[ روح المعاني - الألوسي ]
الكتاب : روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني
المؤلف : محمود الألوسي أبو الفضل
الناشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت
عدد الأجزاء : 30
تفسير الألوسي
(1/1)

بسم الله الرحمن الرحيم خطبة المفسر حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الألهية الغياهب وأبرز من سجف ألوهيته نروا أشرق على مرايا الكائنات بحسب مزايا الإستعدادات فأتضحت من معالم العوالم المراتب وصلاة وسلاما على أول ذرة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم فأبصرتها عين الوجود وعلة إيجاد كل ذرة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي أرتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطيء أقدامه ومعدن السر الألهي الذي أنقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا وشق له من أسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم وإلى متبعيهم وأولاهم ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان أما بعد فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه أن العلوم وإن تباينت أصولها وغربت وشرقت فصولها وأختلفت أحوالها وأتهمت وأنجدت أقوالها وتنوعت أبوابها وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها وأيمنت وأيسرت وسائلها فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة إلا أن أعلاها قدرا وأغلاها مهرا وأسناها مبنى وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا وأمنحها رفقا العلوم الدينية والفهوم اللدنية فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها وتنهد كعابها ورقة كلامها ولين قوامها على نفسه فليبك من ضاع عمره وليس له منها نصيب ولا سهم فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها أو يستنهض الرجل والخيل إلا في
(1/2)

سبر أغوارها أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر اسرارها إذا كان هذا الدمع يجري صبابة على غير سمي فهو دمع مضيع وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد فهو الحبل المتين والعروة الوثقى والصراط المبين والوزر الأقوى والأوقى وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لإستكشاف سره المكتوم مترقبا لإرتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لو صال خرائده فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر وأطالع إن أعوز الشمع يوما على نور القمر في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو ويرقلون في ميادين الزهو ويؤثرون مسرآت الأشباح على لذات الأرواح ويهبون نفائس الأوقات لنهب خسائس الشهوات وأنا مع حذاثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم كأن لبني لمبانتي ووصال سعدي سعادتي حتى وقفت على كثير من حقائقه ووفقت لحل وفير من دقائقه وثقبت والثناء لله تعالى من دره بقلم فكري درأ مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثنا وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير ولست أنا أول من من الله تعالى عليه بذلك ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك فكم وكم للزمان ولد مثلي وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذي الليالي كلها أخوات إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار وحياض تيك الأمصار أعتراها إعتصار فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجي له نشور كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان دينهم إقتناص الشوارد وديدنهم إفتضاض أبكار الفوائد يروون فيروون ويقدحون فيورون لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها طالما أقتطفت من أزهارهم وأقتبست من أنوارهم وكم صدر منهم أودعت علمه صدري وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا أحلولكت ظلمة الحنادس نعم السمير كتاب الله إن له حلاوة هي أحلى من جنى الضرب به فنون المعاني قد جمعن فما تفتر من عجب إلا إلى عجب أمر ونهي وأمثال وموعظة وحكمة أودعت في أفصح الكتب لطائف يجتليها كل ذي بصر وروضة يجتنيها كل ذي أدب وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي إن أحبس في قفص التحرير ما أصطاده الذهن بشبكة الفكر أو أختطفه بان الإلهام في جو حدسي فأتعلل تارة بتشويش البال بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال
(1/3)

إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والأثنتين والخمسين بعد هجرة النبي رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام إن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السموات والأرض ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم أنتبهت من نومتي وأنا مستعظم رؤيتي فجعلت أفتفش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم
وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم
وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول : هذا تأويل رؤياي وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه زمن خلافة الله الأعظم وظله المبسوط على خليقته في العالم مجدد نظام القواعد المحمدية ومحدد جهات العدالة الإسلامية سورة الحمد الذي أظهره الرحمن في صورة الملك لكسر سورة الكافرين وآية السيف الذي عوده الفاطر الفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين من نازعات أرواحهم إذا عبس صمصام عزمه المتين حضرة مولانا السلطان إبن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي بن السلطان عبدالحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين وبعد أن أبرمت حبل النية ونشرت مطوى الأمنية وعرا المخاض قريحة الأذهان وقرب ظهور طفل التفسير للعيان جعلت أفكر ما أسمه وبماذا أدعوه إذا وضعته أمه فلم يظهر لي أسم تهتشن له الضمائر وتبتش من سماعه الخواطر فرعضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء ونور حديقة البهاء ونور حدقة الوزراء آية الله التي لا تنسخها آيةورب النهي الذي ليس له نهاية وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاء وفراشا فسماه على الفور وبديهة ذهنه تغنى عن الغور روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني فياله أسم ما أسماه نسأل الله تعالى أن يطابقه مسماه وأحمد الله تعالى حمدا غضا وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى وقد آن وقت الشروع في المقصود مقدما عليه فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود فأقول الفائدة الأولى في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه
أما معناهما فالتفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه ويطلق التفسير على التعرية للإنطلاق يقال فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر
ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك
والتأويل من الأول وهو الرجوع والقول بأنه من الأيالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء وأختلف في الفرق بين التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة هما بمعنى وقال الراغب : التفسير أعم وأكثر إستعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الألهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في الكتب الألهية خاصة وقال الماتريدي :
(1/4)

التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع وقيل التفسير ما يتعلق بالرواية والتأويل ما يتعلق بالدراية
وقيل غير ذلك وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين والتفسير غير ذلك وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فأفهم وإما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم أمر عسير لا يهتدي إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة وإستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما ألتبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة وأما بيان شرفه فلان شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الإحتياج إليه وهو حائز لجميعها فإن موضوعه كلام الله تعالى وماذا عسى أن يقال فيه ومعلومه مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها وغايته الإعتصام بالعروة الوثقى التي لا إنفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين وشدة الإحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الإعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الإعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة أخرج إبن أبي حاتم وغيره من طريق إبن أبي طلحة عن إبن عباس في قوله تعالى : يؤتى الحكمة قال : المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخة ومحكمة ومتشابهة ومقدمة ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها وأخرج إبن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون إلى غير ذلك
الفائدة الثانية فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن فأما ما يحتاجه التفسير فأمور الأول علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك وهذا مما لا شبهة فيه نعم روى عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى الثاني معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة أفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها أحسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال : حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة الثالث علم المعاني والبيان والبديع ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى وبالثاني خواصها من حيث إختلافها وبالثالث وجوه تحسين كلام وهو الركن
(1/5)

الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لايخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان الرابع تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث الخامس معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه السادس الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام وللاه يقع المفسر في ورطات السابع علم القرا آت لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن وبالقراآت ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الإشتقاق وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة وعد علم الموهبة أيضا من ذلك قال وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بالحديث من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ثم قال ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله إرتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الإطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار وقليل ما هم لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبر فتدبر وأما التفسير بالرأي فالشائع المنع عنه وأستدل عليه بما أخرجه أبو داؤد والترمذي والنسائي من قوله : من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ وفي رواية عن أبي داؤد من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار ولا دليل في ذلك أما أو لا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به والله تعالى أعلم فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل وأما الحديث الثاني فله معنيان الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى والثاني وصحح من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والإجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقال تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها وقال تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث إبن عباس القرآن ذلول ذو وجوه فأحملوه على أحسن وجوهه وقد دعا رسول الله لإبن عباس بقوله اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه سئل هل خصكم رسول الله بشيء فقال ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى إختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ماورد عنه في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان
(1/6)

متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أو في مرتع وفي حياضها أصفى مكرع يدرك أعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقى من علم التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس وأختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف عى أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم أعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك إعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر ومن إدعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن إدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه إبن أبي حاتم من طريق الضحاك عن إبن عباس قال : القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء
وقال إبن مسعود : من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به لكل آية ستون ألف فهم وروى عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع قال إبن النقيب أن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار اتي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق ومعنى قوله ولكل حرف حد أن لكل حرف منتهي فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى قوله : ولكل حد مطلع أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن القدر يكفي بعد ذلك في المقصود كما لايخفى على من لم يركب مطية الجحود المراد به وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى إستنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعنى الكلام المعتلى عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الأطلاع من الكلام النفسي إلى الأسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون والحد بينهما يرتقي به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والأسم وإستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام إنتهى
فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر إشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده وياليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى وتفصيلا لكل شيء وقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء ويا الله العجب كيف يقول بإحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول بإشتمال قرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سبحانك هذا بهتان عظيم بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت
وقد ذكر إبن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية
(1/7)

أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها وفحك القلعة الشهباء في صفر مبشر بفتوح القدس في رجب فكان كما قال فسئل القاضي من أين لك هذا فقال أخذته من تفسير إبن برجان في قوله تعالى : ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين قال المؤرخ : فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في إستخراجه وله نظائر كثيرة ومن المشهور إستنباط إبن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون فالأنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه وإتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه وإذا لم تر الهلال فسلم لأناس رأوه بالأبصار وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل الفائدة الثالثة أعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان إلى خمسة وخمسين أسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوة تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها وقد أختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء إذا ضممته إليه وسمى به عندهم لقرآن السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية وقال الزجاج هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمى به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القاريء يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط كما حكى عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمى به المقروء تسمية المفعول بالمصدر قال السيوطي : قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه إنتهى وأنا متبري من حولي أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا إبن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحاق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي أنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الأسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وما نقل ولم يتواتر نحو ثلاثة أيام متتابعات ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا
(1/8)

عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة وأيضا أن معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية : أن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلي المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد ليكون مشهد الأحدية من الأكوان ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه بكمالها وما أدخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إليها ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ رأى كرما يضاهي هذا الكرم وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الألهية يعرج العبد بالتحقيق بها في الذات شيئا فشيئا على ما أقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله : ورتلناه ترتيلا وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترق والحق في تجل فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن وأما القرآن العظيم في قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا بإعتبار النزول ولا بإعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشئون والإعتبارات ولهذا قرن بالعظيم وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع وأما قوله تعالى : الرحمن علم القرآن فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على إختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة وأسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن أسمه المنعم غير أسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة بقوله : سبقت رحمتي غضبي وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا بإعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه قوله : أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس واحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤنها جمعها النقيضين قال أبو سعيد : عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين ولكونه مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين وإمام المرسلين لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه قال تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء وقال تعالى : فصلناه تفصيلا إلى غير ذلك من الآيات
وقد يقال القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامها قالوا ولا بد للعبد الكامل منهما فإن من لا تفرقة له لا عبودية له ومن لا جمع له لا معرفة له والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الإستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية والفرق أنواع فرق أول وهو الإحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير إحتجاب إحداهما عن الأخرى وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب
(1/9)

التي هي ظهور شئون الذات الأحدية وتلك الشئون في الحقيقة إعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان والفرقان لايتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما أختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليفهم ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير الفائدة الرابعة في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق أعلم أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بهاأقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لأليه ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه فماء ولا كصدى ومرعى ولا كالسعدان وما كل زهر ينبت الروض طيب ولا كل كحل للنواظر أثمد فأقول إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر ولفظ الكلام موضوع لغة لثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما وقد يستعمل إستعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي فالأول من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج والثاني منه كيفية في الصوت المحسوس والأول من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح والثاني كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإسنان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي
والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى : فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا فإن قال بدل من أسر أو إستئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الأسرار فقيل : قال أنتم شر مكانا وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وأثمد من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بما أسره إبن آدم في نفسه وقوله تعالى : وأذكر ربك في نفسك وقوله تعالى : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع إنسياقا إلى الذهن والآيات في ذلك كثيرة ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال : إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجرى فقال لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها وقوله تعالى في الحديث القدسي أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي الحديث وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب
(1/10)

فالمعنى الأول للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكملي بذكر أسمهوالتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقه فأزليان ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق إتصافه أزلا بالتكلم النفسي وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي إنتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى
والمعنى الثاني له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السموات والأرض مكشوفة له أرلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة ومن هنا قال السنيون : القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالأذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشئون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الإنفصال وليس فليس فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه أما في مرتبة الخيال فلقوله : أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ وقول الإمام أحمد : لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا يشاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله : إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان الحديث والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فأرتفع الكيف بإرتفاعها فالحاصل لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلي ومن حيث لا فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما أقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا بأن الله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمية ولايشترط اللفظ الحقيقي في كون الكمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته
(1/11)

المخيلة في خبر يوم السقيفة والأصل في الإطلاق الحقيقة فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولاإنفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الأرشاد : ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا إنفكاك نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقاة مفردة في ذلك
ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده وأما البعرات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أنذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا ين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيقته إنتهى وإعتراضه الدواني بوجوه قال أما أو لا فلان مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خير وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف وأما ثانيا فلان كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أنيقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها وأما ثالثا فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقاريء من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى بإجتماع الأجزاء وعدم إجتماعها بسبب قصور الآلة فنقول هذا الفرق إن أوجب إختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان مايقوم بالقاريء وما يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون بإجتماعه
(1/12)

وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات
وأما رابعا فلان لزوم ما ذكره من المفاسد وهم فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا أعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا أعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تفكيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أنه من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك وأما خامسا فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه بقى تلاوته إنتهى والجواب أما عن الأول فهو أن الحق عز أسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به وما هو أمر واحد المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وماذكر في الإعتراض ينطبق عليه بلا كلفة والدليل على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بإنقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين وأما عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن وأما الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن أن المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ وأما الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا فإذا أنضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول بكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى إستلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكلوأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمى كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لأسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد وإعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه وأما الخامس فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصافي أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي
(1/13)

في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة فقوله : وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للإعتراض أصلا ومنهم من أعترض أيضا بأنهم أشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقة العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول بالنص فيكون معجزة بلا شبهة والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهذا واضح لمن ساعدته العناية وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم واتحدت أغراضهم وإن أختلفت أساليبهم وها أنا بحوله تعالى راد لإعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن أتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد
فأقول قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الإيجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه : إلا شاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذ قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء الأول العبارة الصادرة عنه والثاني مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها الثالث علمه بثبوت تلك النسبة وإنتفائها
الرابع ثبوت تلك النسبة وإنتفاؤها في الواقع والأخير أن ليسا كلاما إتفاقا والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقى الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي ههنا ثلاثة أمور الأول الإرادة والكراهة الحقيقية الثاني اللفظ الصادر عنه الثالث مفهوم لفظه ومعناه والأول ليس كلاما إتفاقا والثاني كذلك على مذهبهم فبقى الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجه الأول أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف الثاني أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناه مما لا يقبله العقل السليم الثالث أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف مدلوله في النهي ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبرولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما أشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات إنتهى
ولا يخفى أن مبنى جميع إعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور
(1/14)

في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور ونقول على سبيل التفصيل أما الأول فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق خيالية في الخلق وأما الثاني فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين أن الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
وأما الثالث فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على إنقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا إعتراض وقال النجم سليمان الطوفي : إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين أحدهما أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة الثاني أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا وقال المخالفون : أستعمل لغة في النفسي والعبارة قلنا نعم لكن بالإشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممن قالوا الأصل في الأطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الإشتراكثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقةوأما قوله تعالى : يقولون في أنفسهم فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة في أنفسهم ولو أطلق لما فهم إلا العبارة وأما قوله تعالى : وأسروا قولكم الآية فلا حجة فيه لأن الأسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان إنتهى وفيه ما لا يخفى
أما أو لا فلأن ماأدعاه من التبادر إنما هو لكثرة إستعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل إستعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقةوقوله والأصل عدم الإشتراك قلنا : نعم إن أردت به الإشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الإشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما وأما ثانيا فلأن ما أدعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروه كلاما يحزنه وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية وأما ثالثا فلأن ما قاله في قوله تعالى : يقولون في أنفسهم من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة في أنفسهم ولو اطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى يقولون بأفواههم وفي آية بألسنتهم ما ليس في قلوبهم إذ لو كان مجرد ذكر في أنفسهم قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر بأفواههم وبألسنتهم قرينة على كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزومنعم التقييد دليل على
(1/15)

أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا وأما رابعا فلأن ما ذكره في قوله تعالى : وأسروا الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع وأما خامسا فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه أما أولا فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه إما أسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها وأما ثانيا فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور
وأما ثالثا فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة وأما رباعا فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان إلى أن قالوالقلب ملك فإذا صلح الحديث وفي حديث أبي هريرة القلب ملك وله جنود إلى أن قالوا للسان ترجمان الحديث فما قيل إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب أطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش إبن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت إنتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت أما أو لا فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث أعترفوا به في عين إنكارهم وأما ثانيا فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر وأما ثالثا فلأن عدم وجدان إبن الخشاب لا يدل على إنتفائه بالكلية كما لا يخفى والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب وخلاصة ما ذكره الأصحاب وقد أندفع به كثير مما أشكل على الأقوام وخفى على إفهام ذوي الأفهام ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غنى زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه ثم أعلم أني بعدما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لاينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لإحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن إتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث فيما لا يزال أقتضى أزليا إبراز ذلك البعض في الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الإقتضاء صفة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام
(1/16)

النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب إنتهى
وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روى عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الإقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت العناية بيديه هذا وإذا سمعت ما تلوناه ووعيت ما حققناه فأسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق فأقول الذي إنتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل ولا يناسب في مقابلته قال وقيل فقد قال تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن
وإذ نادى ربك موسى نودي من شاطيء الوادي الأين إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى نودي أن بورك من في النار ومن حولها واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى وأخبار لا تستقصي
روى البخاري في الصحيح يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعدكما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات وأتضحت لديه متشابهات
ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول إبن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى : أن بورك من في النار كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور وفي صحيح مسلم حجابه النور وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله : وسبحان الله أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور ياموسى إنه أي المنادي المتجلي أنا الله العزيز فلا أتقيد لعزتي ولكني الحكيم فأقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما أقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به الحديث ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية كانت أو خيالية
(1/17)

أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل ليس كمثله شيء عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد فما نقله إبن الهمام عنه من القول بالإستحالة فمراده الإستحالة العاديةفلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قاريء أن المسموع أو لا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القاريء بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة وقول الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أو لا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عزوجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عزوجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشأ كل ذاك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك وعنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه أندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع إبن تيمية وإبن القيم وإبن قدامة وإبن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين
(1/18)

لكنهم كثيرا ما أنحرفت أفكارهم وأختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء ولعرفتهم اإلام ينتهي المراء بلا مراء
في فرس للحم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج على أن العفو أقرب للتقوى والأغضاء مبني الفتوة وعليه الفتوى والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة وأندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهة فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال وبعد أن رسخ الحق في قلبك وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا وكاذب لا يورثك إلا صدقا فنقول أما المعتزلة فأتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية وأتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم أختلفوا فذهب الجبائي وإبنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قاريء كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والإستخبار وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قريء فهو عرض وإذا كتب فهو جسم وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى ان كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أن لي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث وأما الكرامية فقالوا إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالإعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالإعتبار الثاني فهو حادث متكثر وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق أسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق أسم المخلوق وأطلق أسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي اوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث فقوم ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم برآء منها وآخرون قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى وأناس لما رأوا مخالفة الأولين للضرورة الظاهرة
(1/19)

التي هي أشنع من مخالفة الدليل ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم وجمع قالوا : كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل وبعضهم تحير فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة وأعتكف وعندى القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ولكل مقام مقال ولكل كلام أحوال ولا أظنك تحوجني إلى اتفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال اشنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى وليغرد بها بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب لا رب غيره
الفائدة الخامسة في بيان المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن أقول روى أحد وعشرون صحابيا حديث نزول القرآن على سبعة أحرف حتى نص أبو عبيدة على تواتره وفي مسند أبي يعلى أن عثمان رضي الله عنه قال على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي قال إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وأنا أشهد معهم وأختلف في معناه على أقوال أحدها أنه من المشكل الذي لا يدري لإشتراك الحرف وفيه أن مجرد الإشتراك لا يستدعي ذلك اللهم إلا أن يكون بالنظر إلى هذا القائل ثانيها أن المراد التكثير لا حقيقة العدد وقد جروا على تكثير الآحاد بالسبعة والعشرات بالسبعين والمآت بسبعمائة وسر التسبيع لا يخفى وإليه جنح عياض وفيه مع عدم ظهور معناه أن حديث أبي كما رواه النسائي أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل أقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل أستزده حتى بلغ سبعة أحرف ونحوه من الأحاديث لا سيما حديث أبي بكرة الذي في آخره فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد إنتهت العدة أقوى دليل على إرادة الإنحصار بل في جمع القلة نوع إشارة إلى عدم الكثرة كما لا يخفى ثالثها إن المراد بها سبع قرآت وفيه أن ذلك لا يوجد في كلمة واحدة إلا نادر والقول أن كلمة تقرأ بوجه أو وجهين إلى سبع يشكل عليه ما قريء على أكثر اللهم إلا أن يقال ورد ذلك مورد الغالب وفيه مالا يخفى حتى قال السيوطي قد ظن كثير من القوم أن المراد بها القرآت السبعة وهو جهل قبيح فتدبر رابعها أن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة على ألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم وعجل وأسرع وإليه ذهب إبن عيينة وجمع وأيد برواية حتى بلغ سبعة أحرف قال : كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب وبما حكى أن إبن مسعود أقرأ رجلا إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فقال الرجل طعام الأثيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول الفاجر قال نعم قال فأفعل وفيه أن ذلك كان رخصة لعسر تلاوته بلفظ واحد على الأميين ثم نسخ والإ لجازت روايته بالمعنى ولذهب التعبد بلفظه ولا تسع الخرق ولفات كثير من الأسرار والأحكام وهذا يستدعي نسخ الحديث وفيه بعد بل لا قائل به خامسها أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق وفيه أن ذلك ليس من الإختلاف
(1/20)

الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى واللفظ الواحد بهذه الصفات باق على وحدته فليس فيه حينئذ جليل فائدة
سادسها أن المراد سبعة أصناف وعليه كثيرون ثم أختلفوا في تعيينها فقيل : محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص وقيل : إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب والترهيب من العقاب وقيل أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد وإعتبار وقيل غير ذلك والكل محتمل بل وأضعاف أمثاله إلا أنه لا مستند له ولا وجه للتخصيص
سابعها أن المراد سبع لغات وإليه ذهب ثعلب وأبو عبيد والأزهري وآخرون وأختاره إبن عطية وصححه البيهقي وأعترض بأن لغات العرب أكثر وأجيب بأن المراد أفصحها وهي لغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن كبر وأستنكره إبن قتيبة قائلا : لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش بدليل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وعليه يلتزم كون السبع في بطون قريش وبه جزم أبو علي الأهوازي وليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل أنها مفرقة فيه ولعل بعضها أسعد من بعض وأكثر نصيبا وقيل السبع في مضر خاصة لقول عمر رضي الله عنه : نزل القرآن بلغة مضر وقال بعضهم : إنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش وقيل أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتها دفعا للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولم يقع ذلك بالتشهي بل المرعى فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكيفية نزول القرآن على هذه السبع أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في كل عرضة بحرف إلى أن تمت قال السيوطي بعد نقل هذا القول وذكر ماله وما عليه وبعد هذا كله هو مردود بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقبيلة واحدة وقد أختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات إنتهى وياليت شعري أدعى أحد من المسلمين أن معنى إنزال القرآن على هذه السبع من لغات هؤلاء العرب أنه أنزل كيفما كان وأنهم هم الذين هذبوه بلغاتهم ورشحوه بكلماتهم بعد الأذن لهم بذلك فإذا لا تختلف أهل قبيلة واحدة في كلمة ولا يتنازع إثنان منهم فيها أبدا أم أن الله تعالى شأنه ظهر كلامه في مرايا هذه اللغات على حسب ما فيها من المزايا والنكات فنزل بها وحيه وأداها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ووعاها أصحابه فكم صحابي هو من قبيلة وعى كلمة نزلت بلغة قبيلة أخرى وكلاهما من السبع وليس له أن يغير ما وعى بل كثيرا ما يختلف صحابيان من قبيلة في الرواية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكل من روايتيهما على غير لغتهما كل ذلك إتباعا لما أنزل الله تعالى وتسليما لما جاء به رسول الله وقد ينفي صحابي غير روايته وبنكر رواية غيره وكل ذلك يدل على أن مرجع السبع الرواية لا الدراية فرد الإمام السيوطي لا أدري ماذا أرد منه وما الذي أسكت عنه فها هوبين يديك فأعمل ما شئت فيه وسلام الله تعالى عليك ومما ذكرناه علمت أن القلب يميل إلى هذا السابع فأفهم وقد حققنا بعض الكلام في هذا المقام في كتابنا الإجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية فأرجع إليه إن أردته والله سبحانه وتعالى أعلم الفائدة السادسة في جمع القرآن وترتيبه أعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع وثانيا بحضرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب
(1/21)

عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال إن القتل قد أستحر بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال عمر : هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنتبع القرآن فأجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان اثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لقد جاءكم رسول حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر وأخرج إبن أبي داؤد بسند رجاله ثقات مع إنقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا أقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فأكتباه ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو على أنه مما عرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عام وفاته وإنما أكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين والقول بأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة مما لا حجار له وما شاع أن عليا كرم الله وجهه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف وبعضها موضوع وما صح فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم وقد أخرج إبن أبي داؤد بسند حسن عن عبد خير قال : سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله أي على الوجه الذي تقدم فلا ينافي ما في مختصر القرماني أن أول من جمعه عمر رضي الله تعالى عنه وما روى عن أبي بريدة أنه قال أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فهو مع غرابته وإنقطاعه محمول على أنه أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي الله تعالى عنه قاله الإمام السيوطي وهي عثرة منه لا يقال لصاحبها لعا لأن سالما هذا قتل في وقعة اليمامة كما يدل عليه كلام الحافظ إبن حجر في إصابته ونص عليه السيوطي نفسه في إتقانه بعد هذا المبحث بأوراق ولا شك أن الأمر بالجمع وقع من الصديق بعد تلك الوقعة وهي التي كانت سببا له كما يدل عليه حديث البخاري الذي قدمناه فسبحان من لا ينسى وما أشتهر أن جامعه عثمان فهو على ظاهره باطل لأنه رضي الله تعالى عنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين على القراءة
(1/22)

بوجه واحد بإختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشى الفتنة من إختلاف أهل العراق والشام في حروف القرآت فقد روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليماني قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآرذبيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة إختلافهم في القراءة فقال لعثمان أدرك الأمة قبل أن يختلفوا إختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أنأرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحفوقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا أختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآت في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق قال زيد : ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ بها فألتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ألحقناها في سورتها في المصحف وقد أرتضى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج إبن أبي داؤد بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه : لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان وما نقل عن إبن مسعود أنه قال لما أحرق مصحفه : لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي كذب كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكرناه غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم
ويشكل عليه ما مر آنفا من قول زيد ففقدت آية من الأحزاب إلخ فإنه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين إذ مثل هذا الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بها ولعلها تشبه مسألة التضاريس ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة وكثيرا ما تعتري السارحين في رياض حظائر قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا وزيد هذا كان في الجمعين ولعله الفرد المعول عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه وفي ثانيها ذكره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه
وبعد إنتشار هذه المصاحف بين هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة على المرتضى وهو باب مدينة العلم لكل عالم والأسد الأشد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن إحتمال سقوط شيء بعد من القرآن وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان وزعمت الشيعة أن عثمان بل أبا بكر وعمر أيضا حرفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبدالله أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد
(1/23)

سبعة عشر ألف آية وروى محمد بن نصر عنه أنه قال كان في لم يكن أسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم وروى عن سالم بن سليمة قال قرأ رجل على أبي عبداللهوأنا أسمعه حروفا من القرآن ليس ما يقرأها الناس فقال أبو عبدالله مه عن ذه القرآءات وأقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فأقرأ كتاب الله على حده وروى عن محمد بن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبدالله أن أمة هي أربى من أمة ليس كلام الله بل محرف عن موضعه والمنزل أئمة هي أزكى من أئمتكم وذكر إبن شهر أشب المازندراني في كتاب المثالب له أن سورة الولاية أسقطت بتمامها وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت وكذا أسقطوا لفظ ويلك من قبل لا تحزن أن الله معنا وعن ولاية على من بعد وقفوهم إنهم مسئولون وبعلي بن أبي طالب من بعد وكفى الله المؤمنين القتال وآل محمد من بعد وسيعلم الذين ظلموا إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا وهو لكرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزا أو قطبا أشد تحريفا عند هؤلاء من التوراة والإنجيل واضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل وأنت تعلم أن هذا القول أو هي من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيه وسفاهة مفتريه ولما تفطن بعض علمائهم لما به جعله قولا لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها وأما النقصان فقد روى عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى وأستوفى الكلام فيه غاية الإستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة فإن الغاية أشتدت والدواعي توفرت على نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء أختلف فيه من إعرابه وقراءته حروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد وقال أيضا : أن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميزانه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب وكذا القول في كتاب المزني ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول الله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن وأستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان وأنه كان يعرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته إنتهى وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال إلا أن الرجل قد دس في الشهد سما وأدخل الباطل في حمى الحق الأحمى أما أولا فلأن نسبة ذلك إلى قوم من حشوية العامة الذين يعي بهم أهل السنة
(1/24)

والجماعة فهو كذب أو سوء فهم لأنهم أجمعوا على قدم وقوع النقص فيما تواترا قرآنا كما هو موجود بين الدفتين اليوم نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولو يأل جهدا رضي الله تعالى عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين فلهذا نسب إليه كما روى عن حميدة بنت يونس أن في مصحف عائشة رضي الله عنها إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما وعلى الذين يصلون الصفوف الأولوأن ذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف فما أخرج أحمد عن أبي قال قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله أمرني أن أقرأ عليك فقرأ علي لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفرهوفي رواية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما أختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم ارسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه وفي رواية الحاكم فقرأ فيها ولو أن إبن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف إبن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وما روى عنه أيضا أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفداللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق فهو من ذلك القبيل ومثله كثير وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن إبن عمر قال لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلا أنها محمولة على ما ذكرناه وأين ذلك مما يقوله الشيعي الجسور ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور
وأما ثانيا فلأن قوله إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن إلخ إن أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقا في العسب واللخاف فمسلم إلا أنه خلاف الظاهر من سياق كلامه وسباقه وإن أراد أنه كان في العهد النبوي مقروءا كما هو الآن لا غير وكان مرتبا ومجموعا في مصحف واحد غير متفرق في العسب واللخاف فممنوع والدليل الذي أستدل به لا يدل عليه كما لا يخفى ويالله العجب كيف ذكر في هذا المعرض ختمات إبن مسعود وأبي على النبي وجعل ذلك من أدلة مدعاه مع أن مروي كل منهما يخالف مروي الآخر وكلاهما يخالفان ما في المصحف العثماني فالسور مثلا في مصحفنا مائة وأربعة عشرة بإجماع من يعتد به وقيل ثلاثة عشرة يجعب الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف إبن مسعود مائة وإثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين بل صح عنه أنه كان يحكهما من المصاحف ويقول ليستأمن كتاب الله تعالى وإنما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما
(1/25)

ولهذا عوذ بهما الحسن والحسين ولم يتابعه أحد من الصحابة على ذلك وقد صح أنه قرأهما في الصلاة فالظاهر أنهما غير متواترتين قرآنا عنده والقول بأنه إنما أنكر الكتابة وأراد بالكتاب المصحف ليتم التأويل مستبعد جدا بل لا يصح كما لايخفى وفي مصحف أبي خمسة عشرة لأنه كتب في آخره بعد العصر سورتي الخلع والحفد وجعل سورة الفيل وقريش فيه سورة واحدة وترتيب كل أيضا متغاير ومغاير لترتيب مصحفنا لا سترة عليها فسورة ن في مصحف إبن مسعود بعد الذاريات و لا أقسم بيوم القيامة بعد عم والنازعات بعد الطلاق والفجر بعد التحريم إلى غير ذلك وسورة بني إسرائيل في مصحف أبي بعد الكهف و الحجرات بعد ن و تبارك بعد الحجرات والنازعات بعد الواقعة و ألم نشرح بعد قل هو الله أحد مع إختلاف كثير يظهر لمن رجع إلى الكتب المتقنة في هذا الباب وكأن ران البغض غطى على قلب هذا البعض فقال ما قال ولم يتفكر في حقيقة الحال ولم يبال بوقع النبال قاصدا أن يستر بمنخل مختل كذبه نور ذي النورين الساطع عليه من برح شمس الكونين ومن بدر صحبه مع أن نسبة هذا الجمع إليهما من أوضح الأمور بل أشهر من المشهور وهو شائع أيضا عند الشيعة وليس لهم إلى إنكاره ذريعة ولكن مركب التعصب عثور ومذهب التعسف محذور وإذا حققت ما ذكرناه ووعيت ما عليك تلوناه فأعلم أن ترتيب آية وسوره بتوقيف من النبي أما ترتيب الآي فكونه توقيفيا مما لا شبهة فيه حتى نقل جمع منهم الزركشي وأبو جعفر الأجماع عليه من غير خلاف بين المسلمين والنصوص متظافرة على ذلك
وما يدل بظاهره من الآثار على أنه إجتهادي معارض ساقط عن درجة الإعتبار كالخبر الذي أخرجه إبن ابي داؤد بسنده عن عبدالله بن الزبير عن أبيه قال أتى الحرث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمر وأنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فأنظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه بل لإبن أبي داؤد مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبي أنهم جمعوا القرآن فلما إنتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثم أنصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين لقد جاءكم رسول إلى آخر السورة
وأما ترتيب السور ففي كونه إجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني قال أبو بكر الأنباري أنزل الله تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة فمن أواخر فقد أفسد نظم القرآن وقال الكرماني بترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين وقال الطيبي مثله وهو المروي عن جمع غفير إلا أنه يشكل على هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داؤد والنسائي وإبن حبان والحاكم عن إبن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بها ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال فقال عثمان كان
(1/26)

رسول الله ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال
فهذا يدل على أن الإجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله أنشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما أنشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في الوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى الله تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلا بد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل ولا يصدهم عن إتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما وعثمان رضي الله تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف وقبل ما فعله ولم يتوقف وكم لعمر رضي الله تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف وأجتمعت الكلمة في أيامه وأقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الإستقلال لجواز أن يكون السؤال للإستخبار عن سر عدم المخالفة والجواب لإبدائه على ما خطر في البال وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فأفهم ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك الفائدة السابعة في بيان وجه إعجاز القرآن
أعلم أن أعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الإستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب وألاهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز فنقول قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه إشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما أستنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ورد بوجهين ألأول أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وقوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومثله كثير الثاني أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك وذهب الجاحظ إلى أنه إشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه الأول أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا والمعجز لا بد أن ينتهي إلى حد لا يبقى معه لبس ولا ريبة الثاني إن القرآن غير خارج عن كلام العرب وما من أحد من بلغائهم إلا وقد كان مقدورا له الإتيان بقليل من مثل ذلك والقادر على البعض قادر على الكل الثالث أن الصحابة أختلفوا في البعض ولو كان منتهيا إلى الإعجاز بلاغة لعرفوه وما أختلفوا الرابع أنهم طلبوا البينة ممن أتى بشيء
(1/27)

منه ولو كانت بلاغته منتهية إلى حد الأعجاز ما طلبوها الخامس أن في كل عصر من تنتهي إليه البلاغة وذلك غير موجب للأعجاز ولا للدلالة على صدق مدعي الرسالة لجواز أن يكون هو من إنتهت إليه وقيل هو إشتماله على الأخبار بالغيب ورد أما أولا فبأن الإصابة في المرة والمرتين ليست من الخوارق والحد الذي يصير به الأخبار خارقا غير مضبوط فإذا لا يمتنع أن يقال ما أشتمل عليه القرآن لم يصل إليه وأما ثانيا فبأنه يلزم أن يكون أخبار المنجمين والكهنة عن الأموار المغيبة مع كثرة إصابتها معجزة وأما ثالثا فبأنه يلزم أن تكون التوراة كذلك لإشتمالها كإشتماله وأما رابعا فبأنه يلزم أن يكون الخالي عن الأخبار بالغيب من القرآن غير معجز وقيل هو كونه مع طوله وإمتداده غير متناقض ولا مختلف وأبطل بوجهين الأول أنا لا نسلم عدم التناقض والإختلاف فيه أما التناقض فقوله تعالى وما علمناه الشعر وما ينبغي له والبحور كلها فيه وقال تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ثم قال وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وقال تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا فحصر المانع في أحد السببين وقال وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فحصر المانع في غيرهما إلى غير ذلك وأما الختلاف فكقوله تعالى كالصوف المنفوش بدل كالعهن المنفوش وقوله تعالى ضربت عليهم المسكنة والذلة بدل قوله الذلة والمسكنة وقوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وقوله تعالى في خلق آدم مرة من تراب ومرة من حمأ ومرة من طين ومرة من صلصال على أن فيه تكرارا لفظيا ومعنويا كما في الرحمن وقصة موسى مثلا وتعرضا لإيضاح الواضحات كما في قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة وقال عثمان : إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بالسنتها الثاني أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بأعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل وقيل إعجازه قدمه وأعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وايضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني والنظام : إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته وقال المرتضى بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة وأعترض بأربعة أوجه الأول أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل الثاني أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المتعاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك
الثالث أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها الرابع وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العدة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الإعتبار وأستدل بعضهم على فساد القول بها بقوله تعالى قل لئن أجتمعت الإنس والجن الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لإجتماعهم لأنه بمنزلة إجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بإنضمامه إلى
(1/28)

ما ذكرناه وأما الإكتفاء به في الإستدلال فلا أظنك ترضاه وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وإرتضاه الكثير وقولهم فيما قبل لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعر لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنجسمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا أدخل السوق وأشتر اللحم وأطبخ ولهذا قال الوليد لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فأقترح عليه أبو جهل أن يقول فيها ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده ولا باشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ووالله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق اسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته وقولهم إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم إن لا يكون مع البلاغة والأخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الإعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة
أما الأول فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا إعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز اؤلئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه عدول عن سواء السبيل وأما الثاني فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة
وأما الثالث فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما أختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم أختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده
وأما الرابع فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الإحتياط في الأمر الخطير وأما الخامس فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والإفتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب وإعتراضهم على كون الإخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الإخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجه باطل
أما الأول فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات الكثيرة منها والضابط العرف ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب في القرآن مما يعد في نظر أهل العرف كثيرا لا تعتاد الإصابة فيه بجملته وأما الثاني فلأن أخبار المنجمين ما كان كاذبا منها لا إحتجاج وما كان صادقا وتكررت الإصابة فيه كالكسوف والخسوف غير وارد لأنه من الحساب المعتاد لمن يتعاطى
(1/29)

صناعة التنجيم وأخبار القرآن بالغيوب ليست كذلك وأما أخبار الكهنة فالقول فيها كما في السحر
وأما الثالث فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا إلتزام ذلك وأما الرابع فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا ومن يقول وجهه مجرد الأخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الأعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه والإعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والإختلاف مع الطول والإمتداد بوجهيه مدفوع أما الأول فلأن آشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض وما علمناه الشعر وأما الآيتان ألاوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفي المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد والسدي بأن نفي المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة الله أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي ومعنى الثانية وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إستغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول إلتزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادى لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق
وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث وأما الإختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى : ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه إختلافا كثيرا لأن المراد به أحد أمرين الأول الإختلاف المناقض للبلاغة والثاني الإختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الإختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الإختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر إختلاف مقال لإختلاف الأحوال والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان إتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء إحتمال ورفع خيال فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية تلك عشرة كاملة لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام سبعة إذا رجعتم بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك وأما قول عثمان أن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا إجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة
فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة نقلها والذي أراه أن رواة هذا الخبر سمعوا شيئا ولم يتقنوه فحرفوه فلزم الإشكال وحل الداء العضال وهو ما روى بالسند عن عبدالله بن عبدالإعلى قال : لما فرغ من المصحف أتى بع عثمان فنظر فيه فقال أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا وهذا لا إشكال فيه لأنه عرض عليه عقيب الفراغ من كتابته فرأى فيه ما كتب
(1/30)

على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك نعم يبقى ما روى بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى إن هذان لساحران وعن قوله والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة وعن قوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطأوا في الكتاب وكذا ما روى عن سعيد بن جبير كان يقرأ والمقيمين الصلاة ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطأوا أي في إختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فأن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأى رضي الله تعالى عنها وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القرآءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى وأما الوجه الثاني فلأن من ذهب إلى أن وجه الأعجاز عدم التناقض والإختلاف مع الطول والإمتداد يقول القرآن بجملته معجز لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر
وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالأخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف
نجوم سماء كلما أنقض كوكب بدا كوكب تأوى إليه كواكب أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس الأولى ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الأسم والفعل والحرف والثانية تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له المنثور والثالثة ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم والرابعة أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع والخامسة أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل ومتعر عن كل خلل ومشتمل على خواص ما شامها سواه ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه
من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ربا ويعبده القرطاس والقلم ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح القريب السهل ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أو فرصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فأنتظم لها
(1/31)

بإنتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان إجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان وأما بيان إعجاز إشتماله على الأخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا وقوله تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله والأعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى : ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها وأختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات الأول في قوله تعالى إنا أعطيناك الكوثر إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الإتباع والثاني في قوله وأنحر حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحو فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الأقدام عليه والثالث والرابع في قوله تعالى إن شانئك هو الأبتر حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه أشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وإمتثال ما أمر به وإجتناب ما نهى عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والأنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول
وما كل مخضوب البنان بثينة ولا كل مصقول الحديد يماني فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الأقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفي على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من أمرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فقد جمع أمرين ونهيين وبشارتين أي مع ما فيه مما يدرك بالذوق وبعضهم جعل المدار النظم المخصوص والباقي تابع له قائلا إن الأعجاز المتعلق بالفصاحة والبلاغة لا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن الألفاظ ألفاظهم كما قال تعالى قرآنا عربيا بلسان عربي ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة كما قال تعالى :
(1/32)

وإنه لفي زبر الأولين وما فيه من المعارف الألهية وبيان المبدأ والمعاد والأخبار بالغيب فأعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكونه حاصلا من غير سبق تعليم وتعلم ولكون الأخبار بالغيب إخبارا بما لا يعتاد سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة فإذا هو متعلق بالنظم المخصوص الذي هو صورة القرآن وبإختلاف الصور يختلف حكم الشيء وأسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار إذا كان الكل من ذهب مثلا فإن الأسم مختلف والعنصر واحد وكالخاتم المتخذ من ذهب وفضة وحديد يسمى خاتما والعنصر مختلف فظهر أن الأعجاز المختص بالقرآن متعلق بنظمه المخصوص وإعجاز نظمه قد سلف بيانه وأنت تعلم ما فيه وإن كان قريبا إلى الحق وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه وأتسع عطنه وأبعد من ذلك كونه بالقدم كما هو قريب ممن هو حديث عهد بما تقدم وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام من بيان إختلاف الناس أيضا في تفاوت مراتب الفصاحة والبلاغة في آياته ويتضح لك ما هو الحق الحقيقي بالقبول والله تعالى المبتغي والمسئول ولنقتصر من الفوائد على هذا المقدار وفي السبعة ما لا يحصى من الأسرار وهذا أوان تقبيل شفاه الأقلام حروف سبحان كلام الله تعالى العلام
سورة الفاتحة
أختلف فيها فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل الحمد لله من القرآن على قول وهو المروى عن علي وإبن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه وقيل نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه وقد لهج الناس بالإستدلال على مكيتها بآية الحجر ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه والأقوى الإستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي التنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث إلا أنه قد صح أيضا عن إبن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال وثانيا على إمتناع الإمتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن الله تعالى قد أمتن عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة قد ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به الآية إلا أنه قد خدش الدليل لا يقال إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة وأما على نفي نزولها بالمدينة
(1/33)

أيضا فلا لأنا نقول : النفي هو الأصل وعلى مدعى الإثبات الإثبات وأني به وما قالوا في الجواب عن الإعتراض بأن النزول ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر أخرى لورود مالك وملك أو ببسلمة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من سور البناء وهي المنزلة أو سور المدينة لإحاطتها بآياتها أو من التسور وهو العلو والإرتفاع لإرتفاعها بكونها كلام الله تعالى وتطلق على المنزلة الرفيعة كما في قول النابغة : ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك حولها يتذبذب وحدها قرآن يشتمل على ذي فاتحة وخاتمة وقيل طائفة مستقلة لتخرج آية الكرسي مترجمة توقيفا وقد ثبتت أسماء الجميع بالأحاديث والآثار فمن قال بكراهة أن يقال سورة كذا بل سورة يذكر فيها كذا بناء على ما روى عن أنس وابن عمر من النهي عن ذلك لا يعتد به إذ حديث أنس ضعيف أو موضوع وحديث ابن عمر موقوف عليه وإن روى عنه بسند صحيح والفاتحة في الأصل صفة جعلت إما لأول الشيء لكونه واسطة في فتح الكل والتاء للنقل أو المبالغة ولا إختصاص لها بزنة علامة أو مصدر أطلقت على الأول تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بإصالته كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه وكذا يقال في الخاتمة فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا والكل بواسطته وليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل ومقارنة له والغالب أن لا تتصف الآلة ولا يقارن الباعث على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود وجوزوا أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجود آخر مرجوحة والكتاب هو المجموع الشخصي وفتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه وهو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة فلا ضير في إشتهار السورة بهذا الأسم في الأوائل والإضافة الأولى من إضافة الأسم إلى المسمى وهي مشهورة والثانية بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى من كما في خاتم فضة لأن المضاف جزئي قاله شيخ الإسلام وهو مذهب بعض في كل وقال إبن كيسان والسيرافي وجمع إضافة الجزء على معنى من التبعيضية بل في اللمع وشرحه إن من المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء والجزئي وبعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا وبعضهم خصها بالعموم والخصوص الوجهي كما في المثال وجعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية والشهرة لا تساعده
ولهذه السورة الكريمة أسماء أوصلها البعض إلى نيف وعشرين أحدها فاتحة الكتاب لأنها مبدؤه على الترتيب المعهود لا لأنها يفتتح بها في التعليم وفي القراءة في الصلاة كما زعمه الإمام السيوطي ولا لأنها أول سورة نزلت كما قيل أما الأول والثالث فلأن المبدئية من حيث التعليم أو النزول تستدعي مراعاة الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا كالترتيب المعهود وأما الثاني فلما عرفت
(1/34)

أن ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ في الصلاة حتى يعتبر في التسمية مبدئيتها له وحكى المرسي أنها سميت بذلك لأنها أول سورة كتبت في اللوح ويحتاج إلى نقل وإن صححنا أن ترتيب القرآن الذي في مصاحفنا كما في اللوح فلربما كتب التالي ثم كتب المتلو وغلبة الظن أمر آخر وثانيهما فاتحة القرآن لما قدمنا حذو القذة بالقذة وثالثها ورابعها أم الكتاب وأم القرآن وحديث لا يقولن أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب لا أصل له بل قد ثبت في الصحاح تسميتها به كما لا يخفى على المتتبع وسميت بذلك لأن الإبتداء كتابة أو تلاوة أو نزولا على قول أو صلاة بها وما بعدها تال لها فهي كالأم التي يتكون الولد بعدها ويقال أيضا للراية أم لتقدمها وإتباع الجيش لها ومنه أم القرى أو لإشتمالها كما قال العلامة على مقاصد المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله ومن التعبد بالأمر والنهي ومن الوعيد أما الثناء فظاهر وأما التعبد فأما من الحمد لله لأنه للتعليم فيقدر أمر يفيده والأمر الإيجابي يلزمه النهي عن الضد في الجملة ولا نرى فيه بأسا أو من أهدنا الصراط المستقيم إن أريد به ملة الإسلام أو من تقدير قولوا بسم الله ومن تأخير متعلقه وإما من إياك نعبد فإنه إخبار عن تخصيصه بالعبادة وهي التحقق بالعبودية بإرتسام ما أمر السيد أو نهى فيدل في الجملة على أنهم متعبدون ولا يرد على المعتزلة عدم سبق أمر ونهي أصلا ويجاب عندنا بعد تسليم العدم للأولية بأن راس العبادة التوحيد وفي الصدر ما يرشد إليه لا سيما وقد سبق تكليفه صلى الله تعالى عليه وسلم بالتوحيد وتبليغ السورة وذلك يكفي وأما الوعد والوعيد فمن قوله تعالى أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم أو من يوم الدين أي الجزاء والمجزي أما ما يسر أو ما يضروهما الثواب والعقاب وإنما كانت المقاصد هذه لأن بعثة الرسل وإنزال الكتب رحمة للعباد وإرشادا إلى ما يصلحهم معاشا ومعادا وذلك بمعرفة من يقدر على إيصال النعم إيجادا وإمدادا ثم التوصل إليه بما يربط العتيد ويجلب المزيد عملا وإعتقادا والتنصل عما يفضي به إلى رجع المحصل ومنع المستحصل قلوبا وأجسادا والثناء فرع معرفة المثنى عليه مع الإستحقاق وتدخل المعرفة بصفات الجلال والجمال ومنها ما منه الإرسال والإنزال والتفاوت بين المطيع والمذنب فدخل الإيمان بالله تعالى وصفاته والنبوات والمعاد على الإجمال والتعبد يتمكن به من التوصل والتنصل ويدخل فيه من وجه الإيمان بالنبوات وما يتعلق بها من الكتاب والملائكة إذ الأمر والنهي فرع ثبوت ذلك في الجملة والوعد والوعيد يتضمنان الإيمان بالمعاد ويبعثان على التعبد والناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة والأكثرون بعثتهم الرغبة والرهبة وأوسطهم الرجاء والخوف والخواص وقليل ما هم الأنس والهيبة فبالثلاثة تم الإرشاد إلى مصالح المعاش والمعاد ولا أحصر لك وجه الحصر بهذا فلمسلك الذهن إتساع ولك أن ترد الثلاثة إلى إثنين فتدرج الثناء في التعبد إذ لا حكم للعقل ولعله إنما جعله قسيما له تلميحا إلى أن شكر المنعم واجب عقلا مراعاة لمذهب الإعتزال ولم يبال البيضاوي بذلك فعبر بما عبر به من المقال أو لإشتمالها على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والإطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء والأول
(1/35)

مستفاد من أول السورة إلى قوله يوم الدين والثاني من قوله إياك نعبد وما بعده سلوك الصراط المستقيم مر قوله أهدنا الآية والإطلاع من قوله أنعمت عليهم إلخ وفيه وعد ووعيد فدخلا فيه والأمثال والقصص المقصود بها الإتعاظ وكذا الدعاء والثناء وهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة وإلتزاما وأبسط من هذا أن يقال إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين الأول علم الأصول ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله رب العالمين الرحمن الرحيم ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى أنعمت عليهم والمعاد المومى إليه بقوله تعالى مالك يوم الدين
الثاني علم الفروع وأسه العبادات وهو المراد بقوله إياك نعبد وهي بدنية ومالية وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول الثالث علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والسلوك لطريقة الإستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله إياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم الرابع علم القصص والأخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد وهو المراد بقوله تعالى أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين وإذا إنبسط ذهنك أتيت بأبسط من ذلك وهذان الوجهان يستدعيان حمل الكتاب على المعاني أو تقديرها في التركيب الإضافي والوجه الأول لا يقتضيه ومن هذا رجحه البعض وإن كان أدق وأحلى لا لأنه يشكل عليهما ما ورد من أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن إذ يري له إذا ثبت أن الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه منزلة منزلة ثلث آخر من الثواب قاله الشهاب ثم قال : ومن العجب ما قيل هنا من أن ذلك لإشتمالها على دلالة التضمن والإلتزام وهما ثلثا الدلالات إنتهى وأنا أقول الأعجب من هذا توجيهه رحمه الله مع ما رواه الديلمي في الفردوس عن أبي الدرداء فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزي شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات فأنه لا يتبادر منه إلا الفضل في الثواب فيعارض ظاهره ذلك الخبر على توجيهه وعلى توجيه صاحب القيل لا تعارض نعم أنه بعيد ويمكن التوفيق بين الخبرين وبه يزول الإشكال بأن الأول كان أولا وتضاعف الثواب ثانيا ولا حجر على الرحمة الواسعة أو بأن إختلاف المقال لإختلاف الحال أو بأن ما يعدل الشيء كله يعدل ثلثيه أو بأن القرآن في أحد الخبرين أو فيهما بمعنى الصلاة مثله في قوله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وذلك يختلف بإختلاف مراتب الناس في قراءتهم وصلواتهم فليتدبر وعلى العلات لا يقاسان بما قيل في وجه التسمية بذلك لأنها أفضل السور أو لأن حرمتها كحرمة القرآن كله أو لأن مفزع أهل الإيمان إليها أو لأنها محكمة والمحكمات أم الكتاب ولا أعترض على البعض بعدم الإطراد لأن وجه التسمية لا يجب إطراده ولكني أفوض الأمر إليك وسلام الله تعالى عليك لا يقال إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء لأنا نقول لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري ولا ينقصه نقصانه إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وكانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على الكثير من الأسرار وكانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور ويجمعها بعد إسقاط المكرر صراط على حق نمسكه وهي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة وإنما لم يسقط السبعة الباقية من هذا النوع فتخلص النورانية ليعلم أن الأمر مشوب ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وفي قوله تعالى نبيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم إشارة وأي إشارة إلى ذلك لمن تأمل حال الجملتين على أن في كون النورانية وهي أربعة عشر حرفا مذكورة
(1/36)

بتمامها والظلمانية مذكورة منها سبعة وإذا طوبقت الآحاد يحصل نوراني معه ظلماني ونوراني خالص إشارة إلى قسمي المؤمنين فمؤمن لم تشب نور إيمانه ظلمة معاصيه ومؤمن قد شابه ذلك وفيه رمز إلى أنه لا منافاة بين الإيمان والمعصية فلا تطفيء ظلمتها نوره ولا يزني الزاني وهو مؤمن محمول على الكمال وليس البحث لهذا وإذا لوحظ الساقط وهو الظلماني المحض المشير إلى الظالم المحض الساقط عن درجة الإعتبار والمذكور هو النوراني المحض المشير إلى المؤمن المحض والنوراني المشوب المشير إلى المؤمن المشوب يظهر سر التثليث في فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك الفضل الكبير وإنما كان الساقط هذه السبعة بخصوصها من تلك الأربعة عشر ولم يعكس فيسقط المثبت ويثبت الساقط أو يسقط سبعة تؤخذ من هذا وهذا لسر علمه وجهله من جهله نعم في كون الساقط معجما فقط إشارة إلى أن الغين في العين والرين في البين فلهذا وقع الحجاب وحصل الأرتياب وهذا ما يلوح لأمثالنا من أسرار كتاب الله تعالى وأين هو مما يظهر للعارفين الغارقين من بحاره المتضلعين من ماء زمزم اسراره
ولمولانا العلامة فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام ليس له في التحقيق أدنى إلمام حيث جعل سبب إسقاط هذه الحروف أنها مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الثبور والجيم أول حرف من جهنم والخاء يشعر بالخزي والزاي والشين من الزفير والشهيق وأيضا الزاي تدل على الزقوم والشين تدل على الشقاء والظاء أول الظل في قوله تعالى أنطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب وأيضا تدل على لظى والفاء على الفراق ثم قال فإن قالوا : لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في أسم شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فنقول الفائدة فيه أنه قال في صفة جهنم لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ثم أنه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم إنتهى ولا يخفى ما فيه وجوابه لا ينفعه ولا يغنيه إذ لقائل أن يقول فلتسقط الذال والواو والنون والحاء والعين والميم والغين إذ الواو من الويل والذال من الذلة والنون من النار والحاء من الحميم والعين من العذاب والميم من المهاد والغين من الغواشي والآيات ظاهرة والكل في أهل النار وتكون الفائدة في إسقاطها كالفائدة في إسقاط تلك من غير فرق اصلا على أن في كلامه رحمه الله تعالى غير ذلك بل ومع تسليم سلامته مما قيل أو يقال لا أرتضيه للفخر وهو السيد الذي غدا سعد الملة وحجة الإسلام وناصر أهله وأما نسبته
(1/37)

لأمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حين سأل قيصر الروم معاوية عن ذلك فلم يجب فسأل عليا فأجاب فلا أصل له وعلى تقدير التسليم فما مرام الأمير بالإكتفاء على هذا المقدار إلا التنبيه للسائل على ما لا يخفى عليك من الأسرار فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وخامسها وسادسها وسابعها الكنز والوافية والكافية لما مر من إشتمالها على الجواهر المكنوزة فتفي وتكفي أو لأنها لا تنصف في الصلاة ولا يكفي فيها غيرها وثامنها الأساس لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه وتاسعها وعاشرها والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر سورة الحمد وسورة الشكر وسورة الدعاء وسورة تعليم المسألة وسورة السؤال لاشتمالها على الحمد فظاهر وكذا على الشكر لدى من أنعم الله تعالى عليه بالفهم ويمكن أن يكون الأسمان كأم القرآن وأم الكتاب
وأما الاشتمال على الثالث فكالإشكال على الأول بل أظهر وأما تعليم المسألة فلأنها بدئت بالثناء قبله والخاس كالثالث وهما كذينك الثالث والرابع كما لا يخفى والرابع عشر والخامس عشر سورة المناجاة وسورة التفويض لأن العبد يناجي ربه بقوله إياك نعبد وإياك نستعين وبالتالي يحصل التفويض والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر الرقية والشفاء والشافية والأحاديث الصحيحة مشعرة بذلك والتاسع عشر سورة الصلاة لأنها واجبة أو فريضة فيها والاستحباب مذهب بعض المجتهدين ورواية عن البعض في النقل قيل ومن أسمائها الصلاة لحديث قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وأراد السورة والمجاز اللغوي لعلاقة الكلية والجزئية أو اللزوم حقيقة أو حكما كالمجاز في الحذف محتمل والعشرون النور لظهورها بكثرة إستعمالها أو لتنويرها القلوب لجلالة قدرها أو لأنها لما أشتملت عليه من المعاني عبارة عن النور بمعنى القرآن والحادي والعشرون القرآن العظيم وهو ظاهر مما قدمناه والثاني والعشرون السبع المثاني لأنها سبع آيات باتفاق وما رأينا مشاركا لها سوى أرأيت والقول بأنها ثمان كالقول بأنها تسع شاذ لا يعبأ به أو وهم من الراوي إلا أن منهم من عد التسمية آية دون أنعمت عليهم ومنهم من عكس والمدار الرواية فلا يوهن الثاني أن وزان الآية لا يناسب وزان فواصل السور على أن في سورة النصر ما هو من هذا الباب وتثنى وتكرر في كل ركعة وصلاة ذات ركوع أو المراد المتعارف الأغلب من الصلاة فلا ترد الركعة الواحدة ولا صلاة الجنازة على أن في البتيراء اختلافا وصلاة الجنازة دعاء لا صلاة حقيقة وقيل وصفت بذلك لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرتين أو لأنها على قسمين دعاء وثناء أو لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه الله تعالى بالإخبار عن فعله كما في الحديث المشهور وقيل غير ذلك وهذه الأقوال مبنية على أن تكون المثاني من التثنية ويحتمل أن تكون من الثناء لما فيها من الثناء على الله تعالى أو لما ورد من الثناء على من يتلوها وأن تكون من الثنيا لأن الله تعالى إستثناها لهذه الأمة والحمد لله على هذه النعمة ثم الحكمة في تسوير القرآن سورا كالكتب خلافا للزركشي أن يكون أنشط للقاريء وأبعث على التحصيل كالمسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك منه ونشط للمسير وإذا أخذ الحافظ السورة أعتقد أنه أخذ من كتاب الله تعالى طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظ وأيضا الجنس إذا أنطوى تحته أنواع وأصناف كان أحسن من أن يكون تحته باب واحد مع أن في ذلك تحقيق كون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات الله تعالى والحكمة في كونها طوالا وقصارا أظهر من أن تخفى
(1/38)

بسم الله الرحمن الرحيم فيها أبحاث البحث الأول أختلف العلماء فيها هل هي من خواص هذه الأمة أم لا فنقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله تعالى أفتتح كل كتاب بها وروى السيوطي فيما نقله عنه السرميني والعهدة عليه بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب وذهب هذا الراوي إلى أن البسلمة من الخصوصيات لما روى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم إلى أن نزل بسم الله مجراها فأمر بكتابة بسم الله حتى نزل قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن فأمر بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أن نزلت آية النمل فأمر بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ولما اشتهر أن معاني الكتب في القرآن ومعانيه في الفاتحة ومعانيها في البسملة ومعاني البسملة في الباء فلو كانت في الكتب القديمة لأمر أول الأمر بكتابتها ولكانت معاني القرآن في كل كتاب واللازم منتف فكذا الملزوم وفيه أن الأمر بذلك التفصيل لا يستلزم النفي لإحتمال نفي العلم إذ ذاك ولا ضير وأن المختص بالقرآن اللفظ العربي بهذا الترتيب والكتب السماوية بأسرها خلافا للغيطي غير عربية وما في القرآن منها مترجم فلربما لهذه الألفاظ مدخل في الاشتمال على جميع المعاني فلا تكون في غير القرآن كما توهمه السرميني وإن كان هناك بسملة على أن في أول الدليلين بظاهره دليلا على عدم الخصوصية البحث الثاني وهو من أمهات المسائل حتى أفرده جمع بالتصنيف أختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال الأول إنها ليست آية من السور أصلا الثاني أنها آية من جميعها غير براءة الثالث أنها آية من الفاتحة دون غيرها الرابع أنها بعض آية منها فقط الخامس أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤس السور تيمنا وللفصل بينها السادس أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين السابع أنها بعض آية من جميع السور الثامن أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور التاسع عكسه العاشر أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث وأهل المدينة ومنهم مالك والشام ومنهم الأوزاعي والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج على إثباته وتوهين أدلة نفاته وكنت من قبل أعد السادة الشافعية لي غزية ولا أعد نفسي إلا منها وقد ملكت فؤادي غرة أقوالهم كما ملكت فؤاد قيس ليلى العامرية فحيث لاحت لا متقدم ولا متأخر لي عنها أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا إلى أن كان ما كان فصرت مشغولا بأقوال السادة الحنفية وأقمت منها برياض شقائق النعمان واستولى علي من حبها ما جعلني أترنم بقول القائل : محا حبها حب الألى كن قبلها وحلت مكانا لم يكن حل من قبل وقد أطال الفخر في هذا المقام المقال وأورد ست عشرة حجة لإثبات أنها آية من الفاتحة كما هو نص كلامه ولا عبرة بالترجمة فها أنا بتوفيق الله تعالى راده ولا فخر وناصر مذهبي بتأييد الله تعالى ومنه التأييد والنصر فأقول قال
(1/39)

الحجة الأولى روى الشافعي عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية الحمد لله رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية أهدنا الصراط المستقيم آية صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية وهذا نص صريح الحجة الثانية روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم
الحجة الثالثة روى الثعلبي بإسناده عن أبي بردة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله تعلى عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري فقلت بلى قال بأي شيء تستفتح القرآن إذا أفتتحت الصلاة فقلت بسم الله الرحمن الرحيم قال هي هي الحجة الرابعة روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال له كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة قال أقول الحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم وروى ايضا بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وروى أيضا بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا أفتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن إبن عباس في قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم قال فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال بسم الله الرحمن الرحيم وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها وبإسناده أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يقول الله عز و جل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى فوض إلي عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال أهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وبإسناده أيضا عن أبي هريرة قال كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد والنبي يحدث اصحابه إذ دخل رجل يصلي فأفتتح الصلاة وتعوذ ثم قال الحمد لله رب العالمين فسمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد فمن تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع عليه صلاته فإنه لا صلاة إلا بها فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته وبإسناده عن طلحة بن عبيدالله قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله
الحجة الخامسة قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول أقرأ باسم ربك ولا يجوز أن يقال الباء صلة لأن الأصل أن تكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة وإذا كان الحرف مفيدا كان التقدير أقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر الوجوب ولم يثبت في غير القراءة للصلاة فوجب إثباته في القراءة فيها صونا للنص عن التعطيل
الحجة السادسة التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس
(1/40)

والغرض من ذلك كله أن يمنعوا أن يختلط بالقرآن ما ليس قرآن فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن
الحجة السابعة أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والبسملة موجودة بينهما فوجب جعلها منه الحجة الثامنة أطبق الأكثرون على أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي قال بسم الله الرحمن الرحيم آية وأبو حنيفة قال : إنها ليست آية لكن صراط الذين أنعمت عليهم آية وسنبين أن قوله مرجوع ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا بجعل البسملة آية تامة منها الحجة التاسعة أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب كونها آية منها بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى : واتبعوه وإذا ثبت الوجوب ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق وقوله عليه الصلاة و السلام : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر وأعظم الأعمال بعد الإيمان الصلاة فقراءة الفاتحة بدون قراءتها توجب كون الصلاة عملا أبتر ولفظه يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه ذكر ذما للكافر الشانيء فوجب أن يقال للصلاة الخالية عنها في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بذلك قال بالفساد وهو يدل على أنها من الفاتحة الحجة العاشرة ما روى أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبي بن كعب ما أعظم آية في القرآن بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي في قوله وجه الاستدلال أن هذا يدل على أن هذا المقدار آية تامة ومعلوم أنها ليست بتامة في النمل فلا بد أن تكون في غيرها وليس إلا الفاتحة الحجة الحادية عشرة عن أنس أن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة جهرية فقرأ أم القرآن ولم يقرأ البسملة فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم حين أستفتحت القرآن فأعاد معاوية الصلاة وجهر بها
الحجة الثانية عشرة أن سائر الأنبياء كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدؤن باسم الله فقد قال نوح : بسم الله مجراها وسليمان بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي فوجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى فبهداهم اقتده وإذا ثبت ذلك في حقه ثبت أيضا في حقنا لقوله تعالى فاتبعوه وإذا ثبت في حقنا ثبت أنها آية من سورة الفاتحة
الحجة الثالثة عشرة أنه تعالى قديم والغير محدث فوجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره والسبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كانت قراءة البسملة سابقة وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقديم فما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق الحجة الرابعة عشر أنه لا شك أنها من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا رأينا قوله تعالى ويل يومئذ للمكذبين فبأي آلاء ربكما تكذبان مكررا كذلك قلنا إن الكل منه الحجة الخامسة عشر روى أنه عليه السلام كان يكتب باسمك اللهم الحديث وهو يدل على أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن مجموعها منه وهو مثبت فيه فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه مع هذه الموجبات والشهرة لكان جواز إخراج سائر الآيات أولى وذلك يوجب الطعن في القرآن العظيم الحجة السادسة عشر قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان عليه السلام يأمر بكتابتها بخط المصحف فيه وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل تجب قراءته وهل يجوز للمحدث مسه فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك إنتهى كلامه وليس بشيء لأن البعض منه مجاب عنه والبعض لا يقوم حجة علينا لأن لصحيح من مذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة وذكر الزيلعي في شرح الكنز أن الأصح أنها واجبة وذكر الزاهدي عن المجتبي أن الصحيح أنها
(1/41)

واجبة في ركعة تجب فيها القراءة وهي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال إبن وهبان في منظومته ولو لم يبسمل ساهيا كل ركعة
فيسجد إذ إيجابها قال الأكثر وفي غنية المتملي وهو الأحوط وبه أقول خلافا لقاضي خان وصاحب الخلاصة وغيرهم والحق أحق بالاتباع والقول عن بعض هذا أنه من طغيان القلم غاية الطغيان ونهاية في التعصب من غير إتقان ولنتكلم على ما ذكره هذا العلامة على التفصيل فنقول أما ما ذكره في الحجة الأولى من حديث أم سلمة بالوجه الذي رواه مخالف لما في البيضاوي المخالف لما في الكتب الحديثية فيجاب عنه بأن أبا مليكة لم يثبت سماعه عن أم سلمة وبتقديره للمعاصرة يقال إن هذا اللفظ لم يوجد في المشهور ولعله نقل بالمعنى لبعض الروايات الآتية على حسب ما يلوح له فقد أخرج أبو عبيد وأحمد وأبو داود وبلفظ كان رسول الله يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الرحمن الرحيم
مالك يوم الدين وابن الأنباري والبيهقي كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف مالك يوم الدين وابن خزيمة والحاكم بلفظ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية الحمد لله رب العالمين أثنين الرحمن الرحيم ثلاث آيات مالك يوم الدين أربع آيات وقال هكذا إياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس اصابعه والدارقطني بلفظ كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آلى آخرها قطعها آية آية وعدها عد الأعراب وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعد عليهم والرواية الأولى والثانية يمكن أن يقال عنت بهما بيان كيفية قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسائر القرآن وذكرت بعضا منه على سبيل التمثيل ولم تستوعب وليس فيهما سوى إثبات أنها آية وهو مسلم لكن من القرآن وأما أنها من الفاتحة فلا وكذا في الرواية الثالثة إثبات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرؤها في الصلاة ويعدها آية لوقوفه عليها وهو مسلمنا أيضا وهي الآية الأولى من القرآن والآية الثانية منه الحمد لله رب العالمين وهكذا إلى الخامسة وجمعت الأصابع وانقطع الكلام وأما الرواية الرابعة فليست نصا أيضا في أن البسملة آية من الفاتحة إذ يحتمل أن يكون المعنى كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في بعض الأوقات في الصلاة أو غيرها ولا دوام ولا وضعا ولا استعمالا من كتاب الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها أي الآيات قطعها آية آية يوصل بعضها ببعض وعدها عد الأعراب واحدة واحدة وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يسقطها لوجوبها في الصلاة وللإعتناء بها في غيرها لما فيها من عظائم الأسرار ودقائق الأفكار ومن هذا أوجب الكثير من علمائنا سجود السهو على من تركها وقد أزال صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ظن أنها ليست من القرآن لاستعمالها في أوائل الرسائل ومبادي الشئون ولم يعد صراط الذين أنعمت عليهم ولم يقف عليها بل وصل صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المرة لبيان الجواز وعدم تخيل شيء ينافي كونها آية بل هناك ما يشعر به فإن تقارب الآي في الطول والقصر كتقارب الفقرات شيء مرغوب فيه وعدم التشابه في المقاطع لا يضر فأين أفواجا من الفتح فلزوم الرعاية غير لازم وكون الموصوف في آية والصفة في آية أخرى مسبوق بالمثل وسايق على الأمثال ومن أنعم الله تعالى عليه وعرف الذين أنعمت عليهم وجده تاما وعد توقفه على الشرط المفهوم من غير المغضوب كلاما ناقصا وعلى هذا لم يثبت في هذه
(1/42)

الرواية سوى أن البسملة آية من القرآن وهو مسلم عند الطرفين وأما إنها من الفاتحة فدونه خرط القتاد
وأما ما ذكره في الحجة الثانية من حديث أبي هريرة فقد أخرجه الطبراني وإبن مردويه والبيهقي بلفظ الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وأخرجه الدارقطني بلفظ إذا قرأتم الحمد فأقرؤا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها ومعنى الرواية الأولى الحمد لله رب العالمين آلى آخر الآيات سبع آيات وبه قال الحنفيون ولما لاحظ صلى الله تعالى عليه وسلم توهم السامعين من عدم التعرض للبسملة مع تلك الشبهة السالفة كونها ليست بآية من القرآن أزال هذا التوهم بوجه بليغ فقال بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم إحداهن أي مثل إحداهن في كونها آية من القرآن ومعنى الثانية إذا أردتم قراءة الحمد إلى آخر ما يليه فأقراؤا قبله بسم الله الرحمن الرحيم إنها أي الحمد إلى الآخر أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وهذا كالتعليل أو الترغيب بقراءة الحمد لله رب العالمين إلى آخرها وقوله وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها على حد ما ذكر في معنى الرواية الأولى وهو كالتعليل أو الترغيب أيضا في قراءة البسملة وما ذكرناه وإن كان فيه ارتكاب مجاز لكن دعانا إليه إجراء صدر الكلام على حقيقته وأن أجرى هذا على ظاهر فلا بد من إرتكاب المجاز في الصدر كما لا يخفى وهو إرتكاب خلاف الأصل قبل الحاجة إليه وأما ما ذكره في الحجة الثالثة فليس سوى آثبات أن التسمية من القرآن كما أقر هو به ولسنا ممن نخالفه فيه وأما ما ذكره في الرابعة فالحديث الأول الثاني والثالث والسادس مع ضعفه والثامن لا تدل على المقصود ونحن نقول بما تدل عليه والرابع موقوف على إبن عباس ولا نسلم أن حكمه الرفع لجواز الاجتهاد وإن قلنا أن الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كعرفة السورة مثلا ولذلك عدوا ألم آية حيث وقعت ولم يعدوا ألمر لأنا لم نقل إنها جزء آية واجتهد فجعلها آية بل قلنا إنها آية مستقلة من القرآن واجتهد وجعلها آية من الفاتحة أو نقول إنه قال ذلك أيضا عن توقيف لكن على ظنه واجتهاده أنه توقيف والخامس لي شك في صحته بهذا اللفظ ولعله باللفظ الذي خرجه به الدارقطني وقد سلف بتقريره وليس لي إعتمادا على الفخر في الأحاديث وليس من حفاظها وأراه إذا نقل بالمعنى غير وليس عندي تفسير الثعلبي لأراه فإن النقل منه والسابع لا تلوح عليه طلاوة كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا فصاحته وهو أفصح من نطق بالضاد بل من مارس الأحاديث جزم بوضع هذا ولعمري لو كان صحيحا لأكتفى به الشافعية أو لقدموه على سائر أدلتهم وياليته ذكر إسناده لنراه وأما الحجة الخامسة ففيها أنا لا نسلم أن وجوبها في أول الفاتحة مستلزم لكونها آية منها وإستدلاله في هذا المقام بقوله أقرأ بإسم ربك واه جدا من وجوه أظهر من الشمس فلا نتعب البنان ببيانها وأما الحجة السادسة فهو أقوى ما يستدل به على كون البسملة من القرآن وأما على أنها من الفاتحة فلا وتعرض نفاة كونها قرآنا للتكلم في هذا الدليل مما لا يرضاه الطبع السليم والذهن المستقيم والأنصاف نصف الدين والإنقياد للحق من أخلاق المؤمنين وأما الحجة السابعة فلنا لا علينا كما لا يخفى وأما الحجة الثامنة فدون إثبات مدارها وهو توهين كلام مولانا أبي حنيفة رحمه الله تعالى جبال راسيات وأما الحجة التاسعة فهي كالحجة الخامسة حذو القذة بالقذة وإستدلاله بقوله كل أمر ذي بال إلخ ليس بشيء لأن الفاتحة جزء من الصلاة المفتتحة بالتكبير المقارن للنية الذي هو ركن منها فحيث لم تفتتح بالبسملة عدت بتراء فبطلت وكذا الركوع والسجود الذي أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه كل منهما أمر ذو بال فإذا لم يفتتح بالبسملة كان أبتر باطلا فحسن الظن بديانة العلامة وعلمه أنه كان يبسمل أول
(1/43)

صلاته وعند ركوعه وسجوده وسائر إنتقالاته رحمة الله تعالى عليه وأما الحجة العاشرة فلا تقوم علينا لأنا أعلمناك بمذهبنا ؤأما الحجة الحادية عشرة فقصارى ما تدل عليه ظاهر أبعد تسليمها أن معاوية لما لم يقرأ البسملة وترك الواجب ولم يسجد للسهو أعاد الصلاة لتقع سليمة من الخلل ولهذا أمهلوه إلى أن أفرغ ليروا أيجبر الخلل بسجود السهو أم لا وإعتراضهم عليه بترك واجب يجبر بالسجود ليس أغرب من إعتراضهم عليه في تلك الصلاة أيضا بترك هيئة حيث روى الشافعي نفسه كما نقله الفخر نفسه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت من الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير عند الركوع والسجود ثم أنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير وهذا لا يضرنا نعم يبقى الجهر والبحث عنه مخفى الآن وأما الحجة الثانية عشرة ففيها كما تقدم أن الوجوب لا يستلزم الجزئية على أن قوله أن سائر الأنبياء يبتدئون عند الشروع بأعمال الخير بذكر الله فوجب أن يجب على رسولنا ذلك إلخ وأستدل على الوجوب عليه إذ وجب عليهم عليهم السلام بقوله تعالى أولئك الذين هداهم الله فبهداهم أقتده لا أدري ما أقول فيه سوى أنه جهل بالتفسير وعدم إطلاع على اخبار البشير النذير وأما الحجة الثالثة عشر فلا تجديه نفعا في مقابلتنا أيضا وفيها ما في أخواتها وأما الحجج الباقية فككثير من الماضية لا تنفع في البحث معنا إلا بتسويد القرطاس وتضييع نفائس الأنفاس على أن بعض ما ذكره معارض بما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال : العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة وأنها سبع بدونها حيث جعل الوسطى إياك نعبد وإياك نستعين والثلاث قبلها لله تعالى والثلاث بعدها للعبد وليس فيه نفي أنها من القرآن ولا شك أن هذه الرواية أصح من رواية الثعلبي ولا أقدم ثعلبيا على مسلم وكذا من رواية السجستاني ومتى خالف الراوي الثقة من هو أوثق منه بزيادة أو نقص فحديثه شاذ وليس هذا من باب النفي والإثبات كما ظنه من ليس له في هذا الفن رسوخ ولا ثبات وحمل النصف فيه على النصف في المعنى أو الصنف من عدم الإنصاف إذ ذاك مجاز ولا حاجة إليه ولا قرينة عليه وجعله حقيقة لكن بإعتبار الدعاء والثناء يكذبه العد والقول بأن مدار الرواية العلاء وقد ضعفه إبن معين فهو على جلالة الرجل لا يسمن ولا يغني من جوع لأن الموثق كثير وتقديم الجرح على التعديل ليس بالمطلق بل إن لم يكثر المعدلون جدا وقد كثروا هنا وكون التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة مع كونه خلاف الظاهر لا تقتضيه الحكمة إذ هي عند الخصم أشرف الأجزاء وكون المراد بعض قراءة الصلاة إذ الظاهر لا يمكن أن يراد لوجود الأعمال وضم السورة ويتحقق البعض بهذا البعض ليس بشيء إذ اللائق أن يكون البعض مستقلا بمبدء ومقطع والثاني موجود والأول على قولنا وأيضا الفاتحة سورة كالكوثر والملك وقد نص صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه ابو هريرة عنه بأن الأولى ثلاث آيات
(1/44)

والثانية ثلاثون ووقفهم عليها ولم يعد البسملة ولو عدها مستقلة لزاد العدد أو جزءا لورد وعلى المثبت البيان وأنى هو على أنه يرد على الثاني إستلزامه للتحكم بدعوى الإستقلال في الفاتحة والبعضية في غيرها وقول الرازي هذا غير بعيد فالحمد لله رب العالمين آية تارة وجزء آية أخرى كما في وآخر دعواهم الآية بعيد بل قياس باطل لوجود المقتضى للجزئية هناك وإنتفائه هنا وأيضا نزل الكثير من السور بلا بسملة ثم ضمت بعد وحديث الصحيح في بدء الوحي يبدي صحة ما قلنا وهذا يبعد كونها آية من السورة أو جزء آية وكونها لم تنزل بعد يبعد الثاني إن لم يبعد الأول وحديث أنها أول ما نزلت ليس بالقوي بل الثابت ويشكل عليه ما روى أنه كان يكتب بأسمك اللهم إلخ على أن الأولية إن سلمت وسلمت لا تضرنا وبالجملة يكاد أن يكون إعتقاد عدم كون البسملة جزءا من سورة من الفطريات كما لا يخفى على من سلم له وجدانه فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني والفضل لله تعالى توجيهه كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو إستكمالها ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية وأمور الديانات كالطلاق والحلف والتعليق وهو الإمام الأعظم والمجتهد الأقدم رضي الله تعالى عنه والأخفاء بها في الجهرية لا يدل على السنية فإن القول بوجوبها لا ينافي إخفاءها إتباعا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعن إبن عباس لم يجهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبسملة حتى مات وروى مسلم عن أنس صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم اسمع منهم أحدا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يرد نفي القراءآت بل سماعها للأخفاء بدليل ما صرح به عنه فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الشيخين وروى الطبراني بإسناد عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله تعالى عنهم وروى عن عبدالله بن المغفل ولا نسلم ضعفه أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال أي بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فابتدءوا القراءة بالحمد لله رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين أي أجهر بها وأخف البسملة وهو مذهب الثوري وابن المبارك وابن مسعود وابن الزبير وعمار بن ياسر والحسن إبن أبي الحسين والشعبي والنخعي وقتادة وعمر بن عبدالعزيز والأعمش والزهري ومجاهد وأحمد وغيرهم خلق كثير وأحاديث الجهر لم يصح منها سوى حديث إبن عباس الذي أخرجه الشافعي عنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
(1/45)

يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو معارض بما تقدم عنه أو محمول على أنه كان يجهر بها أحيانا لبيان أنه تقرأ فيها كما جهر عمر رضي الله تعالى عنه بالثناء للتعليم وكما شرع الجهر بالتكبير للإعلام وحتى مات هناك قيد للمنفى لا للنفي فلا يتنافيان على أنه روى عن بعض الحفاظ ليس حديث صريح في الجهر إلا وفي إسناده مقال وعن الدارقطني أنه صنف كتابا في الجهر فأقسم عليه بعض المالكية ليعرفه الصحيح فقال : لم يصح في الجهر حديث والقول بأن الرواية عن أنس ست متعارضة فتارة يروى عنه الجهر وأخرى الأخفاء للخوف من بني أمية المخالفين لعلي كرم الله تعالى وجهه إذ مذهبه الجهر لا يضرنا إذ يقدم عند التعارض الأقوى إسنادا وهو هنا ما يوافقنا إذ هو على شرط الشيخين وتهمة الراوي المخالف بالكذب على أنس أهون عندي من تهمة أنس صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومقدمي أصحابه
ومن عجائب الرازي كيف يبدي إحتمال التهمة ويروى إعتراض أهل المدينة على سيد ملوك بني أمية بذلك اللفظ الشنيع والمحل الرفيع فهلا خافوا وسكتوا وصافوا والأعجب من هذا أنه ذكر ست حجج لإثبات الجهر هي أخفى من العدم الأولى أن البسملة من السورة فحكمها حكمها سرا وجهرا وكون البعض سريا والبعض جهريا مفقود ويرده ما علمته في الردود وبفرض تسليم أنها من السورة أي مانع من إسرار البعض والجهر بالبعض وقد فعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتبعوه ولعل السر فيه كالسر في الجهر والإخفاء في ركعات صلاة واحدة أو يقال : إن حال المنزل عليه القرآن كان خلوة أولا وجلوة ثانيا ناسب حاله حاله بل إذا تأملت قوله تعالى في الحديث القدسي الثابت عند أهل الله كنت كنزا مخفيا إلخ ظهر لك سر اعظم فرضى الله تعالى عن المجتهد الأقدم الثانية أنها ثناء وتعظيم فوجب الإعلان بها لقوله تعالى فأذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ويرده أن غالب مشتملات الصلاة كذلك أفيجهر بها
الثالثة إن الجهر بذكر الله يدل عى ألإفتخار به وعدم المبالاة بمنكره وهو مستحسن عقلا فيكون كذلك شرعا ولا يخفى إلا ما فيه عيب ثم قال وهذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين ويرده ما رد سابقه وقد يخفى الشريف ليس الخمول بعار
على أمريء ذي جلال فليلة القدر تخفي
وتلك خير الليالي وياليت شعري أكان تسبيحه الله تعالى في ركوعه وسجوده معيبا فيخفيه أو جيدا فيجهر به ويبديه ولا أظن بالرجل إلا خيرا فإن الحجة قوية في نفسه راسخة في عقله الرابعة ما أخرجه الشافعي عن أنس أن معاوية صلى بأهل المدينة ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فأعترض عليه المهاجرون والأنصار فأعاد الحديث بمعناه ويرده معارضوه أو يقال لم يقرأ على ظاهره وعلموا ذلك ببعض القرائن وماراه كمن سمعا الخامسة ما روى البيهقي عن أبي هريرة كان رسول الله يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وهو المروى عن عمر وإبنه وإبن عباس وإبن الزبير وأما علي فقد تواتر عنه ومن أقتدى في دينه بعلي فقد أهتدى ويرده المعارض وبتقدير نفيه يقال أن الجهر كان أحيانا لغرض وفي الأخبار التي ذكرناها ما يعارض أيضا نسبته إلى عمر وعلي وإبن عباس وما زعم من تواتر نسبته إلى علي ممنوع عند أهل السنة نعم أدعته الشيعة فذهبوا إلى الجهر في السرية والجهرية ولو عمل أحد بجميع مايزعمون
(1/46)

تواتره عن الأمير كفر فليس إلا الإيمان ببعض والكفر ببعض وما ذكره من أن من إقتدى في دينه بعلي فقد أهتدى مسلم لكن إن سلم لنا خبر ما كان عليه علي رضي الله تعالى عنه ودونه مهامه فيح على أن الشائع عند أهل السنة تقديم ما عليه الشيخان وإذا أختلفا فما عليه الصديق حيث أن النبي ترقى في التخصيص إليه فقال أولا أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم أهتديتم وثانيا عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي وثالثا أقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ورابعا إن لم تجديني فأتى أبا بكر السادسة أنها متعلقة بفعل مضمر نحو بإعانة بسم الله أشرعوا ولا شك أن إستماع هذا الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولاقوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وينبهه على أنه لا يتم شيء من الخيرات إلا إذا وقع الإبتداء فيه بذكر الله تعالى وبإظهارها أمر بمعروف ويرده مع ركاكة هذا التقدير وعدم قائل به أن إنفهام الأمر بالمعروف من هذه الجملة يحتاج إلى فكر لو صرف عشر معشاره في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين لحصل ضعف أضعافه من دون غائلة كثيرة فيغنى عنه ثم أنه رحمه الله تعالى ذكر كلاما لا ينفع إلا في تكثير السواد وإرهاب ضعفاء الطلبة بجيوش المداد
البحث الثالث في معناها فالباء إما للإستعانة أو المصاحبة أو الألصاق أو الأستعلاء أو زائدة أو قسمية والأربعة الأخيرة ليست بشيء وإن أستؤنس لبعض ببعض الآيات وأختلف في الأرجح من الأولين فالذي يشعر به كلام البيضاوي أرجحية الأول وأيد بأن جعله للإستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد بدون أسم الله تعالى ولايخلو عن لطف وما يدل عليه كلام الزمخشري أرجحية الثاني وأيد بأن باء المصاحبة أكثر في الإستعمال من باء الإستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وبأن التبرك بإسم الله تعالى تأدب معه وتعظيم له بخلاف جعله للآلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها وأن إبتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يرد عليهم في ذلك وأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لإسم الله تعالى منها إذا جعلت داخلة على الآلة ويناسبه ما روى في الحديث تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم يسمى أو لم يسم وأن التبرك بإسم الله تعالى معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتديء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدى إليه إلا بنظر دقيق وإن كون أسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا بإعتبار أنه يوصل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك فليقل به أولا وأن جعل أسمه تعالى آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتى على مذهب من يقول أن البسملة من السورة وأن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بسم الله الذي لا يضر مع أسمه شيء مما يستأنس به له وإن في الأول جعل الموجود حسا كالمعدوم وإن بسم الله موجود في القراءة فإذا جعلت الباء للإستعانة كان سبيله سبيل القلم فلا يكون مقروءا وهو مقروء وإن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى لتقدير متبركا وهو لكونه حالا فيه بيان هيئة الفاعل وقد ثبت أن لا بد لكل فعل متقرب به إلى الله تعالى من إعانته جل شأنه فدل الحال على زائد وعندي أن الإستعانة أولى بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والإستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي إستقلال قدر العباد وتأثيرها وهو إستفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى وإياك نستعين ولأنه كالمتعين في قوله أقرأ بأسم ربك ليكون جوابا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لست بقاريء على أتم وجه وأكمله وماذكروه في تأييد المصاحبة كله مردود أما الأول فلأن دون إثبات الأكثرية خرط القتاد وأما الثاني فلأنه توهم نشأ من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات وليست كل إستعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة أستعنت بالله وقد ورد في الشرع قال تعالى أستعينوا بالله وأصبروا فهو إذن على أن وجهة الإبتذال مما لا تمر
(1/47)

ببال والقلب قد أحاط بجهاته جهة أخرى وأيضا في تخصيص الإستعانة بالآلة نظر لأنها قد تكون بها وبالقدرة ولو سلم فأي مانع من الإشارة بها هنا إلى أنه كما هو المقصود بالذات فهو المقصود بالعرض إذ لا حول ولا قوة إلا به
وأما الثالث فلأن المشركين إلى الإستعانة بآلهتهم أقرب إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى وهي اشبه بالآلة
وأما الرابع فلأن الآلة لا بد من وجودها في كل جزء إلى آخر الفعل وإلا لم يتم ولا نسلم اللزوم بين مصاحبة شيء لشيء وملابسته لجميع أجزائه وما ذكره من الحديث فهو بالإستعانة أنسب لأنها مشعرة بتبري العبد من حوله وقوته وإثبات الحول والقوة لله تعالى وهذا من باب العقائد التي عقد عليها قلب كل مسلم يسمى أو لم يسم
وأما الخامس فلأنه إن أراد أن معنى المصاحبة التبرك فظاهر البطلان وقد رجع بخفي حنين وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة فندعيه نحن بها إذا قصد الآلية لتوقف الإعتداد الشرعي عليها وأما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد فلا نسلم أنه من خصوص المصاحبة وأما السادس فلأن الإنحصار فيه ممنوع وأما السابع فلأن ما يفتتح به الشيء لا مانع من كونه جزءا فالفاتحة مفتتح القرآن وجزؤه ولو سلم فجملها مفتتحا بالنسبة إلى ما عداها قاله الشهاب ولا يضر الحنفي ما فيه وأما الثامن فلأن معنى الحديث أفعل كذا مستعينا بإسم الله الذي لا يضرني مع ذكر أسمه مستعينا به شيء إذ من أستعان بجنابه أعانه ومن لاذ ببابه حفظه وصانه وإن أستبعدت هذا ورددت ما قيل في الرد من أن المراد بالحديث الأخبار بأنه لا يضر مع ذكر أسمه شيء من مخلوق والمصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل بعد فتعذرت حقيقة المصاحبة بأن المصاحبة هنا ليست محسوسة وكونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة وهي دفع الوسوسة عن القاريء مع جزيل الثواب فلا ضير أيضا لأنه مجرد إستئناس ولا يوحشنا إذ ما نستأنس به كثير وأما التاسع فلأن جعل الموجود كالمعدوم للجري لا على المقتضي من المحسنات والنكتة ههنا أن شبه أسم الله بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس وهو حصول الكتب بالقلم وعدم بعدمه ثم أخرج مخرج الإستعارة التبعية لوقوعها في الحرف
وأما العاشر فلأنه لا يخفى حال التشبيه بالقلم وأما الحادي عشر فلأنه لا نسلم أن التبرك معنى المصاحبة أو لازم معناه بل هو معلوم من أمر خارج هو أن مصاحبة أسمه سبحانه يوجد معها ذلك وهو جار في الإستعانة بأسمه عز شأنه على أن في الإستعانة من اللطف مالا يخفى ويمكن على بعد أن يكون عدم إختيار الزمخشري لها لنزعات الشيطان الإعتزالية من إستقلال العبد بفعله فقد ذهب إليه هو وأصحابه وسيأتي إن شاء الله تعالى رده وقد أختلف في متعلق الجار فذهب الإمام إبن جرير إلى تقديره أتلو لأن تاليه متلو وهكذا يضمر الخاص الفعلي كل فاعل فعلا يجعل التسمية مبدأ له وهو من المعاني القرآنية كنظائره للزومها في متعارف اللسان وبه يندفع كلام الصادقي وليس المقصود هنا متكلما مخصوصا فهو على حد ولو ترى فينوي كل بالضمير نفسه فلا يضر تقدمها على قراءة هذا القاريء بل على وجوده ويتأتى القول بجزئيتها من الكل أو الجزء بلا خفاء ولما خفى ذلك على البعض جعل المقدر فعل أمر متوجه إلى العباد ليتحد قائل الملفوظ والمقدر وأختاره الفراء عن إختيار وروى عن إبن عباس لأنه تعالى قدم
(1/48)

التسمية حثا للعباد على فعل ذلك وهو المناسب للتعليم وذهب النحويون إلى تقديره عاما نحو أبتديء وأيد بوجوه
منها أن فعل الإبتداء يصح تقديره في كل تسمية دون فعل القراءة وتقدير العام أولى ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا أو صفة أو حالا أو صلة بالكون والإستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره
ومنها أنه مستقل بالغرض من التسمية وهو وقوعها مبتدأ فتقديره أوقع بالمحل وأنت إذا قدرت أقرأ قدرت أبتديء بالقراءة لأن الواقع في أثنائها قراءة أيضا والبسملة غير مشروعة فيه ومنها ظهور فعل الإبتداء في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع وأما ظهور القراءة في قوله تعالى : أقرأ بإسم ربك فلأن الأهم ثم هو القراءة غير منظور فيه إلى إبتدائها ولذا قدم الفعل ولا كذلك في التسمية
وما ذهب إليه الإمام أمس وأخص بالمقصود وأتم شمولا فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية مستعانا بإسم الله تعالى عليها كلها بخلاف تقدير أبتديء إذ لا تعرض له لذلك وماذكر أولا من الإستشهاد بتقدير النحاة الكون والإستقرار فليس بجيد لأنهم فعلوه تمثيلا حيث لا يقصدون عاملا بعينه بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو فهو كتمثيلهم بزيد وعمر ولا لخصوصيتهما بل ليقع الكلام على مثال فيكون أقرب إلى الفهم ولا يقال إذا أبهم الفاعل يقدر بهما على أن الإبتداء هنا ليس أعم من القراءة لأن المراد به إبتداء القراءة وهو أخص من القراءة لصدقها على قراءة الأول والوسط والآخر وإختصاص إبتداء القراءة بالأول فليس هذا هو الكون والإستقرار الذي قدرهما النحاة فيما تقدم ودعوى عموم أبتديء بإعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أن المبتدأ به هو القراءة أو بإعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفى فسادها فإنه إذا دل المقام على إرادته فما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ وكونه بإعتبار اللفظ والأصل لا يدفع السؤال في حال فأفهم وأما ما ذكر ثانيا من أن رد فعل البداءة مستقل بالغرض فغير مسلم وقد قدمنا أن القراءة أمس وأشمل والوقوع في الإبتداء بالبداية فعلا لا بإضمار الإبتداء فمتى أبتدأ بالبسملة حصل له المقصود غير مفتقر إلى شيء كمن صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام لا يحتاج في كونه بادئا إلى الإضمار لكنه مفتقر إلى ركتها وشمولها لجميع ما فعله ومن هذا يظهر ما في باقي الكلام من الوهن وأما ما ذكر ثالثا ففيه أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل لا بإضمار الفعل ولم يرد الحديث بأن كل أمر ذي بال لم يقل أو لم يضمر فيه أبدا ببسم الله فهو كذا على أن المحافظة على موافقة لفظ الحديث إنما يليق أن يجعل نكتة في كلام المصنفين ومن ينخرط في سلكهم لا في كلام الله جل شأنه كما لا يخفى على من له طبع سليم وأيضا البحث إنما هو في ترجيح تقدير الفعل العام كأبدأ أو أشرع وما شاء كلهما لا في ترجيح خصوص أقرأ أعني فعلا مصدره القراءة على خصوص أبدأ أعني فعلا مصدره البداءة ففيما ذكر خروج عن قانون الأدب وموضع النزاع
وذهب البعض إلى تقدير إبتدائي مثلا وفيه زيادة إضمار لوجوب إضمار الخبر حينئذ فيكون المضمر ثلاث كلمات ودلالة الأسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الإستمرار التجددي المناسب للمقام إلا أنه تبقى المخالفة بين جملتي البسملة والحمد ولعل الأمر فيه سهل وجعل الشيخ الأكبر قدس سره هذا الجار خبر مبتدأ مضمر هو إبتداء العالم وظهوره لأن سبب وجوده الأسماء الآلهية وهي المسلطة عليه كجعله متعلقا بما بعده إذ لا يحمد الله تعالى إلا بأسمائه من باب الإشارة فلا ينظر فيه إلى الظاهر ولا يتقيد بالقواعد ولا أرى الإعتراض عليه من الإنصاف وقد ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلق هنا مؤخرا أحرى لأن أسم الله تعالى مقدم على الفعل ذاتا فليقدم على الفعل
(1/49)

ذكرا وفيه إشارة إلى البرهان اللمي وهو أشرف من البرهان الأني ولذا قال بعض العارفين ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وتحنيك طفل الذهن بحلاوة هذا الأسم يعين على فطامه عن رضع ضرع السوي بدون وضع مرارة الحدوث على أن بركة التبرك طافحة بالأهمية وإن قلنا بأن في التقديم قطع عرق الشوكة ردا على من يدعيها ناسب مقام الرسالة وظهر سر تقديم الفعل في أول آية نزلت إذ المقام إذ ذاك مقام نبوة ولا رد ولا تبليغ فيها ولكل مقام مقال والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال وقد أعتركت الأفهام هنا في توجيه القصر لظنه من ذكر الإختصاص حتى أدعاه بعضهم بأنواعه الثلاثة وأفرد البعض البعض فمقتصر على قصر الأفراد وقائل به وبالقلب وفي القلب من كل شيء وعندي هنا يقدر مقدما وبه قال الأكثرون وإن تقديره مؤخرا مؤخر عن ساحة التحقيق لأنه إما أن يقدر بعد الباء أو بعد أسم أو بعد أسم الله أو بعد البعد أما تقديره بعد الباء فلا يقوله من عرف الباء
وأما بعد الأسم فلإستلزامه الفصل ولو تعقلا حيث أوجبوا الحذف هنا بين المتضايفين وأما بعد اسم الله فلإستلزامه الفصل كذلك بين الصفة والموصوف وأما بين الصفتين فيتسع الخرق وأما بعد التمام فيظهر نقص دقيق لأن في الجملة تعليق الحكم بما يشعر بالعلية فكان الرحمن الرحيم علة للقراءة المقيدة بإسم الله فإذا تأخر العامل المقيد المعلول وتقدمت علته أشعر بالإنحصار ولا يظهر وجهه وإذا قدرنا العامل مقدما كما هو الأصل أمنا من المحذور ويحصل إختصاص أيضا إذ كأنه قيل مثلا أقرأ مستعينا أو متبركا بسم الله الرحمن الرحيم لأنه الرحمن الرحيم وإنتفاء العلة يستلزم إنتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تظهر علة أخرى فيفيد الإختصاص لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة فيشعر بأن من لم يتصف بذلك خارج عن الدائرة والإقتصار هنا ليس كالإقتصار هناك والتخلص بتقدير التركيب مستعينا بإسم الله لأنه الرحمن الرحيم أقرأ فيه ما لا يخفى على الطبع السليم وفي تقديم الحادث تعقلا وحذفه ذكرا وعدم وجود شيء في الظاهر مستقلا سوى الأسم القديم رمز خفي إلى تقديم الأعيان الثابتة في العلم وإن لم يكن على وجود الله تعالى إذ له جل شأنه التقدم المطلق وعدم ظهور شيء سواه وكل شيء هالك إلا وجهه وللإشارة إلى أنه لا ضرر في ذلك أرتكب والتبرك كالوجوب يقتضي التقدم بالذكر مكسورا لا مضموما وها هو كما ترى ومن الأكابر من قال ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى فيه ولا حلول وقد عد أكمل من الأول والمراتب أربع وتحنيك الرحمة يغنى عن كل در ويفطم طفل الذهن عن سدى جواري الفكر وكأن من قدر العامل مؤخرا رأى بسم الله مجراها وبإسمك ربي وضعت جنبي وأمثالهما فجرى مجراها والفرق ظاهر للناظر وهذا من نسائم الأسحار فتيقظ له ونم عن غيره
والظرف مستقر عند بعض ولغو عند آخرين وقد أختلف في تفسيرهما فقيل اللغو ما يكون عامله مذكورا والمستقر ما يكون عامله محذوفا مطلقا وقيل المستقر ما يكون عامله عاما كالحصول والإستقرار وهو مقدر واللغو بخلافه وقيل اللغو ما يكون عامله خارجا عن الإظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا والمستقر ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة وكل ذلك أصطلاح وحيث لا مشاحة فيه إختار الأول فيكون الظرف هنا مستقرا كيفما قدر العامل وإنما كسرت الباء وحق الحروف المفردة أن تفتح لأنها مبنية والأصل في البناء لثقله وكونه مقابلا للأعراب الوجودي السكون لخفته وكونه عدميا إلا أنها من حيث كونها كلمات برأسها مظنة للإبتداء وهو بالساكن متعذر أو متعسر كان حقها الفتح إذ هو أخو السكون في الخفة المطلوبة في كثير الدور على الألسنة لإمتيازها من بين الحروف بلزوم الحرفية والجر وكل منهما يناسب الكسر أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة
(1/50)

والكسر لقله إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الإمتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل : عهد الذي أهوى وميثاقه أضعف من حجة نحوي فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها وقال بعضهم من باب الإشارة : كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل البعودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله تعالى سره الفائض بقوله : ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة رفعت إلى ما لم تنله بحيلة بحيث ترى أن لا ترى ما عددته وأن الذي أعددته غير عدة فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية ولا ينال هذا الرفع بحيلة بل هو بمحض الموهبة الآلهية الجليلة ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول وسعيه غير مقبول إنتهى
وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجري في باء الجر مطلقا كما لا يخفى وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي فقال أنا النقطة تحت الباء وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره : الباء للعارف الشبلي معتبر وفي نقيطتها للقلب مدكر سر العبودية العلياء مازجها لذاك ناب مناب الحق فأعتبروا أليس يحذف من بسم حقيقته لأنه بدل منه فذا وزر والصفات إما جمالية أو جلالية وللأولى السبق كما يشير إليه حديث سبقت رحمتي غضبي وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر وفي الإبتداء بها هنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار بالله وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم وأما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه بقوله أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه لولاك ما خلقت الأفلاك ولكون الغالب عليه عليه الصلاة و السلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وقوله تعالى : بالمؤمنين رؤوف رحيم ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الإبتداء به هنا رمز إى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله وفي ذلك مع بيان صفة المدعو إليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه وإنك لعلى خلق عظيم وأكتفى بالرمز ههنا لعدم ظهور الآثار بعد وأول الغيث قطر ثم ينهمل وما من سورة إلا أفتتحها
(1/51)

الرب بالرمز إلى حاله صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما له وبشارة لمن ألقى السمع وهو شهيد ولما كان الجلال في سورة براءة ظاهرا ترك الإشارة بالبسملة وأتى بباء مفتوحة لتغير الحال وإرخاء الستر على عرائس الجمال ولم يترك سبحانه وتعالى الرمز بالكلية إلى الحقيقة المحمدية ولا يسعنا الإفصاح بأكثر من هذا في هذا الباب خوفا من قال أرباب الحجاب وخلقه سر جليل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل والأسم عند البصريين من الأسماء العشرة التي بنيت أوائلها على السكون وهي إبن وإبنة وإبتم وأسم وأست وإثنان وأثنتان وأمرؤ وأمرأة وأيمن الله وأيم الله منه وإلا فأحد عشر إن أعتد بإبنم فإذا نطقوا بها زادوا همزة لبشاعة الإبتداء بالساكن غير المدات عندهم وفيها يمتنع والأمر ذوقي وهو مما حذف عجزه كيد وما عدا الثلاثة الأخيرة مما تقدم
وأصله سمو حذفت الواو تخفيفا لكثرة الإستعمال ولتعاقب الحركات وسكن السين وحرك الميم وأجتلبت ألف الوصل فوزنه أفع وتصريفه إلى اسماء وسمى وسميت دون أوسام ووسيم ووسمت يشهد له والجرح بالقلب لا يقبل وإشتقاقه من السمو كالعلو لأنه لدلالته على مسماه يعليه من حضيض الخفاء إلى ذروة الظهور والجلاء
وقال الكوفيون هو من السمة لأنه علامة على مسماه وأصله وسم فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل وكفى الله المؤمنين القتال فوزنه أعلى ويرد عليهم أن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره وزيادة الأعلال أقيس من عدم النظير وأيضا كونها عوضا يقتضي كونها مقصودة لذاتها ووصلا كونها مقصودة تبعا والعوض كجزء أصل دون الوصل فما هو إلا جمع بين الضب والنون فلذا قيل لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة كاعاء وإشاح ثم كثر إستعماله فجعلت همزته همزة وصل وقد تقطع للضرورة ورجح الأول لهاتيك الشهادة وفيه لغات أوصلها البعض إلى ثماني عشرة ونظمها فقال : للأسم عشر لغات مع ثمانية بنقل جدي شيخ الناس أكملها سم سمات سما وأسم وزد سمة كذا سماء بتثليث لأولها هذا وقد قال التشاجر في أن الأسم هل هو عين المسمى أو غيره فالأشاعرة على الأول والمعتزلة على الثاني وقد تحير نحارير الفضلاء في تحرير محل البحث على وجه يكون حريا بهذا التشاجر حتى قال مولانا الفخر في التفسير الكبير : إن هذا البحث يجري مجرى العبث وذكر وجها أدعى لطفه ودقته وقد كفانا الشهاب مؤنة رده وقد أراد السيد النحرير في شرح المواقف فلم يتم له وللسهيلي في ذلك كلام أدعى أنه الحق
(1/52)

وصنف في رده إبن السيد رسالة مستقلة وأدعى الشهاب أنه إلى الآن لم يتحرر وأنه لم ير مع سعة إطلاعه في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور ولا شفاء الغليل ولم يأت رحمه الله تعالى في حواشيه على البيضاوي من قبل نفسه بشيء يزيح الأشكال ويريح البال وها أنا من فضل الله تعالى ذاكرا شيئا إذا قبل فهو غاية ما أتمناه وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط وإن رد فقد رد قبلي كلام ألوف كل منهم فرد يقابل بصفوف وإبن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس فأقول الأسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة كما نقله الإمام أبو بكر بن فورك في كتابه الكبير في الأسماء والصفات والأستاذ أبو القاسم السهيلي في شرح الأرشاد وهما ممن يعض عليه بالنواجذ ومنه قوله تعالى : سبح أسم ربك إذ التسبيح في المعروف إنما يتوجه إلى الذات الأقدس وحمله على تنزيه اللفظ كحمله على المجاز والكتابة مما لا يليق إذ بعد الثبوت لا يحتاج إليه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ويؤيده قوله تعالى : ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها حيث اطلق الأسماء وأراد الذوات لأن الكفار إنما عبدوا حقيقة ذوات الأصنام دون ألفاظها وإن إستقام على بعد وقال سيبويه وهو إمام الصناعة وشيخ الجماعة : والفعل أمثلة أحداثت من لفظ أحدث الأسماء ومن العلوم أن الألفاظ لا إحداث لها فليس المراد إلا الذوات وهو بهذا المعنى عين المسمى ولا ينافيه أخذ الأسم من السمو لأن سمو المعلوم في الحقيقة إنما هو بوجوده إن كان موجودا حيث أرتفع عن نقص العدم وبمعقوليته عن الإلتباس بمعلوم آخر إن لم يكن ولو كنا نرى الموجودات كلها ونعلم المعلومات بأسرها لم نحتج إلى مسمياتها لكن لما صحت غيبتها عنا لمانع في أبصارنا وبصائرنا أحتجنا إلى ما يدلنا عليها في التخاطب والأخبار عنها فمن الله تعالى بهذه الأوضاع لطفا بنا وحكمة من حكيم عليم فلما سمعت المعلومات بمعقوليتها عن الإلتباس وبوجود ما كان موجودا منها عن العدم قيل لها أسماء ولما دلت الألفاظ عليها قيل لها ذلك ايضا تسمية للشيء بإسم ما هو دليل عليه ويطلق الأسم ايضا على الدال وهو قسمان قديم وهو ما سمى الله تعالى به نفسه في كلامه القديم والقول فيه كالقول في كلامه الذي هو صفة له من أنه لا عين ولا غير وحادث وهو ما سمى به تعالى شأنه في غير ذلك وهو غير فالمعتزلة لا يثبتون إلا القسم الثاني من هذا الإطلاق لعدم ثبوت الأول عندهم ولنفيهم الكلام القديم وأهل السنة لما رأوا أن نزاعهم لهم في القسم الأول من الإطلاق الثاني يعود إلى النزاع في منشئه تركوه وأكتفوا بالنزاع في المنشأ عنه حتى برهنوا فيه على مدعاهم ونوروا بالبينات القطعية دعواهم وقد تقدم ذلك لك في المقدمات ونازعوهم في الإطلاق الأول وأثبتوه بظواهر الآيات ونقل الثقات وقالوا ضد قولهم أن الأسم عين المسمى فكأنه ترقى صورة من نفي الغيرية وإثبات لا ولا إلى القول بالعينية التي أنكروها ولعدم فهم المراد من ذلك أعترض بأنه لو كان الأسم هو المسمى لتكثر المسمى عند تكثر الأسماء وأيضا الأسماء تتبدل والمسمى لا يتبدل والأسم يطرأ بعد وجود المسمى والشيء لا يتقدم على نفسه ولا يتأخر فليس هو هو والكل غير وارد إلا على تقدير القول بالعينية بناء على القسم الثاني من الإطلاق الثاني وليس فليس فأتضح من هذا أن قول المعتزلة بالغيرية ناشيء عن ضلالة في الإعتقاد ومن يضلل الله فما له من هاد والأسم في البسملة عند بعض بالمعنى الأول لأن الإستعانة بالألفاظ مجردها مما لا معنى لها وليس من التسعة والتسعين ما لفظه أسم فلا يحسن إلا أن يراد به الذات وأمر الإضافة هين وفيه أنه فرق بين الإستعانة المتعدية بنفسها والإستعانة المعتدية بالباء المتعلقة بغير
(1/53)

ذوي العلم نحو أستعينوا بالصبر والصلاة وقال غير واحد سلمنا أن الإستعانة لا تكون إلا بالذات إلا أن التبرك لا يكون بها وقد قالوا به ولهذا أو للفرق بين اليمين والتيمن أو لئلا يختص التبرك بإسم دون أسم أو ليكون أشد وفاقا لحديث الإبتداء على ما قيل قال بسم الله ولم يقل بالله ولم تكتب همزة الوصل مع أن الأصل في كل كلمة أن ترسم بإعتبار ما يتلفظ بها في الوقف وفي الإبتداء بل حذفت تبعا لحذفها في التلفظ للكثرة وقيل لأنها دخلت للإبتداء بالسين الساكنة فلما نابت الباء عنها سقطت في الخط بخلاف أقرأ بإسم ربك إذ الباء لا تنوب منابها فيه إذ يمكن حذفها مع بقاء المعنى فيقالأقرأ أسم ربكوظاهره أن الذي منع من الإسقاط في الآية إمكان حذف الباء فقط وهو مخالف لما ذكره الدماميني من أنه لابد للحذف منأمرين عدم ذكر المتعلق وإضافة لفظ أسم للجلالة وكلاهما منتف في الآية وهل يشترط تمام البسملة فيه فيه تردد وظاهر كلام التسهيل إشتراطه وقيل لا حذف فيه والباء داخلة على أسم أحد اللغات السابقة ثم سكنت السين هربا من توالي كسرتين أو إنتقاله من كسرة لضمة وهو مع غرابته بعيد وعندي أن هذا رسم عثماني وهو مما لا يكاد يعرف السر فيه أرباب الرسوم والكثير من عللهم غير مطردة وبذلك أعتذر البعض عن عدم حذف ألف الله مع كثرة إستعماله وأستغنى به عن الجواب بشدة الإمتزاج وبأنها عوض وبأنه يلزم الإجحاف لو حذفت أو الإلتباس بقولنا لله مجرورا فالرأي إبداء سر ذوقي لذلك وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بما لا مزيد عليه ولست ممن يفهمه والقريب من الفهم أن الهمزة إنما حذفت في الخط ليكون إتصال السين بالباء المشير إلى ما تقدم أتم وتلقى الفيض أقوى ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة وفيه إشارة من أول الأمر إلى عموم الرحمة وشمول البعثة لأن السين لما كان ساكنا وتوصل إلى النطق به بالألف أشبه حال المعدوم الذي ظهر بالله وحيث كان ذلك عاما إذ ما من معدوم يطلب الظهور إلا يكون ظهوره بالله سبحانه وتعالى أعطى ذلك الحكم لما قام مقامه وأتصل إتصاله وأدى في اللفظ مؤداه فإن كان عبارة عن صفات الجمال ظهر عموم الرحمة ورحمتي وسعت كل شيء وإن كان عبارة عن الحقيقة المحمدية ظهر شمول البعثة ليكون للعالمين نذيرا بل والرحمة أيضا وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وتناسبت أجزاء البسملة إشارة وعبارة وإنما طولت الباء للإشارة إلى أن الظهور تام أو إلى أنها وإن إنخفضت لكنها إذا أتصلت هذا الإتصال أرتفعت وأستعلت وفيه رمز إلى أن من تواضع لله رفعه الله وأنا عند المنكسرة قلوبهم منأجلي وقال الرسميون طولت لتدل على الألف المحذوفة ولتكون عوضا عنها وليكون إفتتاح كتاب الله تعالى بحرف مفخم ولذا قال لمعاوية فيما روى ألق الدواة وحرف القلم وأنصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحس الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك ولعل منه أخذ عمر بن عبدالعزيز قوله لكاتبه طول الباء وأظهر السينات ودور الميم ولبعضهم في التعليل ما أدعى أنه ليس من عمل الأفهام بل مبذولات الألهام وهو في التحقيق من مبتذلات الأوهام وليس له في التحقيق أدنى إلمام على أن في تعليلهم السابق خفاء بالنظر إلى مشربهم أيضا فأفهم ذلك كله والله أصله الأعلالي إله كما في الصحاح أو الإله كما في الكشافولكل وجهة فحذفت الهمزة إعتباطا على الأظهر وعوض عنها
(1/54)

الألف واللام ولذلك قيل يالله بالقطع في الأكثر لتمحض الحرف للعوضية فيه إحترازا عن إجتماع أداتي تعريف وأما في غيره فيجري الحرف على اصله وذكر الرضى أن القطع لإجتماع شيئين لزوم الهمزة الكلمة إلا نادرا كما في لاهه الكبار وكونها بدل همزة إله وقال السعد : قد يقال فيه إنه نوى الوقف على حرف النداء تفخيما للأسم الشريف وأختلفوا في الفرق بين الأله والله فقال السيد السند : هما علم لذاته إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره تعالى وبعده لا يطلق على غيره سبحانه اصلا وقال العلامة السعد : إن الأله أسم لمفهوم كلي هو المعبود بحق والله علم لذاته تعالى وقال الرضى : هما قبل الأدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الأدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة وأدعى إبن مالك أن الله من الأعلام التي قارن وضعها أل وليس أصله الأله ثم قال ولو لم يرد على من قال ذلك إلا أنه أدعى مالا دليل عليه لكان ذلك كافيا لأن الله والأله مختلفان لفظا ومعنى أما لفظا فلأن أحدهما معتل العين والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام فهما من مادتين فردهما إلى اصل واحد تحكم من سوء التصريف وأما معنى فلأن الله خاص به تعالى جاهلية وإسلاما والأله ليس كذلك لأنه أسم لكل معبود ومن قال أصله الأله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إما أن يقول إن الهمزة حذفت إبتداء ثم أدغمت اللام أويقول إنها نقلت حركتها إلى اللام قبلها وحذفت على القياس وهو باطل أما الأول فلأنه أدعى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثي فلا يقاس بيد لأن الآخر وكذا ما يتصل به محل التغيير ولا بعدة مصدر يعد لحمله على الفعل فحذف للتشاكل ولا برقة بمعنى ورق لشبهه بعدة وزنا وإعلالا ولولا أنه بمعناه لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كلثة وأما ناس وأناس فمن نوس وأنس على أن الحمل عليه على تقدير تسليم الأخذ ريادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب يلجيء لذلك وأما الثاني فلأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم ولا نظير له والثاني نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب إجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن الثالث من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملا كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بئس ولايخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة فما هو في كلمتين أمكن في الإستقباح وأحق بالأطراح الرابع إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين وقد أعتبر أبو عمرو في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحدف نحو يبتغ غير فلم يدغم فإعتبار غير واجب الحذف أولى ومن زعم أن أصله إله يقول إن الألف واللام عوض من الهمزة ولو كان كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي لله أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة وقالوا لهي أبوك ايضا فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة لتحركها وإنفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي على ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف
(1/55)

عندي وهو مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر أبوك ا ه ملخصا قال ناظر الجيش : إنه لا مزيد عليه في الحسن وأنا أقول لا بأس به لولا قوله إن الإله أسم لكل معبود فقد بالغ البلقيني في رده وأدعى أنه لا يقع إلا على المعبود بالحق جل شأنه ومن أطلقه على غيره حكم الله تعالى بكفره وأرسل الرسل لدعائه وكان نظير إطلاق النصارى الله على عيسى على أن فيه ما يمكن الجواب عنه كما لا يخفى وإشتقاقه من أله كعبد إلاهة كعبادة وألوهة كعبودة وألوهية كعبودية فاله صفة مشبهة بمعنى مألوه ككتاب بمعنى مكتوب وكونه مصدرا كما ذهب إليه المرزوقي وصاحب المدارك خلاف المشهور أو من أله كفرح إذا تحير لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته وفيه أن الأصل في الإشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق والحبرة قائمة لخلق لا بالحق أو من ألهت إلى فلان إذا سكنت إليه ألا بذكر الله تطمئن القلوب أو من له إذا فزع والله مفزوع إليه وهو يجير ولا يجار عليه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه والعباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد وقيل هو من وله الواوي بمعنى تحير أيضا وأصله ولاه فقلبت الواو همزة لإستثقال الكسرة عليها فهو كاعاء وإشاح في وعاء ووشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة وقلب الواو ألفا إذا لم تتحرك مخالف للقياس وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر ولعلك لا تعبأ بذلك هنا فالشأن عجيب وزعم بعضهم أنأصله لاه مصدر لاه يليه أولاه يلوه ليها ولاها إذا أرتفع وأحتجب وهو المحتجب بسرادقات الجلال والمرتفع عن إدراك الخيال وقد قريء شاذا وهو الذي في السماء لاه وقول ميمون بن يس الأعشى : كحلفه من أبى رباح يشهدها لاهه الكبار ووجه قطع الهمزة في حال النداء حينئذ بعض ما تقدم من الوجوه وقيل أصله الكناية لأنها للغائب وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به الأفكار وأيضا الهاء يخرج مع الأنفاس فهو المذكور وإن لم تشعر الحواس ومتى إنقطع خروجه إنقطعت الحياة وحل بالحي الممات فبه وبإسمه قوام الأرواح والأبدان وإستقامة كل متنفس من الحيوان فزيد عليها لام الملك ثم مد بها الصوت تعظيما ثم ألزم اللام وأستأنس لهذا أن الأسم الكريم إذا حذفت منه الهمزة بقى لله ولله جنود السموات والأرض وإذا تركت اللام بقى على صورة له وله ما في السموات وما في الأرض وإن تركت اللام الباقية بقى الهاء المضمونة من هو لا إله إلا هو والواو زائدة بدليل سقوطها فيهما وهم فالأصل هو إذ لا يبقى سواه وأنت إذا أمعنت النظر يظهر لك مناسبات أخر ولهذا مال كثير من الصوفية إلى هذا القول وهو إلى المشرب قريب وزعم البلخي أنه ليس بعربي بل هو عبراني أو سرياني معرب لاها ومعناه ذو القدرة ولا دليل عليه فلا يصار إليه وإستعمال اليهود والنصارى لا يقوم دليلا إذ إحتمال توافق اللغات قائم مع أن قولهم تأله وأله يأباه على أن التصرف فيه كما قيل بحذف
(1/56)

المدة وإدخال أل عليه وجعله بهذه الصفة دليل على أنه لم يكن علما في غير العربية إذ اشترطوا في منع الصرف للعجمة كون الأعجمي علما في اللغة الأعجمية والتصرف مضعف لها فهذا الزعم ساقط عن درجة الإعتبار لا يساعده عقل ولا نقل والذي عليه أكابر المعتبرين كالشافعي ومحمد بن الحسن والأشعري وغالب أصحابه والخطابي وإمام الحرمين والغزالي والفخر الرازي وأكثر الأصوليين والفقهاء ونقل عن إختيار الخليل وسيبويه والمازني وإبن كيسان أنه عربي وعلم منأصله لذاته تعالى المخصوصة أما أنه عربي فلا يكاد يحتاج إلى برهان وأما أنه علم كذلك فقد استدل عليه بوجوه الأول أنه يوصف ولايوصف به وقراءة صراط العزيز الحميد الله بالجر محمولة على البيان وتجويز الزمخشري في سورة فاطر كون الأسم الكريم صفة أسم الإشارة من باب قياس العلم على الجوامد في وقوعها صفة لأسم الإشارة على خلاف القياس إذ المنظور فيها رفع الإبهام فقط وقد تفرد به الثاني أنه لا بد له منأسم يجري عليه صفاته فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو أصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها ولم يوضع له أسم يجري عليه ما يعزي إليه ولا يصطلح له مما يطلق عليه سواه وكونه أسم جنس معرف مما لا يليق لأنه غير خاص وضعا وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات وهو كما ترى الثالث أنه لو كان وصفا لم تكن الكلمة توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن إذ لا منع من الشركة وكذا لو كان أسم جنس والإجماع منعقد على إفادتها له دون الثاني والسر أنه لو كان صفة كان مدلوله المعنى لا الذات المعينة فلا يمنع من الشركة وإن أختص إستعمالا بذاته تعالى بخلاف ما إذا كان علما فإن مدلوله حينئذ الذات المعينة وأن تعقل بوجه كلي إذ كليته لا تستلزم كلية المعلوم وقد أعترفوا بعموم الوضع وخصوص الموضوع له وقد أنحل بهذا عصام قربة من قال إنه لو كفى في التوحيد الإختصاص في الواقع فلا إله إلا الرحمن أيضا توحيد وإن لم يكف وأقتضى ما يعين بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا الله كذلك إذ لا تحضر ذاته تعالى لنا على وجه التشخص ولا حاجة إلى ما ذكره من الجواب أخطأ فيه أم أصاب ولا يرد قل هو الله أحد معارضا فإنه لو دل على التوحيد لم يكن للوصف فائدة لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تفسيره لعدم قبول التعدد بوجه وهو ليس من لوازم العلمية ولا يغير هذه الوجوه المسفرة ما قيل أنها لا تستلزم المدعي إذ الإختلاف إنما وقع بعد تسليم الإختصاص في كونه صفة فيكون كالرحمن أو أسما فيكون علما وهذا والإمام البيضاوي مع أن له اليد البيضاء في التحقيق لم يتبلج له صبح هذا القول وهو لا يحتاج إلى النظر الدقيق فأختار أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الوصف عليه وإمتناع الوصف به وعدم تطرق إحتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا إعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله تعالى وهو الله في السموات معنى صحيحا ولأن معنى الإشتقاق كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في امعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة هذا كلامه وقد أبطل فيه الأدلة الثلاث وحيث لم يلزم من إبطال الدليل إبطال
(1/57)

المدلول أبطله بوجهين ونظم في سلكهما ثالثا يدل على الوصفية وفيه أن الوجه الأول قد أعترضته هو نفسه حيث قال في تعليقاته وفيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الإمتياز في المسمى فيمكن وضع العلم لمجرد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات وقد تقرر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله تعالى العلم بكنه ذاته في البشر ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله تعالى والتحقيق أن تصوير الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم وكذا في فهم السامع عند إستعماله إنتهى والمرء مؤاخذ بإقراره وهذا إكتفاء بأقل اللازم وإلا فالمحققون قدأبطلوا هذا الدليل بما لا مزيد عليه وأما الثاني ففيه إن لم نقل أن الآية من المتشابه أن العلم قد يلاحظ معه معنى به يصلح لتعلق الطرف كقولك أنت عندي حاتم وقوله : أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر فليلاحظ هنا المعبود بالحق لإشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الأسم المقدس على أنه يحتمل التعلق بيعلم في قوله تعالى يعلم سركم الآية والجملة خبر ثان أو هي الخبر ولفظ الله بدل والظاهر أن قوله ظاهر لهذا
والثالث ففيه أن المنكر لإشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى على أنه لا يستلزم الوصفية أيضا وكون المدعي ظني فيكفي فيه الحدس من مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ لنا أن نقول مثله والمنشأ أتم والظن أقوى والوجوه التي ذكرت في الإبطال ترهقها ذلة لأنها كلها متوجهة تلقاء الغلبة وهي وإن لم تكن تحقيقية ضعيفة بل تقديرية قوية لكنها على كل حال دون العلمية الأصلية قوة وشرفا فالعدول عن الأشرف في هذا الأسم الأقدس مما لا أسوغ الأقدام عليه ودون إثبات الداعي نفي الرقاد وخرط القتاد وقد رأيت بعض ذلك فالذي أرتضيه لا عن تقليد أن هذا الأسم الأعظم موضوع للذات الجامعة لسائر الصفات وإلى ذلك يشير كلام ساداتنا النقشبندية بلغنا الله تعالى ببركاتهم كل أمنية في الوقوف القلبي وهو أن يلاحظ الذاكر في قلبه كلما كرر سكر هذا الأسم الأقدس ذاتا بلا مثل وحققه الشيخ الأكبر قدس سره في مواضع عديدة من كتبه هذا وتفخيم اللام من هذا الأسم الكريم إذا أنفتح ما قبله أو أنضم طريقة معروفة عند القراء وقيل مطلقا وحذف ألفه لغة حكاها إبن الصلاح وفي التيسير إنها لغة ثابتة في الوقف دون الوصل والأفصح الإثبات حتى قال بعضهم إن الحذف لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين ولا يرتكب إلا في الضرورة كقوله : ألا لا بارك الله في سهيل إذا ما بارك الله في الرجال وقد اطال الشيخ قدس سره الكلام في الفتوحات عن أسرار حروفه وأتى بالعجب العجاب وفي ظهور الألف تارة وخفائها أخرى وسكون اللام أولا وتحركها ثانيا والختم باطنا بما به البدء ظاهرا وإشتمال الكلمة على متحرك وساكن وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين إشارات لا تخفى على العارفين فأرجع إلى كتبهم فهم أعرف بالله تعالى منا سبحان من أحتجب بنور العظمة حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه إذ أنعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه والقصور في القابل لا في الفاعل : توهمت قدما أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما فلاحت فلا والله ما ثم حاجب سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان بنيتا لإفادة المبالغة وأنهما من رحم مكسور العين نقل إلى رحم
(1/58)

مضمومها بعد جعله لازما وهذا مطرد في باب المدح والذم وأن الرحمة في اللغة رقة القلب ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ بإعتبار غايتها إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصل الخير إليهم بحال الملك إذ رق لهم فأصابهم بمعروفه وإنعامه فأستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته وإما على طريقة الإستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما أختاره القاضي أبو بكر أو إرادته على ما أختاره الأشعري بالرحمة بجامع ترتب الأنتفاع على كل ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حدالحال ناطقة بكذا وإما على طريقة الإستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس ويحذف المشبه به ويثبت له شيء من لوازمه وهو الرحمة وقيل الرحمة في ذلك حقيقة شرعية وأن الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى فتؤخذ تارة بإعتبار الكمية وأخرى بإعتبار الكيفية فعلى الأول قيل يارحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يارحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وأنه إنما قدم الرحمن والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره وقول بني حنيفة في مسيلمة رحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه : سموت بالمجد ياإبن الأكرمين أبا وأنت غيث الورى لازلت رحمانا غلو في الكفر أو التقديم لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتنمة والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي هذا وجميعه لا يخلو عن مقال ولا يسلم من رشق نبال أما أولا فلأن الصفة المشبهة لا تبنى إلا من لازم ولذا قال في التسهيل : إن ربا وملكا ورحمانا ليست منها لتعدى أفعالها أو لم يقل أحد بنقل ما تعدى منها لفعل المضموم العين والمسطور في المتون المعول عليها أن فعل المفتوح والمكسور إذا قصد به التعجب يحول إلى فعل المضموم كقضو الرجل بمعنى ما أقضاه وحينئذ فيه إختلاف هل يعطى حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة وإلحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرفه وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلا وكون رفيع الدرجات بمعنى رفيع درجاته لا رافع الدرجات لا يجدي نفعا وإنما فسروه بما ذكر لأن المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من قوله ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل ونقل ذلك عن الزمخشري في الفائق بعد تسليم أنه مذكور فيه معارض بما صرح به هو في غيره كالمفصل على أن قولهم رحمن الدنيا ورحيم الآخرة بالإضافة إلى المفعول كما نص عليه دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وأنهما ليسا بصفة مشبهة فالأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة بإسم الفاعل وأخذا من فعل متعد وذلك في الرحيم ظاهر وقد نص عليه سيبويه في قولهم رحيم فلانا وكذا الزجاج والصيغة تساعده وللإشتباه
(1/59)

في الرحمن وعدم ذكر النحاة له في أبنية المبالغة قال الأعلم وإبن مالك : أنه علم في الأصل لا صفة ولا علم بالغلبة التقديرية التي أدعاها الجل من العلماء وأما ثانيا فلأن نقل فعل المكسور إلى فعل المضموم لا يتوقف على جعله لازما أولا لأنه بمجرد النقل يصير كذلك وتحصيل المناسبة بين المنقول والمنقول إليه باللزوم لعدم الإكتفاء فيها بمطلق الفعلية مما لا يخفى ما فيه وأما ثالثا فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا وذا لا يستلزم إرتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين وأين التراب من رب الأرباب ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب إرتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لإستحالة إتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا إرتكاب المجاز أيضا فيها إذا أثبتت لله تعالى وما سمعنا أحدا قال بذلك وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ولكها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها فأما أن يقال بإرتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته والعجز عن درك الإدراك إدراك فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكما بحتا بل قد نطق الإمام السكوتي في كتابه التمييز لما للزمخشري من الإعتزال في تفسير كتاب الله العزيز بأن جعل الرحمة مجازا نزغة إعتزالية قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد وأثبتوا لله تعالى ماأثبته له نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز وقالوا لسنا أغير على الله من رسوله لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات ثم فوضوا إليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات
لمسلمون وتلك اثنتا عشرة فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه وعول في الإبانة على ما عولوا عليه فقد قال في أول كتاب الإبانة الذي هو آخر مصنفاته : أما بعد فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين وساق الكلام إلى أن قال : فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرفاضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان الله تعالى به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين ثم سرد الكلام في بيان عقيدته مصرحا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف غير متعرض لتأويل ولا ملتفت إلى قال وقيل فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثاتب أو مرجوع عنه والأعمال بالخواتيم وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة على أنه إذا سلم
(1/60)

الرأس كفى ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين فليأت ببرهان مبين فما كل من قال يسمع ولا كل من ترأس يتبع
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائهم والعجب من علماء أعلام ومحققين فخام كيف غفلوا عما قلناه وناموا عما حققناه ولا أظنك في مرية منه وإن قل ناقلوه وكثر منكروه وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله وأما رابعا فلأن إجراء الإستعارة التمثيلية هنا مع أنه تكلف لا سيما على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرا نوع من سوء الأدب إذ لا يقال أن لله تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى فهل هذا إلا تصرف في حق الله تعالى بما لم يأذن به الله ومثل هذا ايضا مكنى في المكنية وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك وأما خامسا فلأن وجه تشبيه الإحسان في إحتمال الإستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح لأنه لا ينتفع بها نفسها وإنما الإنتفاع بآثارها وكم من رق قلبه على شخص حتى ارق له لم ينفعه بشيء ولا أعانه بحي ولا لي
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان ولا كذلك الإنتفاع بالإحسان وأما الإرداة فهي إن قلنا بصحة إرادتها هنا لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى بل أنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو أرادته فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازا مرسلا عن أحد الأمرين وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى كيفما كان الفرض لا نجزم بالسببية والمسببية أيضا وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي والفرق مثل الصبح ظاهر والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك فتأمل في هذا المقام فقد غفل عنه أقوام بعد اقوام وأما سادسا فلأن كون الرحمن أبلغ من الرحيم غير مسلم وإن قال الراغب أن فعيلا لمن كثر منه الفعل وفعلان لمن كثر منه وتكرر حتى قيل الرحيم أبلغ لتأخره وقول إبن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسئل غضب وقيل هما سواء لظاهر الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وإليه ذهب الجويني وقرره بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر وفعيل لمن ثبت منه الفعل ودام وفرق بعضهم بينهما بأن الرحمن دال على الصفة القائمة به تعالى والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للصفة فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما إنه بهم رؤوف رحيم ولم يجيء قط رحمن فإنه يستشعر منه إن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وما ذكر من قولهم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى قاعدة أغلبية أسسها إبن جني فلعلها لا تثبت مع بسم الله الرحمن الرحيم وقد نقضت بحذر فإنه أبلغ من حاذر مع زيادة حروفه فإن أجيب بأنها أكثرية فيأمر حبا بالوفاق وإن أجيب بأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب آخر كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم فجاز أن حاذرا أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وإن لم يدل على ثبوته ولزومه فهو على ما فيه لا يصفو على كدر لأنهم صرحوا بأنه قد كثر إستعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران فيقتضي أنه أبلغ ولو من وجه أولا فسواء وإن أجيب بأن القاعدة فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الإشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان وصد وصديان ورحيم ورحمن لا كحذر وحاذر للإختلاف فإن أحدهما أسم فاعل والآخر صفة مشبهة فيقال قد صرح إبن الحاجب بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من أسم الفاعل فهما متحدان نوعا أيضا فيحصل الإنتقاض البتة ثم أنهم أستشكلوا الأبلغية
(1/61)

بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص وصفاته تعالى منزهة عن ذلك لإستلزامه التغير المستلزم للحدوث وأجيب بأن المراد الأكثرية في التعلقات والمتعلقات لا في الصفة نفسها وهذا إذا كانت صفة ذات وإن كانت صفة فعل فلا إشكال على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول
وأما سابعا فلأن قولهم فعلى الأول قيل يارحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا بإعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه ورحيم الآخرة إذ النعم الأخروية غير متناهية وإن خصت المؤمن وإن أرادوا أنها بإعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية بإعتبار إقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا فهذا الوجه مخدوش على الحالين على أن في إختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وروى تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه فليس ذلك رحمة في حقهم والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها فليس رحمة من كل الوجوه ليس بشيء أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له وحبذا الولد من أين جاء وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذاك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا كما قد قيل به لقوه تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وقوله تعالى ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة وما يكون له في الآخرة فوراء كل عذاب شديد وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر وكل أهل النار يتمنى التخفيف وقال الذين في انار لخزنة جهنم أدعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب وحنانيك بعض الشر أهون من بعض وأما ثامنا فلأن قولهم وعلى الثاني قيل يارحمن الدنيا والآخرة إلخ فيه بعض شيء وهو أنه يصح أن يكون بالإعتبار الأول لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا ولا يلزم ذلك على إعتبار الكيفية إذ المراد ياموليا لجسام النعم في الدارين ولما دونها في الدنيا وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الأسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول وخصوص الثاني ويحصل في ضمنه الإهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمريد شكره إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف والمعروف المرفوع رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء كما لا يخفى وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود وذكر إبن هشام أنه غير متجه لأن هذا خارج عن كلام العرب إذ لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل فهو بدل لا نعت والرحيم نعت له لا نعت لأسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئة كثيرا غير تابع نحو الرحمن على العرش أستوى الرحمن علم القرآن قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن وإذا قيل لهم أسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن وقال إبن خروف هو صفة غالبة ولم يقع تابعا إلا لله تعالى
(1/62)

في البسملة والحمد له ولذا حكم عليه بغلبة الأسمية وقل إستعماله منكرا ومضافا فوجب كونه بدلا لا صفة لكون لفظة الله أعرف المعارف وقال غير واحد : أنهما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفه ولو عكست صح وكان المعنى بحاله ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في المثل السائر وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثيرا وأدعى العلامة المدقق في الكشف أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه ولا يجوز غيره لأن الله أسم للذات الألهية بإعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية والرحمن أسم له بإعتبار إفاضة الرحمة العامة أعنى الوجود على الممكنات والرحيم أسم له بإعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة وهي الوجود الخاص وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع ذوقا وشهودا عقلا ووجودا وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا إنتهى ويؤيد بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار والبعض الآخر في القلب منه شيء لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام والرحيم بالكلمات تحكم غير مرضي وربما ينافي المأثور على انه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل ألا تخصيص كل ممكن بحصة منه وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الأفرادية فتخصيص الإفاضة بالرحمن والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق والعجب ممن فاته ذلك وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا كما زعموا وبالغلبة فكيف يقال أن إستعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف لوروده لغيره ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الإستعمال نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا وإن جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبذلك صرح العز بن عبدالسلام وقيل إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة والمراد لا زلت ذا رحمة وفيه ما لا يخفى وأفهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى وهو المعروف لكن أخرج إبن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال : الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف فأفهم وأما الحادي عشر فلأن المحافظة على رؤوس الآي إنما تحسنكما قال الزمخشريبعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم وإلتئامه فأما أن تهمل المعاني ويهتم للتحسين وحده فليس من قبيل البلاغة
وقال الشيخ عبدالقاهر : اصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كسورة الرحمن وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل فروعي فيها ذلك ثم أطرد في غيرها وعلى أن البسملة آية من السورة ودون ذلك سور من حديد وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى : بالمؤمنين رؤوف رحيم وبه عليه السلام كمال الوجود وبالرحيم تمت البسملة وبتمامها تم العالم خلفا وإبداعا وكان
(1/63)

صلى الله تعالى عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا فبه بدء الوجود باطنا وبه ختم المقام ظاهرا في عالم التخطيط فقال لا رسو بعدي فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة و السلام وبسم الله هو أبونا آدم عليه السلام وأعني في مقام إبتداء الأمر ونهايته وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء قال تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام لك ذات العلوم من عالم الغيب ومنها لآدم الأسماء وهي الكلم قال صلى الله تعالى عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم ومن أثنى على نفسه أمكن وأتم ممن أثنى عليه كيحيى وعيسى عليهما السلام ومن حصل له الذات فالأسماء تحت حكمه وليس كل من حصل إسما يكون المسمى محصلا عنده ولهذا فضلت الصحابة علينا رضوان الله تعالى عليهم فإنهم حصلوا الذات وحصلنا الأسماء ولما رأعينا الأسم مراعاتهم الذات ضوعف لنا الأجر فللعامل منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة لا من أعيانهم بل من أمثالهم والحسرة الغيبة التي لم تكن لهم فكان تضعيف على تضعيف فنحن الأخوان وهم الأصحاب وهو صلى الله تعالى عليه وسلم إلينا بالأشواق وما أفرحه بلقاء واحد منا وكيف لا يفرح وقد ورد عليه من كان بالأشواق إليه وأيضا وجدنا بين الله والرحمن من المناسبة ما ليس بينه وبين الرحيم فلهذا قدم الرحمن على الرحيم بيان ذلك أما أولا فلإقتران الرحمن بالجلالة في قوله تعالى : قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقد يشعر هذا الإقتران بجعلهما للذات ولذلك أختار من أختار البدل على النعت وجعلوه إشارة إلى مقام الجمع المرموز إليه بما صح عند القوم من طريق الكشف أن الله تعالى خلق آدم على صورته والرحيم ليس كذلك وأما ثانيا فلأن في الله وفي الرحمن ألفين ألف الذات وألف العلم والأولى في كل خفية والثانية ظاهرة وإنما خفيت الأولى في الأول لرفع الإلتباس في الخط بين الله والإله وفي الثاني على ما عليه أهل الله في رسمه وهو أحد الرسمين عند أهل الرسوم لدلالة الصفات عليهما دلالة ضرورية من حيث قيام الصفة بالموصوف فخفيت الذات وتجلت للعالم الصفات فلم يعرفوا من الإله غيرها والجهل هنا كمال وذلك حقيقة العبودية
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وأرحم حشا بلظى هواك تسعرا فالرحمن مشير إلى الذات وسائر الصفات فالألف الظاهرة واللام والراء إشارة إلى العلم والإرادة والقدرة والحاء والميم والنون إشارة إلى الكلام والسمع والبصر وشرط هذه الصفات الحياة ولايتحقق المشروط بدون الشرط فظهرت الصفات السبع بأسرها وخفيت الذات كما ترى وأدعى بعض العرفين أن الألف الخفية هنا ظهرت من حيث الجزئية من هذا اللفظ في الشيطان بناء على أخذه من شطن وزيادة الألف فيه للإشارة إلى عموم الرحمة الرحمن على العرش أستوى فللشيطان أيضا حصة منها ومنها وجوده وبقى سر لا يمكن كشفه ولا كذلك الرحيم إذ ليس فيه إلا ألف العلم ولما كان هذا الأسم مشيرا إلى سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بإعتبار رتبته ظهرت فيه لكونه المرسل إلى الناس كافة فطلب التأييد فأعطيها فظهر بها وأما ثالثا فقد طال النزاع في تحقيق لفظ الرحمن كما طال في تحقيق لفظ الله حتى توهم أنه ليس بعربي لنفور العرب منه فإنهم لما قيل لهم أعبدواالله لم يقولوا وما الله ولما قيل لهم أسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ولعل سبب ذلك توهمهم التعدد وأنهم خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليهم من جنسهم فأنكروه لذلك لا لأنه ليس بعربي وأختلف أيضا في الصرف وعدمه قال إبن الحاجب : النون والألف إذا كانا في اسم
(1/64)

فشرطه العلمية وفي صفة فإنتفاء فعلانة وقيل وجود فعلى ومن ثمة أختلف في رحمن دون سكران وندمان وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة أهو قال في التسهيل وأختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن حذفه راى أنه ضعف داعى منعه والأصل الصرف وأختار الزمشخري والشيخ الرضي وإبن مالك وأستظهره البيضاوي عدم الصرف إلحاقا له بما هو أغلب في بابه لأن الغالب في فعلان صفة فعلى حتى ذكر الإمام السيوطي أن ما مؤنثه فعلانة لم يجيء إلا أربعة عشر لفظا بل إن فعلان صفة من فعل بالكسر لم يجيء منه ما مؤنثه فعلانة أصلا إلا ما رواه المرزوقي من خشيان وخشيانة وإنما اقتضى الإلحاق أظهرية ذلك مع أن كون الأصل في الأسم الصرف يقتضي خلافه لأن رعاية ما هو الغالب في النوع أولى من رعاية الأصل والحشر مع الجماعة عيد ولما رأى السعد أن هذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب ولم يترجح عنده أحدهما مال إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين والأعمال في الجملة أولى من الأهمال بالكلية وحيث لم يسمع هذا الأسم إلا مضافا أو معرفا بأل أو منادى وما ورد شاذا كما في البيت لا يصلح شاهدا لأحد الأمرين لإحتمال أن يكون ممنوعا وألفه للإطلاق عدلوا إلى الإستدلال وأتسعت دائرة المقال والرحيم سليم من هذا فأفهم ذاك والله يتولى هداك وإنما جعل الله البسملة مبدأ كلامه لوجهين أما الأول فلأنها إجمال ما بعدها وهي آية عظيمة ونعمة للعارف جسيمة لا نهاية لفوائدها ولا غاية لقيمة فوائدها والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها أحتاج إلى باع طويل في العلوم وإطلاع عريض في المنطوق والمفهوم مثلا إذا أراد أن يبحث عن الباء من حيث أنها حرف جر بل عن سائر كلماتها من حيث الإعراب والبناء أحتاج إل ىعلم النحو وإذا أراد أن يبحث عنأصول كلماتها كيف كانت وكيف آلت أحتاج إلى علمي الصرف والإشتقاق وإن أراد أن يبحث عن نحو القصر بأقسامه وهل يوجد فيها شيء منه أحتاج إلى علم المعاني وإن أراد أن يبحث عما فيها من الحقيقة والمجاز أحتاج إلى علم البيان وإن أراد أن يبحث عما بين كلماتها من المحسنات اللفظية أحتاج إل ىعلم البديع وإن أراد أن يبحث عنها من حيث أنها شعر أو نثر موزون أو غير موزون مثلا أحتاج إلى علمي العروض والقوافي وإن أراد أن يعرف مدلولات الألفاظ لغة أحتاج إلى مراجعة اللغة وإن أراد أن يعرف من أي الأقسام وضع هاتيك الألفاظ أحتاج إل ىعلم الوضع وإن أراد معرفة ما في رسمها أحتاج إلى علم الخط وإن أراد البحث عن كونها قضية ومن أي قسم من أقسامها أو غير قضية أحتاج إلى علم المنطق وإن أراد أن يعرف أن كنه ما فيها من الأسماء هل يعلم أولا أحتاج إلى علم الكلام وإن أراد معرفة حكم الإبتداء بها وهل يختلف بإختلاف المبدوء به أحتاج إلى علم الفقه وإن أراد معرفة أن ما فيها ظاهر أو نص مثلا أحتاج إل ىعلم الأصول وإن أراد معرفة تواترها أحتاج إلى علم المصطلح وإن أراد معرفة أنها من أي مقولة من الأعراض أحتاج إلى علم الحكمة وإن أراد معرفة طبائع حروفها أحتاج إلى علم الحرف وإن أراد معرفة أنواع الرحمة المشار إليها بها أحتاج إلى علم الأفلاك وعلم تشريح الأعضاء وخواص الأشياء وعلم المساحة وغير ذلك وإن أراد معرفة ما يمكن التخلق به مما تدل عليه الأسماء أحتاج إلى علم الأخلاق وإن أراد معرفة ما خفى على أرباب الرسوم من الإشارات فليضرع إلى ربه وإن أراد أن يقف على جميع ما فيها من الأسرار فليعد غير المتناهي وكيف يطمع في ذلك وهي عنوان كلام الله تعالى المجيد وخال وجنة القرآن الذي لا يأتيه الباطل
(1/65)

من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وعلى تفن وأصفيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل سر إفتتاحها وإختتامها بحرفين شفويين ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول وآخر الآخر وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث أما أولا ففي مخارج الحروف فإنها ثلاثة الشفة واللسان والحلق في الباء واللام والهام وأما ثانيا ففي المحذوف من حروفها فإنها ثلاثة أيضا ألف الأسم وألف الله وألف الرحمن وأما ثالثا ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضا منطوق به مرسوم كالباء ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلا وأما رابعا ففي المتحرك والساكن فتحرك لا يسكن كالباء وساكن لا يتحرك كالألف وقابل لهما كميم الرحيم وقفا ووصلا وأما خامسا ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي أسم وفعل وحرف وأما سادسا ففي أنواع الجر الذي فيها فهو جر بحرف وبإضافة وبتبعية على المشهور وأما سابعا ففي الأسماء الحسنى التي دبجتها فهي الله والرحمن والرحيم وأما ثامنا ففي العاملية والمعولية فكلمة عاملة غير معمولة ومعمولة غير عاملة وعاملة معمولة وأما تاسعا ففي الإتصال والإنفصال فمتصل بما بعده فقط وبما قبله فقط وبما بعده وقبله وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار وتبهر أولى الأبصار وأنظر لم أشتملت حروفها على الطبائع الأربع وتقدم في الظهور الهواء ولم كانت تسعة عشر ولم أعتنق اللام الألف وأتصلت الميم باللام والهاء بالراء والنون بها نطقا لا خطا ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلا وتفكر في سر تربيع الألفاظ وسكون السين وتحرك الميم ونقطتي الياء ونقطة النون والباء والأمر وراءها يظنه أرباب الرسوم ونهاية ما ذكروه البحث عن المدلولات وتوسيع دائرة المقال بإبداء الإحتمالات وقد صرح السرميني بإبداء خمسة آلاف ألف وثلثمائة ألف وأحد وتسعين ألفا وثلثمائة وستين إحتمالا وزدت عليه من فضل الله تعالى حين سئلت عن ذلك بما يقرب أن يكون بمقدار ضرب هذا العدد بنفسه والدائرة أوسع إلا أن الواقع البعض ولقد خلوت ليلة بليلى هذه الكلمة وأوقدت مصباح ذلي في مشكاة حضرتها المكرمة وفرشت لها سرى وضممتها سحرا إلى سحري ونحري فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر وأما الوجه الثاني فلتعليم العباد إذا بدءوا بأمر كيف يبدءون به ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه الحافظ عبدالقادر الرهاوي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر والبال الحال والشأن فمعنى ذي بال شريف يحتفل به ويهتم كأنه شغل القلب وملكه حتى صار صاحبه وقيل شبه الأمر العظيم بذي قلب على سبيل الإستعارة المكنية والتخييلية وفي هذا الوصف فائدتان إحداهما رعاية تعظيم أسم الله تعالى لأن يبتديء به في الأمور المعتد بها والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور كذا قالوه وعندي أن الأظهر جعل الوصف للتعميم كما في قوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه أي كل أمر يخطر بالبال جليلا كان أو حقيرا لا يبدأ به إلخ وفي هذا غاية لعظمة الله تعالى وحث على التبري عن الحول والقوة إلا بالله وإشارة إلى أن قدر العباد غير مستقلة في الأفعال فحمل تبنة كحمل جبل إن لم يعن الله الملك المتعال وقد أمر سبحانه وتعالى بالإكثار من ذكره فقال تعالى : فأذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا
(1/66)

وحيث لم يجب ذلك كما هو معلوم يحصل للناس تيسير وقد سن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعض الأشياء ونفي الحرج نفي وجوبها في قوله عليه الصلاة و السلام ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شثع نعله وما روى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام ياموسى سلني حتى ملح قدرك وشراك نعلك ما يدفع عنك توهم عدم رعاية التعظيم في ذكره تعالى عند محقرات الأمور وأي فرق عند المنصف بين ذكره سبحانه عندها وطلبها منه على أن العارف الجليل لا يقع بصره على شيء حقير ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير نعم التسمية على الحرام والمكروه مما لا ينبغي بل هي حرام في الحرام لا كفر على الصحيح مكروهة في المكروه وقيل مكروهة فيهما إن لم يقصد إستخفافا وإن قصده والعياذ بالله تعالى كفر مطلقا وهذا لا يضر فيما قلناه كما لا يخفى وقد أضطرب الحديث هنا فوقع في بعض الروايات لا يبدأ فيه بالحمد لله وفي بعضها بحمد الله وفي البعض أجذم وفي أخرى أقطع وفي خبر كل كلام وفي أثر يبدأ وفي آخر يفتتح وفي موضع وضع الذكر بدل الحمد إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع حتى قيل إنه مضطرب سندا ومتنا ولولا أنه في فضائل الأعمال ما أغتفر فيه ذلك على أنه تقوى بالمتابعة معنى أيضا والشهرة في دفع التعارض بين الروايات تغنى عن التعرض للإستيفاء وأستحسن فيه أن روايتي البسملة والحمد له تعارضتا فسقط قيداهما كما في مسألة التسبيع في الغسلات عند الشافعي ورجع للمعنى الأعم وهو إطلاق الذكر المراد منه إظهار صفة الكمال وقيل أن المراد في كل رواية الإبتداء بأحدهما أو بما يقوم مقامه ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة وأخرى بالحمد له وطورا بغيرهما ولا يرد على كل أنا نرى كثيرا من الأمور يبدأ فيه بما ورد في الحديث مع أنه لا يتم ونرى كثيرا منها بالعكس لأنا نقول المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع فهو غير تام معنى وإن كان تاما حسا فبإسم الله تتم معاني الأشياء ومن مشكاة بسم الله الرحمن الرحيم تشرق على صفحات الأكوان أنوار البهاء ولو جليت سرا على أكمه غدا بصيرا ومن راووقها تسمع الصم ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها وفي الركب ملسوع لما ضره السم ولو رسم الراقي حروف أسمها على جبين مصاب جن أبرأه الرسم وفوق لواء الجيش لو رقم أسمها لا سكر من تحت اللوا ذلك الرقم ولما أفتتح سبحانه وتعالى كتابه بالبسملة وهي نوع من الحمد ناسب أن يردفها بالحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال فقال جل شأنه : الحمد لله رب العالمين وهو أول الفاتحة وآخر الدعوات الخاتمة كما قال تعالى وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين كان الحب دائرة بقلبي فأوله وآخره سواء وقد قيل للجنيد قدس سره ما النهاية فقال الرجوع إلى البداية وفيه أسرار شتى والحمد على المشهور هو الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل قالوا ولا بد لتحققه من خمسة أمور محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على إتصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر أتصاف الشيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال ولو إعاء إذ المناط التعظيم ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتيا أو سلبيا متعديا أو غير متعد بل ولا بين كونه صادرا عن المحمود بإختياره أولا كما قرره العلامة الدوراني وصدر الأفاضل في حواشي التجريد
(1/67)

والمطالع وجزم به المحقق الملا خسروا وأدعى أنه ألأشهر إلا أن العلامة في شرح التهذيب نقل عن عن البعض وجوب كونه إختياريا وأختاره كما في المحمود عليه فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القد وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما وعدم حمد اللؤلؤة كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه يمكن كونه من جهة المحمود فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما أتصف به أظهر كماله ولولاه لم يتحقق ذلك فهو كالعلة الباعثة وقد يكون الشيء الواحد محمودا به وعليه معا كأن رأى منينعم أو يصلي فأظهر إتصافه بذلك فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين ويجب أن يكون كمالا على نحو ما سبق وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود أو كيفية قائمة به ويفهم كلام الإمام إختيار الأول وأشترط أن يكون حصوله من المحمود بإختياره وأستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الإختياري لكون ذاته كافية فيها أو بأن المراد بالفعل الإختياري المنسوب إلى الفاعل المختار سواء كان مختارا فيه أولا وقيل أنها صادرة بالإختيار بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك أو بمعناه والصفات صادرة بالإختيار وسبقه عليها ذاتي فلا يلزم حدوثها وقيل أنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه إختياري كما قيل في قيد اللسان وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الإختيارية كون فاعلها مستقلا في إيجادها من غير إحتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها ليظهر إستقامة التنزيل وليس كذلك فإن العمل الإختياري يحتاج إلى العلم والقدرة والكثير إلى آلة وأسباب وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر وعلى الثالث أن هذا المعنى أدعاه الحكماء حين قالوا بقدم العالم للإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة وقالوا إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدم الثانية دائم اللا وقوع ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة وهو صرح ممرد من قوارير لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه وإن أريد مع إمتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها لا محيص عن حدوثه والعالم عندهم قديم وإختيار الشق الأول ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا كذلك بل ممكن بذاته والقدم زماني لا ذاتي وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه إنما يظهر في العالم ويبقى ما نحن فيه من الصفات ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لإحتياجها للذات وإستنادها إليها وعلى الرابع أن أتصاف الصفات بالصدور لو أنشرحت لتوجيهه الصدور يبقى الإشكال في صفة القدرة ولا قدرة لدعوى صدورها بالإختيار وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه فلا حسم وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن تشرك مع صفة البشر في جنس وأين الأزلي من الزائل ! على أنه على ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون إختياريا لأنه الباعث على الحمد وأي مانع من أن لا يكون كذلك ومن ذلك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وعند الصباح يحمى القوم السري وجاورته فما حمدت جواره
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم والحق الحقيقي بالإتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الإختيارية والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الإختيارية أو عرفي ولا ضرر في تعلقه بها وما ذكر من الأمثلة ونحوها فالحمد فيها مجاز عن الرضا ويقال في الآية زيادة عليه أن محمودا حال من الضمير المنصوب أو نعت لمقاما والمعنى محمودا فيه
(1/68)

النبي لشفاعته أو لله تعالى لتفضله عليه بالأذن وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه والثالث وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا كما حققه الصدر نعم لا يلزم إعتقاد إتصاف المحمود بالجميل عند المحققين بل الشرط عدم إقترانه ثبوت تحقير فيدخل الوصف بما قطع بإنتفائه ولا يناقضه كما قال الدواني توجيه الشريف إشتراط التعظيمين بأنه إذا عرى عن مطابقة الإعتقاد لم يكن حمدا بل سخرية لأنه أراد بالإعتقاد لازمه وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائيا ولا معنى لمطابقة الإعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الإعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته إذ المتبادر منها الإتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه ولذا لا يوجد إلا في القضايا ولذا لا تسمع أحدا يقول أن التصور يطابقه بل لو قال قائل أن مفهوم أضرب يطابق الإعتقاد ضرب عنه صفحا وربما نسب لما يكره وحمل المطابقة على هذا أقرب من إلتزام أتصاف التصورات بالمطابقة واللامطابقة إذ ليس فيه سوى ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الإعتقاد بهذا المعنى فيقولون فلان له إعتقاد في فلان ويريدون ما أردنا ولا بعد فيه لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الإنتفاء إذا كان كذلك مدحا وحمدا كما في كثير من القصائد وأما الجواب بأن الواصف يعتقد الإتصاف وبأن المراد معان مجازية وإتصاف المنعوت بها معتقد فيرده أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملا في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا كلام نشأ من ضيق الصدر إذ لا يلزم من عدم إعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملا فيه فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله : العبد خالق لإفعاله مستعمل في حقيقته غير معتقد بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه المنع فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما كالتغليظ أو التنكيت أو الإمتحان أو للتخيل كما في كثير من القضايا حتى قال بعض المحققين : لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا وفيه تأمل الرابع المحمود وقد علمت ما يشترط فيه
الخامس وهو ذكر ما يدل على إتصاف المحمود بالمحمودية وقد اشتهر تقييده باللسان وأريد به جارحة النطق ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية أو خلق النطق في بعض جوارحه فأثنى بهكما شوهد في مقطوع جميع اللسان فهو حمد وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا وقد قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلا فذهب الأكثر إلى أنه إخبار بإستحقاق الحمد وأمر به أو مقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد ومال السيد إلى الأخير وقال الدواني كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا أو هو قيد غالبي يسوغ الإستعمال فيه واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام ويشتهر في بعض مخصوص بحيث يصير فيه حقيقة عرفية وسبب الإشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة وإما عدم الإطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ولم يطلع على إطلاقة على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصومه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن ثم من لم يطلع إلا على ماله لسان
(1/69)

وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ والأمر في المشتقات لا يكاد يخفي على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الإشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع إستعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الأسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأموره
أحدها أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الإختياري لذوي العلم والمدح يكون في الإختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفتها وثانيها وثالثها أن الحمد يشترط صدوره عن علم لأظن وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما
ورابعها أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على الله تعالى وخامسها أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا وسادسها أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر من لم يحمد الناس لم يحمد الله والمدح ليس كذلك أحثوا في وجوه المداحين التراب ويشعر كلام الزمخشري في الكشاف والفائق بترادفهما ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعنى الذم نقيضا للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالإختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه وإحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما إشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا بنفي ما قلناه بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ولا تستفزك هذه الإحتمالات لأنها كسراب بقيعة نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الإختياري وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح لله كما قالوا إظهارا لأن الله تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ مالا يخفى وأما الشكر فهو ايضا مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول وبعض جعله على النعم الظاهرة والآخر على النعم الباطنة وأدعى آخرون إختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان وعملا وخدمة بالأركان وإعتقادا ومحبة بالجنان وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى أعملوا آل داؤد شكرا وروى الطبراني عن النواس بن سمعان أن ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها الله تعالى علي لأشكرن ربي فلما ردت قال الحمد للله فأنتظروا هل يحدث صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى فقالوا له : فقال ألم
(1/70)

أقل الحمد لله ! فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا وهو شكر الله تعالى بالله فلا يشكره حق شكره إلا هو ذكره صاحب التجريد وأنشد وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة وبالقول أخرى ثم بالعمل الأثنى وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي ولا بلساني بل به شكرنا عنا والذي أطبق عليه التثليث وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه والحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفر أنها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم لأن الإعتقاد أمر خفي في نفسه وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به وكم فرق بين حمدت الله وشكرته ومجدته وعظمته وبين أفعال العبادة وهي كلها موافقة للعادة ولسان الحال أنطق من لسان المقال أمر أدعائي كما هو المعروف في أمثاله ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه إبن عمر رضي الله تعالى عنهما الحمد رأس الشكر ما شكر الله تعالى عبد لا يحمده وهو وإن كان فيه إنقطاع إلا أن له شاهدا يتقوى به ؤإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع واشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى الله تعالى عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية ويمكن أن يقال إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالإبتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام والشكر بالعكس مورد أو متعلقا ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على دوي الكثرة خفية وإلى الله ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على الحميد إذ يقال سبحان الله والحمد لله على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاحة نفسه عن حاجة غيره وإن أبيتولا أظن قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحا لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها والثبوتية على ما سلف فهو أعلم منه بذلك الإعتبار فأفتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه : وأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على نفض الدخال
(1/71)

وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والإستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الإفهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام فقيل : إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم فلا يصح تخصيص المحاد كلها به تعالى ورد بأن إختصاص الجنس يستلزم إختصاص أفراده أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بأقدار الله تعالى وتمكينه فبهذا الإعتبار يرجع الأمر إليه كله وأما حمد غيره فإعتداد بأن النعمة جرت على يده وقيل أنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الإستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محاده كالعدم فلا فرق بين إختصاص الجنس والإستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه ودفعهما بالعناية وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعدو دلالتها عن الحقيقة إلى الإستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الإستغراق بمعونة القرائن وقيل إنما أختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه الإستغراق وهو الشائع هناك مطلقا وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والإستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما فقرينة الإستغراق كنار على علم فالحق أن سبب الإختيار هو أن إختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لإختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وإنتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية بل نقول على ما أختاره يكون إختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته إبتداء وفيه أن فهم إختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته وهو معنى التبادر وقد رده وأيضا إذا كان الإختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه فأين النار وأين العلم ! وقيل غير ذلك ولا يبعد أن يقال أن إختيار الزمخشري كون التعريف للجنس وكون القول بالإستغراق وهم لا يبعد أن يكون رعاية لنزعة إعتزالية وأن يكون لنكتة عربية لإنه جعل أصل المعنى نحمد الله حمدا وزعم أن إياك نعبد وإياك نستعين بيان لحمدهم كأنه قيل كيف تحمدوني فقيل إياك نعبد ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك أنه لما كان معناه نحمد الله حمدا كان إخبارا عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى على أن المصدر للعدد فاتجه أن يقال كيف تحمدونه أي بينوا كيفية حمدكم فإنها غير معلومة فبين بقوله تعالى إياك نعبد إلخ أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد فورد السؤال عن التعريف لأن المناسب للإبهام ثم البيان التنكير وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين ولذا بين وقيل لما كان المعنى نحمد حمدا كان المصدر للتأكيد فيكون دالا على الحقيقة من غير دلالة على الفردية والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك الحقيقة والجواب أنا نحمد حمدا مقارنا لفعل الجوارح وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول ثم أورد بانه لإفادة هذا المصدر المنكر فما فائدة التعريف فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب من حيث هي وعلى هذين التوجيهين يكون إختياره الجنس ومنعه الإستغراق لرعاية مذهبه والإختصاص على الأول إختصاص الفرد وعلى الثاني إختصاص الجنس بإعتبار الكمال ولا يخفى سقوط إعتراض السعد حينئذ بأن الإختصاصين متلازمان وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهرا موافق له وتأويلا فلا يكون رعاية المذهب موجبا لإختيار الجنس دون الإستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس بإعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الإستغراق بإعتبار تنزيل محاد غيره منزلة العدم لأن فيه تطويل المسافة والإلتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة وقيل حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك
(1/72)

الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره لأن إنضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح والإستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك وتقدير السؤال والجواب بحاله وحينئذ لا يصح أن يكون الإختيار للرعاية لأن الإختصاصين متلازمان بل لأن الحمد مصدر ساد مسد الفعل وهو لا يدل إلا على الحقيقة فكذا ما ينوب منابه وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد والحمل على الإستغراق يبطل النيابة إذ يصير الكلام مسوقا لبيان العموم ولا يصح البيان وهذا الإختيار مستفاد من جعل إياك نعبد بيانا لحمدهم ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف فظن أنه لذلك لا يكون إلا بيانا وهو من التعكيس لأن جعل الصدر متبوعا للعجز أولى من العكس فالمحققون المحقون على تعميم الحمد وأن الفصل لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب إستحقاقه كل الحمد والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر والأول الآخر فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان ويدل على ذلك أن أحسن الإلتفات أن يكون النقل من أحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد لمعلوم واحد ولا بيان له على البيان على أن جعل إياك نعبد بيانا ربما يناقض ما أدعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان والحمد بالأخير لأن العبادة تكون بها كلها فيلزم أن يكون الحمد كذلك وأيضا الإذهاب إلى فسحة الإلتفات والقول بأن قوله الحمد إلخ وارد على الشكر اللساني وإياك نعبد مشعر بالشكر بالجوارح وإياك نستعين مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان وايضا في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن إستحقاقه له لإتصافه بها وقد تقرر أن في إقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية وههنا الصفات بأسرها تضمنت العموم فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضا لأن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة فالمنعم هو الله تعالى والأسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم والمنعم عليه العالمون وقد أشتمل على كل جنس مما سمى به وموجب النعم الرحمن الرحيم وقد أستوعب ما أستوعب فأذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم أو التوهم هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم الرجل خير من المرأة أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين كما في أدخل السوق أو لها في جميع الأفراد وهو الإستغراق كما في إن الإنسان لفي خسر والقول بأن هذا المقام آب عن الإستغراق لأن إختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من إختصاص أفرادها جمعا وفرادى لإستلزام الأول الثاني وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة وأيضا أصل الكلام نحمد الله تعالى حمدا وحمدنا بعض لا كل وفي إختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد لله تعالى على الحقيقة لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا فهو فعله على الحقيقة والحمد على الفعل الجميل والمعتزلي وإن قال بالإستقلال لا يمنع أن الأقدار والتمكين منه تعالى فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضى له وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن فقال في قوله تعالى : له الملك وله الحمد قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى إختصاص الملك والحمد بالله تعالى ثم قال وأما حمد غيره فإعتداد بأن نعمة الله تعالى جرت على يده وقد يقال أيضا على أصله أن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أكمل أنواعها فهو من باب ذلك الكتاب وحاتم الجود لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة حتى كأنه كلها لا لأنها للإستغراق في المقام الخطابي وتنزيل غير ذلك منزلة العدم فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله وإن جل قائله ويعرف الرجال بالحق لا ألحق
(1/73)

بالرجال كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانيا فهي أكثر تأثيرا في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فالتحرز عن الإستغراق إحترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقريء كلام الله تعالى ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروافدها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين إستغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين إختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لإنعمامه فله حمد يليق بإيجاده ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به وعز شأنه لا ذاك وفي الكشاف ما يؤيد ما قلناه لمن أمعن النظر وأما حديث إن إختصاص حقيقة الحمد أبلغ من إختصاص الأفراد لاستلزم الأول الثاني فيجاب عنه بأن إختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لإختصاص الحقيقة ايضا إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد فالإستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني : فإذا خصص جميع أفراد الحمد به أختص حقيقته أيضا وكون الأصل نحمد الله تعالى حمدا ليس بقاطع إحتمال الإستغراق الآن فقد تغير الحال وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الأشكال ولست أقول أن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الأنعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة وإستمرار الملك هنا تقتضي إستغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصا على إلتئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة فإن المعلومات مفقودة فيها ومن الغريب أن بعضهم جعلها للعهد قال الفاكهي : سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول لإبن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية فقال ياسيدي قالوا إنها جنسية فقلت له الذي أقول إنها عهدية وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمده فقال أشهدك أنها للعهد وأستأنس له بما صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من قوله اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله و ألا له الخلق والأمر فهو الحامد والمحمود والجميع شئونه ولهم كلام غير هذا والكل يسقى بماء واحد وعن إمامنا الماتريدي روح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به ثم أن الحمد فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره لله وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي الحمد لله بإتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس وجاز ذلك إستعمالا لامع أن الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة إستعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة وأختلف في الترجيح مع الأجماع على الشذوذ فقيل قراءة إبراهيم أسهل لأمرين أحدهما أن إتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب وثانيهما أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الأعراب أقوى من حرمة البناء
(1/74)

والمطرد غلبة الأقوى الأضعف وقيل أن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعا لأن ما مضى فات ولأن جعل غير اللازم تابعا للازم أولى والإستقامة عين الكرامة وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري : وأشف القراءتين قراءة إبراهيم فعبر بأشف وهو من الأضداد وقرأ هارون بن موسى الحمد لله بالنصب وعامة بني تميم وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام وهو بفعل محذوف قدروه نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب لنعبد ونستعين لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضى لغاية التذلل والخضوع ويجوز أن يكون من باب وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو وحمل الغزالي قدس سره حديث صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة على ذلك وأرفع آت قراءة الرفع لدلالة الجملة الأسمية على الثبوت والدوام بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجدد والحدوث وإن كان هناك ظرف فإن قدر متعلقه إسما فهو ظاهر وإلا فقد قيل الخبر الفعلي إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرحا به على أنه قيل لا تقدير وما ذكره النحاة لأمر صناعي إقتضاه كقولهم الظرفية إختصار الفعلية وقيل أن الجملة الأسمية بمجردها لا تدل على ذلك بل مع إنضمام العدول وإن أعجبك فألتزمه فقد قيل بالعدول هنا ولكن ليس هذا في كلام الشيخ عبدالقاهر بل من تدبر كلامه في بحث الحال من الدلائل دفع بأقوى دليل الحال الذي عرض للناظرين وقولهم المضارع يفيد الأستمرار أرادوا به الأستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة فلا ينافي ما قلنا وأختار الجملة الأسمية ههنا إجابة لداعي المقام وقد قال غير واحد أن أصل هذا المصدر النصب لأن المصادر إحداث متعلقة بمحالها فيقتضى أن تدل على نسبتها إليها والأصل في بيان النسبة في المتعلقات الأفعال فينبغي أن تلاحظ معها ويؤيد ذلك كثرة النصب في بعضها وإلتزامه في بعض آخر وقد تنزل منزلة أفعالها فتسد مسدها وتستوفي حقها لفظا ومعنى فيكون ذكرها معها كالشريعة المنسوخة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة
وبقى ههنا أمور الأول أختلف في جملة الحمد هل هي إخبارية أم إنشائية فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من إنتفاء الإتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضررة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود واللازم باطل فالملزوم مثله ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الأخبار بثبوته لأن الأخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى هو عين الحمد كما أن قولك الله واحد عين التوحيد وألف العلامة البخاري في الإنتصار لذلك ورد من زعم أنها إنشائية وأطال فيه وأهتم برده إبن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل لأن اللازم من المقارنة إنتفاء وصف الواصف لا الإتصاف إذ الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها وأيضا المخبر بالحمد
(1/75)

لا يقال له حامد إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخبار وأسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد لله حامد وهو باطل نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فأختلف الحقيقتان فالجملة إنشائية لا محالة وقال الملا خسرو هي وأمثالها إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام وأعترض على إنشائيتها بأن الإستغراق ينافيه ويستلزم كون الحامد منشئا لكل حمد ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره وأجيب بأنه لا منافاة ولا أستلزام ويكفي كونه منشئا للأخبار بأن كل حمد ثابت له ومحمود به والذي أرتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم ويد الله تعالى مع الجماعة والمراد الأخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة والمتكلم بها عن إعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه فيقال له حامد لذلك لا المحض الأخبار بما فيه لفظ الحمد بل إذا غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له ايضا حامد فللحمد صيغ شتى وعبارات كثيرة حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد وقد نقل أن داؤد عليه السلام قال : يارب كيف أشكرك والشكر من آلائك فقال : يا داؤد لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني فما ذكره إبن الهمام أولا من أن المخبر بالحمد لا يقال له حامد إن أراد أن المخبر من حيث أنه مخبر لايقال له ذلك فمسلم والدليل تام لكنا بمعزل عن هذه الدعوى وإن أراد أن المخبر مطلقا ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل كما لايخفى وما ذكره ثانيا من قوله نعم إلخ يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا وما ذكره الملاخسرو ويرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع ولاتظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بحملة إنشائية رأسا معاذ الله ولكني أقول أن الجملة هنا إخبارية وأن الحمد يصح بها بناء على ما ذكرناه والبحث بعد محتاج إلى تحرير ولعل الله تعالى يوفقه لنا في مظانه والظن بالله تعالى حسن
الثاني أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد لله تعالى مع أن حمدهم حادث وهو سبحانه القدير ولا يجوز قيام الحادث به وأجيب بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات فلا يتوجه الأشكال أصلا وقيل أن الحمد مصدر بناء المجهول فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية وصيغة المصدر تحتمل ذلك وغيره ولهذا جعل بعضهم في الحمد لله أوائل الكتب أثنين وأربعين إحتمالا وقيل وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل الله تعالى الثالث أنه أتى بإسم الذات في الحمد له لئلا يتوهم لو أقتصر على الصفة إختصاص إستحقاقه الحمد بوصف دون وصف وذلك لأن اللام على ما قيل للإستحقاق فإذا قيل الحمد لله يفيد إستحقاق الذات له وإذا علق بصفة أفاد إستحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له والإختصاص إفادة التعريف ولكون الإختصاص كذلك حكما باطلا في نفسه جعل متوهما لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الإختصاص لأنه
(1/76)

مستفاد من تعريف المسند إليه ومعنى الإستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحث مستحقا له فإن إستحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمى ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير إعتبار خصوصية صفة أو لدلالة أسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مستندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات وقد قسم بعض ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم الحمد بإعتبار صدوره إلى قسمين فمصدره بإعتبار الفرق من محلين ومنبعه من عينين فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق فتارة يكون على الذات بإنفرادها ووحدتها وغيبتها في عماء هويتها وتارة بكمال إطلاقها في وجودها وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها وتارة بكمال أوصافها ونعوتها وتارة بكمال آثارها وأفعالها وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة وتارة من حيث التفصيل فيثني على العلم من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت وإستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد وتقدسه عن النقص وتنزهه عما يخطر في الوهم وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها ويجب لها وإن وجد من الخلق والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق وتارة على صفاته وتارة على أسمائه ومرة على أفعاله وطورا على أسراره وكرة على لطيف صنعه وخفي حكمته في أفعاله وآثاره وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم ومنتهاهم في العقل والفهم وما قدروا الله حق قدره ولا يحيطون به علما وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وإذا أعتبر الجمع كان الكل منه وإليه وإن إلى ربك المنتهى فلا حامد ولا محمود سواه أورى بسعدي والرباب وزينب وأنت الذي يعني وأنت المؤمل وهناك يرتفع كل إشكال وينقطع كل مقال وإنما قدم الحمد على الأسم الكريم لإقتضاء المقام مزيد إهتمام به لكونه بصدد صدور مدلوله فهو نصب العين وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه والأهمية تقتضي التقديم إلا أن المقتضى العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى وله الحمد في السموات لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء الله تعالى والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبلغ الشيء إلى كماله بحسب إستعداده الأزلي شيئا فشيئا وكأنها من ربا الصغير كعلا إذا أنشأ فعدى بالتضعيف ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل فإنما هي إقبال وإدبار أو لغوى كاسأل القرية وقيل هو صفة مشبهة وفي شرح التسهيل أنه ممنوع والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل أو هو أسم فاعل وأصله راب فحذفت ألفه كما قالوا رجل بار وبر قاله أبو حيان ويؤيده إضافته إلى المفعول وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل ويطلق أيضا على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود والصاحب إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية فلهذا قال بعض المحققين إنه حقيقة فيه لأن التبادر أمارتها وفي البواقي إما مجاز أو مشترك والأول أرجح لأن جميعها يوجد معنى التربية ووجود العلاقة أمارة المجاز ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والإشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مباديء اللغة وحمله الزمخشري هنا على معنى المالك ولعل ما أخترناه خير منه لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون مالك يوم الدين تكرارا لدخوله في رب العالمين وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما ولا تظهر لهذا العبد على أن مختارنا أنسب بالمقام لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى ألمنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار وأستطيب بعضهم ما أختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه والقدر المشترك المتصرف ألزم وسبيل أعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا
(1/77)

أتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه وإذا أختلف سبيل الحقيقة والمجاز وعلى كل حال لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقا مستفيضا إلا مقيدا بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة وقول إبن حلزة في المنذر بن ماء السماء : وهو الرب والشهيد على يوم الخيارين والبلاء بلاء نادر وأستظهر الإمام السيوطي أن المراد نفي إطلاقه على غيره تعالى شرعا والشعر جاهلي وفي كلام الجوهري ما يؤيده وقال الشهاب : لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره تعالى وجوز بعضهم إطلاقه منكرا كما في قول النابغة : نحث إلى النعمان حتى نناله فدى لك من رب طريفي وتالدي وكره بعضهم إطلاقه مقيدا بالإضافة إلى عاقل كرب العبد لإيهام الإشتراك وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لا يقل أحدكم أطعم ربك وضيء ربك ولا يقل أحد ربي وليقل سيدي ومولاي وأجابوا عن قول يوسف عليه السلام أرجع إلى ربك و إنه ربي ونحوه بأنه مثل وخروا له سجدا مخصوص جوازه بزمانه والعالمين في المشهور جمع عالم وأعترض بأنه يعم العقلاء وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وأجيب بكونه جمعا له بعد تخصيصه بهم وهو في حكم الصفات كما سيعلم بتوفيقه تعالى من تعريفه أو نقول بالتغليب وقيل نزل من ليس له العلم لكونه دالا على معنى العلم منزلة من له العلم فجمع بالواو والنون كما في أتينا طائعين ورأيتهم لي ساجدين وقيل هو أسم جمع على وزن السلامة ولا نظير له وفيه نظر لأن الأسم الدال على أكثر من إثنين إن كان موضوعا للآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه إعتبار الفردية فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو أسم جمع سواء كان له واحد كركب أولا كرهط فأنظر أي التعريفات صادقة عليه وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وفيه أنه أبعد بعيد لأنه قياس فيما يعرف بالسماع على أن للعالمين آحادا يسمى كل منها عالما فلا مرية في كونه جمعا له بخلاف عرفات فإنه ليس آحاد كل منها عرفة والعالم كالخاتم أسم لما يعلم به وغلب فيما يعلم به الخالق تعالى شأنه وهو كل ما سواه من الجواهر والأغراض ويطلق على مجموع الأجناس وهو الشائع كما يطلق على واحد منها فصاعدا فكأنه أسم للقدر المشترك وإلا يلزم الإشتراك أو الحقيقة والمجاز والأصل نفيهما ولا يطلق على فرد منها فلا يقال عالم زيد كما يقال عالم الإنسان ولعله ليس إلا بإعتبار الغلبة والإصطلاح وأما بإعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على الله سبحانه وتعالى بمجموع ما سواه وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكب جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عز وهان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان لإمكانه وإفتقاره دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد فيا عجبا كيف يعصي الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وإنما أتى الرب سبحانه بالمع المعرف لأنه لو أفرد وعرف بلام الإستغراق لم يكن نصا فيه لإحتمال العهد بأن يكون إشارة إلى هذا العالم المحسوس لأن العالم وإن كان موضوعا للقدر المشترك إلا أنه شاع إستعماله بمعنى
(1/78)

المجموع كالوجود في الوجود الخارجي وقد غلب إستعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس لألف النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعا لأنه حينئذ لا يكون مستعملا في المجموع حتى يتبادر منه هذا العالم المحسوس فيكون مستعملا في كل جنس إذ لا ثالث فيكون المعنى رب كل جنس سمى بالعالم والتربية للأجناس إنما تتعلق بإعتبار أفرادها فيفيد شمول آحاد الأجناس المخلوقة كلها نظرا إلى الحكم وحديث أن إستغراق المفرد أشمل على ما فيه أمر فرغ عنه ولا ضرر لنا منه كما لا يخفى على المتأمل وبعضهم خص العالمين بذوي العلم من الملائكة والثقلين ورب أشرف الموجودات رب غيرهم قال الإمام الأسيوطي : وعليه هو مشتق من العلم وعلى القول بالعموم من العلامة وفيه أن الكل في كل محتمل والتخصيص دعوى من غير دليل وقيل هم الجن والإنس لقوله تعالى : ليكون للعالمين نذيرا وقيل هم الإنس لقوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين وهو المنقول عن جعفر الصادق والمأخوذ من بحر أهل البيت ورب البيت أدرى ولعل الوجه فيه الإشارة إلى أن الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم الرحماني ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم كرم الله وجهه دواؤك فيك وما تبصر وداؤك منك وما تشعر وتزعم أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر ومن تأمل في ذاته وتفكر في صفاته ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون بل من عرف نفسه فقد عرف ربه والمناسب للمقام هنا العموم والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام وروى في بعض الأخبار أن الله تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش والسموات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلا الله تعالى وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين إلا الله تعالى ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو وما من ذرة من ذرات العوالم إلا وهي حيطة تربيته سبحانه بل ما من شيء مما أحاط به نطاق الأمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض إنقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما أستقر له القرار ولا أطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط بذلك فلك التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شيئ من الممكنات بذاته الوجود إبتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده إبتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطاريء لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبي وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من
(1/79)

الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بإرتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا إستحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على إرتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لايضاهي ومنان لا يحصى كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون وما أحسن قول بعض العارفين أنه تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك ربا بل أربابا غيره وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته وإنما كان الجمع الواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيها على أن العوالم وإن كثرت قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة الله تعالى وكبريائه وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه على أن جمع القلة كثيرا ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فأختر لنفسك ما يحلو وقد اشار سبحانه وتعالى بقوله رب العاليمن إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد وما أشبه ذلك لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوما والقادر مقدورا والمريد مرادا إلى غير ذلك والأسماء التي تحت أسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق إختصاصا تأثيريا فمن القسم الأول العليم مثلا فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الألهي ومنه يقال يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال يعلم غيره ومن القسم الثاني الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال خالق للموجودات ولا يقال خالق لنفسه تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت إسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب وأما الفرق بين الرب والرحمن فهو أن الرحمن عندهم أسم لمرتبة أختصت بجميع الأوصاف العلية الألهية سواء إنفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الإشتراك أو الإختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولا من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات وأما أسمه تعالى الله فهو أسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطى كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان أسمه الله أعلى الأسماء وأعلى من أسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات نفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل الله تعالى تجلى الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته
ومما قررنا يعلم سر كثرة إفتتاح العبد دعاءه يارب يارب مع أنه تعالى ما عين هذا الأسم الكريم في الدعاء ونفي ما سواه بل قال سبحانه قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن وقال ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها وقال أرباب الظاهر الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الأسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام بإختلاف المقام فرقا وجمعا وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت
(1/80)

أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى فهم ينادونه سبحانه بأول أسم قررهم به فأقروا وأخذ به عليهم العهد فأستقاموا وأستقروا فهو حبيبهم الأول ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل تركت هوى سعدى وليلى بمعزل وعدت إلى مصحوب أول منزل ونادتني الأهواء مهلا فهذه منازل من تهوى رويدك فأنزل وقريب من هذا ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأنور مما حاصله أن الله تعالى لما أوجد الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع وأعماه عن رؤية نفسه فبقى لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر فحرك همته لطلب ما عنده ولا يدري أنه عنده قد يرحل المرء لمطلوبه والسبب المطلوب في الراحل ونحن أقرب إليه من حبل الوريد فأخذ في الرحلة بهمته فأشهده الحق ذاته فعلم ما أودع الله تعالى فيه من الأسرار والحكم وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية فكانت تلك المعرفة غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته فقال له عند ذلك التجلي الأقدس ما أسمى عندك فقال أنت ربي فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو فقال له سبحانه أنت مربوبي وأنا أعطيتك أسمائي وصفاتي ولا يحصل لك العلم إلا من حيث الوجود ولو أحطت علما بي لكنت أنت أنا ولكنت محاطا لك وأمدك بالأسرار الألهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها إذ لا طاقة لك أن تحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لا تحدث الأنية وأين المركب من البسيط ولا سبيل إلى قلب الحقائق إلى آخر ما قال ويعلم منه إشارة سر إفتتاح الأوصاف في الفاتحة برب العالمين وفيه أيضا مناسبة لحال البعثة وإرساله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى من أرسل إليه لأن ذلك أعظم تربية للعباد ورمز خفي إلى طلب الشفقة والرأفة بالخلق كيف كانوا لأن الله تعالى ربهم أجمعين داريت أهلك في هواك وهم عدا ولأجل عين ألف عين تكرم وقد قرء رب العالمين بالنصب ونسب ذلك إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقد أختلف في توجيهه فقيل نصب على القطع ويقدر العامل هنا أمدح للمقام أو أذكر لا أعني لأن ذلك إذا لم يكن المنعوت متعينا كما في شرح العمدة وضعف بالإتباع بعد القطع في النعت وأجيب بأن الرحمن بدل لا نعت وروى أنه قريء بنصب الرحمن الرحيم فلا ضعف حينئذ وقيل بفعل مقدر دل عليه الحمد وليس على التوهم كما توهم أبو حيان فضعفه بزعمه أنه من خصائص العطف وقيل بالحمد المذكور وأعترض بأن فيه إعمال المصدر المحلي باللام وبأنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر الأجنبي وأجيب عن الأول بأن سيبويه وهو هو جوز أعمال المحلي مطلقا والظرف تكفيه رائحة الفعل نعم منعه الكوفيون مطلقا وجوزه على قبح الفارسي وبعض البصريين وفصل البعض بين ما تعاقب أل فيه الضمير فيجوز وما لا فلا وعن الثاني بأن هذا الخبر كان معمولا لهذا المبتدأ في موضع المفعول كما تقول حمدا له فليس بأجنبي صرف على أن المبتدأ والخبر لإتحادهما معنى كشيء واحد فلا أجنبي
وحكى عن بعض النحاة جواز الأعمال مطلقا وقيل بالنداء ولا يخفى ما فيه من اللبس والفصل والإلتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء الله تعالى يلتفت إليه وقيل رب فعل ماض وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم وأن الجملة لا تكون صفة والحالية غير حسنة الحال مع أنه قريء بنصب ما بعد والمناسب المناسبة وأهون الأمور عندي أولها
(1/81)

بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع ثم أنه سبحانه وتعالى بعد ماذكر عموم تربيته صرح بعظيم رحمته فقال عز شأنه الرحمن الرحيم وقد تقدم الكلام عليهما والجمهور على خفضهما ونصبهما زيد وأبو العالية وإبن السميقع وعيسى بن عمرو ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجولي وأستدل بعض ساداتنا بتكرارهما على أن البسملة ليست آية من الفاتحة وليس بالقوى لأن التكرار لفائدة فذكرهما في البسملة تعليل للإبتداء بإسمه عز شأنه وذكرهما هنا تعليل لإستحقاقه تعالى الحمد وقال الإمام الرازي قدس سره في بيان حكمة التكرار التقدير كأنه قيل له أذكر أني إله ورب مرة واحدة وأذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب إنتهى وفي القلب منه شيء فإن الألوهية مكررة أيضا كما ترى وعندي بمسلك صوفي أن ذكر الرحمن الرحيم تفصيل من وجه لما في رب العالمين من الإجمال وذلك أن التربية تنقسم ببعض الإعتبارات إلى قسمين أحدهما التربية بغير واسطة كالكلمة لأنه لا يتصور في حقه واسطة البتة وثانيهما التربية بواسطة كما فيمن دون الكلمة وهذا الثاني له قسمان أيضا قسم ممزوج بألم كما في تربية العبد بأمور مؤلمة له شاقة عليه وقسم لا مزج فيه كما في تربية كثير ممن شمله اللطف السبحاني غافل والسعادة أحتضنته وهو عنها مستوحش نفار فالرحمن يشير إلى التربية بالوسائط وغيرها في عالمه والرحيم يشير إلى التربية بلا واسطة في كلماته ورحمة الرحمن أيضا قد تمزج بالألم كشرب الدواء الكره الطعم والرائحة فإنه وإن كان رحمة بالمريض لكن فيه مالا يلائم طبعه ورحمة الرحيم لا يمازجها شوب فهي محض النعمة ولا توجد إلا عند أهل السعادات الكاملة
اللهم أجعلنا سعداء الدارين بحرمة سيد الثقلين صلى الله تعالى عليه وسلم مالك يوم الدين قرأ مالك كفاعل مخفوضا عاصم والكسائي وخلف في إختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة منهم أبي وإبن مسعود ومعاذ وإبن عباس والتابعين منهم قتادة والأعمش وقرأ ملك كفعل بالخفض أيضا باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وإبن عمرو والمسور وكثير من الصحابة والتابعين وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الجحدري ورواها الجعفي وعبدالوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل وقرأ ملكي بإشباع كثرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان والشعبي وعطية وقرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمرو بن مسلم البصري ملك يوم الدين بنصب الكاف من غير ألف وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حنيفة على ما قيل وأبو حيوة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وينصبون اليوم وذكر إبن عطية أن هذه قراءة علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه والحسن ويحيى بن يعمر وقرأ مالك بالنصب الأعمش أيضا وإبن السميقع وعثمان بن أبي سليمان وعبدالملك قاضي الهند وذكر إبن عطية أنها قراءة عمر بن عبدالعزيز وأبي صالح السمان وروى إبن عاصم عن اليماني مالكا بالنصب والتنوين وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين ورويت عن خلف وإبن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم فينصب اليوم وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حيوة وعمر بن عبدالعزيز بخلاف عنهم ونسبها صاحب اللوامع إلى شداد العقيلي البصري وقرأ مليك كفعيل أبو هريرة
(1/82)

في رواية وأبو رجاء العطاردي وقرأ مالك بالإمالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني ويبين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي ولم يطلع على ذلك أبو علي الفارسي فقال لم يمل أحد وذكر أنه قرأ ملاك بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف فهذه عدة قراءات ذكرتها لغرابة وقوع مثلها في كلمة واحدة بعضها راجعة إلى الملك وبعضها إلى المالك قال بعض اللغويين : وهما راجعان إلى الملك وهو الشد والربط ومنه ملك العجين وأنشدوا قول قيس بن الحطيم : ملكت بها كفى فأنهرت فتقها يرى قائما من دونها ما وراءها والمتواتر منها قراءة مالك وملك فهما نيرا سواريها وقطبا فلك دراريها وأختلف في الأبلغ منهما قال الزمخشري : وملك هو الإختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى : لمن الملك ولقوله تعالى ملك الناس ولأن الملك يعم والملك يخص ورجحه صاحب الكشف أيضا بأنه يلزم على قراءة مالك نوع تكرار لأن الرب بمعناه أيضا وبأنه تعالى وصف ذاته المتعالية بالملكية عند المبالغة في قوله مالك الملك بالضم دون المالكية
وأعترض ذلك كله أما أولا فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ألا ترى أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك وهو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة وقول الشهاب : لا يخفى أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام فمن رواء المنع أيضا ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع وأما ثانيا فلأن الإستدلال بقوله تعالى : لمن الملك اليوم يخدشه قوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة وهو يوم الدين ونفى المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر وإن كثر إستعماله فيه
وأما ثالثا فلأن ما في الناس مغاير لما هنا لأن مالك الناس لو كان هناك كما قريء به شذوذا يتكرر مع رب الناس وأما هنا فلا تكرار لإختلاف المقام وأما رابعا فلأن ما أدعاه من أن الملك بضم الميم يعم والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر والظاهر أن بين المالك والملك عموما وخصوصا من وجه لغة عرفا فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك لاقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك ومالك والتاجر مالك غير ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها غير مالك وأما خامسا فبأن التكرار الذي زعمه صاحب الكشف قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام إذ الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك
وأما سادسها فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه ولهم ما كسبوا وعليهم ما أكتسبوا وعندي لا ثمرة للخلاف والقراءتان فرسا رهان ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى كما قاله السمين ولا إلتفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لدى الأدلة وسدت على الباب الآثار وأنقلب إلي بصر البصيرة خاسئا وهو حسير إلا أني أقرأ كالكسائي مالك لأحظى بزيادة عشر حسنات ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة والطمع بالمالك من حيث أنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث أنه ملك فأقضي ما يرجي من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك فالقراءة به
(1/83)

أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته فإن سماع يوم الدين يقلقل أفئدة السامعين ويشبه ذلك من وجه قوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم والمدار على الرحمة لا سيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب وكأني بك تعارض هذه النكت وما علي فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن واليوم في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا الأعمش عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف وتركيبه غريب إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم وتصاريفه والدين الجزاء ومنه الحديث المرسل عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان وقيل فرق بينهما فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازي والجزاء أعم وقيل الدين أسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به فلا يقال لمن جازى عن غيره أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل دين ويقال جزاء والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى فيوم الدين هو يوم الجزاء ويؤيده قوله تعالى اليوم تجزى كل نفس بما كسبت واليوم تجزون بما كنتم تعملون وإضافة مالك إلى يوم على التوسع وقد قال النحاة الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله والأول كيوم وليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى في فيجري مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير فإذا قلت سرت اليوم كان منصوبا إنتصاب زيد في ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا لأن السير لايؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم ولا يظهر في الأسم الظاهر وإنما يظهر في الضمير كقوله : ويوما شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن النهار نوافله وإذا توسع في الظرف فإن كان فعله غير متعد تعدى وإن كان متعديا إلى واحد تعدى إلى إثنين وإن كان متعديا إلى إثنين تعدى إلى ثلاثة وهو قليل ومنعه البعض وإن كان متعديا إلى ثلاثة لم يتعد إلى رابع في المشهور إذ لا نظير له
وحكى إبن السراج جوازه والتوسع هذا تجوز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف ولذا قال الرضي : أتفقوا على أن معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء والمعنى مالك الأمر كله في يوم الدين وهذا ثابت له سبحانه أزلا وأبدا لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك أو من الصفات الفعلية وهي عند الماتريدية مثلها بل قال الزركشي من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرزاق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال أو المعنى ملك الأمور يوم الدين على حد ونادى أصحاب الجنة ففي الآية إستعارة تبعية كما يفهمه كلام العلامة البيضاوي في تفسيره وعلى التقديرين يصح وقوعه للمعرفة لأن الإضافة حينئذ حقيقية ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف لأنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه كما قاله الشريف وفيه تأمل والأولى بإستمرار الإعتبار الإستمرار والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون
(1/84)

كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لإشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الإستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالإعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالإستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلأ إذا كان موجودا ويوم الدين غير موجود الآن وأجاب غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال وايضا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد أن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولايلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والإستلزام بمعنى الإنتقال في الجملة لا بمعنى عدم الإنفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت ملك تسلم من هذا القيل إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر وهو ملحق بأسم الفاعل فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يريدني في المالك حبا وإنما قال مالك يوم الدين ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من إبتداء النشور إلى السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو إعتباره عن لطف وأيضا للدين معان شاع إستعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الإنقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهر أو باطنا وجعل إضفاة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة بإعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وإما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما إنسلاخا ظاهرا في الآخرة وكلهم آتيه يوم القيامة فردا وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما إنفرادا لإخفاء فيه ولدلك قال سبحانه يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ولمن الملك اليوم لله الواحد القهار وأيضا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما أفتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح الإله ولم يك يصلح الإلها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر أسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم وإما لإنهم يرجون لطفه وإحسانه في الإستقبال وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول ياعبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فأحمدوني فإني
(1/85)

أنا الله وإن كان للإحسان والتربية والأنعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني أنا الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين ومن الناس من أستدل كما قال الإمام على وجوب اشكر عقلا قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه بالعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لاله لأنه بيان من الله تعالى لا يجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي فالتجلي بأسمه تعالى الله للجوهر الملكي أتلا بذكر الله تطمئن القلوب وباسم الرب للنفس الشيطانية رب أعوذ بك من همزات الشياطين وبأسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر الملك يومئذ الحق للرحمن وبأسم الرحيم للنفس البهيمية أحل لكم الطيبات وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف سنفرغ لكم أيها الثقلان
وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الإستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الإستقامة وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه إياك نعبد وإياك نستعين إيا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال وقيل أسماء أضيف هو إليها وقيل الضمير هي تلك اللواحق وإيا دعامة وقيل الضمير هو المجوع وقيل إيا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق وزعم أبو عبيدة إشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفي في علم النحو وقد جاء وياك بقلب الهمزة واو ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب وقر أعمرو إبن فائدة عن أبي إياك بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلى وأبو الفضل الرقاشي أياك بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي هياك بإبدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور إياك بالكسر والتشديد والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا لله تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع اشرف الأعضاء على أهون الأشياء وهو التراب موطيء الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه أن لا تعبدوا الشيطان وبمعنى الدعاء ومنه إن الذين يستكبرون عن عبادتي وبمعنى التوحيد ومنه وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص بأسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طعما فيما هو أدوم واشرف وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى وتسمى عبادة وإما أن يعبد الله تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالإنتساب إليه وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية وإما أن يعبد الله تعالى لإستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يقتضيه إلا الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات وتمسى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلي أصلي لله تعالى فإنه
(1/86)

لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلا أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته والإستعانة طلب المعونة وياء فعله منقلبة عن واو وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا لما كان للإستعانة على الفعل فائدة وأما القدرية فقالوا السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للإستعانة فائدة وقد اشار ناصر الملة والدين البيضاوي بيض الله تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال وهي إما ضرورية أو غيرها والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كإقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند إستجماعها يصح أن يوصف الرجل بالإستطالة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف إنتهى
وحاصله أن الإستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر وعندى أن الآية إن إستدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن العباد قدرا مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالإستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورة تكذبه ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الإشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤا فالله تعالى يريد ما لا يفعله العبد ويفعل العبد ما لا يريده تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء الله تعالى ووجه الإستدلال أن إياك نعبد مشير إلى صدور الفعل من العباد وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد ومن لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد وصحة ذلك بإعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل وقوله وإياك نستعين يدل على نفي الإستقلال فيه وأنه بإذن الله تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم فلا جبر ولا تفويض فأحفظه وأنتظر تتمته ولو كان هذا موضع القول لأشتفى فؤادي ولكن للمقال مواضع وههنا أبحاث الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين ودكروا له وجوها الدلالة على الحصر والإختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة ولذلك قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما معناه لا نعبد غيرك وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتا فقدم وضعا ليوافق الوضع الطبع وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا والإهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن إحتمال الشرك فإنه لو أخر فقيل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات وإلى العبادة من حيث أنها وصلة إليه وراحلة تغد به عليه فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرا في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين أذكروني
(1/87)

أذكركم وبين قوله للإسرائيليين : أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وبين ما حكى عن الحبيب من قوله : لا تحزن إن الله معنا وبين ما حكاه عن الكليم من قوله : إن معي ربي سيهدين الثاني في سر قوله نعبد دون أعبد فقد قيل هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أدكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الأفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياتا ولا موتا ولا نشورا وياليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالأفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام : ستجدني إن شاء الله من الصابرين وقوله تعالى : حكاية عن موسى ستجدني إن شاء الله صابرا فصبر الذبيح لتواضعه بعد نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلا منهما عليهما السلام قال إن شاء الله وقيل الضمير في الفعلين للقاري ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الإستعانة وله وجوه الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان فأهتم للأداء فقدم الثاني أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا وإعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله : وإياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه الثالث أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والإستعانة ليست كذلك فالأول أهم الرابع أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه أدعى للإجابة
الخامس أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة والإستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه السادس أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم السابع أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والإستعانة أقوى إلتئاما بطلب الهداية الثامن أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالإستعانة بعد الرسوخ التاسع أن في تأخير فعل الإستعانة توافق رؤوس الآي العاشر أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلى وأحسنت إلى فقضيت حقي
الحادي عشر أن مقام السالكين ينتهي عند قوله إياك نعبد وبعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا أنجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الإضطرار في مقام لمن الملك اليوم لله الواحد القهار أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وأنتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد وهنا إنتهاء مقام السالك
(1/88)

ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا فطلب التمكين بقوله : وإياك نستعين إهدنا الصراط المستقيم وأستعاذ عن التلوين بقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين البحث الرابع في سر الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد أزدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الإختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والإنتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيب حضورا وقيل لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجاب لمزيد النعم إلى رتبة الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وايضا حقيقة العبادة إنقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره ونوره الإحسان وفي نعبد والإلتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم وقيل أنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام فلما أفلت قال لا أحب الآفلين لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم إن لم تكونوا منهم فتشبهوا إن التشبه بالكرام فلاح وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والإنكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الإحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية تجذبه إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الإقتراب فائزا بعز الحضور وسعادة الخطاب وأيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم ومنأدب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الإنبساط حمامة جرعى حومة الجندل أسجعي فأنت بمرأى من سعاد ومسمع وأيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديه وأما إذا آل أمره بملازمة الإذكار إلى إرتفاع الحجب والأستار وإضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وأنتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد أينما تولوا فثم وجه الله فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة
(1/89)

وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة ألتفت إلى الخطاب للأشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤوس الخطاب فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين ومن باب الإشارة أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار وإلتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدا وإعتلاء ولو أن ثوبا حيك من نسج تسعة وعشرين حرفا في علاه قصير اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومن علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك ولا نرى إلا إياك هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال أتفقوا على أن فيما نحن فيه إلتفاتا واحدا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الإلتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به إلتفاتان أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر والثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد لله إلتفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في إياك إلتفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية إلتفاتان أو لا يكون إلتفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في الكشاف لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث إلتفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه إلتفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث إلتفاتات إنتهى وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم
البحث الخامس في سر تكرار إياك فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه إياك نعبد ونستعين لأحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل أنه لو أقتصر على واحد ربما توهم أنه لايتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا وقيل أنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة وعندي أن التكرار للأشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الإستعانة منه سبحانه ولو قال إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلإختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه البحث السادس في سر إطلاق الإستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطى في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على بعض وأيضا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والإنقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي وقال صاحب الكشاف : الأحسن أن يراد الإستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى : أهدنا بيانا للمطلوب من المعونة
(1/90)

كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا أهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض إنتهى ووجه التخصيص حينئذ كمال إحتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضحها وكون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والإعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله وأيضا طرق الضلالات اتي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وبإستعانته يتخلص من مهالكها وأيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذا توافق الإستعانة في العموم وأيضا قوله أنعمت عليهم مطلق شامل كل إنعام وأيضا لو كان المراد الإستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الإستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لإبن عباس : إذا أستعنت فأستعن بالله الحديث وهو ظاهر فيه ولعل إبن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن أستعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد أستسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراءوا الثروة من سواه فأفتقروا وحاولوا الأرتفاع فأتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد بكسر النون وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لإستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وإبن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد بفتح النون وضم الدال وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى إهدنا الصراط المستقيم الهداية دلالة بلطف لدلالة إشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا وقوله تعالى : فأهدوهم إلى صراط الجحيم وارد على الصحيح مورد التهكم على حد فبشرناهم بعذاب أليم ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم وقد يقال المراد بيان الإستعمال الحقيقي وأما باب التجوز فواسغ وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا
(1/91)

فيه اختلاف المتأخرين منأهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل وقليل قال إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إرادة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم وإلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كقوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل أما الأول فيرد عليه قوله تعالى وأما ثمود فهديناهم فأستحبوا العمى على الهدى والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالإرتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا وما آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلم إنك لا تهدي من أحببت وما يقال إنه على حد قوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لايساعده بل ينادي بما ينافيه ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عنإبراهيم عليه السلام ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فأتبعني أهدك صراطا سويا وعن مؤمن آل فرعون ياقوم أتبعوني أهدكم سبيل الرشاد ولهذا الخلل قال طائفة بالإشتراك والبحث لغوي ولا دخل للإعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته والصراط الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقما كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام : رعته الفيافي بعد ما كان حقبة رعاها وماء المزن ينهل ساكبه وبالسين على الأصل قرأ إبن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صراط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع و المستقيم المستوي الذي لا إعوجاج فيه وأختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق وقيل ملة الإسلام وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى صراط الذين أنعمت عليهم يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الأفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم والقرآن يفسر بعضه بعضا وفيه نظر وقيل هو الإعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره وهو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ولهمأقوال غير ذلك قريبة وبعيدة وعندي بعد الأطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على إختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله
(1/92)

سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الإستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القويم علما وعملا وخلقا وحالا وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلا مصورا بالتمثيل الرباني والتصوير الألهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا والثاني طريق الوصول إلى الله تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقى من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي أهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الإستقامة على إمتثال أوامرك وإجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبي رضي الله تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم وللمحققين في معنى أهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أنيسأل عنه منأن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وفي الحديث اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وثانيها أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى : والذين أهتدوا زادهم هدى وثالثها أن الهداية الثواب كقوله تعالى يهديهم ربهم بإيمانهم فالمعنى أهدنا طريق الجنة ثوابا لنا وأيد بقوله تعالى الحمد لله الذي هدانا لهذا ورابعها أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضا كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل
بقى الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل أن عندنا إحتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أنيؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام أو بمعنى عام كطريق ألحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الإستعانة والصراط وخصوصهما يكون أهدنا بيانا للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا أهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الإتصال وعلى تقدير عموم الإستعانة وخصوص الصراط يكون أهدنا إفرادا للمقصود الأعظم ن جميع المهمات فيكون الفصل حينئذ لكمال الإتصال وأما على تقدير خصوص الإستعانة وعموم الصراط فلا إرتباط وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطا مستقيما دون تعريف وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم بالإضافة والمتواتر ما تلوناه صراط الذين أنعمت عليهم بدل من الصراط الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه إبن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشيا من إطلاق الكل على الله تعالى في مثل صراط العزيز الحميد الله وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناء على أن البدل في حكم تكرير العامل والأشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لإستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده وقيل صفة له ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف
(1/93)

العطف وفي تعيين ذلك إختلاف فمن جعفر بن محمد هو العلم بالله والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل إلتزام الفرائض والسنن ولايخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه وقرأ إبن مسعود وزيد بن علي صراط من أنعمت عليهم وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي الله تعالى عنهم قال الشهاب : وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة كمن على الله تعالى إنتهى وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل والأنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عرض وأختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقا وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ وقيل أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقيل الأولى ما أخرجه إبن جرير عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومنأطاع الله تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فما في هاتيك الأقوال إقتصار على بعض الأفراد ولم يقيد الأنعام ليعم وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة وقيل بأن نجاهم من الهلكة وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت للفاعل إستعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فأجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤالنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كل بما طلب لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه من فيض جودك ما علمتنا الطلبا وحكى اللغويون في عليهم عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراءة حمزة وكسرها وإسكان الميموهي قراءة الجمهوروكسر الهاء والميم وياء بعدهاوهي قراءة الحسنقيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياءوهي قراءة عمرو بن فائدوكسر الهاء وضم الميم بواو بعدهاوهي قراءة إبن كثير وقال وبخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدهاوهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة وضمهما بغير واو ونسبت لإبن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقريء بهما أيضا
وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه وحجج كل في كتب العربية غير المغضوب عليهم ولا الضالين بدل من الذين بدل كل من كل وقيل من ضمير عليهم ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن غير في الأصل صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الأسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر وعن سيبويه أنها صفة الذين مبينة أو مقيدة ولا يرد أن غير من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد إعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في إستعمالاته فإذا أستعمل في بعض ما أتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما
(1/94)

كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضا فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الإستغراق سواء أريد إستغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة الساليكوتي وغيره ولايخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن غير هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون وقال إبن السري وغيره : إذا أضيفت غير إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لإنحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل لجواز أن يكون صالحا حالا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلا من صالحا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد وقرأ عمر إبن الخطاب رضي الله تعالى عنه غير بالنصب وروى ذلك شاذا عن إبن كثير وهو حال من ضمير عليهم والعامل فيه أنعمت ويضعف أن يكون حالا من الذين لأنه مضاف إليه والصراط لايصح بنفسه أن يعمل في الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة وجوز الأخفش أن يكون النصب على الإستثنأء المنقطع أو المتصل إن فسر الأنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه بلا لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى : ما منعك أن لا تسجد وفي قول الأخوص : ويلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل وأعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعدو أو العطف والكلام فيه وحكى بعضهم عن الأخفش أن الإستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه بلا حملا على المعنى فحينئذ لا يرد ما ورد وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الإستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو بجعل غير بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضي لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون غير حينئذ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير
والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الإنتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الإنتقام كما في شرح الكشاف له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبا للإنتقام كما في شرح المقاصد ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب وفي الحديث أتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب إبن آدم ألم تروا إلى إنتفاخ أوداجه وحمرة عينيه وفي الكشاف معنى غضب الله تعالى إرادة الإنتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الأدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى
(1/95)

وحديث سبقت رحمتي غضبي محمول على الزيادة في الآثار أوتقدم ظهورها
وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى : أئذا ضللنا في الارض أي هلكنا وقوله تعالى وأضل أعمالهم أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق وقرأ أبو أيوب السختياني ولا الضالين بإبدال الألف همزة فرارا من إلتقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز وحكى أبو ريد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان وقوله : والأرض أما سودها فتجللت بياضا وأما بيضها فأدهامت وهل يقاس عليه أم لا قولان وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبدالله بن الزبير أنهما كانا يقرآن وغير الضالين والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في غير من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه إبن حبان في صحيحه مرفوعا إلى رسول الله وأخرجه إبن جرير عن إبن عباس وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم وقال إبن أبي حاتم : لا أعلم فيه خلافا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الإحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الإعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالا بعيدا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيهات دون ذلك أهوال وأستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى : من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا والأولى الإستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله وقال تعالى إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا وورد لليهود والنصارى جميعا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين مع أن الضلال في باديء النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الأنعام يقابل بالإنتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناء على أن الأول ئصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد و أشد عداوة للذين آمنوا ولذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة وورد في الحديث من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود رواه السلفي والديلمي وإبن عدي والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى وقول النصارى
(1/96)

بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم يد الله مغلولة وقولهم عزير إبن الله فمن زعم أن النصارى أسوأ حالا متوكئا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لاسيما وفضل الله تعالى ليس بمقصور على البعض وقال بعضهم : تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولابأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالإقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق ولذلك أتى بالفعل ماضيا وأنحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأديا ولأن منطلب منه الهداية ونسب الأنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الإنتقام
وقد عد إبن كثير في كنز البلاغة والتنوخي في الأقصى للقريب بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعا غريبا من الإلتفات فإن كان الإلتفات كما في إستعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الإفتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظأهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبنى ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى إلتفاتا فكما يجري في الإنتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب ويسن بعد الختام أن يقول القاريء آمين فقد روى إبن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في الدلائل عن أبي ميسرة أن جبريل أقرأ النبي فاتحة الكتاب فلما قال ولا الضالين قال له قل آمين فقال آمين ويقولها المأموم لقراءة إمامه فقد أخرج مسلم وأبو داؤد والنسائي وإبن ماجه وإبن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قرأ يعني الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم الله وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبدالله بن مسعود وعند الشافعية يجهر بها وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي وعن أبي حنيفة في رواية غير مشهورة أنه يخفيها وروى الإخفاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبدالله بن مغفل وأنس رضي الله تعالى عنهما كما في الكشاف ورواية الجمهور محمولة على التعليم والبحث فقهي وهذا القدر يكفي فيه وليست من القرآن إجماعا ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلا حتى ذكر غير واحد أن من قال : إن آمين من القرآن كفر وهي أسم فعل مبني على الفتح كأين لإلتقاء الساكنين والبحث عنأسماء الأفعال مفروغ عنه في كتب النحو والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها أستجيب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل أنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب ورد بأنه يكون وزنا لا نظير له وله نظائر ولذا قيل إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع ومن العجيب ما قيل إنه أسم الله تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملا على الضمير المستتر الرجع إليه تعالى قيل أنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كل ذهب طائفة وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه وقيل إنه جمع آم بمعنى قاصد منصوب با جعلنا ونحوه مقدرا وقيل إنه خطأ ولحن وحيث أنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم لاتفسد به الصلاة وإن كان لحنا وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما روى بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله خرج على أبي بن كعب فقال ياأبي وهو يصلي فألتفت أبي فلم يجبه فصلى أبي فخفف ثم أنصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال :
(1/97)

السلام عليك يارسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك فقال يارسول الله إني كنت في الصلاة قال أفلم تجد فيما أوحى الله إلي أن أستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى قال تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قال نعم يارسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وأنها للسبع من المثانيأو قال السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى أن بعض الربانيين أستخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الأمكان نسأل الله تعالى أن يمن علينا بإشراق أنوارها والأطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق
سورة البقرة
هذا هو الأسم المشهور وفي الصحيح عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روى من منع ذلك وتعين أنيقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة ويمكن أنيوفق بأنه كان مكروها في بدء الإسلام لإستهزاء الكفار ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا وكان خالد بن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ : إن فيها ألف أمر وألف نهى وألف خبر قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام إبن عمر رضي الله تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا وروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : اي القرآن أفضل فقالوا الله ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها أفضل قالوا الله ورسوله أعلم قال آية الكرسي وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى : وأتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية كما لا يخفى ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يؤمنون بالغيب وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله هدى للمتقين ولما أفتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن أفتتح هذه السورة بما بطن سره وخفى إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم 1 هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها كبا تا ثا أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الأسم المتفق عليه وإعتوار خواصه المجمع عليها على كل منها ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك فقالواباء كاف فقال إنما جئتم بالأسم لا الحرف
(1/98)

وأنا أقول به كه وما روى عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف إلخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم سمى ذلك حرفا بأسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل أنه سماه حرفا مجازا لكونه أسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من ألم مفتتح سورة الفيل يكون المراد ايضا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الإستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر إبن عباس قال : آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين والمعنى لا أقول أن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث أنها أجزاء بأن يقابل ألف حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقراة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث أنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين
والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث أنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث أنهاأجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الإعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثمانهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل أسم له كما قاله إبن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتديء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الإبتداء بها فقالوا لا كمالاكما يقوله المعلمون لام الإف فإنه خطأ وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعارضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمد له والحوقلة وتسمية النحاة وحكم أسماء الحروف سكون الأعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الإختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي وللناس فيما يعشقون مذاهب والبحث مستوفي في كتبنا النحوية وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل وأستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة فأما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على أنها ألقابها بناء على ذلك الأشعار أ غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين
(1/99)

فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه الأول أنا نجد سورا كثيرة أفتتحت بألم وحم والمقصود رفع الإشتباه الثاني لو كانت أسماء لو ردت ولأشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة و آل عمران الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع أسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم الرابع أنه يؤدي إلى إتحاد الأسم والمسمى الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة وأسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح وفي السنن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سجد في ص وإذا ثبت في البعض ثبت في الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف أسمه إلا بعد التنقير لإشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم إشتهار بعضها لكونه مشتركا فترك لإحتياجه إلى ضميمة كألم هنا وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت إسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكي
وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ كشاب قرناها وسر من رأى ودار بجردوسى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا إتحاد ألا ترى أنهم جعلوا أسم الحرف مؤلفات منه من غيره كصاد فهما متغايران ذاتا وصفة وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم بإعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الأسمية فلا محذور وقال بعضهم : كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدا ووقوع الإشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها لإحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها كما يقولون قرأت بانت سعاد و قل هو الله أحد أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ماذكر في الإعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء كما قال إبن عباس عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه : لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور وقال الشعبي : سر الله تعالى فلا تطلبوه بين المحبين سر ليس يفشيه قول ولا قلم للخلق يحكيه فلا يعرفه بعد رسول الله إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لايعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل إلخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام
(1/100)

المخاطب بها وهو هنا الرسول فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله نجوم سماء كلما أنقض كوكب بدا كوكب تأوى إليه كواكبه وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والإضطباع والطاعة في مثله أدل على كمال الإنقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسئل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود منذلك ظهور كمال الإنقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والإمتثال للحكيم القادر لو قال تيها قف على جمر الغضى لوقفت ممتثلا ولم أتوقف على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه إليه أبدا ومتلفتا نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامي ذهنه وخوافيه وباب التكليف إشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدأ مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى من علمت
وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول وأشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى أفرادها في ص و ق و ن وتثنيتها في يس و طه وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمس حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض فقال قدس سره في فتوحاته أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله : إعلم أن مبادي السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة وهو كمال الصورة والقمر قدرناه منازل والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران ألم الله ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع قال الإيمان بضع وسبعون وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت إثنتا عشرة موجودة وهذا الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الأثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا فإنها مما أنفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت للحس وأنتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها
(1/101)

فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الألهى في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الألهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أن لا أو ما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والأفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابى فأنظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه بنتهي أصلها وتجد الميم منه يبتديء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى اسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله ينزل ربنا إلى السماء الدنيا وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام إيجاد الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهيء القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسا منأول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقى يوم السبت للإنتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار ألم فلكا محيطا منورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال وذكر في كتاب الإسرار إلى المقام الأسري ما يشير إلى دقائق أفكار وخفابا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأثنين وثلاثين وأول التفصيل من نوح إلى آشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى إنخرام الطبيعة ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز بن عبدالسلام أن عليا رضي الله تعالى عنه أستخرج وقعة معاوية من حمسعق وأستخرج أبو الحكم عبدالسلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى : ألم غلبت الروم وذكر الشيخ قدس سره كيفية إستخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد ألم بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين وأجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة
(1/102)

سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة غلبت بفتح الغين واللام وسيغلبون بضم الياء وفتح اللام إنتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ونور ولا نار وروح ولا جسم فأعلم أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن أدعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول بإندماج جميع ما ذكروه في صدف فوائدها وإمتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبيء عن سر سري مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لأصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منها تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال يا كهيعص ويا حمسعق على ظاهره وإن أبيت فقل المراد يامنزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج
وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى أسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر وأيضا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضا إفتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون وأيضا في الحروف رمز إلى ثلاثة اشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عزوجل وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الإبتداء والله تعالى هو الأول والإستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والإنفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الإتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الإئتلاف وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور
(1/103)

من الأغيار ومن الطرائف أن بعض الشيعة أستأنس بهذه الحروف لخلافة الأمير علي كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه صراط على حق نمسكه ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو طرق سمعك النصيحة وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت صح طريقك مع السنة ولعله أولى وألطف وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد وكل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا وقد أختلف اناس في إعرابها حسبما أختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أؤ فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو ونحو ق والقرآن مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب إن جعلت الواو للعطف وإجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد إن كانت للقسم أولا حاجة للتقدير ويكتفى بجواب واحد إذ لا مانع من جعل أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للإستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم وقول إبن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين بأسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله : ورب السموات العلى وبروجها والأرض وما فيها المقدر كائن لأن ذلك على قلته مخصوص بإستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي وإتباع البصري ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه وحديث الإستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به إبن مالك
ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير نصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الأشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها كثرة إستعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة والمقصد الإيقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن المفردات تحكى بعد من وأي الإستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الإختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضى والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح أو مزيدة
(1/104)

للفصل مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن وهل ذلك المجموع نحو الم و حم أو للألف والحاء مثلا على طريق الرمان حلو حامض خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالإبتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضى بإختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية بجعله غير مرتضى وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في ص والقرآن فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين وإجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك فتدبر وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون : ا لم آية أينما وقعت وكذلك المص وطسم وأخواتهما وطه ويس وحم وأخواتها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وأما المر وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك طس وص وق ون وقال البصريون : ليس شيء من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض أن الم في آل عمران ليست بآية ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين 2 جملة مستأنفة وإبتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه إحتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا الآية ويؤيده ما روى عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدا وقال في التوراة يامحمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى : فذلكن الذي لمتنني فيه كما أختاره في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومنأعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بإنفصاله عنه بعيد أو في حكمه وقد قيل : كل ما ليس في يديك بعيد
ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى هذا كتاب أنزلناه لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا أختلف المقامان وأفترقت الإشارتان كما قاله السهيلي وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الإعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه أضمحل وتلاشى وصار منقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام : ذلك نتلوه عليك ثم قال تعالى : إن هذا لهو القصص الحق وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا : أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا وليس بنص لإحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به وقول الإمام الرازي إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما نقل عن عكرمة إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل إحتمال يليق وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الصراط
(1/105)

المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه أرتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له ألآذان أنه إشارة إلى القرآن ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح ونور القرب يلوح عليه والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو ذلكم الله ربكم أو إلى محسوس غير مشاهد نحو تلك الجنة فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضى فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف وقول بعضهم أن أسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا وهم محسوس والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب كما قال الراغب ضم أديم إلى أديم بالخياطة وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم وبعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمى كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمى به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤل إليه مع المناسبة وقول الإمامإن إشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لإجتماعها فسمى الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه أجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزم فيه التكاليف على الخلقكلام ملفق لايخفى فيه ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولاأرى فيه باسا إن أحتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه وقال إبن عصفور : كل لام وقعت بعد أسم الإشارة وأي في النداء وإذا الفجائية فهي للعهد الحضوري وقريء تنزيل الكتاب والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ وقول الإمام الرازي : إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما أختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما لا ريب فيه أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار : أخوك الذي إن ربته قال إنما أراب وإن عاتبته لان جانبه وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة وقال الراغب : الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة والمرية التردد في المتقابلين وطلب الإمارة من مري الضرع أي مسحه للدر والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه وقال الجولي : يقال الشك لما أستوى فيه الإعتقاد أن أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما الدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا ريب فيه للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفي سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابينلا كثرهم الله تعالىعلى معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر
(1/106)

في كونه وحيا من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله وقيل إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوي العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا فيه على حد لا رفث ولا فسوق وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة وللمتقين خبر وهدى حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا وهي حال لازمة فيفيد إنتفاء الريب في جمع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على إنتفاء الريب و لا لنفي إتصاف الأسم بالخبر لا لنفي قيد الأسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد لا فيها غول لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه وقرأ سليم أبو الشعثاء لا ريب فيه بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد إنتفاءه فلا يوجب الإستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف على فيه هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على لا ريب ولا ريب في حذف الخبر وذهب الزجاج إلى جعل لا ريب بمعنى حقا فالوقف عليه تام إلا أنه أيضا دون الأول وقرأ إبن كثير فيهي بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في فيه مهانا وملاقيه وسأصليه والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه وقرأ الزهري وإبن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل والهدى في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجيء من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى والسرى والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد : وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا والمراد منه هنا أسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند إبن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها وفي الكشاف هي الدلالة الموصلة إلى البغية وأستدل عليه بثلاثة وجوه الأول وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى : لعلي هدى أو في ضلال والضلال عبارة عن الخيبة وعدم اوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الإجتماع بينهما والثاني أنه يقال مهدى في موضع المدح كمهتد ومن حصل له الدلالة من غير الإهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الإيصال معتبر في مفهومه والثالث أن أهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى اصله ألا ترى إلى نحو كسره فأنكسر وفيه بحث أما أولا فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الإهتداء مجازا أو إشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابله الإضلال ولا أستدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا وفسر الضلال المقابل لها تقابل الإيجاب والسلب بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعى وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن الخيبة
(1/107)

إلخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم وأما ثالثا فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد مفهوم المشتق منه وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن أهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فأهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا : لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى وما نرسل بالآيات إلا تخويفا مع قوله سبحانه ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما أنكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح وأما خامسا فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا أختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك وإلى كل مذهب طأئفة قيل والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ماذكرناه والمشهور هو العكس والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي يخدشه إختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الإعتزال ما أختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل والمتقين جمع متق أسم فاعل من وقاه فأتقى فقاؤه واو لا تاء والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها التوقي عن الشرك والثانية عن الكبائرومنها الإصرار على الصغائر والثالثة ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل : خل الذنوب كبيرها وصغيرها فهو التقي وأصنع كما فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن من صغيرة إن الجبال من الحصى وفي هذه المرتبة أختلفت عبارات الأكابر فقيل : التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وقيل : التبري عن الحول والقوة وقيل : التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم : ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى فالمراد بهم المشارفون مجازا لإستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم وإعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافى حسن التعقيب ب الذين يؤمنون لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون وحمل الكل على
(1/108)

المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب أحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الأرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حالة كذا حققه مولانا مفتي الديار الرومية ومنه يعلم إندفاع ما قيل أن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون هدى للمتقين دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذور آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوا ووجه الإندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سببي عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقي مهتد بهذا الهدى حقيقة وقد أختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الإستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطأ من قال أنه مجاز ولا يقال أنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب الله تعالى المتلاليء نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على أسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صح ظلاق الخل على المشار إليه وإتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارةمع قطع النظر عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فأفهم وتدبر
ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته بإعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه إبتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام على أنه كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول والإعتداد به وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ويكون الإقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية
(1/109)

مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين أهتدوا وأنتفعوا به كما قال تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها مع عموم إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ولا يزيد الظالمين إلا خسارا وأما القول بأن التقدير هدى للمتقين والكافرين فحذف لدلالة المتقين على حد سرابيل تقيكم الحر فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت و ذلك الكتاب قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية و لا ريب فيه كالتأكيد لأحد الركنين و هدى للمتقين كالتأكيد للركن الآخر
وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه وقيل : بالحمل على الإستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الإختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك أستدل بكونه هدى للمتقين لظهور إشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعائد عقله وحسه وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى إتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لإستلزامه ما يليه وكونه في قوته بجعله منزلا منه منزلة بدل الإشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الإتصال بين هذه الجمل وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يفخى جلالة قدره على من مر ما ذكرناه على فكره
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون 3 صفة للمتقين قبل فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيآت فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا وأستظهر كون الموصول مفصولا قصد الأخبار عنه بما بعده إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الإرتباط والإستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى : أنؤمن لك وأتبعك الأرذلون وبالياء كما في قوله : الإيمان أن تؤمن بالله الحديث قالوا : والأول بإعتبار تضمينه معنى الأذعان والثاني بإعتبار تضمينه معنى الإعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يتعبر ما لم يقترن به الإعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث أن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية ايضا كما في الأساس ويفهم مجازيته ظاهر كلام الكشاف وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبي به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم أختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره
(1/110)

الجنة لكن ذكر إبن الهمام أن أهل هذا القول أتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فسنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة وقد أتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم أختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية بكر ويدن وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي ويؤيده ما أورده السيد السند في حاشية شرح التلخيص أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه بكر ويدن أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في المقاصد ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالإتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف من المقبولات والمظنونات والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الإحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد والإختيار بحيث يستلزم الأذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا غير والخوارج والعلاف وعبدالجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا والجبائي وإبنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلةوهو مذهب أكثر أهل الأثرإلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان قيل : وسر هذا الإختلاف الإختلاف في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا قال يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وقوله تعالى : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وقوله تعالى : وقلبه مطمئن بالإيمان وقوله : اللهم ثبت قلبي على دينك حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل وإحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله تعالى عليه وسلم متعلقه دون معناه فقال : أن تؤمن بالله وملائكته الحديث
(1/111)

فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة وأيضا ورد عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات والجزء لا يعطف على كله وتنزل الملائكة والروح على أحد الوجهين بتأويل الخروج لإعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لإمتناع إشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط وأيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا بإعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى وقد أورد الخصم وجوها في الإلزام الأول أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما أختلف مع أن أيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص الثاني أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه بنص ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق ولو كان بمعنى التصديق لما أمتنع مجامعته الثالث أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما مع قوله تعالى في المرتكب ولا تأخذكم بهما رأفة ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه الرابع أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه وقال سبحانه في قطاع الطريق ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم فهم ليسوا بمؤمنين مع أنهم مصدقون
الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من أستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين مع أنه مصدق السادس من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون السابع أن الزاني كذلك بنص قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يزني الزاني وهو مؤمن وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك الثامن أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع التاسع أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة والدين هو الإسلام لقوله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه العاشر أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق غير باق فيهما الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بآلهية غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع الثاني عشر أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عزوجل بكونه مشركا فقال وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ولو كان هو التصديقلأمتنع مجامعته للشرك سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله تعالى عليه وسلم
وللزنبور والبازي جميعا لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز وما يصطاده الزنبور فرق وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم
(1/112)

الفسوق لم دل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان في بعض وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للإيمان ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد وجوبها وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان منافاته للإيمان في الدنيا وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر ومن كفر إبتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولايتصور مع ذلك التصديق وعن السادس بأن معنى من لم يحكم الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى لا يزني الزاني وهو مؤمن اي آمن من عذاب الله أي إن زنى والعياذ بالله فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من إجتناب المحظورات وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للإيمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا إنتفاء التصديق عند وجود الإستخفاف مثلا سمعا والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الأمة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة سلمنا إن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من إبتغى الكلام وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما وعن العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء إبتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن أسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بآلهية غير الله مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الإستعمال الشرعي وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالإجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه وقولهم أهل اللغة لا يفهمون إلخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند الله تعالى والنبي ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان
(1/113)

وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه لهذا أشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالإختيار عند الثاني وقال الكرامية : من أضمر الإنكار وأظهر الأذعان وإن كان مؤمنا لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بازائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من إعتبار دلالته هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينةبحسب العرف القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الإنعدام عليها ما بقى الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وقد ورد في الصحيح الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وقريب من هذا قول من قال إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي والمتبادر من الإيمان ههنا التصديق كما لا يخفى والغيب مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كأنه هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في البحر أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه أسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت وفي البحرلا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلا ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نورا على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه وللأولياء نفعنا الله تعالى بهم الحظ إلا وفر منه
ومن هنا قيل : الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه أنه يعلم الغيب قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وقل لقتيل الحب وفيت حقه وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل وأختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنهما أخبر بهالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو ذاك لا سيما وقد أنضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة و السلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا إذ لا معنى للإيمان
(1/114)

به نفسه معرى عن الحيثيات ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن أفترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو المراد أنهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فأستوى عندهم المشاهد وغيره وأختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن فهو على حد قوله تعالى : ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به ففي سنن الدارمي عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحرث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال إبن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل منإيمان بغيب ثم قرأ الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين إلى قوله : المفلحون ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفصيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والإعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وبالبيت إبن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحرث بما ورد عنه مرفوعا نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة بل قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا يؤاخذكم و يؤيد بنصره وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يهيء لكم ونبئهم و أقرأ كتابك فإنه لا يترك الهمزة فيها وروى عنه أيضا الهمزة في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو يؤمنون و لا يؤاخذكم وأختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره ويقيمون من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أو لها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه وفي الكلام على الأولين منها إستعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة إعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم أستعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر
(1/115)

فلا حاجة إلى الإستعارة ولايخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الإستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية وفي الثاني بأن نفاق السوق كإنتصاب الشخص في حسن الحال والظهور التام فأستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم أستعيرت منه للمداومة فإن كلا منهما يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على إبتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الإستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة وفي الثالث بأن القيام بالأمر يدل على الإعتناء بشأنه ويلزمه التشعر فأطلق القيام على لازمه وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه إستعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده وفي الرابع بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك إستعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلا منهما فعل متعلق بالصلاة
وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه إبن جرير وإبن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث أنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال بإستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فأفهم و الصلاة في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع وإستحسانه إبن جني وسمى الداعي مصليا تشبيها له في تخشعة بالراكع الساجد وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلى من الخيل للآتي مع صلوي السابق وأنكر الإمام الإشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة منأشهر الألفاظ فإشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل إن عدم الإستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعله
(1/116)

بفتح العين على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد أتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة ونجاة ومناة وصلاة وزكاة وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العثمانية وأتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري : ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو إتباع للتفخيم وهذا معنى قول إبن قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأدعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال والله لا أريد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة و السلام أفلح الأعرابي إن صدق والرزق بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به وقيل إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر أسم منه ومصدر أيضا على قول وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد وأختلف المتكلمون في معناه شرعا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فأنتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه أسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فأنتفع به وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لايخفى ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الإنتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله تعالى لقوامه وبقائه خاصة وحيث أن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عزوجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا قالوا إن الرزق هو الحلال والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه وإليه قل كل من عند الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله تصير الأمور والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالإختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين وقال تعالى : أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه إبن ماجه وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن امية قال جاء عمرو بن قرة فقال يارسول الله إن الله قد كتب علي الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فأخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة و السلام فأخترت إلخ كونه رزقا لمن أحمل له فيسقط الإستدلال لقيام الإحتمال خلاف الظاهر جدا ومثل هذا الإحتمال إن قدح في الإستدلال لايبقى على وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والإستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي
(1/117)

به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الإنتفاع دون الإنتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء إنتفاعا محلالا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا أن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه ومن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الإنتفاع به فإذا حصل الأعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا وأيضا قد يقال : معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحة فالأتصاف أن هذا لا يصلح دليلا والأحسن الإستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بإنقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بنى عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا والإنفاق الإنفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول إعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الإنفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا أجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الإنفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع أستحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وأنتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال إبن القيم في بدائع الفوائد فذهب إبن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله وقيل إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده ويفهم كلام البعض وهو من الغرابة بمكان أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد وأقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولا يرد على ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يقبل الله صدقة من غلول وقوله إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدي إليه إلا بتوفيق
وقد أختلف في الإنفاق ههنا فقيل وهو الأولى صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه وعن إبن عباس الزكاة وعنه إبن مسعود نفقة العيال وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد ولعل هذه الأقوال بمثيل للمنفق لا خلاف فيه وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة بإقترانها
(1/118)

باختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعضية حينئذ مما لا يسئل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في إتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري : أنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره وإطلاعه على ما وقر في صدره ومن ههنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير وقيل النكتة في إدخال من التبعضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق و ما في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف وأستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم إتصال ضميرين متحدي الرتبة والإنفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا أمتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه وأجيب على إختيار كل أما الأول فبأنه لما أختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز إتصالهما وإن إتحدا رتبة كقوله : لوجهك في الإحسان بسط وبهجة
أنا لهماه قفو أكرم والد وأيضا لايلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي وأما الثاني فبأن الذي يمنع حدفه ما كان منفصلا لغرض معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال إبن هشام في الجامع الصغير وأشار إليه غير واحد وكتبت من متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حدفت النون لفظا فناسب حذفها في الخط قاله في البحر وجعل سبحانه صلات الذين أفعالا مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله بأسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الإستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين وأسم الفاعل عندهم ليس كذلك ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها إعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية واصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم وجعلت قرة عيني في الصلاة وقد أظلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى وما كان الله ليضيع إيمانكم أو مالية وهي الإنفاق لوجه الله تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فأفهم ذاك والله يتولى هداك
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وماأنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون 4 عطف على الموصول الأول مفصولا وموصولا والمروي عن إبن عباس وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنوا أهل الكتاب وحيث أن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الإستقلال أختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير بإعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية وأولئك هم المفلحون
(1/119)

إشارة إلى الثنية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى تنزل الملائكة والروح والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية أنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإلاسم وقال بعضهم إن هؤلاء الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات بإعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم بإعتبار تعاقب الإنتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلتين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصل بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين بإعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين إحتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والأفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الإستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم ولم يقتض الإيمان بها على الإنفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام
وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالإستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا وأما ثانيا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود أشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة والنصارى أشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضا ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد ورد فيهاإن الله جاء من طورسيناء وظهر بساعير وعلن بفاران وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنا نقول أنهم آمنوا بالتوراة وتاولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسا ورموه بما رموه وحاشاه وهم الكثيرون وبعض كالعنانية قالوا : إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفي منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا صحيحا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم
(1/120)

أجرين حينئذ والفرق بين البابين واضح ثم النسخ الذي أدعاه المرجح خلاف ماذكره الشهر ستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا أستبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني إلتزاما وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا وعندي بعد هذا كله أن الإعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع إشتراكه بين جميع المؤمنين وإشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع إختصاص بالصلة وهم مؤمنوا أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال تعالى وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم مؤمنين بالكتب إستقلالا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون وإثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن إدعاه نحو فإذا نزل بساحتهم أي وصل وحل وإنزال الكتب الآلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته وقال الحكماء إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الإتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من هذا وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الأنسية إلا أن أمر النبوة وراء وأين الثريا من يد المتناول
وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيين للفاعل وقريء شاذابما أنزل إليك بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام وفي البحر أن فيه إلتفاتا لتقدم مما رزقناهم فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاءبما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلكوأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلا ماضيا مع أن المراد بالمنزل جميعه لإقتضاء السياق والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولإقتضاء يؤمنون المنبيء عن الإستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين : الأول إنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا أقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما
(1/121)

نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني : يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر أمست يبابا وأمسى اهها أحتملوا أخنى عليها الذي أخنى على لبد وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى إلى الله أشكو إن في القلب حاجة تمر بها الايام وهي كما هيا والآخرة تأنيث الآخر أسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر بفتح الخاء اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما فيالدار الآخرةوينشيء النشأة الآخرةثم غلبت كالدنيا والوصف الغالب قد يوصف به دون الأسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله من لا تخطر بباله أصلا فأفهم وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى ولدار الآخرة أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى : له الحمد في الأولى والآخرة والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام والإيقان التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن وهم فيه قال الجوهري اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقينا وأيقنت وأستيقنت كلها بمعنى وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر وإستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى
وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو أستدلاليا وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم وفي الأحياءوالقلب إليه يميلأن اليقين مشترك بين معنيين الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل وهذا لا يتفاوت الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك ل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب وأستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر وقرأ الجمهور يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقلوبالآخرة هم يؤمنون دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب
(1/122)

والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول على ما في شرح الطوالع ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار باليقان وهو هو إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا ولن تمسنا النار إلا أياما معدودة وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنون على هم إشارة إلى أن إعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء أولئك على هدى من ربهم الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق أعني هدى للمتقين يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة هدى للمتقين الموصوفين بالذين يؤمنون بالغيب والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا بإعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان بإعتبار إفادة مدحه وفائدة جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما أستفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الإختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب إختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك فأجيب بأن هؤلاء لأجل إتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للإختصاص فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبة وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكير هدى أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا أستغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الأسمية مؤكدة وقد يقال إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعنى الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على إحتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لايخفى إنفصاله عن ساحة القبول وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة إستئنافا نحويا والفصل لكمال الإتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات أختصوا بالهدى فأجيب بأن سبب إختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه لا سيما إذا أنضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب أو يقال إن الجواب بشرح
(1/123)

ما أنطوى عليه أسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من أستؤنف عنه الحديث كأحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته كأحسنت إلى رد صديقك القديم أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد أسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الأشعار بكمال تميزه بها وإنتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته وعلو درجته هذا وجعل أولئك وحده خبرا و على هدى حال بعيد كجعله بدلا منالذينوالظرف خبرا وإنما كتبوا واوا في أولئك للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل وقيل إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآيات ومن المشهور ردوا السائل ولو بظلف محرق وفي قوله سبحانه على هدى إستعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك وهي تمكنهم من الهدى وإستقرارهم عليه وتمسكهم به بحال من أعتلى الشيء وركبه ثم أستعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الإستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد وأنكر السيد إجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي إنتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه
وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه الأول أنها إستعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى بإستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والإستقرار فأستعير له الحرف الموضوع للأستعلاء الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب وإعتلائه عليه فيكون هناك إستعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بأزاء المشبه به إلا بكلمة على فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في على إستعارة أصلا بل هي على حالها قبل الإستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الإستعارة بالكناية وتجعل كلمة على قرينة لها على عكس الوجه الأول وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل وأول ما وقع بينهما في مجلس تيموروكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي فحكم والظاهر أنه لأمر ما للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد وأجابوا عن شبهة السيد بأن إنتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الإعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالإستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ولعل إختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الإنتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم إشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ماله وما عليه في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانيةوفي هذا القدر هنا كفاية وفي تنكير هدى إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيء لهم أسباب السعادتين ويمن عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون
(1/124)

ثم صفة محذوفة أي على هدى أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للأفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لنسخه ما قبله و من لإبتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين وقد قرأ إبن هرمزمن ربهمبضم الهاء وكذلك سائر ها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وإبن كثير وأبي عمرو وإبن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب وأظهر النون أبو عون عن قالون وأبو حاتم عن يعقوب وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت لاما وأولئك هم المفلحون الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو فلى وفلق وفلذ وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الإستقلال بالتمكن في الهدى والإستبداد بالفلاح والإختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم إختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالإنفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الإتصال والإنفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالأنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما و هم يحتمل أن يكون فصلا أو بدلا فيكون المفلحون خبرا عن أولئك أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى وقد ذكر غير واحد أن اللام في المفلح ونحرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه الأسمية أو الحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصرأو لمجرد تأكيد النسبة ولا إستبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الإختصاص أيضا وإن أريد الإتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي إنتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للإستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن إنتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق والسباق لا يقتضي إنتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليهم فقط فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى وههنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من اله ماجدكم أسدى جميلا وأعطى جزيلا وشكر قليلا فله الفضل بلا عد وله الحمد بلا حد
إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون 6 كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة
(1/125)

الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل ولم يعطف على سابقيه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان أتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشك فيه ومن هذا بيان أتصاف الكفار بالأصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار والقول إنمها مسوقان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لايجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة على أن الإنتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الإنتفاع وقيل أن ترك العطف لكونه إستئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال أستعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الإتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية نعم يمكن على بعد أن وجه السؤال بأن يقال : لو كان الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب والنجم تستصغر الأبصار رؤيته والذنب للطرف لا للنجم في الصغر والعطف في قوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم لإتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة لبيان ثواب الأخيار والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا إن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال وصدرت الجملة بإن إعنناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد والمراد من شافههم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى كمثل الذي ينعق بما لا يسمع وكقول الشاعر : ويسعى إذا أبنى ليهدم صالحي وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصرين والأخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه إن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر بالفتح مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع إستعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي وأختلفوا في تعريفه على حسب إختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية
(1/126)

رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول به مما أشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كإستحقاق بنت الإبن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الأكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال إبن الهمام : يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الإستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فليس شعار الكفار مثلا ليس في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الطاهر أن من يصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين : إن ليس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلا ليس بكفر وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به ايضا كما يظنه بعض منأدعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولادبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو ههنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضا وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق وأعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات ايضا
وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بإنضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الإكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا وإلاخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الإتئاد في هذا الباب مهما أمكن وقول إبن الهمام : أرفق بالناس وفي أبكار الأفكار في هذا البحثما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل وأستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لإستدعاء صدق الأخبار بمثل هذا الماضي سابقة المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال إن ذاته تعالى وصفاته
(1/127)

لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة إستواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته وإختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم وقيل غير ذلك مما يطول ذكره وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر وسواء أسم مصدر بمعنى الإستواء وهو لا يثني ولا يجمع وقد أستغنوا عن تثنيته بتثنية سي إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضي ورفع على أنه خبران وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر أن سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه أأنذرتهم أم لم تنذرهم أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله وأورد عليه أمور الأول أن الفعل لا يسند إليه الثاني أنه مبطل لصدارة الإستفهام الثالث أن الهمزة و أم موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الإستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال أستوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه الرابع أنه على تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لإلتباس المبتدأ بالفاعل ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يمكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجرى على ظاهره لزم عطف الأسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها ودعوى البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه أستعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان أو أحدهما بعد همزة التسويةجملة أسمية كما في قوله تعالى : سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل إبن جني عن أبي علي أنه قال : الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا أنتصب وأنصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى : هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء وكقوله سبحانه وتعالى : أعنده علم الغيب فهو يرى ألا ترى أن الفاء جواب الإستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الإنتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فأستواء وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة و أم أنسلخا عن معنى الإستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على إجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع وقد قال الإمام الآقسراي إن أنذرتهم إلخ إنتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الإستواء الموجود فيه وأما الحكم بالإستوأء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي على الفارسي وكلام المولى الفناري يحم حول هذا الحمى وذهب بعض المحققين إلى أنهما في الأصل للإستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم وقد ذهب ذلك الإستوأء هنا إذ سلخ عنهما الإستفهام وبقى الإستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة و أم مجردتان لمعنى الإستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم
(1/128)

الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الإستواء والإستفهام معا فجردا عن معنى الإستفهام وصار المجرد الإستواء ولتكرر الحكم بالإستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا أستعمل فيه الكل في جزئه والتحقيق إنه إما إستعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في المعنى : إنه من لحن الفقهاء وفي شرح الكتاب للسيرافي سواء إذا دخلت بعدها ألف الإستفهام لزمت أم كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير إستفهام عطف أحدهما على الآخر بأو كقولك سواء علي قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء علي قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو وإنما دخلت في الفعلين بغير إستفهام لما في ذلك من معنى المجازاة فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما على سواء والظاهر من هذا بيان إستعمالات العرب لسواء ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة إبن محيصن من طريق الزعفراني سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم شاذة رواية فقط لا إستعمالا كما يفهمه كلام إبن هشام فأفهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد اقوام وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لإلتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم إمتناعه هنا أولى على ما قيل وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للإستفهام وهو بالفعل أولى ومعنوي وهو إيهام التجدد نظرا لظاهر الصيغة وفيه إشارة إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الراسلة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى هنا بإعتبار أصل معناه لأن الإستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى : أستوى على العرش وقيل بمعنى عند ففي المغنى على تجرد للظرفية وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن سواء تستعمل مع علي مطلقا في قال مودتي دائمة سواء على أزرت أم لم تزر والإنذار التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى إثنين كقوله تعالى : إنا أنذرناكم عذابا قريبا فقل أنذرتكم صاعقة فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا وأستحسن أن لا يقدر ليعم وفي البحر : الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس اهلا لها وقوله عز من قائل لا يؤمنون يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الإستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الإستمرار ولا يؤمنون دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط في هذا النوع ههنا وأن
(1/129)

تكون بدلا إما بدل إشتمال لإشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون أو خبر إن والجملة قبلها إعتراض وفي التسهيل : الإعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان وحيث أن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على إستمراره في المستقبل أندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد وأبعد منه ما روى أن الوقف علىأم لم تنذر والإبتداء بهم لا يؤمنونعلى أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه وقرأ الجحدري سواء بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو وعن الخليل أنه قرأ سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق إعرابيا له بما بعده كما في البحر وقرأ الكوفيون وإبن ذكوان وهي لغة بني تميم أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهو الأصل وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وإبن كثير لا يدخل وروى تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة إبن عباس وإبن أبي إسحاق وروى عن ورش كإبن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين أحدهما الجمع بين ساكنين على غير حده الثاني أن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون وهذه القراءة من قبيل الأداء ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير وقد أحتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم وحاصل الإستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا إنقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع إتصافهم بعدم الإيمان فيلزم إتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان وكلا الأمرين من إنقلاب خبره تعالى كدبا وإجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال وأجيب بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان غايته أنه يصير ممتنعا بالغير وإستلزام وقوعه الكذب أو إجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لإمتناع الإنقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للمكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال وأما بالنظر إلى إمتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب وقيل في بيان إستحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الأخبار لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية
وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه ويستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الإستلزام
(1/130)

لإمتناعه بالغير كما فيما نحن فيه وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال وأعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء والبحث طويل وإستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه
ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر إستخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فإن الله تعالى لو أدخل إبتداء كلا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في إستعدادهم من الطوع والإباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الإستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضر من الثواب والعقاب وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما أمتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشيء من إستعداده الأزلي بإختياره السيء وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه إستعداده الأزلي ثم الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى إستعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى : أعطى كل شيء خلقه فلهذا قال : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفا للمعلوم وما في إستعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو عليه من قبوله لها والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الإستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن الله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى قد اعطى كل شيء خلقه وما يقتضيه إستعداده وما نقص منه شيئا ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم : فمن وجد خيرا فليحمد الله فإن الله متفضل بالإيجاد لا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما أقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى إستعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال وإنما قال سبحانه سواء عليهم ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله تعالى عليه وسلم لفضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم إشارة إلى برهان لمي للحكم السابق كما أن سواء عليهم إلخ على تقدير كونه إعتراضا برهان إني فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر وإقتراف المعاصي سببان للإستمرار على عدم الإيمان أو لإستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكموالختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل ويتجوز بذلك تارة في الإستيثاق من الشيء والمنع منه إعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب وتارة في تحصيل أثر عن أثر إعتبارا بانقش الحاصل وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر ومنه ختمت القرآن والغشاوةعلى ما عليه السبعةبكسر الغين
(1/131)

المجمعة من غشاء إذا غطاه قال أبو علي : ولم يسمع منه فعل إلا يائي قالوا ومبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عند الزجاج لما أشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لإشتمالها على ما فيها وكذلك ما أستولى على شيء كالخلافة وعند الراغب : هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن أستعملت في غيره فعلى التشبيه وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه فلأول أسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام والثاني لما يشتمل على الشيء ويحيط به وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه وروى عن مجاهد أنه قال : إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذاوضم الخنصرثم إذا أذنب ضم هكذاوضم البنصر وهكذا إلى الإبهام ثم قال : وهذا هو الختم والطبع والرين وهو عندي غير معقول والذي ذهب إليه المحققون أن الختم أستعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لأحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتمتلك الظروفمن نفوذ ما هو بصدد الإنصباب فيها إستعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الإشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم أشتق من الختم ختم ففيه إستعارة تصريحية تبعية وأما الغشاوة فقد أستعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم إحتلائها الآيات والجامع ما ذكر فهناك إستعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت أسم آلة على ما قيل ويجوز أن يكون في الكلام إستعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وابصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الإستنفاع بها بحال أشياء معدة للإنتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع عدم الإنتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة ثم إن إسناد الختم إليه عزوجل بإعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية بإعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم ألتزموا للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال : الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحوبني الأمير المدينة وناقة حلوب وأنا أقول : إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها إستعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة 8الإقتضاءات والعلم الألهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من إختلاف إستعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو وإختلاف مقتضيات تلك الإستعدادات فإذا تعلق العلم
(1/132)

الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه إستعدادها من إختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي إختاره العبد بمقتضى إستعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادا لله تعالى فإختياره الأزلي بمقتضى إستعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن إختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة بإختياره لما أختاره فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم بإختيارهم لا بالا كراه والجبر وليسوا مجبورين في إختيارهم الأزلي لآنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تبع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا إختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان إستعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى : أعطى كل شيء خلقه أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه إستعداده الغير المجعول وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة وقوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها اي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث أنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه أحسن كل شيء خلقه و ترى في خلق الرحمن من تفاوت أي من حيث أنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وأفترق عند إضافة بعضه إلى بعض فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء إستعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الإستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل وما ظلمهم الله تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة ولكن كانوا أنفسهم يظلمون حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى بإعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الإستعداد وقبح ما أنطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد فالبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه وأما إن الذم بإعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه : إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الإشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا لا يشفى عليلا ولا يروى غليلا إذ للخصم أن يقول اي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب بن عباد في هذا الباب : كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أنى يصرفون ويخلق فيهم الإفك ثم يقول أنى تؤفكون وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول لم تكفرون وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل وصدهم عن السبيل ثم يقول لم تصدون عن سبيل الله وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وماذا عليهم لو آمنوا وذهب بهم عن الرشد ثم قال وأين تذهبون وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فما لهم عن التذكرة معرضين ! ! فإن أجابوا بأن لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للإعتراض عليه المعترضون لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون قلنا لهم : هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كمالا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة
(1/133)

العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الإعتدال إلى إلتزام الباطل والمحال وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام وإن أرادوا بالكسب فعل العبد إستقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة وإقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال مسا ولو قسمن على الغواني لما أمهرن إلا بالطلاق وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب إستعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الإختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون ما في الديار أخو وجد نطارحه حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الاهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الايمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستفياء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيوت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت وقد علمت جوابها مما قدمناه لك وليكن على ما ذكر منك على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة وكذلك يفعلون إلى قاعدة التحسين والتقبيح وقالوا معاقبة الانسان مثل بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا قيل ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الانسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الاول عنها وأنتم تقولون إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز و جل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبي به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزما فإن قالوا ثم حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد قلنا على سبيل التنزيل والموافقة لبعض الناس ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيف قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين فلا حول ولا قوة إلا بالله وليكن هذا المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على ككل بانه تغريد بأحسن مقام والقلوب جمع قلب وهو في الأصل مصدر سمى به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الايسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الانسانية ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الصمدانية وبها يكون الانسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب الاوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأالمحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال سميت قلبا فهي متقلبة في أمره ومنقلبة
(1/134)

بقضاء الله وقدره وفي الحديث إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح وقد قال الشاعر ... قد سمي القلب قلبا من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل ... وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه لهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم وقيل إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبنى ذلك على إثبات الحواس الباطنة والكلام فيها مشهور ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة ومن عرف نفسه فقد عرف ربه والعجز عن درك الادراك إدراك والسمع مصدر سمع سمعا سماعا ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو إنهم عن المسع لمعزولون والأبصار جمع بصر وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الايمان فناسب تقديم القلوب لانها محل الايمان والسمع والابصار طرق وآلات له وهذا بخلاف قوله تعالى وختم على سمعه وقلبه فانه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة أفلا تذكرون فكان المناسب هناك تقديم السمع وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على شدة الختم في الموضعين فان ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى من المنع عنه وأظهر في الاستقلال أن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدي به حتى كأنه ذكر مرتين ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو مرور واحد وفي مررت بزيد وبعمرو مروران والعطف وإن كان في قوة الاعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الافادة لما فيه من الاحتمال ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الاشارة إلى نكتة هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك وقيل إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماة وهو الحاسة ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادئ النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مث ما ذكر في اللزوم عرفا ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة الإبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الاسماع قلما قرع السمع ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ وعلى أسماعهم واستشهد له بقوله
(1/135)

قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي ... والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله ... كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فان زمانكم زمن خميص ... ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك ليس بشيء لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل وحواس سمعهم وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على على قلوبهم وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى وختم على سمعه وقلبه والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة أنها في الغالب كذلك كغاشية السرج ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالازار وما في الكشف من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه يكشف عن حاله النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر ومن هنا قيل إنه أفضل منه والحق أن كلا من الحوا ضروري في موضعه ومن فقد حسا فقد علما وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل وقد قرئ بامالة أبصارهم ووجه الإمالة مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الامالة الترقيق والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لئلا يقع التقرير فانه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية أن من كرر الراء في تكبيرة الاحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي والجمهور على أن على أبصارهم خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء وفي تقديم الفعلية إشارة إلىأن ذلك قد وقع وفرغ منه ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غشاوة وقيل إنه على حذف الجار وقال أبو حيان يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشى وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم عشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والازالة وفي كل ما لا يخفى فقراءة الرفع أولى وقرئ أيضا بضم الغين ورفعه وبفتح الغين ونصبه وقرئ غشوة بكسر المعجمة مرفوعا وبفتحها مفوعا ومنصوبا وغشية بالفتح والرفع وغشاوة بفتح المهملة والرفع وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا
(1/136)

بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها وقال الراغب العشا ظلمة تعرض للعين وعشى عن كذا عمى قال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للاشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معافى قوله تعالى فقد كذبت رسل واللام في لهم للاستحقاق كما في لهم في الدنيا خزي وفي المغني لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ أنكره موصوفه ولو أخر جاز ك أجل مسمى عنده ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لانها إنما تقع له في مقابلة على في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم بأن مشاعرهم ختمت وإن الشقوة عليهم ختمت وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا وقال السالكوتي عطف على الذين كفروا والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقونه أو على خبر أن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم المسندين وجعل ذلك لدفع ما يتوهم من عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى والعذاب في الاصل الاستمرار ثم اتسع فيه مسمى به كل استمرار ألم واشتقوا منه فقالوا عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان وعن الخليل وإليه مال كثير أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لانه ما كان رادعا كالعقاب وقيل العقاب ما يجازى به كما في الآخرة وشمل البيان عذاب الاطفال والبهائم وغيرهما وخص السجاوندي العذاب بايصال الالم إلى الحي مع الهوان فايلام الاطفال والبهائم ليس بعذاب عنده وقيل إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الايلام مطلقا وأصل التعذيب على ما قيل إكثار الضرب بعذبة السوط وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه والعظيم الكبير وقيل فوق الكبير لان الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما والعظيم والكبيرر شريفان والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الاخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الاخص أعم مما لا يلتفت إليه هنا نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي الكبرياء ردائي والعظمة إزاري حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الازار ومعلوم أن الرداء أرفع من الازار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة ويقال إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس أو يقال إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين
(1/137)

بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم وذكر الراغب إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجرى مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة وقد يقال فيها أيضا عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك وقال بعضهم لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح فإما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها وقالوا أيضا هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه لامه كل أحد وقيل له إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالإنتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا أدعوني أستجب لكم وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا اخسئوا فيها ولا تكلمون
بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الإخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع نفسه وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب نفى العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم والعقل بمراحل عنهم زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمى بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزمه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك
(1/138)

في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك لا سيما ملك الملوك كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل ... يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظة ...
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن وإن شئت فقل إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة وهذا معنى ما ورد في الصحيح اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان أي في علم الله من أهل السعادة المستعدة لها ذاته فسييسر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا فسييسر بمقتضى القهر لعمل أهل الشقاوة وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى فلو شاء لهداكم أجمعين لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها وحيث لا تعلق لا مشيئة فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر كان عز شأنه عما يقوله الظالمون كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الإنتظام على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب الخ ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الاباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم
(1/139)

يظلمون وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الإستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الإستعداد وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام الخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم كما يرشدك إلى ذلك قوله سبحانه ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الإستعداد بمقتضى الحكمة ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب وليس مورد المسألتين منهلا واحدا وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة ألا تسمع قوله تعالى مرة ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم وتارة إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وكرة إن الله معنا وطورا إن معي ربي ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرحمن على العرش استوى أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى ولكن أكثر الناس لا يؤمنون وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان وما يعلم جنود ربك إلا هو ويخلق ما لا تعلمون فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب
(1/140)

لها بمقتضى الحكمة الإلهية وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته كلا إنها كلمة هو قائلها ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله اخسئوا فيها ولا تكلمون فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الإحتمالات ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها وكون قائلها صادقا الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكن الجزم بأحد طرفيه الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل فإن قلت إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم قلت بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما
قلت أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الإحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا
هذا وقال الفاضل الرومي ههنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات ... على السمع عولنا فكنا أولى النهي ... ولا علم فيما لا يكون عن السمع ...
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلثمائة ... كيف للعقل دليل والذي ... قد بناه العقل بالكشف انهدم ... فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانا رأى ثم حرم
(1/141)

واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عبيد قد عصم ... اهمل الفكر فلا تحفل به ... واتركنه مثل لحم في وضم ... إن للفكر مقاما فاعتضد ... به فيه تك شخصا قد رحم ... كل علم يشهد الشرع له ... هو علم فيه فلتعتصم ... وإذا خالفه العقل فقل ... طورك الزم مالكم فيه قدم ...
ويؤيد هذا ما روى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه وقال الإمام الغزالي ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء أم كيف يقبل أن يكون الإخبار عن الإستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى كلما خبت زدناهم سعيرا وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها سبحانك هذا بهتان عظيم وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة بما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من ترك الصلاة فقد كفر على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات والتأبيد لأهل النار في النار حق وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا كلما خبت زدناهم سعيرا وذكر الشيخ عبدالكريم الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير وفي شرح لباب الأسرار من الفتوحات أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار وقال إياك أن تحمل كلام الشيخ محي الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان الخ وهذا وأمثاله محمول على معنى
(1/142)

صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لك بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر المؤمنين ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين 8
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة إن الذين كفروا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار والناس أصله عند سيبويه والجمهور أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلت كما في قوله ... إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا ...
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل ... وما سمى الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب ...
أو من آنس أي أبصر قال تعالى آنس من جانب الطور نارا وجاء بمعنى سمع وعلم وسمى به لأنه ظاهر محسوس وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل وقيل من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم عليه السلام فنسي ولم نجد له عزما وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ فلع ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب أناس من الجن قال أبو حيان وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا إن النوس تذبذب الشيء في الهواء وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبدالله بن أبي وأشياعه وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء وقيل إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد وعلى هذا الأسلوب
(1/143)

ورد قوله تعالى من المؤمنين رجال ومنهم الذين يؤذون النبي لأنه أريد في الأول الجنس وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق تضمن الأخبار عمن يقول بأنه من الناس فائدة ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما وقيل المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة واختار أبو حيان هنا أن تكون من موصولة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن ومن الناس الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه صم بكم عمي فهم فلا يرجعون لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والإستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين وبهذا الإعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالإعتبار وفي قوله تعالى يقول وآمنا مراعاة للفظ من ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر ... لست ممن يكع أو يستكينون ... إذا كافحته خيل الأعادي ...
واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس وقيل إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك وأيضا ترك
(1/144)

الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم وحمل بالله وباليوم الآخر على القسم منهم على الإيمان سمج بالله وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وما هم بمؤمنين فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له وسمى آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس نعم المناسب للفظ اليوم لغة هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفا من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك وسيأتي لذلك تتمة وفي قوله سبحانه وما هم بمؤمنين حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا وأكد ذلك النفي بالباء أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وما هم بمؤمنين على قصر الإفراد والذوق يبعده وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفى المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ اشهد والإسم الخاص به تعالى واسم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون 9 أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام وقيل بالكسر اسم مصدر ومنه المخدع للخزانة والاخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام وقال السيد هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا
(1/145)

يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتي لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازا ولا تخفى غرابته والمخادعة مفاعلة والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الإنفعال وخفاء معلوم ما عليه وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما في الإنتصاف ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الإنخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه قوله صلى الله عليه و سلم المؤمن غر كريم لا الإنخداع الدال على البله ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في يخادعون وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث أن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب كما قيل بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة يخدعون والجواب عما يلزم هو الجواب فيما لزم وقد تأتى
(1/146)

فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع ويخادعون إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم فقيل يخادعون الخ وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال كما في ما جاءني زيد وقد طلع الفجر وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في لم أبالغ في اختصاره تقريبا وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفساد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى وقرأ الحرميان وأبو عمرو وما يخادعون وقرأ باقي السبعة وما يخدعون وقرأ الجارود وأبو طالوت وما يخدعون بضم الياء مبنيا للمفعول وقرأ بعضهم وما يخادعون بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا وقرأ قتادة والعجلي وما يخدعون من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل وبعضهم بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا ولا يشكل على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين وقد أثبت أولا وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر وقد يقال إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية فالمراد بالخداع غير الأول والمخادع والمخادع متغايران بالإعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله ... لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال ...
لا يترضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في إمتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لإطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم
(1/147)

وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته والنفس حقيقة الشيء وعينه ولا إختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى : كتب على نفسه الرحمة ويحذركم الله نفسه وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الإستفادة وقيل : الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة فيمن عرف نفسه فقد عرف ربه وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا وبعضهم يسمى الرأي بها والظاهر في الآية على ما قيل : المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعين كما لا يخفى وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى
وجملة وما يشعرون مستأنفة أو معطوفة على وما يخدعون إلا أنفسهم ومفعول يشعرون محذوف أي وما يشعرون أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على خداعهم وكذبهم كما روى ذلك عن إبن عباس أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روى عن زيد أو المراد لا يشعرون بشيء ويحتملكما في البحرأن يكون وما يشعرون جملة حالية أي وما يخدعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا والشعور الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم قال الراغب : شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر عنه عن اللمس ومنه أستعمل المشاعر للحواس فإذا قيل : فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر وتارة يقال : شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي اصبت شعره نحوأذنته ورأسته وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني إنتهى والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى لا يشعرون لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى وفي اللحاق نوع إشارة إليه ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالأنعام بل هم أضل ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى وهو أيضا أنسب بقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة كما لا يخفى
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون 01 المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر وعلى ما ذهب إليه أهل اللغةحالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل وعند الأطباء يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة والمراد من الأفعال ما هو متعارف وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم وعلى الظلمة كما في قوله :
(1/148)

في ليلة مرضت من كل ناحية فما يحس بها نجم ولا قمر وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لإختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني والمنقول عن إبن مسعود وإبن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وإنتظام أمورهم غاية الإنتظام فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون إحتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم لسوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي أما الأول فلقوله : إن في الجسد مضغة الحديث وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي ومنه الجبن والخور وقد ادخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله والمؤمنين ما شاهدوا والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فأكتفى بجمعها عن جمعه والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده وما هم بمؤمنين من إستمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل : ما بالهم لا يؤمنون فقال : في قلوبهم مرض يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله : وما يشعرون سبيل الإعتراض على ما قيل وجملة فزادهم الله مرضا إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله : وأعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كلما قدرا كما صرح في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الأسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار وفي الثانية أن ذلك سبب لأزدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لأزدادوا بما من الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى : يمدهم في طغيانهم للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب
(1/149)

إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الأعزاز والأحترام أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم والغم يخترم النفوس نحافة ويشيب ناصية الصبي ويهرم ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء وبعضهم جعل الأسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزعة إعتزالية وأغرب بعضهم فقال الأسناد مجازي كيفما كان المرض وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبدالقاهر في أنه لا يلزم في الأسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الأسناد إليه حقيقة مثل يزيدك وجهه حسنا إذا مازدته نظرا فتدبر وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما إرتكابا لحذف المضافأي فزاد الله قلوبهم مرضاأو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر والتنكير للتفخيم والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السموات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سمواته وسميع في قوله : أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع بمعنى سامع أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعا داعيها بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم أسم فاعل بيان لحاصل المعنى وقد أخرج إبن ابي حاتم عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما : كل شيء في القرآن أليم فهو موجع وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب عظيم وأليم وذلك للتخصيص بالذكر هنا والإندراج مع الكفار هناك قيل : وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية و ما إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة وأستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وإبن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما جاء به ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا فيبان الشيء وبين وصدق وصدق وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم كموتت الإبل ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ إستعارة تبعية تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله : مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف
(1/150)

ما هو عليه في نفس الأمر عندنا وفي الإعتقاد عند النظام وفيهما عند الجاحظ وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب وإصلاح ذات البين وكذب الرجل لإمرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فأنزجر عنه أعظم إنزجار وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير وقيل : إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر إستعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكنعلى بعد بعيدذلك التحريض ولا يرد على تحريم الكذبفي بعض وجوههما روى في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول : لست لها إني كذبت ثلاث كذباتوعني كما في رواية أحمد إني سقيم و بل فعله كبيرهم وقوله الملك في جواب سؤاله عن أمرأته سارة : هي أختي حين أراد غصبها وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء ! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث أن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحي أن اشفع وهل يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض وفيها مندوحة عن الكذب وقد صدرت من سيد أولى العصمة كقوله مما في حديث الهجرة وتسميته كذبا على سبيل الإستعارة للإشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبينة على لين العريكة مع الأعداء ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة فلعدوله عن الأولى بمقامهعد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور وما وقع لنبينا عليه الصلاة و السلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال على أنا نقول إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا إستحياء منها كيف وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم : ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الأستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال : أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض كأصبح يقول كذا وكادت تزيغ قلوب فريق منهم ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والأستقبال بالنسبة لزمان الحكم وقد عد الإستمرار من معاني كان فلا إشكال في بما كانوا يكذبون حيث دلت كان على إنتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على إنتسابه في الحال والأستقبال
(1/151)

والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن كان دالة على الإستمرار في جميع الأزمنة ويكذب وندل على الإستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه إبن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه وعنه خلاف في زاد غيرها والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال : وعشرة أفعال تمال لحمزة فجاء وشاء ضاق ران وكم لا بزاد وخاب طاب خاف معا وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون 11 أختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على يكذبون لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم : إنما نحن مصلحون إنكارا لإدعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم وهذا الذي مال إليه الزمخشري وهو مبني على عدم الإحتياج إلى ضمير في الجملةيعود إلى ما فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير ولهم عذاب أليم بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل ما مصدرية يجعل الوصل بكان حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى : إنما نحن مصلحون كذب فيؤول المعنى إلى إستحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والإستعمال ومن هنا قيل : بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد إحتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الإعتراض : أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الإتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو إستلزاما ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الإنتساب بوجه حتى تستحق الإنتظام في سلك التعليل لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر وقيل : معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها إتصافهم بكل من تلك الأوصاف إستقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما اشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالإعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الإستقلال وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والإستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن إستهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما تاره المدقق في الكشف وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله : ومن الناس من يقول لبيان حالهم في إدعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الأسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أوفى بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على إندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر
(1/152)

التي فيها إليهم كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلامكلا خارج عن دائرة الأنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والإعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الإستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه إبن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنهمن أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعدليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة و السلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تفسدوا والفساد التغير عن حالة الإعتدال والإستقامة ونقيضه الصلاح والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفسادوهو هنا الكفر كما قاله إبن عباسأو المعاصيكما قاله أبو العاليةأو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤديولو بالوسائطإلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لإنتفاء الإستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد منالأرضجنسها أو المدينة المنورة والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد إستيعاب الأفراد لا الأجزاء اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا لكن يبقى أنه لا معنى لحمل على الإستغراق بإعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها وأقبح خلق الله من بات عاصيا لمن بات في نعمائه يتقلب وإنما للحصر كما جرى عليه بعضا النحويين وأهل الأصول وأختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا وجعل القول بكونها مركبة من ما النافية دخل عليها أن التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا صادر عن غير عارف بالنحو ومعنى إنما نحن مصلحون مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشيء عن جهل مركب فأعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا وأستكبروا إستكبارا يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم وقرأ هشام والكسائي قيل بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة وقول : بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها
ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون 21 رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الإستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه بأن وألا بناء
(1/153)

على تركبها من همزة الإستفهام الأنكاري الذي هو نفي معنى ولا النافية فهو نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره ولإفادتها التحقيق كما قال ناصر الدين : لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم كان واللام وحرف النهي والذي أرتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة و لا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال أنفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء فيألا رب يوم صالح لك منهماوألا حبذا هند وأرض بها هندوألا ياقيس والضحاك سيراوضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يشعرون على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه وأتى سبحانه بالإستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بإدعاء أنهم على خلافه وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للإستدراك وما يقال : من أنه لا ذم على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال إنه أسوأ حالا من غيره وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا يشعرون محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون ألا إنهم هم المفسدون لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم وفيه مزيد تسلية له إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته وفي التأويلاتلعلم الهدىإن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد إرتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها وأنت تعلم أنه مع قيام الإحتمال يقعد على العجز الإستدلال وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس إشارة إلى التحلية بالحاء المهملةكما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمةولذا قدم وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقتهكما قيللأن إعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد أفعلوا الإيمان و الكاف في موضع نصب وأكثر النحاة يجعلونها نعتا لمصدر محذوف اي إيمانا كما آمن الناس وسيبويه لا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل وللم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و ما إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالأخلاص خالصا عن شوائب النفاق والمراد من الناس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا كما أخرجه إبن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهماوهم نصب عين أولى الغين وملتفت
(1/154)

خواطرهم لتأملهم منهم وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد خارجي أو خارجي ذكرى أو من آمن من أبناء جنسهم كعبد الله بن سلامكما قاله جماعة من وجوه الصحابة أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل فاللام إما للجنس أو للإستغراق
وأستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وما هم بمؤمنين أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث أنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق فإن لا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء أرادوا لا يكون ذلك اصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلا أن يدعى غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون والسفه الخفة والتحرك والإضطراب وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث أشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم واليهود قوم بهت وقد أستشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين كما هو الظاهر والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير وقيل : إذا هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذاك ما قيل مثله في قوله وإذا ما لمته لمته وحدي وقيل : إنه كان بحضرة المسلمين لكن مساررة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى وقيل : كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما وذكر مولانا مفتي الداير الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشرك ما ذكره في تفسيره وللخير بأن يحمل على أدعاء الإيمان كأيمان الناس وإنكار ما أتهموا به من النفاق على معنىأنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا إعتداد بإيمانهم لو آمنواولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك وقد خاطبوا به الناصحين إستهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم أسمع غير مسمع في إحتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إنما نحن مصلحون من هذا القبيل أيضا وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وأدعى أنه من بنات أفكاره وعندي أنه ليس بشيء لأن أنؤمن لإنكار الفعل في الحال وقولهم كما آمن السفهاء بصيغة الماضي صريح
(1/155)

في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا ولا أدري من أين أتى به
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر
فالأهون بعض هاتيك الوجوه وقوله : إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلا عما هو في منصب الأعجاز لا يخفى ما فيه على من أطلع على محاورات الناس قديما وحديثا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون 31 رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف وإنما قال سبحانه هنا : لا يعلمون وهناك لا يشعرون لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور على ما قيل فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر
ثم أعلم أنه إذا ألتقت الهمزتان والأولى مضمونة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء ألا ففي ذلك أوجه تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وإبن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا أستقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا إستهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وإدعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع وذلك التفوه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الإستهزاء وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة والقول بأن المراد ب آمنا أولا الأخبار عن إحداث الإيمان وهنا عز إحداث إخلاص الإيمان مما أرتضاه الإمام ولا أقتدي به وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبيفيجب إرادتهيدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه واللقاء إستقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر مصدرا للقى وقرأ أبو حنيفة وإبن السميقع لاقوا وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد وحذف المفعول في آمنا قيل إكتفاء بالتقييد قبل بالله وباليوم الآخر وقيل : المراد آمنا بما آمنتم به وأبعد من قال أرادوا اليمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما : هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي وملانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وإذا خلوا إلى شياطينهم من خلوت به وإليه إذا أنفردت معه أو من قولهم في المثل : أطلب الأمر وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ومنه قد خلت من قبلكم سنن وعلى الثاني المفعول الأول ههنا محذوف لعدم تعلق الغرض به اي إذا خلوهم وتعديته إلى المفعول الثاني إلى لما في المضى عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر وإحتمال أن يكون من خلوت به اي سخرت منه فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم
(1/156)

وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا خلا بمعنى سخر في كلام من يوثق به وقولهم : خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل والدال على السخرية يعبث به وزعم النضر بن شميل أن إلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل إلى والباء ومع بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة
وضعيفان يغلبان قويا
والمراد ب شياطينهم من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهودكما قاله إبن عباسأو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم ككعب بن الأشرف من بني قريظة وأبي بردة من بني أسلم وعبدالدار في جهينة وعوف بن عامر في بني أسد وإبن السوداء في الشام
وحمله على شياطين الجن كما قاله الكلبي مما لا يختلج بقلبي والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح كما في بعض الشواذ تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن إمتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت وإحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو أحترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر هي البازل الكوماء لا شيء غيرها وشيطانة قد جن منها جفونها وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب
قالوا إنا معكم أي معية معنوية وهي مسواتهم لهم في إعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان وقيل : إن التأكيد كما يكون لأزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون لعدم إعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان إدعاء لكمال الإيمان وثباته وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكى عنهم : نشهد أنك لرسول الله إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى والعوارض كثيرة ولهذا قيل : إنهم للتقية والخداع ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمانليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربةأكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا بالله واليوم الآخر والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها إلتزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى وقرأ
(1/157)

الجمهور معكم بتحريك العين وقريء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إنما نحن مستهزئون 41 الإستهزاء الإستخفاف والسخرية وأستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به وأستهزأت بمعنى كأستعجب وعجب وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الإستهزاء الإستحقار والإستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء وأرادوا مستخفون بالمؤمنين وأصل هذه المادة الخفة يقال : ناقته تهزأ به اي تسرع وتخف وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخريةغير موافق للغة والعرف والجملة إما إتئناف فكأن الشياطين قالوا لهملما قالوا إنا معكم إن صح ذلكفما بالكم توافقون المؤمنينفأجابوا بذلك أو بدل من إنا معكم وهل هو بدل إشتمال أو كل أو بعض خلاف أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزيء بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المقيد لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل إشتمال
وأما الثاني وبه قال السعد : فللتساوى من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للإستهزاء والسخرية وغير ذلك أو تأكيد لما قبله بأن يقال إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما نحن مستهزؤن لإستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم إرتفاع النقيضين أو يقال يلزم إنا معكم إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الإستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا بإعتبار ذلك اللازم وأولى الأوجه عند المحققين الإستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الأعجاز من أن موضوع إنما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل وقريء مستهزؤن بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمونة ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي الله يستهزيء بهم حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الإستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزيء من أسمائه سبحانه وقالوا : إنه التحقير على وجه من شأنه أن من أطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا أستحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به جل وعلاحقيقة لما فيه من تقرير المستزأ به على الجهل الذي فيه ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالإستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة ههنا ففي الكلام إستعارة تبعية أو مجاز مرسل وإما بأن يراد به إنزال الحقارة والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس نظرا إلى الوجود وإما بأن يجعل الله تعالى وتقدس كالمستهزيء بهم على سبيل الإستعارة المكنية وإثبات الإستهزاء له تخييلا ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزيء : أما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام وإستدراجهم من حيث لا يعلمون وأما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال : هلم هلمفيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيقال : هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال : هلم هلم فما ياتيه وقد روى ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في
(1/158)

المستهزئين بالناس وأسند سبحانه الإستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الإستهزاء بالمنافقين هو الإستهزاء الأبلغ الذي لا إعتداد معه بإستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وأنتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما أستهزيء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد وقيل : ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين وقولهم إنما نحن مستهزؤن إشعارا بأن ما حكى من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل واحد عن كيفية إنتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لورود هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقامكهم مستهزؤن بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة إستهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازة وأيضا لكون إستهزاء الله تعالى بمكان بعيد من إستهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الإستئناف مدعيا أنه لو عطف ولو بحسب التوهم على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤن بهم والله يستهزيء به لفاتت الفائدتان هذا ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الإستشكال فتدبر وعدل سبحانه عن الله مستهزيء بهم المطابق لقولهم إلى قوله الله يستهزيء بهم لإفادته التجدد الإستمراري وهو أبلغ من الإستمرار الثبوتي الذي تفيده الأسمية لأن البلاء إذا أستمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل : خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل أستهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون وهذا نوع من العذاب الأدنى ولعذاب الآخرة اشد لو كانوا يعلمون وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الإستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكى عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا ويمدهم في طغيانهم يعمهون 51 معطوف على قوله سبحانه وتعالى : يستهزيء بهم كالبيان له على رأي والمد من مد الجيش وأمده بمعنى أي الحق به ما يقويه ويكثره وقيل : مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس وقيل : مد في الشر وأمد في الخير عكس وعد وأوعد وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم وقد ورد إستعمال هذه المادة بمعنيين أحدهما ما ذكرنا وثانيهما الإمهال ومنه مد العمر والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين الأول أنه روى عن إبن كثير من غير السبعة يمدهم بالضم من المريد وهو لم يسمع في الثاني والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يمدهم في طغيانهم يريدهم ويقويهم فيه وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره والحق أن الأمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وإبن كيسان والوجهان مخدوشان فقد وردعند من يعول عليه من أهل اللغةكل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له
(1/159)

وروى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان وعن إبن عباس الأملاء ونسبة المد إلى الله تعالىبأي معنى كان عند أهل الحق حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد بإختراعها على حسب ما أقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الإستعدادات ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه : وإخوانهم يمدونهم في الغي نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى : يتوفاكم ملك الموت مع قوله جل وعلا الله يتوفى الأنفس وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم فلنطوه هنا على ما فيه والطغيان بضم الطاء على المشهور وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه وقد سمعا في مصدر اللقاء وقد أماله الكسائي وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالإختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الإعتبار لا بإعتبار المحلية والإتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا بإعتبار الإيجاد إستقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه إعتبار عليه غبار بل غبار ليس له إعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته ويحتمل أن يكون الإختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لإدعاء إختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة والعمة التردد والتحير ويستعمل في الرأي خاصة والعمى فيه وفي البصر فبينهما عموم وخصوص مطلق في الإستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع وأختص العمى بالبصر على ما قيل وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب لتدل من حجارة وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه كتعب يتعب عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين وقيل : العمة العمى عن الرشد وقال إبن قتيبة : هو أن يكب راسه فلا يبصر ما يأتي فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر وجملة يعمهون في موضع نصب على الحال إما من الضمير في يمدهمو إما من الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل وفي طغيانهم يحتمل أن يكون متعلقا بيمدهمو أن يكون متعلقا بيعمهون وجاز على خلاف كون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في يمدهم أولئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون ونسبة السفه للمؤمنين وهم السفهاء والإستهزاء وهم المستزأ بهم ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع أولئك على هدى من ربهم فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل منأين دخل على هؤلاء هذه الهيئات فيجاب بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم أشتروا الضلالة بالهدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الإهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال وقيل : هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالهم أو تعليل لإستحقاقهم الإستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى : ويمدهم في طغيانهم يعمهون وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعيف اللام الجنسي وهو إدعائي بإعتبار كمالهم في ذلك الإشتراء
(1/160)

وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوي الشنيعة والخلال الفظيعة فبذلك الإعتبار صح تخصيصهم بذلك والضلالة الجور عن القصد والهدى التوجه إليه ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والإستقامة عليه والإشتراء كالشراء إستبدال السلعة بالثمن أي أخذها به وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن وهو الهدى حاصلا لهؤلاء قبل ولا ريب أنهم بمعزل عنه فأما أن يقال إن الإشتراء مجاز عن الأخيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال : أختاروا الضلالة على الهدى ولكون الإستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الإشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشحكما هو العادة في أمثاله أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الإستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في إستتباع الجدوى ولا مرية في إن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشار العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك أو يقال : المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقةفإن كل مولود يولد على الفطرة وقول مولانا مفتي الديار الرومية : إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كونما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا كلام ناشيء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف أو يقال : هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم وحقية دنيه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدى إلى سواء السبيل وما ذكرناه من أن أولئك إشارة إلى المنافقين هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين والمروي عن مجاهد وهو الذي يقتضيه النظم الكريم وبه أقول وروى عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا وعن إبن عباس وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا والكل عندي بعيد ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن الآية نزلت فيهم وقرأ يحيى بن يعمر وإبن إسحاق أشتروا الضلالة بالكسر لأنه الأصل في إلتقاء الساكنين وأبو السماك أشتروا بالفتح إتباعا لما قبل وأمال حمزة والكسائي الهدى وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش
فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين 61 عطف على الصلة وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان
(1/161)

الموصول فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أولئك وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أولئك مبتدأ و الذين مبتدأ و فما ربحت تجارتهم خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أولئك مبتدأ و الذين بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر و التجارة التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد تاء أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وأرتج وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو و الربح تحصيل الزيادة على راس المال وشاع في الفضل عليه و المهتدي إسم فاعل من أهتدى مطاوع هدى ولا يكون أفتعل المطاوع إلا من المتعدي وأما قوله : حتى إذا أشتال سهيل في السحر كشعلة القابس ترمي بالشرر فأفتعل فيه بمعنى فعل تقول : شال يشول وأشتال يشتال بمعنى وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو كرأس المال بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الإستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار وإسناد الربح إلى التجارة وهو لأربابها ماجز للملابسة وكنى في مقام الذم ينفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة وفائدة الكناية التصريح بإنتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم إن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر وقيل : إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقة أما إذا كان لا يقبل إلا إثنين منها فنفى أحدهما يكون إثباتا للآخر والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى وما كانوا مهتدين وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله وأختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله : على لا حب لا يهتدي بمناره أي لا منار فيهتدي به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح والظاهر أن وما كانوا مهتدين عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع بإعتبار المعنى الكنائي وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الإهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والإحتراس كقوله : فسقى ديارك غير مفسدها صوب الغمام وديمة تهمي أو من باب التنعيم كقوله : كأن عيون الوحش حول خبائنا وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وقال الشريف قدس سره : إن العطف على أشتروا الضلالة بالهدى أولى لأن عطفه على ما ربحت يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه والأمر بالعكس إلا ان يقال ترتيبه بإعتبار الحكم والأخبار وفيه أنه لو كان معطوفا على أشتروا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف أحتياطا كما ذكر في نحو قوله
(1/162)

وتظن سملى أنني ابغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم على أن بين معنى أشتروا إلخ ومعنى وما كانوا إلخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة وجوز أن تكون الجملة حالا ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه وقرأ إبن أبي عبلة تجاراتهم على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة ووجه الأفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها مثلهم كمثل الذي أستوقد نارا جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من إستعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللئام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد وربما تكون المعاني التي يراد تفيهمها معقولة صرفة فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وقيل : الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى : أولئك الذين أشتروا إلخ ولا بعد فيه والحمل على الإستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان والمثل بفتح تينك المثل بكسر فسكونوا لمثيل في الأصل النظير والشبيه والتفرقة لا أرتضيها وكأنه مأخوذ من المثول وهو الإنتصاب ومنه الحديث من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار ثم اطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه أو إستعارة رائقة تمثيلية وغيرها أو حكمة وموعظة نافعة أو كناية بديعة أو نظم من جوامع الكلم الموجز ولا يشترط فيه أن يكون إستعارة مركبة خلافا لمن وهم بل لا يشترط أن يكون مجازا وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى إبتدأها وليس لها مورد من قبل اللهم إلا أن يقال إن هذا إصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك ثم أستعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة ومن ذلك ولله المثل الأعلى و مثل الجنة التي وعد المتقون وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من أستوقد نارا آلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ وزعم إبن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى : أينتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل وهذا مذهب إبن الحسن وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله : فصيروا مثل كعصف مأكول زيادة في الجهل والذي وضع موضع الذين إن كان ضمير بنورهم راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية أقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه ولأنه مع صلته كشيء واحد وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم
(1/163)

يلحقوها به ووضعوه لما يعم كمن وما والذين ليس جمعا له بل هو أسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح ولأن إستطال بالصلة فأستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن أقتصر على اللام في نحو أسم الفاعل قاله القاضي وغيره ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير وما روى عن بعض النحاة من جواز حذف نون الذين ليس بالمرض عند المحققين ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى : وخضتم كالذي خاضوا على وجه وقول الشاعر : يارب عيسى لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا فيمن قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في الذي من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به مستوقد مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه وأسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع كعاليهم ثياب سندس خضر وقولهم : الدينار الصفر والدرهم البيض أو يقال : إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام ويلاحظ في ضمير أستوقد لفظ الموصوف وفي ضمير بنورهم معناه وأستوقدوا بمعنى أوقدوا فقد حكى أبو زيد أوقد وأستوقد بمعنى كأجاب وأستجابوبه قال الأخفش وجعل الأستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي محوج إلى حذف والمعنى حينئذ طلبوا نارا وأستدعوها فأوقدوها فلما أضاءت لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق وإشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها على ما تشاهد حركة وإضطرابا لطلب المركز وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة لما ثبت في الكتب الحكميةأن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان ألاشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها وأما إعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإجراق ويجعلونهما أخص أوصافها والتعريف للمتعارف وعدم الأحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ وإحتراق الشهب على من ينكر الإحراق وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا وقرأ إبن السميقع كمثل الذين على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن الذي لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله : كذاك الذي يبغي على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع أو أنه أكتفى بالأفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله : وبالبدو منا أسرة يحفظونها سراع إلى الداعي عظام كراكره أي كراكرهم أو أن الفاعل في أستوقد عائد على أسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات على وجه والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس أي لهم أو لا عائد في الجملة الأولى إكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء وفي القلب من كل شيء فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم لما حرف وجود لوجود أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه أو ظرف بمعنى حين أو إذ والإضاءة جعل
(1/164)

الشيء مضيئا نيرا أو الإشراق وفرط الإنارة وأضاء يكون متعديا ولازما فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنت فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية ولا يحب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد وهي الجهات الستوهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها وأولى الوجوه أن تكون أضاءت متعدية و ما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى ولا إرتكاب ما قل إستعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا ولم يحفظ من كلام العرب جلستما مجلسا حسنا ولا قمتما يوم الجمعة ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي ! وذأ جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضؤوها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل وهو مبني على أن الإظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر كقام زيد في الدار فإن ريدا والقيام فيها ذاتا وتبعا وإلى ذلك مال الزمخشري ومن الناس من إكتفى بوجود الاثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة ويثني ويجمع فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثني على حوالي ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه بكسر اللام كما في الصحاح ولعل التثنية والجمع مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة ليسا حقيقين وقيل : بإعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم أفندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله ولما لزمه الإنتقال والتغير أستعمل فيه بإعتباره كالإستحالة والحوالة وإن خفى في نحو الحول بمعنى القوة وقيل : أصله تغير الشيء وإنفصاله و ذهب إلخ جواب لما والسببي إدعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أنه يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو إن كان لي مال حججت والا ذهاب متوقف على الإضاءة والضمير في بنورهم للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم وأختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما لهم شبهت حالهم بذلك أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب لما محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين ومثله فلما ذهبوا به وحذفه للإيجاز وأمن الألباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن أرتضاه الجم الغفير ويجل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير بواسطة ولا يعترض على الحكيم بشيء وحمل النار على نار لا يرضى الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقة أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا إعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال وعدى بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن ذهب بالشيء يفهم منه أنه أستصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن أشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين أعني الإزالة
(1/165)

والمصاحبة والإلصاق ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لاراد لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته ولعله يقول : إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى : وجاء ربك والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه إستعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل : ويظهر في البلاد ضياء نور
وقال العباس رضي الله تعالى عنه : وأنت لما ظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع وهذا الذي ذكرنا هو الذي أرتضاه المحققون من أهل اللغة ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا للمتقين وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم وكل آي أتى الرسل الكرام بها فإنما أتصلت من نوره بهم وكذا وجه وصف الصلاةالناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم بالنور والصبر بالضياء ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل وأعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى : جعل الشمس ضياء والقمر نورا وعلى هذا يكون التعبير ب ذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لإحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الإستعمال أو الإصطلاح لا من أصل الوضع واللغة ومن هنا قال الحكماء : إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يكون من غيره وأستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة ومنه الصبر ضياء ومعلوم أنه كاسمه والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي من الشريعة السهلة السمحة البيضاء ومنه الصلاة نور ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير وجعلت قرة عيني في الصلاة وأرحنا يا بلال واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره وقول الشاعر : بتنا وعمر الليل في غلوائه وله بنور البدر فرع أشمط والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي
(1/166)

وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في إختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة أعتبرها ومناسبة لاحظها وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع فالله نور السموات والأرض ولله المثل الأعلىوشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن إنسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من إنسياقها من النور إليه فقد أنتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما أنقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الإنتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الإنتفاع به ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتي هذه الإشارة لو قال هنا ذهب الله بضوئهم بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الآتم والرداء المعلم هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم وقرأ إبن السم يقع وإبن أبي عبلة فلما ضاءت ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وفيها تأييد لمذهب سيبويه
وتركهم في ظلمات لا يبصرون 71 عطف على قوله تعالى ذهب الله بنورهم وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لإنتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها وإيراد لا يبصرون وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه وليس المعنى عليه والترك في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه وقال الراغب ترك الشيء رفضه قصدا وإختيارا أو قهرا وإضطرارا ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف والكل هنا محتمل فعلى الأول هم مفعوله الأول وفي ظلمات مفعوله الثاني ولا يبصرون صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر أو من هم ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا و لا يبصرون مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني هم مفعوله و في ظلمات لا يبصرون حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان فالأول من المفعول والثاني من الضمير فيه و في ظلمات متعلق ب تركهم و لا يبصرون حال والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة وأعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى : وجعل الظلمات والنور والمجعول لا يكون إلا موجودا وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فأنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا ألبتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة وعن الثاني بالمنع أيضا فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف وقيل : كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد وأعترض بأنه لو كانت كيفية لما أختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الإعتراض عنه وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الإظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل وقيل : التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة وإن
(1/167)

كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها أستعير لها صيغة الجمع مبالغة كما قيل رب واحد يعدل ألفا أو لأنه لما كان الكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الإعتبار كذا قالوا ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الإكتفاء بكثير من هذا وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين وهي كقلب رجل واحد وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى : الله نور السموات والأرض وفي الظلمة لا يرى مثل هذا وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم ما ظلمك أن تفعل كذا أي ما منعك وفي مثلثات إبن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم أي أول شخص يسد بصري وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية فبإعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في اصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور إختصارا للفظ وإكتفاء بما دل عليه المعنى والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء : و لا يبصرون منزل اللازم لطرح المفعول نسيا منسيا ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم وقرأ الجمهور في ظلمات بضم اللام والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم بفتحها والكل جمع ظلمة
وزعم قوم أن ظلمات بالفتح جمع ظلم جمع ظلمة فهي جمع الجمع والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من إدعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه وقرأ اليماني في ظلمة وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلكم ما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للإنتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم أشتروا الضلالة بالهدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد والضلالة التي أشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات والتفسير المأثور عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه إبن جرير عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لإجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للإنتفاع والإستبصار ولذهاب أثره وإنطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها ويشتمل التشبيه وجوها أخر ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال أو مثل من أستوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر وقال أبو الحسن الوراق : هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فأرتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الآنوار وبقى في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور صم بكم عمي فهم لا يرجعون 81 الأوصاف جموع كثرة على وزن
(1/168)

فعل وهو قياس في جمع فعلاء وأفعل الوصفين سواء تقابلا كأحمر وحمراء أم إنفرادا لمانع في الخلقة كغرل ورتق فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء كرجل ألي وأمرأة عجزاء فالوزن فيه سماعي والصمم داء في الأذن يمنع السمع وقال الأطباء : هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمى عندهم طرشا وأصله من الصلابة أو السد ومنه قولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى وهو داء في اللسان يمنع من الكلام وقيل : الأبكم هو الذي يولد أخرس وقيل : الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا وقيل : ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله : أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر وأصم عما كان بينهما أذني وما في سمعها وقر وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الإستعارة عندهم وذهب بعضهم إلى أنه إستعارة وآخرون إلى جواز الأمرين وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صم إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأن لبيان أحوال مشاعر المنافقين لأذواتهم ففي هذه الصفات إستعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة أو يقال ولعله أولى إنهم المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم تشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صم على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صم إلخ فقد أنكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا والآية فذلكة ما تقدم ونتيجته إذ قد علم من قوله سبحانه لا يشعرون و لا يبصرون أنهم صم عمي ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم كالبكم ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يرجعون وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر العمى لأنه كما قيل : شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسطحل بين العصا ولحائها ولو قدم لأوهم تعلقه ب لا يبصرون أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وأخرى بدونها كما في قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة لأن إستلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج والفرع على أصله يقتضي الإقتران بالفاء وهو الشائع المعروف وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى التجوز ويكفي فيه الفرض وأن
(1/169)

امتنع عادة كما في قوله : أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد فيفرض هنا حصول الصمم والبكم والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك ويؤيد كونها تتمته قراءة إبن مسعود وحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم صما وبكما وعميا بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال و لا يبصرون حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لأثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يبصرون جهل بالحال وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن حيث يذكر الأسم السابق وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما فنسأل الله تعالى العفو والعافية من إرتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله ومثله بل أدهى وأمرالقول بأن جملة لا يرجعون كذلك ومتعلق لا يرجعون محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن أشتروها وقد لا يقدر شيء ويترك على الأطلاق
والوجهان الأول ان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من أولئك الذين أشتروا إلخ والأخير على تقدير أن يكون من ذهب الله بنورهم إلخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وكيف يرجعون إلى حيث إبتدؤا منه والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به والفاء للدلالة على أن إتصافهم بما تقدم سبب لتحيرهم وإحتباسهم كيف ما كانوا
ومن البطون صم آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة بكم عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا عمى عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه : وقال سيدي الجنيد قدس سره : صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن ابصيرة فيما إليه دعوا
أو كصيب من السماء شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفؤا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الأطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقام الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والأعجاز ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على الذي أستوقد نارا ويكون النظم كمثل ذوي صيب فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملائمة للمعطوف عليه والمشبه وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام والتفصيل على حسب إعتبارات المتكلم وفي الأنشاء
(1/170)

الإباحة والتخيير كذلك وحينئذ لا يلزم الإشتراك ولا الحقيقة والمجاز وبعضهم يقول : إنها بإعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما فيما نحن فيه على رأي إذ المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول وزعم بعضهم أن أو هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد وقيل : بمعنى بل وقيل : للإبهام والكل ليس بشيء نعم أختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة وكذا التخييرلا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه إنتهى ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الإختصاص مما لم يجمع عليه الخواص فقد ذكر إبن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فهي كالحجارة أو اشد قسوة والتقدير نحو فكان قاب قوسين أو أدنى والصيب في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن إبن عباس وإبن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله : حتى عفاها صيب ودقه داني النواحي مسبل هاطل ووزنه فيعل بكسر العينعند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل بكسر القاف علم لأمرأة والبغداديون يفتحون العين وهو قول تسد الأذن عنه وقريب منه قول الكوفيين : إن أصله فعيل كطويل فقلب وهل هو أسم جنس أو صفة بمعنى نازل أو منزل قولان أشهرهما الأول وأكثر نظائره في الوزن من الثاني وقريء أو كصائب وصيب أبلغ منه والتنكير فيه للتنويع والتعظيم والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة وقد تذكر كما في قوله : فلو رفع السماء إليه قوما لحقنا بالسماء مع السحاب وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سموات وأسمية وسمائي والكل كما في البحر شاذ لأنها أسم جنس وقياسه أن لا يجمع وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث وعلى فعائل لا ينقاس في فعال والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للإستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعال : يصب من فوق رؤوسهم الحميم وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا و من لإبتداء الغاية وقيل : يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل : إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفلوهو من أبخرة الجهل إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه الجهة وهو غير مناف لما ذكر كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا وهم فوق الجبال الشامخة سحابا
(1/171)

يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب ثم حملا لصيب هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه فيه ظلمات ورعد وبرق أي معه ذلك كما في قوله تعالى : أدخلوا في أمم وإذا حملت في على الظرفية كما هو الشائع في كلام المفسرين أحتج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث ظلمة تكاثفه بتتابعه وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى : كلما أضاء لهم مشوا فيه وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه وقيل : فيه وهو كما قال الشهاب وهم نشأ من عدم التدبر وإن كان المراد بالصيب السحاب فأمر الظرفية أظهر والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل وجمع الظلمات على التقديرين مضيء ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه وكل من الرعد والبرق نوع واحد وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد كما ورد في الحديث وجرت به العادةيسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى : كلما أضاء لهم مشوا فيه فأفرادهما متعين هنا وعندي وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن لما تقدم لم يجمع البرق لأغراضهم
واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إبهام ما لا يكاد إذ ليس هو بالبعيد عنه كما يرشدك إليه كلما أضاء لهم والرعد مصاحب له فأنعكست اشعته عليه أو ما ترى الجلد الحقير مقبلا بالثغر لما صار جار المصحف وإرتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الإبتدائية والظرف خبره وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى وللناس في الرعد والبرق أقوال : والذي عون عليه أن الأول صوت زجر الملك الموكل بالسحاب والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار والذي أشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد وقد تشتعل منه لشدة حركته ومحاكته نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفيء في السحاب فيسمع لإنطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الأبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالواه وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا بلا رعد ولا برق على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الأطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم
(1/172)

فأقول : قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضاتهم وكذا عند سائر المتاهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لإمتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لاشعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها فجميع هذه الأفعال من الأرباب وإلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله : وإن لكل شيء ملكا حتى قال : إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك وقال : أتاني ملك الجبال وملك البحار وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال : أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب في بيان الرعد هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب إستعداده وقابليته وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير وأراد بالمخاريق في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا الآلة التي يحصل بواسطتها الشق ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكة فظهرت كما ترى وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير مما ورد من هذا القبيل حتى قولهم : إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه ولم أر أحدا وفق فوفق وتحق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يجعلون أصابعهم في إذانهم من الصواعق حذر الموت الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون
والجملة إستئناف لا محل لها من الأعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال : يجعلون إلخ وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحولا يطيقونه أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه والجعل في الأصل الوضع والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الأبهام فبعض بني أسد يذكرها والتأنيث أجود وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه أحدها نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل وثانيها من حيث الأبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي اصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود وثالثها في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل بأسم جزئه أو للتجوز في الجعل أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور وإبن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الإحتراز عن إستماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة وقيل : لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال : دخلت البلد وجئت ليلة الخميس
(1/173)

ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن الدخول والمجيء والمسح في بعض البلد والليلة والمنديل ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر و من تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب يجعلون وتعلقها بالموت بعيد أي يجعلونمن أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر كراوية أو للنقل من الوصفية إلى الأسمية كحقيقة وقيل : إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا وقرأ الحسن من الصواقع وهي لغة بني تميم كما في قوله : ألم تر أن المجرمين أصابهم صواقع لا بل هن فوق الصواقع وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبنا أن هنا مستويان في التصريف و حذر الموت نصب على العلة ل يجعلون وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع غلته كما أن من الصواعق علة له نفسه وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله : وأغفر عوراء الكريم إدخاره وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذر ونحذر الموت بعيد وقرأ قتادة والضحاك وإبن أبي ليلى حذار وهو كحذر شدة الخوف والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه : وكنتم أمواتا فأحياكم مجاز ولا يرد قوله تعالى : خلق الموت إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدرا معين عنده تعالى وقيل : المراد بخلق الموت إحداث أسبابه وقيل : إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن إستعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد بإعتبار ذلك وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة ولهذا يظهر كما في الحديث يوم تتجسد المعاني كما قال أهل الله تعالى بصورة كبش أملح ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها والله محيط بالكافرين 91 أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فأحاطته تعالى بهم مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة إستعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى وله المثل الأعلى معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك إستعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فأفهم
وجوز أبو علي في محيط أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى : وأحاطت به خطيئته أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى : وأحاط بما لديهم وكل هذا من الظاهر ولأهل الشهود كلام من ورائه محيط والوا إعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل
(1/174)

بما تفيده من المبالغة لأن الكافرين وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا بإستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الأهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدافع الحذر القدر وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر وجعل الإعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بالكافرين المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لإظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الإتصال مما يأباه الذوق السليم يكاد البرق يخطف أبصارهم إستئناف آخر بياني كأنه قيل : فيكف حالهم مع ذلك البرق فقال يكاد إلخ وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم ويكاد مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات واللام في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم نكرة وقيل : إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الإستلاب إليه من باب إسناد الأحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا والشائع في خبر كاد أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الإستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن بأن فلمنافاتها لما قصدوا ونحو وأبت إلى فهم وما كدت آبيا وكاد الفقر أن يكون كفرا وقد كادمن طول البلى أن يمحصا قليل وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب يخطف بكسر الطاء والفتح أفصح وعن إبن مسعود يختطف وعن الحسن يخطف بفتح الياء والخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا يخطف بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة وعن الحسن ايضا والأعمش يخطف بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد يخطف بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية وكسر الطاء في الماضي لغة قريش وهي اللغة الجيدة
كلماأضاءلهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا إستئناف ثالث كأنه لما قيل أنهم مبتلون بإستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان فسئل وقيل : ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه فأجيب بأنهم حراص على المشي كلما أضاء لهم أغتنم وهو مشوا وإذا أظلم عليهم توقفوا مترصدين وكلما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها ما هو جواب معنى و ما حرف مصدري أو أسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت كلما التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين وإستفادة التكرار من إذا وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح ومن ذلك قوله : إذا وجدت أوار الحب من كبدي أقبلت نحو سقاء القوم أبترد وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في كلما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه
(1/175)

ولذا قال مع الإضاءة كلما ومع الأظلام إذا وقول أبي حيان : إن التكرار متى فهم من كلما هنا لزم منه التكرار في إذا إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والأظلام ومتى وجد ذا فقد ذا فلزم من تكرار وجود ذا تكرار عدم ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي وأضاء إما متعد كما في قوله : أعد نظرا يا عبد قيس لعلما أضاءت لك النار الحمار المقيدا والمفعول محذوف أي كلما أضاء لهم ممشى مشوا فيه وسلكوه وإما لازم ويقدر حينئذ مضافا نأي كلما لمع لهم مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون في للتعليل والمعنى مشوا لأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية ويؤيد اللزوم قراءة إبن أبي عبلة ضاء ثلاثيا وفي مصحف إبن مسعود بدل مشوا فيه مضوا فيه وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى ومعنى أظلم عليهم أختفى عنهم والمشهور إستعمال أظلم لازما وذكر الأزهري وناهيك به في التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا وعلى إحتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أظلم بالبناء للمفعول مع إتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي إذا أظلم البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قاموا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به عن الكساد ومنه قامت السوق وفي ضده يقال : مشت الحال ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم عطف على مجموع الجمل الإستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا أقتضاه المقام كما في وما تلك بيمينك ياموسى الآية وكونها إعتراضية أو حالية من ضمير قاموا بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية والمقدرة فضول عند ذوي الفضل والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد وميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل به ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب ولتقدم ما يدل على التقييد من يجعلون ويكاد قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء وقيل : أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن أستعمل عرفا في موضع الإرادة وقرأ إبن أبي عبلة لأذهب الله بأسمائهم وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن أذهب لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تنبت بالدهن ولا تلقوا بأيديكم إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز وبعضهم يقدر له مفعولا أي لأذهبهم فيهون الأمر وكلمة لو لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من
(1/176)

الدوران حقيقة أو إدعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على إنتفائه قطعا والمنازع فيه مكابر وأما دلالتها على إنتفاء الجزاء فقد قيل وقيل والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بنى الحكم على إعتباره فهي دلالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة إستلزام إنتفاء العلة لإنتفاء المعلول أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى : شأنه ولو شاء لهداكم وقولك لوجئتني لأكرمتك فظاهر ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل إنتفاء الجزاء بإنتفاء الشرط كما في المثالين وهو الإستعمال الشائع في لو ولذا قيل : إنها لإمتناع الثاني لإمتناع الأول وقد يساق للإستدلال بإنتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على إنتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا و لو كان خيرا ما سبقونا إليه واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني إدعائي وكذا إنتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بإنتفاء الثاني للعلم بإنتفاء الأول ومن لم يتنبه زعم أنه لإنتفاء الأول لإنتفاء الثاني وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك : لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشيء من الطلوع ولا ريب في إنتفائه بإنتفائه هذا إذا بنى الحكم على إعتبار الدوران وإن بنى على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا فإن أعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الإنتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت : لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل : لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا
ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند إنتفاء الشرط لإستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة كحديث لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لإبنة أخي من الرضاعة فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط أعني كونها إبنة الأخ غير مناف لإنتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بنى الحكم على إعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع مالا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لا مسكتم فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض إنتفاء سببه أو تحقق سبب إنتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة وإن حمل على بيان إستحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل والآية الكريمة واردة على الإستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بإزالة قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه إقتضاء تاما وقيل : كلمة لو فيه الربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على إنتفاء أحدهما لإنتفاء الآخر بمنزلة أن ذكر جميع ذلك مولانا مفتي الديار الرومية وأظنه قد اصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر بإختيار أن لو موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على إنتفاء الأول أو الثاني أو على إستمرار الجزاء
(1/177)

بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا يلزم القول بالإشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة وبه قال بعضهم وما ذهب إليه إبن الحاجب من أنها للدلالة على إنتفاء الأول لإنتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في مي الموارد فإن الدلالة غير الإرادة وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بإنتفائه فيلزم لأجل إنتفائه إنتفاء ما علق به فيفيد أن إنتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب إنتفاء الأول فيه مع توقفه على كون إنتفاء الأول مأخوذا في مدخولها وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعليق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقى على حاله لإرتباط وجوده بأمر معدوم وأما إن إنتفاءه سبب لإنتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء نعم أن هذا مقتضى الشرط الأصطلاحي وما أستلى به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي : ولو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنه لم يطر لأن إستثناء المقدم لا ينتج ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للإستدلال بإنتفاء الأول على إنتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضي كيف ولو كان معناها إفادة سببية الإنتفاء كان الإستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا ومعظم مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فأختر منها ما تريد
إن الله على كل شيء قدير 02 كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى : والله بكل شيء عليم بقرينة إحاطه العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى : إنما قولنا لشيئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي موجودا خارجيا لإمتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء أي معدوم ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف وشيوع إستعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لإختصاصه به لغة وما ذكره مولانا البيضاوي من إختصاصه بالموجود لأنه في الأصل مصدر شاء أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده إلخ ففيه مع ما فيه أنه يلزمه في قوله تعالى : والله بكل شيء عليم إستعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي
(1/178)

لا يشمل نحو الجمادات عنده وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه وفي إستعمال المشترك في معنييه خلاف ولا خلاف في الإستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام
والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن أي ما يصدق عليه هذا المفهوم يتصور ويراد بعضه دون بعض وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر والمراد به علم الحق تعالى بإعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى إعتبارين أحدهما أنه ليس غيرا الثاني أنه ليس عينا ولا يقال بالإعتبار الأول العلم تابع للمعلوم لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو إعتبارا ولا تمايز عند عدم المغايرة ويقال ذلك بالإعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شئونه ونسبه وإعتباراته ومن هنا قالوا : علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالإعتبار الأول فإذا علم الذات بجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالإعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالإعتبار الثاني إبتداء ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز فإذا لها تحقق بوجه ما فهي أزلية بأزلية العلم فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعلوة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار وإنما هي مجعولة في وجودها لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق به القدرة ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما بإنضمامه إلى الماهيات الممكنة يترتب عليها آثارها المختصة بها موجودا أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل وإمتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل إنضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا إفتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيد الترتب الآثار لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال إفتقارها إليه واللازم باطل لإستحالة إجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو إنتهى إلى وجود موجود بنفسه والأول باطل والثاني قاض بالمطلوب نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة إعتبارية ليست بعرض ولا سلب ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا إبتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك إتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية إبتداء أن لا تتعلق به بوجه
(1/179)

أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية هو بعينه ما صدق عليه وجوده وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لإستحالة خلوها عن النقيضين فيه غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة وعدم إعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه بإعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها بإعتبار نفس الأمر لا من حيث إعتبارنا فخلوها عن العدم بإعتبارنا لا يصحح إتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لإتحادهما فيه وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيآت يقتضيها إستعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا وإيجاد الشخص من الماهية على الوجه المذكور عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط وهذا تحقيق قولهم : المجعول هو الوجود الخاص ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له وهو المنفيلا إقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصطلح لعروض الأمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه هذا والبحث طويل والمطلب جليل وقد أشبعنا الكلام عليه في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فأحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير وحيث كان الشيء عاما لغة وإصطلاحا عند أهل الله تعالى وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن
والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والأعدام والأبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر إعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية ولعل من أختار ذلك إختاره تقليلا للصفات الذاتية أو نفيا لها والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور وعند الحكماء العناية الأزلية ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه والقدير هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة وقلما يوصف به غيره تعالى والمقتدر إن إستعمل فيه تعالى فمعناه القدير أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة وإشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه وإحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال إن علة الحاجة هي الأمكان ضرورة أن الأمكان لازم له حال البقاء وأما من قال إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الأمكان قال بإستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا : إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الإستغناء عن القادر سبحانه بحال وهذا مما ذهب إليه الأشعري
(1/180)

ولما فيه من مكابرة الحس ظاهراأنكره أهل الظاهر نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود وناهيك بهم حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا : إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم وقيل : شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب وإيمانهم المشوب يصيب فيه ما تلى من حيث أنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا ونفاقهم حذرا عن النكاية بجعل الأصابع في الآذان ممادها حذر الموت من حيث أنه لايرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة إنتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا يسيرا ثم إذا خفى بقوا متقيدين لا حراك لهم وقيل : جعل الإسلام الذي هو سبب المنافع في الدارين كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وإذا أظلم عليهم بالشدائد قاموا متحيرين وقيل : غير ذلك وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك ومن البطون تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى : كلما أضاء إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا مشوا فيه وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات وقال الحسين : إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وإذا أظلم عليهم قاموا متحيرين يا أيها الناس أعبدوا ربكم لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين وقال في الطائفة الأولى : الذين يؤمنون وفي الثانية سواء عليهم وفي الثالثة يخادعون الله وشرح ما ترجع إليه أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون وفي الثانية ختم الله على قلوبهم ولم عذاب عظيم وفي الثالثة في قلوبهم مرض ولم عذاب أليم بما كانوا يكذبون أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الإلتفات هزا لهم إلى الأصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض و يا حرف لا أسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد وقيل : لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادي وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده وقد يكون ذلك للإعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الإعتناء والحث فأستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو إستعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية وهو مع المنادي المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الأضمار لظهور معناه مع قصد الإشناء كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو لا ونعم وأي لها معان شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه اللأن يا لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فأنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذ من نحو فلا والله لا يلفي لما بي ولا للما بهم أبدا دواء
(1/181)

وأعطيت حكم المنادي وجعل المقصود بالنداء وصفا لها وألتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما ألتزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرا عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الإشتقاق مع أن النحويين إلا النذر كإبن الحاجب أشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله و ها التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في أيا ما تدعو وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه وإجتماع التعريفين هذا ما ذهب إليه الجمهور وقطع الأخفش لضعف نظره بأن أيا الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادي وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم موصولة وندوة وقوعها موصوفة وأعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره وإن كان مضارعا للمضاف ويؤيد الأول عدم الإحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور نعم أورد عليه إشكال أستصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال : إنه لا جواب له وهو أن ما أدعوا كونه تابعا معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه وأقول : إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وإبن الشجري وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب وذلك لأن الواقع عليه النداء أي المبنى على الضم لوقوعه موقع الحرف والأسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبني أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في يا زيد الظزيف وعلة الرفع أنه لماأستمر الضم في كل منادي معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت وأجاب إبن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادي المفرد لها بإطرادها منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم إطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو خرج زيد لأنها حدثت بعامل لفظي ولما طردت الضمة في نحو يا زيد يا عمرو وكذلك أطردت في نحو يا رجل ياغلام إلى ما لا يحصى نزل الإطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث أطردت الرفعة في كل أسم إبتديء به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر كعمرو منطلق وزيد ذاهب إلى غير ذلك فلما أستمرت ضمة المنادي في معظم الأسماء كما أستمرت في الأسماء المعربة الضمةالحادثة عن الإبتداء شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعتها ضمة الإعراب في صفة المنادي في نحو يازيد الطويل وجمع بينهما أيضا أن الإطراد معنى كما أن الإبتداء كذلك ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد لله بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء
(1/182)

حركة الإعراب في نحو يا زيد بن عمرو في قول من فتح الدال من زيد إنتهى ملخصا وقد ذكر ذلك إبن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على إبن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة ولولا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن ولهذا قال بعض المحققين : إن الحق أنها حركة إتباع ومناسبة لضمة المنادي ككسر الميم من غلامي وحينئذ يندفع الأشكال كما لايخفى الكمال
بقى الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا والذي عليه الجمهور وهو المشهور أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال : إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين إثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب ثم قال : والصحيح إنها دخلت بدلا منيا وأي وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي والمنادي على الحقيقة هو المقرون بأل ولما قصدوا تأكيد التنبيه وقدروا تكرير حرف النداء كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانياها وثالثا أل وتعقبه إبن الشجري قائلا : إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على أسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا ياأيها الرجل معناه يا رجل ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فأكتفى بإثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وأنطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في أنا خرجت معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل ياأيها الرجل مثلا يا أي يا يا رجل وأنهم عوضوا منيا الثانية ها ومن الثالثة الألف واللام وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم
والناس أسم جمع على ما حققه جمع والجموع وأسماؤها المحلاة بالعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الإستثناء والأصل فيه الإتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم ونحو ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشرة الأخير عام تأويلا وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والإتفاق على خلافه وشيوع إستدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث السقيفة وهم أئمة الهدى ثم هذا الخطاب في نحو ياأيها الناس يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا : وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع وأما بمجرد الصيغة فلا وقالت الحنابلة : بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة وأستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو ياأيها الناس قال العضد : وإنكاره مكابرة وبأنه أمتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد وأستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك وهو إجماع على العموم لهم
وأجيب : أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد
وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد وقال بعض
(1/183)

أجلة المحققين : إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب وقول العضد : إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا ومثله فصيح شائع وكل ما أستدل به على خلافه ضعيف إنتهى وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير إحتياج إلى دليل آخر وقد قيل : إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجرى على غير ظاهره كما في قوله : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا هذا وعلى كل حال ما روى عن إبن مسعود وعلقمة من أن كل شيء نزل فيه يا أيها الناس مكي و ياأيها الذين آمنوا مدني إن صح ولم يؤول لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بإداء العبادة كالإعتقاد والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات ولو وجب بوجوبها إنقلب الأصل تبعا مردود بأن الإصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب إستقلالا أيضا والعجب كيف خفى على مشايخ سمرقند ! وهذا ماذهب إليه العراقيون والشافعية ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وقوله سبحانه : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الإعتقاد فقط وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للإتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الأقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل وهذا في غير العقوبات والمعاملات أما هي فمتفق على خطابهم بها والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث بإعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات فأعبدوا يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار إبتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة وليس الإبتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في دفعه وذكر سبحانه الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه
الذي خلقكم والذين من قبلكم الموصول صفة مادحة للرب وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى أحتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل والخلق الإختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه فتبارك الله أحسن الخالقين وإذا تخلق من الطين وقول زهير : ولأنت تفرى ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى ومن العجب أن أبا عبدالله البصري أستاذ القاضي عبدالجبار قال : إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير
(1/184)

يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل : هو الخالق الباريء وبقول الله تعالى أقول والموصول الثاني عطف على المنصوب في خلقكم وقبل ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد بالذين قبلهم من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى وقدم سبحانه التنبيه علىخلقهم وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم وأتى بالخلق صلة والصلات لابد من كونها معلومة الإنتساب عند المخاطب ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد وأشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم أو من خلق السموات والأرض ليقولن الله وإن فهام ذلك من الوصف بناء على ما قالوا الأخبار بعد العلم بها أوصاف والأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله أحتيج إلى إدعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر وقرأ إبن السميقع وخلق من قبلكم وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والذين من قبلكم بفتح الميم وأستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعلمنت أكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله : من النفر اللائي الذين إذا هم تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا وأعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما أتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الأسم فمن حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الإحتمالين نظير
فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وتخريج البيت على نحو هذا وقيل : من زائدة وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء والكسائي زيادة من الموصولة وجعلمن ذلك وكفى بنا فضلا على من غيرنا حب النبي محمد إيانا وبعضهم أستشكل القراءة المشهورة أيضا بأن الذين أعيان و من قبلكم ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الأخبار والوصل به تقول نحن : في يوم طيب وماهنا في تقدير والذين كانوا من زمان قبل زمانكم وقدر أبو البقاء والذين خلقهم من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر لعلكم تتقون 12 لعلفي المشهور موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن والظاهر التقابل فتكون مشتركة وذكر الرضى إنها للترجي وهو إرتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لا نشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم وهو الشائع لأن معاني الإنشاآت قائمة به وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما ومنه لعله يتذكر أو يخشى وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا ففي الآية الكريمة إن جعلت الجملة حالا
(1/185)

من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أمتنع حمل لعل على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لإستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فكيف يتصور الرجاء منهم ! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد إجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة لعل الموضوع له فيه فيكون إستعارة تبعية أو تشبه صورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى وتركه مع رجحان وجوده فيكون إستعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة لعل أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون إستعارة بالكناية وجعل المشبه إرادته تعالى في الإستعارة والتمثيل نزغة إعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث أن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد وإن جعلت حالا من فاعل خلقكم أمتنع الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه وإن جعلت حالا من ضمير أعبدوا جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين أي راجين التقوى والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوى والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغى والعروج فوق سدرة المنتهى وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم أعني الثواب لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر وما قاله المولى التفتازاني من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو إقترانها برجاء ثوابها يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفترق في عبادته ويكون ذا خوف ورجاء نعم قالوا : الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر فإن قلنا : إنه أعم من الوجوب فلا إشكال وإن قلنا : إنه حقيقة في الوجوب أقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة لهيجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك إتصال معنوي وإن جعل الذي جعل مبتدأ خبره لا تجعلوا كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته ثم لا يبعد أن يقال إن المعنى في الآية على التعليل إما لأنلعلتجيء بمعنى كي كما ذهب إليه إبن الأنباري وغيره وأستشهدوا بقوله : فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق أو لأنها للأطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء ثم يتجوز به عن كل متحقق
(1/186)

كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم إستكماله عز شأنه بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح ومن أنكر تعليل بعض الأفعال لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل أمتنع ذلك في حقه سبحانه وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغني الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل أعبدوا أو أتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع إشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل وفي القلب منه شيء وسبب حذف مفعول تتقون مما لا يخفى وإبن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره الشرك والضحاك النار لا تقدر شيئا ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم ووصفه بما وصفه ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته وإستحقاقه العبادة النظر في صنعه ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره وأستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لايرجعون وقد تقدم الكلام في ذلك فأرجع إليه الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء الموصول إما منصوب على أنه نعت ربكم أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون كما قاله أبو البقاء إعراب غث ينزه القرآن عنه وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة وفيه أيضا غير مجمع عليه وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ أخبره جملة فلا تجعلوا والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين إلى قوله تعالى : فلهم عذاب جهنم والأسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من يخ قول من زعم أنه مبتدأ أخبره رزقا لكم بتقدير يرزق و جعل بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه وقيل : بمعنى أوجدو إنتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك ومعنى تصييرها فراشا أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة فالتصير بإعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان وإعتبار التصيير بالقياس إليه من إضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فراشا لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في إفتراشه كما لا يخفى وعبر سبحانه هنا بجعل وفيما تقدم بخلق لإختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى : خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور وتقديم المفعول الغير الصريح
(1/187)

لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الأشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف وأختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات وكل طبقة وجهة منها والبناء في الأصل مصدر اطلق على المبني بيتا كان أو قبة أو خباء أو طرفا ومنه بنى أهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض ويقال لسقف البيت بناء وروى هذا عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقدم سبحانه حال الأرض لما أن إحتياجهم إليها وإنتفاعهم بها أكثر وأظهر أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء وفي ذلك خلاف مشهور وقرأ يريد الشامي بساطا وطلحة مهادا وهي نظائر وأدغم أبو عمرو لام جعل في لام لكم وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم عطف على جعل و من الأولى للإبتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الإنتظام مع ما بعد أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتي الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول وهو نكرةصار الظرف صفة وذكر في البحر أن من على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء على الظواهر غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا أجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر وإن كان قويا كان ثلجا وبردا وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشؤوه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له على أن من إنجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم بل من علم أن الله سبحانه في السماءعلى المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى صح له أن يقول : إن ما في العالمين من تلك السماء ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لإعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة والماء معروف وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته و من الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد فرزقا حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و لكم ظرف لغو مفعول به
(1/188)

لرزق أي أخرج شيئا من الثمرات أي بعضها لأجل أنه رزقكم وجوز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج وإما للتبيين فرزق بمعنى مرزوق مفعول لأخرج و لكم صفته وقد كان من الثمرات صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله وفي تقديم البيان على المبين خلاف فجوزه الزمخشري والكثيرون ومنعه صاحب الدر المصون وغيره وإحتمال جعلها إبتدائية بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف لا ثمرة فيه وأل في الثمرات إما للجنس أو للإستغراق وجعلها له ومن زائدة ليس بشيء لأن زيادة من في الإيجاب وقبل معرفة مما لم يقل به إلا الأخفش ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثمرات التي أخرجت رزقا لنا وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل اقل بقليل بالنسبة لثمار الجنة ولما أدخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث أن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنه فقط المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك : أدركت ثمرة بستانك وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الإعتبارية ويؤيده قراءة إبن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : كم تركوا من جنات و ثلاثة قروء أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب وإذا قيل : بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشتركو المقام يخصصه بها أندفع السؤال وأرتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل والباء من به للسببية والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لا بها لحديث الإستكمال بالغير قالوا : ومن أعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو فاسق وفي كفره قولان وجمع على كفره كمن قال : إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول : إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء فقد جعل الله تعالى شأنهم صالح العباد في معاشهم ومعادهم والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه والقرآن مملوء من إثبات الأسباب ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة ويالله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة فأي قدح يوجب
(1/189)

ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه ! نستغفر الله تعالى مما يقولون فالله عزوجل يفعل بالأسباب التي أقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها وحديث الإستكمال يرده أن الإستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه : يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول : إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون ايضا لا إله إلا الله أفتشك فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة ضالة المؤمن والحق أحق بالإتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل
فلا تجعلوا لله أندادا نهى معطوف علىأعبدوا مترتب عليه فكأنه قيل : إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الأسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الواحدانية وإستحالة الشركة والإيذان بإستتباغها لسائر الصفات وقيل : لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء وبين قوله تعالى : أعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار أن جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي : وأعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به وأما عبادة الرب فليس اصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولاصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به فمحصلها أعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب فأطلع على قراءة جعفر من لعلي أبلغ الأسباب إلخ على رأي إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق والقول بالإلحاق لها بليت تنزيلا للمرجو منزلة المتمني في عدم الوقوع يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا إستحالته والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه
(1/190)

فلا تشبهوه بخلقه فأفهم ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهيب تأويل القول خبر عن الذي على جعله مبتدأ وقيل : الجملة متعلقة بالذي والفاء جزاء شرط محذوف والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم المتكاثرة وإذا كان كذلك فلا تجعلوا إلخ والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفا ومنه ما تقدم على وجه يكون بالقول والعقد والأنداد ندك عدل وأعدال أو نديدك يتيم وأيتام والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح وأصله من ند ندودا إذا نفر وقيل : الند المشارك في الجوهرية فقط والشكل المشارك في القدر والمساحة والشبه المشارك في الكيفية فقط والمساوي في الكمية فقط والمثل عام في جميع ذلك وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أندادا والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله وإنما عبدوها لتقربهم إليه سبحانه زلفى إشارة إلى إستعارة تهكمية حيث أستعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما أستعير التبشير للإنذار والأسد للجبان وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من إستعارة أحد المتشابهين للآخر فإن المشركين جعلوا الأصنام بحسب أفعالهم وأحوالهممماثلة له تعالى في العبادة وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم ولعل الأول أولى وفي الأتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا أندادا لمن يستحيل أن يكون له ند واحد ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك : أربا واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا كذلك يفعل الرجل البصير وأنتم تعلمون 22 حال من ضمير لا تجعلوا والمفعول مطروحأي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم أي تعلمون أنه سبحانه لا يماثله شيء أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ بإعتبار بعض أفراد المخاطبين بالنهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل : إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الإنتظام إذ لا محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حين الإنتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل
وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما أقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر ألا لله الخلق والأمر ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض والنفس بالسماء والعقل بالماء وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة إستعمال العقل والحس وإزدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من إزدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار وقد يقال : إنه تعالى لما أمتن عليهم بأنه سبحانه خلقهم والذين من قبله مذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل وهي ايضا تسمى فراشا وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها وضرب
(1/191)

الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية : تأمل في رياض الأرض وأنظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فالآية وإن سيقت لبيان الأعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار والعطف إما على قوله تعالى : أعبدوا ربكم أو على لا تجعلوا وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك بإزاء تلك الآيات والإنقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم ولذا لم يقل جل شأنه وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سمعيا ولو أريد ذلك لك فى أعبدوا ولا تشركوا من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن وقيل لليهود : لما أن سبب النزول كما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه وقيل : هو على نحو الخطاب في أعبدوا وكلمة إن إما للتوبيخ على الأرتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لإشتمال المقام على ما يزيله أو لتغليب من لا قطع بإرتيابهم على من سواهم أولان البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بإرتيابهم ولا بعدمه وجعلها بمعنى إذ كما أدعاه بعض المفسرين خلاف مذهب المحققين وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها أن إلى معنى الإستقبال كما ذهب إليه المبرد وموافق وهوالجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد وتنكير الريب للإشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله وجعله ظرفا بتنزيل المعاني منزلة الأجرام وأستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي إعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته و من إبتدائية صفة ريب ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه و ما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب وقيل : عن القدر المشترك بينه وبين ابعاضه ومعنى كونهم فيريب منه إرتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه والتضعيف في نزلنا للنقل وهو المرداف للهمزة ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب أنزلنا وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ إرتيابهم فقد قالوا : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند
(1/192)

ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو فتحت وقطعت ونزلنا لم يكن معتديا قبل وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لأحتاج قوله تعالى : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر وكذا مثل لولا نزل عليه آية ولنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقد قريء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا : ونظيره تدرج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو إشتراكا فلا يلزم إطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة وفي تعد ينزل بعلي إشارة إلى إستعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منهو أنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الإنتهاء والوصول وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة تنبيه على عظم قدره وإختصاصه به وإنقياده لأوامره وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وقريء عبادنا فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم ويحتمل أنه أريد النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه وفيه إيذان الأرتياب فيه إرتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء وفي الآية إلتفات من الغائب إلى ضمير المتكلم والإ لقال سبحانه مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة و السلام والفاء من فأتوا جوابية وأمر السببية ظاهر والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى : فأت بها من المغرب وهو من الأتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى وأصل فأتوا فأتيوا فأعل الأعلال المشهور وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل ت وتوا والتنوين في سورة للتنكير أي أئتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الأرتياب ما لا يخفى
و من مثله إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما لما التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين والأخفش يجوز زيادتها في مثله والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا كما قيل : في مثلك لا يجهل ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة
(1/193)

لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ من التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث أن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي وعلى الثاني يتعين أن تكون من للإبتداء مثلها في إنه من سليمان ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة إمتناع الإبتداء في الوجه الأول وإما أن تكون صلة فأتوا
والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن من لا تكون بيانية إذ لا مبهم ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في أخذت من الدراهمولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الأتيان بالبعض ولا مجال لتقدير الباء مع وجود من ولأنه يلزم أن يكون بسورة ضائعا فتعين أن تكون إبتدائية وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل وجعل المتكلم مبدأ عرف اللإتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي أو الغائي أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك وعليه يكون إعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة ومساق الكلام بمعونة المقام
وأعترض بأن معنى من لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة وجعلنا منكم ملائكة وللمجاوزة كعذت منه فعلى هذأ لو علق من مثله ب فأتوا وحمل من على البدل أو المجاوزة ومثل على المقحم ورجع الضمير إلى ما أنزلنا على معنى فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز على أن عدم صحة شيء مما أعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه : وبنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو قرأت من أول السورة إلى آخرها وأعطيتك من درهم إلى دينار وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه ويمكن أن يقال وهو الذي أختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه فمقتضى المقام أن يقال لهم : معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله أئتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الأعجاز ونظمه وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه أئتوا سورة تمثله في البلاغة كائنة من كلام أحد مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو أئتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا أئتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا ولو رجع على هذا لما كان معناه أئتوا من مثل هذا المنزل بسورة ولا شك أن من ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي إبتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وإبتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له ! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد و ما على تقديري اللغو والإستقرار
(1/194)

أمر ممكن ودائرة التأويل واسعة والإستحسان مفوض إلى الذوق السليم والذي يدركه ذوقيولا أزكي نفسي أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى والبحث في هذه الآية مشهور وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الإنتصار لكل وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله ونقلت نبذة منها في الأجوبة العراقية ثم أولى الوجوه هنا على الأطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و من بيانية أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى : فأتوا بسورة مثله لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير لأن يأتوا من مثل ما أتي به واحد من جنسهم أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتي به رجل آخر وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم بإشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الإفتتاح بذكر ما نزلنا أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ لأن المعنى أجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدرس العلوم ! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما أشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى وقوله تعالى : وأدعوا شهدآءكم من دون الله إن كنتم صادقين 32 الدعاء النداء والإستعانة ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادي ليستعان به ومنه أغير الله تدعون والشهداء جمع شهيدا وشاهد والشهيد كما قال الراغب : كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضا و دون ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل بمن كثيرا وبالباء وخصه في البحر بمن دونها ورفعه في قوله : ألم تريا أني حميت حقيقتي وباشرت حد الموت والموت دونها نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند إلا أنها تنبيء عن دنو كثير وإنحطاط يسير ومنه دونك أسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي كما قيل لأنه من الديوان الدفتر ومحله وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابهم وحسابهم ديوانه وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما أشتركت فيه اللغتان وقد أستعمل في إنحطاط محسوس لا في ظرفك دون زيد في القامة ثم أستعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية كدون عمرو شرفا ولشيوع ذلك أتسع في هذا المستعار فأستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وإنحطاط وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة إستثناء ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله : إذا ما علا المرء رام العلا ويقنع بالدون من كان دونا وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية وليس عندي
(1/195)

وجه وجيه في توجيهه والمشهور أنه ليس لهذا فعل وقيل يقال : دان يدين منه وإستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام : الود للقربى ولكن عرفه للأبعد الأوطان دون الأقرب لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا : يكون بمعنى وراءك أمام وبمعنى فوق ونقيضا له و من لإبتداء الغاية متعلقة بادعوا ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والمعنى أدعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه والأمر للتعجيز والإرشاد أو أدعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثله فإنهم لا يشهدون ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والإنقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت والشهيد الأول بمعنى الحاضر وعلى الثاني بمعنى الناصر وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة قيل : ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما ولو قيل : أدعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لأنقلب الأمر من التهكم إلى الإمتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم أستعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال أدعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للإستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا وجوزوا أن تتعلق من ب شهداءكم وهي للإبتداء أيضا و دون بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافةالشهداء أعني الإتخاذ والمعنى أدعوا الذين أتخذتموهم أولياء من دون الله تعالى وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة ويحتمل أن يكون دون بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول لشهداء ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الإعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا و من للتبعيض كما قالوا في من بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل أنها زائدة وهو مذهب إبن مالك والجمهور على أنها إبتدائية والمعنى أدعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز و جل على زعمكم والأمر للتهكم وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما أعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل : هؤلاء عدتكم وملاذكم فأدعوهم لهذه العظيمة النازلة بكمفلا عطر بعد عروس وما وراء عبادان قرية ولم تجعل دون بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا وجه للإخراج وقيل يجوز أن تكون من للإبتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف والمعنى أدعوا شهداءكم من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والإستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قي : تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان كيف لا وأمر الأعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان إستبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه إنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين إستظهارهم على ما سواه والإلتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه والصدق مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة وجواب إن محذوف
(1/196)

لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما وكذا متعلق الصدق أي إن كنتم صادقين بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته فأتوا وأدعوا فقد بلغ السيل الربى وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الأرتياب لتقدمه مما لا إرتياب في تأخره لأن الأرتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب والقول بأن المراد إن كنتم صادقين في إحتمال أنه كذا مع ما فيه من لتكلف لا يجدي نفعا لأن الإحتمال شك أيضا ومن التكلف بمكان قول الشهاب : إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة وتوضيح المحجة فالمعنى إن أرتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفترى فأظهروها ولا تخافوا هذا ووجه ملائمة الآية لما قلناه في الآية السابقة أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالإستعانة إما حقيقة أو تهمكا بكل ما يعنيهم بالأمداد في الأتيان في المثل أو بالشهادة على أن المأتي به مثل ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الأتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له وإن صح نسبته إليهم بإعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ليس بشيء لأن شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظزف صفة للسورة أيضا وقد أورد ههنا أمور طويلة لا طائل تحتها
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الأتيان بمثله وما دانيه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار وأتى بأن والمقام اذا العجز وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح ففي الآية إستعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لإتكالهم على فصاحتهم و تفعلوا مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن وإن تخيل وقد صرح إبن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن إبن العلج أجازه إستدلالا بهذه الآية ورد بأن إن تطلب مثبتا و لم منفيا وشرط التنازع الإتحاد في المعنى فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال : فإن تركتم الفعل فيفيد الكلام إستمرار عدم الإتيان المحقق في الماضي وبهذا ساغ إجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الإستقبال والمضي تناف نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل : وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو إن لم يقمن وإن كان للجملة يرد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ظاهرا لإيجاز القصر وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة إستحالته وإن مناط الجواب في الشرطية أعني الأمر بالإتقاء هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود وقيل : أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للإنتفال بمعونة قرائن الحال أو على طريقة التعبير
(1/197)

عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير والظاهر أن فيما عبر عنه إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره وإن لم يكن مرادا ولن كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالأختصاص بالمضارع وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله : لن يخب الآن من رجاك ومن حرك من دون بابك الحلقة ولا تقتضي النفي على التأييد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولا طول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم وليس أصله الا أنكما روى عن الخليل : فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار لن تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها وقيل : به لقوله : يرجى المرء ما لا أن يلاقيه ويعرض دون أقربه الخطوب وإحتمال زيادة أن يوهن الإحتجاج ولا لاكما عند الفراء فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل والجملة إعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي وما أتي به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما أدعاه وحيا وقوله سبحانه : فأتقوا جواب للشرط على أن إلتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن إتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء وليس عدم الفعل سببا للإتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له وبعضهم قدر لذلك جوابا وإلتزامه جملة خبرية لأن الإنشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له والوقود بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار وكذا كل ما كان على فعول أسم لما يفعل به في المشهور وقد يكون مصدرا عند بعض وحكوا ولوعا وقبولا ووضوءا وطهورا ووزوعا ولغوبا وقرأ عبيد بن عمير وقيدها وعيسى بن عمرو وغيره وقودها بالضم فإن كان أسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدراكما قيل في سائر ما كان على فعول فحمله على النار للمبالغة وللتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا كإحتراق وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل وحكى إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم إسما فينعكس الحال فيما نحن فيه والحجارة كحجار جمع كثرة لحجر وجمع القلة أحجار وجمع فعل بفتحتين على فعال شاذ وإبن مالك في التسهيل يقول : إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر والمراد بها على ما صح عن إبن عباس وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت وفيها من شدة الحر وكثرة الإلتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الإلتصاق بالأبدان وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة ما نعوذ بالله منه وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم وقيل : المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة زيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني ويؤيد هذا قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
(1/198)

وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجراكما في القاموس دون هذين القولين الأصح أولهما عند المحدثين وثانيهما عند الزمخشري ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره وأل فيها على كل ليست للعموم وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقى فيها من هذين الجنسين فعبر عن صلاحيتها وأستعدادها بالأمر المحقق وذكر الناس والحجارة تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الإظاهر والمتبادر من الآيات ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الإقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ماذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره : أنهم لهبها وأولئك جمرها وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف وإنما عرف النار وجعل الجملة صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل أعدت للكافرين 42 إبتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة إعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد وجعله إستئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا فمع عدم مساعدة عطف بشر الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الإستئناف لا يجب أن يكون إستئنافا يأبى عنه الذوق أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل فالسؤال بلم كان شأن النار كذا مما لا معنى له والجواب غير واف به وجعله حالا من النار بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير وقودها للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة ولذا قيل : إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به إبن مالك وجعله صلة و وقودها الناس إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل ومعنى أعدت هيئت وقرأ عبد الله أعتدت من العتاد بمعنى العدة وإبن أبي عبلة أعدها الله للكافرين والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الأعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار ثم يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الأن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه وجعل المستقبل لتحققه ماضيا كنفخ في الصور والأعداد مثله في أعد الله لهم مغفرة وأجرا كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرروها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الأنس والجن الذين يدخلونها ولذا يختلف عذاب داخلها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول
(1/199)

أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين فلهذا كله يزاد إلى ما هو الآن ولذا كان يقول عبدالله بن عمر رضي الله تعالى عنهما : إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا وكان يكره الوضوء بمائه ويوقل : التيمم أحب إلي منه وقال تعالى : وإذا البحار سجرت أي أججت وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى : بكرة وعشيا وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم والأحساس والحيوانية : ومعنوية وهي التي تطلع على الأفئدة وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى والمخالفة وهي عين الجهل بمن أستكبر عليه أشد العذاب وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية وماذا على إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الألهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وبنفعه اللطف ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة واتناسب بينهما بإعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين وهل هو معطوف على وإن كنتم إلى أعدت أو على فإن لم تفعلوا الآية قولان أختار السيد أولهما وأدعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة وأدعى لتلائم النظم لأن ياأيها الناس أعبدوا خطاب عام يشمل الفريقين وإن كنتم إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار وبشر إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق والسعد أختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على فأتقوا وتغاير المخاطبين لا يضر ك يوسف أعرض عن هذا وأستغفري وترتبه على الشرط بحكم العطف بإعتبار أن أتقوا إنذار وتخويف للكفار وبشر تبشير للمؤمنين وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم إستيجاب منكره العقاب ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت وإستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه فلا فرق وقد يقال إن الجزاء فمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فمنوا وبشر الذين آمنوا أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير وفيه حث لهم على الإيمان ولعله أقل مؤنة وأختار صاحب الإيضاح عطفه على أنذر مقدرا بعد جملة أعدت وقيل : عطف على قلقبل وإن لم تفعلوا وتقديره قبل ياأيها الناس يحوج إلى إجراء مما نزلنا على عبدنا على طريقة كلام العظماء أو تقدير قال الله بعد قل والبشارة بالكسر والضم أسم من بشر بشرا وبشورا وتفتح الباء فتكون بمعنى الجمال وفي الفعل لغتان التشديد وهي العليا والتخفيف وهي لغة أهل تهامة وقريء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل وفسروها في المشهور وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به وأشترط بعضهم أن يكون صدقا وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر إستعماله في الخير وصححه في البحر وبشرهم بعذاب أليم ظاهر عليه ومن باب التهكم
(1/200)

على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بشر المشائين إلى المساجد الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم وقيل : تغيير للإسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله : مما نزلنا على عبدنا ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم وفي ذلك من الطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى
وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على أعدت كما أشتهر وقيل : إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا وتعليق التبشير بالموصول للأشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالأتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الإستمرار على الكفر ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي إنتفاء البشارة عند إنتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان ومتعلق آمنوا مما لا يخفى وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عزوجل و الصالحات جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح أسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها إسماوألفيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو اريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الإثنان والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل واحدا غير داخل في الآية ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد وليس هذا توزيعا في المشهور كركب القوم دوابهم إذ قد يطلق ايضا على مقابلة أشياء باشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم ومنه وأغسلوا وجوهكم وأيديكم والسيد يسمى هذا شائبة التوريع أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار أراد سبحانه بأن لهم إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لإطراد حذف الجار مع أن وأن بغير عوض لطولهما بالصلة ومع غيرهما فيه خلاف مشهور وفي المحل بعد الحذف قولان النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجر للإستحقاق وكيفيته مستفداة من خارج ولا إستحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان والجنة في الأصل المرة من الجنب الفتح مصدر جنه إذا ستره ومدار التركيب على الستر ثم سمى بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل
(1/201)

فإن كرم ففردوس وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم مالا ولا مما هو مغيب الآن عنا وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال وما نقل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو اسر للسامع والشائع التقديم إذا كان الأسم نكرة ك إن لنا لأجرا وتحتظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من كما نص عليه أبو الحسن والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيلمن تحت أشجارها أو عاد عليها بإعتبار الأشجار إستخداما ونحوه وقيل : إن تحت بمعنى جانب كداري تحت دار فلان وضعف كالقول من تحت أوامر أهلها وقيل : مناز وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فإعتبار التحتية كما قيل بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإظلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود وذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس وتحدث الماء الزلال مع الحصى فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح وأصله الشق والتركيب للسعة ولو معنوية كنهر السائل بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع قولان : أشهرهما الأول وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها وتأنيث تجري رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع وفي الكلام مجاز في النقص أو في الظرف أولا ولا والإسناد مجازي وأل للعهد الذهني قيل : أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى : فيها أنهار من ماء الآية فإنها مكية على الأصح وذي مدنية نزلت بعدها وأستبعده السيد والسعد وقيل : عوض عن المضاف إليه أي أنهارها وهو مذهب كوفي وحملها على الإستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطيء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج ولا يخفى الكلام على جمع القلة
كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل صفة ثانية لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها بإعتبار ذاتها وهذا بإعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لأسميتها ومعنى لكونها جواب سؤال كأنه قيل : ما حالهم في تلك الجنات فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة وهم فيها خالدون وتقدير المبتدأ هو أو هي للشأن أو القصة ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة أسمية نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها ولهم فيها أزواج زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد كان أصح وأوضح
(1/202)

وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الذين أو من جنات لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والاصل فيها المصاحبة والقول : بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع بإتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لأحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة و كلما نصب على الظرفية ب قالوا و رزقا مفعول ثان لرزقوا كرزقه مالا أي أعطاه وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف والتأسيس خير من التأكيد مع إقتضاء ظاهر ما بعده له وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه و من الأولى والثانية للإبتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا أنفصل عنه الشيء ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو إلى وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل وصاحب الأولى رزقا والثانية ضميره المستكن في الحال والمعنى كل حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة والشائع كونهما لغوا والرزق قد إبتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد إبتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال من أين فتقول : من بستانه فيقول : من اي ثمرة فتقول : من الرمان وتحريره أن رزقوا جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالإبتداء من ذلك مبتدأ ثمرة وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة إبتداء من غير تبعية ومن نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع كالتفاح والرمان لا الفرد لأن إبتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه أجمعيه وهو ركيك جدا ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول و رزقا مصدر مؤكد أو في موقع الحال من رزقا لبعده مع أن الأصل التبيين والإبتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزا لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة ههنا وجمع سبحانه بين منها و من ثمرة ولم يقلمن ثمرها بدل ذلك لأن تعلق منها يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس وتعلق من ثمرة يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه والأخبار عنه ب الذي إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات أو لتبيين المرية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة والتشابه في الصورة إما مع الإختلاف في الطعم كما روى عن الحسن إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم مختلف أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك والداعي لهم لهذا القول فرط إستغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم
(1/203)

والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن كلما تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم وقيل : كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم إنحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته لمتشابها بعد فإنه في رزق الجنة أظهر وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى : ذو قواما كنتم تعملون أي جزاءه فالذي رزقناه مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق أسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء كمالا في أو هو إستعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر وقيل : أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر وأتوا به متشابها تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما يشتمل على معناه لا محل له من الإعراب ويحتمل الإستئناف والحالية بتقدير قد وهو شائع وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم والولدان كما يشير إليه قراءة هرون والعتكي وأتوا على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه وقد أظهر ذلك في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون إلى قوله سبحانه وفاكهة مما يتخيرون والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد من قبل في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا والذي رزقنا من قبل وهو المرزوق في الدارين أي أتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد قال أبو حيان : والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف ولا يعكر على دعوى متشابه ما في الدارين ما أخرجه البيهقي وغيره عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الأسم وإن لم يكن في المقدار والطعم وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الإستعارة يقتضي الإشتراك فينا هو ناطها وهو الصورة وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون 52 صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد وهاتان بالأسمية لإفادة الدوام وترك العاطف في البعضمع إيراده في البعض قيل : للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات وأختص كل بما أختص به لمناسبة لا تخفى وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في لهم والعامل فيها معنى الإستقرار والأزواج جمع قلة وجمع الكثرة زوجة كعود وعودة ولم يكثر إستعماله في الكلام قيل : ولهذا أستغنى عنه بجمع القلة توسعا وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الحور وغيرهن ويقال : الزوج للذكر والأنثى ويكون لا حد المزدوجين ولهما معا ويقال : للأنثى زوجة في لغة تميم وكثير من قيس والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره وليس في المفهوم إعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء
(1/204)

النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها وإستغنائهم عن الأولاد على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء ومعنى كونها مطهرة أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن فإن كن من الحوركما روى عن عبدالله فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي وإن كن من بني آدمكما روى عن الحسنمن عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها والتطهير كما قال الراغب يقال في الأجشام والأخلاق والأفعال جميعا فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل فإن المعهود من إرادة الكمال إرادة أعلى أفراده لا الجميع وقرأ زيد بن علي مطهرات بناء على طهرن لأطهرتكما في الأولى ولعلها أولى إستعمالا وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا : جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات وإن كان جمع قلة فالعكس وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء كبلغن أجلهن و يرضعن أولادهن ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول ولم تأت طاهرة وصف من طهر بالفتح على الأفصح أو طهر بالضم وعلى الأول قياس وعلى الثاني شاء للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه ! وقرأ عبيد بن عمير مطهرة واصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل : أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه إنتقالا أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع وعندنا البقاء الطويل إنقطع أو لم ينقطع وإستعماله في المكث الدائم من حيث أنه مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا وقد شهدت له الآيات والسنن والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر والأولية تقدمه على جميع المخلوقات والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان تعالى عن ذلك وإن علم لزم الإنتهاء وهو بعد الفناء ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل : البؤس خير من نعيم زائل والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص ومعنى الأول والآخر ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا إبتداء ولا إنتهاء له في ذاته من غير إستناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم والخلق ليسوا كذلك فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد ! أفيقال : إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية تبا للجهمية ما أجهلهم وأجهل منهم من قال إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للإستحالات المؤدية إلى الإنحلال والإنفكاك فكيف يمكن التأييد وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الكون والفساد ! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل
(1/205)

ما تحلل دائما ابدا وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة قال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره : نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا : إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية ووجه ربطها بما تقدم على هذاوكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الإضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب وقال مجاهد وغيره : نزلت في المنافقين قالوالما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد والصيب الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه وقيل : إنها متصلة بقوله تعالى : فلا تجعلوا لله أنداد أي لا يستحي أن يضرب مثلا لهذه الأنداد وقيل : هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت كذلك أهل الدنيا إذا أمتلؤا منها هلكوا أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازي عليه ثوابا وعقابا وعلى هذين للقولين لا سرتباط للآية بما قبلها بل هي إبتداء كلام : وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه
وما أنفكت الأمثال في الناس سائره
والحياء كما قال الراغب إنقباض النفس عن القبائح وهو مركب من جبن وعفة وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما وقال بعضهم : الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله وما في القاموس خجل أستحيي تسامح وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسب وللناس في ذلك مذهبان فبعض يقول بالتأويل إذ الإنقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للإنقباض وجوز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روى أنهم قالوا : ما يستحيي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت وبعض وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي إستحيا وجاء أستفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر وقرأ إبن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم وهل المحذوف اللام فالوزن ستفع أو العين فالوزن يستفل قولان : اشهرهما الثاني وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال : إستحييته وإستحيت منه والآية تحتملهما والضرب إيقاع شيء على شيء وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره فمعنى يضرب هنا يذكر وقيل : يبين وقيل : يضع من ضربت عليهم الذلة و ما أسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد وقد يفيد التحقير أيضا كأعطه شيئا ما والتعظيم كالأمر ما جدع قصير أنفه والتنويع كأضربه ضربا ما وقد تجعل سيف خطيب والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء وبعوضة إما صفة لما أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من مثلا أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة أو مفعول
(1/206)

و مثلا حال وهي المقصودة أو منصوب على نزع الخافض أي ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء والفاء بمعنى إلى أو مفعول ثان أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الإستحياء فالمعنى لا يترك مثلا ما إستحياء وإن تركه لأمر آخر أراده وقرأ إبن أبي عبلة وجماعة : بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر وأختلفوا فيما يكون عنه خبرا فقيل مبتدأ محذوف أي هي أو هو بعوضة والجملة صلة ما على جعلها موصولة وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول وقيل : ما بناء على أنها إستفهامية مبتدأ وأختار في البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي بعوضة جملة كالتفسير لما أنطوى عليه الكلام وقيل : بعوضة مبتدأ و ما نافية والخبر محذوف أي متروكة لدلالة لا يستحيي عليه
والبعوضة واحد البعوض وهو طائر معروف وفيه من دقيق الصنع وعجيب الأبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع ولذا سمى في لغة هذيل خموشف غلبت وإشتقاقه من البعض بمعنى القطع فما فوقها الفاء عاطفة ترتيبية و ما عطف على بعوضة أو ما إن جعل أسما والتفصيل وما فيه غير خفي والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وبه قال إبن عباس أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا : إن جعلت ما موصولة ففيه الوجهان وإن جعلت إستفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك وقيل : أراد ما فوقها وما دونها فأكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد سرابيل تقيكم الحر فأفهم
فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى : إن الله لا يستحيي إلخ من أنه وقع فيه إرتياب بين التحقيق والأرتياب أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها وكأنه قيل كما قيل فيضربه فأما الذين إلخ وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا أو دلالة أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد إستعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبيا وفسر سيبويه أما زيد فذاهب مهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الأسم والفعل إذ لا نظير له بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه ومهما مبتدأ والأسمية لازمة له ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا وقامت أما ذلك المقام لزمها الفاء ولصوق الأسم إقامة لللازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا وقد يقدم على الفاء كما في الرضى من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه وفي تصدير الجملتين بها من الأحماد والذم ما لا يخفى والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لإختلال المعنى والضمير في أنه للمثل وهو أقرب
(1/207)

أو لضربه المفهوم من أن يضرب وقيل : لترك الإستحياء المنقدح مما مر وقيل : للقرآن والحق خلاف الباطل وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت وقال الراغب : أصله المطابقة والموافقة ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والإعتقاد المطابق للواقع وقيل : إنه الحكم المطابق ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب بإعتبار إشتماله على ذلك ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق والصدق في القول كذلك وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم وتعريفه هنا إما للقصر الإدعائي كما يقالهذا هو الحقأو لدعوى الإتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الإتصاف و من ربهم إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق و من لإبتداء الغاية المجازية والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه نزلنا على عبدنا وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز أسمه هو المناسب لحالهم ويحذركم الله نفسه وقيل : في ذلك مع الإضافة إلى الضمير تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم والجملة سادة مسد مفعولي يعلمونعند الجمهور ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي فيعلمون حقيته ثابتة
وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا لم يقل سبحانه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم واتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الإستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة ومن قال للمسك أين الشذا يكذبه ريحه الطيب قيل : ولم يقل سبحانه هناك وأما الذين آمنوا فيقولون إلخ إشارة إلى أن المؤمنين أكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كأخفاء الجمر في الحلفاء وقيل : إنيقولونلا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند فيقولون إلخ أشمل وأجمع و ماذا لها ستة أوجه في إستعمالهم الأول أن تكون ما إستفهامية في موضع رفع بالإبتداء وذابمعنى الذي خبره وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الإستفهام وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول الثاني أن تكون ماذا كلها إستفهاما مفعولا لأراد وهذان الوجهان فصيحان أعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية والإستفهام يحتمل الإستغراب والإستبعاد والإستهزاء ظلمات بعضها فوق بعض الثالث أن يجعل ما إستفهامية وذا صلة لا إشارة ولا موصولة الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله
دعى ماذا علمت سأتقيه
الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال السادس أن تكون ما إستفهامية وذا اسم إشارة خبر له
والإرادة كما قاله الراغب : منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل وجعل أسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو إستعمال آخر ولسنا بصدده وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولايريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد وللمتكلمينأهل الحق وغيرهمفي تفسيرها مذاهب فالكلبي والنجار وغيرهما على
(1/208)

أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي ويسمون هذا العلم عناية وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية وموجودة لا في محل عند الأبوين والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد وفي كلمة هذا استحقار للمشار إليها مثلها في أهذا الذي بعث الله رسولا وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام ومثلا نصب على التمييز عن نسبة الإستغراب ونحوه إلى المشار إليه وقد ذكر الرضى والعهدة عليه أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما وإذا كان معلومين فالتمييز عن النسبة ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه
يضل به كثيرا ويهدي بن كثيرا جملتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين المصدرتين بأما إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية وصرح بعضهم بأنهما جواب لماذا ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالإستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان قيل ووضعهما موضع الفعل الواقع في الإستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والإهتداء كما يشير إليه قوله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الإختيار وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشيء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور فالإهتمام ببيانه أولى ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل ... ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... لدى المجد حتى عد ألف بواحد ...
لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية هذا وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى يضل به كثيرا الخ في موضع الصفة لمثل فهو من كلام الكفار ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون يضل به كثيرا من كلام
(1/209)

الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية والضمير في به للمثل أو لضربه في الموضعين وقيل في الأول للتكذيب وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام ولا يخفى ضعفه وقرأ زيد بن علي يضل هنا وفيما يأتي و يهدي بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في الثلاثة بالبناء للفاعل ورفعا الفاسقين خفضهم الله تعالى وما يضل به إلا الفاسقين 26 تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه وقيل حال ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا إبتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه و الفاسقين جمع فاسق من الفسق وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة واختص في العرف والإستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة وهو من قولهم فسق الرطب إذا خرج من قشره قال ابن الأعرابي ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري وإلا فقد قال رؤبة وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه ... يذهبن في نجد وغور أغائرا ... فواسقا عن قصدها جوائرا ...
على أنه يمكن أن يقال لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا ونصب الفاسقين على أنه مفعول يضل أو على الإستثناء والمفعول محذوف أي أحدا ولا تفريغ كما في قوله ... نجا سالم والنفس منه بشدة ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا ...
ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه يحتمل النصب والرفع والأول إما على الإتباع أو القطع أي أذم والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الإبتداء والخبر جملة أولئك هم الخاسرون وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد والنقص فسخ التركيب وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه ونقيضه البناء وشاع استعمال النقض في إبطال العهد كما قال الزمخشري من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الإستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمز بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك عالم يغترف منه الناس وشجاع يفترس أقرانه
والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال
(1/210)

تأليف الجسم وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل فبهذا الإعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد ومن هنا يظهر أن الإستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية وتحقيق البحث يطلب من محله والعهد الموثق وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه واستعهد منه إذا اشترط عليه واستوثق منه والمراد بالعهد ههنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها والناقضون على هذا جميع الكفار وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول وعكس بعض ولكل وجهة وقيل الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السموات والأرض عن أن يحملنها وقيل هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الإختلاف في سبب النزول والظاهر العموم و من للإبتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد فاثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه وقيل صلة وهو بعيد والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير كمنحار ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري كميعاد بمعنى الوعد وأنكره جماعة وقالوا هو اسم في موضع المصدر كما في قوله ... أكفرا بعد رد الموت عنى ... وبعد عطائك المائة الرتاعا ...
ويكون اسم آلة كمحراث ولم يشع هذا وليس بالبعيد والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب أو ما وثقوه به من القبول والإلتزام والضمير للعهد لأنه المحدث عنه ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة وفي الضمير الإحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية وأما فيها فمطرد كثير وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤل بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم والوجه أنها في نية الإنفصال ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ما المقطوعة موصولة أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء وفي المراد بها أقوال الأول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان قاله الحسن وفيه استعمال ما لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل الثاني القول فإنه تعالى أمر أن يوصل بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين الثالث التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض الرابع الرحم والقرابة قاله قتادة وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم الخامس الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد المقصودة بالذات من كل وصل وفصل ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله
(1/211)

من العموم ولا دليل واضح على الخصوص ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم وليس بالقوى والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون ماذا تأمرون ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها وفي موجبها خلاف وهذا هو الأمر الطلبي وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمى الخطب والحال العظيمة شأنا وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمى به ذلك لأن من شأنه أن يقصد وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل وما أمر فرعون برشيد و أن يوصل يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو من ضميره والثاني أولى للقرب ولأن قطع ما أمر الله تعالى بوصله أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه واحتمال الرفع بتقدير هو أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله أي لأن أو كراهية أن ليس بشيء كما لا يخفى ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون 27 إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها ولعل هذا أولى وذكر في الأرض إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم و أولئك إشارة إلى الفاسقين باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر الخاسرين عليهم باعتبار كمالهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية واشتروا النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والقطيعة بالصلة والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان رأس المال والربح وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم وفي الآية ترشيح للإستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم
كيف تكفرون بالله التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله و كيف اسم إما ظرف وعزى إلى سيبويه فمحلها نصب دائما أو غير ظرف وعزى إلى الأخفش فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع وأجازه قياسا الكوفيون وقطرب والبدل منها أو الجواب إذا كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء وهي هنا للإستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيدا اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال كافر معاند وكافر جاهل فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة وهو يستلزم العلم
(1/212)

بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان وهو صارف قوي عن الكفر وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في أتكفرون لأن الإنكار الذي هو نفى قد توجه للحال التي لا تنفك ويلزم من نفيها نفى صاحبها بطريق البرهان وإن شئت عممت الحال وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق ولا يرد أن الإستخبار محال على اللطيف الخبير عز شأنه لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه وهما من المعاني المجازية للإستفهام الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الإستخبار حقيقة للصيغة وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الإنفهام بطريق الإستتباع واللزوم لا من حاق الوسط أو أنه تجوز على تجوز لشهرة الإستفهام في معنى الإستخبار حتى كأنه حقيقة فيه وإما أن يكون بمعنى الإستفهام فنقول لا قدح في صدوره ممن يعلم المستفهم عنه لأنه كما في الإتقان طلب الفهم أما فهم المستفهم وهو محال عليه تعالى أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف وأتى سبحانه بتكفرون ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون 28 ما قبل ثم حال من ضمير تكفرون بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه والمعنى كيف تكفرون وقد خلقكم فعبر عن الخلق بذلك ولما كان مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول أن لا خالق إلا الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل وكلاهما لا يصح أن يقع حالا ورجح هذا جمع محققون والحياة قوة تتبع الإعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى وقيل القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث أنها كمالها وغايتها والموت مقابل لها في كل مرتبة والكل في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك وأين التراب من رب الأرباب ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى والمروي عن ابن عباس وابن مسعود
(1/213)

ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق والأحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا والحياة الثانية البعث للقيامة واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى وكنتم أمواتا وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها وأن الحياة الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار والإماتة هي المعهودة والأحياء بعدها هو البعث يوم ينفخ في الصور ولعله أقر بمن الأول وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر الموت بعدم الحياة عمن اتصف به وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه قاله الساليكوتي ويفهم كلام بعضهم أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل والأحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الأحياء المصحح له ونحن لا نستدل لها بذلك الوجه عليه ولنا والحمد لله تعالى في ذلك المطلب أدلة شتى وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في وإليه ترجعون لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين وفي قوله تعالى ترجعون على البناء للمفعول دون يرجعكم المناسب للسياق مراعاة للتناسب رءوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسباق ولهذا قيل إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد وجماعة ترجعون مبنيا للفاعل ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار ومعنى العلم ملاحظ فيها امتنع خطابهم مما بعد ثم وثم من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية وسطوع أنوارها عقلية ونقلية منزل منزل العلم في إزاحة العذر وبهذا يندفع أيضا ما قيل هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به ويحتمل كما قيل أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه يا أيها الناس إلى فلا تجعلوا ودلائل النبوة من وإن كنتم إلى إن كنتم وأوعد ب فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا الآية ووعد ب وبشر الذين آمنوا الخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وكنتم أمواتا إلى هم فيها خالدون والخاصة من يا بني إسرائيل إلى ما ننسخ واستقبح صدور الكفر مع تلك النعم منهم توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب وقد يقال إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها
ومن الإشارة قول ابن عطاء وكنتم أمواتا بالظاهر فأحياكم بمكاشفة الأسرار ثم يميتكم عن أوصاف العبودية ثم يحييكم بأوصاف الربوية وقال فارس وكنتم أمواتا بشواهدكم فأحياكم بشواهده ثم يميتكم عن شاهدكم ثم يحييكم بقيام الحق ثم إليه ترجعون عن جميع ما لكم فتكونون له
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا معطوف على قوله تعالى وكنتم وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الإستقلال في إفادة ما أفاده وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى وأريد بترتبها أن الإنتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الإنتفاع بها و هو لغير المتكلم والمخاطب
(1/214)

وفيه لغات تخفيف الواو مفتوحة وحذفها في الشعر وتشديدها لهمدان وتسكينها لأسد وقيس و هو عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة و هو اسم مركب من حرفين الهاء والواو والهاء أصل والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم وهو جار مع الأنفاس ومسماه غائب عن الحدس والقياس وفي جعل الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والإنتفاع أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالإستدلال والإعتبار واستدل كثير من أهل السنة الحنفية والشافعية بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع وعليه أكثر المعتزلة واختاره الإمام في المحصول والبيضاوي في المنهاج
واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إن أسأتم فلها وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الإختصاص النافع وبأن المراد النفع بالإستدلال وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا ويرده أنها تدل على أن الكل للكل ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب فهناك شبه التوزيع والتعيين يستفاد من دليل منفصل ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي و ما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط أو تجعل الجهة اعتبارية نعم قيل تعم كل جزء من أجزاء الأرض فإنه من جملة ضروراتها ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض لا أرضى به وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك واستغنى بتقدم الإمتنان بالأرض في قوله تعالى وجعل لكم الأرض فراشا و جميعا حال مؤكدة من كلمة ما ولا دلالة لهما كما ذكره البعض على الإجتماع الزماني وهذا بخلاف معا وجعله حالا من ضمير لكم يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الإمتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثم استوى إلى السماء أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد قاله الربيع أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوى على شيء قاله الفراء وقيل استولى وملك كما في قوله ... فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر ...
وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إلى بمعنى على وأيضا الإستيلاد مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه والمراد بالسماء الإجرام العلوية أو جهة العلو وثم قيل للتراخي في الوقت وقيل لتفاوت ما بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك فذهب بعض إلى تقدم خلق السموات لقوله تعالى أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها
(1/215)

والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله سبحانه : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها قالتا أئتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وجمع بعضهم فقال : إن أخرج منها ماءها بدل أو عطف بيان لدحاها أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والإنتفاع به فإن البعدية كما تكون بإعتبار نفس الشيء تكون بإعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت : بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي بسند صحيح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين يشير إلى هذا ولا يعارضه ما رواه إبن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والأثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى : أئنكم لتكفرون إلى سواء للسائلين وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل فعطفه عليه قرينة لذلك وإستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فأمتنع إنفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل : على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها إبتداءا بل يقول إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت فيتحقق الإنفكاك ويصبح تأخر دحوها عن خلقها وقوله قدس سره : إن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين : أختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول وأختاره المحققون ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السموات السبع بل أتفقوا عليه فحينئذ يجعل الخلق في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا لكم على حد إذا قمتم إلى الصلاة و إذا قرأت القرآن ولا يخالفه والأرض بعد ذلك دحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال وأما قوله سبحانه وتعالى : خلق الأرض في يومين فعلى تقدير الإرادة والمعنى أراد خلق الأرض وكذا وجعل فيها رواسي ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل ويؤيد ذلك قوله تعالى : فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فإن الظاهر أن المراد أئتيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سايقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال : أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سموات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام
بقى ههنا بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر ههنا وفي حم السجدة خلق الأرض وما فيها
(1/216)

على خلق السموات وعكس في النازعات ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الإمتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى : هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد ويقال له سماء أيضا مخلوق قبل الأرض وما فيها وأن الأرض نفسها خلقت بعد ثم بعد خلقها خلقت السموات السبع ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات ثم ظهر عالم الحيوان ثم عالم الإنسان فمعنى خلق لكم ما في الأرض حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده ومعنى وجعل فيها رواسي إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا وخلق الأرض فيها على ظاهره ولا يأباه قوله سبحانه : فقال لها وللأرض أئتيا إلخ لجواز حمله على معنى أئتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم الآن ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة ونسأل الله تعالى التوفيق فسواهن سبع سموات الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام وجاز أنيرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤلة به وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد نعم رجلا وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى وفي نصب سبع خمسة أوجه : البدل من المبهم أو العائد إلى السماء أو مفعول به اي سوى منهن أو حال مقدرة أو تمييز أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صيرولم يثبت والبدلية أرجع لعدم الإشتقاق وبعدها الحالية كما في البحر وأريد بسواهن أتمهن وقومهن وخلقهن إبتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد إن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم : ضيق فم البئر ووسع الدار وفي مقارنة التسوية والإستواء حسن لا يخفى لا يقال إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك وهل هي إلا سموات لأنا نقول هم شاكون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي وقال بعض محققيهم : لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما أختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد والخلاف في ذلك مشهور وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام
وهو بكل شيء عليم 92 تذييل مقرر لما قبله من خلق السموات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فأرجع البصر هل ترى من فطور ثم أرجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير وفي عليم من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة والشيء هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا لمن ضل عن سواء السبيل والجار والمجرور متعلق ب عليم وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة
(1/217)

كما قالوا : خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء كأعلم به وأجهل به وعليم به وجهول بهوأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام كأضرب لزيد وفعال لما يريد وإلا تعدى بما يتعدى به فعله : أصبر على النار وصبور على كذاولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فأفهم وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة لما أمتن سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وإذ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وإفتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو أسمية ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف وفي البحر إنها لا تقع وإذا أستفيد شيء من ذلك فمن المقام وأختلف المعربون فيها هنا فقيل : زائدة وبمعنى قد وفي موضع رفع أي إبتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر أي إبتدأ خلقكم أو أحياكم إذ ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول ويقال : بعدها ومعمول لخق لكم المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورةو متعلق بالذكر ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول كر ميت الصيد في الحرم وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف فاللائق أن تجعل منصوبة بقالوا الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسموات العلى ولولاه ما خلق آدم بل ولا ولا ولله تعالى در سيدي إبن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية : وإني وإن كنت إبن آدم صورة فلي فيه معنى شاهد بأبوتي واللام الجارة للتبليغ و الملائكة جمع ملئك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم وقيل : لا قلب فإبن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن م ل ك يدور مع القوة والشدة يقال : ملكت العجين شددت عجنه وهو إشتقاق بعيد وفعال قليل وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو أسم مكان على المبالغة وهو إشتقاق بعيد ايضا ولم يشتهر لاك وكثر في الإستعمال الكني إليه أي كن لي رسولا ولم يجيء سوى هذه الصيغة فأعتبره مهموز العين وأن أصله ألا كنى وبعض جعله أجوف من لاك يلوك والتاء لتأنيث الجمع وقيل : للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لإعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا : كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله
ابا خالد صلت عليك الملائك
وأختلف الناس في حقيقتها بعد إتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية وقيل : هوائية قادرة على اتشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى وقالت النصارى : إنها الأنفس الناطقة المفارقة لا بد أنها الصافية الخيرة والخبيثة عندهم شياطين وقال عبدة الأوثان : إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة والنحس ملائكة العذاب والفلاسفة يقولون : إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس
(1/218)

الناطقة في الحقيقة وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك وهي عندنا منقسمة إلى قسمين قسم شأنهم الإستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الإشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم العليون والملائكة المقربون وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهم المدبرات أمرا فمنهم سماوية ومنهم أرضية ولا يعلم عددهم إلا الله وفي الخبر آطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع وهم مختلفون في الهيآت متفاوتون في العظم لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه حتى قيل : إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى ومثله يقع للكمل من الأولياء وهذا ما وراء طور العقل وأنا به من المؤمنين وقد ذكر أهل الله قدس الله تعالى أسرارهم أن أول مظهر للحق جل شأنه العما ولما أنصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة الميهمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم فلما اؤجدهم تجلى لهم بأسمه الجميل فهاموا في جلال جماله فهم لا يفيقون فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور سماه العقل والقلم وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لاإلى غاية فقبل بذاته علم ما يكون وما للحق من الأسماء الألهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي فأشتق من هذا العقل ما سماه اللوح وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير فجعل لهذا العلم ثلثمائة وستين سنا من كونه قلما ومن كونه عقلا ثلثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية في فصلها في اللوح وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس وهذا كله في عالم النور الخالص ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة فلآم شعثها ذلك النور فظهر العرش فأستوى عليه أسم الرحمن بالأسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين وليس لهم شغل إلا كونهم حافين من حول العرش يسبحون بحمدهثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك فلكا في جوف فلك وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه وزينها بالكواكب وأوحى في كل سماء أمرها إلى أن خلق صور المولدات وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلي آخر وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه ولا يزال الحق سبحانه يخلق منأنفاس العالم ملائكة ماداموا متنفسين وسبحان من يقول للشيء كن فيكون
إذا علمت ذلك فأعلم أنهم أختلفوا في الملائكة المقول لهم فقيل : كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص فشمل المهيمين وغيرهم وقيل : ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض وقيل : إبليس ومن كان معه في محاربة الجن
(1/219)

الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزائن الجنة أشتق لهم أسم منها فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لإستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات وقوله تعالى : أستكبرت أم كنت من العالمين يشير إلى ذلك عندهم وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا منأمرنا ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الأطلاق بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق وليس هذا بالبعيد فليفهم
و جاعل أسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لإثنين والأول هنا خليفة والثاني في الأرض أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد ف في الأرض متعلق بخليفة وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الإستقبال ومعتمد على مسند إليه ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل ويلزم على كونه بمعنى التصير ذكر خليفة أو تقديره فيه والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر وبه قال الجمهور أو أرض مكة وروى هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح وإلا لم يعدل عنه وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والإستحالات فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الألهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه والهاء للمبالغة ولهذا يطلق على المذكر والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولأفراد اللفظ ولما في السياق ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد بمن يفسد إلخ من فيه قوة ذلك ومعنى كونه خليفة أنه خليفة الله تعالى في أرضه وكذا كل نبي أستخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية وذاته تعالى في غاية التقدس والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العدة الألهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى وقيل : هو وذريته عليه السلام ويؤيده ظاهر قول الملائكة فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه وهذا كما يستغنى بذكر أبي القبيلة عنهم إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار أو أنه يخلف بعضهم بعضا وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلي له سبحانه وتعالى والجامع لصفتي جماله وجلاله ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين وليس في الموجودات من وسع الحق سواه ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم : إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو على صورة الرحمن وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام بل متى فارق هذا
(1/220)

الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه فهو العماد المعنوي للسماء والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه ولما كان هذا الأسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي القيام ضيق والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز و جل وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الألهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم وكان هذا القول على ماذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول هو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد وقرأ زيد بن علي خليقة بالقاف والمعنى واضح قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء إستكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس إستفهاما عن نفس الجعل والإستخلاف لأنهم قد علموه قبل فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا بإعتبار ذاته بل بإعتبار حكمته ومزيل شبهته أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية وقيل : إستفهام محض حذف فيه المعاد لأي أتجعل فيها من يفسد أم تجعل من لا يفسد وجعله بعضهم منالجملة الحالية أي أتجعل فيها كذا ونحن نسبح بحمدك أم نتغير وأختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه والأدب يسكتنى عنه وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لإعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم ومن العجيب أن مولانا الشعراني وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معلالا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة وقال : إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الإستواء فعليه لا يبعد الإعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم وعندي أن ذلك غير صحيح وقيل : إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الأفراط في الفساد ولم يكرره بعد للإكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و السفك الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية و الدماء جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان وأصله فعل أو فعل والمراد بها المحرمة بقرينة المقام وقيل : الإستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها وقرأ إبن أبي عبلةيسفكبضم الفاء ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك وقرأ إبن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الإستفهام وقريء على البناء للمجهول والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا
(1/221)

محذوف أي فيهم وحكم الملائكة بالأفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من إدعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن بإخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكى عنهم إكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن ويؤيد ذلك ما روى في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة قال : تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا : ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وقيل : عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب ويحتاج الجواب إلى تكلف وقيل : عرفوه إستنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره وذلك بفضي إلى الفساد وسفك الدماء وقيل : قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع إشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين ويحتمل أنهم علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال ولكل آثار والإفساد والسفكمن آثار الجلال وسكتوا عنآثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك حال من ضمير الفاعل في أتجعل وفيها تقرير لجهة الإشكال والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الإستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية ولزوم الضمير وترك الواو في الجملة الأسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للإستمرار وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للإختصاص ومن الغريب جعل الجملة إستفهامية حذف منها الأداة وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر ههنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينة وأن يكون بدونه كما هو أصله و بحمدك في موضع الحال والباء لإستدامة الصحبة والمعية وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب وقيل : المراد به تسبيح خاص وهو سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت ويعرف هذا بتسبيح الملائكة أو سبحان الله وبحمده وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل قال ماأصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده أي وبحمده نسبح والتقديسفي المشهور كالتسبيح معنى وأحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما بإعتبار الطاعات والآخر الإعتقادات وقيل : التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما آخر نحو سبوح قدوس ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الإلتفات إلى غيرك ولام لك إما للعلة متعلق بنقدس والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما فيسجدت لله تعالى أو للبيان كما فيسفها لكفمت علقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى وأغرب الشيخ
(1/222)

صفي الدين الخزرجي في كتابه فك الأزرار فجعل القائل مختلفا وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في جملتهم فورد الجواب منهم مجملا فلما أنفصل إبليس عن جملتهم بابإئه أنفصل الجواب إلى نوعين فنوع الأعتراض منه ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه فأنقسم الجواب إلى قسمين كإنقسام الجنس إلى جنسين وناسب كل جواب منظهر عنه فالكلام شبيه بقوله تعالى : وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا وهو تأويل لا تفسير قال إني أعلم ما لا تعلمون 03 أي اعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه وقيل : أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم وقيل : بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون وقيل : الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه : إني أعلم غيب السموات والأرض ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على دق وجه وأكمله فكأنه قال جل شأنه أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور إستعدادكم ونقصان قابليتكم فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي فلا بد من إظهار من تم إستعداده وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات في ومظهرا لما خفي عندي وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر و أعلم فعل مضارع وإحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى وعلم آدم الأسماء كلها عطف على قال وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم وظاهر الإبتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه : إني جاعل إياه خليفة فقبل ما قيل وقيل : إنه معطوف على محذوف اي فخلق وعلم أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم أو فجعل في الأرض خليفة وعلم وإبراز أسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره و آدم صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة بضم فسكون السمرة وياما أحيلاها في بعض وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة بفتحتين الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم فلذلك تأتي بنوه أخيافا أو من الأدم أو الأدمة الموافقة والألفة وأصله اادم بهمزتين فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل وقيل : أعجمي ووزنه فاعل بفتح العين ويكثر هذا في الأسماء كشالخ وآزر ويشهد له جمعه على أودام بالواو لا اآدم بالهمزة وكذا تصغيره على أويدم لاأؤيدم واعت عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف فجعل الغالب عليها الواو ولم يسلموه له وحينئذ لا يجري الإشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصحوالتوافق بين اللغات بعيد وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم وهو إشتقاق تقديري أعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون ولعل هذا أقرب إلى الصواب و الأسماء جمع أسم وهو بإعتبار الإشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال وأستعمل عرفا في الموضوع
(1/223)

لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما وكلا المعنيين محتمل والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصويرية والتصديقية وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن وقال الإمام : المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها لأنها علامات دالة على ماهياتها فجاز أن يعبر عنها بالأسماء وفيه كما قال الشهاب نظر إذ لم يعهد إطلاق الأسم على مثله حتى يفسر به النظم وقيل : المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وعزى إلى إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : اللغات وقيل : أسماء الملائكة وقيل : أسماء النجوم وقال الحكيم الترمذي : أسماؤه تعالى وقيل وقيل وقيل والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت وهو أنهاأسماء الأشياء علوية وسفلية جوهرية أو عرضية ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم بإعتبار دلالتها عليه وظهوره فيها غير متقيد بها ولهذا قالوا : إن اسماء الله تعالى غير متناهية إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود إلا وهو أسم من اسمائه تعالى وشأن من شئونه عز شأنه وهو الأول والآخر والظاهر والباطن ومن هنا قال قدس سره : إن الوجود وإن تعدد ظاهرا وحياتكم ما فيه إلا أنتم لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والإتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب إستعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء وعلم ما أنطوت عليه وفهم ما أشارت إليه فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية فيالله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير وأختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كأستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل : بأن خلق فيه عليه السلام بموجب إستعداده علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها وقيل : بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات إستعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول : بأن التعليم على ظاهره وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أنبؤوني مما لا أرتضيه اللهم إلا إن صح خبر في ذلك ومع هذا أقول : للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق وقيل : غير ذلك ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة إصطلاحية كما زعمه أبو هاشم وأحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير إذ لو أفتقر لتسلسل الأمر أودار والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى إبتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم إبنه والمعتزلة يقولون : الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الإصطلاح وقيل : وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ والمسألة مفصلة بأدلتها ومالها وما عليها في أصول الفقه وقرأ اليماني وعلم مبنيا للمفعول وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية وقيل : قياسية والحريريفي شرح لمحته يزعم أنعلم المتعدي لإثنين يتعدى به إلى ثلاثة وقد وهم في ذلك ثم عرضهم على الملائكة أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما أشتملت عليه من العقلاء وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر وقيل : الضمير للأسماء بإعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الإستخدام ومن قال : الأسم عين المسمى قال : الأسماء هي المسميات
(1/224)

والضمير لها بلا تكلف وإليه ذهب مكي والمهدوي ويرد عليه أن أنبئوني بأسماء هؤلاء يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات لا عن نفسها وإلا لقيل : أنبئوني بهؤلاء فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة أو إظهارها لهم كالذر أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم ومعادهم إجمالا أيضا وإلا فالتفضيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير فكأنه سبحانه قال : سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم وما أسماء تلك الأنواع من قولهم : عرضت أمري على فلان فقال لي كذا فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن إطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني وهذا غير ممتنع على الله تعالى بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها وما أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك وقيل : إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام وهو المراد بعرضها وتزعم أنك جرم صغير وفيك أنطوى العالم الأكبر وقرأ أبي ثم عرضها وعبدالله عرضهن والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن وقيل : لا تقدير
فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء تعجيز لهم وليس من التكليف بما لا يطاق على ما وهم وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الإستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها ! هيهات ذلك أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور إستعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالأنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها والعاجز عن نفس الأنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب كيف الوصول إلى سعاد ودونها قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية وما لي مركب والكف صفر والطريق مخوف والأنباء في الأصل مطلق الأخبار وهو الظاهر هنا ويطلق على الأخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن وقال بعضهم : إنه إخبار فيه إعلام ولذلك يجري مجرى كل منهما وأختاره هنا على ما قيل للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم وفي إستعمال ثم فيما تقدم والفاء هنا ما لا يخفى من الإعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم
وقرأ الأعمش أنبئوني بغير همز إن كنتم صادقين 13 أي فيما أختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل وهذا هو التفسير المأثور فقد أخرج إبن جرير عن إبن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا : لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم وفي الكلام دلالة عليه فإن ونحن نسبح إلخ يدل على أفضليتهم وتنزيه الله تعالى وتقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضا وقيل : إن المعنى إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أحق بالإستخلاف أو في إستخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة وليس هذا من المعصية في شيء لأنه شبهة أختلجت وسألوا عما يزيحها وليس بإختياري ولا يرد
(1/225)

أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبروهم إستخبروا ولم يخبروا لأنا نقول : هما يتطرقان إلى الإنشاآت بالقصد الثاني ومن حيث ما يلزم مدلولها وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها وجواب إن في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجهمور البصريين يدل عليه السابق وهو هنا أنبئوني وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة ووهم البعض فعكس الأمر ومن زعم أن إن هنا بمعنى إذا الظرفية فلا تحتاج إلى جواب فقد وهم وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها ولم يجد لها محملا مع إبقاء إن على ظاهرها إفتقر إلى ذلك والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولاإلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقربوا إلا حقا كما قال الإمام
قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إستئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل : فماذا قالوا إذ ذاك : هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا فقيل : قالوا إلخ وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى فالأصح أن لا يؤتي فيها بحرف إكتفاء بالترتيب المعنوي وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير بل القرآن مملوء منه و سبحان قيل : إنه مصدر وفعله سبح مخففا بمعنى نزه ولا يكاد يستعمل إلا مضافا إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا وقوله : سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد شاذ كقوله :
سبحانك اللهم ذا السبحان
ومجيئه منادي مما زعمه الكسائي ولا حجة له وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح بمعنى التنزيه لا مصدر سبحب معنى قال : سبحان الله لئلا يلزم الدور ولأن مدلول ذلك لفظ ومدلول هذا معنى وأستدل على ذلك بقوله : قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر إذ لولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية وأجيب بأنسبحان فيه على حذف المضاف إليه أيسبحان الله وهو مراد للعلم به وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله وهو التجرد عن التنوين وقيل : من زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والإستهزاء به ومن الغريب قول بعض : إن معنى سبحانك تنزيه لك بعد تنزيه كما قالوا فيلبيك إجابة بعد إجابة ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده سبحا وأن لا يكون منصوبا بل مرفوع وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما ألتزم فتحها وياسبحان الله تعالى لمن يقول ذلك والغرض من هذا الحواب الإعتراف بالعجز عن أمر الخلافة والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا : لا علم لنا إلا ما علمتنا ولم تعلمنا الأسماء فكيف نعلمها وفيه آعار بأن سؤالهم لم يكن إلا إستفسارا إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم ومن جملته علمهم بحكمة الإستخلاف مما تقدمفهو بطريق التعليم أيضا فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى ولهذا كله لم يقولوا لا علم لنا بالأسماء مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة والإنصاف أنه يشبهها ولكن
(1/226)

لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الإستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال و ما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهي إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الإستثناء وحكى إبن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب علمتنا ويتكلف لتوجيهه بأن الإستثناء منقطع ف إلا بمعنى لكن و ما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أو لا سائر العلوم ثم أستدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إنك أنت العليم الحكيم 23 تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين واصل الحكمة المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الإعوجاج ويقال للعلم لأنه يمنع عن إرتكاب الباطل ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والإعتراض وهو المراد ههنا لئلا يلزم التكرار فمعنى الحكيم ذو الحكمة وقيل : المحكم لمبدعاته قال في البحر : وهو على الأول صفة ذات وعلى الثاني صفة فعل والمشهور أنه إن أريد به العليم كان من صفات الذات أو الفاعل لما لا إعتراض عليه كان من صفات الفعل فأفهم وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أنبؤني و لا علم لنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها و أنت يحتمل أن يكون فصلا لا محل له على المشهور يفيد تأكيد الحكم والقصر المستفاد من تعريف المسند وقيل : هو تأكيد لتقرير المسند إليه ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع وقيل : مبتدأ خبره ما بعده و الحكيم إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم وقد خصهما بعض فقال : العليم بما أمرت ونهيت الحكيم فيما قضيت وقدرت والعموم أولى
قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم نادى سبحانه آدم بأسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا حيث ناداه ب يا أيها النبي و يا أيها الرسول لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم والسر في إيجاد آدم ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الإمتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الأخبار كما تقدم
وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم وحمل عليه وما منا إلا له مقام معلوم وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال : لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق وقرأ إبن عباس أنبئهم بالهمز وكسر الهاء وأنبيهم بقلب الهمزة ياء وقرأ الحسن أنبهم كأعطهم والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها وأعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فلما أنبأهم بأسمائهم عطف على جملة محذوفة والتقدير فانبأهم بها فلما أنبأهم إلخ وحذفت لفهم المعنى وإظهار الأسماء في موقع الأضمار لأظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام أنبأهم بها على وجه التفصيل دون الأجمال وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى ولا يبعد إن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك وإحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم
(1/227)

فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد
قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون 33 جواب ل ما وتقرير لما مر من الجواب الأجمالي وإستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز إذ كان الظاهر أعلم غيب السموات والأرض وشهادتهما وأعلم ما كنتم تبدون وما كنتم تكتمون وما ستبدون وتكتمون إلا أنه سبحانه أقتصر على غيب السموات والأرض لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى وأقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك وعلى المبدأ من المستقبل لأنه قبل الوقوع خفي فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته وتغيير الأسلوب حيث لم يقل : وتكتمون لعله لإفادة إستمرار الكتمان فالمعنى أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه وذكر الساليكوتي أن كلمة كانصلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تعلمون أعم مفهوما لشموله غيب الغيب الشامل لذات الله تعالى وصفاته وخصها قوم فمن قائل : غيب السموات أكل آدم وحواء من الشجرة وغيب الأرض قتل قابيل هابيل ومن قائل : الأول ما قضاه من أمور خلقه والثاني ما فعلوه فيها بعد القضاء ومن قائل : الأول ما غاب عن المقربين مما أستأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى والثاني ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة والأولى وما أبدوه قبل قولهم أتجعل فيها وما كتموه قولهم : لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا وقيل : ما أظهروه بعد من الإمتثال وقيل : ماأسره إبليس من الكبر وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم معنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس وأبدى سبحانه العامل في ما تبدون إلخ إهتماما بالأخبار بذلك المرهب لهم والظاهر عطفه على الأول فهو داخل معه تحت ذلك القول ويحتمل أن يكون عطفا على جملة ألم أقل فلا يدخل حينئذ تحته
وإذ قلنا للملائكة أإجدوا لآدم الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام كإنقادوا وأطاعوا والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا إعتراف به ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناءا على اللائق الذي قدمناه لإختلاف الوقتين وجوز على أن نصب السابق بمقدر والسجود في الأصل تذلل مع إنخفاض بإنحناء وغيره وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة وفي المعنى المأمور به هنا خلاف فقيل : المعنى الشرعي والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى وآدم إما قبله أو سبب وأعترض بأن لو كان كذلك ما أمتنع إبليس وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم وقوله تعالى : أرأيتك هذا الذي كرمت علي يدل عليهألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها وأجيب بإلتباس الأمر على إبليس وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن ومن الناس من جوز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق إنما منع في شرعنا وفيه أن السجود الشرعي عبادة وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ولا أراها حلت في عصر من الأعصار وقيل : المعنى اللغوي ولم يكن فيه وضع
(1/228)

الجباه بل كان مجرد تذلل وإنقياد فاللام إما باقية على ظاهرها وإما بمعنى إلى مثلها في قول حسان رضي الله عنه : أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن أو للسببية مثلها في قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس وحكمة الأمر بالسجود إظهار الإعتراف بفضله عليه السلام والإعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أو لا : وإذ قال ربك وهنا وإذ قلنا بضمير العظمة لأن في الأول خلق آدم وإستخلافه فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة وأيضا في السجود تعظيم فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم وقرأ أبو جعفر بضم تاء الملائكة إتباعا لضم الجيم وهي لغة أزدشنوأة وهي لغة غريبة عربيةوليست بخطأ كما ظن الفارسي فقد روى أن أمرأة رأت بناتها مع رجل فقالت أفي السوأت نتنه تريد أفي السوأة أنتنه
فسجدوا إلا إبليس الفاء لإفادة مسارعتهم في الإمتثال وعدم تثبطهم فيه و إبليس أسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ووزنه فعليل قاله الزجاج وقال أبو عبيدة وغيره : إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الأبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى ووزنه على هذا مفعيل ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الاسماء وأعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر كأحليل وإكليل وفيه نظر وقيل : لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب وليس بشيء وأختلف الناس فيه هل هو من الملائكة أم من الجن فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد أستكبر وبأن الملائكة كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلقوا من النور وخلق الجن من مارج من نار وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين وعد تركه السجود إباءا وإستكبارا حينئذ إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة لكنه أستغنى بذكرهم لمريد شرفهم عن ذكر الجن أو لأنه عليه اللعنة كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى : إذ أمرتك وضمير فسجدوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الإستثناء وتصحيحه بما ذكر تكلف لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهمكما نطقت به الآثار فلم يكن مغمورا بينهم ولأن صرف الضمير إلى مطلق المامورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيهودون إثباته خرط القتاد وإقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا وقوله تعالى ففسق كالبيان له ويجوز أيضا أن يكون كان بمعنى صار كما روى أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنيا كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير سلمنا لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا فإن الجنكما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم وقيل : صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا أو أنه يقال للملائكة جن أيضاكما قاله إبن إسحاق لإجتنابهم وأستتارهم عن أعين الناس ولذلك
(1/229)

فسر بعضهم قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وورد مثله في كلام العرب فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام : وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر وكون الملائكة لا يستكبرون وهو قد أستكبر لا يضر إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك والملك ما دام ملكا لا يعصي
ومن ذا الذي يامي لا يتغير
وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا ولا قادح في ملكيته لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس وإختلافهما بالعوارض على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جاز مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه وورد أن تحت العرش نهرا إذا أغتسل فيه جبريل عليه السلام وأنتفض يخلق من كل قطرة منه ملك وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف فعده ما شئت منملك وجن وشيطان وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
ثم المشهور أن الإستثناء متصل إن كان من الملائكة ومنقطع إن لم يكن منهم وقد علمت تكلفهم لإتصاله مع قولهم بالثاني وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه والمتصل هو المستثنى من جنسه قال الفرافي في العقد المنظوم : وهو غلط فيهما فإن قوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ الإستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت بهولا بد من هذين القيدين فمتى أنخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أولا نحو رأيت القوم إلا فرسا فالمنقطع نوعان والمتصل نوع واحد ويكون المنقطع كنقيض المتصل فإن نقيض المركب بعدم أجزائه فقوله تعالى : لا يذوقون إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض لأن نقيضه ذاقوه فيها وليس كذلك وكذلك إلا أن تكون تجارة لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك إلا خطأ لأنه ليس له القتل مطلقا وإلا لكان مباحا فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة الحكم على الجنس بغير النقيض والحكم على غيره به أو بغيره والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط وقيل : العبرة بالإتصال والإنفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه فتأمل ترشد
وأفهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر : طه النبي تكونت من نوره كل الخليقة ثم لو ترك القطا وفي الآثار ما يؤيد ذلك إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة و السلام من حيث الجمال وإبليس من حيث الجلال ويؤل هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي
(1/230)

نقتضيه الحقائق فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها وأستشعر ذلك من ندائه بإبليسولم يكن أسمه من قبلبل كان أسمه عزازيل أو الحرث وكنيته أبا مرة ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل وفي قوله تعالى : أبى وأستكبر وكان من الكافرين 43 نوع إشارة إلى بعض ما ذكر والجملة إستئناف جواب لمن قال ما فعل وقيل : إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وكان من الكافرين مستأنف أو في موضع الحال وقيل : الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل والاباء الإمتناع مع الألفة والتمكن من الفعل ولهذا كان قول كأبي زيد الظلم أبلغ من لم يظلم ولإفادة الفعل النفي صح بعده الإستثناء المفرغ ك يأبى الله إلا أن يتم نوره وقوله : أبى الله إلا عدله ووفاءه فلا النكر معروف ولا العرف ضائع والفعل منه أبى بالفتح وعليه لا يكون يأبى قياسيا وقد سمع أبي كرضى فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود والإستكبارالتكبر وهو مما جاء فيه أستفعل بمعنى تفعل وقيل : التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع والإستكبار طلب ذلك بالتشبع وقدم الأباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الإستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الأخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الإستثناء أو بإنشاء الأخبار عنه بالمخالفة فبدأ بذلك على أبلغ وجه وكان على بابها والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم وقيل : بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال إبن فورك : وترده الاصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم أن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل بإستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضلكما يدل عليه الأباء والإستكبار وقال أبو العالية : معنى من الكافرين من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن أسترد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاوس الملائكة وأظافير القضاء إذا حكت أدمت وقسى القدر إذا رمت أصمت وكان سراج الوصل أزهر بيننا فهبت به ريح من البين فأنطفى وقيل : عن عناد حمله عليه حب الرياسة والأعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو أمتثل أرتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه إجتهاده وكم أدقت هذه القصة جفونا وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى وكنا وليلى في صعود من الهوى فلما توافينا ثبت وزلت ومن هنا قال الشافعية والأشعرية وبقولهم أقولفي هذه المسألة : إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهكما أورده الزرقاني إن من تمام إيمان العبد أن يستثنى إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وهو القاهر فوق
(1/231)

عباده وفي الصحيح عن جابر كان يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وخبر من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب موضوع بإتافق المحدثين وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى هذا وأعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة وكذا التي في الأعراف وبني إسرائيل والكهف وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه ونفخ الروح فيه وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في الحجرمن قوله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حما مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجدوا الملائكة كلهم أجمعون وكذا ما في ص تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه وبه قال بعضهم وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز و تم في آية الأعراف للتراخي الرتبي أو التراخي في الأخبار أو يقال : إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه فحكى على صورة التنجيز ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة وما قالوا وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام وخروج إبليس من البين باللعن وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل أضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات وما أستدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير صدق إذا سويته أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه وعلى التقديرين كان مدلول فقعوا له ساجدين طلبا إستقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى طلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية وقول مولانا الرازي قدس سره : إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والأنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فقعوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا وقوله سبحانه : فتلقى آدم من ربه كلمات ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما أشتهر أن العلم حياة والجهل موت وأنت في غنى عنه والله الموفق
وقلنا ياآدم أسكن أنت وزوجك الجنة عطفإذ قلنا بتقدير إذ أو بدونه أو على قلنا والزمان ممتد واسع للقولين وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها و اسكن أمر من السكنى بمعنى إتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حيث شئتما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان بمهم و أنت توكيد للمستكن في أسكن والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع وقيل : هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث ولكون
(1/232)

التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفى الأمر فأما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد أو يقال إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد أستعملت في الأعم وللتخلص عن ذلك قيل : إنه معطوف بتقدير فليسكن وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد والأمر يحتمل أن يكون للإباحة كأصطادوا وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره علىأسكنا للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك ولهذا قال بعض المحققين : لا يصح إيراد زوجك بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه والجنة في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى إمتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان وقيل : بأرض عدن وقيل : بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة وحملوا الهبوط على الإنتقال من بقعة إلى بقعة كما في أهبطوا مصرا أو على ظاهره ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا : لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما و لا لغو فيها ولا تأثيم وما هم منها بمخرجين وقد بلغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترافي الجنة على ما فيه لا يفيد ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هدا الجسد الكثيف وإلتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف وإلتزام ما لا يلزموما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين غير مسلم وقيل : كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد وقيل : كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة وإحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم أضمحلت مما لا يقدم عليه منصف وقيل : الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير والأدلة متعارضة فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به وإليه مال صاحب التأويلات والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الإستواء ويسمونها جنة البرزخ وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا : إنها جنة المأوى ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كماظ هرت لنبينا على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات وكما أختلف في ذه الجنة أختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام فذكر السدي عن إبن سعود وإبن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لماأخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقى فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألإقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما أستيقظ وجدها
(1/233)

عند رأسه قاعدة فسألها من أنت قالت إمرأة قال ولم خلقت قالت : لتسكن إلي فقالت الملائكة تجربة لعلمه : من هذه قال : إمرأة قالوا : لم سميت أمرأة قال : لأنها خلقت من المراء فقالوا : ما أسمها قال : حواء قالوا : لم سميت حواء قال : لأنها خلقت من شيء حي وقال كثيرون ولعلي أقول بقولهم إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا وأيضا في تقديم زوجك على الجنة نوع إشارة إليه وفي المثل الرفيق قبل الطريق وأيضا هي مسكن القلب والجنة مسكن البدن ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني وأثر السدي على ما فيه مما لا يخفى عليكم عارض بما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي وأصل كلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لإجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض وقيل : حذفا معا لكثرة الإستعمال والرغد بفتح الغين وقرأ النخعي بسكونها الهنيء الذي لا عناء فيه أو الواسع يقال : رغد عيش القوم ورغد بكسر الغين وضمها كانوا في رزق واسع كثير وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف أي أكلا رغدا وقال إبن كيسان : إنه حال بتأويل راغدتين مرفهين و حيث ظرف مكان مبهم لازم للظرفية وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش ولا يجزم بها دون ما خلافا للفراء ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال : زيد حيث عمر وخلافا للكوفيين ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث مع الياء والواو والألف ويقال : حايث على قلة وهي هنا متعلقة بكلا والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي اي مكان من الجنة شئتما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر ولم تجعل متعلقة ب أسكن لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل الجنة مفعولا به له مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى : وكلا من حيث شئتما يستدعي ما ذكرنا وكذا قوله سبحانه : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين 53 ظاهر هذا النهي التحريم والمنهي عنه الأكل من الشجرة إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر ولم يكتف بأن يقول : ظالمين بل قال : من الظالمين بناء على ماذكروا أن قولك : زيد من العالمين أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد وإن قلنا بأن تكونا دالة على الدوام إزدادت المبالغة ومن الناس من قال : لا تقرب بفتح الراءنهى عن التلبس بالشيء وبضمها بمعنى لا تدن منه وقال الجوهري : قرب بالضم يقرب قربانا وقربته بالكسر قربانا دنوت منه والتاء في الشجرة للوحدة الشخصية وهو اللائق بمقام الإزاحة وجاز أن يراد النوع وعلى التقديري نال لام للجنس كما في الكشف ووقع خلاف في هذه الشجرة فقيل الحنطة وقيل : النخلة وقيل : شجرة الكافور ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه وقيل : التين وقيل : الحنظل وقيل : شجرة المحبة وقيل : شجرة الطبيعة والهوى وقيل وقيل والأولى عدم القطع والتعيين كما أن الله تعالى لم يعينها
(1/234)

باسمها في الآية ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة ويقال : فيها شجرة بكسر الشين وشيرة بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها وبكل قرأ بعض وعن أبي عمرو أنه كره شيرة قائلا : إن برابر مكة وسودانها يقرؤن بهاولا يخفى ما فيه والشجر ماله ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان أو أعم من ذلك لقوله تعالى : شجرة من يقطين وقوله تعالى : فتكونا إما مجزوم بحذف النون معطوفا على تقربا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه : ولا تطغوا فيه فيحل والنصب بإضمار أن عند البصريين وبالفاء نفسها عند الجرمي وبالخلاف عند الكوفيين وكان حينئذ بمعنى صار وأيا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها من الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم بإرتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر كالنسيان هنا مثلا المشار إليه بقوله تعالى : فنسى ولم نجد له عزما فلا يستدعي حمل النهي على التحريم والظلم المقول بالتشكيك على إرتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام بالأكل المقرون بالنسيان وإن ترتب عليه ما ترتب نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيآت المقربين وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان إرتكابه حينئذ مخلا ودون إثبات هذا خرط القتاد فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها كما يدعيه المعتزلة القائل وبأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا وألتزمه غير واحد وقريء تقربا بكسر التاء وهي لغة الحجازيين وقرأ إبن محيصن هذي بالياء فأزلهما الشيطان عنها أي حملهما على الزلة بسببها وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى : وما كان إستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة والضمير على هذا للشجرة وقيل : أزلهما أي أذهبهما ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما متقاربان في المعنى غير أن أزل يقتضي عثرة مع الزوال والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز أو تقدير مضاف أي محلها أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام بعيد وإزلاله عليه اللعنةإياهما عليهما السلام كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال فقيل : دخل الجنة إبتلاء لآدم وحواء وقيل : قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما وقيل : تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة وقيل : أرسل بعض أتباعه إليهما وقيل : بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاوس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار وقيل : توسل بحية تسورت الجنة ومشهور حكاية الحية وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة وثانيهما إلى توسله بالغضب وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة وقيل : توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي ولا جزم عند كتير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه ولهذا قالوا : خبر إن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وإنقيادهم له وكأني بك تختار هذا القول وقال أبو منصور : ليس لنا البحث عن كيفية ذلك ولا نقطع القول بلا دليل وهذا من الإنصاف بمكان وقرأ إبن مسعود
(1/235)

رضي الله تعالى عنه فوسوس لهما الشيطان عنها والضمير في هذه القراءة للشجرةلا غير وعوده إلى الجنة بتضمين الأذهاب ونحوه بعيد فأخرجهما مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة أو من الجنة والأول جار على تقدير رجوع ضمير عنها إلىالشجرة أو الجنة والثاني مخصوص بالتقدير الأول لئلا يسقط الكلام وقيل : أخرجهما من لباسهما الذي كانا فيه لأنهما لما أكلا تهافت عنهما وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وقلنا أهبطوا بعضكم لبعض عدو الهبوط وعين المضارع تكسر وتضم وقال المفضل : هو الخروج من البلد والدخول فيها من الأضداد ويقال في إنحطاط المنزلة والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء وهو ككل ملازم للإضافة لفظا أو نية ولا تدخل عليه اللام ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا إذا أريد به جمع والعد ومن العداوة مجا الحد أو التباعد أو الظلم ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد وقد يقال : أعداء وعدوة والخطاب لآدم وحواء لقوله تعالى : قلنا أهبطا منها جميعا والقصة واحدة وجمع الضمير لتزيلهما منل البشر كلهم ولما كان في الأمر بالهبوط إنحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء كما أفتتح الأمر بالسكنى وأختار الفراء أن المخاطبهما وذريتهما وفيه خطاب المعدوم والمأثور عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف أنه هما وإبليس وأعترض بخروجه قبلهما وأجيب بأن الأخبار عما قال لهم مفرقا على أنه لا مانع من المعية وقيل : هم والحية وأعترض بعدم تكليفها وأجيب بأن الأمر تكويني والجملة الأسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة والحكم بإعتبار الذرية وإذا دخل إبليس والحية كان الأمر أظهر ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي وهو منهي عنه لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية والأمور الطبيعية غير مكلف بها وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الأشكال إلا أن فيه بعدا وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال مع ما في الإكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الأسمية الحالية من المقال حتى ذهب الفراء إلى شذوذه وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو كجاء زيد وأبوه منطلق إلا ما شذ من نحو كلمته فوه إلى في وإن أجنبية لزمتها الواو نائبة عن العائد وقد يجمع بينهما كقدم بشر وعمرو قادم إليه وقد جاءت بلا ولا كقوله : ثم إنتصبنا جبال الصغد معرضة عن اليسار وعن أيماننا جدد وقد تكون صفة ذي الحال ك توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون وهذه يجوز فيها الوجهان بإطراد وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر
وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول وبه تعلق ما قبله واللامكما في البحر مقوية وقرأ أبو حيوة أهبطوا بضم الباء وهو لغة فيه وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين 63 أراد بالأرض محل الإهباط وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام موضع بجبل سرنديب ولحواء موضع بجدة ولإبليس موضع بالإبلة ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان والمستقر أسم مكان أو مصدر ميمي ويحتمل على بعد كونه أسم مفعول بمعنى ما أستقر ملككم عليه وتصرفكم فيه وأبعد منه إحتمال كونه أسم زمان
(1/236)

وهو مبتدأ خبره لكم وفيه متعلق بما تعلق به والمتاع البلغة مأخوذ من متع النهار إذا أرتفع ويطلق على الإنتفاع الممتد وقته ولا يختص بالحقير والحين مقدار من الزمان قصيرا أو طويلا والمراد هنا إلى وقت الموت وهو القيامة الصغرى وقيل : إلى يوم القيامة الكبرى وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس ويراد الكل المجموعي والجار متعلق بمتاع قيل : أو به وبمستقر على التنازع أو بمقدار صفة لمتاع وهذه الجملة كالتي قبلها إستئنافا وحالية
فتلقى آدم من ربه كلمات المراد بتلقي الكلمات إستقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها فهو مستعار من إستقبال الناس بعض الأحبة إذا قدم بعد طول الغيبة لأنهم لا يدعون شيئا من الأكرام إلا فعلوه وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها وفي التعبير بالتلقي إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد و من ربه حال من كلمات مقدم عليها وقيل : متعلق ب يتلقي وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه ولولا خلوه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول وقرأ إبن كثير بنصب آدم ورفع كلمات على معنىأستقبلته فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه وقد يجعل الإستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية والمروى في المشهور عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الكلمات هي ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا الآية وعن إبن مسعود أنها سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك أسمك وتعالى جدك لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فأغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وقيل : رأى مكتوبا على ساق العرش محمد رسول الله فتشفع به وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم والحبيب الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم فما عيسى بل وما موسى بل وما وما إلا بعض من ظهور أنواره وزهرة من رياض أنواره وروى غير ذلك فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم 73 التوبة أصلها الرجوع وإذا اسندت إلى العبد كانتكما في الأحياء عبارة عن مجموع أمور ثلاثة علم وهو معرفة ضرر الذنب وكونه حجابا عن كل محبوب وحال يثمره ذلك العلم وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب ونسميه ندما وعمل يثمره الحال وهو الترك والتدارك والعزم على عدم العود وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل وفي الحديث الندم توبة وطريق تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته ويطلعهم عليه من تخويفاته حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف ولهذا عديت بعلي وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة أو مستلزم لها ولا شك أن القبول مترتب عليه فهي إذا لمجرد السببية وقد يقال : إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب بإعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما ولم يقل جل شأنه فتاب عليهما لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة وفي الجملة الأسمية ما يقوي رجاء المذنبين ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث أفتتحها ب أن وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما
(1/237)

إشارة إلى مزيد الفضل وقدم التواب لظهور مناسبته لما قبله وقيل في ذكر الرحيم بعده إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب كما زعمت المعتزلة بل على سبيل الترحم والتفضل وأنه الذي سبقت رحمته غضبه فيرحم عبده في عين غضبهكما جعل هبوط آدم سبب إرتفاعه وبعده سبب قربه فسبحانه من تواب ما أكرمه ومن رحيم ماأعظمه وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرةكان الكلام تذييل القوله تعالى : فتاب عليه أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة كان تذييل القوله تعالى : فتلقى آدم إلخ وقرأ نوفل أنه بفتح الهمزة على تقديرلأنه قلنا أهبطوا منها جميعا كرر للتأكيد فالفصل لكمال الإتصال والفاء في فتلقى للإعتراض إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد وفائدته الإشارة إلى مزيد الإهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها ولا يمهل فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول إذ ذكر إهباطهم أولا للتعادي وعدم الخلود والأمر فيه تكويني وثانيا ليهتدي من يهتدي ويضل من يضل والأمر فيه تكليفي ويسمى هذا الأسلوب في البديع الترديد فالفصل حينئذ للإنقطاع لتباين الغرضين وقيل : إن إنزال القصص للإعتبار بأحوال السابقين ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى فيكف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما فلو لم يعد الأمر لعطف فأما يأتينكم على الأول فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور ويحتمل على بعد أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك ولولا إرادته لما ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان فهو قريب من قوله عز شأنه : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وقال الجبائي : إن الأول من الجنة إلى السماء والثاني منها إلى الأرض ويضعفه ذكر ولكم في الأرض مستقر عقيب الأول و جميعا حال من فاعل أهبطوا أي مجتمعين سواء كان في زمان واحد أو لا وقد يفهم الإتحاد في الزمان من سياق الكلام كما قيل به في فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأبعد إبن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون 83 لا يدخل في الخطاب غير المكلف وأدرج الكثيرون إبليس لأنه مخاطب بالإيمان والفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الامر و إما مركبة من إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه : إن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجيء بما وقد ورد ذلك في قوله : يا صاح أما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي وقوله : إما أقمت وإما كنت مرتحلا فالله يحفظ ما تبقى وما تذر وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية أو أن ما لتأكيد الفعل
(1/238)

في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك وقيل بالقطع وإستعمال إن في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم وقيل : إن زيادة ما والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته وأنت تعلم أن ما أخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر وإن جل قائله فتدبر و منى متعلق بما قبله وفيه شبه الإلتفاتكما في البحر وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق بمنهدى التوحيد الصرف وعدم الإلتفات إلى الكثرة ونكر الهدى لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف وفي المراد به هنا أقوال فقيل الكتب المنزلة وقيل : الرسل وقيل : محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام والفاء في فمن للربط و ما بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حد إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك وقال لما في المقابل من الموصول ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الإتباع وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع وقيل : لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالإستدلال والعقل ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام والخوف الفزع في المستقبل والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن وهو ما غلظ من الأرض فكأنه ما غلظ من الهم ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور ويؤل حينئذ نحو إني ليحزنني أن تذهبوا به بعلم ذلك الواقع وقيل : إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف إستشعارهم لفقد مطلوب والحزن إستشعار غم لفوت محبوب وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة والمعنى لا خوف عليه مفضلا عن أن يحل بهم مكروه ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين وقال بعض الكبراء : خوف المكروه منفي عنهم مطلقا وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم وقيل : المعنى لا خوف عليهم من الضلالة في الدنيا ولا حزن من الشقاوة في العقبى وقدم إنتفاء الخوف لأن إنتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من إنتفاء الحزن على ما فات ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي وقدم الضمير إشارة إلى إختصاصهم بإنتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن والمراد بيان دوام الإنتفاء لا بيان إنتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والإستمرار بحسب المقام وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلىلا خوف عليهم للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم وفي البحر أنه سبحانه كنى بعليهم عن الإستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى إنصراف النفي على كونية الخوف عليهم ولا يلزم من نفي كونية إستيلاء الخوف إنتفاؤه في كل حال فلا دليل في الآية
(1/239)

على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين وأنت تعلم أن فيما اشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الإستيلاء للتعريض بالكفار والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم هذا وقرأ الأعرج هداي بسكون الياء وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف وقرأ الجحدري وغيره هدى بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل وقرأ الزهري وغيره فلا خوف بالفتح وإبن محيصن بإختلاف عنه بالرفع من غير تنوين وكأنه حذف لنية الإضافة أو لكثرة الإستعمال أو لملاحظة اللام في الأسم على ما في البحر ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ و عليهم خبره أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال إبن عطية والأول أولى
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 93 عطف على فمن تبع قسيم له كأنه قال : ومن لم يتبعه وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين ويعلم بالفحوى إن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة ولو جعل قوله تعالى : ولا خوف عليهم حينئذ لنفى إستمرار الخوف والحزن وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى كان داخلا في فمن تبع هداي إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ويراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب وبالتكذيب إنكارها باللسان والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة ومنه آية القرآن لأنها علامة لإنقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها أو لأنها علامة على معناها وأحكامها وقيل : سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا كما قال أبو عمرو يقال : خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف وذكر بعضهم إنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه كما يقال : فلان آية من الآيات وفي أصلها ووزنها أقوال : فمذهب سيبويه والخليل أن اصلها آيبة بفتحات قلبت الياء ألفا لتحركها وإنفتاح ما قبلها على خلاف القياس كغاية وراية إذ المطرد عند إجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير ومذهب الكسائي أن أصلها آيية كفاعلة وكان القياس أن تدغم كدابة إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها ومذهب الفراء أن وزنها فعلة بسكون العينمن تأى القوم إذا أجتمعوا وقالوا في الجمع : آياء كأفعال فظهرت الياء والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من من همزة هي فاء الكلمة ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع : آواء ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وإنفتاح ما قبلها ومذهب الكوفيين أن وزنها آيية كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول وقيل : وزنها فعلة بضم العين وقيل : أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين وهو ضعيف وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ ولا بدع في آية والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء أو القرآن أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب
(1/240)

بها وأشار ب أولئك إلى الموصول بإعتبار إتصافه بما في حيز الصلة للأشعار بتميز أولئك بذلك الوصف تميزا مصححا للأشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره أصحاب وهو جمع صاحب وجمع فاعل على أفعال شاذ كما في البحر ومعنى الصحبة الإقتران بالشيء والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة وذه الجملة خبر عن الذين ويحتمل أن يكون أسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان والأصحاب خبره والجملة الأسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى : أولئك اصحاب النار خالدين فيها وجوز كونها حالا من النار لإشتمالها على ضميرها والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر لأولئك على رأي من يرى ذلك قال أبو حيان : ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في أصحاب النار مبينة أن هذه الصحبة لايراد منها مطلق الإقتران بل الخلود فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب والخلود هنا الدوام على ما أنعقد عليه الإجماع ومن البديع ماذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه يقال له الإحتباك ويا حبذاه لولا الكناية المغنية عما هناك
يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام وسقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الأنعام وجعله سبحانه بعد قصة آدم لأن هؤلاء بعد ما أتوا من البيان الواضح والدليل اللائح وأمروا ونهوا وحرضوا على إتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عنده مظهر منهم ضد ذلك فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة وهبطوا إلى أرض الطبيعة وتعرضت لهم الكلمات إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول ففات منهم ما فات وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي وبني جمع إبن شيبة بجمع التكسير لتغير مفرده ولذا أحلق في فعله تاء التأنيث ك قالت بنو عامر وهو مختص بالأولاد الذكور وإذا أضيف عم في العرف الذكور والإناث فيكون بمعنى الأولاد وهو المراد هنا وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية كما بين في الأصول وإستعماله في العام مجاز وهو محذوف اللام وفي كونها ياء أو واو اخلاف فذهب إلى الأول إبن درستويه وجعله من البناء لأن الإبن فرع الأب ومبنى عليه ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه فيقال للقصيدة مثلا : بنت الفكر وقد اطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين أبناء الله تعالى بهذا المعنى لكن لما تصور من هذا الجهلة الأغبياء معنى الولادة حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا وذهب إلى الثاني الأخفش وأيده بأنهم قالوا : البنوة وبأن حذفا لواو أكثر وقد حذفت في أبو أخوبه قال الجوهري : ولعل الأول أصح لا دلالة في البنوة لأنهم قالوا ايضا : الفتوة ولا خلاف في أنها من ذوات الياء وأمر الأكثرية سهل وعلى التقديرين في وزن إبن هل هو فعل أو فعل خلاف و إسرائيل أسم أعجمي وقد ذكروا أنه مركب من إي لأسم من أسمائه تعالى و إسرا وهو العبد أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام وللعرب فيه تصرفات فقد قالوا : إسرائيل بهمزة بعد الألف وياء بعدها وبه قرأ الجمهور وإسراييل بياءين بعد الألف وبه قرأ أبو جعفر وغيره وإسرائل ولام وهو مروى عن ورش وإسرأل بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء ولام وإسرأل بألف ممالةبعدها لام خفيفة وبها ولا إمالة وهي رواية عن نافع وقراءة الحسن وغيره وإسرائين
(1/241)

بنون بدل اللام كما في قوله : تقول أهل السوء لما جينا هذا ورب البيت إسرائينا وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته فإن في إسرائيل ما ليس في أسمه الكريم يعقوب وقولك : يا إبن الصالح أطع الله تعالى أحث للمأمور من قولك : يا إبن زيد مثلا أطع لأن الطبائع تميل إلى إقتفاء أثر الآباء وإن لم يكن محمودا فكيف إذا كان ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ و أذكروا أمر من الذكر بكسر الذال وضمها بمعنى واحد ويكونان باللسان والجنان وقال الكسائي : هو بالكسر للسان وبالضم للقل الأول الصمت وضد الثاني النسيان وعلى العموم فأما أن يكون مشتركا بينهما أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما والظاهر هو الأول والمقصود من الأمر بذلك الشكر على النعمة والقيام بحقوقه الا مجرد الأخطار بالجنان أو التفوه باللسان وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه وقد قال بعض المحققين : إنها تفيد الإستغراق إذ لا عهد ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها من هذه الحيثية أدعى للشكر فإن الإنسان حسود غيور وقال قتادة : أريد بها ما أنعم به على آبائهم مما قصه سبحانه في كتابه وعليهم من فنون النعمة التي أجلها إدراك زمن أشرف الأنبياء وجعلهم من جملة أمة الدعوة له ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى إعتبار التغليب أو جعل نعم الآباء نعمهم فلا جمع بين الحقيقة والمجاز كما وهم ويجوز في الياء من نعمتي الإسكان والفتح والقراء السبعة متفقون على الفتح و أنعمت صلة التي والعائد محذوف والتقدير أنعمتها والمهملة المشددة على وزن أفتعلوا وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم يقال : أو في و وفيمخففا ومشددا بمعنى وقال إبن قتيبة : يقال : أوفيت بالعهد ووفيت به وأوفيت الكيل لا غير وجاء أو في بمعنى أرتفع كقوله : ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات والعهد يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى أوفوا بعهدي بالإيمان والطاعة أوف بعهدكم بحسن الإثابة ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم وأندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد وقيل : وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان وإلتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة وتفصيل العهدين قوله تعالى : ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل إلى قوله سبحانه : ولأدخلنكم إلخ ويحوج هذا إلى إعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين وإلا فالمخاطبون ب أوفوا ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية وقيل : إن فسر الإيفاء بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول
(1/242)

وفيه تأمل ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء فما روى من الآثار على إختلاف أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين فبالنظر إلى المراتب المتوسطة وهي لعمري كثيرة ولك أن تقول : أول المراتب منا توحيد الأفعال وأوسطها توحيد الصفات
وآخرها توحيد الذات ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق وقرأ الزهري أوف بالتشديد فإن كان موافقا للمجرد فذاك وإن أريد به التكثير والقلب إليه يميل فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه ومزيد إمتنانه حيث أخبر وهو الصادق أنه يعطى الكثير في مقابلة القليل وهو صرح بذلك في قوله سبحانه : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وإنجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو إختيار الفارسي ونص سيبويه
وإياي فأرهبون 04 الرهبة الخوف مطلقا وقيل : مع تحرز وبه فارق الأتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة والثاني للأئمة والأشبه بمواقع الإستعمال أن الأتقاء التحفظ عن المخوف وأن يجعل نفسه في وقاية منه والرهبة نفس الخوف وفي الأمر بها وعيد بالغ وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في أعملوا ما شئتم كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وإياي ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان وأختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب إستمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبى كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك إجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فأرهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي إتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لايصح جعلها عاطفة وأستحسن هذا بعض المتأخرين لإشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة : إنها عاطفة بحسب الأصل وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي أرهبوا فأرهبون وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة وحذف متعلق الرهبة للعموم أي أرهبوني في جميع ما تأتون وتذرون وقيل : أرهبون في نقض العهد ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب وما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى أرهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيرهظاهر في قسم أهل الظاهر وهوالمناسب بحال هؤلاء المخاطبين الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وحذفت ياء الضمير من أرهبون لأنها فاصلة وقرأ إبن ابي إسحاق بالياء على الأصل وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم عطف على ما قبله وظاهره أنه
(1/243)

أمر لنبي إسرائيل وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم وأفرد سبحاه الإيمان بعد إندراجه في أوفوا بعهدي بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى : مصدقا لما معكم للإشارة إلى أنه المقصود والعمدة للوفاء بالعهود و ما موصولة و نزلت صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف واللام في لما مقوية والمراد بما أنزلت القرآن وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات كالكذب والزنا والربا أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض ابدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث أن كلا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وإنتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو إختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة : لو كان موسى حيا لما وسعه إلا إتباعي وفي رواية الدارمي والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فأتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لأتبعني وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم لتأكيد وجوب الإمتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وما معهم بالتوراة والإنجيل وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل مصدقا حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية ومصدقا حال منما الثانية وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر
ولا تكونوا أول كافر به أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به و أول في المشهور أفعل لقولهم : هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو وقد دل الإستقراء على إنتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر وما في الشافعية من أنه من وول بيان للفعل المقدر وقيل : أصله أو ألمن وأل وأولا إذا لجأتم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي والمناسبة الإشتقاقية أن الأول الحقيقي أعني ذاته تعالى ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية وقيل أوأل من آل بمعنى رجع والمناسبة الإشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا وإنما لم يجمع على أو أول لإستثقالهم إجتماع الواوين بينهما ألف الجمع وقال الدريدي : هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة وأدغمت ولو فوعل في عين الفعل ويبطه ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي أول فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يمكن كل واحد منكم والمراد عموم السلب
(1/244)

كما في لا تطع كل حلاف وبعض الناسلا يوجب في مثل هذالمطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله : وإذا هم طعموا فالأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض فأول الكافرين غيرهم أو ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد منلا تكونوا أول كافر بما مكملا تكونوا أول كافر ممن كفر بما معه ومشركو مكة وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه والفرق بين لزوم الكفر وإلتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه إن هذا واقع في مقابلة آمنوا بما أنزلت فيقتضي إتحاد متعلق الكفر والإيمان وقيل : يقدر في الكلام مثل وقيل : يقدرولا تكونوا أول كافر وآخره وقيل : أول زائدة والكل بعيد ويجعل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية وقيل : إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه وقد يقال : إنها بمعنى السبق وعدم التخلف فأفهم ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا الإشتراء مجاز عن الإستبدال لإختصاصه بالأعيان إما بإستعمال المقيد في المطلق كالمرسن في الأنف أو تشبيه الإستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالإشتراء الحقيقي والكلام على الحذف أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي والإتباع لها حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي والتعبير عن ذلك بالثمنمع كونه مشتري لا مشتري به للدلالة على كونه كالثمن في الإسترذال والإمتهان ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث أنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه ثم جعل الثمن مشتري بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه فإن قيل : الإشتراء بمعنى الإستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الإستبدال ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي من التوراة والكتب الألهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة و السلام وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا وقيل : كان ملوكهم يدرون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا وقيل : غير ذلك وقد أستدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم وروى في ذلك ايضا أحاديث لا تصح وقد صح أنهم قالوا : يارسول الله أنأخذ على التعليم أجرا فقال : إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة ولا دليل في الآية على ما أدعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع
وإيايي فأتقون 14 بالإيمان وإتباع الحق والإعراض عن الإشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل وإنما ذكر في الآية الأولى فأرهبون وهنا فأتقون لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها
(1/245)

ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله وحيثما أراد بالخطاب فيما بعدالعلماء منهم وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات وليس وراء عبادان قرية
ولا تلبسوا الحق بالباطل هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى : وآمنوا إلخ وهذا كما قالوا في قوله تعالى : هو الأول والآخر والظاهر والباطن إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد إعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم واللبس بفتح اللام الخلط وفعله ليس من باب ضرب ويكون بمعنى الإشتباه إما بالإشتراك أو الحقيقة والمجاز : والباء إما للتعدية أو للإستعانة واللام فيالحق والباطل للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي أخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لإلتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو إلتباس الحق بالباطل وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك استحق الأولوية التي نفيت وتكتموا الحق مجزوم بالعطف على تلبسوا فالنهي عن كل واحد من الفعلين وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار أن وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو وهي عندهم بمعنى مع وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح ووجوب الإنتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والأغواء وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع والكتمان إلى من لم يسمع أندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن أفتراقهما في الجملة وليسلبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عني الأول بل هو نعت النبي خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح بأسم الحق ما ليس في ضميره وقرأ إبن مسعود رضي الله تعالى عنه وتكتمون وخرجت على أن الجملة في موضع الحال أي وأنتم تكتمون أو كاتمين وفي جواز إقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان وليس للمانع دليل يعتمد عليه وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما فيلا تضرب زيدا وهو أخوك وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك وهو سيبويه وجماعة ولا يشترط التناسب في عطف الجمل وأنتم تعلمون جملة حالية ومفعول تعلمون محذوف إقتصارا أي وأنتم من ذوي العلم ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه ولا يبعد أن يكون الحذف للإختصار أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون أو تعلمون صفته أو البعث والجزاء والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الأقدام عليها مع الجهل وليس من يعلم كمن لا يعلم وجوز إبن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي وإن لم تكن مناسبة في الأخبار وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي
(1/246)

صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الأطلاق إذ هم بمراحل عنه وأستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة المراد بهما سواء كانت اللام للعهد أو للجنس صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم والزكاة في الأصل النماء والطهارة ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل وأستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال : إن الكفار مخاطبون بالفروع وإحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما أو أن يكون أمرا للمسلمين كما قاله الشيخ أبو منصور خلاف الظاهر فلا ينافي الإستدلال بالظاهر وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية ثم من قال : لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال : إنما جاء هذا بعد أن بين أركان ذلك وشرائطه ومن قال بجوازه قال بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه كما يقول السيد لعبده إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله وأركعوا مع الركعين 34 أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة إحترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها وأستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل : الركوع الخضوع والإنقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي : لا تذل الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية : وفي المراد بالراكعين قولان : فقيل النبي وأصحابه وقيل : الجنس وهو الظاهر ومن باب الإشارة في قوله تعالى : ولا تلبسوا الحق إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي فإن أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا تكتموا الحق بالتفاتكم إلى غيره سبحانه وأنتم تعلمون أنه ليس لغيره وجود حقيقي أولا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وأنتم تعلمون من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره وأقيموا الصلاة بمراقبة القلوب وآتوا الزكاة أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل : كل شيء له زكاة تؤدي وزكاةالجمال رحمة مثلى وأركعوا أي أخضعوا لما يفعل بكم المحبوب فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى وحاصله أرضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول : وتعذيبكم عذب لدى وجوركم على بما يقضى الهوى لكم عدل ثم أنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه :
(1/247)

أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب والبرسعة المعروف والخير ومنه البر والبرية للسعة ويتناول كل خير والنسيان كما في البحر السهو الحادث بعد العلم والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فما ينبغي أن يفعله وقد نزلت هذه الآية على ما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه بإتباع محمد ولا يتبعونه وقيل : إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي : إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية والتوبيخ ليس على أمر الناس بالبر نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور وأنتم تتلون الكتاب أي التوراة والجملة حال من فاعل أتأمرون والمراد التبكيت وزيادة التقبيح أفلا تعقلون 44 أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه والعقلفي الأصل المنع والإمساك ومنه عقال البعير سمى به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل على ما يحسن والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجرى مجرى اللازم ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول والمعنى أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته أو أفلا تعقلون قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين فإن المقصود من الأمر بالبر الإحسان والإمتثال والزجر عن المعصية ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد إدعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وإرتكابه ذنب آخر وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر ثم إن هذا التوبيخ والتقريع وإن كان خطابا لبني إسرائيل إلا أنه عام من حيث المعنى لكل واعظ يأمر ولا يأتمر ويزجر ولا ينزجر ينادي الناس البدار البدار ويرضى لنفسه التخلف والبوار ويدعو الخلق إلى الحق وينفر عنه ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان
وعن محمد بن واسع قال : بلغني أن أناسا من أهل الجنة أطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين وحمل الكتاب على القرآن فيكون ذلك من تلوين الخطاب كما في يوسف أعرض عن هذا وأستغفري والظاهر يبعده وأستعينوا بالصبر والصلاة لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال وإلتزام الشرائع وكان ذلك شاقا عليهم لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبه معالج مرضهم بهذا الخطاب و الصبر حبس النفس على ما تكره وقدمه على الصلاة لأنها لا تكمل إلا به أو لمناسبته لحال المخاطبين
(1/248)

أو لأن تأثيره كما قيلفي إزالة ما لا ينبغي وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح واللام فيه للجنس ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه وهو الصوم بقرينة ذكره مع الصلاة والإستعانة بالصبر على المعنى الأول لما يلزمه من إنتظار الفرج والنجحت وكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه ولذا قيل : الصبر مفتاح الفرج وبه على المعنى الثاني لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للإنقطاع إلى الله تعالىالموجب لإجابة الدعاء وأما الإستعانة ب الصلاة فلما فيها من أنواع العبادة مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب ويغسل بها المعاصي درن العيوب وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة
وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين 54 الضمير للصلاة كما يقتضيه الظاهر وتخصيصها برد الضمير إليه العظم شأنها وإستجماعها ضروبا من الصبر ومعنى كبرها ثقلها وصعوبتها على من يفعلها على حد قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه والإستثناء مفرغ أي كبيرة على كل أحد إلا على الخاشعين وهم المتواضعون المستكينون وأصلال خشوع الأخبات ومنه الخشعة بفتحات الرمل المتطامن وإنما لم تثقل عليهم لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما أدخر من ثوابها فتهون عليهم ولذلك قيل : من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن أيقن بالخلف جاد بالعطية وجوز رجوع الضمير إلىالإستعانة على حد إعدلوا هو أقرب للتقوى ورجح بالشمول وما يقال : إن الإستعانة ليست ب كبيرة لا طائل تحته فإن الإستعانة ب الصلاة أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها على وجه الإستعانة بها على الحوائج أو على سائر الطاعات لإستجرارها ذلك وقيل : يجوز أن يكون من أسلوب والله ورسوله أحق أن يرضوه وقوله : إن شرخ الشباب والشعر الأس ود ما لم يعاص كان جنونا والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها أو المراد كل خصلة منها وقيل : الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها ومشتقها عليهم ظاهرة وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلموالبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون 64 الظن في الأصل الحسبان واللقاء وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه والمراد من ملاقاة الرب سبحانه إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب لكن من أين يعلم ما يختم به عمله ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم وعدم أمنهم مكر ربهم ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى إلا أن عطف أنهم إليه راجعون على ما قبله يمنع حمل الظن على ما ذكرلأن الرجوع إليه تعالى بالنشور أو المصير إلى الجزاء مطلقا مما لا يكفي فيه الظن والتوقعبل يجب القطع به اللهم إلا أن يقدر له عامل أي ويعلمون أو يقال : إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع وهو كذلك
(1/249)

غير مقطوع بهوإن كان أحد جزئيه مقطوعا أو يقال : إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص أعني الثواب بدار السلام والحلول بجواره جل شأنه والكل خلاف الظاهر ولهذا أختير تفسير الظن باليقين مجازا ومعنى التوقع والإنتظار في ضمنه ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه والرجوع بمعنى المجازات ثوابا أو عقابا فكأنه عز شأنه قال : يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقيعن لذلك وكأن النكتة في إستعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم فكيف من تيقنه والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبيةوالمالكية للحكم وجعل خبر أن في الموضعين أسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده وقرأ إبن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير
ومن باب الإشارة أتأمرون الناس بالبر الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات وأنتم تتلون كتاب فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد أفلا تعقلون فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة وأطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بالصبر على ما يفعل بكم لكي تصلوا إلى مقام الرضا والصلاة التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب وإن المراقبة لشاقة إلا علىالمنكسرة قلوبهم اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة وإستيلاء سطواتها القهرية فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وأنهم إليه راجعون بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته فلا يجدون في الدار إلا شئون الملك اللطيف القهار يابني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب فكأنه قال سبحانه : إن لم تطيعوني لأجل سوابق نعمتي فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها وأني فضلتكم على العالمين 74 عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام وهو مما إنفردت بها لواو كما في البحر ويسمى هذا النحو من العطف بالتجريد كأنه جرد المعطوف من الجملة وأفرد بالذكر إعتناءا به والكلام على حذف مضاف أي فضلت آباءكم وهم الذين كانوا قبل التغيير أو بإعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم قال الزجاج : والدليل على ذلك قوله تعالى : وإذ نجيناكم إلخ والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم والمراد ب العالمين سائر الموجودين في وقت التفضيل وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه يا قوم أذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته الذين هم خير أمة أخرجت للناس وكذا لا يصح الإستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه ولو صح ذلك يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة ولا قائل به
ومن اللطائف أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال : وأني فضلتكم إلخ وأشهد المسلمين فضل نفسه فقال : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فشتان من مشهوده فضل ربه ومن مشهوده فضل نفسه فالأول يقتضي الفناء والثاني يقتضي الإعجاب والحمد لله الذي فصلنا على كثير
(1/250)

ممن خلق تفضيلا وأتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا اليوم الوقت وإنتصابه إما على الظرف والمتقي محذوف أي وأتقوا العذاب يوما وإما مفعول به وإتقاؤه بمعنى إتقاء ما فيه إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له فالإتقاء من نفسا ليوم مما لا يمكن لأنه آت لا محالة ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا والممكن المقدور إتقاءما فيه بالعمل الصالح و تجزي من جزى بمعنى قضى وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول وبعن للثاني وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة والمعنى لا تقضي يوم القيامة نفس عن نفس شيئا مما وجب عليها ولا تنوب عنها ولا تحتمل مما أصابها أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء فنصب شيئا إما على أنه مفعول بهأو على أنه مفعول مطلق قائم مقام المصدر أي جزاء ما وقرأ أبو السماك ولا تجزيء من أجزاء عنه إذا أغنى فهو لازم و شيئا مفعول مطلق لا غير والمعنى لا تغني نفس عن نفس شيئا من الإغناء ولا تجديها نفعا وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع وما فيه الشفاعة وفيه من التهويل والإيذان بإنقطاع المطامع ما لا يخفى كما يشير إليه قوله تعالى : يوم يفر المرء منأخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمريء منهم يومئذ شأن يغنيه والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف أي لا تجزي فيه ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين فلا تقول : رأيت رجلا أرغب وأنت تريد أرغب فيه ومذهبه في هذا التدريج وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل فيصير منصوبا فيصح حذفه كما في قوله : فما أدري أغيرهم تناء وطول العهد أو مال أصابوا يريد أصابوه وقد يجوز على رأي الكوفيين أن لا تكون الجملة صفة بل مضاف إليها يوم محذوف لدلالة ما قبله عليه فلا تحتاج إلى ضمير ويكون ذلك المحذوف بدلا من المذكورو من ذلك ما حكاه الكسائي أطعمونا لحما سمينا شاة ذبحوها بجر شاة على تقدير لحم شاة وحكى الفراء مثل ذلك ومنه قوله : رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات في رواية من خفض طلحة والبصريون لا يجوزون حذف المضاف وترك المضاف إليه على خفضه ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك وقرأ أبو سرار لا تجزي نسمة عن نسمة وهي بمعنى النفس
ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل الشفاعة كما في البحرضم غيره إلى وسيلته وهي من الشفع ضد الوتر لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب فيصير شفعا بعد أن كان فرداو العدل الفدية قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وروى عنه أيضا البدلأي رجل مكان رجل وأصل العدل بفتح العينما يساوي الشيء قيمة وقدرا وإن لم يكن من جنسه وبكسرها المساوي في الجنس والجرم ومن العرب من يكسرالعين من معنى الفدية وذكر الواحدي أن عدل الشيء بالفتح والكسر مثله وأنشد قول كعب بن مالك : صبرنا لا نرى لله عدلا على ما نابنا متوكلينا وقال ثعلب : العدل الكفيل والرشوة ولم يؤثر في الآية والضميران المجروران بمن إما راجعان إلى النفس
(1/251)

الثانيةالثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقيته لقوله تعالى : ولا هم ينصرون ولأنه المتبادر من قوله : ولا يؤخذ منها عدل ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما الأولى لأنها المحدث عنها والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها وحينئذ معنى عدم أخذ العدل من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي أرتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل : إن النفس الأولى لا تقدر على إستخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يوخذ منها وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة وأنى لها ذلك فلا تتمكن منه وأختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى والثانية للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما ويهون أمر التفكيك الإتضاح وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ولا تقبل بالتاء وسفيان يقبل بفتح الياء ونصب شفاعة على البناء للفاعل وفيه إلتفات من ضمير المتكلم في نعمتي إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ
ولا هم ينصرون 84 النصر في الأصل المعونة ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر والمراد به هنا ما يكون بدفع الضررأي ولا هم يمنعون من عذاب الله عز و جل والضمير راجع إما إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى : فما منكم من أحد عنه حاجزين وأتى به مذكر التأويل النفوس بالعباد والأناسي وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء وجعل النفي منسحبا على جملة أسمية للتقوى ورفع هم على الإبتداء والجملة بعده خبره وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسر فتوافق الجمل لا أوافق على إختياره وإن ذهب إليه بعض الإجلة وتمسك المعتزلة بعموم الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ وأجيب بالتخصيص من وجهين الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول ولعل هذه الحالة في إبتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة وقد قيل : مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون وقوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون وكون مقام الوعيد يأبى عنه عير مسلم والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا أقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الأذن لقوله تعالى : لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن وهو تخصيص له دليل وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع وأيضا في قوله تعالى : وأستغفر لذنبك وللمؤمنين ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وهو على الشافع عطف على نعمتي بتقدير أذكروا
(1/252)

كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو أتقوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا وقريء أنجيناكم وأنجيتكم ونسبت الأولى للنخعي والآل قيل : بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء وإن تصغيره أهيل وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء وقيل : ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأى أو مذهب فألفه بدل من واو ولذلك قال يونس في تصغيره : أويل ونقله الكسائي نصا عن العرب وروى عن أبي عمر غلام ثعلب إن الأهل القرابة كان لها تابع أولا والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولى الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولاإلى من لا خطر له منهم فلا يقال آل الكوفة ولاآل الحجام وزاد بعضهم إشتراط التذكير فلا يقال آل فاطمةولعل كل ذلك أكثري وإلا فقد ورد على خلاف ذلك كآل أعوج أسم فرسي وآل المدينة وآل نعم وآل الصليب وآلك ويستعمل غير مضافكهم خير آلو يجمع كأهل فيقال آلون : وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك وتبع لملك اليمن والنجاشي لملك الحبشةوقال السهيلي : هو أسم لكل من ملك القبط ومصر وهو غير منصرف للعلمية والعجمة وقد اشتق منه بإعتبار ما يلزمه فقيل : تفر عن الرجل إذا تجبر وعنا وأسم فرعون هذا الوليد بن مصعب قاله إبن إسحاق وأكثر المفسرين وقيل أبوه مصعب بن ريان حكاه إبن جرير وقيل : قنطوس حكاه مقاتل وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا إن أسمه قابوس وكنيته أبو مرة وكان من القبط وقيل : من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام وهم أمم تفرقوا في البلاد وروى أنه منأهل أصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا وقيل : كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آلوحكاية البطيخ شهيرة وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام وكان أسمه على المشهورالريا بن الوليد وقد آمن بيوسف مات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة والمراد ب آل فرعون هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه وب أنجيناكم أنجينا آباءكم وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان : ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت عساكركم في الهالكين تجول و يسومونكم من السوم وأصله الذهاب للطلب ويستعمل للذهاب وحده تارة ومنه السائمة وللطلب أخرى ومنه السوم في البيع ويقال : سامه كلفه العمل الشاق والسوءمصدر ساء يسوء ويراد به السيء ويستعمل في كل ما يقبح كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق و سوء العذاب أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره وهو منصوب على المفعولية ل يسومونكم بإسقاط حرف الجر أو بدونه والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وهي حكاية حال ماضية ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير أنجيناكم أو من آل فرعون وهو الأقرب والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده وقد حكى أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في الأعمال فصنف يبنون وصنف يحرثون وصنف يخدمون ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا وجعل النساء يغزلن الكتان وينسجن يذبحون أبناءكم جملة حالية أو إستئنافية كأنه قيل : ما الذي ساموهم إياه فقال :
(1/253)

يذبحون إلخ ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى : يلق أثاما يضاعف له العذاب وقيل : بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم والمحققون على الفرق وحملوا سوء العذاب فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح وعطف للتغاير وأعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وذكرهم بأيام الله وهو يقتضي التعداد وليس هنا ما يقتضيه والأبناء الأطفال الذكور وقيل إنهم الرجال هذا وسموا أبناء بإعتبار ما كانوا قبل وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي وحكى أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره والمشهور حمل الأبنأء على الأول وهو المناسب المتبادر وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل وكان أمر الله قدرا مقدورا وقرأ الزهري وإبن محيصن يذبحون مخففا وعبدالله يقتلون مشددا ويستحيون نساءكم عطف على يذبحون أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات وقيل : يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل والحياء الفرج لأنه يستحي من كشفه والنساء جمع المرأة وفي البحر إنه جمع تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة وزعم إبن السراج أنه أسم جمع وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه وهي في الأصل البالغات دون الصغائر فهي على الوجه الأول مجاز بإعتبار الأول للإشارة إلى أن إستبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساءا لخدمتهم وعلى الثاني فيه تغليب البالغات على الصغائر وعلى الثالث حقيقة وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الإستحياء أعظم من القتل لدى الغيور
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم 94 إشارة إلى التذبيح والإستحياء أو إلى الإنجاء وجمع الضمير للمخاطبين ويجوز أن يشار ب دلكم إلى الجملة وأصل البلاء الإختبار وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا فإن حملت الإشارة على المعنى الأول فالمراد باللاء المحنة وإن على الثاني فالمراد به النعمة وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالإمتحان الشائع بينهما ويرجح الأول التبادر والثاني أنه في معرض الإمتنان والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ومعنى من ربكم من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا و عظيم صفة بلاء وتنكريهما للتفخيم والعظم بالنسبة للمخاطب والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا ومن باب الإشارة والتأويل وإذ نجيناكم من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود و مصر مدينة البدن المستعبدة وهي وقواها من الوهم والخيال والغضب والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة والأعمال الشاقة من جمع المال والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك ويستعبدونكم بالتفكر فيها والإهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار والتمتع بدار القرار يذبحون أبناءكم التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب والعملية التي هي العين اليسرى له والفهم الذي هو سمعه والسر الذي هو قلبه ويستحيون قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه أو في مجموع ذلك إمتحان لكم وظهور آثار الأسماء
(1/254)

المختلفة عليكم فآشكروا وأصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب
وإذ فرقنا بكم البحر عطف على ما قبل والفرق الفصل بين الشيئين وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم وبسبب إنجائكم والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللامإذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل وكونه مقصودا منهإن لم نقل به وإنما قال سبحانه : بكم دون لكم لأن العرب على ما نقله الدامغان يتقول : غضبت لزيد إذا غضبت من أجله وهو حي وغضبت بزيد إذا غضبت من أجله وهو ميت ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين ويحتمل أن تكون للإستعانة على معنى بسلوك كم ويكون هناك إستعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى ويستعمل الباء وقول الإمام الرازي قدس سره : إنهم كانوا يسلكون ويتفرق الماء عند سلوكهم فكأنه فرق بهم يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة وقوله تعالى : أن أضرب بعصاك البحر فأنفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وما قيل : إن الآلة هي العصا كما تفهمه الآيةغير مسلم والمفهوم كونها آلة الضرب لا الفرق ولو سلم يجوز كون المجموع آلة على أن آلية السلوك على التجوز وقد يقال : إن الباء للملابسة والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية وهو كونه ناصرا وحافظا لهم وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى : كلا إن معي ربي سيهدين ومن الناس من جعله حالا من البحر مقدما وليس بشيء لأن الفرق مقدم على ملابستهم البحر اللهم إلا على التوسع وأختلفوا في هذا البحر فقيل : القلزم وكان بين طرفيه أربعة فراسخ وقيل : النيل والعرب تسمى الماء المل والعذب بحرا إذا كثر ومنه مرج البحرين يلتقيان وأصله السعة وقيل : الشق ومن الأول البحرة البلدة ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها وفي كيفية الإنفلاق قولان فالمشهور كونه خطيا وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه وإحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في اثرهم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث
فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير وإذ فرقنا بكم البحر وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم أي من الغرق أو من الغرق أو من إدراك فرعون وآله لكم أو مما تكرهون وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال : بني هاشم وقوله تعالى : ولقد كرمنا بني آدم يعني هذا الجنس الشامل لآدم أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فأغرقناه ومن معه جميعا فأخذناه وجنوده فنبذناه في اليم وحمل الآلعلى الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح ركيك غير مناسب للمقام وإنما المناسب له التعميم وناسب نجاتهم بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون وقومه بالغرق هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم والغرق فيه فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى : وجعلنا من الماء كل
(1/255)

شيء حي سببا لإعدامهم من الوجود وفيه إشارة إلى تقنيطهم وإنعكاس آمالهم كما قيل : إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين ويسعى من يغص بماء ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة ولهذا كان الغريق المسلم شهيداجعله الله تعالى نكالا لمن أدعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب ويناسب دعوى الربوبية والإعتلاء إنحطاط المدعي وتغييبه في قعر الماء ولك أن تقول لما أفتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي جعل الله تعالى هلاكه بالما وللتابع حظ وافر من المتبوع وكان ذلك الغرق والإنجاء والإغراق يوم عاشوراء والكلام فيه مشهور وأنتم تنظرون 05 جملة حالية وفيها تجوز أي وأباؤكم ينظرون والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الأحكام فالنظر بمعنى العلم وعليه إبن عباس رضي الله تعالى عنه وإن نفس الأفعال من الغرق والإنجاء والإغراق فهو بمعنى المشاهدة وعليه الجمهوروالحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع وفائدته تقرير النعمة عليهم كأنه قيل : وأنتم لا تشكون فيها وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب وهو أغرقنا وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدته نعمة أخرى وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون ويتأملون كيف يفعلون أو إنفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر وهو فرقنا وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها ويتعرفوا إعجازها أو ذلك الآل الغريق فالحال من مفعول أغرقنا متعلق به والفائدة تحقيق الأغراق وتثبيته وقيل : المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له : أين أصحابنا فقال : سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا : لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فنزا أوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب فرقنا وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم حال بعض آخر نعمة أخرى وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم أنت مني بمرأى ومسمع أي قريب مني بحيث أراك واسمعك وكذا جعله بمعنى الإعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر وفي كيفية خروج فرعون بجنوده وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها والإشارة في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها وموسى هو القلب وقومه صفات القلب وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم وهم سائرون إلى الله تعالى والعدو من خلفهم وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيده موسىالقلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الإنفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه فإن أحصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا ويرسل الله تعالى ريح العناية وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد
(1/256)

إلى ساحل النجاة وإن إلى ربك المنتهى ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا : ألا بعدا للقوم الظالمين
وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها وهي من طرف فعل ومن آخر قبوله مثل عالجت المريض وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وإرتضائهم له ويجوز أن يكون واعدنا من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني وقول أبي عبيدة : المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم وقول أبي حاتم : أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا و أربعين مفعول به محذوف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند إنقضائها أو في العشر الأخير منها أو في كلها أو في أولها على إختلاف الروايات أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف لو اعدنا أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين وقيل : مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة
ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء ريد يوم الخميس ليس بشيء كما لا يخفى و موسى أسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة ويقال : هو مركب من مو وهو الماء وشي وهو الشجر وغير إلى سي بالمهلمة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه وخاض بعضهم في وزنه فعن سيبويه إن وزنه مفعل وقيل : إنه فعلي وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبى وهي من ذوات الياء لأنها منطاب يطيب ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التانيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن إفتتاح الميقات كان من الليل والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر والهلال إنما يهل بالليل أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل وآية لهم الليل نسلخ منه النهار أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها والقول بأن ذكر الليلة كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان الصيام لا القيام وقد يقال من طريق الإشارة : إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته ولا تعلم هويته ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة وهذا السير متفاوت بإعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون 15 الإتخاذ يجيء بمعنى إبتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو إتخذت سيفا أي صنعته وبمعنى إتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى
(1/257)

لإثنين نحو إتخذت زيدا صديقا والأمران محتملان في الآية والمفعول الثاني على الإحتمال الثاني محذوف لشناعته أي إتخذتم العجل الذي صنعه السامري إلها والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هرون مع إثني عشر ألفا أو إلا هرون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام وعلى الإحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة والذم حينئذ لما ترتب على الإتخاذ من العبادة أو على نفس الإتخاذ لذلك والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها و العجل ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما أتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة ايضا وهو الذي ذهب إليه الحسن وقيل : أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك
ومن الغريب إن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فأتخذوه إلها أو لقصر مدته حيث أن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا والضمير في بعده راجع إلى موسى أي بعد ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه وذكر الظرف للإيذان بمريد شناعة فعلهم ولا يقتضي أن يكون موسى متخذا إلهاكما وهمل أن مفهوم الكلام أن يكون الإتخاذ بعد موسى ومن أين يفهم إتخاذ موسى سيما في هذا المقام ويجوز أن يكون في الكلام حذف وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه واعدنا أي من بعد مواعدته وقيل : المحذوف الذهاب المدلول عليه بالمواعدة لأنها تقتضيه والجملة الأسمية في موضع الحال ومتعلق الظلم الإشراك ووضع العبادة في غير موضعها وقيل : الكف عن الإعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه وفائدة التقييد بالحال الإشعار بكون الإتخاذ ظلما بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل وقيل : الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم كما يدل على ذلك سائر أفعالهم وإتخاذ السامري لهم العجل دون سائر الحيوانات قيل : لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا أجعل لنا إلها كما لهم آلهة فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة فأتخذ لهم ذلك وقيل : إنه كان هو من قوم يعبدون البقر وكان منافقا فأتخذ عجلا من جنس ما يعبده
ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون 25 ثم لتفاوت ما بين فعلهم القبيح ولطفه تعالى في شأنهم فلا يكون من بعد ذلك تكرارا و عفا بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى كعفت الدار وعفاها الريحوالمراد بالعفو هنا محو الجريمة بالتوبة وذلك موضوع موضع ذلكم والإشارة للإتخاذ كما هو الظاهر وإيثارها لكمال العناية بتمييزه كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر العفو والمراد بالترجي ما علمت والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على العفو ومن قدر الإرادة منأهل السنة أراد مطلق الطلب وليس ذلك من الإعتزال إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع والشكر عند الجنيد هو العجز عن الشكر وعند الشبلي التواضع تحت رؤية المنة وقال ذو النون : الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافآت ولمن دونك بالإحسان
ؤإذ أتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون 35 الكتاب التوراة بإجماع المفسرين
(1/258)

وفي الفرقان أقوال الأول إنه هو التوراة أيضا والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى إستقلال كل منها فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل قاله الزجاج ويؤيد هذا قوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا الثاني أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام فالعطف مثله في تنزل الملائكة والروح قاله إبن بحر الثالث أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل من العصا واليد وغيرهما قاله مجاهد
الرابع أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي وكان آية لموسى عليه السلام ومنه قيل ليوم بدر : يوم الفرقان قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : إنه القرآن ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به حكاه إبن الأنباري وهو بعيد وأبعد منه ما حكى عن الفراء وقطر بأنه القرآن والكلام على حذف مفعول أي ومحمدا الفرقان وناسب ذكر الإهتداء إثر ذكر إتيان موسى الكتاب والفرقان لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد
وإذ قال موسى لقومه ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم بإتخاذكم العجل نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين وإنما فصل بينهما بقوله : وإذ آتينا إلخ لأن المقصود تعداد النعم فلو أتصلا لصارا نعمة واحدة وقيل : هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم وليس بشيء واللام في لقومه للتبليغ وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب موسى لقومه كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل والقوم أسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده أمريء وقياسه أن لا يجمع وشذ جمعه علىأقاويم والمشهور إختصاصه بالرجال لقوله تعالى : لا يسخر قوم من قوم مع قوله : ولا نساء من نساء وقال زهير : فما أدري وسوف أخال أدري أ قوم آل حصن أم نساء وقيل : لا إختصاص له بهم بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه والأول أصوب وإندراج النساء على سبيل الإستتباع والتغليب والمجاز خير من الإشتراك وسمى الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء وفي إقبال موسى عليهم بالنداء ونداؤه لهم ب ياقوم إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم والباء في بإتخاذكم سببية وفي الإتخاذهنا الإحتمالان السابقان هناك فتوبوا إلى بارئكم الفاء للسببية لأن الظلم سبب للتوبة وقد عطفت ما بعدها على إنكم ظلمتم والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف بالواو وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف والتحقيق أنها لهما معا و الباريء هو الذي خلق الخلق بريا من التفاوت وعدم تناسب الأعضاء وتلائم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة والأخرى بخلافه ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح فهو أخص من الخالق وأصل التركيب لخلوص الشيء وإنفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي كبرء المريض أو الإنشاء كبرأ الله تعالى آدم أي خلقه إبتداءا متميزا عن لوث الطين وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم
(1/259)

وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها وهو مثل في الغباوة والبلادة وقرأ أبو عمرو بارئكم بالإختلاس وروى عنها لسكون أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ
فأقتلوا أنفسكم الفاء للتعقيب والمتبادر من القتل القتل المعروف من إزهاق الروحوعليه جمع من المفسرينوالفعل معطوف على سابقه فإن كانت توبتهم هو القتل إما في حقهم خاصة أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام فالمراد بقوله تعالى : فتوبوا أعزموا على التوبة ليصح العطف وإن كانت هي الندم و القتل من متمماتها كالخروج عن المظالم في شريعتنا فهو على معناه ولا إشكال وقد يقال : إن التوبة جعلت لهؤلاء عين القتل ولا حاجة إلى تأويل توبوا بأعزموا بل تجعل الفاء للتفس تجعل الواو له وقد قيل به في قوله تعالى : فأنتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا فمعنى أقتلوا أنفسكم حينئذ ليقتل بعضكم بعضا كما في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم ولا تلمزوا أنفسكم والمؤمنون كنفس واحدة وروى أنه أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده والمعنى عليه أستسلموا أنفسكم للقتل وسمى الإستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز والقاتل إما غير معين أو الذين أعتزلوا لواسع هرون عليه السلام والذين كانوا مع موسى عليه السلام وفي كيفية القتل أخبار لا نطيل بذكرها وجملة القتلى سبعون ألفا وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم وأنكر القاضي عبدالجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم وقال : لا يجوز ذلك عقلا إذ الأمر لمصلحة المكلف وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا بأمره نستبقيها وبأمره نفنيها وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو حياة سرمدية وبهجة أبدية وأن الدار الآخرة لهي الحيوان وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه ووال في بلد يسوسه وأنه مهما أسترد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه أو يأمر غيره بإخراجه وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما ومن الناس من جوز ذلك إلا أنه إستبعد وقوعه فقال : معنى أقتلوا أنفسكم ذللوا ومن ذلك قوله : إن التي عاطيتني فرددتها قتلت قتلت فهاتها لم تقتل ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا ونقل عن قتادة أنه قرأ فأقيلوا أنفسكم والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة وإلتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات
ذلكم خير لكم عند بارئكم جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة الإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم و خير أفعل تفضيل حذفت همزته ونطقوا بها في الشعر قال الراجز : بلال خير الناس وإبن الأخير
وقد تأتي ولا تفضيل والمعنى أن ذلكم خير لكم من العصيان والإصرار على الذنب أو خير من ثمرة العصيان وهو الهلاك الدائم والكلام على حد العسل أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم
(1/260)

والعندية هنا مجاز وكرر الباريء بلفظ الظاهر إعتناء بالحث على التسليم له في كل حال وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والإمتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا فأمر به وهو العليم الحكيم
فتاب عليكم جواب شرط محذوف بتقدير قد إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ومعطوف على محذوف إن كان خطابا من الله تعالى لهم كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم فتاب عليكم بارئكم وفيه إلتفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة أو من التكلم إلى الغيبة في فتاب حيث لم يقل : فتبنا ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك وقال إبن عطية : جعل الله تعالىالقتل لم نقتل شهادة و تاب عن لباقين و عفا عنهم فمعنى عليكم عنده على باقيكم نه هو التواب الرحيم 45 تذييل لقوله تعالى : فتوبوا فإن التوبة بالقتل لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها أو تذييل لقوله تعالى : فتاب عليكم وتفسر التوبة منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين والتأكيد لسبق الملوح أو للإعتناء بمضمون الجملة والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن فالضمير المرفوع مبتدأ وهو الأنسب لدلالته على كمال الإعتناء بمضمون الجملة وإن كان راجعا إلى لباريء سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل فلا يتخذه إلها أفرأيت من إتخذ إلهه هواه وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب فمتى أخلدت النفس إلى الأرض وأتبعت هواها وآثرت شهواتها على مولاها أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء والصحو بعد المحو وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر
ليس من مات فأستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق ورجال الصدق وإليه الإشارة ب موتوا قبل أن تموتوا وقيل : أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات وقطعها عن الملاذ فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين هيهات هيهات ذاك بمعزل عنا ومناط الثريا منا تعالوا نقم مأتما للهموم فإن الحزين يواسي الحزينا وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك القائل هم السبعون الذي أختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة قيل : قالوه بعد الرجوع وقتل عبدة العجل وتحريق عجلهم ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للإعتذار عن عبدة العجل وكانوا سبعين أيضا وقيل : القائل عشرة آلاف من قومه وقيل : الضمير لسائر بني إسرائيل إلا من عصمه الله تعالى وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا واللام من لك إمالام الأجل أو للتعدية بتضمين معنى الأقرار على أن موسى مقر له
(1/261)

والمقر به محذوف وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه وقد كان هؤلاء مؤمنين من قبل بموسى عليه السلام إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص وقيل : أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك كما قيل في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من ائمة التفسير
حتى نرى الله جهرة حتى هنا حرف غاية و الجهرة في الأصل جهرت بالقراءةإذا رفعت صوتك بها واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام وقال الرغب : الجهري قال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع أما البصر فنحو رأيته جهارا وأما السمع فنحو وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى وإنتصابها على أنها مصدر مؤكد مزيل لإحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب وقيل : على أنها حال على تقدير ذو يجهرة أو مجاهرين فعلى الأول الجهرةمن صفات الرؤية وعلى الثاني من صفات الرائين وثم قول ثالث وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين فيكون المعنى وإذ قلتم كذا قولان جهرة أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين وهو المروي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة وقرأ سهل بن شعيب وغيره جهرة بفتح الهاء وهي إما مصدر كالغلبة ومعناها معنى المسكنة وإعرابها إعرابها أو جمع جاهر كفاسق وفسقة وإنتصابها على الحال
فأخذتكم الصاعقة أي أستولت عليكم وأحاطت بكم واصلال أخذ القبض باليد و الصاعقة هنا نار من السماء أحرقتهم أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة وأختلف في موسى هل أصابه ما أصابهم والصحيح لا وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه و ثم بعثناكم إلخ في حقهم وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما الصعقة وأنتم تنظرون 55 جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث أو إحياء كل منهم كما وقع في قصة العزير قالوا : أحيا عضوا بعد عضو : والمعنى وأنتم تعلمون أنها تأخذكم أو و أنتم يقابل بعضكم بعضا قال في البحر : ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى وأنتم تنظرون إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم : نظرت الرجل أي إنتظرته كما قال : فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به وإن كان اللفظ يحتمله ثم بعثناكم من بعد موتكم بسبب الصاعقة وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول : يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يجييون والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف وقد يكون بمعنى إرسال الشخص وهو في القرآن كثير ومن الناس من قال : كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى : أو من كان ميتا فأحييناه وقد شاع ذلك نثرا أو نظما ومنه قوله :
(1/262)

أخو العلم حي خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم لعلكم تشكرون 65 أي نعمة الله تعالى عليكم بالأحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل : هذا البعث وهو بعيد وأبعد منه جعل متعلقه إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع
وقد أستدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على إستحالة رؤية الباري سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما أنضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم وقد يقال : إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا وليس في ذلك دليل على إمتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه وظللنا عليكم الغمام عطف على بعثناكم وقيل : على قلتم والأول أظهر للقرب والإشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف قلتم فإنه تمهيد لها وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ ههنا من نكتة ولعلها الإكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ظللنا وأنزلنا و الغمام أسم جنس كحمامة وحمام وهو السحاب وقيل : ما أبيض منه وقال مجاهد : هو أبرد من السحاب وأرق وسمى غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره ومنه الغم والغمم وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبهه وسمى به قولان والمشهور الأول وهو مفعول ظللنا على إسقاط حرف الجر كما تقول : ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة والظاهر أن الخطاب لجميعهم فقد روى أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وأمتنعوا وقالوا أذهب أنت وربك فقاتلا إبتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام وإنزال المن والسلوى وقيل : لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به وقيل : الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فأمتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة وأنزلنا عليكم المن والسلوى المن أسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحوضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن إدخار حصة السبت كان مباحا فيه وعن وهب إنه الخبز الرقاق وقيل : المراد به جميع ما من الله تعالى
(1/263)

به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : الكمأة من المن الذي من الله تعالى به على بني إسرائيل و السلوى أسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله
كما أنتفض السلوات من بلل القطر
وقال : الكسائي السلوى واحدة وجمعها سلاوى وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد وقيل : جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل وقيل : إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشويةوسبحان من يقول للشيء كن فيكون وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل لغة كنانة ويؤيده قول الهذلي : وقاسمتها بالله جهرا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها وقول إبن عطيةإنه غلط غلط وإشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه المن من عطف الخاص على العام إعتناء بشأنه كلوا من طيبات ما رزقناكم أمر إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين والطيبات المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الإدخار و من للتبعيض وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل بالمن والسلوى فكانا بدلا من الطيبات و ما موصولة والعائد محذوف أي ررقناكموه أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول وأستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك وهو أحد أقوال في المسألة وما ظلمونا عطف على محذوف فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وما ظلمونا بذلك ويجوزكما في البحر أن لايقدر محذوف لأنه قد صدر منهم إرتكاب قبائح من إتخاذ العجل إلها وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى : وما ظلمونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة ولكن كانوا أنفسهم يظلمون 75 بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق وفيه ضرب تهكم بهم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم وإستمرارهم عليه وفي ذكر أنفسهم بجمع القلة تحقير لهم وتقليل والنفس العاصية أقل من كل قليل وإذ قلنا أدخلوا هده القرية منصوبة على الظرفية عند سيبويه والمفعولية عند الأخفش والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة والقرية بفتح القاف والكسر لغة أهل اليمن المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة وقيل : إن قلوا قيل لها : قرية وإن كثروا قيل لها مدينة وأنهى بعضهم حد القلة إلى ثلاثة والجمع القرى على غير قياس وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جم
(1/264)

والمشهور عن إبن عباس وإبن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم وإليه ذهب الجمهور أنها بيت المقدس وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف فكلوا إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى : يا قوم أدخلوا تلأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي ومنهم من زعم إتحادهما وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم إمتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام ومنهم من أدعى إختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هرون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل فالأظهر ما ذكرنا وقد روى أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقى من بني إسرائيل إلى أريحاء وهي بأرض القدس وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى : فكلوا إلخ وقوله تعالى في الأعراف : أسكنوا هذه القرية ويؤيد كونه بعد الفتح الشارة بلفظ القريب والقول بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر بعيد ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدرتاه يتيه تيها بالكسر والفتح وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين وفي الكلام آشارة إلى حل جميع مواضعها لهم أو الأذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاؤا مع دلالة رغدا على أنهم مرخصون بالأكل منها واسعا وليس عليهم القناعة لسد الجوعة ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى : وأدخلوا الباب سجدا والخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب هذه القرية والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس وتدعى الآن باب حطة قاله إبن عباس وقيل : الباب الثامن من أبوابه ويدعى الآن باب التوبة وعليه مجاهد وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهرون عليهما السلام يتعبدان فيها وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيهؤ في وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى وسجدا حال من ضمير أدخلوا والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي والحال مقارنة أو مقدرة ويؤيد الثاني ما روى عن وهب في معنى الآية إذا دخلتموه فأسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون وقول الزمخشري أمروا بالسجود عند الإنتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعالم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة وفسر إبن عباس السجود هنا بالركوع وبعضهم بالتطامن والإنحناء قالوا : وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى إنحناء وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله قيل لبني إسرائيل : أدخلوا الباب سجدا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقولوا حطة أي مسألتنا أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا وهي فعلة منا لحط كالجلسة وذكر أبان إنها بمعنى التوبة وأنشد : فاز بالحطة التي جعل الله بها ذنب عبده مغفورا
(1/265)

والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم ومن البعيد قول أبي مسلم : إن المعنى أمرنا حطة أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه وقرأ إبن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة أو نسألك ذلك ويجوز أن يكون النصب على المفعولية لقولوا أي قولوا هذه الكلمة بعينها وهو المروي عن ابن عباس ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا إن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها ولهذا قيل : الأوجه في كونها مفعولا لقولوا أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الإستغفار وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الإشتقاق والمعنى وهو الظاهر المسموع وقال الأصم : هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة إن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان نغفر لكم خطاياكم بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة والخطايا أصلها خطايء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء عند سيبويه الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف وأجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر وقرأ نافع يغفر بالياء وإبن عامر بالتاء على البناء للمجهول والباقون بالنون والبناء للمعلوم وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعدهولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ خطاياكم وأمالها الكسائي وقرأ الجحدري وقتادة تغفر بضم التاء وأفرد الخطيئة وقرأ الجمهور بإظهار الراء من يغفر عند اللام وأدغمها قوم قالوا : وهو ضعيف وسنزيد المحسنين 85 معطوف على جملة قولوا حطة وذكر أنه عطف على الجواب ولم ينجزم لأن السين تمنع الجزاء عن قبول الجزم وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق فإن قولوا حطة جمع و نغفر لكم وسنزيد تفريق والمفعول محذوف أي ثوابا فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم أي بدل الذين ظلموا بالقول الذي قيل لهم قولا غيره فبدل يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالياء ويدخل على المتروك فالذم متوجه وجوز أبو البقاء أن يكون بدل محمولا على المعنى أي فقال الذين ظلموا قولا إلخ والقول بأن غير منصوب بنزع الخافض كأنه قيل : فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول وصرح سبحانه بالمغايرة مع إستحالة تحققا لتبدي لبدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا علىالمغايرة من كل وجه وظاهر الآية إنقسام من هناك إلى ظالمين وغير ظالمين وبدلوا وإن كان المبدل الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضميرل لإشعار بالعلة وأختلف في القول الذي بدلوه ففي الصحيحين أنهم قالوا : حبة في شعيرة وروى الحاكم حنطة بدل حطة وفي المعالم إنهم قالوا بلسانه محطا سمقاثا أي حنطة حمراء قالوا ذلك إستهزاء منهم بما قيل لهم والروايات في ذلك كثيرة وإذا صحت يحمل إختلاف الألفاظ على إختلاف القائلين والقول بأنه لم يكن منهم تبديل ومعنى فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به لا أنهم أتوا ببدل لهغير مسلم وإن قاله أبو مسلم وظاهر الآية والأحاديث تكذبه
(1/266)

فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون 95 وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال الرجز وهو العذاب وتكسر راؤه وتضم والضم لغة بني الصعدا توبه قرأ إبن محيصن والمراد به هنا كما روى عن إبن عباس ظلمة وموت يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا وقال وهب : طاعون غدوا به اربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك وقال إبن جبير : ثلج هلك به منهم سبعون ألفا فإن فسر بالثلج كان كونه من السماء ظاهرا وإن بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والإستيلاء وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل رجزا و بما كانوا يفسقون متعلق به لنيابته عن العامل علة له وكلمة ما مصدرية والمعنى أنزلنا على الذين ظلموا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين علىالفسقفي الزمان الماضي وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب أنزلنا لظهوره على سائر الأقوال ولئلا يحتاج في تعليل الإنزال بالفسق بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق عينا لظلم وكرر للتأكيد أو أن الظلم أعم والفسق لا بد أن يكون من الكبائر فبعد وصفهم بالظلم وصفوا بالفس بكونه من الكبائر فإن الأول بضاعة العاجز والثاني لا يدفع ركاكة التعليل وما قيل : إنه تعليل للظلم فيكون إنزال العذاب مسببا عن الظلم المسبب عن الفسق ليس بشيء إذ ظلمهم المذكور سابقا الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة وقد أحتج بعض الناس بقوله تعالى : فبدل إلخ وترتب العذاب عن التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر وقال قوم : يجوز ذكر إذا كانت الكلمة الثانية تسد الأولى وعلى هذا جرى الخلاف كما في البحر في قراءة القرآن بالمعنى وروى الحديث به وجرى في تكبيرة الإحرام وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك والبحث مفصل في محله هذا وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات الأول قال هنا : وإذ قلنا لما قدم ذكر النعم فلا بد من ذكر المنعم وهناك وإذا قيل إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به الثاني قال هنا : أدخلوا وهناك أسكنوا لأن الدخول مقدم ولذا قدم وضعا المقدم طبعا الثالث قال هنا : خطاياكم بجمع الكثرة لما أضاف ذلك القول إلى نفسه واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة وهناك خطيئاتكم بجمع القلة إذ لم يصرح بالفاعل الرابع قال هنا : رغدا دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا فناسب ذكر الأنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك
الخامس قال هنا : أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة وهناك بالعكس لأن الواو لمطلق الجمع وايضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين والبعض الآخر ما كانوا كذلك فالمذنب لا بد وأن يكون إشتغاله بحط الذنب مقدما على إشتغاله بالعبادة فلا جرم كات تكليف هؤلاء أن يقولوا : حطة ثميد خلوا وأما الذي لا يكون مذنبا فالأولى به أن يشتغل أولا بالعبادة ثم يذكر التوبة ثانيا للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أنيدخلوا ثم يقولوا فلما أحتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين لا جرم
(1/267)

ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى السادس قال هنا : وسنزيد بالواو وهناك بدونه إذ جعل هنا المغفرة مع الزيادة جزاءا واحدا لمجموع الفعلين وأما هناك فالمغفرة جزاء قول حطة والزيادة جزاء الدخول فترك الواو يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين السابع قال هناك : الذين ظلموا منهم وهنا لم يذكر منهم لأن أول القصة هناك مبني على انخصيص ب من حيث قال : ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق فخص في آخر الكلام ليطابق أوله ولما لم يذكر في الآيات التي قبل فبدل هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك الثامن قال هنا : فأنزلنا وهناك فأرسلنا لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر والإرسال يفيد تسليطه عليهم وإستئصاله لهم وذلك يكون بالآخرة التاسع قال هنا : فكلوا بالفاء وهنا كبال مر في فكلا منها رغدا وهو أن كل فعل عطف عليه شيء وكان الفعل بمنزلة الشرط وذلك الشيء بمنزلة الجزاء عطف الثاني على الأول بالفاء دونا لواو فل تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة : فكلوا ولما لم يتعلق الأكل بالسكون في الأعراف قيل : وكلوا العاشر قال هنا : يفسقون وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما إكتفى بلفظ الظلم هناك إنتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا كما أنها متقدمة عليها ترتيبا وليس كذلك فإن سورة البقرة كلها مدنية وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى وأسألهم عن القرية إلى قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل وقوله تعالى : أسكنوا هذه القرية داخل في الآيات المكية فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق الأكل بالسكون لأنهم إذا سكنوا القرية تتسبب سكناهم للأكلمنها كما ذكر الزمخشري فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها فحينئذ لا فرق بين كلوا و فكلوا فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى وإن قال في الأعراف : وإذ قيل لكنه قال في السورتين : نغفر لكم وأضاف الغفران إلى نفسه فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين جمع الكثرة بل لا شك أن رعاية نغفر لكم أولى من رعاية وإذ قيل لهم لتعلق الغفران بالخطايا كما لا يخفى على العارف بالمزايا وأما الرابع فلأنه تعالى وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى لكنه مسند إليه في نفس الأمر فينبغي أن يذكر الأنعام الأعظم في السورتين وأما الخامس فلأن القص واحدة وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق فعلى مقتضى ما ذكر ينبغي أن يذكر وقولوا حطة مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة وأنالوا ولمطلق الجمع وقوله تعالى نغفر في مقابلة قولوا سواء قدم أو أخر وقوله تعالى : وسنزيد في مقابلة وأدخلوا سواء ذكر الواو أو ترك وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل فبدل ما يدل على التخصيص والتمييز حيث قال سبحانه : وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم إلخ بكافات الخطاب وصيغته فاللائق حينئذ أن يذكر لفظ منهم أيضا والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها ما ذكره الزمخشري من أنه لا بأس بإختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض ولا تناقض بين قوله تعالى : أسكنوا هذه القرية وقوله : وكلوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها وسواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما وترك ذكر الرغد لا يناقض
(1/268)

إثباته وقوله تعالى : نغفر لكم خطاياكم سنزيد المحسنين موعد بشيئين بالغفران والزيادة وطرحا لو اولا يخل لأنه إستئناف مرتب عى تقدير قول القائل : ماذا بعد الغفران فقيل له : سنزيد المحسنين وكذلك زيادة منهم زيادة بيان وأرسلنا و أنزلنا و يظلمون و يفسقون من دار واحد إنتهى
وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى والقرآن الكريم مملوء من ذلك ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني والله يؤتي فضله من يشاء وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو
ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسىالقلب لن نؤمن الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان فأخذتكم صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي وأنتم تراقبون أو تشاهدون ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز و جل وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما إنتهى إليه بصره وأنزلنا عليكم من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمةوالنفحات الآلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها فتسلون بذلك السلوى وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهي كلوا أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب إستعدادكم وأعطيتموها على ما وعد لكم وما ظلمونا أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا بإحتجاجهم بصفات أنفسهم ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها وهذا هو الخسران المبين وإذ قلنا أدخلوا هذه القرية أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة وأدخلوا الباب الذي هو الرضا بالقضاء فهو باب الله تعالى الأعظم سجدا منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات وأطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم فإن فعلتم ذلك نغفر لكم خطاياكم فمن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة وسنزيد المحسنين أي المشاهدين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس فبدل الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها قولا غير الذي قيل لهم إبتغاءا للحظوظ الفانية والشهوات الدنية فأنزلنا على الظالمين خاصة عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة وإسرا في وثائق التمني وقيد الهوى وحرمانا وذلا بمحبة الماديات السفلية والإعراض عن هاتيك التجليات العلية وذلك من جهة قهر سماء الروح ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر أستفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء
وهذا هو البلاء العظيم والخطب الجسيم
من كان يرغب في السلامة فليكن أبدا من الحدق المراض عياذه لا تخدعنك بالفتور فإنه نظر يضر بقلبك إستلذاذه إياك من طمع المنى فعزيزه كذليله وغنيه شحاذه وإذ استسقى موسى لقومه تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها وكان ذلك في التيه لما عطشوا ففي
(1/269)

بعض الآثار أنهم قالوا فيه : من لنا بحر الشمس فظلل عليهم الغمام وقالوا : من لنا بالطعام فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى وقالوا : من لنا بالماء فأمر موسى بضرب الحجر وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكير ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحدأمر بذكره والإستسقاء طلب السقيا عند عدم الماء أو قلته قيل : ومفعول أستسقى محذوف أيربه أو ماء وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى المستسقى منه تارة وإلىالمستسقى أخرى كما في قوله تعالى : وإذ أستسقاه قومه وقوله : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل وتعديته إليهما مثل أن تقول : أستسقى زيد ربه الماء لم نجدها في شيء من كلام العرب واللام متعلقة بالفعل وهي سببية أي لأجل قومه فقلنا أضرب بعصاك الحجر أي فأجبناه فقلنا إلخ والعصا مؤنث والألف منقلبة عن واو بدليل عصوان وعصوته أي ضربته بالعصاو يجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا فيقال : أعص وعصى وتتبع حركةالعين حركةالصادو الحجر هو هذا الجسم المعروف وجمعه أحجار وحجار وقالوا : حجارة وأشتقوا منه فقالوا : أستحجر الطين والإشتقاق من الأعيان قليل جدا والمراد بهذه العصا المسئول عنها في قوله تعالى : وما تلك بيمينك يا موسى والمشهور أنها من آس الجنة طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام لها شعبتان تتقدان في الظلمة توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام وقيل : رفعها له ملك في طريق مدين وفي المراد من الحجر خلاف فقال الحسن : لم يكن حجرا معينا بل أي حجر ضربه أنفجر منه الماء وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة وقال وهب : كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر وعلى هذا اللام فيه للجنس وقيل : للعهد وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم وسعة المعسكر إثنا عشر ميلا وقيل : حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى وقيل : هو الحجر الذي فر بثوبه والقصة معروفة وقيل : حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته فإذا أحتاج للماء ضربه والروايات في ذلك كثيرة وظاهر أكثرها التعارض ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى
فأنفجرت منه إثنتا عشرة عينا عطف على مقدر أي فضرب فأنفلق ويدل على هذا المحذوف وجود الإنفجار ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة وبعضهم يسمى هذه الفاء الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد أنفجرت وفي المعنى أن هذا التقدير يقتضي تقدم الإنفجار على الضرب إلا أن يقال : المراد فقد حكمنا بترتب الإنفجار على ضربك وقال بعض المتأخرين : لا حذف بلا لفاء للعطف وإن مقدرة بعدالفاء كما هو القياس بعد الأمر عند قصد السببية والتركيب من قبيل زرني فأكرم كأي أضرب بعصاك الحجر فإن إنفجرت فليكن منك الضرب فالإنفجار ولا يخفى ما في كل
(1/270)

حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم والثاني أدهى وأمر والإنفجار إنصداع شيء من شيء ومنه الفجر والفجور وجاء هنا إنفجرت وفي الأعراف إنبجست فقيل : هما سواء وقيل : بينهما فرق وهو أن الإنبجاس أول خروج الماء والإنفجار إتساعه وكثرته أو الإنبجاس خروجه من الصلب والآخر خروجه من اللين والظاهر إستعمالها بمعنى واحد وعلى فرض المغايرة لا تعارض لإختلاف الأحوال و من لإبتداء الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب وعوده إلى الضرب و من سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه والتاء في إثنتا ويقال : ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للألحاق وهذا نظير أنبت ونبت ولامها محذوفة وهي ياء لأنها من ثنيت وقرأ مجاهد وجماعة ورواه السعدي عن أبي عمر وعشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال إبن عطية : وهي لغة ضعيفة ونص بعض النحاة على الشذوذ ويفهم من بعض المتأخرين إن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها وعبارات القوم لا تساعده والعين منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا وقالوا في أشراف الناس : أعيان وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله
أعيانا لها ومآقيا
وهو منصوب على التمييز وإفراده في مثل هذا الموضع لازم وأجاز الفراء أن يكون جمعا وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا إثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء ويشير إلى حكمة الإنقسام قوله تعالى : قد علم كل أناس مشربهم وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره و اناس جمع لا واحد له من لفظه وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام وأما بدونها فشائع صحيح و علم هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف ووجد ذلك لكثرة والمشرب إما أسم مكان أي محل الشرب أو مصدر ميمي بمعنى الشرب وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء وحمله على المكان أولى عند أبي حيان وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل ولا يجوز أن يعود على لفظها لأنكل امتى اضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى : يوم ندعو كل أناس بإمامهم وقوله : وكل أناس سوف تدخل بينهم دويهية تصفر منها الأنامل ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي قد علم كل أناس عينه موفي الكلام حذف أي منها لأن قد علم صفةلإثنتا عشرة عينا فلا بد من رابط وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى : إثنتا عشرة لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للإنفجار والمشرب حينئذ العين كلوا وأشربوا من رزق الله على إرادة القول وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به والإحتياج إلى الشرب حاصل عنه و من لإبتداء الغاية ويحتمل أن تكون للتبعيض وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم للمنة وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف وفي هذا إلتفات إذ تقدم فقلنا أضرب ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا ولو جعل الإضمار قبل كلوا مسندا إلى موسى أي وقال موسى كلوا وأشربوا لا يكون فيه ذلك والرزق هنا بمعنى المرزوق وهو الظعام المتقدم من المن والسلوى والمشروب من ماء
(1/271)

العيون وقيل : المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى : يخرج مما تنبت الأرض و لن نصبر على طعام واحد ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤل إلى كلوا واشربوامن الماء ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته والأكل بإرادة ما هو سبب عنه أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله وأشربوا من رزق الله وقول بعض المتأخرين إن رزق الله عبارة عن الماء وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يورى العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب بعيد غاية البعد وأقرب منه أن لا يكون كلوا واشربوا بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الإستقساء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى وعدم الإفساد بإضلال الخلق وجمع عرض الدنيا ويكون فصله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور وأحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فأقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما وأنه غير جائز والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المن والسولى والماء المنفجر من الحجر ولا يلزم من حلية معني ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض ولا تعثوا في الأرض مفسدين 06 لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان لا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم وأستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران والعثى عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أولا فهو كالإعتداء ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة وهو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العقي الفساد والحال مؤكدة وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا والمراد من الأرض عند الجمهور أرض التيه ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم وجوز أن يريد الأرضين كلها و أل لإستغراق الجنس ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بإنقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات وذلك إنتقام يعم الأرضين هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الإستقساء ولا الضرب ولا الإنفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير وهذا المنكر مع أنه يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والإستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره فينفجر ولا ينافيه إنفصاله عن الأرض كما وهم ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى بواسطة قوة أودعها في الحجرالهواء
(1/272)

ماء بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها والله تعالى على كل شيء قدير وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسقي ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصالا إله إلا الله ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند إستيلاء ظلمات النفس وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة فأنفجرت منه إثنتا عشرة عينا من مياه الحكمة لأن كلمةلا إله إلا الله إثنتا عشرة حرفا فأنفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي إثنا عشر سبطا من الحواس الظاهرة والباطنة وإثنان من القلب والنفس ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة و قد علم مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن شرب عذب فرات ومشرب ملح أجاج والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلى الصفات عن ساقي وسقاهم ربهم شرابا طهورا للإضمحلال في حقيقة الذات كلوا وأشربوا من رزق الله بأمره ورضاه ولا تعثوا في هذا القالب مفسدين بترك الأمر وإختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى : أهبطوا إلخ مع إستحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كد وتعب حيث سألوا ب لمن نصبر فإنه يدل على كراهيتم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق ولذا أنكر عليه بقوله تعالى : أتستبدلون إلخ فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك إلخ حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا ثم أفاض عليهم نعمة الحياة قال مولانا الساليكوتي ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم لأن الإجابة إلى المعصية معصية وهي غير جائزة على الأنبياء وإن قوله تعالى : كلوا واشربوا أمر إباحة لا إيجاب فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين المن والسلوى اللذين رزقوهما في التيه إما بإعتبار كونه على نهج واحد كما يقال : طعام مائدة الأمير واحد ولو كان ألوانا شتىبمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات أو بإعتبار كونه ضربا واحدا لأن المن والسلوى من طعام أهل التلذذ والسرف وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه وقيل : إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السلوى نازل من القول وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السلوى لأن المن كان شرابا أو شيئا يتحلون به فلم يعدوه طعاما آخر وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الإثنين كما عبر بالإثنين عن الواحد في نحو يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب فأدع لنا ربك أي سله لأجلنا بدعائك إياه بأن يخرج لنا كذا وكذا والفاء لسببية عدم الصبر للدعاء ولغة بني عامر فأدع بكسر العين جعلوا دعا من ذوات الياء كرمي وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم ولهذا قال
(1/273)

لعمر رضي الله تعالى عنه : أشركنا في دعائك وفي الأثر أدعوني بألسنة لم تعصوني فيها وحملت على ألسنة الغير والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادي الإجابة وقالوا : ربك ولم يقولوا : ربنا لأن في ذلك من الإختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة فكأنهم قالوا : أدع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك
يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها المراد بالإخراج المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي وهو الإظهار بطريق الإيجادلا بطريق إزالة الخفاء والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه وما يصلح له ههنا هو الأرض وبتقديره يصير الكلام سخيفا و يخرج مجزوم لأنه جواب الأمر وجزمه بلام الطلب محذوفة لا يجوز عند البصريين و من الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما تنبت وأدعى الأخفش زيادتها وليس بشيء و ما موصولة والعائد محذوف أي تنبته وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء لأن المقدر جوهر ونسبةالإنبات إلى الأرض مجاز من باب النسبة إلى القاب وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض أو فيها قوة قابلة لذلك وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع و من الثانية بيانية فالظرف مستقر واقع موقع الحال اي كائنا من بقلها وقال أبو حيان : تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق ب يخرج وعلى التقديرين كما قال الساليكوتي يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء ولو جعل بيانا لما أفاده من التبعيضية كما قاله المولى عصام الدينل خلا الكلام عن الإفادة المذكورة وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد والبقل جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والأنعام والمراد به هنا أطابيب البقول التي يأكلها الناس والقثاء هو هذا المعروف وقال الخليل : هو الخيار وقرأ يحيى إبن وثاب وغيرهبضم القاف وهو لغة والفو ما لحن أكثر الناس حتى قال الزجاج : لا خلاف عند أهل اللغة أنا لقوما لحنطة وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها أسم الفوم وقال الكسائي وجماعة : هو الثوم وقد أدل تثاؤه فاءكما فيجدث وجد ف وهو بالبصل والعدس أو فقو به قرأ إبن مسعود رضي الله تعالى عنه ونفس شيخنا عليه الرحمة إليه تميل والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الأرض وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما منا لقوما لخبز يمكن توجيهه بأن معناه إنه يقال عليه ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهو البقل إذ منه ما هو بارد رطب كالهندبا ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسذاب ومنه ما هو حار وفيه رطوبة كالنعناع وثانيا ما هو بارد رطبوه والقثاء وثالثا ما هو حار يابس وهو الثوم ورابعا ما هو بارد يابس وهو العدس وخامسا ما هو حار رطبوه والبصل وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم أو يقال : إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله
قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير إستئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قال لهم فقيل قال : أتستبدلون إلخ والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم أو موسى نفسه وهو الأنسب بسياق النظم والإستفهام للإنكار والإستبدال الإعتياض
(1/274)

فإن قلت كونهم لا يصبرون على طعام واحد أفهم طلب ضم ذلك إليه لا إستبداله به أجيب بأن قولهم : لن نصبر يدل على كراهتم ذلك الطعام وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها وقيل : إنهم طلبوا ذلك وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم المن والسلوى فلا يجتمعان وقيل : الإستبدال في المعدة وهو كما ترى وقرأ أبي أتبدلون وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين وكان المعنى أتسألون تبديل الذي إلخ و الذي مفعول تستبدلون وهو الحاصل و الذي دخلت عليه الباء هو الزائل وهو أدنى صلة الذي وهو هنا واجب الإثبات عند البصريين إذ لا طول و أدنى إما من الدنو أو مقلوب من الدون وهو على الثاني ظاهر وعلى الأول مجاز أستعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما أستعير البعد للشرف فقيل : بعيد المحل بعيد الهمة ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة وأبدلت فيه الهمزة ألفا ويؤيده قراءة زهير والكسائي أدنا بالهمزة وأريد بالذي هو خير المن والسلوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته والنفع الجليل في تناوله وعدم الكلفة في تحصيله وخلوه عن الشبهة في حله أهبطوا مصرا جملة محكية بالقول كالأولى وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكى لأن الأولى خبر معنى وهذه ليست كذلك ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الإستبدال هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى فوجه الفصل ظاهر والوقف على خبر كاف على الأول وتام على الثاني والهبوط يجوزان يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر وأن يكون رتبيا وهو الأنسب بالمقام وقريء أهبطوا بضم الهمزة والباء والمصرالبلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين قال : وجاعل الشمس مصرا لإخفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود وأخذه من مصرت الشاة أمصرها إذا حلبت كل شيء في ضرعها بعيد وحكى عن أشهب أنه قال : قال لي مالك : هي مصر قريتك مسكن فرعون فهو إذا علم وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث فهو إن جعل علما فأما بإعتبار كونه بلدة فالصرف مع العلمية والتأنيث لسكون الوسط وإما بإعتبار كونه بلدا فالصرف على بابه إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف إبن مسعود مصر بلا ألف بعد الراء ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير وأن قوله تعالى : أدخلوا الأرض المقدسة يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب كما يدل عليه عطف النهي وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين ومن اناس من جعل مصر معرب مصرائيم كإسرائيل أسم لأحد أولاد نوح عليه السلام وهو أول من أختطها فسميت بأسمه وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الإعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فأفهم وتدبر
فإن لكم ما سألتم تعليل للأمر بالهبوط وفي البحر أنها جواب للأمروكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها والضمير العائد على ما والتقدير فإن لكم فيها ما سألتموه
(1/275)

والتعبير عن الأشياء المسئولة ب ما للإستهجان بذكرها وقرأ النخعي ويحيى سألتم بكسر السين
وضربت عليهم الذلة والمسكنة أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام إستعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين و ضربت إستعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم وهذا الضرب مجازاة لهم على كفران تلك النعمة وبهذا أرتبطت الآية بما قبلها وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود وشامل للمخاطبين بقوله تعالى : فإن لكم مسألتم ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الإلتفات على ما وهم وباؤا بغضب من الله أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما أو رجعوا بغض بأي صار عليهم ولذا لم يحتج إلى إعتبار المرجوع إليه أو صاروا أحقاء به أو أستحقوا العذاب بسببه وهو بعيد واصل البواء بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم أستعمل في كل مساواة فيقال : هو باء فلان أي كفؤه ومنه بؤلشسع نعل كليب وحديث فليتبوأ مقعده من النار وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم
ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم وإنما بعده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤل ولم يعبر به وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين وإستمرارهم عليهما فيما مضى أو لإستحضار قبيح صنعهم و الآيات إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها أو آيات الكتب المتلوة مطلقا أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو التي فيها الرجم أو القرآن وفي إضافة الآيات إلى أسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم وبدا سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ فرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما أل فيتساوي انكما في البحر فلا يرد أنهم قتلوا ثلثمائة نبي في أول النهار وأقاموا سوقهم في آخره وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام وإنما حملهم عليه حب الدنيا وإتباع الهوى والغلو في العصيان والإعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد وقيل : الأظهر أنها للجنس والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة ويؤيده ما في آل عمران بغير الحق فيفيد أنه لم يكن حقا بإعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر
(1/276)

سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الإقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل والقول : بأنه يمكن أن يقال لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير الحق لا يقتص ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي بعيد كما لا يخفى قال بعض المتأخرين : هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي أي بلاحق أما إذا كان معناه أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل فالتقييد مفيد لأن قتتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته وقريب من هذا ما قاله القفال : من إنهم كانوا يقولون : إنهم كاذبون وأن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء ويحيى وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الأمرأة لعنها الله تعالى وكذلك زكريا لأنه لما قتل إبنه إنطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لأمرأته من قتل إبنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجر معه فلقتين طولا بمنشار ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما تنازع فيه الكفر والقتل وفي البحر أنه متعلق بما عنده وزعم بعض الملحدين أن بين هذه الآية وما أشبهها وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا تناقضا وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول إلى قوله سبحانه : فريقا كذبتم وفريقا تقتلون يدل على أن المقتول رسل أيضا وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبه الحجة أو الأخذ بالثأر كما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال كما أجاب به بعض المحققين لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم وقرأ علي رضي الله تعالى عنه : يقتلون بالتشديد والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الإلتفات وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي والنبوة وأستشكل بما روى أن رجلا قال للنبي يانبي الله بالهمز فقال لست بنبيء الله يعني مهموزا ولكن نبي الله بغير همزة فأنكر عليه ذلك ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة و السلام على أنه أستشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه ياطريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه ولا يلزم من صحة إستعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم الذي برأه من كل نقص جوازه من البشر وقيل : إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول راعنا إلى قول أنظرنا وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل : إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك فصح جمعه بإعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر
ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون 16 إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه والباء للسببية وما بعدها سبب للسبب والمعنى إن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم وإعتدائهم ومجاوزتهم الحدود والذنب يجر الذنب وأكد الأول لانه مظنة الإستبعاد بخلاف مطلق العصيان وقيل : الباء بمعنى مع وقيل : الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول وترك العاطف للدلالة
(1/277)

على أن كل واحد منهما مستقل في إستحقاق الضرب فيكف إذا إجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ لا يراد كلمة ذلك فائدة إذ الظاهر بما عصوا إلخ ويفوت أيضا ما يفوت وحظ العارف من هذه الآيات الإعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا
ومن باب الإشارة الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن إبتلعها وسبب طلب ذلك الإحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها واردها والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب والإعتياض بالأغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية إن الذين آمنوا لما أنجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم وفي المراد ب الذين آمنوا هنا أقوال والمروى عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم وهم المنافقون بدليل إنتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ومن لحقه كأبي ذر وبحيري ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به وقيل : إنهم أصحاب سلمان الذين قص حديثهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له : هم في النار فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى يحزنون قال سلمان : فكأنما كشف عني جبل وقيل : إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين وأختاره القاضي وكان سبب الإختلاف قوله تعالى فيما بعد : من آمن إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها الذين هادوا أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية ويهود إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة البخل ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر : وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام وقريء هادوا بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض والنصارى جمع نصران بمعنى نصراني وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله : تراه إذا دار العشى محنفا ويضحى لديه وهو نصران شامس ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه وأنشدكما سجدت نصرانة لم تحنف
والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه وقيل : إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي وروم ورومي وقيل : النصارى جمع نصرى كمهرى ومهاري حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسر فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا وإلى ذلك ذهب الخليل وهو أسم لأصحاب عيسى عليه السلام وسموا بذلك لأتهم
(1/278)

نصروه أو لنصر بعضهم لبعض وقيل : إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ إثني عشر سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة وقيل : نصرايا وقيل : نصرى وقيل : نصرانة وقيل : نصران وعليه الجوهري فسمى من معه بأسمها أو أخذ لهم أسم منها والصابئين هم قوم مدار مذاهبهم على التعصب للروحانيين وإتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة منهم إلى هياكلها فصابئة الروم مفزعها السيارات وصابئة الهند مفزعها الثوابت وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الإعتقادات والتعبدات والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول : إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة وقيل : هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام وقيل : إنهم يقرون بالله تعالى ويقرؤن الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة وقيل : إلى مهب الجنوب وقد أخذوا من كل دين شيئا وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله وأختلف في اللفظ فقيل غير عربي وقيل عربي من صبأ بالهمز إذا خرج أو من صبا معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف
من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق وأتى بعمل صالح حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر وهذا مبني على أول الأقوال والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن أتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المخلصين أو بطريق إحداثه وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الإتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فيعم الحكم المخلصين من أمة صلى الله تعالى عليه وسلم والمنافقين الذين تابوا واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ والصابئين الذين ماتوا زمن إستقامة أمرهم إن قيل : إن لهم دينا وكذا يعم اليهود والصابئين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وفائدة ذكر الذين آمنوا على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه قبل النسخ يوجب الأجر وبعده يوجب الحرمان كما أن ذكر الصابئين للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم بالطريق الأولى وإنفهام قبل النسخ من وعمل صالحا إذ لا صلاح في العمل بعده وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم فقال : ماتوا وهم في النار فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال عليه الصلاة و السلام : من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك
والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى بالكفرة منهم
(1/279)

وتخصيص من آمن إلخ بالدخول في ملة الإسلام إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات ففي الملل والنحل أن الصورة في مقابلة الحنيفية ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم : الصابئة ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصابئين فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين أسم إن وخبرها إليهم على القول المشهور وإرتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم إشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصابئين مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه ! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر و من مبتدأ وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى : فلهم أجرهم عند ربهم ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى : إن الذين فتنوا الآية وأن تكون شرطية وفي خبرها خلافهل الشرط أو الجزاء أو هما وجملة من آمن إلخ خبر إن فإن كانت من موصولة وهو الشائع هنا أحتيج إلى تقدير منهم عائدا وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره إذ العموم يغني عنه كأنه قيل : هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا فلهم إلخ على ما قالوا في قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا وجوز بعضهم أن تكون من بدلا منأسم إن وخبرها فلهم أجرهم وأختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد أسم إن فيصح إذ ذاك المعنى وكأنه قيل : إن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة فلهم إلخ وقد حملت الضمائر الثلاثة بإعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في الصلة بإعتبار لفظه وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب من مبتدأ وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فأفهم
ثم المراد من الأجرالثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح فإضافته إليهم وإختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالإستيجاب كما زعمه الزمخشري رعاية للإعتزال لكن تسميته أجر العدم التخلف ويؤيد ذلك قوله تعالى : عند ربهم المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ وهو متعلق بما تعلق به لهم ويحتمل أن يكون حالا من أجرهم
ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون 26 عطف على جملة فأفهم أجرهم وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا وإذ أخذنا ميثاقكم تذكير بنعمة أخرى لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم والظاهر من الميثاق هنا العهد ولم يقل : مواثيقكم لآن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره فكان ميثاقا واحداولعله كان بالإنقياد لموسى عليه السلام وأختلف في أنه متى كان فقيل : قبل رفع الطور ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى : ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم إلخ وقيل : كان معه ورفعنا فوقكم الطورالواو للعطف وقيل : للحال و الطور قيل : جبل من الجبال وهو سرياني معرب وقيل : الجبل المعين وعن أبي حاتم عن إبن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا وكان على قدر عسكرهم فرسخا في فرسخ ورفع فوقهم قدر قامة الرجل وأستشكل بأن هذا يجري مجرى الألجاء
(1/280)

إلى ألإيمان فينا في التكليف وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم فإذا أستمر في مكانه مدة وقد شاهدوا السموات مرفوعة بلا عماد جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الألجاء ويبقى التكليف وقال العلامة : كأنه حصل لهم بعد هذا الألجاء قبول إختياري أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان وفيه كما قال الساليكوتي إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب خذوا إلخ مع القسر وقد تقرر أن مبناه على الإختيار فالحق أنه إكراه لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره لو خلى ونفسه فيكون معدما للرضا لا للإختيار إذ الفعل يصدر بإختياره كما فصل في الأصول وهذا كالمحاربة مع الكفار وأما قوله : لا إكراه في الدين وقوله سبحانه : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به خذوا ما آتيناكم بقوة هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خذوا وقال بعض الكوفيين : لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول والمعنى وإذ أخذنا ميثاقكم بأن تأخذوا ما آتيناكم وليس بشيء والمراد هنا بالقوة الجد والإجتهاد كما قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ويؤل إلى عدم التكاسل والتغافل فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن إدعى أن الإستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال : خذ هذا بقوة إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل وأذكروا ما فيه أي أدرسوه وأحفظوه ولا تنسوه أو تدبروا معناه أو أعملوا بما فيه من الأحكام فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما والمقصود منهما أعني العمل لعلكم تتقون 36 قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى وقد ذكر ههنا أن كلمة لعلم تعلقة بخذوا وأذكروا إما مجاز يؤول معناه بعد الإستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب والمعنى خذوا وأذكروا راجين أن تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى اللهم إلا بإعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للإنخراط في سلكهم وجوز المعتزلة كونها متعلقة بقلنا المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي قلنا وأذكروا إرادة أن تتقوا وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة بخذوا أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز وفيه إن القول المذكور وهو خذوا ما آتيناكم بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقالخذوا ما آتينا كمطالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فأفهم ثم توليتم من بعد ذلك أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم واصل التولي الإعراض المحسوس ثم أستعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول ويفهم من الآية أنهم أمتثلوا الأمر ثم تركوه
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين 46 الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله وإدراكهم لمدته فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا بإعتبار السلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة والخسران ذهاب رأس المال أو نقصهوالمراد لكنتم مغبونين هالكين بالإنهماك في المعاصي أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة وكلمة لولا إما بسيطة أو مركبة من لو الإمتناعية
(1/281)

وتقدم الكلام عليها وحرف النفي والأسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوابا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده والتقدير ولولا فضل الله ورحمته حاصلان ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى إلخ و لكنتم جواب لولا ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا وقيل : إنه لازم إلا في الضرورة كقوله : لولا الحياء ولولا الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عورى وجاء في كلامهم بعد اللام قد كقوله : لولا الأمير ولولا خوف طاعته لقد شربت وما أحلى من العسل وقد جاء ايضا حذف اللام وإبقاء قد نحولولا زيد قد أكرمتك ولم يجيء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : وهم بها جواب لولا قدم عليها هذا ومن باب الإشارة والتأويل في الآية وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات ورفعنا فوقكم طورالدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها أو أشار سبحانه بل طور إلى موسى القلب وبرفعه إلى علوه وإستيلائه في جو الإرشاد وقلنا خذوا أي أقبلوا وما أتيناكم من كتاب العقل الفرقاني بجد وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة إلى الله يدعى بالبراهين من أبى فإن لم يجب بادته بيض الصوارم ولقد علمتم الذين أعتدوا منكم في السبت اللام واقعة في جواب قسم مقدر وعلم هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واد وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين وقدر بعضهم مضافا أي إعتداء الذين وقيل : أحكامهم ومنكم في موضع الحال و السبت أسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله وقيل من السبوت وهو الراحة والدعة والمراد به هنا اليوم والكلام على حذف مضاف أي في حكم السبت لأن الإعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما حكى أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا : نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما أختاروا ثم أمتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داؤد عليه السلام أعتدوا وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد وروى أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فأستبشروا وقالوا : قد أحل لنا العمل في السبت فأصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للإعتداء ولا يحتاج إلى تقدير مضاف وقيل : المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم أعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله :
(1/282)

أؤ مل أن أعيش وأن يومي بأول أو بأهون أو جبار أو التالي دبار فإن أفته فمونس أو عروبة أو شبار وأستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا وإلى ذلك ذهب الإمام مالك فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي : وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل وأجابوا عن التمسك بالآية فأنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب وتحقيقه في كتب الفقه فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين 56 القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الأسم قياسا على فعول وقليلا على فعلة والخسورالصغار والذلة ويكون متعديا ولازما ومنه قولهم للكلب : أخسأ وقيل : الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالأبعاد فقيل : هو لإستيفاء معناه لا لبيان المراد وإلا لكان الخاسيء بمعنى الطارد والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول وكذلك الأبعاد فالخاسيء الصاغر المبعد المطرود وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة وعلى ذلك جمهور المفسرين وهو الصحيح وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن وأختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشواوأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم ويرده ما رواه مسلم عن إبن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير أهي مما مسخ إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك وروى إبن جرير عن مجاهد أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله : إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا و كونوا على الأول ليس بأمر حقيقة لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير إمتناع ولا لبث
وعلى الثاني يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : أصنع ما شئت وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى : ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا والمنصوبان خبران للفعل الناقص ويجوز أن يكون خاسئين حالا من الأسم ويجوز أن يكون صفة ل قردة والمراد وصفهم بالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم
وأعترض أنه لو كان صفة لها لوجب ان يقول : خاسئة لإمتناع الجمع بالواو والنون في غير ذوي العلم وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في ساجدين أو بإعتبار أنهم كانوا عقلاء او بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط وحقيقتهم سالمة على ما روى أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم فيقول له : ألم أنهك فيقول : بلى ثم تسيل دموعه على خدهولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير وروى عن قتادة أن الشباب صاروا قردة والشيوخ صاروا خنازير وما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم وقريء قردة بفتح القاف وكسر الراءو خاسئين بغير همز فجعلناها نكالا أي كينونتهم
(1/283)

وصيرورتهم قردة أو المسخة أو العقوبة أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى : ولقد علمتم وقيل : الضمير للقرية وقيل : للحيتان والنكال واحدا لأن القيود ونكل بهفعل به ما يعتبر به غيره فيمتنع عن مثله لما بين يديها وما خلفها أي لمعاصريهم ومن خلفهم وهو المروي عن إبن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره وروى عنه أيضا لما بحضرتها من القرى أي أهلها وما تباعد عنها أو للآتين والماضين وهو المختار عند جماعة فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان و ما أقيمت مقام من إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء أو لإعتبار الوصف فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما إذا أريد الوصف كقوله : سبحان ما سخركن وصح كونها نكالا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين فأعتبروا بها وصحت الفاء لأن جعل ذلك نكالا للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ أو لأن الفاءإنما تدل على ترتب جعل العقوبة نكالا على القول وتسببه عنه سواء كان على نفسه أو على الأخبار به فلا ينافي حصول الإعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة وقيل : اللام لام الأجل و ما على حقيقتها والنكال بمعنى العقوبة لا العبرة والمراد بما بين يديها ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك و ب ما خلفها ما بعدها والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد وحمل الذنوب التي بعد المسخة على السيآت الباقية آثارها ليس بشيء كما لا يخفى وقول أبي العالية إن المراد ب ما بين يديها ما مضى من الذنوب و ب ما خلفها من يأتي بعد والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم وعبرة لمن بعدهم منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف وموعظة للمتقين 66 الموعظة ما يذكر مما يلين القلب ثوابا كان أو عقابا والمراد ب المتقين ما يعم كل متق من كل أمة وإليه ذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقيل : من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل : منهم ويحتمل أنهم أتعظوا بذلك وخافوا إرتكاب خلاف ما أمروا به ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وأنهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها وإعتيادهم من الطفولية عليها والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فوضع الله تعالى العبادات وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة إرتكاب الشهوات وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للإجتماع على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الإشتغال بالأمور الدنيوية فوضع السبت لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسبت آخر الأسبوع والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم ويوم الأحد أول الاسبوع والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمعوالختمفه أوفق بهم وأليق بحاله مفمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلازال نور إستعداده وطفيء مصباح فؤاده ومسخ كما مسخ أصحاب السبت ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال إستعداده وتمكن في طباعه وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه أسم
(1/284)

ذلك الحيوان حتى كأن صار رطبا طباعه طباعه ونفسه نفسه فليجهد المرء على حفظ إنسانيته وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكميةو ليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية هي النفس إن تهمل تلازم خساسة وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة بيان نوع من مساويهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساوي أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك وقد يقال : هو على نمط ما تقدم لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام وكأن مولانا الإمام الرازي خفى عليه ذلك فقال : إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية وليس بالبعيد وأول القصة قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فأدارأتم فيها إلخ وكان الظاهر أن يقال قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لإستقلاله بنوع من مساويهم التي قصد نعيها عليهم وهو الإستهزاء بالأمر والإستقصاء في السؤال وترك المصارعة إلى الإمتثال ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة ولذهبت تثنية التقريع وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد وقيل : إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى بذبح البقرةثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها لكن المشهور خلافه والقصة أنه عمد إخوان من بني إسرائيل إلى إبن عم لهما أخي أبيهما فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا ويخبر بقاتله وقيل : كان القاتل أخا القتيل وقيل : إبن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه وقيل : إنه كانتحت رجل يقال له عامي لبنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان وقرأ الجمهوريأمركم بضم الراء وعن أبي عمرو السكون والإختلاس وإبدال الهمزة ألفا و أن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر وهو على إسقاط حرف الجرأي بأن تذبحوا قالوا أتتخذنا هزوا إستئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل : فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الإمتثال أم لا فأجيب بذلك والإتخاذ كالتصير والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر و هزوا مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو أسم ذات هنا فيقدر مضافكم كان أو أهلأو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى : أحل لكم صيد البحر أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الأحياء بضربها إما بعد أن أمرهم وذكر لهم إستبعادا لما قاله وإستخفافا به كما يدل عليه الإستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به ولا يأبى ذلك إنقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة ومن هنا قال بعضهم : إن إجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء إعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له
(1/285)

إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما أستفهموا هذا الإستفهام ولا كانوا أجابوا هذا الجواب فهم قد كفروا بموسى عليه السلام ومن الناس من قال : كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الإستهزاء فأجابوا بما أجابوا وقيل : أستفهموا على سبيل الإسترشاد لا على وجه الإنكار والعناد وقرأ عاصم وإبن محيصن يتخذنا بالياء على أن الضمير لله تعالى وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع هزأ بالإسكان وحفص عن عاصم بالضم وقلب الهمزة واوا والباقون بالضم والهمزة والكل لغات فيه
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين 76 أي من أن أعد في عدادهم والجهل كما قال الراغبله معان عدم العلم وإعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء أعتقد فيه إعتقادا صحيحا أو فاسدا وهذا الأخير هو المراد هنا وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به وهو الإستهزاء على طريق الكناية وأخرج ذلك في صورة الإستعارة إستفظاعا له إذالهزء في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه ووقوعه في مقام الإحتقار والتهكم مثل فبشرهم بعذاب أليم سائغ شائع وفرق بين المقامين وذكر بعضهم أن الإستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك والأول أولى وهو المعروف من إيراد الإستاذة في أثناء الكلام والفرق بين الهزء والمزج ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى
قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي أي سل لأجلنا ربك الذي عودك ما عودك يظهر لنا ما حالها وصفتها فالسؤال في الحقيقة عن الصفة لأن الماهية ومسمى الأسم معلومان ولا ثالث لهما لتستعمل ما فيه أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه إستفسار لبيان المجمل وإلا فلمكان التعجب وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة والجواب على الأول بيان وعلى الثاني نسخ وتشديد وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب وكان مقتضى الظاهر على الأول أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا
وعلى الثاني كيف لأنها موضوعة للسؤال عن الحال و ما وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور وهو إما مجاز أو إشتراككما صرح به في المفتاح والغالب السؤال بها عن الجنس فإن أجريت هنا على الإستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه وهو إحياء الميت بضرب بعضه منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا وعن الصفة حقيقة وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور والقول إنه يمكن أن يجعل ما هي على حذف مضاف أي ما حالها فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية على بعده خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز و ما إستفهامية خبر مقدم ل هي والجملة في موضع نصب ب يبين لأنه معلق عنها وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب والمعنى يبين لنا جواب هذا السؤال قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر الفارض أسم للمسنة التي أنقطعت ولادتها من الكبر والفعل فرضت بفتح الراء وضمها ويقال لكل ما قدم
(1/286)

وطال أمره فارض ومنه قوله : يارب ذي ضغن على فارض له قروء كقروء الحائض وكأن المسنة سميت فارضا لأنها فرضت سنه أي قطعتها وبلغت آخرها والبكرأسم للصغيرة وزاد بعضهم التي لم تلد من الصغر وقال إبن قتيبة : هي التي ولدت ولدا واحدا والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال وقيل : هي التي لم تحمل والبكر من الأولاد الأول ومن الحاجات الأولى والبكر بفتح الباء الفتى من الإبل والأنثى بكرة وأصله من التقدم في الزمان ومنها لبكرة والباكورة والأسمان صفة بقرة ولم يؤت بالتاءلأنهما أسمان لما ذكر وأعترضت لا بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وإبن كيسان كقوله : قهرت العدا لا مستعينا بعصبة ولكن بأنواع الخدايع والمكر ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لاهي فارض ولا بكر فقد أبعد إذ الأصل الوصف بالمفرد والأصل أيضا أن لا حذف وذكر يقول للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه
عوان بين ذلك أي متوسطة السن وقيل : هي التي ولدت بطنا أو بطنين وقيل : مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله : طوال مثل أعناق الهوادي نواعم بين أبكار وعون ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر وفائدة هذا بعد لا فارض ولا بكر نفى أن تكون عجلا أو جنينا وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الأفراد وإضافة بين إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي الفارض والبكر فيكون نظير قوله : فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر وأختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان وإعتداله تقول : سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك فالمشار إليه عوان وأرتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا : بقرة عوان لا فارض ولا بكر وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريد كما لا يخفى ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء وقيل : إنها لا فارض ولا بكر فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق والقول : بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة بإعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينةليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما أعتقدوها والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من يجوز
(1/287)

التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وأدعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الإمتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها إنقلبت مخصوصة بسؤاله موإليه ذهب جماعة من أهل التفسير وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه إبن جرير بسند صحيح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناءأ على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج والممتنع النسخ قبل التمكن من الإعتقاد بالإتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازمعلى ما قيلعلى أنه قيل : يمكن أن يقال : ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو إمتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا وأعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة ونسب هذا الإعتراض لمولانا القاضي في منهياته وفيه تأملوذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الإعتقاد وهو حاصل بلا ريب وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الإعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الإستفسار فإختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر فأفعلوا ما تؤمرون أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على إمتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم و ما موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية أيفأفعلوا أمركمويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون على أحد الوجهين وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر
قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين 96 إسناد البيان في كل مرة إلى الله عزوجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسئولهم وصيغة الإستقبال لإستحضار الصورةوالفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيدكأمس الدابروكذا في قولهم أبيض ناصع وأسود حالك وأحمر قان وأخضر ناضر و لونها مرفوع ب فاقع ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فأبتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال : هي صفراء ولونها شديد الصفرة وعن الحسن سوداء
(1/288)

شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر لأن الصفرة وإن أستعملها العرب بهذا المعنى نادرا كماأطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى : جمالة صفر لأن سواد الإبل تشويه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور نعم ذكر في اللمع أنه يقال : أصفر فاقع وأحمر فاقع ويقال : في الألوان كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعلية لا يرد ما ذكر ومن الناس من قال : إن الصفرة أستعيرت هنا للسواد وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان وليس بشيء وجوز بعضهم أن يكون لونها مبتدأ وخبره إما فاقع أو الجملة بعده والتأنيث على أحد معنيين أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا : ذهبت بعض أصابعه والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين ولا يخفى بعد ذلك والسرورأصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رايق وأما نفسه فإنشراح مستبطن فيهوبين السرور والحبور والفرحتقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمى بذلك إعتبارا بالإسرار والحبور ما يرى حبرهأي أثرهفي ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى : إن الله لا يحب الفرحين والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه ونهى إبن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم وقريء يسر بالياء فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ ويسر خبره ويكون فاقع صفة تابعة لصفراء على حد قوله : وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعا كأن ذكي المسك فيها يفتق إلا أنه قليل حتى قيل : بابه الشعر ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب فاقع ويسرإخبا مستأنف
قالوا أدع لنا ربك يبين لنا ما هي إعادة للسؤال عن الحال والصفة لالرد الجواب الأول بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام
إن البقرة تشابه علينا تعليل لقوله تعالى : أدع كما في قوله تعالى : صل عليهم إن صلاتك سكن لهم وهو إعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فأشتبه علينا والتشابه مشهور في البقر وفي الحديث فتن كوجوه البقر أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة والباقر ان الباقروهو أسم لجماعة البقر والبقر أسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه كنخل منقعر والنخل باسقات وجمعه أباقر ويقال فيه : بيقور وجمعه باقر وفي البحر إنما سمى هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث وقرأ الحسن تشابه بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه تشابه وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين والأصل تتشابه فأدغم وقريء تشبه بتشديد الشين على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم ويشبه بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا وإبن مسعود يشابه بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين وقريء مشتبه ومتشبه ويتشابه والأعمش متشابه ومتشابهة وقريء تشابه تبال وفي مصحف أبي بالتشديد وأستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله
(1/289)

إن البقرة تشابهت فالتاء الأولى من البقرة والثانية من الفعل فلما أجتمع مثلان أدغم نحوالشجرة تمايلت إلا أن جعل التشابه في بقرة ركيك والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد ويشكل أيضا تشابهمن غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال : إنه على حد قوله
ولا أرض أبقل إبقالها
وإبن كيسان يجوزه في السعة وإنا إن شاء الله لمهتدون 07 أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها أو لما خفى من أمر القاتل أؤ إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا وقد أخرج إبن جرير عن إبن عباسمرفوعا معضلاوسعيد عن عكرمةمرفوعا مرسلاوإبن أبي حاتم عن أبي هريرةمرفوعا موصولاأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد وأحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة الله تعالى حيث علق فيما حكاه وجود الإهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بهاوفيه نظروأحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفعك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد إهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله : إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الإهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا : إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للإنفكاك أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الإحتجاج إنما يتم لو كان معنى لمهتدون الإهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله إهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزه الإهتداء إ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هدا أبعد بعيد والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة إن دالة على حصول الشرط في الإستقبال وقد تعلق الإهتداء الحادث بها ويجلب بأن التعليق بإعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين أسم إن وخبرها لتتوافق رؤوس الآي وجاء خبر إن أسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللأعتناء بذلك أكد الكلام
قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول صفة بقرة وهو من الوصف بالمفرد ومن قال : هو من الوصف بالجملة وأن التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب و لا بمعنى غير وهو أسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها ويحتمل أن تكون حرفا كالاالتي بمعنى غير في مثل قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والذلولالريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر ورجل ذلول بين الذل بالضم تثير الارض ولا تسقي الحرث لا صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الإجتماعولذا تسمى المذكرة والإثارةقلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته و الحرث الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع وعلى نفس الزرع أيضا والفعلان صفتا ذلول والصفة يجوز وصفها على ماأرتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض أي لا تثير الأرض فتذل فهو من باب
(1/290)

على لاحب لا يهتدي بمناره
ففيه نفي للأصل والفرع معا وإنتفاء الملزوم بإنتفاء اللازم قال الحسن : كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه ذلولا وقال بعض : المراد إنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض فيكون هذا من تمام قوله لا ذلول لأن وصفها بالمرح والبطر دليل على ذلك وليس عندي بالعبيد وذهب بعضهم كما في المواشي إلى أن جملة تثير في محل نصب على الحال قال إبن عطية : ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة وأعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها لا ذلول فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال : إنه تبع الجمهور في ذلك وهم على المنع وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي لا ذلول في حال إثارتها ليس بشيء وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي : لا ذلول بالفتح ف لا للتبرئة والخبر محذوف أي هناك والراد مكان وجدت هي فيهوالجملة صفة ذلول وهو نفي لأن توصف بالذل ويقال : هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة إقتضاء الصفة للموصوف فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محلف لان مظنة الجود والكرم وهذا أولى مما قيل : إن تثير خبر لا والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة لا كما في كنت بلا مال بالفتح وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضى وقريء تسقى بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه وأسقى لغيره كماشيته وأرضه
مسلمة لاشية فيها أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله إبن عباس أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الإستعمال قاله الحسن أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد والأولى ما ذهب إليه إبن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا وعلى آخر الأقوال يكون لاشية فيهأ 9 أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة والشية مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤهكعدة وزر ومنه الواشي للنمام قيل : ولا يقال له : واش حتى يغير كلامه ويزينه ويقال : ثور أشيه وفرس أبلق وكبش أخرج وتيس أبرق وغراب أبقع كل ذلك بمعنى البلقة وفي البحر ليس الأشيه في قولهم : ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشيه لإختلاف المادتين وشيةأسم لا و فيها خبره
قالوا الآن جئت بالحق أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة وقيل : بمعنى الأمر المقضى أو اللازم وقيل : بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجيء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول وأجراه قتادة على ظاهره وجعله متضمنا أن ما جئت به من قبلكان باطلا فقال : إنهم كفروا بهذا القول والأولى عدم الإكفار و الآن
(1/291)

ظرفظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من ألو إستعماله على خلافه لحن وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو فالآن باشروهن إذ الأمر نص في الإستقبال وأدعى بعضهم إعرابها لقوله
كأنهما ملآن لم يتغيرا
يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر و أل فيها للحضور عند بعض وزائدة عند آخرين وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى ألا لتعريفية كسحروق آلآن بالمد على الإستفهام التقريري إشارة إلى إستبطائه وإنتظارهم له
وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو قالوا وإثباتها فذبحوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها فذبحوها فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه وتحصيلها كان بإشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة وقيل : كانت وحشية فأخذوها وقيل : لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء وهو قول هابط إلى تخوم الأرض قيل : ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم لقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم وقيل : لعله ألطف وأولىإن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي ! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لاتقبلون قول الله سبحانه : إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى ! هذا الخرق العظيم وما كادوا يفعلون 17 كنى على الذبح بالفعل أيوما كادوا يذبحونوإحتمال أن يكون المراد وما كادوا يفعلون ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد وكاد موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب وأختلف فيها فقيل : هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات فمعنىكاد زيد يخرجقارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد وقيل : هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى وما كادوا هنا نفيبا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى : فذبحوها حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في لإثبات والنفي كسائر الأفعال فمثبتها لإثبات القرب ومنفيها لنفيه والنفي والإثبات في الآية محمولان على إختلاف الوقتين أو العتبارين فلا تناقض إذ من شرطه إتحاد الزمان والإعتبار والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى أنقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها إئتمارا وما كادوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو إستثقالا لغلو ثمنها حيث روى أنهم أشتروها بملء جلدها ذهبا وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير وأستشكل القول بإختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل ذبحوها فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرنب قد لتقربه من الحال وإن كان منفيا كما هنالم يقرن بها لأن الأصل إستمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لايتصور مقارنتها له ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن وما كادوا يفعلون كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق وقد صرح في شرح التسهيل
(1/292)

أنه قد يقول القائل لم يكد زيد يفعل ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فأفهم وإذ قتلتم نفسا أي شخصا أو إذا نفس ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح وقول بعضهم : إنه لا يسحن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إذ إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منه مغير مسلم نعم لابد لإسناده إلى الكل من نكتة ما ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم فهم كأصابع الكفين طبعا وكل منهم طمع جسور وقيل : إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول وقد روى أنهم أجتمعوا على قتله ولهذا نسب القتل إلى الجمع فأدرأتم فيها أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فأجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فأجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الإبتداء بها وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤهتاء أو طاء أو ظاء أؤ صاد أو ضاد والتدارؤ هنا إما مجاز عن الإختلاف والإختصام أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث أنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح وقيل : إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب وكل من الطارحين دافع فتطارحه ما تدافع وقيل : إن كلا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما : أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر : بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز والضمير في فيها عائد على النفس وقيل : على القتلة المفهومة من الفعل وقيل : على التهمة الدال عليها معنى الكلام وقرأ أبو حيوة فتدار أتم على الأصل وقيل : قرأ هو وأبو السوار فادرأتم بغير ألف قبل الراء وإن طائفة أخرى قرؤا فتدار أتم والله مخرج ما كنتم تكتمون 27 أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الأسمية وبناء أسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه وذلك بطريق التفضل عندنا والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور وقيل : يجوز ان يكون عاما في القتيل وغيره ويكون القتيل من جملة أفرادهوفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى وأعمل مخرج لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله وهو التدارؤومضيه الآنلا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الإستمرار وفي البحرإن كان للدلالة على تقدم الكتمان
فقلنا أضربوه ببعضها عطف على قوله تعالى : فادرارأتم وما بينهما إعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه وقيل : حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك والهاء في أضربوه عائد على النفس بناى على تذكيرها إذ فيها التأنيثوهو الأشهروالتذكير أو على تأويل الشخص أو القتيل أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه وقيل : الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان وذكر هذا الضميرمع سبق التأنيث تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه
(1/293)

ولم يرد به نقل صحيح واختلف بم ضربوه فقيل : بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف أو بالعظم الذي يليه أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل وذلك قبل دفنه ومن قال : إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال : إن الضرب على القبر بعد الدفن والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما فقال : قتلني إبن أخي وفي رواية فلان وفلان لا بني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي : وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحيالاة إنما إنقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك كذلك يحي الله الموتى جملة إعتراضية تفيد تحق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود والمماثلة في مطلق الأحياء وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياةوالكاف خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الأحياء عظيم يقتضي الإعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الإستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا ويدل على ذلك قوله تعالى : ويريكم إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله وقيل : حرف الخطاب مصروف إليهم وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الإنتظام وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام ويريكم آياته مستأنف أو معطوف على ما قبله والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء والتعبير عنه بالجمع لإشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع وعلى صدق موسى عليه السلام وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل لعلكم تعقلون 37 أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الإختصاص ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية إنتزعوها وأستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا
ومن باب الإشارة إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الإستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب وإعتقاد ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الإستعداد وذبحها قمع هواها ومنعها عن
(1/294)

أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الألهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار الأهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الألف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون إجتناء النحل ما جنت النحل وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك
ثم قست قلوبكم القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الإعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لايجري فيها لطف العمل ففي قست إستعارة تبعية أو تمثيلية و ثم لإستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها وقيل : إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم والضمير في قلوبكم لورثة القتيل عند إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعند أبي العالية وغيره لبني إسرائيل من بعد ذلك أي إحياء القتيل وقيل : كلامه وقيل : ما سبق من الآيات التي علموها كمسخهم قردة وخنازير ورفع الجبل وإنبجاس الماء والأحياءوإلى ذلك ذهب الزجاج وعليه تكون ثم قست إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة وعلى سابقه تكون عطفا على قصة وإذ قتلتم فهي كالحجارة أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللأشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة والكاف للتشبيه وهي حرف عند سيبويه وجمهور النحويين والأخفش يدعى أسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لإبن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء أتو أشد قسوة أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما و أو لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض كالحجارة وبعض أشد أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا بإختصاص ذلك بالجمل أو بمعنى الواو أو للشك وهو لإستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضى ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع وفيه إخراج للإلفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره والحق جواز إعتبار السامع في معاني الألفاظ عند إمتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب أو في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر و أشد عطف على كالحجارة من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول : زيد على سفر أو مقيم وقدر بعضهم أو هي أشد فيصير من عطف الجمل ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد ويجعله معطوفا على الكاف إن كان إسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه ولا يخفى أن إعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا وقرأ الأعمش أو أشد مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف
(1/295)

للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة وإعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالىأقسىمع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله : كل خمصانة أرق من الخمر
بقلب أقسى
من الجلمود لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط وفيه دلالة على إشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على إشتراك القلوب والحجارة في القسوة وإشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر والإعتراضبأن أشد محمول على القلوب دون القسوةليس بشيء لآنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر ويمكن أن يقال : إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو إعتراض بين قوله تعالى : ثم قست قلوبكم وبين الحال عنها وهو وما الله بغافل لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله : فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ولا وصفه يصفو لنا فنكارمه وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل ياباه الذوق إذ لا معنى للتقييد وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدممع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملةهي كالحجارة أو أشدكما قاله العلامةمما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا والمعنى إن الحجارة تتأثر وتنفعل وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه : قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثربحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء وترك فائدة الهبوط وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقيكالرحمن الرحيم إذ لو أريد الترقي لقيلوإن منها لنا يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهاروفائدته إستيعاب جميع الإنفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر وهو أبلغ من الترقي ويكون وإن منها الأخير تتميما للتتميم ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لإستيعاب جميع الإنفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه والفجر التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار والكلام إما على حذف المضاف أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي قال بعض المحققين : وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال : يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير
(1/296)

نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا والتشقق التصدع بطول أو بعرض والخشية الخوف وأختلف في المراد منها فذهب قوموهو المروي عن مجاهد وغيرهأنها هنا حقيقة وهي مضافة إلى الأسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي من خشية الحجارة الله ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر وإعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة وظواهر الآيات ناطقة بذلك وفي الصحيح إني لأعرف حجرا كان يسلم على قبل أن أبعث وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه وورد فيالحجر الأسودأنه يشهد لمن أستلمه وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف مشهور وقيل : هي حقيقة والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد والمعنى أن من الحجارة ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه : وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤل المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى
وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة وأن الضمير في منها لما يهبط عائد على القلوب والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى وهي قلوب المخلصين فكنى عن ذلك بالهبوط وقيل : إنها حقيقة إلأ أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل والمراد بالحجر البرد وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم إن الخشية مجاز عن الإنقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لأسم الملزوم على اللازم ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها أما على القول بأن إعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن وملائكته بتلك الجمادات ومنها هاتيك الأفعال ونحو هذا جبل يحبنا ونحبه على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر
وأما على القول بعدم الإشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوةوهو المناسب للمقاموالإعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الإنقياد لأمر التكليف بطريق القصد وألختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر وإلا لجأ كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجؤه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أشد قسوة لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع وإن أريد به حقيقة إلإلجاء فممنوع وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما أستحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا إضطرارياولم يقل به أحدثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقريء وإن على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها اللام الفارقة بينها وبين النافية والفراء يقول : إنها النافيةواللامبمعنى إلا وزعم الكسائي أن إن إن وليها أسم كانت المخففة وإن فعل كانت النافية وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنىقدوقرأ مالك بن دينار ينفجر مضارع أنفجر والأعمش يتشقق و يهبط بالضم
وما الله بغافل عما تعملون 47 وعيد على ما ذكر كأنه قيل : إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة وقرأ إبن كثير يعملون بالياء التحتانيةضما إلى
(1/297)

ما بعده من قوله سبحانه أن يؤمنوا ويسمعون وفريق منهم وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لمناسبة وإذ قتلتم وأدارأتم وتكتمون إلخ وقيل : ضما إلى قوله تعالى : أفتطمعون بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود أفتطمعون الإستفهام للإستبعاد أو للإنكار التوبيخي والجلمة قيل : معطوفة على قوله تعالى : ثم قست أو على مقدر بين الهمزة والفاء عند غير سيبويه أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون والطمع تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة والخطاب لرسول الله : والمؤمنين 6أو للمؤمنين قاله أبو العالية وقتادة أو للأنصار قاله النقاش والمروى عن إبن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والجمع للتعظيم أن يؤمنوا لكم أي يصدقوا مستجيبين لكم فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعديةباللام للتضمين كما في قوله تعالى : فامن له لوط لأجل دعوتكم لهم فالفعل منزل منزلة اللازم والمراد بالإيمان المعنى الشرعي واللام لام الأجل وعلى التقديرين أن يؤمنوا معمول ل تطمعون على إسقاط حرف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له : لأنهم المطموع في إيمانهم وقيل : المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى
وقد كان فريق منهم أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار يسمعون كلام الله ثم يحرفونه
اي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم وإلى ذلك ذهب إبن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه روى أن من صفاته فيها أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجهكما في البخاري وقيل : المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى فقال لهم : أغتسلوا وألبسوا الثياب النطيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه ثم قالوا : سمعنا يقول في آخر : إن أستطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فأفعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا والتحريف على هذا الزيادة
ثم لا يخفى أن فيما أفتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالإستطاعة والنهي بالمشيئة وهما لا يتقابلان وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى أفعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة وأن ذلك مخصوص به عليه السلام وقيل : المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه ويحصل التضاد في أحكامه ويأبى الله إلا أن يتم نوره وقرأ الأعمش كلم الله
من بعد ما عقلوه أي ضبطوه وفهموه ولم يشتبه عليهم صحته و ما مصدرية أي من بعد عقلهم إياه والضمير في عقلوه عائد على كلام الله وقيل : ما موصولة والضمير عائد عليها وهو بعيد
وهم يعلمون متعلق العلم محذوف أي إنهم مبطلون كاذبون أو ما في تحريفه من العقاب وفي
(1/298)

ذلك كمال مذمتهم وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكربعد ما عقلوهوحاصل الآية إستبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو إستبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا جملة مستأنفة ليست إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ وقيل : معطوفة على يسمعون وقيل : على قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا عطف القصة على القصة وضمير لقوا لليهود على طبق أن يؤمنوا لكم وضمير قالوا للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين فهو من إسناد ما للبعض للكلومثله أكثر من أن يحصى وهذا أدخل كما قال مولانا مفتي الديار الرومية في تقبيح حال الساكتين أولا العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم وإختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف أي قال منافقوهم كما فعله البعضوقيل : الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روى عن إبن عباس والحسن وقتادة في تفسير وإذا لقوا يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلص قالوا : إلا أن السباق واللحاقكما رأيت وسترىيبعدان ذلك وقرأ إبن السميقع لاقوا
وإذا خلا بعضهم إلى بعض أي إذا أنفرد بعض المذكورين وهم الساكتون منهم بعد فراغهم عن الإشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق وهذا كالنص على إشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين إذ الخ لو إنما يكون بعد الإشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب قالوا أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم
أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم : آمنا بل عللوه بما ذكر وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ ومن الناس من جوز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خلا عبارة عن المنافقين وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى والإستفهام إنكارونهى عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء وإن جل قائله اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة ودون ذلك خرط القتاد
ليحاجوكم به متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ فإن التحديث وإن كان منكرا في نفسه لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل والمفاعلة هنا غير مرادة والمراد ليحتجوا به عليكم إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة وذكر إبن تمجيد أنه لو ذهب أحد
(1/299)

إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب إحتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجهكما في بايعت زيداوقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكروا للام هذه لام كيوالنصب بأن مضمرة بعدها أو بها وهي مفيدة للتعليل ولعله هنا مجاز لأن المحدثين لم يحرموا حول ذلك الغرض لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة أرائهم ومضير به راجع إلى ما فتح الله على ما يقتضيه الظاهر عند ربكم أي في كتابه وحكمه وهو عند عصابة بدل من به ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة أسم الفاعل أو بدل إشتمال إن قدر مصدرا وفائدته بيان جهة الإحتجاج بما فتح الله تعالى فإن الإحتجاج به يتصور على وجوه شتى كأنه قيل : ليحاجوكم به بكونه في كتابه أي يقولوا : إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى : به أي بما فتح الله عليكم وقوله تعالى : عند ربكم وأندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب إتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب وههنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة وقيل : المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير به وفائدته التصريح بكون الإحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى وقيل : عند ذكر ربكم فالكلام على حذف مضاف والمراد من الذكر الكتاب وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى بإعتبار أنه في الكتاب بحاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى : عند ربكم وقيل : عند ربكم على ظاهره والمحاجة يوم القيامة وأعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون بهوهو حاصل لهم بالوحي أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار وإذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه إعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه والقول بأن المراد ليحاجوكم يوم القيامة وعند المسائل فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤوس الأشهاد في الموقف العظيم فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من أعترف وكتم وبين من ثبت على الإنكار أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم تندفع بالإخفاء يرد عليه أن الإخفاء حينئذ إنما يدفع الإحتجاج بإقرارهم لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة لا المحاجة وقيل : عند ربكم بتقديرمن عند ربكم وهو معمول لقوله تعالى : بما فتح الله عليكم وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام وجوز الدامغاني أن يكون عند للزلفي أي ليحاجوكم به متقربين إلى الله تعالى وهو بعيد أيضا كقول بعض المتأخرين : إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة وعندى أن رجوع ضمير به لما فتح الله من حيث إنه محدث به وجعل القيد هو المقصود أو للتحديث المفهوم من أتحدثونهم وحمل عند ربكم على يوم القيامة وإلتزام أن الإخفاء يدفع هذا الإحتجاج ليس بالبعيد إلا أن أحدا لم يصرح به ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر أفلا تعقلون عطف إما على أتحدثونهم والفاءلإفاد ترتب عدم عقلهم على تحديثهم وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون والجملة مؤكدة لإنكار التحديث وهو من تمام
(1/300)

كلام اللائمين ومفعوله إما ما ذكر أولا أو لا مفعول لهوهو أبلغوقيل : هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى : أفتطمعون والمعنى أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة ويبعده قوله تعالى : أو لا يعلمون فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكى عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما وفي تعميمه للنبي سوء أدبكما لا يخفى والإستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم
أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون 77 وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزراوالواوللعطف على مقدر ينساق إليه الذهنوالضمير للموبخينأي أيلؤونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر وقيل : الضمير للمنافقين فقط أو لهم وللموبخين أو لآبائهم المحرفين والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه والإيمان الذي أعلنوه وأقتصر بعض المفسرين عليهما وقيل : العداوة والصداقة وقيل : صفته صلى الله تعالى عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها إفتراء على الله تعالى وقدم سبحانه الأسرار على الإعلان إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ من شيء يعلن إلا وهو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الاسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الاولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وإما للإيذان بإفتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهمافي الحقيقةعلى السوية فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة وعكس الأمر في قوله تعالى : أن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية وقرأ إبن محيصن أو لا تعلمون بالتاءفيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم ويكون ذلك من باب الإلتفات
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة وقيل : عطف على قد كان فريق منهم وعليه الجمع وقيل : على وإذا لقوا وأختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه إعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود إستطرادا لأؤلئك المحرفين و الأميون جمعأميوهوكما في المغربمن لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرؤن أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبا والمراد أنهم جهلة و الكتاب التوراة كما يقتضيه سباق النظم وسياقه فاللام فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة وجعله مصدر كتب كتابا واللام للجنس بعيد وقرأ إبن أبي عبلة أميون بالتخفيف إلا أماني جمع أمنية وأصلها أمنونة أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه منمنىإذا قدر ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمروى عن إبن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أنا لأمانيهنا الأكاذيب إلا أكاذيب أخذوها تقليدا من شياطينهم المحرفين وقيل : إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم
(1/301)

وأن آبائهم الأنبياء يشفعون لهم وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة وأختاره أبو مسلم والإستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب وقيل : إلا ما يقرؤن قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره فالإستثناء حينئذ متصل بحسب الظاهر وقيل : منقطع أيضا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب وأعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في المغرب وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الكتاب ولا يعلم الخط وإما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرا ما يقرؤن من غير علم بالمعاني ولا بصور الحروف وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى : إنه أمي نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة وأستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب وليس يحسن الكتب فكتب هذا ما قاضي عليه محمد بن عبدالله إلخ ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام وليس هذا محله
وقرأ أبو جعفر والأعرج وإبن جماز عن نافع وهرون عن أبي عمرو أماني بالتخفيف وإن هم إلا يظنون 78 الإستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل أو بدليل غير صحيح أو لم يقطع فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين
فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم الويل مصدر لا فعل له من لفظه وما ذكر من قولهم : وال مصنوعكما في البحرومثله ويح وويب وويس وويه وعول ولا يثنى ولا يجمع ويقال ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب ولا يجوز غيره عند بعض وإذا أفردته أختيرالرفع ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل : شدة الشر وإبن المفضل الحزن وغيرهما اله الأصمعي : هي كلمة تفجع وقد تكون ترحما ومنه ويل أمه مسعر حرب وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : الويل واد في جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وفي بعض الروايات إنه جبل فيها وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحال على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجيء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره للذين فإن كان علما لما في الخبر فظاهر وإلا فالذي سوغ الإبتداء به كونه دعاء وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه وقيل : لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في سلام عليك بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى ههنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم والكتابة معروفة وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز ويقال : أول من كتب بالقلم إدريس وقيل : آدم عليهما السلام والمراد ب الكتاب المحرف وقد روى أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون : ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤنها ويقولون : هذه التوراة التي أنزلت من عند الله ويحتمل أن يكون
(1/302)

المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروجوه على العامه وقد قال بعض العلماء : ما أنفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه ثم أزداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا أعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة و السلام بتعريض هو عند الراسخين جلي وعند العامه خفي فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأولوه وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله إعظاما لشأنه وتمكينا له في قلوب أتباعهم الأميين و ثم للتراخي الرتبي فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل والإشارة إما إلى الجميع أو إلى الخصوص
ليشتروا به ثمنا قليلا أي ليحصلوا بما أشاروا إليه غرضا من أغراض الدنيا الدنيئة وهو وإن جل أقل قليل بالنسبة إلى ما أستوجبوه من العذاب الدائم وحرموه من الثواب المقيم وهو علة للقول كما في البحر ولا أرى في الآية دليلا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف ولا على كراهية بيعها والأعمش تأول الآية وأستدل بها على الكراهة وطرف المنصف أعمى عن ذلك نعم ذهب إلى الكراهة جمع منهم إبن عمر رضي الله تعالى عنهما وبه قال بعض الأئمة لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية وتمام البحث في محله
فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون 97 الفاءلتفصيل ما أجمل في قوله تعالى : فويل للذين يكتبون إلخ حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل إتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أولابل كل واحدفبين ذلك بقوله : ويل لهم إلخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة ولا يخفى ما في هذا ألإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد والزجر والتهويل
و من تعليلية متعلقة ب ويل أو بالإستقرار في الخبر و ما قيل : موصولة أسمية والعائد محذوف أي كتبته وقيل : مصدرية الأول أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف والثاني في الزجر عن التحريف و ما الثانية مثلها ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين لفظا ومعنى لعدم تقدير العائد ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله يعاقب على أثر فعله لإفضائه إلى حرام آخر وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام وغاير بين الآيتين بأنه بين في الأولى إستحقاقهم العقاب بنفس الفعل وفي الثانية إستحقاقهم له بأثره ولذا جاء بالفاء ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أرباب التدقيق ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكرالويل ثلاث مرات وقيل : فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات تغيير صفة النبي صلى الله تعال عليه وسلم والإفتراء على الله تعالى وأخذ الرشوة فهددوا بكل جناية بالويل وكأنه جعل الفائدة في قوله تعالى : فويل للذين إلى آخر المعطوف كما في خبر لا يؤمن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء وهو على بعده لا يظهر عليه وجه إيرادالفاء في الثاني ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص وهو ما دل عليه سياق الآية وقيل : المراد ب 0 ما يكسبون جميع الأعمال السيئة ليشمل القول ولا يخفى بعده وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادي ترويج ما كتبت أيديهم والآية نزلت في أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رياستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حالها فغيروها وقيل : خاف ملوكهم على ملكهم إذا آمن الناس فرشوهم فحرفوا
(1/303)

والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابا بل كتبوا بأيديهم كتابا وحللوا فيه ما أختاروا وحرموا ما أختاروا وقالوا : هذا من عندالله غير مرضي كالقول بأنها نزلت في عبدالله بن سرح كاتب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغير القرآن فأرتد وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة جملة حالية معطوفة على قوله تعالى : وقد كان فريق منهم عند فريق منهم وعند آخرين على وإذ قتلتم عطف قصة على قصة وأختار بعض المحققين أنها إعتراض لرد ما قالوا حين أوعدواعلى ما تقدم بالويل بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى : أفتطمعون إلى قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق إلخ ذكر إستطرادا بين القصتين المعطوفتين فالضمير في قالوا عائد على الذين يكتبون الكتاب والمس إتصال أحد الشيئين بآخرعلى وجه الإحساس والإصابة وذكر الراغب أنه كاللمس لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء وإن لم يوجد كقوله :
وألمسه فلا أجده
والمراد من النار نار الآخرة ومن المعدودة المحصورة القليلة وكنى بالمعدودة عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصور القليل متيسر العدد والكثير متعسره فقالوا : شيء معدود أي قليل وغير معدود أي كثير والقول بأنا لقلة تستفاد من أن الزمان إذا كثر لا يعد بالأيام بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى : كتب عليكم الصيام إلى أياما معدودات وبقوله سبحانه : وواعدنا موسى أربعين ليلة وروى عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما عدد عبادتهم العجل ثم ينادي أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم وهي سبعة الآف سنة وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوبا في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية
قل أتخذتم عند الله عهدا تبكيت لهم وتوبيخ والعهد مجاز عن خبره تعالى أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى الأيام المعدودة وسمى ذلك عهدا لأنه أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهدا بقوله تعالى : ومنهم من عاهد الله إلى قوله سبحانه : بما أخلفوا الله ما وعدوه
وأعترض بأنه لا وجه للتخصيص فإن لن تمسنا إلخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للعويد لأن المقصود بالإستفهام الوعدلا الوعيد فإنه ثابت في حقهم وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار ويؤول إلى هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون والمعنى الأول أظهر وقرأ إبن كثير وحفص بإظهار الذال والباقون بإدغامه وحذفت من إتخذ همزة الوصل لوقوعها في الدرج
فلن يخلف الله عهده جواب شرط مقدر أي إن إتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم إتخذتم إذ ليس المعنى على الإستقبال وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى كان وفيه خلاف معروف فإن قلت لا يصح جعل فلن يخلف الله جزاء لإمتناع السببية والترتب لكون لن لمحض الإستقبال قلت ذلك ليس بلازم في الفاء الفصيحة كقوله : قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ثم القفول فقد جئنا خراسانا
(1/304)

ولو سلم فقد ترتب على إتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط كما في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله كذا أفاده العلامة والجواب الأول مبني على أن الفاء الفصيحة لا تنافي تقدير الشرط وأنها تفيد كون مدخولها سببا عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله : فقد جئنا خراسانا
علم عندهم في الفصيحة مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب كما في شرح المفتاح الشريف يوم بني الثاني على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول ولخفاء ذلك قال المولى عصام : الأظهر أنه دليل الجزاء وضع موضعه أي إن كنتم إتخذتم عند الله عهدا فقد نجوتم لأنه لن يخلف الله عهده فأفهم
ومن الناس من لا يقدر محذوفا ويجعل الفاء سببية ليكون إتخاذ العهد مترتبا عليه عدم إخلاف الله تعالى عهده ويكون المنكر حينئذ المجموع فتفطن
وهذه الجملة كما قال إبن عطيةإعتراضية بين إتخذتم والمعادل فلا موضع لها من الإعراب وإظهار الأسم الجليل للأشعار بعلة الحكم فإن عدم الإختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضا أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم وإن كان معلقا على إتخاذ المعلق بحبال العدم وأستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما وأدعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد
أم تقولون على الله ما لا تعلمون أم يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع إتخاذكم العهد أم قولكم على الله ما لا تعلمون وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلمب وقوع أحدهما وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الإستفهام على حقيقته ويعلم من هذا أن الواقع بعد أم المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين وبهذا صرح إبن الحاحب في الإيضاح ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى والتقدير بل أتقولون ومعنى بل فيها الإضراب والإنتقال من التوبيخ بالإنكار على الإتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول وظاهر كلام صاحب المفتاح تعين الإنقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى وقولهم المحكي وإن لم يكن صريحا بالإفتراء عليه جل شأنه لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون 18 جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة كأنه قال : بل تمسكم وغيركم دهرا طويلا وزمانا مديدا لا كما تزعمون ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الإختصار أبلغ من إيجاز الحذف وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياما معدودة وليس بشيء وهي حرف جواب كجير ونعم إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم سواء دخله إستفهام أم لا فتكون إيجابا له وهي بسيطة وقيل : أصلها بلفزيدت عليها الألف والكسب جلب النفع والسيئةالفاحشة الموجبة للنار قاله السدي وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة
(1/305)

لأنها التي توجب النار أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر لهو ذهب كثير من السلف إلى أنها هنا الكفر وتعليق الكسب بالسيئة على طريقة التهكم وقيل : إنهم بتحصيل السيئة أستجلبوا نفعا قليلا فنايا فبهذا الإعتبار أوقع عليه الكسب والمراد بالإحاطةالإستيل والشمول وعموم الظاهر والباطن والخطيئةالسيئة وغلبت فيما قصد بالعرض أي لا يكون مقصودا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا وشرب مسكرا فجنى جناية قال بعض المحققين : ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات بإعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة إضافتها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلا عن الرسوخ فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة ولذا قالوا : لو حلف من لاقى زيدا أنه لم يصحبه لم يحنث والمراد بالخلود الدوام ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزها عن الخطيئة وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطا لكونهما حسنتين كما يجعل الإعتقاد شرطا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة ودون إثباته خرط القتاد ثم أن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد وهو مطلق الفاحشة أما إذا فسرت السيئة بالكفر أوالخطيئة به حسبما أخرجه إبن أبي حاتم عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وإبن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع فنفي الحجية أظهر من نار على علم
ومن الناس من نفاها بحمل الخلود على أصل الوضع وهو اللبث الطويل وليس بشيء لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام وكذا لا حجة في قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلخ بناء على مازعمه الجبائي حيث قال : دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى : قل أتخذتم إلخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائما وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدا لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لإنقطاعه مطلقاعلى ان ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفىو من تحتمل أن تكون شرطية وتحتمل أن تكون موصولة والمسوغات لجواز دخولالفاءفي الخبر إذا كان المبتدأ موصولا موجودة ويحسن الموصولية مجيء الموصول في قسيمه وإيراد أسم الإشارة المنبيء عن إستحضار المشار إليه بماله من الأوصاف للأشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الأفرادوصاحبية النار في حالة الإجتماع
(1/306)

قاله بعض المحققينولا يخلو عن حسنوقرأ نافع خطياته وبعض خطياه و خطيته و خطياته بالقلب والإدغام وأستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد ووجهت قراءة الأفراد بأن الخطيئة وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل
والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون 28 لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى وقيل : إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب وتربية الوعد بذكر مانجا منه أهله من العقاب وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه إذ لا يعطف الجزء على الكلولا يدل على عدم إشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان وتكون الآية حجة على الوعيدية كما قاله المولى عصام فإن قلت : للمخالف أن يقول : العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمر من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الإعتبار عند عدمه ويخطر في البال إنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفرعند بعضوالعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من الذين آمنوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم قاله إبن عباس وغيره وهو الظاهر وقال إبن زيد : المراد بهم النبي وأمته خاصة وذكر الفاء فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حربا بالتأكيد دون الثاني وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا : من دخل داري فأكرمه يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم وبدون الفاء يقتضي إكرامه البتة وإما للإشارة إلى أن خلودهم في النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة وإلى كل ذهب بعضوالقول بأن ترك الفاءهنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي بإستبعاد إيمان أخلافهم وقيل : إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم وهو الجنة والموصل إلى النعمة نعمة وهذأ الميثاق ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة وقول مكي : إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يطهرهم وجهه هنا
لا تعبدون إلا الله على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى : لا يضار كاتب ولا شهيد وكما تقول : تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت وإلى ذلك ذهب الفراء ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال او الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ إبن مسعود لا تعبدوا على النهي وأن قولوا عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الأعراب وقيل : تقديره أن لا تعبدوا فلما حذف الناصب أرتفع الفعل ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافا لبعضهم وإلى هذا ذهب الأخفش ونظيره من نثر العرب
(1/307)

مره يحفرها ومن نظمها
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى وإن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ويؤيد هذا قراءة أن لا تعبدوا ويضعفه أن أن لا تحذف قياسا في مواضع ليس هذا منها فلا ينبغي تخريج الآية عليه وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على أن لا وقيل : إنه جواب قسم دل عليه الكلام أي حلفناهم لا تعبدون أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول وقرأ نافع وإبن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء حكاية لما خوطبوا به والباقون بالياء لأنهم غيب وفي الآية حينئذ التفاتان فيلفظ الجلالةو يعبدون
وبالوالدين إحسانا متعلق بمضمر تقديره وتحسنون أو أسحنوا والجملة معطوفة على تعبدون وجوز تعلقه ب إحسانا وهو يتعدى بالباء وإلى كأحسن بي إذ أخرجني من السجن وأحسن كما أحسن الله إليك ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقا ممنوع ومن المعربين من قدر أستوصوا ف بالوالدين متعلق به و إحسانا مفعوله ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانا مفعول لأجله والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناء على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة وناهيك إحتفالا بهما أن الله عز أسمه قرن ذلك بعبادته وذي القربى واليتامى والمساكين عطف على الوالدين و القربى مصدر كالرجعي والألف فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب واليتامى وزنه فعالى وألفه للتأنيث وهو جمع يتيم كنديم وندامى ولا ينقاس ويجمع على أيتام واليتم أصل معناه الإنفراد ومنه الدرة اليتيمة وقال ثعلب : الغفلة وسمى اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره وقال أبو عمرو : الإبطاء لإبطاء البر عنه وهو في الآدميين من قبل الآباءولا يتم بعد بلوغ وفي البهائم من قبل الأمهات وفي الطيور من جهتهما وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضا والأول هو المعروف والمساكين جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون كأن الحاجة أسكنته فالميم زائدة كمحضر من الحضور وروى تمسكن فلان والأصح تسكن أي صار مسكينا والفرق بينه وبين الفقير معروف وسيأتي إن شاء الله تعالى وقد جاء هذا الترتيب إعتناء بالأوكد فالأوكد فبدأ ب الوالدين إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما ثم ب ذي القربى لأن صلة الأرحام مؤكدة ولمشاركة الوالدين في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر إن الله تعالى خاطب الرحم فقال : أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك واقطع من قطعك ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الإكتساب وقد جاء أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين واشار إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة المساكين لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم فإنه لصغره لا ينتفع به ويحتاج إلى من ينفعه وأفرد ذي القربى كما في البحر لأنه أريد به الجنس ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى وإن كثروا كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم وقولوا للناس حسنا أي قولا حسنا سماه به للمبالغة وقيل : هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد والعرب والعرب والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون قاله أبو العالية وقال سفيان الثوري : مروهم بالمعروف وأنهوهم
(1/308)

عن المنكر وقال إبن عباس رضي الله تعالى عنهما : قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها وقال إبن جريج : أعلموهم مما في كتابكم من صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقول أبي العالية في المرتبة العالية والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل : ومن قال : إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن لناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب حسنا بفتحتين وعطاء وعيسىبضمتين وهي لغة الحجاز وأبو طلحة بن مصرف حسنى على وزن فعلى وأختلف في وجهه فقيل : هو مصدر كرجعي وأعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس ولم يسمع فيه وقيل : هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة حسنى وفي الوصف بها وجهان أحدهما أن تكون باقية على أنها للتفضيل وإستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله : وإن دعوت إلى جلي ومكرمة يوما كرام سراة الناس فأدعينا وثانيهما أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى حسنة كما قالوا ذلك في يوسف أحسن إخوته وقرأ الجحدري إحسانا على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول أعشبت الأرض إعشابا أي صارت ذا عشب وحينئذ نعت لمصدر محذوف أي قولا ذا حسن وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة أراد سبحانه بهما افرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهمكما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قربانا تهبط إليها نار فتحملها وكان ذلك علامة القبولوما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضا ليس بشيء كما لا يخفى ثم توليتم أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه و ثم للإستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالإرتداد بعد الإنقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فهذا إلتفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذ على نهج الغيبة فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم أستحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهموإن جعل خطابا لليهود المعاصرينفهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ وقيل : الإلتفات إنما يجيء على قراءة لا يعبدون بالغيبة وأما على قراءة الخطاب فلا إلتفات ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة و السلام وما تقدم خاصا بمن تقدم وجعل الإلتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن كون الإلتفات بين خطابين لإختلافهما لم يقل به أهل المعاني لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباءوما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافا لمن ألتفت عنه
إلا قليلا منكم وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن الأخلاف من أسلم كعبدالله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص وقول إبن عطية : إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم
(1/309)

يبقى حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لايقدم عليه إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية وروى عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب وأختلفوا في تخريج الرفع فقيل : إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه وجاز لأن توليتم في معنى النفي أي لم يفوا وقد خرج غير واحد قوله : فيما صح على الصحيح : العالمون هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر وقول الشاعر : وبالصريمة منهم منزل خلق عاف تغير إلا النوء والوتد على ذلك وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدالولم يجوزه النحويون ليس بشيء كما لايخفى وقيل : إن لا صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها وقد عقد سيبويه لذلك بابا في كتابه فقال : هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقوله : أينخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها وخرج جمع جميع ما سلف على هذا وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب إبن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب إلا يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره وهو إبن شاهين بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس فلا والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه وقيل : إنه مبتدأ خبره محدوف أي لم يقولواولا يرد عليه شيء مما تقدم إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : إلا إبليس لم يكن من الساجدين وأنتم معرضون 38 جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الأعراض والتولي عن المواثيق ويؤخذ كونه عادتهم من الأسمية الدالة على الثبوت وقيل : حال مؤكدة والتولي والأعراض شيء واحد ويجوز فصل الحال المؤكدة بالواو عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والأعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الإنصراف مع ثبوت العقد والأعراض هو الإنصراف عن الشيء بالقلب وقيل : إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج واحد في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه
ومن الناس من جوز أن يكون معرضون على ظاهره والجملة حال مقيدة أي لم يتولى إلى القليل وأنتم معرضون عنهم ساخطون لهم فيكون في ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل فهو بعيد كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والأعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن إتباع هذا النبي وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم على نحو ما سبق في لا تعبدون والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لإتصاله نسبا أو دينا أو لأنه يوجبه قصاصا ففي الآية مجاز إما في ضميركم حيث عبر به عمن يتصل به أو في تسفكون حيث أريد به ما هو سبب السفك وقيل : معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم أو لا تفعلون ما يرد بكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به
(1/310)

عن الجنة التي هي داركم وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يساعده سياق النظم الكريم هو الأول و الدماء جمع دم معروف وهو محذوفا للام وهي ياء عند بعض لقوله : جرى الدميان بالخبر اليقين وواو عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل وقد سمع مقصورا وكذا مشددا وقرأ طلحة وشعيب تسكفون بضم الفاءوأبو نهيكبضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة وإبن ابي إسحاق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ثم أقررتم أي بالميثاق وأعترفتم بلزومه خلفا بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى بالباء قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير إعتراف به وليس بشيءإذ لا يلائمه حينئذ وأنتم تشهدون 48 حال مؤكدة رافعة إحتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه ولا يجوز العطف لكمال الإتصال ولا الإعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد وقيل : وأنتم لها أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا وضعف بأن يكون حينئذ إستبعاد القتل والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لإتصالهم بهم نسبا ودينا بخلاف ما إذا أعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم وهو أبلغ في بيان قبيح صنيع هم وأدعى بعضهم أن الأظهر أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفى إنحطاط المبالغة حينئذ
ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم نزلتكما في البحرفي بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع والخزرج حلفاء بني قريظة والنضير والأوس والخزرج إخوان وبنو قريظة والنضير إخوانثم أفترق وافصارت بنو النضير حلفاء الخزرج وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص الله تعالى فعيرهم الله تعالى بذلك و ثم للإستبعاد في الوقوع لا للتراخي في الزمان لأنه الواقع في نفس الأمركما قيل بهو أنتم مبتدأ و هؤلاء خبره على معنى أنتم بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤلاء الناقضون كقولك : أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا وكان مقتضى الظاهر ثم أنتم بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد ف تقتلون أنفسكم إلخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها لكن أدخل هؤلاء وأوقع خبرا ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم لشدة وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع أسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطبا وغائبا وإلا لفهم ذلك من نحو بل أنتم قوم تجهلون أيضا وصح الحمل مع إعتبار التغير لأنه إدعائي وفي الحقيقة واحد وعدوا حضورا مشاهدين بإعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقا وغيبا بإعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكي عنهم من الأفعال بعد لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في تقتلون وتخرجون قاله الساليكوتي و تقتلون إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل ثم أنتم هؤلاء قالوا كيف نحن
(1/311)

فجيء ب تقتلون تفسيرا له ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال وذهب إبن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ و تقتلون الخبر و هؤلاء تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوبا بأعنى وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون بأيتها كاللهم أغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف باللام كنحن العرب أقرى الناس للضيفأو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث وقد يكون بالعلم كبنا تميما نكشف الضبابا
وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلموقد يجيء بعد ضمير المخاطبكبك الله نرجو الفضل وقيل : هؤلاء تأكيد لغوي لأنتم فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم والكلام على هذا خال عن تلك النكتة وقيل : هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته والمجموع هو الخبر وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد ما أولا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد ما الإستفهاميةوهو المصححعلى أن الكلام يصير حينئذ من قبيل
أنا الدي سمتني أمي حيدرة
وهو ضعيفكما قاله الشهابوقرأ الحسن تقتلون على التكثير وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك وتخرجون فريقا منكم من ديارهم عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للإحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله قيل : أو من كليهما لأنه لإشتماله على ضمير هما يبين هيئتهما والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم والتظاهرالتعاون وأصله منالظهركأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه والإثم الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم وقيل : ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب وفي الحديث الإثم ما حاك في صدرك وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله : شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول مما لايدعو إليه داع والعدوان تجاوز الحد في الظلم وقرأ عاصم وحمزة والكسائي تظاهرون بتخفيف الظاء وأصله بتاء ينحذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على إدغام التاء في الظاء وأبو حيوة تظاهرون بضم التاء وكسر الهاء ومجاهد وقتادة بإختلاف عنهما تظهرون بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألفورويت عن أبي عمرو أيضا وبعضهم تتظاهرون على الأصل
وإن يأتوكم أسارى تفادوهم أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرأ إبن كثير وأبو عمرو وحمزة وإبن عامر تفدوهم وعليه حمل بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة وفرق جمع بين فادي وفدى بأن معنى الأول بأدل أسيرا بأسير والثاني جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي الله تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم إنه ما بادل أسيرا بأسير وقيل : تفادوهم بالعنف و تفدوهم بالصلح وقيل : تفادوهم تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله : قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك لا أرى لهم إحتفالا
(1/312)

وقال أبو علي : معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئا وأراه هنا كسابقه في غاية البعد والقول بأن معنى الآية وإن يأتوكم اسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم إلى البطون أقرب كما لا يخفى والأسارى قيل : جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيرا على كسلان فجمعوه جمعه كما جملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه ووجه الشبه أن الأسر محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته وقيل : إنه مجموع كذا إبتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافا لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة وقيل : جمع أسرىوبه قرأ حمزةوهو جمع أسير كجريج وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل وقال أبو عمروك الأسرى من في اليد والأسارى من في الوثاقولا أرى فرقابل المأخذون على سبيل القهر والغلبة مطلقا أسرى وأسارى
وهو محرم عليكم إخراجهم حال من فاعل تخرجون فريقا منكم أو مفعوله بعد إعتبار التقييد بالحال السابقة وقوله تعالى : وإن يأتوكم إعتراض بينهما لا معطوف على تظاهرون لأن الإتيان لم يكن مقارنا للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن إستحقاق ومعصية موجبة له وتخصيصه بالتقييد دون القتل للإهتمام بشأنه لكونه أشد منه والفتنة أشد من القتل وقيل : لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق وقيل : النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده لا تخرجون أنفسكم بأبلغ وجه وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم أمتثلوا حكما في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكما وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به أفتؤمنون إلخ اشد إتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال إتضاح حيث وقع في حق شخص واحد والضمير للشأن والجملة بعده خبره وقيل : خبره محرم و إخراجهم نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي وإنما أرتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبرا مقدما والبصريون يجوزون ذلك ولايجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بحملة مصرح بجزأيها وقيل : إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا و محرم خبره و إخراجهم بدل منه مفسر له وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه ومنهم من منعه وأجازه الكسائي وقيل : راجع إلى الإخراج المفهوم من تخرجون و إخراجهم عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل وقد تقدم مع الخبر والتقدير وإخراجهم هو محرم عليكمفلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفةلا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا ولإبن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض عطف على تقتلون أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فتؤمنون إلخ والإستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه وقيل : المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة وقد أخرج إبن جرير عن أبي العالية أن عبدالله بن سلام مر على رأس
(1/313)

الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال له عبدالله إبن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن وروى محيي السنة عن السدي أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولايخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فأشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه ولعل كفرهم بما أرتكبوا لإعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في الكشاف من أنه قيل لهمك كيف تقاتلونهم ثم تفدوهم ! فقالوا : أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفاتنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فإطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا والقول بأن المعنى أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الإعتبار لا إعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم
فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أو إلى ما فعلوه من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى المقابلة ويطلق في الخير والشر والخزي الهوان والماضيخ وقال إبن السكيت : معنى خز يوقع في بلية وخزي الرجل خزاية إذا أستحى وهو خزيان وقوم خزايا وبه هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحاء وأذرعات
وقد روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : كان عادت بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير الخزي للأيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه وأدعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونظيره من يفعل جميع ذلك و الدنيا مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن واو ولا يحذف منها الألف واللام إلا قليلا وخصه أبو حيان في الشعر و ما نافية و من إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها و منكم حال من فاعل يفعل و إلا خزي إستثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد إلا كائنا ما كان وقال بعضهم إن كان ما بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول وإن كان وصفا أجاز فيه الفراء النصب ومنعه البصريون وحكى عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله
ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في اشد العذاب وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى فرددناه إلى أمه وكأنهم كانوا في الدنيا أو في القبور في أشد العذاب أيضا فردوا إليه والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا إنقضاء له أو المراد أشد
(1/314)

جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم اشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى : من يفعل ذلك منكم فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم إنه كتاب الله تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك ! أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة وضمير يردون راجع إلى من وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الأفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالإجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلاوأشد العذاب يوم القيامة للأيذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين وتقدي مالي ومعلى ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال منأول الأمر وقرأ الحسن وإبن هرمز بإختلاف عنهما وعاصم في رواية المفض لتردون على الخطاب والجمهور على الغيبة ووجه ذلك أن يردون راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة من ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في منكم لا أن الضمير حينئذ راجع إلى كم كما وهم وما الله بغافل عما تعملون 58 إعتراض وتذييل لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أيإنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح التي من جملتها هذا المنكر والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل وروى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه وقرأ نافع وإبن كثير وأبو بكر يعملون بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق أولئك الذين أشتروا الحياة الدنيا بالآخرة أي آثروا الحياة الدنيا وأستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فلا يخفف عنهم العذاب الموعودون به يوم القيامة أو مطلق العذاب دنيويا كان أو أخرويا
وهم ينصرون 68 بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا والتعذيب في العقبى وعلى الإحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب والجملة معطوفة على الصلة ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا وجوز أن يكون أولئك مبتدأ و الذين خبره وهذه الجملة خبر بعد خبر والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلا كان فيها معنى الشرط وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرا عنه وجوز ايضا أن يكون أولئك مبتدأ و الذين مبتدأ ثان وهذه الجملة خبر الثاني والمجموع خبر الأول ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك ولا يخفى ما فيه هذا ومن باب الإشارة في هذه الآيات وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية ولا تخرجون ذواتكم من مقاركم الروحانية ورياضتكم القدسية ثم أقررتم بقبولكم لذلك وأنتم تشهدون عليه بإستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية ثم أنتم هؤلاء الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الإستعداد تقتلون أنفسكم وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى وتخرجون فريقا منكم من أوطانهم القديمة بأغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على إرتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بإرتكاب الفواحش
(1/315)

ليروكم فيتبعوكم فيها وبإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها وإن يأتوكم أسارى في قيد ما أرتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن إتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة أفتؤمنون ببعض كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا وتكفرون ببعض فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا ذلة وإفتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن تردون إلى أشد العذاب وهو تعذيبهم بالهيآت المظلمة الراسخة في نفوسهم وإحتراقهم بنيرانها وما الله بغافل عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم
ولقد آتينا موسى الكتاب شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الإعتناء به والإيتاء الإعطاء و الكتاب التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان لآتينا وعند السهيلي مفعول أول والمراد بإتيانها له إنزالها عليه وقد روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها الله تعالى لموسى عليه السلام فحملها وقيل : يحتمل أن يكون آتينا إلخ أفهمناه ما أنطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه والكلام على حذف مضاف أي علم الكتاب أو فهمه وليس بالظاهر وقفينا من بعده بالرسل يقال قفاه إذا أتبعه وقفا هبه إذا أتبعه إياه من القفا وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف وقيل : سبعين ألفا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع وشمويل وشمعون وداؤد وسليمان وشعيا وأرمياء وعزير وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر بالرسل بتسكين السين وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم وأتينا عيسى إبن مريم البينات أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة أوتيها عليه السلام وهو الظاهر وقيل : الإنجيل وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين أو مكسورة ومعناه السيد وقيل : المبارك فعرب والتسبة إليه عيسى وعيسوى وجمعه عيسون بفتح السين وقد تضم وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولى العزم وصاحب كتاب وقيل : لأنه ليس متبعا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرا من شريعته وأضافه إلى أمه ردا على اليهود إذ زعموا أن له أبا ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس وقيل : العابدة وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء وقيل : ولا يناسب مريم أن يكون عربيا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحا كما يسمى الأسود كافورا وقال بعض المحققين : لأ مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك وفي القاموس هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيها لها بمريم البتول ووزنه عربيا مفعل لا فعيلا
(1/316)

لأنه لم يثبت في الأبنية على المشهور وأثبته الصاغاني في الذيل وقال : إنه مما فات سيبويه ومنه عثير للغبار وضهيد بالمهملة والمعجمة للصلب وأسم موضع ومدين على القول بأصالة ميمه وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك لمشابهتها الرجل وإبن جني يقول : إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار بكسر العين وإذا كان مفعلا فهو أيضا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقلبها ألفا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين ومزيد وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسريائه أيضا وأيدناه بروح القدس أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق روح القدس عليه شائع فقد قال سبحانه : قل نزله روح القدس وقال لحسان رضي الله تعالى عنه أهجهم وروح القدس معك ومرة قال له : وجبريل معك وقال حسان : وجبريل وروح القدس فينا وروح القدس ليس له كفاء و القدس الطهارة والبركة أو التقديس ومعناه التطهير والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الإختصاص وهي معنوية بمعنى اللام فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤلا بواحد من المسمينبه وقال مجاهد والربيع : القدس من أسماء الله تعالى كالقدوس وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان ومعلوم أن جبريل ليس كذلك لكنه أطلق عليه على سبيل التشبيه من حيث إن الروح سبب الحياة الجسمانية وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد ب روح القدس لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره كما قال تعالى : وإذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان ولأنه بالغ إثنا عشر ألف يهودي لقتله فدخل عيسى بيتا فرفعه عليه السلام مكانا عليا وقيل : الروحهنا أسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيى به الموتى وروى ذلك كالأول عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقال إبن زيد : الإنجيل كما جاء في شأن القرآن قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وإنتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية وقيل : روح عيسى عليه السلام نفسه ووصفها به لطهارتها عن مس الشيطان أو لكرامته عليه تعالى ولذلك أضافها إلى نفسه أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في ردع أمه فدخلت النفخة في جوفها وقرأ إبن كثير القدس بسكون الدال حيث وقع وأبو حيوة القدوس بواو
أفكلما جاءك رسول بما لا تهوى أنفسكم أستكبرتم مسبب عن قوله تعالى : ولقد آتينا بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء وقد أدخلت الهمزة بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا والتعجيب من شأنهم على معنى ولقد آتينا موسى الكتاب وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول فعكستم بأن كذبتم ويحتمل أن يكون إبتداء كلام والفاء للعطف على مقدر كأنه قيل : أفعلتم ما فعلتم فكلما جاءكمثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد الفاء فيكون العطف للتفسير وأن يكون غيره مثل أكفرتم النعمة وأتبعتم الهوى فيكون لحقيقة التعقيب وضعف هذا الإحتمال بما ذكره الرضى
(1/317)

أنه لو كان كذلك لجاز وقوع الهمزة في اللاكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه ولم تجيء إلا مبنية على كلام متقدم وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة بالواو أو الفاء أو ثمفي محلها الأصلي أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع على هذأ وفي البعض على ذلك بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام والقلب يميل إليه قيل : ولا يلزم بطلان صدارةالهمزةإذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ وهذا مراد من قال : إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد إعتبار عطفه ولم يرد أنها صلة و تهوى منهوى بالكسر إذا أحب ومصدره هوى بالقصر وأما هوى بالفتح فبمعنى سقط ومصدره هوى بالضم وأصله فعول فاعل وقال المرزوقي : هوى إنقض إنقضاض النجم والطائر والأصمعي يقول : هوت العقاب إذا أنقضت لغير الصيد وأهوت إذا أنقضت للصيد وحكى بعضهم أنه يقال : هوى يهوى هويا بفتح الهاءإذا كان القصد من أعلى إلى أسفل وهوى يهوى هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى وما ذكرناه أولا هو المشهوروالهوى يكون في الحق وغيره وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر ومنه هذه الآية وعبر عن المحبة بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر ومتعلق أستكبرتم محذوف أي عن الإيمان بما جاء به مثلا وأستفعل هنا بمعنى تفعل
ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون 78 الظاهر أنه عطف على أستكبرتم والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مر تبين على الإستكبار وللتفصيل إن كانا نوعين منه وجوز الراغب أن يكون عطفا على وأيدناه ويكون أفكلما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار وقدم فريقا في الموضعين للإهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر وثم محدوف أي فريقا منهم وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية وأستحضارا لصورتها لفظاعتها وأستعظامها أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فينا قبل أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أو لا وقيل : لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ وهذا أوان وجدت إنقطاع أبهري من ذلك السم وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم
وقالوا قلوبنا غلف عطف على أستكبرتم أو على كذبتم فتكون تفسيرا للإستكبار وعلى التقديرين فيه إلتفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتهم وإبعادا لهم عن عز الحضور والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والغلف جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لايفقه قيل : وأصله ذو العلفة الذي لم يختن أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضا وبه قرأ إبن عباس وغيره وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها وهذا كقولهم : قلوبنا في أكنة مما
(1/318)

تدعونا إليه قصدوا به إقناط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإجابة وقطع طعمه عنهم بالكلية وقيل : مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به أو بسلامة من الفطرة كدلك وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته قاله إبن عباس وقتادة والسدي أو مملوءة علما فلا تسع بعد شيئا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره روى ذلك عن إبن عباس أيضا وقيل : أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا إتباع الأمي ولا يخفى بعده
بل لعنهم الله بكفرهم رد لما قالوه وتكذيب لهم فيما زعموه والمعنى انها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم وأبطل إستعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب إعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقا وصدقا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم أو أن الله تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم أدعاء العلم الذي هو أجل آثارهاويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه فقليلا ما يؤمنون 88 الفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان وقليلا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا قليلا وهو إيمانهم ببعض الكتاب و ما مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان بمعنى لا يؤمنون قليلا فضلا عن الكثيرلكن ربما يتوهم لا سيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلا بل كثيرا ولا مصدرية لإقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرا والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ والتقدير فإيمانهم قليل وجوز بعضهمكونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية والمصدر فاعل قليلا وكانوا مقدرة في نظم الكلام فتكون على طراز كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ولا يخفى ما فيه من التكلف وجوز إنتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل يؤمنون والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته وهو المروى عن سيبويه أو فيؤمنون حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل وهو المروى عن إبن عباس وطلحة وقتادة ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الإستفتاح أو بلوغ الروح التراقي أو ما قالوا آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وأكفروا آخره وأولى الوجوه أولها والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي والقلة مقابل الكثرة وقال الزمخشري : يجوز أن تكون بمعنى العدم وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا وأعترضه في البحر بأن القلة بمعنى النفي وإن صحت لكن في غير هدا التركيب لأن قليلا أنتصب بالفعل المثبت فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة إنتفاء ذلك المثبت رأسا وعدم وقوعه بالكلية وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهمأقل رجل يقول ذلك وقلما يقوم زيدفحملها هنا على ذلك ليس بصحيح وليت شعري أي معنى لقولنا يؤمنون إيمانا معدوما وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون : مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض وإن كان نكرة و ما مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدموأين ما نحن فيهمن ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمشخري غير قائل به ويمكن أن يقال : إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة
(1/319)

ولما جاءهم كتاب من عند الله وهوالقرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه وتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في مصالحهم والجملة عطف على قالوا قلوبنا غلف أي وكذبوا لما جاءهم إلخ مصدق لما معهم من كتابهم أي نازل حسبما نعت أو مطابق له و مصدق صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لان الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشيء عنها وجعله مصدقا ل كتابهم لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الأخبار عنه محتاجا في صدقه إليه وإلى أنه بإعجازه مستغن عن تصديق الغير وفي مصحف أبي مصدقا بالنصب وبه قرأ إبن أبي عبلة وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة وإحتمال أن الظرف لغة متعلق ب جاء بعيدفلا يضرعلى سيبويه جوز مجيء الحال من النكرة بلا شرط وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثهقاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادةوالمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين كما روى السدي أنهم كانوا إذا أشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا : اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون فالسين للطلب والفتح معنى النصر بواسطة على أو يفتحون عليهم من قولهم : فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى : أتحدثونهم بما فتح الله عليكم أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه فالسين زائدة للمبالغة كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهموالشيء بعد الطلب أبلغوهو من باب التجريد جردوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم الفتح كفولهم : أستعجل كأنه طلب العجلة من نفسه ويؤول المعنى إلى يانفس عرفي المشركين أن نبيا يبعث مهنم وقيل : يستفتحون بمعنى يستخبرون عنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل ولد مولود صفته كذا وكذا نقله الراغب وغيره وما قيل : إنه لا يتعدى ب علي لا يسمع بمجرد التشهي
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به كنى عن الكتاب المتقدم ب ما عرفوا لأن معرفة من أنزل عليه معرفة له والإستفتاح به إستفتاح به وإيراد الموصول دون الإكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم ويحتمل أن يراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما قد يعبر بها عن صفات من يعقل وبعضهم فسره بالحق إشارة إلى وجه التعبير عنه عليه الصلاة و السلام ب ما وهو أن المراد به الحقلا خصوصية ذاته المطهرةوعرفانهم ذلك حصل بدلالة المعجزات والموافقة لما نعت في كتابهم فإنه كالصريح عند الراسخين فلا يرد أن نعت الرسول في التوراة إن كان مذكورا على التعيين فكيف ينكرونه فإنه مذكور بالتواتر وإلا فلا عرفان للإشتباه على أن الإيراد في غاية السقوط لأن الآية مسافة على حد قوله تعالى : وجحدوا بها وأستيقنتها أنفسهم أي جحدوه مع علمهم بهوهذا أبلغ في ذمهم و كفروا جواب ل ما الأولى و ل ما الثانية تكرير لها لطول العهد كما في قوله تعالى لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب وإلى ذلك ذهب المبرد وقال الفراء : ل ما الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى : فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلخ وعلى الوجهين يكون قوله سبحانه : وكانوا من قبل جملة حالية بتقدير قدم قررة وأختار الزجاج والأخفش أن جواب الأولى
(1/320)

محذوف أي كذبوا به مثلا وعليه يكون وكانوا من قبل إلخ مع ما عطف عليه من قوله تعالى : فلما جاءهم من الشرط والجزاء جملة معطوفة على لما جاءهم بعد تمامها تدل الأولى على معاملتهم مع الكتاب المصدق والثانية مع الرسول المستفتح به وأرتضاه بعض المحققين لما في الأولى من لزوم التأكيد والتأسيس أولى منه وإستعمال الفاء للتراخي الرتبي فإن مرتبة المؤكد بعد مرتبة المؤكد ولمافي الثاني من دخول الفاء في جواب لما مع أنه ماض وهو قليل جدا حتى لم يجوزه البصريون ولو جوز وقوعها زائدة فلما لا تجاب بمثلها لا يقال لما جاء زيد لما قعد عمرو أكرم تكبل هو كما ترى تركيب معقود في لسانهم مع خلو الوجهين عن فائدة عظيمة وهو بيان سوء معاملتهم مع الرسول وأستلزامهما جعل وكانوا حالا وأختار أبو البقاء إن كفروا جواب لما الأولى والثانية ولا حذف لأن مقتضاهما واحد وليس بشيء كجعل فلعنة الله على الكافرين 98 جوابا للأولى وما بينهما إعتراض واللام في الكافرين للعهد أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للأشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه وجوز كونها للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا وأعترض بأن دلالة العام متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء والجواب أن المراد دخولا قصديا لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم ويكون ذلك من الكناية الإيمائية ويصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه حتى إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال كقولهم لمن يقتني رذيلة ويصر عليهاأنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو من أبناء جنسكفاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونعى الله تعالى عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم وكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولا فيه لكونهم تسببوا أستجلاب هذا القول في غيرهم وجعل السكاكي من هذا القبيل قوله : إذا الله لم يسق إلا الكراما فيسقى وجوه عني حنبل فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لإخفاء فيه بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله أي باعوا فالأنفس بمنزلة المثمن والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الإستعارة أي إنهم أختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه وقيل : هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه فكأنه أشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما أعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم أشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم الله تعالى عليه وأعترض بأنه كيف يدعى أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأنه لا يشتري به الأنفس ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وأدعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به وقيل : يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع والكفر ببعضها كفر بكلها وأختلف في ما الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا وذهب
(1/321)

الجمهور إلى أن لها محلا وأختلف أهو نصب أم رفع فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة وفاعل بئس مضمر مفسر بها والتقدير بئس هو شيئا أشتروا به و أن يكفروا هو المخصوص بالذم والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الإستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا و أشتروا صفة له والتقدير بئس شيء أشتروا به و أن يكفروا بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة هي المخصوص بالذم و أشتروا صلتها والتقدير بئس شيئا الذي أشتروا وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس وهي معرفة تامة والمخصوص محذوف أي شيء أشتروا وعزى هذا إلى الكسائي ايضا وقيل : موصولة وهو أحد قولي الفارسي وعزاه إبن عطية إلى سيبويه وهو وهم ونقل المهدوي عن الكسائي أن ما مصدرية والمتحصل فاعل بئس واعترض بأن بئس لا تدخل على أسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى والتقديربئس إشتراء إشتراؤهم فلا يلزم الإعتراض نعم يرد عود ضمير به على ما والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فأفهم بغيا أن ينزل الله البغي في الأصل الإظلم والفساد من قولهمبغىالجرح فسد قاله الأصمعي وقيل : أصله الطلب وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد والتجاوز على الغير ظلم والزنا فجور والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤل إلى الحسد وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي وقيل : الظلم وإنتصابه على أنه مفعول له ل يكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر وذهب الزمخشري إلى أنه علة أشتروا ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لإخفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل والقول بأن المعنىعلى ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسداتحكم نعم قد يقال : إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوفوهو المختارفلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل بئس فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا إمتناع فيه وجعله بعضهم علة ل اشتروا محذوفا فرارا من الفصل ومنهم من أعربه حالا ومفعولا مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا و أن ينزل إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على أن ينزل والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل إشتمال من ما في قوله : بما أنزل الله بعيد جدا وربما يقرب منه ما قيل : إنه في موضع المفعول الثاني والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة وباللام أخرى والمفعول الأول ههنا أعني محمدا عليه الصلاة و السلام محذوف لتعينه وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسودكما لا يخفى وقرأ إبن كثير وأبو عمرو ويعقوب ينزل بالتخفيف من فضله أراد به الوحي و من لإبتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا من فضله وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش على من يشاء من عباده أي على من يختاره لرسالة وفي البحر أن المراد به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب ومن ولد إسماعيلولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة و السلام
(1/322)

وإضافةالعباد إلى ضميره تعالى للتشريف و من إما موصولة أو موصوفة
فباؤا بغضب على غضب تفريع على ما تقدم أي فرجعوا متلبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له حسبما أقترفوا من الكفر والحسد وروى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب الأول لعبادة العجل الثاني لكفرهم به صلى الله عليه و سلم وقال قتادة : الأول كفرهم بالإنجيل الثاني كفرهم بالقرآن وقيل : هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام أو قولهم : عزير إبن الله و يد الله مغلولة وغير دلك من أنواع كفرهم وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولايخفى أنفاء العطف يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم وقولهم : عزير إبن الله مثلا غير مذكور فيما سبق ويحتمل ان يراد بقوله سبحانه : بغضب على غضب الترادف والتكاثر لا غضبان فقط وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله : ولو كان رمحا واحدا لا تقيته ولكنه رمح وثان وثالث ومن الناس من زعم أنالفاء فصيحةوالمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر باؤا إلخ وليس بشيء
وللكافرين عذاب مهين 09 اللامفي الكافرين للعهد والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حلق بهم : ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل المعهودون فيه على طراز ما مر والمهين المذل وأصله مهون فأعل وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب والوصف به للتقييد والإختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهيرلا للإهانة والإذلال ولذا لم يوصف عداب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب ب الكافرين فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا وإذا قيل لهم ظرف ل قالو والجملة عطف على قالوا قلوبنا غلف ولا غرض يتعلق بالقائل فلذا بنى الفعل لما لم يسم فاعله والظاهر أنه من جانب المؤمنين
آمنوا بما أنزل الله الجمهور على أنه القرآن وقيل : سائر ما أنزل من الكتب الألهية إجراء لما على العموم ومع هذا جل الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الإمتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل وهو الظاهر وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم وإما أنفسهم 1ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن ودسائس اليهود مشهورة أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب الصغير المراد منه ويكفرون بما ورآءه عطف على قالوا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إستغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الأخبار وقيل : إستئناف وعليه إبن الأنباري ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو وإما على تقدير مبتدأ أي وهم
(1/323)

يكفرون والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضوا في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان بهوهذا أدخل في رد مقالتهم ولهذا أختار هذا الوجه بعض الوجوه ووراء في الأصل مصدر لإشتقاق المواراة والتواري منه والمزيد فرع المجرد إلاأنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني السائر ولصدقه على الضدين الخلف والإمام عد من الأضداد وليس موضوعا لهما وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والإستتار فما أستتر عنك فهو وراء خلفا كان أو قداماإذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك والمراد هنا بما بعده قاله قتادة أو بما سواه وبه فسر وأحل لكم ما وراء ذلكم وأريد به القرآن كما عليه الجمهور وقال الواحدي هو والإنجيل وإحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده
وهو الحق الضمير عائد لما وراءه حال منه وقيل : من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال كجاء زيد والشمس طالعة وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الإتصاف به معروفة من قبيل والدك العبد في فيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد وقيل : التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني مصدقا لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لأستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد مصدقا لما معهم حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا فالتصديق لازم لا ينتقل وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالإستدلال عليه ولهذا تضمنت رد قولهم نؤمن بما أنزل علينا حيث أن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها وإحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا
قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل أمر النبي أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع إدعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوغه ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدا لهم كائنا من كان والفاء جواب شرط مقدر أي إن كنتم مؤمنين فلم إلخ و ما إستفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغيرها وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على إستمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية وقيل : لحكاية تلك الحال والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه وهذا كما يقال لأهل قبيلة أنتم قتلتم زيداإذا كان القاتل آباءهم وقيل : القتل مجاز عن الرضا أؤ العزم عليه ولا يخفى أن الإعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر وفي إضافة أنبياء إلى الأسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل إن كنتم مؤمنين 19
(1/324)

تكرير للإعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي إن كنتم مؤمنين فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الإحتباك وقيل : إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبي زيد وأختاره في البحر وقال الإرجاج : إن هنا نافية ولا يخفى بعده
ولقد جاءكم موسى بالبينات داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا مايأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل والمراد بالبينات الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا واليد وإنفلاق البحر مثلا وقيل : الأظهر أن يراد بها الدلائل على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك ايضا أولى وأظهر ثم أتخذتم العجل أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها من بعده أي بعد مجيء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وإنفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة ثم على هذا للإستبعاد لئلا يلغو القيد وقد يقال : الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة ثم على حقيقتها وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهرويشير هذا العطف على أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك اعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم وألتزم بعضهم رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك وعود الضمير إلى العجل والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه وأنتم ظالمون 29 أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الإتخاذ وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث أن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من أرتكبها لم يترك شيئا من الظلم وأختار بعضهم كونها إعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم وأستمر منكم ومنه عبادة العجل والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك وفيه غفلة عما ذكرنا وإذا حمل الإتخاذ على الحقيقة نحو إتخذت خاتما تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الإتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور وأسمعوا أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لإقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله : دعوت الله حتى خفت أن لا يكون الله يسمع ماأقول قالوا سمعنا وعصينا أي سمعنا قولك خذوا وأسمعوا وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة وليس هذا جوابا ل أسمعوا بإعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى خذوا بلا جواب وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض
(1/325)

وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا نمتثل أحدهما دون الآخر ومرجعه إلى القول بالموجب ونظيره يقولون هو أذن قل أذن خير لكم وقيل : المعنى قالوابلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا وقيل : سمعنا جواب أسمعوا وعصينا جواب خذوا وقال أبو منصور : إن قولهم عصينا ليس على إثر قولهم سمعنا بل بعد زمان كما في قوله تعالى : ثم توليتم فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعدما سمعت كما لا يخفى
وأشربوا في قلوبهم العجل عطف على قالوا أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه والعامل قالوا والأشرابمخالطة المائع الجامد وتوسع فيه حتى صار في اللونين ومنه بياض مشرب بحمرة والكلام على حذف مضاف أي حب العجل وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف وذكرالقلوبلبيان مكان الأشراب وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا إذا ما القلب أشرب حب شيء فلا تأمل له عنه إنصرافا وقيل : أشربوامن أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به وقيل : من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض إستعاروا له أسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن ولذا قال الأطباء : الماء مطيةالأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن وقال الشاعر : تغلغل حيث لم يبلغ شراب ولا حزن ولم يبلغ سرور وقيل : من الشرب حقيقة وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم أشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه ولا يخفى أن قوله تعالى : في قلوبهم يبعد هذا القول جدا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا وبناءأشربواللمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى وقالت المعتزلة : هو على حد قول القائل أنسيت كذاولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري بكفرهم أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ماسول لهم وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل وقيل : الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر
قل بئسما يأمركم به إيمانكم أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى : أصلاتك تأمرك والمخصوص بالذم محذوفأي قتل الأنبياءوكذا وكذا وجوز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم : عصينا أمرك وأراه على القرب بعيدا
إن كنتم مؤمنين 39 قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى :
(1/326)

فلم تقتلون إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان أؤ الجملة الإنشائية السابقةإما بتأويل أو بلا تأويلوتقرير ذلك إن كنتم مؤمنين ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا أو إن كنتم مؤمنين بها ف بئسما أمركم به إيمانكم بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل لكن الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين والملازمة بين الشرط والجزاء على الأول بالنظر إلى نفس الأمر وإبطال الدعوى بلزوم التناقض وعلى الثاني تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع إدعائهم الإيمان والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر وأستظهر بعضهم في هذاونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي إن كنتم مؤمنين تعرفون أنه بئس المأمور به وقيل : إن نافية وقيل : للتشكيكوإليه يشير كلام الكشافوفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام لا للتشكيك على أنه لم يعهد إستعمال إن لتشكيك السامع كما نص عليه بعض المحققين وقرأ الحسن ومسلم بن جندب بهو إيمانكم بضم الهاء ووصلها بواو قل إن كانت لكم الدار الآخرة رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى الإيمان بما أنزل عليهم ولإختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر والآية نزلت فيما حكاه إبن الجوز يعندما قالت اليهود : إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه وقال أبو العالية والربيع : سبب نزولها قولهم : لن يدخل الجنة إلخ و نحن أبناء الله إلخ و لن تمسنا النار إلخ وروى مثله عن قتادة والضمير في قل إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم والمراد من الدار الآخرة الجنة وهو الشائع وأستحسن في البحر تقدير مضاف أي نعيم الدار الآخرة
عند الله أي في حكمه وقيل : المراد بالعندية والمرتبة والشرف وحملها على عندية المكان كما قيل به إحتمالا بعيد خالصة من دون الناس أي مخصوصة بكم كما تزعمون والخالص الذي لا يشوبه شيء أو مازال عنه شوبه ونصب خالصة على الحال من الدار الذي هو أسم كان و لكم خبرها قدم للإهتمام أو لإفادة الحصروما بعده للتأكيد وهذا إن جوز مجيء الحال من أسم كان وهوالأصح ومن لم يجوز بناءا على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر وقيل : خالصة هو الخبر و لكم ظرف لغو ل كان أو ل خالصة ولا يخفى بعده فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الأسم مع لزوم توسط الظرف بين الأسم والخبر وأبعد المهدوي وإبن عطية أيضا فجعلا خالصة حالا و عندالله هو الخبر مع أن الكلام لا يستقل به وحده و دون هنا للإختصاص وقطع الشركة يقال : هذا لي دونك وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب وهو متعلق ب خالصة والمراد ب الناس الجنس وهو الظاهر وقيل : المراد بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون وقيل : النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قالوا : ويطلق الناس ويراد به الرجل الواحدولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة فتمنوا الموت إن كنتم صادقين 49 في أن الجنة خالصة لكم فإن من أيقن أنه من أهل الجنة إختار أن ينتقل إلى دار القرار وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار كما روى عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة فقال له الحسن :
(1/327)

ما هذا بزي المحاربين فقال : يا بني لا يبالي أبوك سقط على الموت أم سقط عليه الموت وكان عبدالله إبن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم : ياحبذا الجنة وإقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها وقال عمار بصفين : غدا نلقي الأحبة محمدا وصحبه وروى عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما أحتضر قال : حبيب جاء على فاقة وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال : ياليتني غودرت معهم في لحف الجبل ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الإشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه إنما النهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابهفإنه أثر الجزع وعدم الرضا بالقاضءوفي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي والمراد بالتمني قول الشخص : ليت كذا وليت من أعمال القلب أو الإشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول فمعنى الآية سلوا الموت باللسان قاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو أشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم قاله قوموعلى التقديرين الأمر بالتمني حقيقة وإحتمال أن يكون المراد تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالحمما لا تساعده الآثار فقد أخرج إبن أبي حاتم بسند صحيح عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو تمنوا الموت لشر ق أحدهم بريقه وأخرج البيهقي عنه مرفوعا لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه والبخاري مرفوعا عنه أيضا لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا وقرأ إبن أبي إسحاق فتمنوا الموت بكسر الواو وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمر وفتحها وروى عنه أيضا إختلاس ضمتها ولن يتمنوه أبدا الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون مبهم من الأحجام الدال على كذبهم في دعواهم والمراد لن يتمنوه ما عاشوا وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روى عن نافع رضي الله تعالى عنه قال : خاصمنا يهودي وقال : إن في كتابكم فتمنوا الموت إلخ فأنا أتمنى الموت فمالي لا أموت فسمع إبن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب فدخل بيته وسل سيفه وخرج فلما رآه اليهودي فر منه وقال إبن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن عرفوا وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف ويؤيد هذا ما أخرج إبن جرير عن إبن عباس موقوفا لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقى على وجه الأرض يهودي إلا مات وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها دليل على إعترافهم بنبوته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما أمتنعوا من التمني وقيل : لا دليل بل الإمتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي بل هو أن يقول : ليت كذا ونحوه كما مر آنفا ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لأمرأته : أنت طالق إن شئت أو أحببت فإنه يعلق بالأخبار لا بالإضمار فحيث ثبت عدم تلفظهم بالاخبار وبأنه لو وقع لنقل وأشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر
(1/328)

عظيم يدور عليه أمر النبوة فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه ومن حمل التمني على المجاز لايرد عنده هذا السؤال ولا يحتاج إلى هذا الجواب وقد علمت ما فيه وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار ولست ممن يقول بذلك وإن أرتضاه الجم الغفير وقالوا : إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصارلا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها ومع هذا لي فيه نظر بعد بما قدمت أيديهم أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن وقتل الأنبياء و ما موصولة والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف واليد كناية عن نفس الشخصث ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه ومدار أكثر منافعه ولا يجعل الإسناد مجازيا واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر الأعضاء وهوأبلغ في الذم والله عليم بالظالمين 59 تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في إدعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم والمراد بالعلمإما ظاهر معناه أو أنه كنى به عن المجازاة وألإما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طراز ما تقدم
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتجدمن وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين والضمير مفعول أول و أحرص مفعول ثان وإحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد و أحرص حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت وقيل : على جميعهم وقيل : على علماء بني إسرائيل وألفي الناس للجنس وهو الظاهر وقيل : للعهد والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم وتنكير حياة لأنه أريد بها فرد نوعي وهي الحياة المتطاولة فالتنوين للتعظيم ويجوز أن يكون للتحقير فإن الحياة الحقيقيةهي الأخروية وأن الدار الآخرة لهي الحيوان ويجوز أن يكون التنكير للإبهام بل قيل : إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك والجملة إما حال من فاعل قل وعليه الزجاجوإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت وقرأ أبيعلى الحياةبالألف واللام ومن الذين أشركوا هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة وقيل : مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال : أحرص من الناس ومن الذين إلخ بناء على ما ذهب إليه إبن السراج وعبدالقاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات من الإبتدائية والجار والمجرور في محل نصب مفعوله وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام والمراد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور بمن مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجيء بمنفي الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضاف إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما
(1/329)

متقابلين ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أيوأحرص من الذينوهو قول مقاتل ووجه الآية على مذهب سيبويه وعلى التقديرين ذكرالمشركين تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في اللام لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا أحرص ممن لا يرجو ذلك ولا يؤمن ببعث ولا يعرف إلا الحياة العاجلة وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه وأحرصهم على أسباب التباعد منه ومن الناس من جوز كون من الذين صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في لتجدنهم والكلام على التقديم والتأخير أي لتجدنهم وطائفة منالذين أشركوا أحرص الناسولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق لأنه وإن كان معنى صحيحا في نفسهإلا أن التركيب ينبو عنه والفصاحة تأباه ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة نعم يحتمل أن يكون هناك محذوفهو مبتدأوالمذكور صفته أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته
يود أحدهم وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور من أوفيجائز في السعة وفي غيره مختص بالضرورة نحو
أنا إبن جلا وطلاع الثنايا
وحينئذ يراد ب الذين أشركوا اليهود لأنهم قالوا : عزير إبن الله ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك وجوز بعضهم أن يراد بذلك الجنس ويراد بمن يود أحدهم اليهود والمراد كل واحد منهموهو بعيدوجملة يود إلخ على الوجهين الأولين مستأنفة كأنه قيل : ما شدة حرصهم وقيل : حال من الذين أو من ضمير أشركوا أو من الضمير المنصوب في لتجدنهم لو يعمر ألف سنة جواب لو محذوفأي لسر بذلك وكذا مفعول يود أي طول الحياة وحذف لدلالة لو يعمر عليه كما حذف الجواب لدلالة يود عليه وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان وذهب بعض الكوفيين في مثل ذلك إلى أن لو مصدرية بمعنى أنفلا يكون لها جواب وينسبك منها مصدر هو مفعول يود كأنه قال : يود أحدهم تعمير ألف سنةوقيل : لو بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية ب يود في موضع المفعول وهو وإن لم يكن قولا ولا في معناه لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها وكان أصله لو أعمر إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة يود فإنه غائب كما يقال : حلف ليفعلن مقام لأفعلن وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول فإنه لا يجوز قال : ليفعلن وإذا قلنا : إن لو التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى إعتبار الحكاية وإبن مالك رضي الله تعالى عنه يقول : إن لو في أمثال ذلك مصدرية لا غير لكنها أشبهت ليت في الأشعار بالتمني وليست حرفا موضوعا له كليت ونحو لو تأتيني فتحدثني بالنصب أصله وددت لو تأتيني إلخ فحذف فعل التمني لدلالة لو عليه وقيل : هي لو الشرطية أشربت معنى التمني ومعنى ألف سنة الكثرة ليشمل من يود أن لا يموت أبدا ويحتمل أن يراد ألف سنة حقيقة والألف العدد المعلوم من الألفة إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته لا الأعداد وأصل سنة سنوة لقولهم : سنوات وقيل : سنه كجبهة لقولهم : سانهته وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون وسمع أيضا في الجمع سنهات وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ما حجازية أو تميمية وهو ضمير عائد إلى أحدهم أسمها أو مبتد أو بمزحزحه خبرها أو خبره والباء زائدة و أن يعمر
(1/330)

فاعل مزحزحه والمعنى ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره وفيه إشارة إلى ثبوت من يزحزحه التعمير وهو من آمن وعمل طالحا ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة ولا تدخل الباء في خبر ما وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء وأجاز ذلك أبو علي وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا أنتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد : نعم جوزوا أن يكون لما دل عليه يعمر و أن يعمر بدل منه أي ما تعيمره بمزحزحه من العذاب وأعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه وللإبدال من غير حاجة إليه وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظا لتعمير غير مذكور بل ضميره حسن الإبدال ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيد الا بدلا ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه إعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير ووداده إياهجاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر كما في التاكيد في قوله تعالى : وهم بالآخرة هم كافرون وقيل : هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائزكما يفهمه كلام الرضى في بحث أفعال المدح والذم وإحتمال أن يكون هو ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد والزحزحة التبعيد وهو مضاعف من زح يزح زحا ككبكب من كبوفيه مبالغة لكنها متوجهة إلى النفي على حد ما قيل : وما ربك بظلام للعبيد فيؤل إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثيرالتعمير وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل لكنهم لإقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل راد فيه حيث أستوجبوا بمقابلة أيام معدودة عذاب الأبد والله بصير بما يعملون 69 أي عالم بخفيات أعماله مفهو مجازيهم لا محالة وحمل البصر على العل وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى على ما ذهب إليه بعض المحققين وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر و ما إما موصولة أو مصدرية وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب تعملون بالتاء على سبيل الإلتفات قل من كان عدوا لجبريل أخرج إبن أبي شيبة في مسنده وإبن جرير وإبن أبي حاتم عن الشعبي أنه دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدارس اليهود يوما فسألهم عن جبريل فقالوا : ذاك عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وأنه صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل صاحب الخصب والسلام فقال : ما منزلتهما من الله تعالى قالوا : جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وبينهما عداوة فقال : لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو الله ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : لقد وافقك ربك يا عمر قال عمر : لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر وقيل : نزلت في عبدالله بن صوريا كان يهوديا من أحبار فدكسأل رسول الله عمن ينزل عليه فقال : جبريل فقال : ذاك عدونا عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر فبعثنا من يقتله فرآه ببابل فدفع عنه جبريل وقال : إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه وإلا فبم تقتلونه وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا وكبر بختنصر وقوى
(1/331)

وغزانا وخرب بيت المقدس روى ذلك بعض الحفاظ وقال العراقي : لم أقف له على سند فلعل الأول أقوى منه وإن أوهم صنيع بعضهم العكس و جبريل علم ملك كان ينزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقرآن وهو أسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه فمنعه من الصرف للعلمية والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة أفصحها وأشهرها جبريل كقنديل وهي قراءة أبي عمرو ونافع وإبن عامر وحفص عن عاصم وهي لغة الحجاز قال ورقة بن نوفل : وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل الثانية كذلك إلا أنها بفتح الجيم وهي قراءة إبن كثير والحسن وإبن محيصن قال الفراء : لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل وليس بشيء لأن الأعجمي إذ عربوه قد يلحقونه بأوزانهم كلجا موقد لا يلحقونه الكابر يسمو جبريل من هذا القبيل مع أنه سمع سموأ للطائر الثالث جبرئيل كسل سبيل وبها قرأ حمزة الكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد وحكاها الفراء وأختارها زجاج وقال : هي أجود اللغات وقال حسان : شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها الرابعة كذلك إلا أنها بدونياء بعد الهمزة وهي رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم وتروى عن يحيى بن يعمر الخامسة كذلك إلا أن اللام مشددة وهي قراءة أبان عن عاصم ويحيى إبن يعمر أيضا السادسة جبرائل بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء وبها قرأ إبن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة السابعة مثلها مع زيادة ياء بعد الهمزةالثامنة جبراييل بياءين بعد الألف وبها قرأ الأعمش وإبن يعمر ورواها الكسائي عن عاصم التاسعة جبرال العاشرة جبريل بالياء والقصر وهي قراءة طلحة بن مصرف الحادية عشرة جبرين بفتح الجيم والنون الثانية عشرة كذلك إلا أهابكسر الجيم وهي لغة أسد الثالثة عشرة جبراين قال أبو جعفر النحاس : جمع جبريل جمع تكسير على جبارين على اللغة العالية وأشتهر أن معناه عبدالله على أنجبر هو الله تعالى وإي لهو العبد قيل : عكسه ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف وفيه تأمل
فأنه نزله على قلبك جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الأنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا وأنه خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن الفاء داخلة على السبب ووقع جزاءا بإعتبار الأعلام والأخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك : إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته وقيل : الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه لأنه نزله على قلبك فليمت غيظا أو فهو عدو لي وأنا عدوه
(1/332)

والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم وإحتمال أن يكون من كان عدوا إلخ إستفهاما للإستعباد أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم والضمير الأول البارز لجبريل والثاني للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهراوقيل : الأول لله تعالى والثاني لجبريل أيفإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبكوفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى : ماأنزلنا عليك القرآن لتشقى بل قال : على قلبك لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنةوقيل : كنى بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله وقيل : معنى نزله على قلبك جعل قلبك متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض بإذن الله أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو بإختياره أو بتيسيره وتسهيله وأصل معنىالأذنفي الشيء الأعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية والعلاقة ظاهرة والمنتخبكما في المنتخب المعنى الأول والمعتزلةلما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الأذن إليه تعالى بإعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف أقتصر الزمخشري على الوجه الأخير والقول : إن الأذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر وبمعنى التيسير إن أريد به التحفظ والفهيم مما لا وجه له
مصدقا لما بين يديه من الكتب الآلهية التي معظمها التوراة وإنتصاب مصدقا على الحال من الضمير المنصوب في نزله إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين أحدهما أن يكون حالا من المحذوف لفهم المعنى كما أشرنا إليه والثاني أن يكون حالا من جبريل والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب وهدى وبشرى للمؤمنين 79 معطوفان على مصدقا فهما حالان مثله والتأويل غير خفي و خص المؤمنين بالذكر لأنه على غيرهم عمى وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى قيل : وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا : إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه
من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل فإن الله عدو للكافرين 89 العدوللشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع وقد يؤنث ويثنى ويجمع وهو الذي يريد إنزال المضار به وهذا المعنى لايصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة وإما عن عداوة أوليائه وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الأضرار جار ليهم غاية ما في الباب أن عداوتهم لاتؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم وصدر الكلام على الإحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى وأفرد الملكان بالذكر تشريفا
(1/333)

لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله : فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال وقيلك لان اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما وقيل : للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر وإستجلاب العداوة من الله تعالى وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن أختلف بحسب التوهم والإعتقاد ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل وأستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور وأستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح وأعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح وأنا اقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا عليها من مزيد صحبته لحبيب الحق بالإتفاق وسيد الخلق على الأطلاق وكثرة نصرته وحبه له ولأمته ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى الله تعالى عليه عليه السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين وأخرج الطبرانيلكن بسند ضعيفعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله ألا أخبركم بأفضل الملائكة جبرائيل وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال : بلغني أن جبريل إمام أهل السماء ومن شرطية والجواب قيل : محذوف وتقديره فهو كافر مجزي بأشد العذاب وقيل : فإن الله إلخ على نمط ما علمت وأتى بأسم الله ظاهرا ولم يقل فإنه عد ودفعا لإنفهام غير المقصود أو التعظيم والتفخيم والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالأسم الذي تقدم له ومنه لينصرنه الله إن الله وقوله
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وأل في الكافرين للعهد وإيثار الأسمية للدلالة على التحقيق والثبات ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج سلى الأخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور وقيل : يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله تعالى للمآلوهو إحتمال أبعد من العيوقويحتمل أن تكونأل للجنس كما تقدم ومن الناس من روى أن عمر رضي الله تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا بالبعض اليهود في قوله ذاك عدونا يعني جبريل فنرلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه إبن عطية والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل واشتهر أن معناه عبيدالله وقيل : عبدالله وفيه لغات الأولى ميكال كمفعال وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز الثانية كذلك إلا أن بعد الألف همزة وقرأ بها نافع وإبن شنبوذ لقنبل الثالثة كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة وبها قرأ حمزة والكسائي وإبن عامر وأبو بكر وغير إبن شنبوذ لقنبل والبزي الرابعة ميكئيل كميكفيل وبها قرأ إبن محيصن الخامسة كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزةوقريء بها السادسة ميكائيل بياءين بعد الألف أولهما مكسورة وبها قرأ الأعمش
ولساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذين الملكين بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام أيضاكلام مبسوط والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي
(1/334)

أعوانه وبعضها بنفسه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال
ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون 99 نزلت بسبب إبن صوريا كما روى عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قال لرسول الله : ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك وجعلت عطفا على قوله تعالى : قل من كان عدوا إلخ عطف القصة عى القصة وما يكفر عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام بحرف النفي و الآيات القرآن والمعجزات والأخبار عما خفى وأخفى في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الأطلاق و الفاسقون المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجتريء على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسن : إذا أستعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل : هو فاسق في الشرب فمعناه هوأكثر إرتكابا له وإذا قيل : هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد إرتكابا له وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة أو كلما عاهدوا عهدا نزلت في مالك بن الصيف قال : والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ولا ميثاق وقيل : في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به وقال عطاء : في اليهود عاهدوا رسول الله بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة وفي ذلك تسلية له وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم والواو للعطف على محذوف أي أكفروا بالآيات وكلما عاهدوا وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن كلما ظرف نبذه والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى : وما يكفر بها إلخ وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد أو كلما عاهدوا وفيه مع إرتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد وقال الأخفش : هي زائدة والكسائي هيأو الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين نعم قرأ إبن السماك العدوي وغيره أو بالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال : إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح والعطفعلى هذاعلى صلة الوصول الذي هواللامفي الفاسقون ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ اللام الموصولة كأنه قيل : إلا الذين فسقوا بل كلما عاهدوا والقرينة على ذلك بل أكثرهم إلخ وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة وألتدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى : إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا لإغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل
ومن الناس من جوز هذا العطف بإحتماليه على القراءة الأولى أيضا ولم يحتج إلى ذلك المحذوف وقرأ الحسن وأبو رجاء عوهدوا وإنتصاب عهدا على أنه مصدر على غير الصدر أي معاهدة ويؤيده أنه قريء عهدوا أو على أنه مفعول به بتضمين عاهدوا معنى أعطوا نبذة فريق منهم أي نقضه وترك العمل به وأصل النبذ
(1/335)

طرح ما لا يعتد به كالنعل البالية لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الإعتداد به ونسبة النبذ إلىالعهد مج إنما هو في المتجسدات نحو فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم والفريق أسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير وإنما قال : فريق لأن منهم من لم ينبذه وقرأ عبدالله نقضه قال في البحر : وهي قراءة تخالف سواد المصحف فالأولى حملها على التفسير وليس بالقوي إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه بل أكثرهم لايؤمنون 001 يحتمل أن يراد بالأكثر النابذون وأن يراد من عداهم فعلى الأول يكون ذلك ردا لما يتوهم أنا لفريقهم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل وعلى الثاني رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا والعطف على التقديرين من عطف الجمل ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على فريق وجملة لا يؤمنون حال من أكثرهم والعامل فيها نبذه ولما جاءهم رسول ظرف ل نبذ والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكاروالضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط والرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم والتكثير للتفخيم وقيل : عيسى عليه السلام وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله : لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بليلى ولا أرسلتهم برسول خلاف الظاهر من عند الله متعلق ب جاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل مصدق لما معهم أي من التوراة من حيث أنه صلى الله تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين وإخبار الأمم والمواعظ والحكم أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها وحمل بعضهم ما على العموم لتشمل جميع الكتب الآلهية التي نزلت قبل وقرأ إبن أبي عبلة مصدقا بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام كما توهمه بعضهم من اللحاق لأن النبذ عند مجيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذ بالذكر مع إندراجه في قوله تعالى : أو كلما عاهدوا إلخ لأنه معظم جناياتهم ولأنه تمهيد لما يأتي بعد والمراد بالإيتاء إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل ولم يقل : فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ كتاب الله مفعول نبذ والمراد به التوراة لما روى عن السدي أنه قال : لما جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فأتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن فهذا قوله تعالى : ولما جاءهم رسول إلخ ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملةوهومتحقق بالنسبة إليهاوأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأولوأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه وأعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد ومعنى نبذهم لها إطراح أحكامها أو ما فيها من صفة النبي وقيل : القرآن ؤايده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة وهم بالعكس
(1/336)

يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولايؤمنون به بعدما لزمهم تلقيه بالقبول وقيل : الإنجيل وليس بشيء وأضاف الكتاب إلى الأسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما أجترؤا عليه من الكفر به
ورآ ظهورهم جمع ظهر معروف ويجمع أيضا على ظهران وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمي به وراء الظهر والجامع عدم الإلتفات وقلة المبالاة ثم أستعمل ههنا ما كان مستعملا هناك وهو النبد وراء الظهر والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى ومنه قوله : تميم بن مر لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيي عليك جوابها ويقولون أيضا : جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم كأنهم لا يعلمون 101 جملة حالية أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أولا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا على تقدير أن يراد الأحبار وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحقه لديهم وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا وجعل المتعلق أنه نبي صادق بعيد وقد دلت الآيتان قوله تعالى : أو كلما عاهدوا إلخ وقوله تعالى : ولما جاءهم إلخ بناء على إحتمال أن يكون الأكثر غير النابذين على أن جل اليهود أربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم ب بل أكثرهم لايؤمنون وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود وهم المعنيون بقوله تعالى : نبذ فريق منهم وفرقة لم يجاهروا ولكن نبدوا لجهلهم وهم الأكثر ونوفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا وهم المتجاهلون وأتبعوا ما تتلوا الشياطين عطف على نبذ والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب على ما تقدم عن السدي وقيل : عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة والضمير للذين تقدموا من اليهود أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل ما وإتباعهم هذا ليس مترتبا على مجيء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه ان ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور اللهم إلا أن يكون المبني غيره وقيل : عطف على أشربوا وهو في غاية البعد بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف والمراد بالإتباع التوغل والإقبال على الشيء بالكلية وقيل : الإقتداء و ما موصولة وتتلوا صلتها ومعناه تتبع أو تقرأ وهو حكاية حال ماضية والأصل تلت وقول الكوفيين إن المعنى ما كانت تتلوا محمول على ذلك لا أن كان هناك مقدرة والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين وقيل : المراد بهم شياطين الإنس وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقرأ الحسن والضحاك الشياطون على حد ما رواه الأصمعي عن العرب بستان فلان حوله بساتون وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل : إنه لحن على ملك سليمان متعلق ب تتلوا وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه أو الملك مجاز عن العهد وعلى التقديرين على بمعنى فيكما أنفيبمعنى على في قوله تعالى : لأصلبكم في جذوع النخل وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك
(1/337)

وكذا العهد لا يصلح كونه مقرؤا عليه ومن الأصحاب من أنكر مجيء على بمعنى في وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه فالكلام على حد قرأت على المنبر والمراد بما يتلونه السحر فقد أخرج سفيان بن عيينة وإبن جرير والحاكم وصححه عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة فأشربتها قلوب الناس وأتخذوها دواوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داؤد فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع قالوا نعم فأخرجوه فإذا هوسحر فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر وقيل : روى أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته وإطلاع الناس على تلك الكتب أوهموهم أنها من علم سليمان ولا يخفى ضعف هذه الرواية وسليمان كما في البحرأسم أعجمي وأمتنع من الصرف للعلمية والعجمة ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونونها مان وما هان وشامان وليس إمتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الإشتقاق والتصريف وهما لايدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه وما كفر سليمان إعتراض لتبرئة سليمان عليه السلام عما نسبوه إليه فقد أخرج إبن جرير عن شهر بن حوشب قال : قال اليهود : أنظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرا يركب الريح وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة لكن الإستدراكية في قوله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فإن كفروا معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة يعلمون حال من الضمير وقيل : من الشياطين ورد بأن لكن لا تعمل في الحال وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل بدل من كفروا وقيل إستئناف والضميرللشياطين أو للذين أتبعوا و السحر في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة ويستعمل بما لطف وخفى سببه والمراد به أمر غريب يشبه الخارق وليس بهإذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بإرتكاب القبائح قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره وعملا كعبادة الكواكب وإلتزام الجناية وسائر الفسوق وإعتقادا كأستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخيانة والنجاسة قولا وفعلا وإعتقادا وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي فلا يرد ما قال المعتزلة : من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والأخبار عن المغيبات لأشتبه طريق النبوة بطريق السحر وأما ما يتعجب منهكما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآةت المركبة على النسبة الهندسية تارة وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أؤ يريه صاحب خفة اليدفتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا
(1/338)

عند البعض وصرح النووي في الروضة بحرمته فسره الجمهور بأنه خارق العادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام والمعتزلة وأبو جعفر الإستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له وإنما هو تخييل وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك إنسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفىومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة بإقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني : لا يروى خلاف في ذلك وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منهوفيه بحث : أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لايمتري في كفر فاعله وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك ولعله إلى الأصول أقرب والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقر بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل : وأحتج بما روى أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فأعترفت بذلك فأمرت عبدالرحمن بن زيد فقتلها وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه وبما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : أقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر والشافعية نظروا في هذا الإحتجاج وأعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره فالمؤمن مثله لقوله عليه السلام : لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين وتحقيقه في الفروع وأختلف في تعليمه وتعلمه فقيل : كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر وقيل : إنهما حراما نوبه قطع الجمهور وقيل : مكروهان وإليه ذهب البعض وقيل : مباحان والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال وإليه مال الإمام الرازي قائلا : أتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لايقتل به فيفتي به في وجوب القصاص إنتهى والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر أما أولا فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته وإنما قبحه بإعتبار ما يترتب عليه فتحريمه
(1/339)

من باب سد الذرائعوكم من أمر حرم لذلكوفي الحديث من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وأما ثانيا فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع ألأ ترى أن أكثر العلماء أو كلهم إلا النادرعرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحروكفى فارقا بينهما ما تقدم ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل أو أنه أخل به كما أخلوا وأما ثالثا فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه على ما ذكره العلامة إبن حجر إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتال الساحر وإلا فلا هذا وقد أطلق بعض العلماء السحر على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب لما فيه من الإستمالة ويسمى سحرا حلالا ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم : إن من البيان لسحرا والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث وظاهر قوله تعالى : يعلمون إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم وقيل : يدلونهم على تلك الكتب فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك والإطلاق عليه هو الإطلاق وقيل : يعلمون بمعنى يعلمون من الأعلام وهو الأخبار أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه السحر وقرأ نافع وعاصم وإبن كثير وأبو عمرو لكن بالتشديد وإبن عامر وحمزة والكسائي بالتخفيف وإرتفاع ما بعدها بالإبتداء والخبر وهل يجوز إعماله إذا خففت فيه خلاف والجمع على المنعوه والصحيح وعن يونس والأخفش الجواز والصحيح إنها بسيطة ومنهم من زعم أنها مركبة من لا النافيةوكاف الخطاب وأن المؤكدة المحذوفة الهمزة للإستثقال وهو إلى الفساد أقرب وما أنزل على الملكين المراد الجنس وهو عطف على السحر وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله :
إلى الملك القرم وإبن الهمام
البيت وفائدة العطف التنصيص بأنهم يعلمونما هو جامع بين كونه سحرا وبين كون نزلا على الملكين للإبلاى فيفيد ذمهم بإرتكابهم النهي بوجهين وقد يراد بالموصول المعهود وهو نوع آخر أقوى فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله وقال مجاهد : هو دون السحر وهوما يفرق به بين المرء وزوجه لا غير والمشهور الأول وجوز العطف على ما تتلوا فكأنه قيل : أتبعوا السحر المدون في الكتب وغيره وهذان الملكان أنزلا لتعليم السحر إبتلاء من الله تعالى للناس فمن تعلم وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما أمتحن قوم طالوت بالنهر وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث أنه كثر في ذلك الزمان وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق قيل : كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام وأما ما روى أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به وقالوا له تعالى : لو كنا مكانهم ما عصيناك فقال : أختاروا ملكين منكم فأختاروهما فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين وألقى الله تعالى عليهما الشبق وحكما بين الناس فأفتتنا بأمرأة يقال لها زهرة فطلباها وأمتنع إلا أن يعبدا صنما أو يشربا خمرا أو يقتلا
(1/340)

نفسا ففهلا ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء فصعدت ومسخت هذا النجم وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة فأختاروا عذاب الدنيا فهما الآن يعذبان فيها إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيءلا سقيم ولا صحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس هو شيئا يؤخذ بالقياسوذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولاإبن عمر رضي الله تعالى عنهما خلافا لمن رواه وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة ونص الشهاب العراقي على أن من إعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم فإن الملائكة معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون
يسبحون الليل والنهار لا يفترون والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السموات والأرض والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول وأعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد وإبن حبان والبيهقي وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على علي وإبن عباس وإبن عمر وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها وذهب بعض المحققين أن ما روى مروى حكاية لما قاله اليهود وهو باطل في نفسه وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية ولا يرد ما قاله الإمام السيوطي عليه إنما يرد على المنكرين بالكلية ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس ومن المرأة المسماة بالزهرةالنفس الناطقة ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاحية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب إنتصاحها لنصحهما ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز : إن الروح والعقل الذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه فأكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به ثم مسخ بأن أنقطع التعلق وتفرقت العناصر وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الإتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وأنعكس القرب بالعبد وقيل : المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن أتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة ومن كان أمرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك وأتصلت إلى سماء المنازل والمراتب وكتب بعضهم لحله مل وأيم الله نفسي نفسي وطال في مكث حياتي حبسي أصبح في مضاجعي وأمسي أمسي كيومي وكيومي أمسي ياحبذا يوم نزولي رمسي مبدأ سعدي وإنتهاء نحسي وكل جنس لاحق بالجنس من جوهر يرقى بدار الأنس
(1/341)

وعرض يبقى بدار الحس هذا ومن قال : بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا وقال : غلطا وفتح بابا من السحر يضحك الموتى ويبكي الأحياء وينكس راية الإسلام ويرفع رؤوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين وقرأ إبن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك الملكين بكسر اللام حمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين بإعتبار صلاحهما ويؤيده ما قيل : إنهما داؤد وسليمان ويرده قول السحن إنهما علجان كانا ببابل العراق وبعضهم يقول إنهما من الملائكة ظهرا في صورة الملوكوفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم والإنزالإما على ظاهره أو بمعنى القذف في قلوبهما ببابل الباء بمنى في وهي متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من الملكين أو من الضمير في أنزل وهي كما قال إبن عباس وإبن مسعود رضي الله تعالى عنهما : بلد في سواد الكوفة وقيل : بابل العراق وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين وقيل : جبل دماوند وقيل : بلد بالمغرب والمشهور اليوم الثاني وعند البعض هو الأول قيل وسميت بابل لتبليل الألسنة فيها ند سقوط صرح نمرود وأخرج الدينوري في المجالسة وإبن عساكر من طريق نعيم بن سالموهو متهم عن أنس بن مالك قال : لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فأجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره وأقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب إبن قحطان فقيل له : يايعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى أفترقوا على أثنين وسبعين لسانا وأنقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا وعندى في القولين تردد بل عدم قبول والذي أميل إليه أن بابل أسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش وأنه في الأصل أسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها ولعل دلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام أسم لدجلة وقد رأيت لذلك تفصيلا لاأدريه اليوم في اي كتاب وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ ومنع بعضهم الصلاة بأرض إحتجاجا بما أخرج أبو داؤد وإبن أبي حاتم والبيهقي في سننه ممن علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي نهاني أنأصلي بأرض بابل فإنها ملعونة وقال الخطاب على إسناد على هذا الحديث مقال ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال : نهاني ومثله حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولاأقول نهاكم وكان ذلك إنذارا منه بما لقى من لمحنة في تلك الناحية هاروت وما روت عطف بيان للملكين وهما أسمان أعجميان لهما منعا من لصرف للعلمية والعجمة وقيل : عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر وكان أسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك ويشكل عليه منعهما من الصرف وليس إلأ العلمية وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال : إنهما معدولان من الهارت والمارت وإنحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم وهو كما ترى وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي : إن هاروت وماروت
(1/342)

بدل من الشياطين على قراءة التشديد و ما في وما أنزل نافية والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لآن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل ونص عليهما بالذكر لتمردهما ولكونهما رأسا في التعليم أؤ بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الإثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة وأعجب من قوله هذا قوله : وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها ولا تلتفت إلى ما سواه ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤن حمل كلام الله تعالىوهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأواه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى وقيل أنهما بدل من الناس أي يعلمون الناس خصوصا هاروت وماروت والنفي هو النفي
وما يعلمان منأحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن إبتلاء من الله عزوجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فلا تكفر بإعتقاده وجواز العمل به وقيل : فلا تتعلم معتقدا إنه حق حتى تكفر وهو مبنيعلى رأي الإعتزالمن أن السحر تمويه وتخييل ومنأعتقد حقيته يكفر و من مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الإستغراق وإفرادالفتنةمع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا والحمل مواطأة للمبالغة والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه و حتى للغاية وقيل : بمعنى إلا والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون والظاهر أن القول مرة واحدة والقول : بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لأثبت له وأختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة إختلافة واحدة فيتعلمان منهما وقيل وهو الظاهر : إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية وأما ماأخرجه إبن جرير وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : قدمت علي أمرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت : كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت : إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما فقالا : ما جاء بك فقلت : أتعلم السحر فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وأرجعي فأبيت وقلت : لا قالا : فأذهبي إلى ذلك التنور فبولي به إلى أن قالت : فذهبت فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه فجئتهما ودكرت لهما فقالا : صدقتذلك إيمانك خرج منك أذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان الخبر بطولهفهو ونظائرهمما ذكره المفسرون من القصص في هذا البابمما لايعول عليه ذوو الألباب والإقدام على تكذيب مثل هذه الأمرأة الدوجندية أولى من إتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم وياليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام وأستدل بالآية من جوز تعلم السحر ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم والتعلم مطاوع له بل هما متحدان بالذات مختلفان بالإعتبار كالإيجاب
(1/343)

والوجوب ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للإبتلاء والتمييز كما قدمنا وقد ذكر القائلون بالتحريم : إن تعلم السحر إذا فرض فشوه في صقع وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبهوإن كان أغلب أحواله التحريموهذا لاينافي إطلاق القول به ومن قال : إن هاروت وماروت من الشياطين قال : إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويوقلا إنا مفتوتان بإعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر وحينئذ لا إستدلال أصلا وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر وحكى المهدوي أنه على سبيل الإستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين وقرأ طلحة بن مصرفي علمان بالتخفيف من الأعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد وقرأ أبي بظهار الفاعل فيتعلمون منهما عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال : يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون وليس عطفا على المنفي بدون هذا الإعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج وعطفه بعضهم على يعلمان محذوفا وبعضهم على يأتون كذلك والضمير المرفوع لما دل عليه أحد وهو الناس أولاحدحملا له على المعنى كما في قوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين وحكى المهدوي جواز العطف على يعلمون الناس فمرجع الضمير حينئذ ظاهر وقيل : في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة إبتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الأسمية على الفعليةونسب ذلك إلى سيبويه وليس بالجيد وضمير منهما عائد على الملكين و من الناس من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر وعطف يتعلمون على يعلمون وحمل ما يعلمان على النفي و حتى يقولا على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حتى يقولا إلخ فهو كقولك : ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا وجعلما أنزلأيضا نفيا معطوفا علىما كفروهو كما ترىما يفرقون به بين المرء وزوجه أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفرق بينهما وقيل : المراد ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه اناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم والمرءالرجل والأفصح فتح الميم مطلقا وحكى الضم مطلقا وحكى الإتباع لحركة الإعراب ومؤنثه المرأة وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا : المرؤن والزوج أمرأة الرجل وقيل : المراد به هنا القريب والأخ الملائم ومنه من كل زوج بهيج و أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وقرأ الحسن والزهري وقتادة المر بغير هوز مخففا وإبن أبي إسحاق المرء بضم الميم مع الهمز والأشهب بالكسر والهمز ورويت عن الحسن وقرأ الزهري أيضاالمربالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء وما هم بضارين به من أحد الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير فيتعلمون وقيل : لليهود الذين عاد إليهم ضمير وأتبعوا وقيل للشياطين وضمي به عائد لما و من زائدة لإستغراق النفي كأنه قيل : وما يضرون به أحدا وقرأ الأعمش بضاري محذوف النون وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان أسم الفاعل ليس صلةلألفقد نص إبن مالك على عدم الإشتراط لقوله : ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي لكم غير أنا أن نسالم نسالم وقولهم : قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا وقيل : إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله : ياتيم تيم عدى في أحد الوجوه وقيل : للإضافة إلى أحد على جعل الجار جزأ منه والفصل بالظرف
(1/344)

مسموع كما في قوله : هما أخوا في الحرب من لا أخاله وإن خاف يوما كبوة فدعا هما وأختار ذلك الزمخشري وفيه أن جعل الجار جزءا من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر فيه وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال إبن جني : إن هذه القراءة أبعد الشواذ إلا بإذن الله إستثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضميرضارينأؤ من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المحذوف في به أو المصدر المفهوم من الوصف والمراد من الأذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحرقاله الحسنوفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء الله تعالى حال بينه وبينه وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات وقيل : الأذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل بجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية وقيل : إنه هنا بمعنى العلم وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين
ويتعلمون ما يضرهم لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لاسيما عمل الشر الذي هو هوى النفس فصيغة المضارع للحال على الأول وللإستقبال على الثاني ولا ينفعهم عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لايقصدون به التخلص عن الإغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة وفي الإتيان ب لا إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق له بإنتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغلمن ألقى السمع وهوشهيدعن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه ولقد علموا متعلق بقوله تعالى : ولما جاءهم إلخ وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود وقيل : الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام وقيل : للملكين لأنهما كانا يقولان فلا تكفر وأتى بمضير الجمع على قول من يرى ذلك لمن اشتراه أي أستبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله واللام للإبتداء وتدخل على المبتدأ وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام إبتداء كما يشير إليه كلام الرضى وقد علقت هنا علم عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعول ينفمن موصولة مبتدأ و أشتراه صلتها وقوله تعالى : ماله في الآخرة من خلاق جملة إبتدائية خبرها ومنمزيدة في المبتدأ و في الآخرة متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه والخلاق النصيب قاله مجاهدأو القوا مقاله إبن عباس رضي الله تعالى عنهما أو القدر قاله قتادة ومنه قوله : فما لك بيت لدى الشامخات ومالك في غالب من خلاق
(1/345)

قال الزجاج : وأكثر ما يستعمل في الخير ويكون للشر على قلة وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم و من شرطية مبتدأ و أشتراه خبرها و ماله إلخ جواب القسم وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا أجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج رد من قال بشرطية من هنا بأنه ليس موضع شرط ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومنى لأن الإشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلابد أن يكون مستقبلا معنى وقد ذكر الرضى فيلزيد قائمأن الأولى كون اللام فيه لام الإبتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح أما الأول فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما أرتضاه الرضى وأما الثاني فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الأسم الظاهر
ولبئس ما شروا به أنفسهم اللام فيه لام إبتداء أيضا والمشهور إنها جواب القسم والجملة معطوفة على القسمية الأولى و ما نكرة مميزة للضمير المبهم فيبئسوالمخصوص بالذم محذوف و شروا يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهرأي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهمأي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء وفي البحر بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر لو كانوا يعلمون 301 أي مذممومية الشراء المذكور لأمتنعوا عنه ولا تنافى بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف أو لأن الأول هو العلم بالجملة والثاني هو العلم بالتفصيل فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته حيث أنهم لم يعملوا بعلمهم أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى لو كانوا يعلمون معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لإمتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون وهذا هو الخبر الملقى إليهم وأعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحق في ولقد علموا نقضيه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من أشتراه ماله في الآخرة من خلاقبل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه : أما أولا فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد وأما ثانيا فبأن المستفاد من ولقد علموا ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول يعلمون ما دل عليه ل بئسما شروا إلخ أعني مذمومية الشراء ومفعول علموا أنه لا نصيب لهم
(1/346)

في الآخرة والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحتهفلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبقوفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذموميةمما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول والقول بأن مفعول علموا محدوف أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم و لمن أشتراه مرتبط بأول القصة وضمير لبئسما شروا لمن أشتراه ركيك جدا و بئسما يشتري ودفع التنافي بأنه أثبت أولا العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا لأن بئس للذم العام فالمنفي العلم بالسوء المطلقيعني لو كانوا يعلمون ضرره في الدين والدنيا لأمتنعوا إنما غرهم توهم النفع العاجل أو بأن المثبت أولا العلم بأن ما شروه ما لهم في الآخرة نصيب منه لا أنهم شروا أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه أما أولا فلأن عموم الذم في بئس وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنةوإلتزام ذلك لا يخلو عن كدروأما ثانيا فلأن تخصيص النصيب بمنه مع كونه نكرة مقرونة ب من في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن والجواببإرجاع ضمير علموا للناس أؤ الشياطين و أشتروا لليهود إرتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه ولا قرينة واضحة تدل عليه وبعد كل حسابالأولى عندي في الجواب كون الكلام مخرجا على التنزيل ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل والأجوبة التي ذكرت من قبلمع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهرلا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر
ولو أنهم آمنوا أي بالرسول أو بما أنزل إليه من الآيات أو بالتوراة وأتقوا أي المعاصي التي حكيت عنهم لمثوبة من عند الله خير جواب لو الشرطية وأصلهلأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم فحذف العل وغير السبك إى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخبريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق كأنه قيل : لمثوبة دائمة خير لدوامها وثباتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه ولم يقل : لمثوبة الله مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا الفانية فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى وببيان الأصل أنحل إشكالان لفظي وهو أن جواب لو إنما يكون فعلية ماضوية ومعنوي وهو أن خيريةالمثوبةثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه ولهذين الإشكالين قال الأخفش وأختاره جمع : لسلامته من وقوع الجملة الإبتدائية في الظاهر جوابا ل لو ولم يعهد ذلك في لسان العرب كما في البحرأناللامجواب قسم محذوف والتقديرولو أنهم آمنوا وأتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير وبعضهم ألتزم التمنيولكن من جهة العباد لا من جهته تعالىخلافا لمن أعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ ويكون الكلام مستأنفا كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل : ما هذا التحسر والتمني فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان وذهب أبو حيان إلى أن خير هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد
فخيركما لشركما فداء
والمثوبة مفعلةبضم العينمن الثواب فنقلت
(1/347)

الضمةإلى ما قبلها فهو مصدر ميمي وقيل : مفعولة وأصلها مثووية فنقلتضمة الواوإلى ما قبلها وحذفت لإلتقاء الساكنين فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقةكما نقله الواحديويقال : مثوبة بسكون الثاء وفتح الواووكان من حقها أن تعل فيقال : مثابةكمقامةإلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك والمراد بها الجزاء والأجر وسمى بذلك لأن المحسن يثوب إليه والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد لو كانوا يعلمون المفعول محذوف بقرينة السابق أي إن ثواب الله تعالى خير وكلمة لو إما للشرط والجزاء محذوفا أي آمنوا وإما للتمني ولا حذف ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل أؤ لترك التدبر هذا ومن باب الإشارة في الآيات وأتبعوا أي اليهود وهي القوى الروحانية ما تتلوا الشياطين وهم من الإنس المتمردون الأشرار ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع والنفوس الارضية المظلمة القوية على عهد ملك سليمان الروح الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه وما كفر سليمان بملاحظة السوى وإتباع الهوى وإسناد التأثير إلى الأغيار ولكن الشياطين كفروا وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم
يعلمون الناس السحر والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك وما أنرل على الملكين وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها بإستجذاب النفس إياهما ببابل الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه ومواد الغضب وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات وما يعلمان من أحد حتى يقولا له إنما نحن إمتحان وإبتلاء من الله تعالى فلا تكفر وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما فإن العقل دائما ينبه صاحبهإذا صحا عن سكرته وهب من نومتهعن الكفر والإحتجاب فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين القلب والنفس أو بين الروح والنفس بتكدير القلب ويتعلمون ما يضرهم بزيادة الإحتجاب وغلبة هوى النفس ولا ينفعهم كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها ولقد علموا لمن أشتراه ماله في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه وإنهماكه برؤية الأغيار ولو أنهم آمنوا برؤية الأفعال من الله تعالى وأتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة من عند الله تعالى دائمة ولرجعوا إليه وذلك خير لهم لو كانوا من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان
ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الرعى حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا وسبب نزول الآيةكما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن إبن عباس رضي الله تعالى عنهأن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة و السلام يقولون : أعلنوا بها فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم فأنرل الله تعالى هذه الآية وروى أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه قالوا : أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونهى المؤمنون سدا للباب وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة وأخرج عبيد وإبن جرير والنحاس عن عطاء قال : كانت راعنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم
(1/348)

وأستعملها اليهود سبا فنهوا عنها وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا وقيل : ومنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى أسمعلا سمعتوقيل : أرادوا نسبته صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا : راعنا أي يا أحمقفالالف حينئذ لمد الصوتوحرف النداء محذوفوقد ذكر الفراء أن أصل ياريد يازيدابالألفليكون المنادي بين صوتين ثم أكتفى بيا ونوى الألف ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر أيرعنت رعونة أو أرادوا صرت راعنا وإسقاطالتنوينعلى إعتبار الوقف وقد قرأ الحسن وإبن أبي ليلى ؤابو حيوة وإبن محيصن بالتنوين وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف أي قولا : راعنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة كلا بن وتامر ووصف القول به للمبلغة كما يقال : كلمة حمقاء وقرأ عبدالله وأبي راعونا على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقيركما أثبته الفارسيوذكر أن في مصحف عبدالله أرعونا وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الإشتراك في الغالب فيكون المعنى عليه ليقع منك رعى لنا ومنا رعى لك وهو مخل بتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل وقولوا أنظرنا أي أنتظرنا وتأن علينا أو أنظر إلينا ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف وكان الأصل أن يتعدى الفعل بالي لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله : ظاهرات الجمال والحسن ينظر ن كما ينظر الأراك الظباء وقيل : هو من نظر البصيرة والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الإستئناس قبل بالنهي وقرأ أبي والأعمش أنظرنا بقطع الهمزة وكسر الظاء من الظاء من الأنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما أخترناه وأسمعوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الإستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى أرتكبوا ما تسبب للمحذور والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم
وللكافرين عذاب أليم 401 اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله كفر يوجب أليم العذاب وفيه من تأكيد النهي ما فيه وجعلها للجنسفيدخل اليهود كما أختاره أبو حيانليس بظاهر على ما قيل : لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا
ما يود الذين كفروا منأهل الكتاب ولا المشركين الود محبة الشيء وتمني كونه ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا والفارق كون مفعوله جملة إذا أستعمل في التمني ومفردا إذا أستعمل في المحبة فتقول على الأول : وددت لو تفعل كذا وعلى الثاني وددت الرجل ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة
(1/349)

إلى أن أولئك متلبسون بها و من للتبيين وقيل : للتبغيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى و لا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين لما أن مبني النفي الحسد واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد إبتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في لم يكن وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد فقالوا : وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك وقيل : نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المومنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل وإن أشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لإختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين ولأجل هذا الإختلاف فصل السابق عن سابقه ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها والقول : بأن ذلك من حيث أن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم لهإلى ما حكى عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخيرمساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب وقريء ولا المشركون بالرفع عطفا على الذين كفروا أن ينزل عليكم في موضع النصب على أنه مفعول يود وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لاسيما إذا أريد من خير في قوله تعالى : من خير الوحي وهو قائم مقام الفاعل و من صلة وزيادة خير والنفي الأول منسحب عليها ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل : إن التقدير يود أن لا ينزل خير وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما أختص به رسول الله من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي
من ربكم في موضع الصفة للخير و من إبتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم والله يختص برحمته من يشاء جملة إبتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها إعتناء به وتعظيما لشأنه ومعنى إختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا أختاره من إختاره وعلى الأخير إنفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروهم عن ترتب آثاره وقيل : المراد من الآية دفع الإعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لايعترض عليه إذا عم وفي إقامة لفظ الله مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته و من مفعول وقيل : الفعل لازم و من فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف والله ذو الفضل العظيم 501 تذييل لما سبق
(1/350)

وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا ويود عدم إصابة خير له والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل : وإذا جعل الفضل عاما وقيل : بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته وتصدير هذه الجملة بالأسم الكريم لمناسبة العظيم
ما ننسخ من آية أو ننسها نزلت لما قال المشركون أو اليهود : ألأ ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة و السلام يقوله من تلقاء نفسه وهو كلام يناقض بعضه بعضاوالنسخفي اللغة إزالة الصورة أو ما في حكمهاعن الشيء وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان ومن إستعماله في المجموع التناسخ وقد أستعمل لكل واحد منهما مجازا وهو أولى من الإشتراك ولذا رغب فيه الراغب فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر ونسخ الآية على ما أرتضاه بعض الأصوليين بيان إنتهاء التعبد بقراءتها كآية الشيخ والشيخة إذا زنيا فأرجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم أو الحكم المستفاد منها كآية والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إل الحول غير إخراج أو بهما جميعا كآية 0 عشر رضعات معلومات يحرمن وفيه رفع التأييد المستفاد من إطلاقها ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي فهو بيان بالنسبة إلى الشارع ورفع بالنسبة إلينا وخرج بقيد التعبد الغاية فإنها بيان لإنتهاء مدة نفس الحكملا للتعبد بهوأختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظوقد وقع هذافإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : نسخ البارحة من الصدور وروى مسلم عنن أبي موسى سنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لإبن آدم واديان من مال لأبتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف إبن آدم إلا التراب وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها الدين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا فيه خلاف والذاهبون إلى الأول أستدلوا بقوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله وهو مذهب الحسن وأستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى : ولو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلموهذا قول الزجاج وليس بالقوي لجواز حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي وقال أبو علي : المراد لم نذهب بالجميع وعلى التقديرين لا ينافي الإستثناء وسبحان من لا ينسى وفسر بعضهم النسخ بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لاوالإنساءبإزالة اللفظ ثبت حمه أو لا وفسر بعض آخر الأول بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق والثاني بالإذهاب لا إلى بدل وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص النسخ بهذا المعنى مخالف للغة والإصطلاح وأن النساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب والحمل على المجاز بدون تعذر الحقيقة تعسف ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت و ما شرطية جازمة ل ننسخ منتصبة به على المفعولية ولا تنافي بين كونها عاملة
(1/351)

ومعمولة لإختلاف الجهة فبتضمنها الشرط عاملة وبكونها أسما معمولة ويقدر لنفسها جازموإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد وتدل على جواز وقوع ما بعدها إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة وأتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقعه وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا : يمتنع عقلا وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال : إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقعوتحقيق ذلك في الأصول و من آية في موضع النصب على التمييز والمميز ما أي أي شيء ننسخ من آية وإحتمال زيادة من وجعل آية حالا ليس بشيء كإحتمال كون ما مصدرية شرطية و آية مفعولا به أي نسخ ننسخ آية بل هدا الإحتمال أدهى وأمركما لا يخفىوالضمير المنصوب عائد إلى آية على حدعندي درهم ونصفهلأن المنسوخ غير المنسي وتخصيص الآية بالذكر بإعتبار الغالب وإلا فالحكم غير مختص بها بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل وقرأ طائفة وإبن عامر من السبعة ننسخ من باب الأفعالوالهمزةكما قال أبو علي : للوجدان على صفة نحو أحمدتهأي وجدته محمودا فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه فتتفق القراءتان في المعنى وإن أختلفا في اللفظ وجوز إبن عطية كون الهمزة للتعدية فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين والتقدير ما ننسخك من آية أي ما نبيح لك نسخه كانه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا وجعل بعضهم الإنساخ عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو جبرائيل عليه السلام وإحتمال أن يكون من نسخ الكتاب أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير ننسها ناشيء عن الذهول عن قاعدة أن أسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه وقرأ عمر وإبن عباس والنخعي وأبو عمرو وإبن كثير وكثير ننسأها بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة وطائفة كذلك إلا أنه بالألف من غير همز ولم يحذفها للجازم لأن أصلها الهمزة من نسأ بم عن أخر والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها وهو معنى ننسها فتتحد القراءتان وقيل : ولعله ألطف : إن المعنى نؤخر إنزالها وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته وقرأ الضحاك وأبو الرجاء ننسها على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية والمفعول الأول محذوف يقال : أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها وقرأ الحسن وإبن يعمرتنسهابفتح التاء من النسيان ونسيت إلى سعد بن أبي وقاص وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء وقرأ معبد مثله ولم يهمز وقرأ أبين نسك بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة ننسكها بإظهار المفعولين وقرأ الأعمش ما ننسك من آية أو ننسخها تجيء بمثلها ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدة على قول راعنا وأقراره صلى الله تعالى عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الامر به والأذن فيه ثم أنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكي ما حكى في سبب النزول أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذو الفضل العظيم كاد ترفع الطغام رؤوسها وتقول : إن من الفضل عدم النسخ
(1/352)