدم الاصغر والاب الثانى وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه : وجعلنا ذريته هم الباقين وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم فى الايمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذمر آل عمران مع اندراجهم فى الآل الأول لاظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة و السلام لكمال رسوخ الاختلا فى شأنه وهذا عو الداعى إلى إضافة الآل فى الأخيرين دون الأولين
وقيل : المراد بالآل فى الموضعين بمعنى النفس أى اطفى آدم ونوحا وإبراهيم وعمران وذمر الأل فيهما اعتناىا بشأنهما وليس بشئ والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل : إسمعبل وإسحق ويعقوب والاسباط وروى عن ابن عباس والحسن رضى الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد فى أحد الاطلاقات والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة و السلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحيسن ووهب وقبل : المراد بهم موسى وهرون عليهما السلام فعمران حينئذ هو عمران ابن يصهر ابو موسى قاله مقاتل وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة والظاهر هو القول الأول لان السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم فى سورة ابسط من شرحها فى هذه السورة وأما موسى وهرون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على ان عمران المذكور هو ابو مريم وايضا يرجح كون المراد به ابا مريم ان الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه : آذ قالت امرأة عمران 9 الخ والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى : وآل عمران فيكون من قبيل تكرار الاسم فى جملتين فيسبق الذهن إلى ان الثانى هو الأول نحو اكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل وإذا كان المراد بالثانى غير الاول كان فى ذلك إلباس على السامع وترجيح القول الاخير بان موسى يقرن بإبراهيم فى الذكر ليس فى القوة كمرجح الأول كما لا يخفى والاصطفاء الاختيار واصله أخذ صفوة الشئ كالاستصفاء ولتضمينه معنى التفصيل عدى بعلى والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم اى اصطفى كل واحد منهم على عالمى زمانه ويدخل الملك فى ذلك والتاويل خلاف الاصل
ومن هنا استدل بعضهم بالآية على افضلية الأنبياء على الملائكة ووجه الاصطفاء فى جميع الرسل انه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى أنهم امتازوا كما قيل : على سائر الخلق خلقا وجعلوا خزائن اسرار الله تعالى ومظهر اسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص
(3/131)

من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه وهذا ظاهر فى المصطفين المذكورين فى الآية من الرسل وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك وقيل : اصطفى آدم بان خلقه بيديه وعلمه الأسماء واسجد له الملائكة واسكنه جواره واصطفى نوحا بأنه اول رسول بعث بتحريم البنات والاخوات والعمات والخالات وسائر ذوى المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته فى حق الكفرة والمؤمنين واصطفى آل إبراهيم بان جعل فيهم النبوة والكتاب ويكفيهم فخرا أن سيد الاصفياء منهم واصطفى عيسى وأمه بان جعلهما آية للعالمين وإن اريد بآل عمران موسى وهرون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة و السلام تكليم الله تعالى إياه وكتابه التوراة له بيده ووجه اصطفاء هرون جعله وزيرا لاخيه واما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة و السلام فمفهوم بطريق الاولى وعدم التصريح به للايذان بالغنى عنه لكمال شهرة امره بالخلة وكونه شيخ الانبياء وقدرة المرسلين واما اصطفاء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيفهم من دخوله فى آل إبراهيم كما اشرنا اليه وينضم اليه ان سياق هذا المبحث لاجله كما يدل بيان وجه المناسبة فى كلام شيخ الاسلام وروى عن أإمة اهل البيت انهم يقرءون م وآل محمد على العالمين وعلى ذلك لا سؤال ومن الناس من قال : المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كأنه الأل مبالغة فى مدحه وفيه ان نبينا وإن كان فى نفس الأمر بمنرلة الانبياء كلهم فضلا هم آل إبراهيم فقط إلا ان هذه الارادة هنا بعيدة ويشبه ذلك فى البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم فى الآية انه لما امرهم بمتابعة صلى الله تعالى عليه وسلم وإطاعته وجعل إطاعته ونتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم اكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفتهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء المتمردين عن متابعة صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر اصطفاء آدم على العالم الأعلى فإنه رجحه على سائر الملائكة وجعلهم ساجدين له وجعل الشيطان فى لعنة اتمرده واصطفاء نوح على العالم مع نهاية كثرتهم فأهلكهم بالطوفان وحفظ نوحا واتباعه واصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعا وذلل مخالفتهم واصطفاء موسى وهرون على العالم فجعل السحرة مع كثدتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا واهلكهم ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ إبراهيم لم يغلب وهذا الكلام لبيان ان نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سيغلب وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفى وجه التخصيص وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى
وفيه ان المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختبار لا النصر على الاعداء على ان المقام بمراحل عن هذا الحمل وقد اخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنها انه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة ومثله فيما اخرجه ابن جرير عن الحسن م وأيضا حمل آل عمران على موسى وهرون مما لا ينساق اليه الذهن كما علمت وكأن القائل لما لم يتيسر له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذى اراده فى عيسى عليه الصلاة و السلام اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر وانت تعلم ان الآية غنية عن الولوج فى مثل هذا المضايق
ذرية بعضها من بعض نصب علىالبدلية من الآلين أو الحالية منهما وقيل : بدل من نوح وما بعده وجوز ان يكون بدلا من آدم و ما عطف عليه ورده ابو البقاء بأن آدم ليس بذرية وأجيب بأنه مبنى على ما صرح به الرغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآبار والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق والادب
(3/132)

ذرئ منه الولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل وقد تقدم الكلام عليه
والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض فى النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية وروى عن أبى عبدالله رضى الله تعالى عنه واختاره الجبائى وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : بعضها من بعض فى النية والعمل والاخلاص والتوحيد و من على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثانى اتصاليه والاستمالة برهانية وقيل : هى اتصالية فيهما والله سميع لأقول العباد عليم
43
- بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفى من يشاء منهم والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها إذ قالت امرأت عمرن تقرير للاصطفاء وبيان لكيفية والظرف فى حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أى اذكر لهم وقت قولها وقيل : هو منصوب على الظرفية لما قبله وهو سميع عليم على سبيل التنازع أو السميع ولا يضر الفصل بينهما بالاجنبى لتوسعهم فى الظروف وقيل : هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل : واصطفى آل عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل فى ذلك الوقت و امرأة عمران هى حنة بنت فاقوذا كما رواه إسحق ابن بشر عن ابن عاس رضى الله تعالى عنه والحاكم عن أبى هريرة م وهى جدة عيسى عليه الصلاة و السلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة و السلام هى أم يحيى فعيسى ابن بنت خالة يحيى كما ذكر ذلك غير واحد من الاخباريين ويشكل عليه ما أخرجه الشيخان فى حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : فإذا أنا بانبى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه والغرض أن بينهما عليهما الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهى جهة الخوؤلة وقيل : كانت إيشاع أخت حنة من الام وأخت مريم من الاب على أن عمران نكح أولا ام حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناءا على حل نكاح الربائب فى شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم وفيه أنه مخالف لما ذكره يحيى السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية فى الامرين
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض فبينا هى ذات يوم فى ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما طهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت : لئن نجانى الله تعالى ووضعت ما فى بطنى لأجعله محررا ولم يكن يحرر فى ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها : أرأيت إن كان ما فى بطنك أنثى والانثى عورة فكيف تصنعين فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك : رب إنى نذرت لك ما فى بطنى محررا فتقبل منى وهذا فى الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الانثى فيكون المعنى رب إنى نذرت لك ما في بطنى فاجعله ذكرا على حد اعتق عبدك عنى وجعله بعض الائمة تأكيدا لنذرها وإخراجا له عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من لك للتعليل ولمراد لخدمة بيتك والمحرر من يعمل للدنيا ولا يتزوج ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون فى خدمة الكنيسة قاله ابن عباس
(3/133)

رضى الله تعالى عنهما وقال مجاهد : المحرر الخادم للبيعة وفى رواية عنه الخالص الذى لا يخالطه شئ من أمر الدنيا وقال محمد بن جعفر بن الزبير : أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه فى حوائجى وعلى كل هو من الحرية وهى ضربان أن لا يجرى عليه حكم السبى وأن لا تتملكه الاخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية
وانتصابه على الحالية من ما والعامل فيه نذرت وقيل : من الضمير الذى فى الجار والمجرور والعامل فيه حينئذ الاستقرار ولا يخفى رجحان الوجه الاول والحال إما مقدرة أو مصاحبة وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أى تحريرا لانه بمعنى النذر وتأكيد الجملة للايذان بوفور الرغبة فى مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وفصوره عن درجة العقلاء و التقبل أخذ الشئ على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء وتقبل هنا بمعنى أقبل إنك أنت السميع لسائر المسموعات فتسمع دعائى العليم
53
- بما كان ويكون فتعلم نيتى وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث ان علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا وتأكيد الجملة اغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتى السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة فى الضراعة والابتهال قاله شيخ الاسلام وتقديم صفة السمع لان متعلقاتها وإن كانت غر متناهية إلا أنها ليست كمتعلقات صفة العلم فى الكثرة فلما وضعتها الضمير لما ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد اليه وإن كان اللفظ مذكرا وأما التأنيث فى قوله تعالى : قالت رب إنى وضعتها أنثى فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة و أنثى حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى ما نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الانوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظى يصلح للمذكر والمؤنث كالنفس والحبلة والنسمة فلا يشكل التأنيث ولا يلغو أنثى بل هى حال مبينة كذا قيل ولا يخلو عن نظر فالحق أن الضمير لما فى بطن والتأنيث فى الاول لما أن المقام يستدعى ظهور أنوثته واعتباره فى حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب لما لا على وضع ولد ما والتأنيث فى الثانى للمسارة إلى عرض مادهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الامل و أنثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لانه إما للفائدة أو للازمها وعلم الله تعالى محيط بهمابل لمجرد التحسر والتحزن وقد قال الامام المرزوقى : إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما فى قوله : قومى هم قتلوا أميم أخى فإذا رميت يصيبنى سهمى فان هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار وحاصل المعنى هنا على ما قرر فلما وضعت بنتا تحسرت إلى مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها وعلى هذا لا إشكال أصلا فى التأنيث ولا فى الجزاء نفسه ولا فى ترتبه على الشرط وما قيل : إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام التحقير للمحرر استجلابا للقبول لانه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا والتاكيد هنا قيل : للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة فى التحسر الذى قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد
(3/134)

بقيود الحرمان أسير والله اعلم بما وضعت ليس المراد الرد عليها فى إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذى وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره أى والله أعلم بالشئ الذى وضعته وما علق به من عظائم ودقائق الاسرار وواضح الآيات وهى غافلة عن ذلك كله و ما على هذا عبارة عن الموضوعية قيل : والاتيان بها دون من يلائم التجهيل فانها كثيرا ما يؤتى بها يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة أى والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولى إلى الله تعالى فى شئ إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه وقرأ ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بما وضعت على خطاب الله تعالى لها والمراد تعظيم شأن الموضوع أيضا أى إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بما وضعت على أنه من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا يصلح للغرض أو تسلية لنفسها أى ولعل الله تعالى فى ذلك سرا وحكمة ولعل هذا الانثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفى العلم لا التجهيل لأن العبد ينظر إى ظاهر الحال ولا يقف على ما فى خلاله من الاسرار وحمل قراءة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما على هذا المعنى يجعل الخطاب منها لنفسها فى غاية البعد ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الاجلال وليس الذكر كالأنثى اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الاول من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف
واللام فى الذكر والأنثى للعهد أما التى فى الأنثى فلسبق ذكرها صريحا فى قوله سبحانه حكاية : إنى وضعتها أنثى وأما التى فى الذكر فلقولها : إنى نذرت الخ إذ هو الذى طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمى هذا العهد التقديري وهو غير الذهنى لأن قولها : ما فى بطنى صالح للصنفين وقولها : محررا تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما فى البطن حسب رجائها وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفى مماثلة الذكر للانثى فاللام للجنس كما هو الظاهر لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الانثى كالذكر فان مقصودها تنقيص الانثى بالنسبة إلى الذكر والعادة فى مثله أن ينفى عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس وأجيب بأنه جار على ما هو العادة فى مثله أيضا لان مراد أم مريم ليس تفضيل الذكر على الانثى بل العكس تعظيما لعطية الله تعالى على مطلوبها أى وليس الذكر الذى هو مطلوبى كالأنثى التى وهبها الله تعالى لى علما منها بأن ما يفعله خير مما يريده العبد وفيه نظر أما أولا فلأن اللام فى الذكر والأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذى ذهب إليه أكثر المفسرين وأما ثانيا فلأنه ينافى فلأنه ينافى التحسر والتحزن المستفاد من قولها : رب إنى وضعتها أنثى فإن تحزنها ذلك إنما هو لتر جيحها الذكر على الأنثى والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الانثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الانثى بدل الذكر الذى كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هى فالاولى فى الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال فى الانتصاف بعد نقل الايراد وذكر القاعدة : وقد وجدت الأمر فى ذلك مختلفا فلم يثبت لى تعين نا قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى : لستن كأحد من النساء فنفى عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لازواج النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران ومنه أيضا أفمن يخلق كمن لا يخلق انتهى
(3/135)