تفسير ابن كثير
ابن كثير ج 4
[ 1 ]
تفسير القران العظيم عماد الدين، أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه قدم له الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشيي استاذ التفسير بالعهد العالي للدراسات الاسلامية الجزء الثاني دار المعرفة بيروت. لبنان
[ 2 ]
تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والبنقيح والتنصد الجديد وقد قام بفهرسه الاحاديث النبوية مكتب التحقيق بدار المعرفة طبع فهرس الاحاديث النبوية الشريفة في مجلد يمكن الحصول عليه مستقل جميع الا حقوق محفوظة للناشر 1991 م - 1412 ه دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع تفسير القرآن العظيم الامام الحافظ عماد الدين، أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشى الدمشقي المتوفى سنة 774 ه قدم له الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي أستاذ التفسير بالمعهد العالي للدراسات الاسلامية الجزء الرابع دار المعرفة بيروت - لبنان
[ 3 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة الصافات قال النسائي: أخبرنا إسماعيل بن مسعود حدثنا خالد - يعني الحارث - عن أبي ذئب قال أخبرنا الحارث بن عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات، تفرد به النسائي. بسم الله الرحمن الرحيم والصافات صفا (1) فالزاجرات زجرا (2) فالتاليات ذكرا (3) إن إلاهكم لواحد (4) رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق (5) قال سفيان الثوري عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال " والصافات صفا " وهي الملائكة (فازاجرات زجرا) هي الملائكة. (فالتاليات ذكرا) هي الملائكة، وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومسروق وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وقتادة والربيع بن أنس قال قتادة الملائكة صفوف في السماء. وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الاشجعي عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الارض كلها مسجدا وجعل لنا ترابها طهورا إذا لم نجد الماء " وقد روى مسلم أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث الاعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم ؟ " قلنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم " يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف " وقال السدي وغيره معنى قوله تعالى " فالزاجرات زجرا " أنها تزجر السحاب. وقال الربيع بن أنس " فالزاجرات زجرا " ما زجر الله تعالى عنه في القرآن وكذا روى مالك عن زيد بن اسلم " فالتاليات ذكرا " قال السدي الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس وهذه الآية كقوله تعالى " فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا ". وقوله عز وجل " إن إلهكم لواحد رب السموات والارض " هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السموات والارض " وما بينهما " أي من المخلوقات " ورب المشارق " أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب ثوابت وسيارات تبدو من المشرق وتغرب من المغرب واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه وقد صرح بذلك في قوله عز وجل " فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون " وقال تعالى في الآية الاخرى " رب المشرقين ورب المغربين " يعني في الشتاء والصيف للشمس والقمر.
[ 4 ]
إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب (6) وحفظا من كل شيطان مارد (7) لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب (8) دحورا ولهم عذاب واصب (9) إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب (10) يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الارض بزينة الكواكب قرئ بالاضافة وبالبدل وكلاهما بمعنى واحد فالكواكب السيارة والثوابت يثقب ضوءها جرم السماء الشفاف فتضئ لاهل الارض كما قال تبارك وتعالى " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين * واعتدنا لهم عذاب السعير " وقال عز وجل " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " قوله جل وعلا ههنا " وحفظا " تقديره وحفظناها حفظا " من كل شيطان مارد ": يعني المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ولهذا قال جل جلاله " لا يسمعون إلى الملا الاعلى " أي لئلا يصلوا إلى الملا الاعلى وهي السموات ومن فيها من الملائكة إذا تكلموا بما يوحيه الله تعالى مما يقوله من شرعه وقدره كما تقدم بيان ذلك في الاحاديث التي أوردناها عند قوله تبارك وتعالى " حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير " ولهذا قال تعالى " ويقذفون " أي يرمون " من كل جانب " أي من كل جهة يقصدون السماء منها " دحورا " أي رجما يدحرون به ويزجرون ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون " ولهم عذاب واصب " أي في الدار الآخرة لهم عذاب دائم موجع مستمر كما قال جلت عظمته " وأعتدنا لهم عذاب السعير " وقوله تبارك وتعالى " إلا من خطف الخطفة " أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته ويلقيها الآخر إلى الذي تحته فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله تعالى قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الآخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث ولهذا قال " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " أي مستنير قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للشياطين مقاعد في السماء قال فكانوا يستمعون الوحي قال وكانت النجوم لا تجري وكانت الشياطين لا ترمى قال فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الارض فزادوا في الكلمة تسعا قال فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه قال فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله فقال ما هو إلا من أمر حدث قال فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة قال وكيع يعني بطن نخلة قال فرجعوا إلى إبليس فأخبروه فقال هذا الذي حدث وستأتي إن شاء الله تعالى الاحاديث الواردة مع الآثار في هذا المعنى عند قوله تعالى إخبارا عن الجن أنهم قالوا " وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الارض أم أراد بهم ربهم رشدا ". فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب (11) بل عجبت ويسخرون (12) وإذا ذكروا لا يذكرون (13) وإذا رأوا أية يستسخرون (14) وقالوا إن هذا إلا سحر مبين (15) أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون (16) أوءابآونا الاولون (17) قل نعم وأنتم داخرون (18) فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون (19) يقول تعالى: فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقا هم أم السموات والارض وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة ؟ وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه " أم من عددنا " فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات
[ 5 ]
أشد خلقا منهم وإذا كان الامر كذلك فلم ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا كما قال عز وجل " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ثم بين أنهم خلقوا من شئ ضعيف فقال " إنا خلقناهم من طين لازب " قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض وقال ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة هو اللزج الجيد وقال قتادة هو الذي يلزق باليد وقوله عز وجل " بل عجبت ويسخرون " أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الامر العجيب وهو إعادة الاجسام بعد فنائها وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك. قال قتادة عجب محمد صلى الله عليه وسلم وسخر ضلال بني آدم " وإذا رأوا آية " أي دلالة واضحة على ذلك " يستسخرون " قال مجاهد وقتادة يستهزئون " وقالوا إن هذا إلا سحر مبين " أي إن هذا الذي جئت به إلا سحر مبين (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الاولون " يستبعدون ذلك ويكذبون به " قل نعم وأنتم داخرون " أي قل لهم يا محمد نعم تبعثون يوم القيامة بعدما تصيرون ترابا وعظاما وأنتم داخرون أي حقيرون تحت القدرة العظيمة كما قال تبارك وتعالى " وكل أتوه داخرين " وقال " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " ثم قال جلت عظمته " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون " أي فإنما هو أمر واحد من الله عز وجل يدعوهم دعوة واحد أن يخرجوا من الارض فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة والله تعالى أعلم. وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين (20) هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون (21) * أحشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون (22) من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم (23) وقفوهم إنهم مسئولون (24) مالكم لا تناصرون (25) بل هم اليوم مستسلمون (26) يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لانفسهم في الدار الدنيا فإذا عاينوا أهوال القيامة ندموا كل الندم حيث لا ينفعهم الندم " وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين " فتقول لهم الملائكة والمؤمنون " هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون " وهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين في الموقف في محشرهم ومنشرهم ولهذا قال تعالى " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " قال النعمان بن بشير رضي الله عنه يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والسدي وأبو صالح وأبو العالية وزيد بن أسلم وقال سفيان الثوري عن سماك عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " قال إخوانهم. وقال شريك عن سماك عن النعمان قال: سمعت عمر يقول " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " قال أشباههم قال يجئ أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وقال خصيف عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما أزواجهم نساءهم وهذا غريب والمعروف عنه الاول كما رواه مجاهد وسعيد بن جبير عنه أزواجهم قرناءهم وما كانوا يعبدون من دون الله أي من الاصنام والانداد تحشر معهم في أماكنهم. وقوله تعالى " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " أي أرشدوهم إلى طريق جهنم وهذا كقوله تعالى " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت
[ 6 ]
زدناهم سعيرا " وقوله تعالى (وقفوهم إنهم مسؤولون) أي قفوهم حتى يسئلوا عن أعمالهم وأقوالهم التي صدرت عنهم في الدار الدنيا كما قال الضحاك عن ابن عباس يعني احبسوهم إنهم محاسبون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت ليثا يحدث عن بشير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما داع دعا إلى شئ كان موقوفا معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه وإن دعا رجل رجلا " ثم قرأ " وقفوهم إنهم مسئولون " ورواه الترمذي من حديث ليث بن أبي سليم ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن معتمر عن ليث عن رجل عن أنس رضي الله عنه مرفوعا وقال عبد الله بن المبارك سمعت عثمان بن زائدة يقول إن أول ما يسئل عنه الرجل جلساؤه ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ " ما لكم لا تناصرون " أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر " بل هم اليوم مستسلمون " أي منقادون لامر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه والله أعلم. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (27) قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين (28) قالوا بل لم تكونوا مؤمنين (29) وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين (30) فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون (31) فأغويناكم إنا كنا غاوين (32) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون (33) إنا كذالك نفعل بالمجرمين (34) إنهم كانوا إذا قيل لهم لآ إلاه إلا الله يستكبرون (35) ويقولون أئنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون (36) بل جاء بالحق وصدق المرسلين (37) يذكر تعالى أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة كما يتخاصمون في دركات النار " فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " وقال تعالى " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول * يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الاغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " وهكذا قالوا لهم ههنا " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " قال الضحاك عن ابن عباس يقولون كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا لانا كنا أذلاء وكنتم أعزاء وقال مجاهد يعني عن الحق والكفار تقوله للشياطين وقال قتادة قالت الانس للجن إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه وقال السدي تأتوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل وتصدونا عن الحق وقال الحسن في قوله تعالى " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه وقال ابن زيد معناه تحولون بيننا وبين الخير ورددتمونا عن الاسلام والايمان والعمل بالخير الذي أمرنا به وقال يزيد الرشك من قبل لا إله إلا الله وقال خصيف يعنون من قبل ميامنهم وقال عكرمة " إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين " قال من حيث نأمنكم وقوله تعالى " قالوا بل لم تكونوا مؤمنين " تقول القادة من الجن والانس للاتباع ما الامر كما تزعمون بل كانت قلوبكم منكرة للايمان قابلة للكفر والعصيان " وما كان لنا عليكم من سلطان " أي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه " بل كنتم قوما طاغين " أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق فلهذا استجبتم لنا وتركتم الحق
[ 7 ]
الذي جاءتكم به الانبياء وأقاموا لكم الحجج على صحة ما جاء وكم به فخالفتموهم " فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين " يقول الكبراء للمستضعفين حقت علينا كلمة الله إنا من الاشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة " فأغويناكم " أي دعوناكم إلى الضلالة " إنا كنا غاوين " أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا، قال الله تبارك وتعالى " فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون " أي الجميع في النار كل بحسبه " إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا " أي في الدار الدنيا " إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون. قال ابن أبي حاتم حدثنا عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا الليث عن ابن مسافر يعني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل " وأنزل الله تعالى في كتابه العزيز وذكر قوما استكبروا فقال تعالى " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ". وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن سعيد الجريري عن أبي العلاء قال: يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله وعزيرا فيقال لهم خذوا ذات الشمال ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون نعبد الله والمسيح فيقال لهم خذوا ذات الشمال ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون ثم يقال لهم لا إله إلا الله فيستكبرون فيقال لهم خذوا ذات الشمال. قال أبو نضرة فينطلقون أسرع من الطير قال أبو العلاء ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون كنا نعبد الله تعالى فيقال لهم هل تعرفونه إذا رأيتموه ؟ فيقولون نعم فيقال لهم فكيف تعرفونه ولم تروه ؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له، قال فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين " ويقولون إئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون " أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى تكذيبا لهم وردا عليهم " بل جاء بالحق " يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق في جميع شرعة الله تعالى له من الاخبار والطلب " وصدق المرسلين " أي صدقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة والمناهج السديدة وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره كما اخبروا " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " الآية. إنكم لدآئقوا العذاب الاليم (38) وما تجزون إلا ما كنتم تعملون (39) إلا عباد الله المخلصين (40) أولائك لهم رزق معلوم (41) فواكه وهم مكرمون (42) في جنات النعيم (43) على سرر متقابلين (44) يطاف عليهم بكأس من معين (45) بيضاء لذء للشاربين (46) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون (47) وعندهم قاصرات الطرف عين (48) كأنهن بيض مكنون (49) يقول تعالى مخاطبا للناس " إنكم لذائقو العذاب الاليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون " ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين كما قال تعالى " والعصر إن الانسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وقال عز وجل " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وقال تعالى " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا * ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " وقال تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " ولهذا قال جل وعلا ههنا " إلا عباد الله المخلصين " أي ليسوا يذوقون العذاب الاليم ولا يناقشون في الحساب بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ويجزون
[ 8 ]
الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة إلى ما يشاء الله تعالى من التضعيف. قوله جل وعلا " أولئك لهم رزق معلوم " قال قتادة والسدي يعني الجنة ثم فسره بقوله تعالى " فواكه " أي متنوعة " وهم مكرمون " أي يخدمون ويرفهون وينعمون " في جنات النعيم * على سرر متقابلين " قال مجاهد لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا حسان بن حسان حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية " على سرر متقابلين " ينظر بعضهم إلى بعض " حديث غريب. قوله تعالى " يطاف عليهم بكأس من معين * بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " كما قال عز وجل في الآية الاخرى " يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون " نزه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا من صداع الرأس ووجع البطن وهو الغول وذهابها بالعقل جملة فقال تعالى ههنا " يطاف عليهم بكأس من معين " أي بخمر من أنهار جارية لا يخافون انقطاعها ولا فراغها قال مالك عن زيد بن أسلم: خمر جارية بيضاء أي لونها مشرق حسن بهي لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الردئ من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم وقوله عز وجل " لذة للشاربين " أي طعمها طيب كلونها وطيب الطعم دليل على طيب الريح بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك وقوله تعالى " لا فيها غول " يعني لا تؤثر فيهم غولا وهو وجع البطن قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وابن زيد كما تفعله خمر الدنيا من القولنج ونحوه لكثرة مائيتها وقيل المراد بالغول ههنا صداع الرأس وروي هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة هو صداع الرأس ووجع البطن وعنه وعن السدي لا تغتال عقولهم كما قال الشاعر: فمنا زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالاول الاول وقال سعيد بن جبير لا مكروه فيها ولا أذى، والصحيح قول مجاهد أنه وجع البطن وقوله تعالى " ولاهم عنها ينزفون " قال مجاهد لا تذهب عقولهم وكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب والحسن وعطاء بن أبي مسلم الخراساني والسدي وغيرهم وقال الضحاك عن ابن عباس في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقئ والبول فذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال كما ذكر في سورة الصافات وقوله تعالى " وعندهم قاصرات الطرف " أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله تبارك وتعالى " عين " أي حسان الاعين وقيل ضخام الاعين وهو يرجع إلى الاول وهي النجلاء العيناء فوصف عيونهن بالحسن والعفة كقول زليخا في يوسف عليه الصلاة والسلام حين جملته وأخرجته على تلك النسوة فأعظمنه وأكبرنه وظنن أنه ملك من الملائكة لحسنه وبهاء منظره قالت " فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي وهكذا الحور العين " خيرات حسان " ولهذا قال عز وجل " وعندهم قاصرات الطرف عين " وقوله جل جلاله " كأنهن بيض مكنون " وصفهن بترافة الابدان بأحسن الالوان قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " كأنهن بيض مكنون " يقول اللؤلؤ المكنون وينشد ههنا بيت أبي دهبل الشاعر وهو قوله في قصيدة له وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص ميزت من جوهر مكنون وقال الحسن " كأنهن بيض مكنون " يعني محصون لم تمسه الايدي وقال السدي البيض في عشه مكنون وقال سعيد بن جبير " كأنهن بيض مكنون " يعني بطن البيض وقال عطاء الخراساني هو السحاء الذي يكون بين قشرته العليا ولباب البيضة وقال السدي " كأنهن بيض مكنون " يقول بياض البيض حين ينزع قشرته واختاره ابن جرير لقوله مكنون قال والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش وتنالها الايدي بخلاف داخلها والله أعلم. وقال ابن
[ 9 ]
جرير حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا محمد بن الفرح الصدفي الدمياطي عن عمرو بن هاشم عن ابن أبي كريمة عن هشام عن الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل " حور عين " قال " العين الضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل " كأنهن بيض مكنون " قال " رقتهن كرقة الجلدة التي رأسها في داخل البيضة التي تلي القشر وهي الغرقئ ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان النهدي حدثنا عبد السلام بن حرب عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا حزنوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا لواء الحمد يومئذ بيدي وأنا أكرم ولد آدم على الله عز وجل ولا فخر، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون - أو اللؤلؤ المكنون " والله تعالى أعلم بالصواب. فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إنى كان لى قرين (51) يقول أءنك لمن المصدقين (52) أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرءاه في سوآء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين (57) أفما نحن بميتين (58) إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين (59) إن هذا لهو الفوز العظيم (60) لمثل هذا فليعمل العاملون (61) يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال مجاهد يعني شيطانا وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الايمان في الدنيا ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الانس فيقول كلاما تسمعه الاذنان وكلاهما يتعاونان قال الله تعالى " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وكل منهما يوسوس كما قال الله عز وجل " من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس " ولهذا " قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين " أي أأنت تصدق بالبعث والنشور والحساب والجزاء يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد والكفر والعناد " أئذامتنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون " قال مجاهد والسدي لمحاسبون وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومحمد بن كعب القرظي لمجزيون بأعمالنا وكلاهما صحيح قال تعالى " قال هل أنتم مطلعون " أي مشرفون يقول المؤمن لاصحابه وجلسائه من أهل الجنة " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وخليد العصري وقتادة والسدي وعطاء الخراساني يعني في وسط الجحيم وقال الحسن البصري في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقد وقال قتادة ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي وذكر لنا أن كعب الاحبار قال في الجنة كوى إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار اطلع فيها فازداد شكرا " قال تالله إن كدت لتردين " يقول المؤمن مخاطبا للكافر والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك " ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " أي ولولا فضل الله علي لكنت مثلك في سواء الجحيم حيث أنت محضر معك في
[ 10 ]
العذاب ولكنه تفضل علي ورحمني فهداني للايمان وأرشدني إلى توحيده " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ". قوله تعالى " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " هذا من كلام المؤمن مغتبطا نفسه بما أعطاه الله تعالى من الخلد في الجنة والاقامة في دار الكرامة بلا موت فيها ولا عذاب ولهذا قال عز وجل " إن هذا لهو الفوز العظيم " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تبارك وتعالى لاهل الجنة " كلوا وأشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " قال ابن عباس رضي الله عنهما وقوله عز وجل " هنيئا " أي لا يموتون فيها فعندها قالوا " أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " وقال الحسن البصري علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه فقالوا " أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين " قيل لا قالوا " إن هذا لهو الفوز العظيم " وقوله جل جلاله " لمثل هذا فليعمل العاملون " قال قتادة هذا من كلام أهل الجنة وقال ابن جرير هو من كلام الله تعالى ومعناه لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة وقد ذكروا قصة رجلين كانا شريكين في بني إسرائيل تدخل في ضمن عموم هذه الآية الكريمة قال أبو جعفر بن جرير حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن فرات بن ثعلبة النهراني في قوله " إني كان لي قرين " قال إن رجلين كانا شريكين فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار وكان احدهما له حرفة والآخر ليس له حرفة فقال الذي له حرفة للآخر ليس عندك حرفة ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك فقاسمه وفارقه ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك مات فدعا صاحبه فأراه فقال كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار ؟ قال ما أحسنها فلما خرج قال اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وأني أسألك دارا من دور الجنة فتصدق بألف دينار ثم مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم إنه تزوج بامرأة بألف دينار فدعاه وصنع له طعاما فلما أتاه قال إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار قال ما أحسن هذا فلما انصرف قال يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار وإني أسألك امرأة من الحور العين فتصدق بألف دينار ثم إنه مكث ما شاء الله تعالى أن يمكث ثم اشترى بستانين بألفي دينار ثم دعاه فأراه فقال إني ابتعت هذين البستانين بألفي دينار فقال ما أحسن هذا فلما خرج قال يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار وأنا أسألك بستانين في الجنة فتصدق بألفي دينار ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارا تعجبه وإذا بامرأة تطلع يضئ ما تحتها من حسنها ثم أدخله بستانين وشيئا الله به عليم فقال عند ذلك ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا قال فإنه ذاك ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة قال فإنه كان لي صاحب يقول " أئنك لمن المصدقين " قيل له فإنه الجحيم قال هل " أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم " فقال عند ذلك " تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين " الآيات قال ابن جرير وهذا يقوي قراءة من قرأ " أئنك لمن المصدقين " بالتشديد وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الابار أخبرنا أبو حفص قال سألت إسماعيل السدي عن هذه الآية " قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين " قال: فقال لي ما ذكرك هذا ؟ قلت قرأته آنفا فأحببت أن أسألك عنه فقال أما فاحفظ كان شريكان في بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر فافترقا على ستة آلاف دينار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك ؟ أضربت به شيئا أتجرت به في شئ ؟ فقال له المؤمن لا فما صنعت أنت ؟ فقال اشتريت به أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار - قال - فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال: اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا بألف دينار ثم يموت غدا ويتركها، اللهم إني اشتريت منك بهذه الالف دينار أرضا ونخلا وثمارا وأنهارا في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها في
[ 11 ]
المساكين - قال - ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شئ أتجرت به في شئ ؟ قال لا قال فما صنعت أنت ؟ قال كانت ضيعتي قد اشتد على مؤونتها فاشتريت رقيقا بألف دينار يقومون لي فيها يعملون لي فيها فقال له المومن أو فعلت ؟ قال نعم - قال - فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما أنصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - اشترى رقيقا من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غدا فيتركهم أو يموتون فيتركونه اللهم إني اشتريت منك بهذه الالف الدينار رقيقا في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها في المساكين - قال - ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك أضربت به في شئ أتجرت به في شئ ؟ قال لا فما صنعت أنت ؟ قال كان امري كله قد تم إلا شيئا واحدا فلانة قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار جاءتني بها ومثلها معها فقال له المؤمن أو فعلت ؟ قال نعم قال فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فلما انصرف أخذ الالف الدينار الباقية فوضعها بين يديه وقال اللهم إن فلانا - يعني شريكه الكافر - تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار فيموت غدا فيتركها أو تموت غدا فتتركه اللهم وإني أخطب إليك بهذه الالف الدينار حوراء عيناء في الجنة - قال - ثم أصبح فقسمها بين المساكين قال - فبقي المؤمن ليس عنده شئ قال فلبس قميصا من قطن وكساء من صوف ثم أخذ مرا فجعله على رقبته يعمل الشئ ويحفر الشئ بقوته قال فجاءه رجل فقال له يا عبد الله أتؤاجرني نفسك مشاهرة شهرا بشهر تقوم على دواب لي تعلفا وتكنس سرقينها قال أفعل قال فواجره نفسه مشاهرة شهرا بشهر يقوم على دوابه وقال وكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ثم يقول له سرقت شعير هذه البارحة قال فلما رأى المؤمن هذه الشدة قال لآتين شريكي الكافر فلاعملن في أرضه فليطعمني هذه الكسرة يوما بيوم ويكسوني هذين الثوبين إذا بليا قال فانطلق يريده فانتهى إلى بابه وهو ممس فإذا قصر مشيد في السماء وإذا حوله البوابون فقال لهم استأذنوا لي على صاحب هذا القصر فإنكم إذا فعلتم سره ذلك فقالوا له انطلق إن كانت صادقا فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له قال فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه ثم نام فلما أصبح أتى شريكه فتعرض له فخرج شريكه الكافر وهو راكب فلما رآه عرفه فوقف عليه وسلم عليه وصافحه ثم قال له ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت ؟ قال بلى قال وهذه حالي وهذه حالك ؟ قال بلى قال أخبرني ما صنعت في مالك ؟ قال لا تسألني عنه قال فما جاء بك ؟ قال جئت أعمل في أرضك هذه فتطعمني هذه الكسرة يوما بيوم وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا قال لا ولكن أصنع بك ما هو خير من هذا ولكن لا ترى مني خيرا حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال أقرضته قال من ؟ قال الملئ الوفي قال من ؟ قال الله ربي قال وهو مصافحه فانتزع يده من يده ثم قال " أئنك لمن المصدقين * أئذامتنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون " قال السدي محاسبون قال فانطلق الكافر وتركه قال فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه يعيش المؤمن في شدة من الزمان ويعيش الكافر في رخاء من الزمان قال فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول لمن هذا ؟ فيقال هذا لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا ؟ قال ثم يمر فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم فيقول لمن هذا ؟ فيقول هؤلاء لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا قال ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول لمن هذه فيقال هذه لك فيقول يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا قال ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر فيقول " إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون " قال فالجنة عالية والنار هاوية قال فيريه الله تعالى شريكه في وسط الجحيم من بين أهل النار فإذا رآه المؤمن عرفه فيقول " تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين * إن هذا
[ 12 ]
لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون " بمثل ما قد من عليه قال فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدة أشد عليه من الموت. أذالك خير نزلا أم شجرة الزقوم (62) إنا جعلناها فتنة للظالمين (63) إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم (64) طلعها كأنه رءوس الشياطين (65) فإنهم لاكلون منها فمالؤن منها البطون (66) ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم (67) ثم مرجعهم لالى الجحيم (68) إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين (69) فهم على اثارهم يهرعون (70) يقول الله تعالى أهذا الذي ذكره من الجنة وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك من الملاذ خير ضيافة وعطاء " أم شجرة الزقوم " أي التي في جهنم وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك شجرة واحدة معينة كما قال بعضهم إنها شجرة تمتد فروعها إلى جميع محال جهنم كما أن شجرة طوبى ما من دار في الجنة إلا وفيها منها غصن وقد يحتمل أن يكون المراد بذلك جنس شجر يقال له الزقوم كقوله تعالى " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " يعني الزيتونة ويؤيد ذلك قوله تعالى " ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم " وقوله عز وجل " إنا جعلناها فتنة للظالمين " قال قتادة ذكرت شجرة الزقوم فافتتن بها أهل الضلالة وقالوا صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار تأكل الشجر فأنزل الله تعالى " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " غذيت من النار ومنها خلقت وقال مجاهد " إنا جعلناها فتنة للظالمين " قال أبو جهل لعنه الله إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه قلت ومعنى الآية إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم اختبارا نختبر به الناس من يصدق منهم ممن يكذب كقوله تبارك وتعالى " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ". قوله تعالى " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم " أي أصل منبتها في قرار النار طلعها كأنه رؤوس الشياطين تبشيع لها وتكريه لذكرها. قال وهب بن منبه شعور الشياطين قائمة إلى السماء، وأنما شبهها برؤوس الشياطين وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين لانه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر وقيل المراد بذلك ضرب من الحيات رؤوسها بشعة المنظر وقيل جنس من النبات طلعه في غاية الفحاشة وفى هذين الاحتمالين نظر وقد ذكرهما ابن جرير والاول أقوى وأولى والله أعلم. قوله تعالى " فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون " ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي لا أبشع منها ولا أقبح من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع فإنهم ليضطرون إلى الاكل منها لانهم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها كما قال تعالى " ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع " وقال ابن أبى حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال " اتقوا الله حق تقاته فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لافسدت على أهل الارض معايشهم فكيف بمن يكون طعامه ؟ " ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث شعبة وقال الترمذي حسن صحيح وقوله تعالى " ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم " قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شرب الحميم على الزقوم وقال في رواية عنه " شوبا من حميم " مزجا من حميم وقال غيره يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق مما يسيل من فروجهم وعيونهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حيوة بن شريح الحضرمي حدثنا بقية بن الوليد عن صفوان بن عمر وأخبرني عبيد بن بشير عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " يقرب - يعني إلى أهل النار - ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت
[ 13 ]
فروة رأسه فيه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا يعقوب بن عبد الله عن جعفر وهارون بن عنترة عن سعد بن جبير قال إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم فلو أن مارا مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثوا بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم فيمشون تسيل أمعاءهم وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور وقوله عز وجل " ثم إن مرجعهم لالى الجحيم " أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لالى نار تتأجج وجحيم تتوقد وسعير تتوهج فتارة في هذا وتارة في هذا كما قال تعالى " يطوفون بينها وبين حميم آن " هكذا تلا قتادة هذه الآية وهو تفسير حسن قوي وقال السدي في قراءة عبد الله رضي الله عنه عنه " ثم إن مقيلهم لالى الجحيم " وكان عبد الله رضي الله عنه يقول والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ثم قرأ " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " وروى الثوري عن ميسرة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله رضي الله عنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء قال سفيان - أراه - ثم قرأ " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " ثم إن مقيلهم لالى الجحيم قلت على هذا التفسير تكون ثم عاطفة لخبر على خبر وقوله تعالى " إنهم ألفوا آباءهم ضالين " أي إنما جازيناهم بذلك لانهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان، ولهذا قال " فهم على آثارهم يهرعون " قال مجاهد شبيهة بالهرولة، وقال سعيد ابن جبير يسفهون ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين (71) ولقد أرسلنا فيهم منذرين (72) فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73) إلا عباد الله المخلصين (74) يخبر تعالى عن الامم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أخرى وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرون بأس الله ويحذرونهم سطوته ونقمته ممن كفر به وعبد غيره وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم فأهلك المكذبين ودمرهم ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ولهذا قال تعالى " فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين ". ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون (75) ونجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) وجعلنا ذريته هم الباقين (77) وتركنا عليه في الاخرين (78) سلام على نوح في العالمين (79) إنا كذالك نجزى المحسنين (80) إنه من عبادنا المؤمنين (81) ثم أغرقنا الاخرين (82) لما ذكر تعالى عن أكثر الاولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلا فذكر نوحا عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم وكلما دعاهم ازدادوا نفرة فدعا ربه أني مغلوب فانتصر فغضب الله تعالى لغضبه عليهم ولهذا قال عز وجل " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون " أي فلنعم المجيبون له " ونجيناه وأهله من الكرب العظيم " وهو التكذيب والاذى " وجعلنا ذريته هم الباقين " قال علي بن أبي طلحة عن ابن
[ 14 ]
عباس رضي الله عنهما يقول: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تبارك وتعالى " وجعلنا ذريته هم الباقين " قال الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام وقد روى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وجعلنا ذريته هم الباقين " قال " سام وحام ويافث " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن مرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " ورواه الترمذي عن بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع عن سعيد وهو ابن أبي عروبة عن قتادة به قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله والمراد بالروم ههنا هم الروم الاول وهم اليونان المنتسبون إلى رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام ثم روي من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: ولد نوح عليه السلام ثلاثة: سام ويافث وحام وولد كل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاثة فولد سام العرب وفارس والروم وولد يافث الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وولد حام القبط والسودان والبربر وروي عن وهب بن منبه نحو هذا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى " وتركنا عليه في الآخرين " قال ابن عباس رضي الله عنهما يذكر بخير وقال مجاهد يعني لسان صدق للانبياء كلهم وقال قتادة والسدي أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين. وقال الضحاك السلام والثناء الحسن. " سلام على نوح في العالمين " مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والامم " إنا كذلك نجزي المحسنين " أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى نجعل له لسان صدق يذكر به بعده بحسب مرتبته في ذلك ثم قال تعالى " إنه من عبادنا المؤمنين " أي المصدقين الموحدين الموقنين " ثم أغرقنا الآخرين " أي أهلكناهم فلم يبق منهم عين طرف ولا ذكر ولا عين ولا أثر ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة. * وإن من شيعته لابراهيم (83) إذ جاء ربه بقلب سليم (84) إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون (85) أئفكا ءالهة دون الله تريدون (86) فما ظنكم برب العالمين (87) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " وإن من شيعته لابراهيم " يقول من أصل دينه وقال مجاهد على منهاجه وسنته " إذ جاء ربه بقلب سليم " قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني شهادة أن لا إله إلا الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو أسامة عن عوف قلت لمحمد بن سيرين ما القلب السليم ؟ قال يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وقال الحسن سليم من الشرك وقال عروة لا يكون لعانا. وقوله تعالى " إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون " أنكر عليهم عبادة الاصنام والانداد ولهذا قال عز وجل " أئفكا آلهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين " قال قتادة يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره. فنظر نظرة في النجوم (88) فقال إنى سقيم (89) فتولوا عنه مدبرين (90) فراغ إلئ الهتهم فقال ألا تأكلون (91) مالكم لا تنطقون (92) فراغ عليهم ضربا باليمين (93) فأقبلوا إليه يزفون (94) قال أتعبدون ما تنحتون (95) والله
[ 15 ]
خلقكم وما تعملون (96) قالوا آبنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم (97) فأردوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين (98) إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام قومه ذلك ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها فقال لهم كلاما هو حق في نفس الامر فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه " فتولوا عنه مدبرين " قال قتادة والعرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال " إني سقيم " أي ضعيف فأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثني هشام عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى قوله " إني سقيم " وقوله " بل فعله كبيرهم هذا " وقوله في سارة هي أختي " فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا ولما إنما أطلق الكذب على هذا تجوزا وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات إبراهيم عليه الصلاة والسلام الثلاث التي قال " ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله تعالى فقال " إني سقيم " وقال " بل فعله كبيرهم هذا " وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي " قال سفيان في قوله " إني سقيم " يعني طعين وكانوا يفرون من المطعون فأراد أن يخلو بآلهتهم وكذا قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم " فقالوا له وهو في بيت آلهتهم: أخرج فقال إني مطعون فتركوه مخافة الطاعون وقال قتادة عن سعيد بن المسيب رأى نجما طلع فقال " إني سقيم " كابد نبي الله عن دينه فقال " إني سقيم " وقال آخرون " فقال إني سقيم " بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض الموت وقيل أراد " إني سقيم " أي مريض القلب من عبادتكم الاوثان من دون الله تعالى. وقال الحسن البصري: خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج فاضطجع على ظهره وقال " إني سقيم " وجعل ينظر في السماء فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها ورواه ابن أبي حاتم ولهذا قال تعالى " فتولوا عنه مدبرين " أي ذهب إليها بعدما خرجوا في سرعة واختفاء " فقال ألا تأكلون " وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاما قربانا لتبرك لهم فيه. قال السدي: دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الآلهة فإذا هم في بهو عظيم وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاما ووضعوه بين أيدي الآلهة وقالوا إذا كان حين نرجع وقد بركت الآلهة في طعامنا أكلناه. فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال " ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون " وقوله تعالى " فراغ عليهم ضربا باليمين " قال الفراء معناه مال عليهم ضربا باليمين وقال قتادة والجوهري فأقبل عليهم ضربا باليمين وإنما ضربهم باليمين لانها أشد وأنكى ولهذا تركهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون كما تقدم في سورة الانبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك. قوله تعالى ههنا " فأقبلوا إليه يزفون " قال مجاهد وغير واحد أي يسرعون. وهذه القصة ههنا مختصرة وفي سورة الانبياء مبسوطة فإنهم لما رجعوا ما عرفوا من أول وهلة من فعل ذلك حتى كشفوا واستعلموا فعرفوا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو الذي فعل ذلك فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال " أتعبدون ما تنحتون " أي أتعبدون من دون الله من الاصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم " والله خلقكم وما تعملون " يحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون تقدير الكلام خلقكم وعملكم ويحتمل أن تكون بمعنى الذي تقديره والله خلقكم والذي تعملونه وكلا القولين متلازم والاول أظهر لما رواه البخاري في كتاب أفعال العباد عن علي بن المديني عن مروان بن
[ 16 ]
معاوية عن أبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعا قال " إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته " وقرأ بعضهم " والله خلقكم وما تعملون " فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا " ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم " وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الانبياء عليهم الصلاة والسلام ونجاه الله من النار وأظهره عليهم وأعلى حجته ونصرها ولهذا قال تعالى " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين " وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين (99) رب هب لى من الصالحين (100) فبشرناه بغلام حليم (101) فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت آفعل ما تؤمر ستجدني إن شآء الله من الصابرين (102) فلمآ أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن يا إبراهيم (104) قد صدقت الرءيآ إنا كذالك نجزى المحسنين (105) إن هذا لهو البلآؤا المبين (106) وفديناه بذبح عظيم (107) وتركنا عليه في الاخرين (108) سلام على إبراهيم (109) كذالك نجزى المحسنين (110) إنه من عبادنا المؤمنين (111) وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين (112) وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين (113) يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنه بعدما نصره الله تعالى على قومه وأيس من إيمانهم بعدما شاهدوا من الآيات العظيمة هاجر من بين أظهرهم وقال " إني ذاهب إلى ربي سيهدين * رب هب لي من الصالحين " يعني أولادا مطيعين يكونون عوضا من قومه وعشيرته الذين فارقهم قال الله تعالى " فبشرناه بغلام حليم " وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام فإنه أول ولد بشر به إبراهيم عليه السلام وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل الكتاب بل في نص كتابهم أن إسماعيل عليه السلام ولد ولابراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده وفي نسخة أخرى بكره فأقحموا ههنا كذبا وبهتانا إسحاق ولا يجوز هذا لانه مخالف لنص كتابهم وإنما أقحموا إسحاق لانه أبوهم وإسماعيل أبو العرب فحسدوهم فزادوا ذلك وحرفوا وحيدك بمعنى الذي ليس عندك غيره فإن إسماعيل كان ذهب به وبأمه إلى مكة وهو تأويل وتحريف باطل فإنه لا يقال وحيدك إلا لمن ليس له غيره وأيضا فإن أول ولد له معزة ما ليس لمن بعده من الاولاد فالامر بذبحه أبلغ في الابتلاء والاختبار وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضا وليس ذلك في كتاب ولا سنة وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مسلما من غير حجة وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بغلام حليم وذكر أنه الذبيح ثم قال بعد ذلك " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا " إنا نبشرك بغلام عليم ". وقال تعالى " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي يولد له في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقب ونسل وقد قدمنا هناك أنه لا يجوز بعد هذا أن يؤمر بذبحه وهو صغير لان الله تعالى قد وعدهما بأنه سيعقب ويكون له نسل فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيرا وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لانه مناسب لهذا المقام. وقوله تعالى " فلما بلغ معه السعي " أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه وقد كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد فاران وينظر في
[ 17 ]
أمرهما وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك والله أعلم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وزيد بن أسلم وغيرهم " فلما بلغ معه السعي " بمعنى شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل " فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " قال عبيد بن عمير رؤيا الانبياء وحي ثم تلا هذه الآية " قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى " وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو عبد الملك الكرندي حدثنا سفيان بن عيينة عن إسرائيل بن يونس عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رؤيا الانبياء في المنام وحي " ليس هو في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه " قال يا أبت افعل ما تؤمر " أي امض لما أمرك الله من ذبحي " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ولهذا قال الله تعالى " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا * وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ". قال تعالى " فلما أسلما وتله للجبين " أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى إبراهيم على الذبح والولد شهادة الموت وقيل أسلما يعني استسلما وانقادا إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله ولابيه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن إسحاق وغيرهم ومعنى تله للجبين أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة " وتله للجبين " أكبه على وجهه. وقال الامام أحمد حدثنا شريح ويونس قالا حدثنا حماد بن سلمة عن أبي عاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم ذهب به جبريل عليه الصلاة والسلام إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات وثم تله للجبين وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض فقال له يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكففني فيه فعالجه ليخلعه فنودي من خلفه " أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " فالتفت إبراهيم فإذا بكبش أبيض أقرن أعين قال ابن عباس لقد رأيتنا نتتبع ذلك الضرب من الكباش وذكر هشام الحديث في المناسك بطوله. ثم رواه أحمد بطوله عن يونس عن حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره إلا أنه قال إسحاق فعن ابن عباس رضي الله عنهما في تسمية الذبيح روايتان والاظهر عنه إسماعيل لما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار عن قتادة عن جعفر بن إياس عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى " وفديناه بذبح عظيم " قال خرج عليه كبش من الجنة قد رعى قبل ذلك أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ابنه واتبع الكبش فأخرجه إلى الجمرة الاولى فرماه بسبع حصيات ثم أفلته عندها فجاء إلى الجمرة الوسطى فأخرجه عندها فرماه بسبع حصيات ثم أفلته فأدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات فأخرجه عندها ثم أخذه فأتى به المنحر من منى فذبحه فوالذي نفس ابن عباس بيده لقد كان أول الاسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة حتى وحش يعني يبس. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرنا القاسم قال اجتمع أبو هريرة وكعب فجعل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم وجعل كعب يحدث عن الكتب فقال أبو هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني قد خبأت دعوتي شفاعة لامتي يوم القيامة " فقال له كعب أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم قال فداك أبي وأمي - أو فداه أبي وأمي - أفلا أخبرك عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟ إنه لما أرى ذبح ابنه إسحاق قال الشيطان إن لم أفتن هؤلاء عند هذه لم أفتنهم أبدا فخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام بابنه ليذبحه فذهب
[ 18 ]
الشيطان فدخل على سارة فقال أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت غدا به لبعض حاجته قال فإنه لم يغد به لحاجة إنما ذهب به ليذبحه قالت ولم يذبحه ؟ قال زعم أن ربه أمره بذلك قالت فقد أحسن أن يطيع ربه فذهب الشيطان في أثرهما فقال للغلام أين يذهب بك أبوك ؟ قال لبعض حاجته قال فإنه لا يذهب بك لحاجة ولكنه يذهب بك ليذبحك قال ولم يذبحني ؟ قال يزعم أن ربه أمره بذلك قال فوالله لئن كان الله تعالى أمره بذلك ليفعلن قال فيئس منه فتركه ولحق بإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال أين غدوت بابنك ؟ قال لحاجة قال فإنك لم تغد به لحاجة وإنما غدوت لتذبحه قال ولم أذبحه ؟ قال تزعم أن ربك أمرك بذلك قال فوالله لئن كان الله تعالى أمرني بذلك لافعلن قال فتركه ويئس أن يطاع وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال إن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي أخبره أن كعبا قال لابي هريرة فذكره بطوله وقال في آخره وأوحى الله تعالى إلى إسحاق أني أعطيتك دعوة أستجيب لك فيها قال إسحاق اللهم إني أدعوك أن تستجيب لي أيما عبد لقيك من الاولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فأدخله الجنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تبارك وتعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي وبين أن يجيب شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكفر الجم لامتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجلت فيها دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له يا إسحاق سل تعط فقال أما والذي نفسي بيده لاتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات لا يشرك بك شيئا فاغفر له وأدخله الجنة " هذا حديث غريب منكر وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث وأخشى أن يكون في الحديث زيادة مدرجة وهي قوله إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق إلى آخره والله أعلم فهذا إن كان محفوظا فالاشبه أن السياق إنما هو عن إسماعيل وإنما حرفوه بإسحاق حسدا منهم كما تقدم وإلا فالمناسك والذبائح إنما محلها بمنى من أرض مكة حيث كان إسماعيل لا إسحاق فإنه إنما كان ببلاد كنعان من أرض الشام. وقوله تعالى " وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح وذكر السدي وغيره أنه أمر السكين على رقبته فلم تقطع شيئا بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك " قد صدقت الرؤيا ". وقوله تعالى " إنا كذلك نجزي المحسنين " أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا كقوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الاصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل خلافا لطائفة من المعتزلة والدلالة من هذه ظاهرة لان الله تعالى شرع لابراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح ولده ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ولهذا قال تعالى " إن هذا لهو البلاء المبين " أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك مستسلما لامر الله تعالى منقادا لطاعته ولهذا قال تعالى " وإبراهيم الذي وفى ". وقوله تعالى " وفديناه بذبح عظيم " قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه " وفديناه بذبح عظيم " قال بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة قال أبو الطفيل وجدوه مربوطا بسمرة في ثبير وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كبش قد رعا في الجنة أربعين خريفا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار حدثنا داود العطار عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال الصخرة التي بمنى بأصل ثبير هي الصخرة التي ذبح عليها إبراهيم فداء إسحاق ابنه هبط عليه من ثبير كبش أعين أقرن له ثغاء فذبحه وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه فكان مخزونا حتى فدى به إسحاق وروي أيضا عن سعيد بن
[ 19 ]
جبير أنه قال كان الكبش يرتع في الجنة حتى شقق عنه ثبير وكان عليه عهن أحمر وعن الحسن البصري أنه قال كان اسم كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير وقال ابن جريج قال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام وقال مجاهد ذبحه بمنى عند المنحر. وقال هشيم عن سيار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما كان أفتى الذي جعل عليه نذرا أن ينحر نفسه فأمره بمائة من الابل ثم قال بعد ذلك لو كنت أفتيه بكبش لاجزأه أن يذبح كبشا فإن الله تعالى قال في كتابه " وفديناه بذبح عظيم " والصحيح الذي عليه الاكثرون أنه يفدي بكبش وقال الثوري عن رجل عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى " وفديناه بذبح عظيم " قال وعل وقال محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الاروى أهبط عليه من ثبير. وقد قال الامام أحمد حدثنا سفيان حدثني منصور عن خاله مسافع عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة رضي الله عنه وقالت مرة إنها سألت عثمان لم دعاك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني كنت رأيت قرني الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شئ يشغل المصلي " قال سفيان لم يزل قرنا الكبش معلقين في البيت حتى احترق البيت فاحترقا وهذا دليل مستقل على أنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام فإن قريشا توارثوا قرني الكبش الذي فدى به إبراهيم خلفا عن سلف وجيلا بعد جيل إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم. " فصل في ذكر الآثار الواردة عن السلف في أن الذبيح من هو " " ذكر من قال هو إسحاق عليه الصلاة والسلام " قال حمزة الزيات عن أبي ميسرة رحمه الله قال: قال يوسف عليه عليه الصلاة والسلام للملك في وجهه ترغب أن تأكل معي وأنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله وقال الثوري عن أبى سنان عن ابن أبي الهذيل أن يوسف عليه السلام قال للملك كذلك أيضا وقال سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبيه قال: قال موسى عليه الصلاة والسلام يا رب يقولون بإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب فبم قالوا ذلك ؟ قال: إن إبراهيم لم يعدل بي شئ قط إلا اختارني عليه وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود وإن يعقوب كلما زدته بلاء زادني حسن ظن وقال شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص قال افتخر رجل عند ابن مسعود رضي الله عنه فقال أنا فلان بن فلان ابن الاشياخ الكرام فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله. وهذا صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وكذا روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق وعن أبيه العباس علي بن أبي طالب مثل ذلك وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبو ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن أبي برزة ومكحول وعثمان بن أبي حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبو الهذيل وابن سابط وهذا اختيار ابن جرير وتقدم روايته عن كعب الاحبار أنه إسحاق وهكذا روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبى بكر عن الزهري عن أبي سفيان عن العلاء بن جارية عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الاحبار أنه قال هو إسحاق وهذه الاقوال والله أعلم كلها مأخوذة عن كعب الاحبار فإنه لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه عن كتبه قديما فربما استمع له عمر رضي الله عنه فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا ما عنده عنه غثها وسمينها وليس لهذه الامة والله أعلم حاجة إلى حرف واحد مما عنده وقد حكى البغوي القول بأنه إسحاق عن عمر وعلي وابن مسعود والعباس رضي الله عنهم ومن التابعين عن كعب الاحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق عكرمة وعطاء ومقاتل والزهري والسدي قال وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد ورد في ذلك حديث لو ثبت لقلنا به على الرأس والعين ولكن لم يصح سنده. قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن
[ 20 ]
جدعان عن الحسن عن الاحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكره قال " هو إسحاق " ففي إسناده ضعيفان وهما الحسن بن دينار البصري متروك وعلي بن زيد بن جدعان منكر الحديث وقد رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان به مرفوعا ثم قال قد رواه مبارك بن فضالة عن الحسن عن الاحنف عن العباس رضي الله عنه وهذا أشبه وأصح والله أعلم. " ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به " قد تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم وقال سعيد بن جبير وعامر الشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال المفدى إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود وقال إسرائيل عن ثور عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الذبيح إسماعيل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد هو إسماعيل عليه السلام وكذا قال يوسف بن مهران وقال الشعبي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن دينار وعمرو بن عبيد عن الحسن البصري أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم إسماعيل عليه السلام قال ابن إسحاق وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال الله تعالى " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " ويقول الله تعالى " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " يقول بابن وابن ابن فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا وقال ابن إسحاق عن بريدة بن سفيان الاسلمي عن محمد بن كعب القرظي أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر إن هذا لشئ ما كنت أنظر فيه وإني لاراه كما قلت ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان يرى أنه من علمائهم فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك قال محمد بن كعب وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر أي ابني إبراهيم أمر بذبحه ؟ فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين وإن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه والفضل الذي ذكر الله تعالى منه لصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق لان إسحاق أبوهم والله أعلم أيهما كان وكل قد كان طاهرا طيبا مطيعا لله عز وجل وقال عبد الله بن الامام أحمد بن حنبل رحمه الله سألت أبي عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فقال إسماعيل ذكره في كتاب الزهد وقال ابن أبي حاتم وسمعت أبي يقول الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام قال وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا الذبيح إسماعيل. وقال البغوي في تفسيره وإليه ذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب والسدي والحسن البصري ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وهو رواية عن ابن عباس وحكاه أيضا عن أبي عمرو بن العلاء وقد روى ابن جرير في ذلك حديثا غريبا فقال حدثني محمد بن عمار الرازي حدثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمر بن عبد الرحيم الخطابي عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه حدثني عبد الله بن سعيد عن الصنابحي قال كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا
[ 21 ]
الذبيح إسماعيل أو إسحاق فقال على الخبير سقطتم: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال يا رسول الله عد علي مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقيل له يا أمير المؤمنين وما الذبيحان ؟ فقال إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله إن سهل الله له أمرها عليه ليذبحن أحد ولده قال فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا افد ابنك بمائة من الابل ففداه بمائة من الابل والثاني إسماعيل. وهذا حديث غريب جدا وقد رواه الاموي في مغازيه حدثنا بعض أصحابنا أخبرنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن القرشي حدثنا عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا الصنابحي قال حضرنا مجلس معاوية رضي الله عنه فتذاكر القوم إسماعيل أو إسحاق وذكره كذا كتبته من نسخة مغلوطة. وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى " فبشرناه بغلام حليم " فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى " وبشروه بغلام عليم " وأجاب عن البشارة بيعقوب بأنه قد كان بلغ معه السعي أي العمل ومن الممكن أنه قد كان ولد له أولاد مع يعقوب أيضا قال وأما القرنان اللذان كانا معلقين بالكعبة فمن الجائز أنهما نقلا من بلاد كنعان قال وقد تقدم أن من الناس من ذهب إلى أنه ذبح إسحاق هناك هذا ما اعتمد عليه في تفسيره وليس إليه بمذهب ولا لازم بل هو بعيد جدا والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل أثبت وأصح وأقوى والله أعلم. وقوله تعالى " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر قوله تعالى " نبيا " حال مقدرة أي سيصير منه نبي صالح. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما الذبيح إسحاق قال وقوله تعالى " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " قال بشر بنبوته - قال - وقوله تعالى " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته وحدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " قال إنما بشر به نبيا من الصالحين قال إنما بشر به نبيا حين فداه الله عز وجل من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان الثوري عن داود عن عكرمة عن ابن عباس " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " قال بشر به حين ولد وحين نبئ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " قال بعدما كان من أمره لما جاد الله تعالى بنفسه وقال الله عز وجل " وباركنا عليه وعلى إسحاق " وقوله تعالى " وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " كقوله تعالى " قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ". ولقد مننا على موسى وهارون (114) ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم (115) ونصرناهم فكانوا هم الغالبين (116) وءاتيناهما الكتاب المستبين (117) وهديناهما الصراط المستقيم (118) وتركنا عليهم في الاخرين (119) سلام على موسى وهارون (120) إنا كذالك نجزى المحسنين (121) إنهما من عبادنا المؤمنين (122) يذكر تعالى ما أنعم به على موسى وهارون من النبوة والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه وما كان يعتمد في حقهم من الاساءة العظيمة من قتل الابناء واستحياء النساء واستعمالهم في أخس الاشياء ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم وما كانوا جمعوه طول حياتهم ثم أنزل الله عز وجل على موسى الكتاب العظيم الواضح الجلي المستبين وهو التوراة كما قال تعالى " ولقد آتينا موسى وهارون
[ 22 ]
الفرقان وضياء " وقال عز وجل ههنا " وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم " أي في الاقوال والافعال / " وتركنا عليهما في الآخرين " أي أبقينا لهما من بعدهما ذكرا جميلا وثناء حسنا ثم فسره بقوله تعالى " سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا المؤمنين ". وإن إلياس لمن المرسلين (123) إذ قال لقومه ألا تتقون (124) أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين (125) الله ربكم ورب أآبائكم الاولين (126) فكذبوه فإنهم لمحضرون (127) إلا عباد الله المخلصين (128) وتركنا عليه في الاخرين (129) سلام على إل ياسين (130) إنا كذالك نجزى المحسنين (131) إنه من عبادنا المؤمنين (132) قال قتادة ومحمد بن إسحاق يقال إلياس هو إدريس وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبيدة بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إلياس هو إدريس وكذا قال الضحاك وقال وهب بن منبه هو إلياس بن نسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران بعثه الله تعالى في بني إسرائيل بعد حزقيل عليهما السلام وكانوا قد عبدوا صنما يقال له بعل فدعاهم إلى الله تعالى ونهاهم عن عبادة ما سواه وكان قد آمن به ملكهم ثم ارتد واستمروا على ضلالتهم ولم يؤمن به منهم أحد فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه الايمان به إن هم أصابهم المطر فدعا الله تعالى لهم فجاءهم الغيث فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر فسأل الله أن يقبضه إليه وكان قد نشأ على يديه اليسع بن أخطوب عليهما الصلاة والسلام فأمر إلياس أن يذهب إلى مكان كذا وكذا فمهما جاءه فليركبه ولا يهبه فجاءته فرس من نار فركب وألبسه الله تعالى النور وكساه الريش وكان يطير مع الملائكة ملكا إنسيا سماويا أرضيا هكذا حكاه وهب بن منبه عن أهل الكتاب والله أعلم بصحته " إذ قال لقومه ألا تتقون " أي ألا تخافون الله عز وجل في عبادتكم غيره " أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين " قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي بعلا يعني ربا. قال عكرمة وقتادة وهي لغة أهل اليمن وفي رواية عن قتادة قال: وهي لغة أزد شنوءة. وقال ابن إسحاق أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق وقال الضحاك هو صنم كانوا يعبدونه وقوله تعالى " أتدعون بعلا " أي أتعبدون صنما " وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب آبائكم الاولين " أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له قال الله تعالى " فكذبوه فإنهم لمحضرون " أي للعذاب يوم الحساب " إلا عباد الله المخلصين " أي الموحدين منهم وهذا استثناء منقطع من مثبت. وقوله تعالى " تركنا عليه في الآخرين " أي ثناء جميلا " سلام على إلياسين " كما يقال في إسماعيل إسماعين وهي لغة بني أسد وأنشد بعض بني تميم في ضب صاده: يقول رب السوق لما جينا هذا ورب البيت إسرائينا ويقال ميكال وميكائيل وميكائين وإبراهيم وإبراهام. وإسرائيل وإسرائين وطور سيناء وطور سنين وهو موضع واحد وكل هذا سائغ وقرأ آخرون " سلام على إدراسين " وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه آخرون " سلام على آل ياسين " يعني آل محمد صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى " إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين " قد تقدم تفسيره والله تعالى أعلم.
[ 23 ]
وإن لوطا لمن المرسلين (133) إذ نجيناه وأهله أجمعين (134) إلا عجوزا في الغابرين (135) ثم دمرنا الاخرين (136) وإنكم لتمرون عليهم مصبحين (137) وباليل أفلا تعقلون (138) يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط رضي الله عنهما أنه بعثه إلى قومه فكذبوه فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته فإنها هلكت مع من هلك من قومها فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات وجعل محلتهم من الارض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلا ونهارا ولهذا قال تعالى " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون " أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها ؟ وإن يونس لمن المرسلين (139) إذ أبق إلى الفلك المشحون (140) فساهم فكان من المدحضين (141) فالتقمه الحوت وهو مليم (142) فلولا أنه كان من المسبحين (143) للبث في بطنه إلى يوم يبعثون (144) * فنبذناه بالعراء وهو سقيم (145) وأنبتنا عليه شجرء من يقطين (146) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون (147) فأمنوا فمتعناهم إلى حين (148) قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الانبياء وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " ونسبه إلى أمه وفي رواية إلى أبيه. قوله تعالى " إذا أبق إلى الفلك المشحون " قال ابن عباس رضي الله عنهما هو الموقر أي المملوء بالامتعة " فساهم " أي قارع " فكان من المدحضين " أي المغلوبين وذلك أن السفينة تلعبت بها الامواج من كل جانب وأشرفوا على الغرق فساهموا على من تقع عليه القرعة يلقى في البحر لتخف بهم السفينة فوقعت القرعة على نبي الله يونس عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات وهم يضنون به أن يلقى من بينهم فتجرد من ثيابه ليلقي نفسه وهم يأبون عليه ذلك وأمر الله تعالى حوتا من البحر الاخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عليه السلام فلا يهشم له لحما ولا يكسر له عظما فجاء ذلك الحوت وألقى يونس عليه السلام نفسه فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها. ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه فإذا هو حي فقام فصلى في بطن الحوت وكان من جملة دعائه يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت فقيل ثلاثة أيام قاله قتادة وقيل سبعة قاله جعفر الصادق رضي الله عنه وقيل أربعين يوما قاله أبو مالك وقال مجاهد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية والله تعالى أعلم بمقدار ذلك وفي شعر أمية بن أبي الصلت: وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوت لياليا وقوله تعالى " فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " قيل لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء قاله الضحاك بن قيس وأبو العالية ووهب بن منبه وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير وقد ورد في الحديث الذي سنورده إن شاء الله تعالى ما يدل على ذلك إن صح الخبر وفي حديث ابن عباس " تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ". وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والضحاك وعطاء بن السائب والسدي والحسن وقتادة " فلولا أنه كان من المسبحين " يعني المصلين وصرح بعضهم بأنه كان من المصلين قبل ذلك وقال بعضهم كان من المسبحين في جوف أبويه وقيل المراد " فلولا أنه كان من المسبحين " هو قوله
[ 24 ]
عز وجل " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين " قاله سعيد بن جبير وغيره. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه - ولا أعلم أنسا إلا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - " أن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت فقال اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقلبت الدعوة تحن بالعرش قالت الملائكة يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيده غريبة فقال الله تعالى أما تعرفون ذلك قالوا يا رب ومن هو ؟ قال عز وجل عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة ؟ قالوا يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء ؟ قال بلى فأمر الحوت فطرحه بالعراء " ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به زاد ابن أبي حاتم قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عز وجل عليه اليقطينة قلنا يا أبا هريرة وما اليقطينة ؟ قال شجرة الدباء. قال أبو هريرة رضي الله عنه: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الارض - أو قال هشاش الارض - قال فتتفشح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره وهو: فأنبت يقطينا عليه برحمة من الله لولا الله ألقي ضاحيا وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مسندا مرفوعا في تفسير سورة الانبياء ولهذا قال تعالى " فنبذناه " أي لقيناه " بالعراء " قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره وهي الارض التي ليس بها نبت ولا بناء قيل على جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم " وهو سقيم " أي ضعيف البدن قال ابن مسعود رضي الله عنه كهيئة الفرخ ليس عليه ريش وقال السدي كهيئة الظبي حين يولد وهو المنفوس وقاله ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد أيضا " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين " قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاوس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغير واحد قالوا كلهم اليقطين هو القرع وقال هشيم عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير وكل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين وفي رواية عنه كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين وذكر بعضهم في القرع فوائد منها سرعة نباته وتظليل ورقه لكبره ونعومته وأنه لا يقربها الذباب وجودة تغذية ثمره وأنه يؤكل نيئا ومطبوخا وقشره أيضا وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ويتتبعه من نواحي الصحفة. وقوله تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " روى شهر بن حوشب عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعدما نبذه الحوت رواه ابن جرير حدثني الحارث حدثنا أبو هلال عن شهر به وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت " قلت " ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا أمر بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت فصدقوه كلهم وآمنوا به وحكى البغوي أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون وقوله تعالى " أو يزيدون " قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه: بل يزيدون وكانوا مائة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة وثلاثين ألفا وعنه مائة ألف وبضعة وأربعين ألفا والله أعلم وقال سعيد بن جبير يزيدون سبعين ألفا وقال مكحول كانوا مائة ألف وعشرة آلاف رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الرحيم البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال سمعت زهيرا يحدث عمن سمع أبا العالية يقول حدثني أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " قال " يزيدون عشرين ألفا ورواه الترمذي عن علي بن حجر عن الوليد بن مسلم عن زهير عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به وقال
[ 25 ]
غريب رواه ابن أبي حاتم من حديث زهير به قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في ذلك معناه إلى المائة الالف أو كانوا يزيدون عندكم يقول كذلك كانوا عندكم ولهذا سلك ابن جرير ههنا ما سلكه عند قوله تعالى " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " وقوله تعالى " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " وقوله تعالى " فكان قاب قوسين أو أدنى " المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد وقوله تعالى " فآمنوا " أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم " فمتعناهم إلى حين " أي إلى وقت آجالهم كقوله جلت عظمته " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ". فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون (150) ألآ إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله وإنهم لكاذبون (152) أصطفى البنات على البنين (153) مالكم كيف تحكمون (154) أفلا تذكرون (155) أم لكم سلطان مبين (156) فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين (157) وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون (158) سبحان الله عما يصفون (159) إلا عباد الله المخلصين (160) يقول تعالى منكرا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات سبحانه ولهم ما يشتهون أي من الذكور أي يودون لانفسهم الجيد " وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم " أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين يقول عز وجل فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لانفسهم ولهذا قال تعالى " فاستفتهم " أي سلهم على سبيل الانكار عليهم " ألربك البنات ولهم البنون " كقوله عز وجل " ألكم الذكر وله الانثى * تلك إذا قسمة ضيزى ". وقوله تبارك وتعالى " أم خلقنا الملائكة إناثاوهم شاهدون " أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جل وعلا " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون " أي يسئلون عن ذلك يوم القيامة وقوله جلت عظمته " ألا إنهم من إفكهم " أي من كذبهم " ليقولون ولد الله " أي صدر منه الولد " وإنهم لكاذبون " فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب فأولا جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولدا تعالى وتقدس وجعلوا ذلك الولد أنثى ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم ثم قال تعالى منكرا عليهم " أصطفى البنات على البنين " أي أي شئ يحمله عن أن يختار البنات دون البنين كقوله عز وجل " أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما " ولهذا قال تبارك وتعالى " مالكم كيف تحكمون " أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون " أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين " أي حجة على ما تقولونه ؟ " فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين " أي هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندا إلى كتاب منزل من السماء عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل بل لا يجوزه العقل بالكلية. وقوله تعالى " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " قال مجاهد قال المشركون الملائكة بنات الله تعالى فقال أبو بكر رضي الله عنه فمن أمهاتهن ؟ قالوا بنات سروات الجن وكذا قال قتادة وابن زيد ولهذا قال تبارك وتعالى " ولقد علمت الجنة " أي الذين نسبوا إليهم ذلك " إنهم لمحضرون " أي إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " قال زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان تعالى الله عن ذلك
[ 26 ]
علوا كبيرا حكاه ابن جرير وقوله جلت عظمه " سبحان الله عما يصفون " أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا. " إلا عباد الله المخلصين " استثناء منقطع وهو من مثبت إلا أن يكون الضمير قوله تعالى " عما يصفون " عائد إلى الناس جميعهم ثم استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله تعالى " إنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين " وفي هذا الذي قاله نظر والله سبحانه وتعالى أعلم فأنكم وما تعبدون (161) مآ أنتم عليه بفاتنين (162) إلا من هو صال الجحيم (163) وما منآ إلا له مقام معلوم (164) وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166) وإن كانوا ليقولون (167) لو أن عندنا ذكرا من الاولين (168) لكنا عباد الله المخلصين (169) فكفروا به فسوف يعلمون (170) يقول تعالى مخاطبا للمشركين " فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم " أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذرئ للنار " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة كما قال تبارك وتعالى " إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك " أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل ثم قال تبارك وتعالى منزها للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله " وما منا إلا له مقام معلوم " أي له موضع مخصوص في السموات ومقامات العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد عن أبيه وكان ممن بايع يوم الفتح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه " أطت السماء وحق لها أن تئط ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم " وما منا إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون " وقال الضحاك في تفسيره " وما منا إلا له مقام معلوم " قال كان مسروق يروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم " فذلك قوله تعالى " وما منا إلا له مقام معلوم " وقال الاعمش عن أبي إسحاق عن مسروق عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه " وما منا إلا له مقام معلوم " وكذا قال سعيد بن جبير وقال قتادة كانوا يصلون الرجال والنساء جميعا حتى نزلت " وما منا إلا له مقام معلوم " فتقدم الرجال وتأخر النساء " وإنا لنحن الصافون " أي نقف صفوفا في الطاعة كما تقدم عند قوله تبارك وتعالى " والصافات صفا " قال ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت " وإنا لنحن الصافون " فصفوا وقال أبو نضرة كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ثم قال أقيموا صفوفكم استووا قياما يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة ثم يقول " وإنا لنحن الصافون " تأخر يا فلان تقدم يا فلان ثم يتقدم فيكبر رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الارض مسجدا وتربتها طهورا " الحديث " وإنا لنحن المسبحون " أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد " وما منا إلا له مقام معلوم "
[ 27 ]
الملائكة " وإنا لنحن الصافون " الملائكة " وإنا لنحن المسبحون " الملائكة نسبح الله عز وجل. وقال قتادة " وإنا لنحن المسبحون " يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة كما قال تبارك وتعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ". قوله جل وعلا " وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الاولين لكنا عباد الله المخلصين " أي قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله وما كان من أمر القرون الاولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جل جلاله " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا " وقال تعالى " أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون " ولهذا قال تعالى ههنا " فكفروا به فسوف يعلمون " وعيد أكيد وتهديد شديد على كفرهم بربهم عز وجل وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم. ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173) فتول عنهم حتى حين (174) وأبصرهم فسوف يبصرون (175) أفبعذابنا يستعجلون (176) فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين (177) وتول عنهم حتى حين (178) وأبصر فسوف يبصرون (179) يقول تبارك وتعالى " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " أي تقدم في الكتاب الاول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " وقال عز وجل " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " ولهذا قال جل جلاله " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون " أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم كيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين " وإن جندنا لهم الغالبون " أي تكون لهم العاقبة وقوله جل وعلا " فتول عنهم حتى حين " أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر ولهذا قال بعضهم غيا ذلك إلي يوم بدر وما بعدها أيضا في معناها وقوله جلت عظمته " وأبصرهم فسوف يبصرون " أي انظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفيك وتكذيبك ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد " فسوف يبصرون " ثم قال عز وجل " أفبعذابنا يستعجلون " أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك فإن الله تعالى يغضب عليهم بذلك ويجعل لهم العقوبة ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة قال الله تبارك تعالى " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم بإهلاكهم ودمارهم وقال السدي " فإذا نزل بساحتهم " يعنى بدارهم " فساء صباح المنذرين " أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون محمد والله محمد والخميس فقال النبي صلى الله عليه وسلم " الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " ورواه البخاري من حديث مالك عن حميد عن أنس رضي الله عنه وقال الامام أحمد حدثنا روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن
[ 28 ]
مالك عن أبي طلحة رضي الله عنه قال: لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقد أخذوا مساحيهم وغدوا إلى حروثهم وأرضيهم فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم نكصوا مدبرين فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " لم يخرجوه عن هذا الوجه وهو صحيح على شرط الشيخين قوله " وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون " تأكيد لما تقدم من الامر بذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون (180) وسلام على المرسلين (181) والحمد لله رب العالمين (182) ينزه تبارك وتعالى نفسه ويقدسها ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علوا كبيرا ولهذا قال تبارك وتعالى " سبحان ربك رب العزة " أي ذي العزة التي لا ترام " عما يصفون " أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين " وسلام على المرسلين " أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة لسلامة ما قالوه في ربهم وصحته وحقيته " والحمد لله رب العالمين " أي له الحمد في الاولى والآخرة في كل حال ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة ويستلزم إثبات الكمال كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ويستلزم التنزيه من النقص قرن بينهما في هذا الموضع وفي مواضع كثيرة من القرآن ولهذا قال تبارك وتعالى " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين " وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين فأنا رسول من المرسلين " هكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سعيد عنه كذلك وقد أسنده ابن أبي حاتم رحمه الله فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو بكر الاعين ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا حدثنا حسين بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن أبي طلحة رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلمتم علي فسلموا على المرسلين " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا نوح حدثنا أبو هارون عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد أن يسلم قال " سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " ثم يسلم إسناده ضعيف وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمار بن خالد الواسطي حدثنا شبابة عن يونس بن أبي إسحاق عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سره أن يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين " وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي رضي الله عنه قال أبو محمد البغوي في تفسيره أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن منجويه حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا إبراهيم بن سهلويه حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن ثابت بن أبي صفية عن الاصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه قال: من أحب أن يكتال بالمكيال الاوفى من الاجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين ". وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس عن عبد الله بن زيد بن أرقم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قال دبر كل صلاة " سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين " ثلاث مرات فقد اكتال بالجريب الاوفى من الاجر " وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة والله سبحانه وتعالى أعلم.
[ 29 ]
سورة ص بسم الله الرحمن الرحيم ص والقرءان ذى الذكر (1) بل الذين كفروا في عزة وشقاق (2) كم أهلكنا من قرن فنادوا ولات حين مناص (3) * أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا، وقوله تعالى " والقرآن ذي الذكر " أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ونفع لهم في المعاش والمعاد قال الضحاك في قوله تعالى " ذي الذكر " كقوله تعالى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " أي تذكيركم وكذا قال قتادة وأختاره ابن جرير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإسماعيل بن أبي خالد وابن عيينة وأبو حصين وأبو صالح والسدي " ذي الذكر " ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف مشتمل على التذكير والاعذار والانذار واختلفوا في جواب هذا القسم فقال بعضهم هو قوله تعالى " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب " وقيل قوله تعالى " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " حكاهما ابن جرير وهذا الثاني فيه بعد كبير وضعفه ابن جرير وقال قتادة جوابه " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " واختاره ابن جرير ثم حكى ابن جرير عن بعض أهل العربية أنه قال جوابه " ص " بمعنى صدق حق " والقرآن ذي الذكر " وقيل جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها والله أعلم، وقوله تبارك وتعالى " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر وإنما لم ينتفع به الكافرون لانهم " في عزة " أي استكبار عنه وحمية " وشقاق " أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة ثم خوفهم ما أهلك به الامم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء فقال تعالى " كم أهلكنا من قبلهم من قرن " أي من أمة مكذبة " فنادوا " أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى وليس ذلك بمجد عنهم شيئا كما قال عز وجل " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون " أي يهربون " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون " قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحاق التميمي قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن قول الله تبارك وتعالى " فنادوا ولات حين مناص " قال ليس بحين نداء ولا نزو ولا فرار وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ليس بحين مغاث وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد * تذكر ليلى لات حين تذكر * وقال محمد بن كعب في قوله تعالى " فنادوا ولات حين مناص " يقول نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم واستناصوا للتوبة حيت تولت الدنيا عنهم وقال قتادة لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء وقال مجاهد " فنادوا ولات حين مناص " ليس بحين فرار ولا إجابة وقد روي نحو هذا عن عكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة وعن مالك عن زيد بن أسلم " ولات حين مناص " ولا نداء في غير حين النداء وهذه الكلمة وهي لات هي لا التي للنفي زيدت معها التاء كما تزاد في ثم فيقولون ثمت ورب فيقولون ربت وهى مفصولة والوقف عليها ومنهم من حكى عن المصحف الامام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين ولا تحين مناص والمشهور الاول ثم قرأ الجمهور بنصب حين تقديره وليس الحين حين مناص ومنهم من جوز النصب بها وأنشد تذكر حب ليلى لات حينا وأضحى الشيب قد قطع القرينا
[ 30 ]
ومنهم من جرز الجر بها وأنشد: طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء وأنشد بعضهم أيضا: * ولات ساعة مندم * بخفض الساعة وأهل اللغة يقولون النوص التأخر والبوص التقدم ولهذا قال تبارك وتعالى " ولات حين مناص " أي ليس الحين حين فرار ولا ذهاب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب (4) أجعل الالهة إلاها واحدا إن هذا لشئ عجاب (5) وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا علئ الهتكم إن هذا لشئ يراد (6) ما سمعنا بهذا في الملة الاخرة إن إلا اختلاق (7) أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب (8) أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب (9) أم لهم ملك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب (10) جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب (11) يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعجيهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرا نذيرا كما قال عز وجل " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " وقال جل وعلا ههنا " وعجبوا أن جاءهم منذر منهم " أي بشر مثلهم وقال الكافرون " هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا " أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو ؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله فإنهم قد تلقوا عن آبائهم عبادة الاوثان وأشربته قلوبهم فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الاله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب * وانطلق الملا منهم " وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين " امشوا " أي استمروا على دينكم " واصبروا على آلهتكم " ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد وقوله تعالى " إن هذا لشئ يراد " قال ابن جرير إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشئ يريد به الشرف عليكم والاستعلاء وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه " ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات " قال السدي إن ناسا من قريش اجتمعوا فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والاسود بن المطلب والاسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش فقال بعضهم لبعض انطلقوا بنا إلى أبى طالب فلنكلمه فيه فلينصفنا منه فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه الذي يعبده فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا إليه شئ فتعيرنا به العرب يقولون تركوه حتى إذا مات عنه تناولوه فبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فاستأذن لهم على أبي طالب فقال هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فلما دخلوا عليه قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا ندعه وإلهه قال فبعث إليه أبو طالب فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك قال صلى الله عليه وسلم " يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم ؟ " قال وإلام تدعوهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم " أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم " فقال أبو جهل لعنه الله من بين القوم ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها قال صلى الله عليه وسلم " تقولون لا إله إلا الله "
[ 31 ]
فنفروا وقالوا سلنا غيرها قال صلى الله عليه وسلم " لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها " فقاموا من عنده غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي أمرك بهذا " وانطلق الملا منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد فلما خرجوا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى قول لا إله إلا الله فأبى وقال بل على دين الاشياخ ونزلت " إنك لا تهدي من أحببت " وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو أسامة حدثنا الاعمش حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل قال فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرق له عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب أي ابن أخي مال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا عم إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية " ففزعوا لكلمته ولقوله فقال القوم كلمة واحدة نعم وأبيك عشرا فقالوا وما هي قال أبو طالب وأي كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " قال ونزلت من هذا الموضع إلى قوله " بل لما يذوقوا عذاب " لفظ أبي كريب وهكذا رواه الامام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن أبى أسامة عن الاعمش عن عباد غير منسوب به نحوه ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضا كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الاعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه قال الترمذي حسن وقولهم " ما سمعنا بهذا في في الملة الآخرة " أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة قال مجاهد وقتادة وأبو زيد يعنون دين قريش وقال غيرهم يعنون النصرانية قالوا محمد بن كعب والسدي وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة يعني النصرانية قالوا لو كان هذا القرآن حقا لاخبرتنا به النصارى " إن هذا إلا اختلاق " قال مجاهد وقتادة كذب وقال ابن عباس تخرص وقولهم " أأنزل عليه الذكر من بيننا " يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم كما قال في الآية الاخرى " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " قال الله تعالى " أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات " ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم قال الله تعالى " بل لما يذوقوا عذاب " أي إنما يقولون هذا لانهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله تعالى ونقمته سيعلمون غب ما قالوا وما كذبوا به يوم يدعون إلى نار جهنم دعا ثم قال تعالى مبينا أنه المتصرف في ملكه الفعال لما يشاء الذي يعطي من يشاء ما يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله لان العباد لا يملكون شيئا من الامر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة وما يملكون من قطمير ولهذا قال تعالى منكرا عليهم " أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب " أي العزيز الذي لا يرام جنابه الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا * أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما * فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا " وقوله تعالى " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا " وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلى الله عليه وسلم وكما أخبر عز وجل عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا " أألقي
[ 32 ]
الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الاشر " وقوله تعالى " أم لهم ملك السموات والارض وما بينهما فليرتقوا في الاسباب " أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الاسباب قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم يعني طرق السماء وقال الضحاك رحمه الله تعالى فليصعدوا إلى السماء السابعة قال عز وجل " جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب " أي هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون ومكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الاحزاب المكذبين وهذه الآية كقوله جلت عظمته " أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر " وكان ذلك يوم بدر " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ". كذبت قبلهم قوم نوح وعاد ذو الاوتاد (12) وثمود وقوم لوط وأصحاب لئيكة أولائك الاحزاب (13) إن كل كذب الرسل فحق عقاب (14) وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لهم من فواق (15) وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب (16) اصبر على ما يقولون يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الانبياء عليهم الصلاة والسلام وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة وقوله تعالى " أولئك الاحزاب " أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا فما دافع ذلك عنهم من عذاب الله من شئ لما جاء أمر ربك ولهذا قال عز وجل " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب " فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر وقوله تعالى " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق " قال مالك عن زيد بن أسلم أي ليس لها مثنوية أي ما ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها أي فقد اقتربت ودنت وأزفت وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها فلا يبقى أحد من أهل السموات والارض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل وقوله جل جلاله " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب فإن القط هو الكتاب وقيل هو الحظ والنصيب قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك والحسن وغير واحد سألوا تعجيل العذاب زاد قتادة كما قالوا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " وقيل سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب. قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له بالصبر على أذاهم ومبشرا له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر. واذكر عبدنا داود ذا الايد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والاشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20) تعالى عن عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد والايد القوة في العلم والعمل قال ابن
[ 33 ]
عباس رضي الله عنهما والسدى وابن زيد الايد: القوة وقرأ ابن زيد " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون " وقال مجاهد الايد القوة في الطاعة وقال قتادة أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقها في الاسلام وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وإنه كان أوابا " وهو الرجاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه وقوله تعالى " إنا سخرك الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق " أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار كما قال عز وجل " يا جبال أوبي معه والطير " وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه وتجيبه الجبال الشامخات ترجع معه وتسبح تبعا له قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الكريم عن موسى بن أبي كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه بلغه أن أم هانئ رضي الله عنها ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة صلى الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس رضي الله عنهما قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة يقول الله عز وجل " يسبحن بالعشي والاشراق " ثم رواه من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي المتوكل عن أيوب بن صفوان عن مولاه عبد الله بن الحارث بن نوفل أن ابن عباس رضي الله عنهما كان لا يصلي الضحى قال فأدخلته على أم هانئ رضي الله عنها فقلت أخبري هذا ما أخرتني فقالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح في بيتي ثم أمر بماء صب في قصعة ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه فاغتسل ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن وسجودهن وجلوسهن سواء قريب بعضهم من بعض فخرج ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقول لقد قرأت ما بين اللوحين ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن " يسبحن بالعشي والاشراق " وكنت أقول أين صلاة الاشراق وكان بعد يقول صلاة الاشراق ولهذا قال عز وجل " والطير محشورة " أي محبوسة في الهواء " كل له أواب " أي مطيع يسبح تبعا له قال سعيد بن جبير وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد " كل له أواب " أي مطيع وقوله تعالى " وشددنا ملكه " أن جعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك قال ابن أبي نجيح عن مجاهد كان أشد أهل الدنيا سلطانا وقال السدي كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف وقال بعض السلف بلغني أنه كان يحرسه في كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألفا لا تدور عليهم النوبة إلى مثلها من العام القابل وقال غيره أربعون ألفا مشتملون بالسلاح وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم من رواية علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن نفرين من بني إسرائيل استعدى أحدهما على الآخر إلى داود عليه الصلاة والسلام أنه اغتصبه بقرا فأنكر الآخر ولم يكن للمدعي بينة فأرجأ أمرهما فلما كان الليل أمر داود عليه الصلاة والسلام في المنام بقتل المدعي فلما كان النهار طلبهما وأمر بقتل المدعي فقال يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني هذا بقري ؟ فقال له إن الله تعالى أمرني بقتلك فأنا قاتلك لا محالة فقال والله يا نبي الله إن الله لم يأمرك بقتلي لاجل هذا الذي ادعيت عليه وإنى لصادق فيما ادعيت ولكني كنت قد اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود عليه السلام فقتل قال ابن عباس عليه السلام فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وهو الذي يقول الله عز وجل " وشددنا ملكه ". وقوله جل وعلا " وأتيناه الحكمة " قال مجاهد يعني الفهم والعقل والفطنة وقال مرة: الحكمة والعدل وقال مرة: الصواب وقال قتادة كتاب الله واتباع ما فيه وقال السدي " الحكمة " النبوة وقوله جل جلاله " وفصل الخطاب " قال شريح القاضي والشعبي فصل الخطاب الشهود والايمان وقال قتادة شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه هو فصل الخطاب الذي فصل به الانبياء والرسل أو قال المؤمنون والصالحون وهو قضاء هذه الامة إلى يوم القيامة وكذا قال أبو عبد الرحمن السلمي وقال مجاهد والسدي هو إصابة القضاء وفهم ذلك وقال
[ 34 ]
مجاهد أيضا هو الفصل في الكلام وفي الحكم وهذا يشمل هذا كله وهو المراد واختاره ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة النميري حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: أول من قال أما بعد داود عليه السلام وهو فصل الخطاب وكذا قال الشعبي فصل الخطاب أما بعد. * وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سوآء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ماهم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذالك وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب (25) قد ذكر المفسرون ههنا قصة أكثرها مأخوذ من الاسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ولكن روى ابن أبي حاتم هنا حديثا لا يصح سنده لانه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه ويزيد وإن كان من الصالحين لكنه ضعيف الحديث عند الائمة فالاولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة وأن يرد علمها إلى الله عز وجل فإن القرآن حق وما تضمن فهو حق أيضا وقوله تعالى " ففزع منهم " إنما كان ذلك لانه كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي احتاطا به يسألانه عن شأنهما وقوله عز وجل " وعزني في الخطاب " أي غلبني يقال عز يعز إذا قهر وغلب وقوله تعالى " وظن داود إنما فتناه " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أي اختبرناه وقوله تعالى " وخر راكعا " أي ساجدا " وأناب " ويحتمل أنه ركع أولا ثم سجد بعد ذلك وقد ذكر أنه استمر ساجدا أربعين صباحا " فغفرنا له ذلك " أي ما كان منه مما يقال فيه إن حسنات الابرار سيئات المقربين. وقد اختلف الائمة في سجدة ص هل هي من عزائم السجود ؟ على قولين الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود بل هي سجدة شكر والدليل على ذلك ما رواه الامام أحمد حيث قال حدثنا إسماعيل هو ابن علية عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في السجدة في ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ورواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي في تفسيره من حديث أيوب به وقال الترمذي حسن صحيح وقال النسائي أيضا عند تفسير هذه الآية أخبرني إبراهيم بن الحسن هو المقسمي حدثنا حجاج بن محمد عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال " سجدها داود عليه الصلاة والسلام توبة ونسجدها شكرا " تفرد بروايته النسائي ورجال إسناده كلهم ثقات وقد أخبرني شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو إسحاق المدرجي أخبرنا زاهر بن أبي طاهر الثقفي حدثنا زاهر بن أبي طاهر الشحامي أخبرنا أبو سعيد الكنجدروذي أخبرنا الحاكم أبو أحمد محمد بن محمد الحافظ أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا محمد بن يزيد ابن خنيس عن الحسن بن محمد بن عبيد الله بن أبي يزيد قال: قال لي ابن جريج يا حسن حدثني جدك
[ 35 ]
عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنى رأيت فيما يرى النائم كأنى أصلي خلف شجرة فقرأت السجدة فسجدت فسجدت الشجرة بسجودي فسمعتها تقول وهي ساجدة: اللهم اكتب لي بها عندك أجرا وأجعلها لي عندك دخرا وضع بها عني وزرا وأقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود قال ابن عباس رضي الله عنهما فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قام فقرأ السجدة ثم سجد فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل من كلام الشجرة رواه الترمذي عن قتيبة وابن ماجة عن أبي بكر بن خلاد كلاهما عن محمد بن يزيد بن خنيس نحوه وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقال البخاري عند تفسيرها أيضا حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن العوام قال سألت مجاهدا عن سجدة ص فقال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت فقال أو ما تقرأ " ومن ذريته داود وسليمان " " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي به فسجدها داود عليه الصلاة والسلام فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حميد حدثنا بكر هو ابن عبد الله المزني أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه رأى رؤيا أنه يكتب ص فلما بلغ إلى الآية التي يسجد بها رأى الدواة والقلم وكل شئ بحضرته انقلب ساجدا قال قفصها على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها بعد تفرد به أحمد وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر " ص " فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود فقال صلى الله عليه وسلم " إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم " فنزل وسجد تفرد به أبو داود وإسناده عل شرط الصحيح. وقوله تعالى " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لنوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا " وقال الامام أحمد حدثنا يحي بن آدم ثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر " ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الاغر عن عطية به وقال لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة ثنا عبد الله بن أبي زياد ثنا سيار ثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرحيم الذي كنت تمجدني في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته ؟ فيقول الله عز وجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان. يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) هذه وصية من الله عز وجل لولاة الامور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسي يوم الحساب بالوعيد الاكيد والعذاب الشديد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبى حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد حدثنا مروان بن جناح حدثني إبراهيم أبو
[ 36 ]
زرعة كان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الاول وقرأت القرآن وفقهت فقلت يا أمير المؤمنين أقول ؟ قال قل في أمان الله قلت يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله " الآية وقال عكرمة " لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " هذا من المقدم والمؤخر لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا وقال السدي لهم عذاب شديد بما تركوا إن يعملوا ليوم الحساب وهذا القول أمشى على ظاهر الآية والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذالك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولوا الالباب (29) يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثا وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحدوه ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ولهذا قال تبارك وتعالى " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا " أي الذين لا يرون بعثا ولا معادا وإنما يعتقدون هذه الدار فقط " فويل للذين كفروا من النار " أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم ثم بين تعالى أنه عز وجل من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين قال تعالى " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض * أم نجعل المتقين كالفجار " أي لا نفعل ذلك ولا يستوون عند الله وإذا كان الامر كذلك فلا بد من دار أخرى يثاب فيها هذا المطيع ويعاقب فيها هذا الفاجر وهذا الارشاد يدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ويموت كذلك ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده فلا بد في حكمة الحكيم العليم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك دارا أخرى لهذا الجزاء والمواساة ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والماخذ العقلية الصريحة قال تعالى " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الالباب " أي ذوو العقول وهي الالباب جمع لب وهو العقل قال الحسن البصري والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل رواه ابن أبي حاتم. ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد (31) فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب (32) ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق (33) يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود سليمان أي نبيا كما قال عز وجل " وورث سليمان داود " أي في النبوة وإلا فقد كان له بنون غيره فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر وقوله تعالى " نعم العبد إنه أواب " ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والانابة إلى الله عز وجل قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن خالد حدثنا الوليد بن جابر
[ 37 ]
حدثنا مكحول قال لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له يا بني ما أحسن ؟ قال سكينة الله والايمان قال فما أقبح ؟ قال كفر بعد إيمان قال فما أحلى قال روح الله بين عباده قال فما أبرد ؟ قال عفو الله عن الناس وعفو الناس بعضهم عن بعض قال داود عليه السلام فأنت نبي قوله تعالى " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات قال مجاهد وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة والجياد السراع وكذا قال غير واحد من السلف وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبيه سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي في قوله عز وجل " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " قال كانت عشرين فرسا ذات أجنحة كذا رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا ابن أبي زائدة أخبرني إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن إبراهيم التيمي قال كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها وهذا أشبه والله أعلم وقال أبو داود حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني عمارة بن غزية أن محمد بن إبراهيم حدثه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب فقال صلى الله عليه وسلم " ما هذا يا عائشة ؟ " قالت رضي الله عنها بناتي ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع فقال صلى الله عليه وسلم " ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ " قالت رضي الله عنها فرس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذا الذي عليه ؟ " قالت رضي الله عنها جناحان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فرس له جناحان ؟ " قالت رضي الله عنها أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كانت له خيل لها أجنحة قالت رضي الله عنها فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه وقوله تبارك وتعالى " فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه من ذلك عن جابر رضي الله عنه قال جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله ما صليتها " فقال فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال والخيل تراد للقتال وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة حيث لا تمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في فتح تستر وهو منقول عن مكحول والاوزاعي وغيرهما والاول أقرب لانه قال بعده " ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والاعناق " قال الحسن البصري لا قال: والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ثم أمر بها فعقرت وكذا قال قتادة وقال السدي ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها وهذا القول اختاره ابن جرير قال لانه لم يكن ليعذب حيوانا بالعرقبة ويهلك مالا من ماله بلا سبب سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها ولا ذنب لها وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر لانه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبا لله تعالى بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله عز وجل ما هو خير منها وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا اسرع وخير من الخيل قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت قالا أتينا على رجل من أهل البادية فقال لنا البدوي أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل وقال " إنك لا تدع شيئا اتقاء الله تعالى إلا أعطاك الله عز وجل خيرا منه ".
[ 38 ]
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34) قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وءاخرين مقرنين في الاصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مئاب (40) يقول تعالى " ولقد فتنا سليمان " أي اختبرناه بأن سلبناه الملك " وألقينا على كرسيه جسدا " قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم يعني شيطانا " ثم أناب " أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته قال ابن جرير وكان اسم ذلك الشيطان صخرا قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقيل آصف قاله مجاهد وقيل أصروا قاله مجاهد أيضا وقيل حبيق قاله السدي وقد ذكروا هذه القصة مبسوطة ومختصرة وقد قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال أمر سليمان عليه الصلاة والسلام ببناء بيت المقدس فقيل له ابنه ولا يسمع فيه صوت حديد قال فطلب ذلك فله يقدر عليه فقيل له إن شيطانا في البحر يقال له صخر شبه المارد قال فطلبه وكانت في البحر عين يردها في كل سبعة أيام مرة فنزح ماءها وجعل فيها خمرا فجاء يوم وروده فإذا هو بالخمر فقال إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا قال ثم رجع حتى عطش عطشا شديدا ثم أتاها فقال إنك لشراب طيب إلا أنك تصبين الحليم وتزيدين الجاهل جهلا قال ثم شربها حتى غلب على عقله قال فأرى الخاتم أو ختم به بين كتفيه فذل قال وكان ملكه في خاتمه فأتي به سليمان عليه الصلاة والسلام فقال إنا قد أمرنا ببناء هذا البيت وقيل لنا لا يسمعن فيه صوت حديد قال فأتى ببيض الهدهد فجعل عليه زجاجة فجاء الهدهد فدار حولها فجعل يرى بيضه ولا يقدر عليه فذهب فجاء بالماس فوضعه عليه فقطعها به حتى أفضى إلى بيضه فأخذ الماس فجعلوا يقطعون به الحجارة وكان سليمان عليه الصلاة والسلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو الحمام لم يدخل بالخاتم فانطلق يوما إلى الحمام وذلك الشيطان صخر معه وذلك عند مقارفة قارف فيها بعض نسائه قال فدخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه فألقاه في البحر فالتقمته سمكة ونزع ملك سليمان منه وألقي على الشيطان شبه سليمان قال فجاء فقعد على كرسيه وسريره وسلط على ملك سليمان كله غير نسائه قال فجعل يقضي بينهم وجعلوا ينكرون منه أشياء حتى قالوا لقد فتن نبي الله وكان فيهم رجل يشبهونه بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في القوة فقال والله لاجربنه قال فقال يا نبي الله وهو لا يرى إلا أنه نبي الله أحدنا تصيبه الجنابة في الليلة الباردة فيدع الغسل عمدا حتى تطلع الشمس أترى عليه بأسا ؟ قال لا فبينما هو كذلك أربعين ليلة إذ وجد نبي الله خاتمه في بطن سمكة فأقبل فجعل لا يستقبله جني ولا طير إلا سجد له حتى انتهى إليهم " وألقينا على كرسيه جسدا " قال هو الشيطان صخر وقال السدي " ولقد فتنا سليمان " أي ابتلينا سليمان " وألقينا على كرسيه جسدا " قال شيطانا جلس على كرسيه أربعين يوما قال كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأة وكانت امرأة منهن يقال لها جرادة وهي آثر نسائه وآمنهن عنده وكان إذا أجنب أو أتى حاجة نزع خاتمه ولم يأمن عليه أحدا من الناس غيرها فأعطاها يوما خاتمه ودخل الخلاء فخرج الشيطان في صورته فقال هاتي الخاتم فأعطته فجاء حتى جلس على مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام وخرج سليمان بعد ذلك فسألها أن تعطيه خاتمه فقالت ألم تأخذه قبل ؟ قال لا وخرج كأنه تائه ومكث الشيطان يحكم بين الناس أربعين يوما قال فأنكر الناس أحكامه فاجتمع قراء بني إسرائيل وعلماؤهم فجاءوا حتى دخلوا على نسائه فقالوا لهن إنا قد أنكرنا هذا فإن كان سليمان فقد ذهب عقله وأنكرنا أحكامه قال فبكى النساء عند ذلك قال فأقبلوا يمشون حتى أتوه فأحدقوا به ثم نشروا يقرءون التوراة قال
[ 39 ]
فطار من بين أيديهم حتى وقع على شرفة والخاتم معه ثم طار حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت من حيتان البحر قال وأقبل سليمان عليه الصلاة والسلام في حاله التي كان فيها حتى انتهى إلى صياد من صيادي البحر وهو جائع وقد اشتد جوعه فسألهم من صيدهم وقال إني أنا سليمان فقام إليه بعضهم فضربه بعصا فشجه فجعل يغسل دمه وهو على شاطئ البحر فلام الصيادون صاحبهم الذي ضربه فقالوا بئس ما صنعت حيث ضربته قال إنه زعم أنه سليمان قال فأعطوه سمكتين مما قد مذر عندهم ولم يشغله ما كان به من الضرب حتى قام إلى شاطئ البحر فشق بطونهما فجعل يغسل فوجد خاتمه في بطن إحداهما فأخذه فلبسه فرد الله عليه بهاءه وملكه فجاءت الطير حتى حامت عليه فعرف القوم أنه سليمان عليه الصلاة والسلام فقام القوم يعتذرون مما صنعوا فقال ما أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم كان هذا الامر لا بد منه قال فجاء حتى أتى ملكه وأرسل إلى الشيطان فجئ به فأمر به فجعل في صندوق من حديد ثم أطبق عليه وقفل عليه بقفل وختم عليه بخاتمه ثم أمر به فألقي في البحر فهو فيه حتى تقوم الساعة وكان اسمه حبقيق قال وسخر الله له الريح ولم تكن سخرت له قبل ذلك وهو قوله " وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب " وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تبارك وتعالى " وألقينا على كرسيه جسدا " قال شيطانا يقال له آصف فقال له سليمان عليه السلام كيف تفتنون الناس ؟ قال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان عليه السلام وذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله تبارك وتعالى من نساء سليمان فلم يقربهن ولم يقربنه وأنكرنه قال فكان سليمان عليه الصلاة والسلام يستطعم فيقول أتعرفوني ؟ أطعموني أنا سليمان فيكذبونه حتى أعطته امرأته يوما حوتا ففتح بطنه فوجد خاتمه في بطنه فرجع إليه ملكه وفر آصف فدخل البحر هذه كلها من الاسرائيليات ومن أنكرها ما قاله ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة وعلي بن محمد قالوا حدثنا أبو معاوية أخبرنا الاعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب " قال أراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يدخل الخلاء فأعطى الجرادة خاتمه وكانت الجرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها هاتي خاتمي فأعطته إياه فلما لبسه دانت له الانس والجن والشياطين فلما خرج سليمان عليه السلام من الخلاء قال لها هاتي خاتمي قالت قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت ما أنت بسليمان فجعل لا يأتي أحدا يقول له أنا سليمان إلا كذبه حتي جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك سليمان عرف أنه من أمر الله عز وجل قال وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تبارك وتعالى أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان قال فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن أتنكرن من سليمان شيئا ؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرءوها على الناس وقالوا بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان عليه الصلاة والسلام فلم يزالوا يكفرونه وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان سليمان عليه السلام يحمل على شط البحر بالاجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فدعا سليمان عليه الصلاة والسلام فقال تحمل لي هذا السمك ؟ فقال نعم قال بكم ؟ قال بسمكة من هذا السمك قال فحمل سليمان عليه الصلاة والسلام السمك ثم انطلق به إلى منزله فلما انتهى الرجل إلى بابه أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم فأخذها سليمان عليه الصلاة والسلام فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه قال فلما لبسه دانت له الجن والانس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر فأرسل سليمان عليه السلام في طلبه وكان شيطانا مريدا فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فوثب
[ 40 ]
فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنماط معه من الرصاص قال فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر فذلك قوله تبارك وتعالى " ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا " ثم أناب يعني الشيطان الذي كان سلط عليه إسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قوي ولكن الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما إن صح عنه من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون نبوة سليمان عليه الصلاة والسلام فالظاهر أنهم يكذبون عليه ولهذا كان في السياق منكرات من أشدها ذكر النساء فإن المشهور عن مجاهد وغير واحد من أئمة السلف أن ذلك الجني لم يسلط على نساء سليمان بل عصمهن الله عز وجل منه تشريفا وتكريما لنبيه عليه السلام وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضي الله عنهم كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وقال يحيى بن أبي عروبة الشيباني: وجد سليمان خاتمه بعسقلان فمشى في حرقة إلى بيت المقدس تواضعا لله عز وجل رواه ابن أبي حاتم وقد روى ابن أبي حاتم عن كعب الاحبار في صفة كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام خبرا عجيبا فقال حدثنا أبي رحمه الله حدثنا أبو صالح كاتب الليث أخبرني أبو إسحاق المصري عن كعب الاحبار أنه لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية يا أبا إسحاق أخبرني عن كرسي سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وما كان عليه ومن أي شئ هو ؟ فقال كان كرسي سليمان من أنياب الفيلة مرصعا بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ وقد جعل له درجة منها مفصصا بالدر والياقوت والزبرجد ثم أمر بالكرسي فحف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ وجعل على رؤوس النخل التي عن يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رؤوس النخل التي على يسار الكرسي نسورا من ذهب مقابلة الطواويس وجعل على يمين الدرجة الاولى شجرتي صنوبر من ذهب عن يسارها أسدان من ذهب وعلى رؤوس الاسدين عمودان من زبرجد وجعل من جانبي الكرسي شجرتي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل عناقيدهما درا وياقوتا أحمر ثم جعل فوق درج الكرسي أسدان عظيمان من ذهب مجوفان محشوان مسكا وعنبرا فإذا أراد سليمان عليه السلام أن يصعد على كرسيه استدار الاسدان ساعة ثم يقعان فينضحان ما في آجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم يوضع منبران من ذهب واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان ثم يوضع أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب يقعد عليها سبعون قاضيا من بنى إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والطول ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وما عليه ويبسط الاسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الايسر ثم يصعد عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثانية فيبسط الاسد يده الاسد يده اليسرى وينشر النسر جناحه الايمن فإذا استوى سليمان عليه الصلاة والسلام على الدرجة الثالثة وقعد على الكرسي أحذ نسر من تلك النسور عظيم تاج سليمان عليه الصلاة والسلام فوضعه على رأسه فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة فقال معاوية رضي الله عنه وما الذي يديره يا أبا إسحاق ؟ قال تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني فإذا أحست بدورانه دارت تلك الاسود والنسور والطواويس التي في أسفل الكرسي دون التي أعلاه فإذا وقف وقفن كلهن منكسات رؤوسهن على رأس سليمان عليه الصلاة والسلام وهو جالس ثم ينضحن جميعا ما في أجوافهن من المسك والعنبر على رأس سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ثم تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود من جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرأها سليمان عليه الصلاة والسلام على الناس وذكر تمام الخبر وهو غريب جدا " قال رب اغفر لي وهب لى ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي إنك أنت الوهاب " قال بعضهم معناه لا ينبغي لاحد من بعدي أي لا يصلح لاحد أن يسلبنيه بعدي كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيه لا أنه
[ 41 ]
يحجر على من بعده من الناس والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكا لا يكون لاحد من بعده من البشر مثله وهذا هو ظاهر السياق من الآية وبذلك وردت الاحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البخاري عند تفسير هذه الآية حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا روح ومحمد بن جعفر عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة - أو كلمة نحوها - ليقطع علي الصلاة فأمكنني الله تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي " قال روح فرده خاسئا وكذا رواه مسلم والنسائي من حديث شعبة به وقال مسلم في صحيحه حدثنا محمد بن سلمة المرادي حدثنا عبد الله بن وهب عن معاوية بن صالح حدثني ربيعه بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فسمعناه يقول " أعوذ بالله منك - ثم قال - ألعنك بلعنة الله " ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال صلى الله عليه وسلم " إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أن آخذه والله لولا دعوة أخينا سليمان لاصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة " وقال الامام أحمد حدثنا أبو أحمد ثنا ميسرة بن معبد حدثنا أبو عبيد حاجب سليمان قال رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي فذهبت أمر بين يديه فردني ثم قال حدثني أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلى صلاة الصبح وهو خلفه فقرأ فالتبست عليه القراءة فلما فرغ من صلاته قال " لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الابهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لاصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " وقد روى أبو داود منه " من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل " عن أحمد بن أبي سريج عن أبي أحمد الزبيري به. وقال الامام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الاوزاعي حدثني ربيعة بن يزيد بن عبد الله الديلمي قال دخلت على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط له بالطائف يقال له الوهط وهو مخاصر فتى من قريش يزن بشرب (1) الخمر فقلت بلغني عنك حديث وأنه " من شرب من الخمر لم يقبل الله عز وجل له توبة أربعين صباحا وأن الشقي من شقي في بطن أمه وأنه من أتى بيت المقدس لا تنهزه إلا الصلاة فيه خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه " فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذب يده من يده ثم انطلق فقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما إني لا أحل لاحد أن يقول علي ما لم أقل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من شرب من الخمر شربة لا تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه - قال فلا أدري في الثالثة أو الرابعة قال - فإن عاد كان حقا على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال يوم القيامة " قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله عز وجل " وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن سليمان عليه السلام سأل الله تعالى ثلاثا فأعطاه اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأله ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه إياه وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطانا إياها " وقد روى هذا الفصل الاخير من هذا الحديث النسائي وابن ماجه من طرق عن عبد الله بن (1) عبارة الاصل المطبوع (يزيي ويشرب الخمر) والصواب ما أثبتناه أما في مسند أحمد ط / 176 وقال البنا الساعاتى في الفتح الرباني 17 / 137 في يزن: (بضم أوله وفتح الزاي ثم نون مشدودة أي يتهم بشرب الخمر). (*)
[ 42 ]
فيروز الديلمي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل خلالا ثلاثا " وذكره وقد روي من حديث رافع بن عمير رضي الله عنه بإسناد وسياق غريبين فقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن قتيبة العسقلاني حدثنا محمد بن أيوب بن سويد حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي الزاهرية عن رافع بن عمير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله عز وجل لداود عليه الصلاة والسلام ابن لي بيتا في الارض فبنى داود بيتا لنفسه قبل البيت الذي أمر به فأوحى الله إليه: يا داود نصبت بيتك قبل بيتي قال: يا رب هكذا قضيت من ملك استأثر ثم أخذ في بناء المسجد فلما تم السور سقط ثلاث فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال: يا داود إنك لا تصلح أن تبني لي بيتا قال: ولم يا رب ؟ قال: لما جرى على يديك من الدماء قال: يا رب أو ما كان ذلك في هواك ومحبتك ؟ قال: بلى ولكنهم عبادي وأنا أرحمهم فشق ذلك عليه فأوحى الله إليه: لا تحزن فإني سأقضي بناءه على يدي ابنك سليمان فلما مات داود أخذ سليمان في بنائه ولما تم قرب القرابين وذبح الذبائح وجمع بنى إسرائيل فأوحى الله إليه قد أرى سرورك ببنيان بيتي فسلني أعطك قال أسألك ثلاث خصال حكما يصادف حكمك وملكا لا ينبغي لاحد من بعدي ومن أتي هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الثنتان فقد أعطيهما وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن راشد اليمامي حدثنا إياس بن سلمة بن الاكوع عن أبيه رضي الله عنه قال ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلا استفتحه " سبحان الله ربي العلي الاعلى الوهاب " وقد قال أبو عبيد حدثنا علي بن ثابت عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال: لما مات نبي الله داود عليه السلام أوحى الله تبارك وتعالى إلى ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام أن سلني حاجتك قال: أسألك أن تجعل لي قلبا يخشاك كما كان قلب أبي وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عز وجل: أرسلت إلى عبدي وسألته حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قلبه يحبني لاهبن له ملكا لا ينبغي لاحد من بعده قال الله جلت عظمته: " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " - والتي بعدى - قال فأعطاه ما أعطاه وفي الآخرة لا حساب عليه. هكذا أورده أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه الصلاة والسلام في تاريخه 0 وروي عن بعض السلف أنه قال: بلغني عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال إلهي كن لسليمان كما كنت لي فأوحى الله عز وجل إليه: أن قل لسليمان أن يكون لي كما كنت لي أكن له كما كنت لك وقوله تبارك وتعالى " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " قال الحسن البصري رحمه الله لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضبا لله عز وجل عوضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر وقوله جل وعلا " حيث أصاب " أي حيث أراد من البلاد قوله جل جلاله " والشياطين كل بناء وغواص " أي منهم من هو مستعمل في الابنية الهائلة من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات إلى غير ذلك من الاعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما فيها من اللآلئ والجواهر والاشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها " وآخرين مقرنين في الاصفاد " أي موثقون في الاغلال والاكبال ممن فد تمرد وعصى وامتنع من العمل وأبى أو قد أساء في صنيعه واعتدى قوله وقوله عز وجل " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خير بين أن يكون عبد ا رسولا - وهو الذي يفعل ما يؤمر به وإنما هو قاسم يقسم بين الناس كما أمره الله تعالى به - وبين أن يكون نبيا ملكا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حساب ولا جناح: اختار المنزلة الاولى بعدما استشار جبريل عليه الصلاة والسلام فقال له تواضع فاختار المنزلة الاولى لانها أرفع قدرا عند الله عز وجل وأعلى منزلة في المعاد وإن كانت المنزلة الثانية وهي
[ 43 ]
النبوة مع الملك عظيمة أيضا في الدنيا والآخرة ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى على أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضا فقال تعالى " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " أي في الدار والآخرة. واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44) يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه الصلاة والسلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من الدنيا شئ يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لايمانها بالله تعالى ورسوله فكانت تخدم الناس بالاجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فسلب جميع ذلك حتى آل به الحال إلى أن ألقي على مزبلة من مزابل البلدة هذه المدة بكمالها ورفضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر وتم الاجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال " إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وفي هذه الآية الكريمة قال " واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " قيل بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الارض برجله ففعل فأنبع الله تعالى عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الاذى ثم أمره فضرب الارض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تبارك وتعالى " اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " قال ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا حدثنا يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب عليه الصلاة والسلام لا أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق وقال وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام " أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " فاستبطأته فالتفتت تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ؟ فوالله القدير على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو قال وكان له أنذران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الاخرى في أندر الشعير حتى فاض " هذا لفظ ابن جرير رحمه الله. (1) هذه من الاسرائيليات وهي من المستحيلات في حق الانبياء عليهم الصلاة والسلام. (*)
[ 44 ]
وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال عليه الصلاة والسلام بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك " انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به ولهذا قال تبارك وتعالى " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولي الالباب " قال الحسن وقتادة أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم وقوله عز وجل " رحمة منا " أي به على صبره وثباته وإنابته وتواضعه واستكانته " وذكرى لاولي الالباب " أي لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج والمخرج والراحة. قوله جلت عظمته " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث " وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة وقيل لغير ذلك من الاسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والاحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه ولهذا قال جل وعلا " إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب " أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه " نعم العبد إنه أواب " أي رجاع منيب ولهذا قال جل جلاله " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا " واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الايمان وغيري وقد أخذوها بمقتضاها والله أعلم بالصواب. واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار (45) إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار (48) هذا ذكر يقول تبارك وتعالى مخبرا عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدي والابصار " يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " أولي الايدي " يقول أولي القوة " والابصار " يقول الفقه في الدين وقال مجاهد " أولي الايدي " يعني القوة في طاعة الله تعالى والابصار يعني البصر في الحق وقال قتادة والسدي أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين. وقوله تبارك وتعالى " إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار " قال مجاهد أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم هم غيرها وكذا قال السدي ذكرهم للآخرة وعملهم لها وقال مالك بن دينار نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها وكذا قال عطاء الخراساني. وقال سعيد بن جبير يعني بالدار الجنة يقول أخلصناها لهم بذكرهم لها وقال في رواية أخرى ذكرى الدار عقبى الدار وقال قتادة كانوا يذكرون الناس الدار الآخرة والعمل لها وقال ابن زيد جعل لهم خاصة أفضل شئ في الدار الآخرة. وقوله تعالى " وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار " أي لمن المختارين المجتبين الاخيار فهم أخيار مختارون. وقوله تعالى " واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار " قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم مستقصاة في سورة الانبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته ههنا وقوله عز وجل " هذا ذكر " أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر وقال السدي يعني القرآن العظيم. وإن للمتقين لحسن مئاب (49) جنات عدن مفتحة لهم الابواب (50) متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة
[ 45 ]
وشراب (51) * وعندهم قاصرات الطرف أتراب (52) هذا ما توعدون ليوم الحساب (53) إن هذا لرزقنا ماله من نفاد (54) يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة لحسن مآب وهو المرجع والمنقلب ثم فسره بقوله تعالى " جنات عدن " أي جنات إقامة مفتحة لهم الابواب والالف واللام ههنا الاضافة كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن ثواب الهباري حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الله بن مسلم يعني ابن هرمز عن ابن سابط عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب عند كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله - أو لا يسكنه - إلا نبي أو صديق أو شهيد أو أمام عدل " وقد رود في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة. قوله عز وجل " متكئين فيها " قيل متربعين على سرر تحت الحجال " يدعون فيها بفاكهة كثيرة " أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادو " وشراب " أي من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام " بأكواب وأباريق وكأس من معين " " وعندهم قاصرات الطرف " أي عن غير أزواجهن فلا يلتفن إلى غير بعولتهن " أتراب " أي متساويات في السن والعمر هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والسدي " هذا ما توعدون ليوم الحساب " أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين التي يصيرون إليها بعد نشوزهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه فراغ لها ولا زوال ولا أنقضاء ولا أنتهاء فقال تعالى " إن هذا لرزقنا ماله من نفاد " كقوله عز وجل " ما عندكم ينفد وما عند الله باق " وكقوله جل وعلا " عطاء غير مجذوذ " وكقوله تعالى " لهم أجر غير منمون " أي غير مقطوع وكقوله عز وجل " أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين أتقوا وعقبى الكافرين النار " والآيات في هذا كثيرة جدا. هذا وإن للطغين لشر مئاب (55) جهنم يصلونها فبئس المهاد (56) هذا فليذوقوه حميم وغساق (57) وءاخر من شكله أزواج (58) هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار (59) قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار (60) قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار (61) وقالوا مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار (62) أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار (63) إن ذالك لحق تخاصم أهل النار (64) لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ثنى بذكر حال الاشقياء ومرجعهم ومآبهم في دار معادهم وحسابهم فقال عز وجل " هذا وإن للطاغين " وهم الخارجون عن طاعة الله عز وجل المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم " لشر مآب " أي لسوء منقلب ومرجع ثم فسره بقوله جل وعلا " جهنم يصلونها " أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم " فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق " أم الحميم فهو الحار الذي قد أنتهى حره وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ولهذا قال عز وجل " وآخر من شكله أزواج " أي وأشياء من هذا القبيل: الشئ وضده يعاقبون بها. قال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي
[ 46 ]
الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لانتن أهل الدنيا " ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث عن دراج به - ثم قال لا نعرفه إلا من حديث رشدين كذا قال وقد تقدم من غير حديثه ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث به. وقال كعب الاحبار: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية وعقرب وغير ذلك فيستنقع فيؤتي بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه رواه ابن أبي حاتم. وقال الحسن البصري في قوله تعالى " وآخر من شكله أزواج " ألوان من العذاب وقال غيره كالزمهرير والسموم وشرب الحميم وأكل الزقوم والصعود والهوى إلى غير ذلك من الاشياء المختلفة المتضادة والجميع مما يعذبون به ويهانون بسبب. وقوله عز وجل " هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار " هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى " كلما دخلت أمة لعنت أختها " يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الاخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية " هذا فوج مقتحم " أي داخل " معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار " أي لانهم من أهل جهنم " قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم " أي فيقول لهم الداخلون " بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا " أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير " فبئس القرار " أي فبئس المنزل والمستقر والمصير " قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار " كما قال عز وجل " قالت أخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار * قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " أي لكل منكم عذاب بحسبه " وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الابصار " هكذا إخبار عن الكفار في النار أنهم يفتقدون رجالا كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون في زعمهم قالوا مالنا لا نراهم معنا في النار ؟ قال مجاهد هذا قول أبي جهل يقول مالي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا. وهذا ضرب مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم يعقدون أن المؤمنين يدخلون النار فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم فقالوا " ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار * أتخذناهم سخريا " أي في الدار الدنيا " أم زاغت عنهم الابصار " يسلون أنفسهم بالمحال يقولون أو لعلهم معنا في جهنم ولكن لم يقع بصرنا عليهم فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عز وجل " ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين * إلى قوله - ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " وقوله تعالى " إن ذلك لحق تخاصم أهل النار " أي إن هذا الذى أخبرناك به يا محمد من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ولعن بعضهم لبغض لحق لا مرية فيه ولا شك قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار (65) رب السموات والار ض وما بينهما العزيز الغفار (66) قل هو نبؤا عظيم (67) ما كان لى من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون (68) إن يوحى إلى إلآ أنما أنا نذير مبين (70) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله إنما أنا منذر لست كما تزعمون " وما
[ 47 ]
من إله إلا الله الواحد القهار " أي هو وحده قد قهر كل شئ وغلبه " رب السموات والارض وما بينهما " أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه " العزيز الغفار " أي غفار مع عظمته وعزته " قل هو نبأ عظيم " أي خبر عظيم وشأن بليغ وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم " أنتم عنه معرضون " أي غافلون قال مجاهد وشريح القاضي والسدي في قوله عز وجل " قل هو نبأ عظيم " يعني القرآن. وقوله تعالى " ما كان لي من علم بالملا الاعلى إذ يختصمون " أي لولا الوحى من أين كنت أدري باختلاف الملا الاعلى ؟ يعنى في شأن آدم عليه الصلاة والسلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حيث قال حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا جهضم اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن أبي سلام عن أبي سلام عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر عن معاذ رضي الله عنه قال احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى قرن الشمس فخرج صلى الله عليه وسلم سريعا فثوب بالصلاة فصلى وتجوز في صلاته فلما سلم قال صلى الله عليه وسلم " كما أنتم " ثم أقبل إلينا فقال " إنى قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استيقظت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ قلت لا أدري يا رب - أعادها ثلاثا - فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري فتجلى لي كل شئ وعرفت فقال يا محمد فيم يختصم الملا الاعلى ؟ قلت في الكفارات قال وما الكفارات ؟ قلت نقل الاقدام إلى الجماعات والجلوس في المساجد بعد الصلوات وإسباغ الوضوء عند الكريهات ؟ قال وما الدرجات ؟ قلت إطعام الطعام ولين الكلام والصلاة والناس نيام قال سل قلت اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها حق فادرسوها وتعلموها " فهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وهو في السنن من طرق وهذا الحديث يعينه قد رواه الترمذي من حديث جهضم بن عبد الله اليمامي به وقال الحسن صحيح وليس هذا الاختصام هو الاختصام المذكور في القرآن فإن هذا قد فسر وأما الاختصام الذي في القرآن فقد فسر بعد هذا وهو قوله تعالى إذ قال ربك لملائكة إنى خالق بشرا من طين (71) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (72) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (73) إلآ إبليس استكبر وكان من الكافرين (74) قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالمين (75) قال أنا خير منه خلقتني منه خلقتني من نار وخلقته من طين (76) قال فاخرج منها فإنك رجيم (77) وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين (78) قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون (79) قال فإنك من المظرين (80) إلى يوم الوقت المعلوم (81) قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين (82) إلا عبادك منهم المخلصين (83) قال فالحق والحق أقول (84) لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين (85) القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة وفي أول سورة الاعراف وفي سورة الحجر وسبحان والكهف وهنا وهي أن الله سبحانه وتعالى أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام بأنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون وتقدم إليهم بالامر: متى فرغ من خلقه وتسويته فليسجدوا له إكراما وإعظاما واحتراما وامتثالا لامر الله عز وجل فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ولم يكن منهم جنسا، كان من الجن فخانه طبعه وجبلته
[ 48 ]
أحوج ما كان إليه فاستنكف عن السجود لآدم وخاصم ربه عز وجل فيه وادعى أنه خير من آدم فإنه مخلوق من نار وآدم خلق من طين والنار خير من الطين في زعمه وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى وكفر بذلك فأبعده الله عز وجل وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه إبليس إعلاما له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموما مدحورا إلى الارض فسأل الله النظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه فلما أمن الهلاك إلى القيامة تمرد وطغى وقال " فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين " كما قال عز وجل " أرأيتك هذا الذي كرمت علي * لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " وهؤلاء هم المسنون في الآية الاخرى وهي قوله تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " وقوله تبارك وتعالى " قال فالحق والحق أقول لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين " قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع الحق الاول وفسره مجاهد بأن معناه أنا الحق والحق أقول وفي رواية عنه: الحق مني وأقول الحق وقرأ آخرون بنصبهما قال السدي هو قسم أقسم الله به " قلت " وهذه الآية كقوله تعالى " ولكن حق القول مني لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين " وكقوله عز وجل " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ". جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ". قل مآ أسئلكم عليه من أجر وما أنا من المتكلمين (86) إن هو إلا ذكر للعالمين (87) ولتعلمن نبأه بعد حين (88) يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألهم على هذا البلاغ وهذا النصح أجرا تعطونيه من عرض الحياة الدنيا " وما أنا من المتكلفين " أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ولا أبتغي زيادة عليه بل ما أمرت به أديته لا أزيد عليه ولا أنقص منه وإنما أبتغي بذلك وجه الله عز وجل والدار الآخرة قال سفيان الثوري عن الاعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق قال: أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم فإن الله عز وجل قال لنبيكم " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " أخرجاه من حديث الاعمش به وقوله تعالى " إن هو إلا ذكر للعالمين " يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين من الانس والجن قاله ابن عباس رضي الله عنهما وروى ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي غسان مالك بن إسماعيل حدثنا قيس بن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " للعالمين " قال الجن والانس وهذه الآية كقوله تعالى " لانذركم به ومن بلغ " وكقوله عز وجل " ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده " وقوله تعالى " ولتعلمن نبأه " أي خيره وصدقه " بعد حين " أي عن قريب قال قتادة بعد الموت وقال عكرمة يعني يوم القيامة ولا منافاة بين القولين فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة وقال قتادة في قوله تعالى " ولتعلمن نبأه بعين حين " قال الحسن يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين. آخر تفسير سورة ص ولله الحمد المنة والله سبحانه وتعالى أعلم. سورة الزمر قال النسائي حدثنا محمد بن النضر بن مساور حدثنا حماد عن مروان بن أبي لبابة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
[ 49 ]
بسم الله الرحمن الرحيم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (1) إنآ أنزلنا إليك الكتاب بالحق فا عبد الله مخلصا له الدين (2) ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ماهم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كذاب كفار (3) لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار (4) يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن العظيم من عنده تبارك وتعالى فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك كما قال عز وجل " وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين " وقال تبارك وتعالى " وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وقال جل وعلا ههنا " تنزيل الكتاب من الله العزيز " أي المنيع الجناب " الحكيم " أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فا عبد الله مخلصا له الدين " أي فا عبد الله وحده لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد ولهذا قال تعالى " ألا لله الدين الخالص " أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له. وقال قتادة في قوله تبارك وتعالى " ألا لله الدين الخالص " شهادة أن لا إله إلا الله ثم أخبر عز وجل عن عباد الاصنام من المشركين أنهم يقولون " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلا لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى فينصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به. قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد " إلا ليقربونا إلى الله زلفى " أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديته وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأن هذا شئ اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالامراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه " فلا تضربوا لله الامثال " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقوله عز وجل " إن الله يحكم بينهم " أي يوم القيامة " فيما هم فيه يختلفون " أي سيفصل بين الخلاف يوم معادهم ويجزي كل عامل بعمله " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " وقوله عز وجل " إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار " أي لا يرشد إلى الهداية من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهينه ثم بين تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة والمعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فقال تبارك وتعالى " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء " أي لكان الامر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه
[ 50 ]
ولا جوازه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عز وجل " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين " " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " كل هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم وقوله تعالى " سبحانه هو الله الواحد القهار " أي تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له ولد فإنه الواحد الاحد الفرد الصمد الذي كل شئ عبد لديه فقير إليه وهو الغنى عما سواه الذي قد قهر الاشياء فدانت له وذلت وخضعت تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. خلق السماوات والارض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار (5) خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذالكم الله ربكم له الملك لآإله إلا هو فأنى تصرفون (6) يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات والارض وما بين ذلك من الاشياء وبأنه مالك الملك المتصرف فيه يقلب ليله ونهاره " يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل " أي سخرهما يجريان متعاقبين لا يفتران كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا كقوله تبارك وتعالى " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا " هذا معنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والسدي وغيرهم. وقوله عز وجل " وسخر الشمس والقمر كل يجري لاجل سمى " أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ثم ينقضي يوم القيامة " ألا هو العزيز الغفار " أي مع عزته وعظمته وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه وقوله جلت عظمته " خلقكم من نفس واحدة " أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة وهو آدم عليه الصلاة والسلام " ثم جعل منها زوجها " وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وقوله تعالى " وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج " أي وخلق لكم من ظهور الانعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الانعام ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن الابل اثنين ومن البقر اثنين وقوله عز وجل " يخلقكم في بطون أمهاتكم " أي قدركم في بطون أمهاتكم " خلقا من بعد خلق " يكون أحدكم أولا نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا وينفخ فيه الروح فيصير خلق آخر " فتبارك الله أحسن الخالقين ". وقوله جل وعلا " في ظلمات ثلاث " يعني في ظلمة الرحم وظلمة المشيمة التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد وظلمة البطن كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو مالك والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد. وقوله جل جلاله " ذلكم الله ربكم " أي هذا الذي خلق السموات والارض وما بينهما وخلقكم وخلق آباءكم هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك " لا إله إلا هو " أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له " فأنى تصرفون " أي فكيف تعبدون معه غيره ؟ أين يذهب بعقولكم ؟ إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور (7) * وإذا مس
[ 51 ]
الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسيما كان يدعوا إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار (8) يقول تبارك وتعالى مخبرا عن نفسه تبارك وتعالى أنه الغني عما سواه من المخلوقات كما قال موسى عليه الصلاة والسلام " إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغني حميد " وفي صحيح مسلم " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ". وقوله تعالى " ولا يرضى لعباده الكفر " أي لا يحبه ولا يأمر به " وإن تشكروا يرضه لكم " أي يحبه لكم ويزدكم من فضله " ولا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تحمل نفس عن نفس شيئا بل كل مطالب بأمر نفسه " ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " أي فلا تخفى عليه خافية وقوله عز وجل " وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا إليه " أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له كما قال تعالى " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا " ولهذا قال تبارك وتعالى " ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل " أي في حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع كما قال جل جلاله " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " وقوله تعالى " وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله " أي في حال العافية يشرك بالله ويجعل له أندادا " قل تمتع بكفرك فليلا إنك من أصحاب النار " أي قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه تمتع بكفرك قليلا وهو تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى " قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار " وقوله تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " أمن هو قانت ءاناء اليل ساجدا وقائما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعملون والذين لا يعملون أنما إنما يتذكر أولوا الالباب (9) يقول عز وجل أمن هذه صفته كمن أشرك بالله وجعل له أندادا ؟ لا يستوون عند الله كما قال تعالى " ليسوا سواء من أهل الكتاب أما قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " وقال تبارك وتعالى ههنا " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما " أي في حال سجوده وفي حال قيامه ولهذا استدل بهذه الآية من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة ليس هو القيام وحده كما ذهب إليه آخرون. قال الثوري عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: القانت المطيع لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن والسدي وابن زيد آناء الليل جوف الليل وقال الثوري عن منصور بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء وقال الحسن وقتادة آناء الليل أوله وأوسطه وآخره وقوله تعالى " يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " أي في حال عبادته خائف راج ولا بد في العبادة من هذا وهذا وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ولهذا قال تعالى " يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " فإذا كان عند الاحتضار فليكن الرجاء هو الغالب عليه كما قال الامام عبد بن حميد في مسنده حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له " كيف تجدك ؟ " فقال له أرجو وأخاف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله عز وجل الذي يرجو وأمنه الذي يخافه ".. ورواه
[ 52 ]
الترمذي والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه من حديث سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان به قال الترمذي غريب وقد رواه بعضهم عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن أبي شيبة عن عبيدة النميري حدثنا أبو خلف بن عبد الله بن عيسى الخراز حدثنا يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ " أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه " قال ابن عمر ذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنما قال ابن عمر رضي الله عنهما ذلك لكثرة صلاة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته حتى أنه ربما قرأ القرآن في ركعه كما روى ذلك أبو عبيدة عنه رضي الله تعالى عنه وقال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحا وقرآنا وقال الامام أحمد كتب إلى الربيع بن نافع حدثنا الهيثم بن حميد عن زيد بن واقد عن سليمان بن موسى عن كثير بن مرة عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ بمائة أية في ليلة كتب له قنوت ليلة " وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عبد الله بن يوسف والربيع بن نافع كلاهما عن الهيثم بن حميد به. وقوله تعالى " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " أي هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أندادا ليضل عن سبيله " إنما يتذكر أولوا الالباب " أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا ومن له لب وهو العقل والله أعلم قل يا عباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذاه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب (10) قل إنى أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين (11) وأمرت لان أكون أول المسلمين (12) يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه " قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة " أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم. وقوله " وأرض الله واسعة " قال مجاهد فهاجروا فيها وجاهدوا واعتزلوا الاوثان وقال شريك عن منصور عن عطاء في قوله تبارك وتعالى " وأرض الله واسعة " قال إذا دعيتم إلى معصيته فاهربوا ثم قرأ " ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " وقوله تعالى " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " قال الاوزاعي ليس يوزن لهم ولا يكال لهم إنما يغرف لهم غرفا وقال ابن جريج بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ولكن يزادون على ذلك وقال السدي " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " يعني في الجنة وقوله " قل إني أمرت أن أ عبد الله مخلصا له الدين " أي إنما أمرت بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له " أمرت لان أكون أول المسلمين " قال السدي يعني من أمته صلى الله عليه وسلم. قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم (13) قل الله أعبد مخلصا له دينى (14) فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة ألا ذالك هو الخسران المبين (15) لهم من فوقهم ظلل نت النار ومن تحتهم ظلل ذالك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون (16)
[ 53 ]
يقول تعالى قل يا محمد وأنت رسول الله " إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " وهو يوم القيامة وهذا شرط ومعناه التعريض بغيره بطريق الاولى والاخرى " قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه " وهذا أيضا تهديد وتبرر منهم " قل إن الخاسرين " أي إنما الخاسرون كل الخسران " الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبدا وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار أو أن الجميع أسكنوا النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور " ألا ذلك هو الخسران المبين " أي هذا هو الخسران المبين الظاهر الواضح ثم وصف حالهم في النار فقال " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " كما قال عز وجل " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجز الظالمين " وقال تعالى " يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون " وقوله جل جلاله " ذلك يخوف الله به عباده " أي إنما يقص خبر هذا الكائن لا محالة ليخوف به عباده لينزجروا عن المحارم والمآثم وقوله تعالى " يا عباد فاتقون " أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد (17) الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولائك الذين هداهم الله وألآئك هم أولوا الالباب (18) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه " والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها " نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الاوثان وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ثم قال عز وجل " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام حين آتاه التوراة " فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " " أولئك الذين هداهم الله " أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة " وأولئك هم أولوا الالباب " أي ذو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة. أفمن حق عليه كلمة العذاب أفانت تنقذ من في النار (19) لاكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد (20) يقول تعالى أفمن كتب الله أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك ؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لانه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له. ثم أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفا في الجنة وهي القصور أي الشاهقة " من فوقها غرف مبنية " طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا عباد بن يعقوب الاسدي ثنا محمد بن فضيل عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لغرفا يرى بطونها من ظهورها وظهورها من بطونها " فقال أعرابي لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام " ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق وقال حسن غريب وقد تكلم بعض أهل العلم فيه من قبل حفظه وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق - أو أبي
[ 54 ]
معانق - عن أبي مالك الاشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لغرقا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام " تفرد به أحمد من حديث عبد الله بن معانق الاشعري عن أبي مالك الاشعري رضي الله عنه به وقال الامام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكوكب في أفق السماء " قال فحدثت بذلك النعمان بن أبي عياش فقال سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول " كما تراءون الكوكب الذي في الافق الشرقي أو الغربي " أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي حازم وأخرجاه أيضا في الصحيحين من حديث مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الامام أحمد حدثنا فزارة أخبرني فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف كما تراءون الكوكب الدري الغارب في الافق الطالع - في تفاضل أهل الدرجات - فقالوا يا رسول الله أولئك النبيون ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " بلى والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا الرسل " ورواه الترمذي عن سويد عن ابن المبارك عن فليح به وقال حسن صحيح وقال الامام أحمد حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا ثنا زهير ثنا سعد الطائي ثنا أبوالمدله مولى أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قلنا يا رسول الله إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والاولاد قال صلى الله عليه وسلم " لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ولو لم تذنبوا لجاء الله عز وجل بقوم يذنبون كي يغفر لهم " قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الاذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ثلاثة لا ترد دعوتهم: الامام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح لها أبواب السموات ويقول الرب تبارك وتعالى وعزتي لانصرنك ولو بعد حين " وروى الترمذي وابن ماجة بعضه من حديث سعد بن أبي مجاهد الطائي وكان ثقة عن أبي المدله وكان ثقة به. وقوله تعالى " تجري من تحتها الانهار " أي تسلك الانهار بين خلال ذلك كما يشاءوا وأين أرادوا " وعد الله " أي هذا الذي ذكرناه وعد وعده الله عباده المؤمنين " إن الله لا يخلف الميعاد " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألونه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذالك لذكرى لاولى الالباب (21) أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولائك في ضلال مبين (22) يخبر تعالى أن أصل الماء في الارض من السماء كما قال عز وجل " وأنزلنا من السماء ماء طهورا " فإذا أنزل الماء من السماء كمن في الارض ثم يصرفه تعالى في أجزاء الارض كما يشاء وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار بحسب الحاجة إليها ولهذا قال تبارك وتعالى " فسلكه ينابيع في الارض " قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين ثنا عمرو بن علي ثنا أبو قتيبة عتبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الارض " قال ليس في الارض ماء إلا نزل من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فذلك قوله تعالى " فسلكه ينابيع في الارض " فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعده
[ 55 ]
وكذا قال سعيد بن جبير وعامر والشعبي أن كل ماء في الارض فأصله من السماء وقال سعيد بن جبير أصله من الثلج يعني أن الثلج يتراكم على الجبال فيسكن في قرارها فتنبع العيون من أسافلها وقوله تعالى " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " أي ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الارض زرعا مختلفا ألوانه أي أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه " ثم يهيج " أي بعد نضارته وشبابه يكتهل فتراه مصفرا قد خالطه اليبس " ثم يجعله حطاما " أي ثم يعود يابسا يتحطم " إن في ذلك لذكرى لاولي الالباب " أي الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خضرة نضرة حسناء ثم تعود عجوزا شوهاء والشاب يعود شيخا هرما كبيرا ضعيفا وبعد ذلك كله الموت فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير وكثيرا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء وينبت به زروعا وثمارا ثم يكون بعد ذلك حطاما كما قال تعالى " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا " وقوله تبارك وتعالى " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " أي هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق كقوله عز وجل " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " ولهذا قال تعالى " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله " أي فلا تلين عند ذكره ولا تخشع ولا تعي ولا تفهم " أولئك في ضلال مبين " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذالك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد (23) هذا مدح من الله عز وجل لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم قال الله تعالى " الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " قال مجاهد يعني القرآن كله متشابه مثاني وقال قتادة: الآية تشبه الآية والحرف يشبه الحرف وقال الضحاك: مثاني ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى وقال عكرمة والحسن ثنى الله فيه القضاء زاد الحسن تكون السورة فيها آية وفي السورة الاخرى آية تشبهها قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: مثاني مردد ردد موسى في القرآن وصالح وهود والانبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما " مثاني " قال القرآن يشبه بعضه بعضا ويرد بعضه على بعض وقال بعض العلماء ويروى عن سفيان بن عينة معنى قوله تعالى " متشابها مثاني " إن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد فهذان من المتشابه وتارة تكون بذكر الشئ وضده كذكر المؤمنين ثم الكافرين وكصفة الجنة ثم صفة النار وما أشبه هذا فهذا من المثاني كقوله تعالى " إن الابرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم " وكقوله عز وجل " كلا إن كتاب الفجار لفي سجين - إلى أن قال - كلا إن كتاب الابرار لفي عليين " " هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب - إلى أن قال - هذا وإن للطاغين لشر مآب " ونحو هذا من السياقات فهذا كله من المثاني أي في معنيين اثنين وأما إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا فهو المتشابه وليس هذا من المتشابه المذكور في قوله تعالى " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " ذاك معنى آخر. وقوله تعالى " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " أي هذه صفة الابرار عند سماع كلام الجبار المهيمن العزيز الغفار لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه " أحدها " أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الابيات من أصوات القينات " الثاني " أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا بأدب وخشية ورجاء ومحبة
[ 56 ]
وفهم وعلم كما قال تبارك وتعالى " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " وقال تعالى " والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا " أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم " الثالث " أنهم يلزمون الادب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والادب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ولهذا فازوا بالمدح من الرب الاعلى في الدنيا والآخرة قال عبد الرزاق حدثنا معمر قال تلا قتادة رحمه الله " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " قال هذا نعت أولياء الله نعتهم الله عز وجل بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان وقال السدي " ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله " أي إلى وعد الله وقوله " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " أي هذه صفة من هداه الله ومن كان على خلاف ذلك فهو ممن أضله الله " ومن يضلل الله فما له من هاد ". أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظلمين ذوقوا ما كنتم تكسبون (24) كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون (25) فأذاقهم الله الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون (26) يقول تعالى " أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة " ويقرع فيقال له ولامثاله من الظالمين " ذوقوا ما كنتم تكسبون " كمن يأتي آمنا يوم القيامة كما قال عز وجل " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " وقال جل وعلا " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر " وقال تبارك وتعالى " أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة " واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر كقول الشاعر: فما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني يعنى الخير أو الشر. وقوله جلت عظمته " كذب الذين من قبلهم فأتهم الغذاب من حيث لا يشعرون " يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق وقوله جل وعلا " فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا " أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال وتشفي المؤمنين منهم فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الانبياء صلى الله عليه وسلم والذي أعده الله جل جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد أعظم مما أصابهم في الدنيا ولهذا قال عز وجل " ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " ولقد ضربنا للناس في هذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون (27) قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم
[ 57 ]
يتقون (28) ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (29) إنك ميت وإنهم ميتون (30) ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تخصمون (31) يقول تعالى " ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " أي بينا للناس فيه بضرب الامثال " لعلهم يتذكرون " فإن المثل يقرب المعنى إلى الاذهان كما قال تبارك وتعالى " ضرب لكم مثلا من أنفسكم " أي تعلمونه من أنفسكم وقال عز وجل " وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وقوله جل وعلا " قرآنا عربيا غير ذي عوج " أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا لبس بل هو بيان ووضوح وبرهان وإنما جعله الله تعالى كذلك وأنزله بذلك " لعلهم يتقون " أي يحذرون ما فيه من الوعيد ويعملون بما فيه من الوعد ثم قال " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون " أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم " ورجلا سلما " أي سالما " لرجل " أي خالصا لا يملكه أحد غيره " هل يستويان مثلا " أي لا يستوي هذا وهذا كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فأين هذا من هذا ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما مجاهد وغير واحد: هذه الآية ضربت مثلا للمشرك والمخلص ولما كان هذا المثل ظاهرا بينا جليا قال " الحمد لله " أي على إقامة الحجة عليهم " بل أكثرهم لا يعلمون " أي فلهذا يشركون بالله وقوله تبارك وتعالى " إنك ميت وإنهم ميتون " هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تحقق الناس موته مع قوله عز وجل " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " ومعنى هذه الآية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة. قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد بن عبيد الله بن يزيد المقري ثنا سفيان عن محمد بن عمرو عن أبي حاطب - يعني يحيى بن عبد الرحمن - عن ابن الزبير رضي الله عنهما قال لما نزلت " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال الزبير رضي الله عنه: يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال رضي الله عنه إن الامر إذا لشديد. وكذا رواه الامام أحمد عن سفيان وعنده زيادة ولما نزلت " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أي نعيم نسأل عنه وإنما نعيمنا الاسودان: التمر والماء ؟ قال صلى الله عليه وسلم " أما إن ذلك سيكون " وقد روى هذه الزيادة الترمذي وابن ماجه من حديث سفيان به وقال الترمذي حسن وقال أحمد أيضا حدثنا ابن نمير ثنا محمد - يعني ابن عمرو - عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الله بن الزبير عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال الزبير رضي الله عنه: أي رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه " قال الزبير رضي الله عنه: والله إن الامر لشديد رواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به وقال حسن صحيح وقال الامام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد ثنا ابن لهيعة عن أبي عياش عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول الخصمين يوم القيامة جاران " تفرد به أحمد وقال الامام أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى ثنا ابن
[ 58 ]
لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحتا " تفرد به أحمد رحمه الله وفي المسند عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان فقال " أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر ؟ " قلت لا قال صلى الله عليه وسلم " لكن الله يدري وسيحكم بينهما " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا سهل بن محمد ثنا حيان بن أغلب ما أبي ثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بالامام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية فيفلحون عليه فيقال له سد ركنا من أركان جهنم " ثم قال الاغلب بن تميم ليس بالحافظ. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " يقول يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر وقد روى ابن منده في كتاب الروح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد فتقول الروح للجسد أنت فعلت ويقول الجسد للروح أنت أمرت وأنت سولت فيبعث الله تعالى ملكا يفصل بينهما فيقول لهما إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير والآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير إني أرى ههنا ثمارا ولكن لا أصل إليها فقال له الضرير اركبني فتناولها فركبه فتناولها فأيهما المعتدي ؟ فيقولان كلاهما فيقول لهما الملك فإنكماقد حكمتما على أنفسكما يعني أن الجسد للروح كالمطية وهو راكبه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا جعفر بن أحمد بن عوسجة ثنا ضرار حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا منصور بن سلمة ثنا القمي - يعني يعقوب بن عبد الله - عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شئ نزلت " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال قلنا من نخاصم ؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة فمن نخاصم ؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر رضي الله عنهما: هذا الذي وعدنا ربنا عز وجل نختصم فيه ورواه النسائي عن محمد بن عامر عن منصور بن سلمة به وقال أبو العالية في قوله تبارك وتعالى " ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون " قال يعني أهل القبلة وقال ابن زيد: يعني أهل الاسلام وأهل الكفر وقد قدمنا أن الصحيح العموم والله سبحانه وتعالى أعلم * فمن أظلم ممن كذب على الله بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (32) والذى جاء بالصدق وصدق به أولائك هم المتقون (33) لهم ما يشاءون عند ربهم ذالك جزاء المحسنين (34) ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا يعملون (35) يقول عز وجل مخاطبا للمشركين الذين افتروا على الله وجعلوا معه آلهة أخرى وادعوا أن الملائكة بنات الله وجعلوا لله ولدا تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولهذا قال عز وجل " فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه " أي لا أحد أظلم من هذا لانه جمع بين طرفي الباطل كذب على الله وكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا الباطل وردوا الحق ولهذا قال جلت عظمته متوعدا لهم " أليس في جهنم مثوى للكافرين " وهم الجاحدون المكذبون ثم قال جل وعلا " والذي جاء بالصدق وصدق به " قال مجاهد وقتادة والربيع بن أنس وابن زيد: الذي جاء بالصدق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال السدي هو جبريل عليه السلام " وصدق به " يعني محمدا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " والذي جاء بالصدق " قال من جاء بلا إله إلا الله " وصدق به " يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ الربيع بن أنس " الذين جاءوا بالصدق " يعني الانبياء " وصدقوا به " يعني الاتباع. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد
[ 59 ]
" والذي جاء بالصدق وصدق به " قال أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا. وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية على هذا التفسير فإنه جاء بالصدق وصدق المرسلين وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " والذي جاء بالصدق " هو رسول الله صلى الله عليه وسلم " وصدق به " قال المسلمون " أولئك هم المتقون " قال ابن عباس رضي الله عنهما اتقوا الشرك " لهم ما يشاءون عند ربهم " يعني في الجنة مهما طلبوا وجدوا " ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون " كما قال عز وجل في الآية الاخرى " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعملون (39) من يأتيه عذاب يجزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40) يقول تعالى " أليس الله بكاف عبده " وقرأ بعضهم " عباده " يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكل عليه وقال ابن أبي حاتم ههنا حدثنا أبو عبد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا أبو هانئ عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي عن فضالة بن عبيد الانصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أفلح من هدي إلى الاسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح عن أبي هانئ الخولاني به وقال الترمذي صحيح " ويخوفونك بالذين من دونه " يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا ولهذا قال عز وجل " ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام " أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه فإنه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد انتقاما منه ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله " يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله عز وجل هو الخالق للاشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره مما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولهذا قال تبارك وتعالى " قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته " أي لا تستطيع شيئا من الامر وذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا " احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الامة لو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يضروك ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله لك لم ينفعوك جفت الصحف ورفعت الاقلام واعمل لله بالشكر في اليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب
[ 60 ]
وأن مع العسر يسرا " " قل حسبي الله " أي الله كافي " عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون " كما قال هود عليه الصلاة والسلام حين قال قومه " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون * من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الانصاري ثنا عبد الله بن بكر السهمي ثنا محمد بن حاتم عن أبي المقدام مولى آل عثمان عن محمد بن كعب القرظي ثنا ابن عباس رضي الله عنهما رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عز وجل أوثق منه بما في يديه ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عز وجل " وقوله تعالى " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم " أي على طريقتكم وهذا تهديد ووعيد " إني عامل " أي على طريقتي ومنهجي " فسوف تعلمون " أي ستعلمون غب ذلك ووباله " من يأتيه عذاب يخزيه " أي في الدنيا " ويحل عليه عذاب مقيم " أي دائم ومستمر لا محيد عنه وذلك يوم القيامة أعاذنا الله منها. أنا أنرلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت في منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى إن ذالك لايات لقوم يتفكرون (42) يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " إنا أنزلنا عليك الكتاب " يعني القرآن " للناس بالحق " أي لجميع الخلق من الانس والجن لتنذرهم به " فمن اهتدى فلنفسه " أي فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه " ومن ضل فإنما يضل عليها " أي إنما يرجع وبال ذلك على نفسه " وما أنت عليهم بوكيل " أي بموكل أن يهتدوا " إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل " " إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ". ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء وأنه يتوفى الانفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الابدان والوفاة الصغرى عند المنام كما قال تبارك وتعالى " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون * وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال تبارك وتعالى " الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى " فيه دلالة على أنها تجتمع في الملا الاعلى كما ورد بذلك الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره وفي صحيحي البخاري ومسلم من حديث عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين " وقال بعض السلف يقبض أرواح الاموات إذا ماتوا وأرواح الاحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف " فيمسك التي قضى عليها الموت " التي قد ماتت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى قال السدي إلى بقية أجلها وقال ابن عباس رضي الله عنهما يمسك أنفس الاموات ويرسل أنفس الاحياء ولا يغلط " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ".
[ 61 ]
أم اتخدوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والارض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرى وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله وهم الاصنام والانداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان هداهم على ذلك وهي لا تملك شيئا من الامر بل وليس لها عقل تعقل به ولا سمع تسمع به ولا بصر تبصر به بل هي جمادات أسوأ حالا من الحيوان بكثير ثم قال قل أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين إن ما اتخذوه شفعاء لهم عند الله تعالى أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له فمرجعها كلها إليه " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " له ملك السموات والارض " أي هو المتصرف في جميع ذلك " ثم إليه ترجعون " أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلا بعمله. ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا " وإذا ذكر الله وحده " أي إذا قيل لا إله إلا الله وحده " اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة " قال مجاهد اشمأزت انقبضت وقال السدي نفرت وقال قتادة كفرت واستكبرت وقال مالك عن زيد بن أسلم استكبرت كما قال تعالى " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " أي عن المتابعة والانقياد لها فقلوبهم لا تقبل الخير ومن لم يقبل الخير يقبل الشر ولذلك قال تبارك وتعالى " وإذا ذكر الذين من دونه " أي من الاصنام والانداد قاله مجاهد " إذا هم يستبشرون " أي يفرحون ويسرون. قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا ما في الارض جميعا ومثله معه لا فتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (48) يقول تبارك وتعالى بعدما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة لهم في حبهم الشرك ونفرتهم عن التوحيد " قل اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة " أي ادع أنت الله وحده لا شريك له الذي خلق السموات والارض وفطرها أي جعلها على غير مثال سبق " عالم الغيب والشهادة " أي السر والعلانية " أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون " أي في دنياهم ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم وقيامهم من قبورهم. قال مسلم في صحيحه حدثنا عبد بن حميد حدثنا عمر بن يونس ثنا عكرمة بن عمار ثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة رضي الله عنها بأي شئ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ". وقال الامام أحمد حدثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أخبرنا سهيل عن أبي صالح وعبد الله بن عثمان بن خثيم عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك فإنك إن
[ 62 ]
تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا توفينه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد إلا قال الله عز وجل لملائكته يوم القيامة إن عبدي قد عهد إلى عهدا فأوفوه إياه فيدخله الله الجنة " قال سهيل فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عونا أخبر بكذا وكذا فقال ما فينا جارية إلا وهي تقول هذا في خدرها انفرد به الامام أحمد. وقال الامام أحمد حدثنا حسن ثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله أن أبا عبد الرحمن حدثه قال أخرج لنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قرطاسا وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا نقول " اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة أنت رب كل شئ وإله كل شئ أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون أعوذ بك من الشيطان وشركه وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما أو أجره إلى مسلم " قال أبو عبد الرحمن رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام تفرد به أحمد أيضا. وقال الامام أحمد أيضا حدثنا خلف بن الوليد ثنا ابن عياش عن محمد بن زياد الالهاني عن أبي راشد الحبراني قال: أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقلت له حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى بين يدي صحيفة فقال هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظرت فيها فإذا فيها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر قل اللهم فاطر السموات والارض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شئ ومليكه أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه أو أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم " ورواه الترمذي عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش به وقال حسن غريب من هذا الوجه وقال الامام أحمد حدثنا هاشم حدثنا سيار عن ليث عن مجاهد قال: قال أبو بكر الصديق أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي من الليل " اللهم فاطر السموات والارض الخ " وقوله عز وجل " ولو أن للذين ظلموا " وهم المشركون " ما في الارض جميعا ومثله معه " أي ولو أن جميع ما في الارض وضعفه معه " لافتدوا به من سوء العذاب " أي الذي أوجبه الله تعالى لهم يوم القيامة ومع هذا لا يقبل منهم الفداء ولو كان مل ء الارض ذهبا كما قال في الآية الاخرى " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " أي وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم " وبدا لهم سيئات ما كسبوا " أي وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمأثم " وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " أي وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا. فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولاكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وماهم بمعجزين (51) أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن في ذالك لايات لقوم يؤمنون (52) يقول تبارك وتعالى مخبرا عن الانسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله عز وجل وينيب إليه ويدعوه وإذا خوله نعمة منه بغى وطغى وقال " إنما أوتيته على علم " أي لما يعلم الله تعالى من استحقاقي له ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا قال قتادة على علم عندي على خبر عندي قال الله عز وجل " بل هي فتنة " أي ليس
[ 63 ]
الامر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي مع علمنا المتقدم بذلك فهي فتنة أي اختبار " ولكن أكثرهم لا يعلمون " فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون " قد قالها الذين من قبلهم " أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الامم " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون " فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء " أي من المخاطبين " سيصيبهم سيئات ما كسبوا " أي كما أصاب أولئك " وما هم بمعجزين " كما قال تبارك وتعالى مخبرا عن قارون أنه قال له قومه " لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الارض إن الله لا يحب المفسدين * قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون " وقال تعالى " وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " وقوله تبارك وتعالى " أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " أي يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين " إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون " أي لعبرا وحججا * قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله أن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم (53) وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون (54) واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون (55) أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين (56) أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين (57) أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين (58) بلى قد جاءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (59) هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والانابة وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه على غير توبة لان الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه. قال البخاري حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال يعلى إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفار فنزل " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " ونزل " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج عن يعلى بن مسلم المكي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما به. والمراد من الآية الاولى قوله تعالى " إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الآية. وقال الامام أحمد حدثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا أبو قبيل قال: سمعت أبا عبد الرحمن المزني يقول سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " إلى آخر الآية فقال رجل يا رسول الله فمن أشرك ؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال " ألا ومن أشرك " - ثلاث مرات -
[ 64 ]
تفرد به الامام أحمد. وقال الامام أحمد أيضا حدثنا شريح بن النعمان ثنا نوح بن قيس عن أشعث بن جابر الحداني عن مكحول عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال: يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات فهل يغفر لي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟ " قال: بلى وأشهد أنك رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم " قد غفر لك غدراتك وفجراتك " تفرد به أحمد. وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " إنه عمل غير صالح " وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " ولا يبالي " إنه هو الغفور الرحيم " ورواه أبو داود والترمذي من حديث ثابت فهذه الاحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت فإن باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " وقال عز وجل " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقال جل وعلا في حق المنافقين " إن المنافقين في الدرك الاسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا واصلحوا " وقال جل جلاله " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم قال جلت عظمته " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " وقال تبارك وتعالى " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا " قال الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة والآيات في هذا كثيرة جدا. وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم ندم وسأل عابدا من عباد بني إسرائيل هل له من توبة ؟ فقال لا فقتله وأكمل به مائة ثم سأل عالما من علمائهم هل له من توبة فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأمر الله عزوجل أن يقيسوا ما بين الارضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها فوجدوه أقرب إلى الارض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة وذكر أنه نأى بصدره عند الموت وأن الله تبارك وتعالى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلدة أن تتباعد هذا معنى الحديث وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " إلى آخر الآية قال قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ومن زعم أن عزيرا ابن الله ومن زعم أن الله فقير ومن زعم أن يد الله مغلولة ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله تعالى لهؤلاء " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولا من هؤلاء من قال أنا ربكم الاعلى وقال " ما علمت لكم من إله غيري " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من آيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل. ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه وروي الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال سمعت ابن مسعود يقول إن أعظم آية في كتاب الله " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " وإن أكثر آية في القرآن فرحا في سورة الغرف " قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وإن أشد آية في كتاب الله تفويضا " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " فقال له مسروق صدقت. وقال الاعمش عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال مر عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه على قاص وهو يذكر الناس فقال يا مذكر لم تقنط الناس من رحمة الله ؟ ثم قرأ " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " رواه ابن أبي حاتم رحمه الله.
[ 65 ]
" ذكر أحاديث فيها نفي القنوط " قال الامام أحمد حدثنا شريح بن النعمان حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد الله السدي حدثني حسن السدوسي قال دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملا خطاياكم ما بين السماء والارض ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم " والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم " تفرد به أحمد. وقال الامام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني الليث حدثني محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز عن أبي صرمة عن أبي أيوب الانصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة قد كنت كتمت منكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لولا أنكم تذنبون لخلق الله عز وجل قوما يذنبون فيغفر لهم " هكذا رواه الامام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد به. ورواه مسلم من وجه آخر به عن محمد بن كعب القرظي عن أبي صرمة - وهو الانصاري صحابي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنهما به. وقال الامام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني ثنا يحيى بن عمرو بن مالك البكري قال سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كفارة الذنب الندامة " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم " تفرد به أحمد. وقال عبد الله ابن الامام أحمد حدثني عبد الاعلى بن حماد القرشي ثنا داود بن عبد الرحمن ثنا أبو عبد الله مسلمة بن عبد الله الرازي عن أبي عمرو البجلي عن عبد الملك بن سفيان الثقفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى يحب العبد المفتن التواب " ولم يخرجوه من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد حدثنا ثابت وحميد عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال " إن إبليس - لعنه الله تعالى - قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك قال فأنت مسلط قال يا رب زدني قال لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله قال يا رب زدني قال أجعل صدورهم مساكن لكم وتجرون منهم مجرى الدم قال يا رب زدني قال أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الاموال والاولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا فقال آدم عليه الصلاة والسلام يا رب قد سلطته علي وإني لا أمتنع إلا بك قال تبارك وتعالى لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء قال يا رب زدني قال الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أمحوها قال يا رب زدني قال باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد قال يا رب زدني قال " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ". وقال محمد بن إسحاق قال نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما في حديثه قال وكنا نقول ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم قال وكانوا يقولون ذلك لانفسهم قال فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لانفسهم " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص رضي الله عنه قال: فقال هشام لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها فيه وأصوت ولا أفهمها حتى قلت اللهم أفهمنيها قال فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة فقال " وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له " إلخ: أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له " من قبل أن
[ 66 ]
يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون " أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة " واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم " وهو القرآن العظيم " من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون " أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ثم قال عز وجل " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والانابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عز وجل وقوله تبارك وتعالى " وإن كنت لمن الساخرين " أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق " أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه وقال تعالى " ولا ينبئك مثل خبير " " أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " فأخبر الله عز وجل أن لو ردوا لما قدروا على الهدى فقال " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقد قال الامام أحمد حدثنا أسود ثنا أبو بكر عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فتكون عليه حسرة قال وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني قال فيكون له الشكر " ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش به ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله قال الله سبحانه تعالى " بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين " أي قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه آيات في الدار الدنيا وقامت حججي عليك فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها. ويوم القيامة ترى الرين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (60) وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون (61) يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة قال تعالى ههنا " ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله " أي في دعواهم له شريكا وولدا " وجوههم مسودة " أي بكذبهم وافترائهم وقوله تعالى " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " أي أليست جهنم كافية لهم سجنا وموئلا لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ثنا عمي ثنا عيسى بن أبي عيسى الخياط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شئ من الصغار حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له بولس من نار الانيار ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينة الخبال " وقوله تبارك وتعالى " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم " أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله " لا يمسهم السوء " أي يوم القيامة " ولا هم يحزنون " أي ولا يحزنهم الفزع الاكبر بل هم آمنون من كل فزع مزحزحون عن كل شر نائلون كل كل خير. الله كل شئ وهو على كل شئ وكيل (62) له مقاليد السماوات والارض والذين كفروا بئايات الله أولائك
[ 67 ]
هم الخاسرون (63) قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون (64) ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين (66) يخبر تعالى أنه خالق الاشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها وكل تحت تدبير وقهره وكلاءته وقوله عز وجل " له مقاليد السموات والارض " قال مجاهد: المقاليد هي المفاتيح بالفارسية وكذا قال قتادة وابن زيد وسفيان ابن عينة وقال السدي " له مقاليد السموات والارض " أي خزائن السموات والارض والمعنى على كلا القولين أن أزمة الامور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ولهذا قال جل وعلا " والذين كفروا بآيات الله " أي حججه وبراهينه " أولئك هم الخاسرون " وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريبا جدا وفي صحته نظر ولكن نحن نذكره كما ذكره فإنه قال حدثنا يزيد بن سنان البصري بمصر ثنا يحيى بن حماد ثنا الاغلب بن تميم عن مخلد بن هذيل العبدي عن عبد الرحمن المدني عن عبد الله بن عمر عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى " له مقاليد السموات والارض " فقال " ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان " قال صلى الله عليه وسلم " تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده استغفر الله ولا قوة إلا بالله الاول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصالا ستا: أما أولاهن فيحرس من إبليس وجنوده وأما الثانية فيعطي قنطارا من الاجر وأما الثالثة فترفع له درجة في الجنة وأما الرابعة فيتزوج من الحور العين وأما الخامسة فيحضره اثنا عشر ملكا وأما السادسة فيعطي من الاجر كمن قرأ القرآن والتوراة والانجيل والزبور وله مع هذا يا عثمان من الاجر كمن حج وتقبلت حجته واعتمر فتقبلت عمرته فإن مات من يومه طبع عليه بطابع الشهداء " ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد به مثله وهو غريب وفيه نكارة شديدة والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " ذكروا في سبب نزولها ما رواه ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " وهذه كقوله تعالى " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ". وقوله عز وجل " بل الله فاعبد وكن من الشاكرين " أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك. وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون (67) يقول تبارك وتعالى " وما قدروا الله حق قدره " أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شئ المالك لكل شئ وكل شئ تحت قهره وقدرته قال مجاهد نزلت في قريش وقال السدي ما عظموه حق تعظيمه وقال محمد بن كعب لو قدروه حق قدره ما كذبوا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " وما قدروا الله حق قدره " هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شي قدير فقد قدر الله حق قدره ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. قال البخاري قوله تعالى " وما قدروا الله حق قدره " حدثنا آدم ثنا
[ 68 ]
سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الاحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إنا نجد أن الله عز وجل يجعل السموات على أصبع والارضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة " الآية ورواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من صحيحه والامام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما كلهم من حديث سليمان بن مهران الاعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقال يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على أصبع والسموات على أصبع والارضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع ؟ قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه قال وأنزل الله عز وجل " وما قدروا الله حق قدره " إلى آخر الآية وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الاعمش به وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن حسن الاشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله سبحانه وتعالى السماء على ذه - وأشار بالسبابة - والارض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه - كل ذلك يشير بأصابعه - قال فأنزل الله عز وجل " وما قدروا الله حق قدره " الآية وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن الصلت عن أبي جعفر عن أبي كدينة يحيى بن المهلب عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال الحسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ثم قال البخاري حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث ثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يقبض الله تعالى الارض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الارض " تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر. وقال الباري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تبارك وتعالى يقبض يوم القيامة الارضين على أصبع وتكون السموات بيمينه ثم يقول أنا الملك " تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقد رواه الامام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أخبرنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر " وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر " يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم " فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرن به وقد رواه مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم زاد مسلم ويعقوب بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي حازم عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر رضي الله عنهما به نحوه ولفظ مسلم عن عبيد الله بن مقسم في هذا الحديث أنه نظر إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال يأخذ الله تبارك وتعالى سمواته وأرضيه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شئ منه حتى أني لاقول أساقط هو برسول الله ؟ صلى الله عليه وسلم. وقال البزار حدثنا سليمان بن سيف ثنا أبو علي الحنفي ثنا عباد المنقري حدثني محمد بن المنكدر قال ثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر " وما قدروا الله حق قدره " - حتى بلغ - سبحانه وتعالى عما يشركون " فقال المنبر هكذا فجاء وذهب ثلاث مرات والله أعلم ورواه الامام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير عن عبد الله بن
[ 69 ]
عمرو رضي الله عنهما وقال صحيح وقال الطبراني في المعجم الكبير حدثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي ثنا حسان بن نافع عن صخر بن جويرية ثنا سعيد بن سالم القداح عن معمر بن الحسن عن بكر بن خنيس عن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفر من أصحابه رضي الله عنهم " إني قارئ عليكم آيات من آخر سورة الزمر فمن بكى منكم وجبت له الجنة " فقرأها صلى الله عليه وسلم من عند " وما قدروا الله حق قدره " إلى آخر السورة فمنا من بكى ومنا من لم يبك فقال الذين لم يبكوا يا رسول الله لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك فقال صلى الله عليه وسلم " إني سأقرؤها عليكم فمن لم يبك فليتباك " هذا حديث غريب جدا وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا حدثنا هاشم بن زيد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الاشعري قال: قال رسول الله " إن الله تعالى يقول ثلاث خلال غيبتهن عن عبادي لو رآهن رجل ما عمل بسوء أبدا: لو كشفت غطائي فرآني حتى استيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم وقبضت السموات بيدي ثم قبضت الارضين ثم قلت أنا الملك من ذا الذي له الملك دوني فأريهم الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير فيستيقنوها وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها ولكن عمدا غيبت ذلك عنهم لاعلم كيف يعملون وقد بينته لهم " وهذا إسناد متقارب وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة والله أعلم. ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (68) وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجائ بالنبين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون (69) ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون (70) يقول تبارك وتعالى مخبرا عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فقوله تعالى " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله " هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الاحياء من أهل السموات والارض إلا من شاء الله كما جاء مصرحا به مفسرا في حديث الصور المشهور ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء ويقول " لمن الملك اليوم " ثلاث مرات ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول " لله الواحد القهار " أنا الذي كنت وحدي وقد قهرت كل شئ وحكمت بالفناء على كل شئ ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال الله عز وجل " ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون " أي أحياء بعدما كانوا عظاما ورفاتا صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة كما قال تعالى " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة ". وقال عز وجل " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " وقال جل وعلا " ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون " قال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال سمعت رجلا قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما انك تقول الساعة تقوم إلى كذا وكذا قال لقد هممت أن لا أحدثكم شيئا إنما قلت سترون بعد قليل أمرا عظيما ثم قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما أو أربعين ليلة فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه عروة بن مسعود الثقفي
[ 70 ]
فيظهر فيهلكه الله تعالى ثم يلبث الناس بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله تعالى ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى أن لو كان أحدهم كان في كبد جبل لدخلت عليه " قال سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا قال فيتمثل لهم الشيطان فقول ألا تستجيبون فيأمرهم بعبادة الاوثان فيعبدونها وهم في ذلك دارة أرزاقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم لا يبقى أحد إلا صعق ثم يرسل الله تعالى أو ينزل الله عز وجل مطرا كأنه الظل - أو الطل شك نعمان - فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال أيها الناس هلموا إلى ربكم " وقفوهم إنهم مسئولون " قال ثم يقال أخرجوا بعث النار قال فيقال كم ؟ فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيومئذ تبعث الولدان شيبا ويومئذ يكشف عن ساق " انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه " حديث أبي هريرة رضي الله عنه " وقال البخاري حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الاعمش قال سمعت أبا صالح قال سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما بين النفختين أربعون " قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما ؟ قال رضي الله تعالى عنه أبيت قالوا أربعون سنة ؟ قال أبيت قالوا أربعون شهرا ؟ قال أبيت ويبلى كل شئ من الانسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق وقال أبو يعلى حدثنا يحيى بن معين حدثنا أبو 0 اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سألت جبريل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية " ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله " من الذين لم يشأ الله تعالى أن يصعقهم ؟ قال هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم ملائكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من الحرير مد خطاها مد أبصار الرجال يسيرون في الجنة يقولون عند طول النزهة انطلقوا بنا إلى ربنا لننظر كيف يقضي بين خلقه يضحك إليهم إلهي وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه " رجاله كلهم ثقات إلا شيخ إسماعيل بن عياش فإنه غير معروف والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تبارك وتعالى " وأشرقت الارض بنور ربها " أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء " ووضع الكتاب " قال قتادة كتاب الاعمال " وجئ بالنبيين " قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يشهدون على الامم بأنهم بلغوهم رسالات الله إليهم " والشهداء " أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر " وقضى بينهم بالحق " أي بالعدل " وهم لا يظلمون " قال الله تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " وقال جل وعلا " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " لهذا قال عز وجل " ووفت كل نفس ما عملت " أي من خير أو شر " وهو أعلم بما يفعلون ". وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولاكن حقت كلمة العذاب على الكافرين (71) قيل ادخلوا أبواب حهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (72) يخبر تعالى عن حال الاشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقا عنيفا بزجر وتهديد ووعيد كما قال
[ 71 ]
عز وجل " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا " أي يدفعون إليها دفعا وهذا وهم عطاش ظماء كما قال جل وعلا في الآية الاخرى " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفد * ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي منهم من يمشي على وجهه " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا " وقوله تبارك وتعالى " حتى جاءها فتحت أبوابها " أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعا لتعجل لهم العقوبة ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية الذين هم غلاظ الاخلاق شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل " ألم يأتكم رسل منكم " أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والاخذ عنهم " يتلون عليكم آيات ربكم " أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه " وينذرونكم لقاء يومكم هذا " أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم ؟ فيقول الكفار لهم " بلى " أي قد جاءونا وأنذروانا وأقاموا علينا الحجج والبراهين " ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين " أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل كما قال عز وجل مخبرا عنهم في الآية الاخرى " كلما ألقي فيها فوج سألهم حزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " أي رجعوا على أنفسهم بالملامة والندامة " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير " أي بعدا لهم وخسارا وقوله تبارك وتعالى ههنا " قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " أي كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به ولهذا قال جل وعلا " قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها " أي ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها " فبئس مثوى المتكبرين " أي فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل. وسيق الذين اتقوا ربهم الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين (73) وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين (74) وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة " زمرا " أي جماعة بعد جماعة: المقربون ثم الابرار ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الانبياء مع الانبياء والصديقون مع أشكالهم والشهداء مع أضرابهم والعلماء مع أقرانهم وكل صنف مع صنف كل زمرة تناسب بعضها بعضا " حتى إذا جاءوها " أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول فيقصدون آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمدا وعليهم أجمعين كما فعلوا في العرصات عند استشفاعهم إلى الله عز وجل أن يأتي لفصل القضاء ليظهر شرف محمد صلى الله عليه وسلم وعلى سائر البشر في المواطن كلها وقد ثبت في صحيح مسلم
[ 72 ]
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أول شفيع في الجنة " وفي لفظ لمسلم " وأنا أول من يقرع باب الجنة " وقال الامام أحمد حدثنا هاشم حدثنا سليمان عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول محمد - قال - فيقول بك أمرت أن لا أفتح لاحد قبلك " ورواه مسلم عن عمرو بن محمد الناقد وزهير بن حرب كلاهما عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن سليمان وهو ابن المغيرة القيسي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه به. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتغوطون فيها آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الالوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم على قلب واحد يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا " ورواه البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق كلاهما عن معمر بإسناده نحوه وكذا رواه أبو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء ". وأخرجاه أيضا من حديث جرير. وقال الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال " اللهم اجعله منهم " ثم قام رجل من الانصار فقال يا رسول الله ادع الله تعالى أن يجعلني منهم فقال صلى الله عليه وسلم " سبقك بها عكاشة " أخرجاه وقد روى هذا الحديث - في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب - البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين وابن مسعود ورفاعة بن عرابة الجهني وأم قيس بنت محصن رضي الله عنهم ولهما عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا أو سبعمائة ألف آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ". وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال سمعت أبا أمامة الباهلي رضي الله عنه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عز وجل " وكذا رواه الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن حكيم بن عامر عن أبي اليمان عامر بن عبد الله بن يحيى عن أبي أمامة ورواه الطبراني عن عيينة بن عبد السلمي " ثم مع كل ألف سبعين ألفا " ويروى مثله عن ثوبان وأبي سعيد الانماري وله شواهد من وجوه كثيرة وقوله تعالى " حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " لم يذكر الجواب ههنا وتقديره حتى إذا جاءوها وكانت هذه الامور من فتح الابواب لهم إكراما وتعظيما وتلقتهم الملائكة الخزنة بالبشارة والسلام والثناء كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب والتأنيب فتقديره إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم وإذا حذف الجواب ههنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والامل ومن زعم أن الواو في قوله تبارك وتعالى " وفتحت أبوابها " واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وإنما
[ 73 ]
يستفاد كون أبواب الجنة ثمانية من الاحاديث الصحيحة. قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان " فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم وأرجو أن تكون منهم " رواه البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة ثمانية أبواب باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون ". وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ". وقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن معاذ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " مفتاح الجنة لا إله إلا الله ". " ذكر سعة أبواب الجنة - فسأل الله من فضله العظيم أن يجعلنا من أهلها " في الصحيحين من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل " فيقول الله تعالى يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الايمن وهم شركاء الناس في الابواب الاخر والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة وهجر - أو هجر ومكة - وفي رواية - مكة وبصرى ". وفي صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام وفي المسند عن حكيم بن معاوية عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله وقال عبد بن حميد ثنا الحسن بن موسى ثنا ابن لهيعة ثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن ما بين مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة " وقوله تبارك وتعالى " وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم " أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وطاب جزاؤكم كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي بين المسلمين في بعض الغزوات " إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة - وفي رواية - مؤمنة " وقوله " فادخلوها خالدين " أي ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا " وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده " أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر والعطاء العظيم والنعيم المقيم والملك الكبير يقولون عند ذلك " الحمد لله الذي صدقنا وعده " أي الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد " " وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق " " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " وقولهم " وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ". قال أبو العالية وأبو صالح وقتادة والسدي وابن زيد أي أرض الجنة فهذه الآية كقوله تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون " ولهذا قالوا " نتبوأ من الجنة حيث نشاء " أي أين شئنا حللنا فنعم الاجر أجرنا على عملنا وفي الصحيحين من حديث الزهري عن أنس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم " أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك ". وقال عبد بن حميد حدثنا روح بن عبادة ثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة فقال:
[ 74 ]
درمكة بيضاء مسك خالص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " وكذا رواه مسلم من حديث أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه به ورواه مسلم أيضا عن أبي بكر بن شيبة عن أبي أسامة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن ابن صائد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال " درمكة بيضاء مسك خالص " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " قال سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها فجرت عليهم نضرة النعيم فلم تغير أبشارهم بعدها أبدا ولم تشيعت أشعارهم أبدا بعدها كأنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الاخرى كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو قذى وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة " سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين " وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا قال وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين فيقول هذا فلان باسمه في الدنيا - فيقلن أنت رأيته فيقول نعم فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب قال فيجئ فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثه قال ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ومن كل لون ثم يرفع طرفه إلى سقفه فلولا أن الله تعالى قدره له لم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ثم يتكئ على أريكة ثم يقول " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " ثم قال حدثنا أبي ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ثنا مسلمة بن جعفر البجلي قال: سمعت أبا معاذ البصري يقول إن عليا رضي الله عنه كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو يؤتون - بنوق لها أجنحة وعليها رحال الذهب شراك نعالهم نور يتلالا كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الاخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون - أو فيأتون - باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفيحة فيسمع لها طنين يا علي فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خر له - قال مسلمة أراه قال ساجدا - فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ثم تقول أنت حبي وأنا حبك وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن فيدخل بيتا من أسه إلى أسقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أصفر وأخضر وأحمر ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها في البيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من باطن الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه الانهار من تحتهم تطرد أنهار من ماء غير آسن - قال صاف لا كدر فيه - وأنهار من لبن لم يتغير طعمه - قال لم يخرج من ضروع الماشية - وأنهار من خمر لذة للشاربين - قال لم تعصرها الرجال بأقدامهم - وأنهار من عسل مصفى - قال لم يخرج من بطون النحل - يستجني الثمار فإن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا - ثم تلا " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " - فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض - قال وربما قال أخضر قال - فترفع أجنحتها فيأكل من جنوبها أي الالوان شاء ثم يطير فيذهب فيدخل الملك فيقول: سلام عليكم تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون. ولو أن شعرة من شعر الحوراء وقعت في الارض لاضاءت الشمس معها سوادا في نور " هذا حديث غريب وكأنه مرسل والله أعلم.
[ 75 ]
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75) لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار وأنه كلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور وقد فصل القضية وقضى الامر وحكم بالعدل ولهذا قال عز وجل " وقضى بينهم " أي بين الخلائق " بالحق ". ثم قال " وقيل الحمد لله رب العالمين " أي نطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد قال قتادة افتتح الخلق بالحمد في قوله " الحمد لله الذي خلق السموات والارض " واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى " وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ". سورة غافر قد كره بعض السلف منهم محمد بن سيرين أن يقال الحواميم وإنما يقال آل حم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آل حم ديباج القرآن وقال ابن عباس رضي الله عنهما إن لكل شئ لبابا ولباب القرآن آل حم أو قال الحواميم وقال مسعر بن كدام كان يقال لهن العرائس روى ذلك كله الامام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتاب فضائل القرآن. وقال حميد بن زنجويه حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لاهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الاول فهذا أعجب وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الاول مثل عظم القرآن وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن أورده البغوي. وقال ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أن الجراح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لكل شئ لباب ولباب القرآن الحواميم وقال ابن مسعود رضي الله عنه إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات أتأنق فيهن. وقال أبو عبيد ثنا الاشجعي حدثنا مسعر - هو ابن كدام - عمن حدثه أن رجلا رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يبني مسجدا فقال له ما هذا ؟ فقال أبنيه من أجل آل حم وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء رضي الله عنه هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وضع له فإن هذا الكلام يدل على النصر على الاعداء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه في بعض الغزوات " إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون - وفي رواية - لا تنصرون " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن الحكم بن ظبيان بن خلف المازني ومحمد بن الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن عصم ذلك اليوم من كل سوء " ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد ورواه الترمذي من حديث المليكي وقال تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم (2) غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول
[ 76 ]
لآإله هو إليه المصير (3) أما الكلام على قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وقد قيل إن " حم " اسم من أسماء الله عز وجل وأنشدوا في ذلك بيتا يذكرني حم والرمح شاجر فهلا تلاحم قبل التقدم وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن المهلب بن أبي صفرة قال: حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن بيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون " وهذا إسناد صحيح واختار أبو عبيد أن يروي فقولوا حم لا ينصروا أي إن قلتم ذلك لا ينصروا جعله جزاء لقوله فقولوا. وقوله تعالى " تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم " أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه. وقوله عز وجل " غافر الذنب وقابل التوب " أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه وقوله جل وعلا " شديد العقاب " أي لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى وهذه كقوله " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الاليم " يقرن هذين الوصفين كثيرا في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف. وقوله تعالى " ذي الطول " قال ابن عباس رضي الله عنهما يعني السعة والغنى. وهكذا قال مجاهد وقتادة وقال يزيد بن الاصم: ذي الطول يعني الخير الكثير وقال عكرمة " ذي الطول " ذي المن وقال قتادة ذي النعم والفواضل والمعنى أنه المتفضل على عباده المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والانعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " الآية. وقوله جلت عظمته " لا إله إلا هو " أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره ولا رب سواه " إليه المصير " أي المرجع والمآب فيجازي كل عامل بعمله " وهو سريع الحساب " وقال أبو بكر بن عياش سمعت أبا إسحاق السبيعي يقول: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة ؟ فقرأ عمر رضي الله عنه " حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " وقال اعمل ولا تيأس. رواه ابن أبي حاتم واللفظ له وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ثنا موسى بن مروان الرقي ثنا عمر يعني ابن أيوب أنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الاصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففقده عمر فقال ما فعل فلان بن فلان ؟ فقالوا يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب قال فدعا عمر كاتبه فقال اكتب من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ثم قال لاصحابه ادعوا الله لاخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرؤه ويردده ويقول غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي. ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان وزاد فلم يزل يرددها على نفسه ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر خبره قال هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووثقوه وادعوا الله له أن يتوب ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة ثنا حماد بن واقد ثنا أبو عمر الصفار ثنا ثابت البناني قال كنت مع مصعب بن الزبير رضي الله عنه في سواد الكوفة فدخلت حائطا أصلي ركعتين فافتتحت حم المؤمن حتى بلغت لا إله إلا هو إليه المصير فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنية فقال إذا قلت غافر الذنب فقل يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي وإذا قلت وقابل التوب فقل يا قابل التوب اقبل توبتي وإذا قلت شديد العقاب فقل يا شديد العقاب لا تعاقبني
[ 77 ]
قال فالتفت فلم أر أحدا فخرجت إلى الباب فقلت مر بكم رجل عليه مقطعات يمنية ؟ قالوا ما رأينا أحدا فكانوا يرون أنه إلياس ثم رواه من طريق أخرى عن ثابت بنحوه وليس فيه ذكر إلياس والله سبحانه وتعالى أعلم. ما يجادل فئ ايات الله إلا الذين كفروا فلا كفروا فلا يغررك ثقلبهم في البلاد (4) كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأحذتهم فكيف كان عقاب (5) وكذلك حقت كلمت ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار (6) يقول تعالى ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان " إلا الذين كفروا " أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه " فلا يغررك تقلبهم في البلاد " أي في أموالها ونعيمها وزهرتها كما قال جل وعلا " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " وقال عز وجل " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " ثم قال تعالى مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه بأن له أسوة من سلف من الانبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا قليل فقال " كذبت قبلهم قوم نوح " وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الاوثان " والاحزاب من بعدهم " أي من كل أمة " وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه " أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي. وفد قال أبو القاسم الطبراني ثنا علي بن عبد العزيز ثنا عارم أبو النعمان ثنا معتمر بن سليمان قال سمعت أبي يحدث عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أعان باطلا ليدحض به حقا فقد برئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم " وقوله جلت عظمته " فأخذتهم " أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام " فكيف كان عقاب " أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم قد كان شديدا موجعا مؤلما قال قتادة كان شديدا والله. وقوله جل جلاله " وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار " أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الامم السالفة كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الاولى والاحرى لان من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك والله أعلم. الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم (7) ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من أآبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم (8) وقهم السئيات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذالك هو الفوز العظيم (9) يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الاربعة ومن حوله من الملائكة الكروبيين بأنهم يسبحون بحمد ربهم أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص والتحميد المقتضي لاثبات صفات المدح " ويؤمنون به "
[ 78 ]
أي خاشعون له أذلاء بين يديه وأنهم " يستغفرون للذين آمنوا " أي من أهل الارض ممن آمن بالغيب فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعوا للمؤمنين بظهر الغيب ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمنون على دعاء المؤمن لاخيه بظهر الغيب كما ثبت في صحيح مسلم " إذا دعا المسلم لاخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله " وقد قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن شيبة - حدثنا عبيدة بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق أمية بن أبي الصلت في شئ من شعره " فقال: زحل وثور تحت رجل يمينه والنسر للاخرى وليث مرصد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " فقال: والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد تأبي فما تطلع لنا في رسلها إلا معذبة وإلا تجلد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق " وهذا إسناد جيد وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية كما قال تعالى " ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " وهنا سؤال وهو أن يقال ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية ودلالة هذا الحديث ؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود ثنا محمد بن الصباح البزار ثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن الاحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال " ما تسمون هذه ؟ " قالوا السحاب قال " والمزن " قالوا والمزن قال " والعنان " قالوا والعنان - قال أبو داود ولم أتقن العنان جيدا - قال " هل تدرون بعد ما بين السماء والارض ؟ " قالوا لا ندري قال " بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهن وركبهن مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك ". ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث سماك بن حرب به وقال الترمذي حسن غريب وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية كما قال شهر ابن حوشب رضي الله عنه حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما " أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم " فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك " أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات وترك المنكرات " وقهم عذاب الجحيم " أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الاليم " ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة كما قال تبارك وتعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني بل رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل تفضلا منا ومنة وقال سعيد بن جبير إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه أين هم ؟ فيقال إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم " قال مطرف بن عبد الله بن الشخير أنصح عباد الله للمؤمنين الملائكة ثم تلا هذه الآية " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي
[ 79 ]
وعدتهم " الآية وأغش عباده للمؤمنين الشياطين. وقوله تبارك وتعالى " إنك أنت العزيز الحكيم " أي الذي لا يمانع ولا يغالب وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن الحكيم في أقوالك وأفعالك من شرعك وقدرك " وقهم السيئات " أي فعلها أو وبالها ممن وقعت منه " ومن تق السيئات يومئذ " أي يوم القيامة " فقد رحمته " أي لطفت به ونجيته من العقوبة " وذلك هو الفوز العظيم ". إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون (10) قالوا ربنا أمتنا اثنين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل (11) ذالكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فاحكم لله العلى الكبير (12) هو الذى يريكم ءاياته يريكم ءاياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب (13) فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون (14) يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون وذلك عندما باشروا من عذاب الله تعالى مالا قبل لاحد به فمقتوا عند ذلك أنفسهم وأبغضوها غاية البغض بسبب ما أسلفوا من الاعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخبارا عاليا نادوهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الايمان فيكفرون أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة. قال قتادة في قوله تعالى " لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الايمان فتكفرون " يقول لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الايمان في الدنيا فتركوه وأبو ا أن يقبلوه أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدى وذر بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري رحمة الله عليهم أجمعين. وقوله " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه هذه الآية كقوله تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال السدي أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا ثم أميتوا ثم أحيوا يوم القيامة وقال ابن زيد: أحيوا حين أخذ عليهم الميثاق من صلب آدم عليه السلام ثم خلقهم في الارحام ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان لانه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عز وجل في عرصات القيامة كما قال عز وجل " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " فلا يجابون ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة فلا يجابون قال الله تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسؤا فيها ولا تكلمون " وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة وهي قولهم " ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " أي قدرتك عظيمة فإنك
[ 80 ]
أحييتنا بعدما كنا أمواتا ثم أمتنا ثم أحييتنا فأنت قادر على ما تشاء وقد اعترفنا بذنوبنا وإننا كنا ظالمين لانفسنا في الدار الدنيا " فهل إلى خروج من سبيل " أي فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تمجه وتنفيه. ولهذا قال تعالى " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا " أي أنتم هكذا تكونون وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عز وجل " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقوله جل وعلا " فالحكم لله العلي الكبير " أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء لا إله إلا هو. قوله جل جلاله " هو الذي يريكم آياته " أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها " وينزل لكم من السماء رزقا " وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الاشياء " وما يتذكر " أي يعتبر ويتفكر في هذه الاشياء ويستدل بها على عظمة خالقها " إلا من ينيب " أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى قوله عز وجل " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " أي فاخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم. قال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا هشام يعني بن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن دبر كل صلاة. ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وذكر تمامه. وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا الربيع حدثنا الخصيب بن ناصح حدثنا صالح يعني المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ". رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق (15) يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (16) اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب (17) يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وارتقاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقا كالسقف لها كما قال تعالى " من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان أن هذه مسافة ما بين العرش إلى الارض السابعة في قول جماعة من السلف والخلف وهو الارجح إن شاء الله وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوته حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وارتفاعه
[ 81 ]
عن الارض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة وقد تقدم في حديث الاوعال ما يدل على ارتفاعه عن السموات السبع بشئ عظيم. وقوله تعالى " يلقي الروح من أمره علي من يشاء من عباده " كقوله جلت عظمته " ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون " وكقوله تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين " ولهذا قال عز وجل " لينذر يوم التلاق " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يوم التلاق اسم من أسماء يوم القيامة حذر الله منه عباده وقال ابن جريج قال ابن عباس رضي الله عنهما يلتقي فيه آدم وآخر ولده وقال ابن زيد يلتقي فيه العباد وقال قتادة والسدي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة يلتقي فيه أهل السماء وأهل الارض والخالق والخلق وقال ميمون بن مهران يلتقي الظالم والمظلوم وقد يقال إن يشمل هذا كله ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر كما قاله آخرون. قوله جل جلاله " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " أي ظاهرون بادون كلهم لا شئ يكنهم ولا يظلهم ولا يسترهم ولهذا قال " يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ " أي الجميع في علمه على السواء. وقوله تبارك وتعالى " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السموات والارض بيده ثم يقول أنا الملك أنا الجبار أنا المتكبر أين ملوك الارض ؟ أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ وفي حديث الصور أنه عز وجل إذا قبض أرواح جميع خلقه فلم يبق سواه وحده لا شريك له حينئذ يقول لمن الملك اليوم ؟ ثلاث مرات ثم يجيب نفسه قائلا " لله الواحد القهار " أي الذي هو وحده قد قهر كل شئ وغلبه وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن غالب الدقاق حدثنا عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر عن أبيه حدثنا أبو النضر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الاحياء والاموات قال وينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا ويقول " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ". وقوله جلت عظمته " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم أن الله سريع الحساب " يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى " لا ظلم اليوم " كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر " رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكى عن ربه عز وجل أنه قال " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله تبارك وتعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وقوله عز وجل " إن الله سريع الحساب " أي يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا واحدة كما قال جل وعلا " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وقال جل جلاله " وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر " وأنذرعهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع (18) يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور (19) والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير (20) يوم الآزفة اسم من أسماء يوم القيامة وسميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى " أزفت الآزفة * ليس لها من دون الله كاشفة " وقال عز وجل " اقتربت الساعة وانشق القمر " وقال جل وعلا " اقترب للناس حسابهم " وقال " أتى
[ 82 ]
أمر الله فلا تستعجلوه " وقال جل جلاله " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " الآية. وقوله تبارك وتعالى " إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " قال قتادة وقفت القلوب في الحناجر من الخوف فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها وكذا قال عكرمة والسدي وغير واحد ومعنى كاظمين أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " وقال ابن جريج " كاظمين " أي باكين. وقوله سبحانه وتعالى " ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع " أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم ولا شفيع يشفع فيهم بل قد تقطعت بهم الاسباب من كل خير. وقوله تعالى " يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور " يخبر عز وجل عن علمه التام المحيط بجميع الاشياء جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها دقيقها ولطيفها ليحذر الناس علمه فيهم فيستحيوا من الله تعالى حق الحياء ويتقوه حق تقواه ويراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه فإنه عز وجل يعلم العين الخائنة وإن أبدت أمانة ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور " هو لرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به وبهم المرأة الحسناء فإذا غفلوا لحظ إليها فإذا فطنوا غض بصره عنها فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود أن لو اطلع على فرجها رواه ابن أبي حاتم وقال الضحاك " خائنة الاعين " هو الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير. أو لم أر وقد رأى وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا ؟ وكذا قال مجاهد وقتادة وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " وما تخفي الصدور " يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزني بها أم لا ؟ وقال السدي " وما تخفى الصدور " أي من الوسوسة وقوله عز وجل " والله يقضي بالحق " أي يحكم بالعدل قال الاعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " والله يقضي بالحق " قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة " إن الله هو السميع البصير " وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية كقوله تبارك وتعالى " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " وقوله جل وعلا " والذين يدعون من دونه " أي من الاصنام والاوثان والانداد " لا يقضون بشئ " أي لا يملكون شيئا ولا يحكمون بشئ " إن الله هو السميع البصير " أي سميع لاقوال خلقه بصير بهم فيهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحاكم العادل في جميع ذلك * أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا في الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (21) ذالك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب (22) يقول تعالى " أو لم يسيروا " هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد " في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم " أي من الامم المكذبة بالانبياء عليهم الصلاة والسلام ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة " وآثارا في الارض " أي أثروا في الارض من البنايات والمعالم والديارات ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عز وجل " ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه " وقال تعالى " وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها " أي مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أخذهم الله بذنوبهم وهي كفرهم برسلهم " وما كان لهم من الله من واق " أي وما دفع عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد ولا وقاهم واق ثم ذكر علة أخذه إياهم
[ 83 ]
وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها فقال تعالى " ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات " فكفروا " أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا " فأخذهم الله " تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم وللكافرين أمثالها " إنه قوي شديد العقاب " أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد " وهو شديد العقاب " أي عقابه أليم شديد وجيع أعاذنا الله تبارك وتعالى منه ولقد أرسلنا موسى بأياتنا وسلطان مبين (23) إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب (24) فلنا جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين ءامنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال (25) وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد (26) وقال موسى إنى عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب (27) يقول تعالى مسليا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ومبشرا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام فإن الله تعالي أرسله بالآيات البينات والدلائل الواضحات ولهذا قال تعالى " بآياتنا وسلطان مبين " والسلطان هو الحجة والبرهان " إلى فرعون " وهو ملك القبط بالديار المصرية " وهامان " وهو وزيره في مملكته " وقارون " وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة " فقالوا ساحر كذاب " أي كذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا مموها كذابا في أن الله أرسله وهذه كقوله تعالى " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون " " فلما جاءهم بالحق من عندنا " أي بالرهان القاطع الدال على أن الله عز وجل أرسله إليهم " قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم " وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل أما الاول فكان لاجل الاحتراز من وجود موسى أو لاذلال هذا الشعب وتقليل عددهم أو لمجموع الامرين وأما الامر الثاني فللعلة الثانية ولاهانة هذا الشعب ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام ولهذا قالوا " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعدما جئتنا * قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم الارض فينظر كيف تعملون " قال قتادة هذا أمر بعد أمر قال الله عز وجل " وما كيد الكافرين إلا في ضلال " أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال " وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه " وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه الصلاة والسلام أي قال لقومه دعوني حتى أقتل لكم هذا " وليدع ربه " أي لا أبالي منه وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد وقوله قبحه الله " إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " يعني موسى يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكرا يعني واعظا يشفق على الناس من موسى عليه السلام. وقرأ الاكثرون " أن يبدل دينكم وأن يظهر في الارض الفساد " وقرأ الآخرون " أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الارض الفساد " وقرأ بعضهم " يظهر في الارض الفساد " بالضم " وقال موسى إنى عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب " أي لما بلغه قول فرعون " ذروني أقتل موسى " قال موسى عليه السلام استجرت بالله وعذت به من شره وشر أمثاله ولهذا قال " إنى عذت بربي وربكم " أيها المخاطبون " من كل متكبر " أي عن الحق مجرم " لا يؤمن بيوم الحساب " ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال " اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم ".
[ 84 ]
وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب (28) يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض فمن ينصرنا من بأس الله أن جاءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد (29) المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبطيا من آل فرعون قال السدي: كان ابن عم فرعون ويقال إنه الذي نجا مع موسى عليه الصلاة والسلام واختاره ابن جرير ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليا لان فرعون انفعل لكلامه واستمع وكف عن قتل موسى عليه السلام ولو كان إسرائيليا لاوشك أن يعاجل بالعقوبة لانه منهم وقال ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون والذي قال " يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك " رواه ابن أبي حاتم وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون " ذروني أقتل موسى " فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل وأفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر كما ثبت بذلك الحديث ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله " اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الاوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني محمد بن إبراهيم التيمي حدثني عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أخبرني بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " انفرد به البخاري من حديث الاوزاعي قال وتابعه محمد ابن إسحاق عن إبراهيم بن عروة عن أبيه به وقال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل ما أشد ما رأيت قريشا بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال مر صلى الله عليه وسلم بهم ذات يوم فقالوا له أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ؟ فقال " أنا ذاك " فقاموا إليه فأخذوا بمجامع ثيابه فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من وراءه وهو يصيح بأعلى صوته وإن عينيه ليسيلان وهو يقول يا قوم " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " حتى فرغ من الآية كلها وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة فجعله من مسند عمرو بن العاص رضي الله عنه وقوله تعالى " وقد جاءكم بالبينات من ربكم " أي كيف تقتلون رجلا لكونه يقول ربي الله وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق ؟ ثم تنزل معهم في المخاطبة فقال " وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم " يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه فلا تؤذوه فإن يك كاذبا فإن الله سبحانه وتعالى سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا فينبغي على هذا أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه وهكذا أخبر الله عز وجل عن موسى عليه السلام أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله " ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين * وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون " وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله ولا يمسوه
[ 85 ]
بسوء ويصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته قال الله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " أي أن لا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية وكان فتحا مبينا وقوله جل وعلا " إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب " أي لو كان هذا الذي يزعم أن الله تعالى أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون لكان أمره بينا يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله فكانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله ثم قال المؤمن محذرا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم " يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الارض " أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الارض بالكلمة النافذة والجاه العريض فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله " فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا " أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء " قال فرعون " لقومه رادا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون " ما أريكم إلا ما أرى " أي ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصائر " وقال الله تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " فقوله " ما أريكم إلا ما أرى " كذب فيه وافترى وخان الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ورعيته فغشهم وما نصحهم وكذا قوله " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه. قال الله تبارك وتعالى " فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد " وقال جلت عظمته " وأضل فرعون قومه وما هدى " وفي الحديث " ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ". والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب. هذا إخبار من الله عز وجل عن هذا الرجل الصالح مؤمن آل فرعون أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة فقال " يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب " أي الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الامم المكذبة كيف حل بهم بأس الله وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد " وما الله يريد ظلما للعباد " أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره فأنفذ فيهم قدره ثم قال " ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد " يعني يوم القيامة وسمي بذلك قال بعضهم لما جاء في حديث الصور إن الارض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر وماجت وارتجت فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا وقال آخرون منهم الضحاك بل ذلك إذا جئ بجهنم ذهب الناس هرابا منها فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى
[ 86 ]
مقام المحشر وهو قوله تعالى " والملك على أرجائها " وقوله " يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ". وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه والحسن والضحاك أنهم قرأوا يوم التناد بتشديد الدال من ند البعير إذا تردى وذهب وقيل لان الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا وإن خف عمله نادى ألا قد شقي فلان بن فلان وقال قتادة ينادي كل قوم بأعمالهم: ينادي أهل الجنة أهل الجنة وأهل النار أهل النار وقيل سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم " ومناداة أهل النار أهل الجنة " أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " ولمناداة أصحاب الاعراف أهل الجنة وأهل النار كما هو مذكور في سورة الاعراف واختار البغوي وغيره أنه سمى بذلك لمجموع ذلك وهو قول حسن جيد والله أعلم. وقوله تعالى " يوم تولون مدبرين " أي ذاهبين هاربين " كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر " ولهذا قال عز وجل " مالكم من الله من عاصم " أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه " ومن يضلل الله فما له من هاد " أي من أضله الله فلا هادي له غيره. وقوله تبارك وتعالى " ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات " يعني أهل مصر فد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى عليه الصلاة والسلام وهو يوسف عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر وكان رسولا يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ولهذا قال تعالى " فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا " أي يئستم فقلتم طامعين " لن يبعث الله من بعده رسولا " وذلك لكفرهم وتكذيبهم " كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب " أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لاسرافه في أفعاله وارتياب قلبه. ثم قال عز وجل " الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى فإن الله عز وجل يمقت على ذلك أشد المقت ولهذا قال تعالى " كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا " أي والمؤمنون أيضا يبغضون من تكون هذه صفته فإن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه فلا يعرف بعد ذلك معروفا ولا ينكر منكرا ولهذا قال تبارك وتعالى " كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر " أي على اتباع الحق " جبار " وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة وحكي عن الشعبي أنهما قالا لا يكون الانسان جبارا حتى يقتل نفسين وقال أبو عمران الجوني وقتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق والله تعالى أعلم. وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الاسباب (36) أسبلب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإنى لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب (37) يقول تعالى مخبرا عن فرعون وعتوه وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى عليه الصلاة والسلام أنه أمر وزيره هامان أن يبني له صرحا وهو القصر العالي المنيف الشاهق وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي كما قال تعالى " فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا " ولهذا قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون البناء بالآجر وأن يجعلوه في قبورهم رواه ابن أبي حاتم وقوله " لعلي أبلغ الاسباب أسباب السموات " الخ قال سعيد بن جبير وأبو صالح أبواب السماوات وقيل طرق السماوات " فأطلع إلى إله موسى وإني لاظنه كاذبا " وهذا من كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام في أن الله عز وجل أرسله إليه قال الله تعالى " وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل " أي بصنعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية أنه يعمل شيئا يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى " وما كيد فرعون إلا في تباب " قال ابن عباس ومجاهد يعني إلا في خسار
[ 87 ]
وقال الذئ امن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد (38) يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الاخرى هي دار القرار (39) من عمل سيئة فلا إلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولآئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب (40) قول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الاعلى فقال لهم " يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد " لا كما كذب فرعون في قوله " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الاخرى وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام فقال " يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع " أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل " وإن الآخرة هي دار القرار " أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها بل إما نعيم وإما جحيم ولهذا قال جلت عظمته " من عمل سيئة فلا يجزي إلا مثلها " أي واحدة مثلها " ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب " أي لا يتقدر بجزاء بل يثيبه الله عز وجل ثوابا كثيرا لا انقضاء له ولا نفاد والله تعالى الموفق للصواب * ويا قوم ما لى أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار (41) تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار (42) لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الاخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار (43) فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد (44) فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بأل فرعون سوء العذاب (45) النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (46) يقول لهم المؤمن ما بالي أدعوكم إلى النجاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه " تدعونني لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم " أي على جهل بلا دليل " وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار " أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه " لا جرم أنما تدعونني إليه " يقول حقا قال السدي وابن جريج معنى قوله " لا جرم " حقا وقال الضحاك " لا جرم " لا كذب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " لا جرم " يقول بلى إن الذي تدعونني إليه من الاصنام والانداد " ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة " قال مجاهد: الوثن ليس له شئ وقال قتادة يعني الوثن لا ينفع ولا يضر وقال السدي: لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا كقوله تبارك وتعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم " وقوله " وأن مردنا إلى الله " أي في الدار الآخرة فيجازي كل بعمله ولهذا قال " وأن المسرفين هم أصحاب النار " أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عز وجل " فستذكرون ما أقول لكم " أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ونصحتكم ووضحت لكم وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفعكم الندم " وأفوض أمري إلى الله " أي وأتوكل على الله وأستعينه وأقاطعكم وأباعدكم " إن الله بصير بالعباد " أي هو بصير بهم تعالى وتقدس فيهدي من يستحق الهداية ويضل من يستحق الاضلال وله الحجة البالغة والحكمة التامة والقدر النافذ. وقوله تبارك وتعالى " فوقاه الله سيئات ما مكروا " أي في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام وأما في الآخرة فبالجنة " وحاق بآل فرعون سوء العذاب " وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجحيم فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا
[ 88 ]
ومساء إلى قيام الساعة فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ولهذا قال " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " أي أشده ألما وأعظمه نكالا وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور وهى قوله تعالى " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا " ولكن هنا سؤال وهو أنه لا شك أن هذه الآية مكية وقد استدلوا بها على عذاب القبر في البرزخ وقد قال الامام أحمد ثنا هاشم هو ابن القاسم أبو النضر ثنا إسحاق بن سعيد هو ابن عمرو بن سعيد بن العاص ثنا سعيد يعني أباه عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية كانت تخدمها فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية وقاك الله عذاب القبر قالت عائشة رضي الله عنها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة ؟ قال صلى الله عليه وسلم لا من زعم ذلك ؟ " قالت هذه اليهودية لا أصنع إليها شيئا من المعروف إلا قالت وقاك الله عذاب القبر قال: صلى الله عليه وسلم " كذبت يهود وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة " ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته " القبر كقطع الليل المظلم أيها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق " وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه. وروى أحمد ثنا يزيد ثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت سألتها امرأة يهودية فأعطتها فقالت لها وقاك الله من عذاب القبر فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم قالت له: فقال صلى الله عليه وسلم " لا " قالت عائشة رضي الله عنها ثم قال لنا رسول الله بعد ذلك " وإنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم " وهذا أيضا على شرطهما. فيقال فما الجمع بين هذا وبين كون الآية مكية وفيها الدلالة على عذاب البرزخ ؟ والجواب أن الآية دلت على عرض الارواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ وتألمه بسببه فلم يدل عليه إلا السنة في الاحاديث المرضية الآتي ذكرها. وقد يقال إن هذه الآية إنما دلت على عذاب الكفار في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يعذب المؤمن في قبره بذنب ومما يدل على ذلك ما رواه الامام أحمد ثنا عثمان بن عمر ثنا يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة من اليهود وهي تقول أشعرت أنكم تفتنون في قبوركم ؟ فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " إنما يفتن يهود " قالت عائشة رضي الله عنها فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إنكم تفتنون في القبور " وقالت عائشة رضي الله عنها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يستعيذ من عذاب القبر وهكذا رواه مسلم عن هارون بن سعيد وحرملة كلاهما عن ابن وهب عن يونس بن يزيد الايلي عن الزهري به. وقد يقال إن هذه الآية دلت على عذاب الارواح في البرزخ ولا يلزم من ذلك أن يتصل في الاجساد في قبورها فلما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بخصوصه استعاذ منه والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد روى البخاري من حديث شعبة عن أشعث عن ابن أبي الشعثاء عن أبيه عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية دخلت عليها فقالت نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال صلى الله عليه وسلم " نعم عذاب القبر حق " قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر. فهذا يدل على أنه بادر صلى الله عليه وسلم إلى تصديق اليهودية في هذا الخبر وقرر عليه وفي الاخبار المتقدمة أنه أنكر ذلك حتى جاءه الوحي فلعلهما قضيتان والله سبحانه أعلم وأحاديث عذاب القبر كثيرة جدا وقال قتادة في قوله تعالى " غدوا وعشيا " صباحا ومساء ما بقيت الدنيا يقال لهم يا آل فرعون هذه منازلكم توبيخا ونقمة وصغارا لهم. وقال ابن زيد هم فيها اليوم يغدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة. وقال ابن أبي حاتم ثنا أبو سعيد ثنا المحاربي ثنا ليث عن عبد الرحمن بن ثروان عن هذيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أرواح الشهداء في
[ 89 ]
أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها فذلك عرضها وقد رواه الثوري عن أبي قيس عن أبي الهذيل ابن شرحبيل من كلامه في أرواح آل فرعون وكذلك قال السدي. وفي حديث الاسراء من رواية أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه " ثم انطلق به إلى خلق كثير من خلق الله رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم مصفدون على سابلة آل فرعون وآل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا " ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " وآل فرعون كالابل المسومة يخبطون الحجارة والشجر ولا يعقلون " وقال ابن أبي حاتم ثنا علي بن الحسين ثنا زيد بن أخرم ثنا عامر بن مدرك الحارثي ثنا عتبة - يعني ابن يقظان - عن قيس بن مسلم عن طارق عن شهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى " قال قلنا يا رسول الله ما إثابة الله الكافر ؟ فقال " إن كان قد وصل رحما أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك " قلنا فما إثابته في الآخرة ؟ قال صلى الله عليه وسلم " عذابا دون العذاب " وقرأ " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " ورواه البزار في مسنده عن زيد بن أخرم ثم قال: لا نعلم له إسنادا غير هذا. وقال ابن جرير ثنا عبد الكريم بن أبي عمير ثنا حماد بن محمد الفزاري البلخي قال سمعت الاوزاعي وسأله رجل فقال رحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله عز وجل فإذا كان العشي رجع مثلها سوداء قال وفطنتم إلى ذلك ؟ قال نعم قال إن ذلك الطير في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا فترجع إلى وكورها وقد احترفت أرياشها وصارت سوداء فينبت عليها من الليل ريش أبيض ويتناثر الاسود ثم تغدوا على النار غدوا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبهم في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى " أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " قال وكانوا يقولون إنهم ستمائة وألف مقاتل وقال الامام أحمد ثنا إسحاق ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل إليه يوم القيامة " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وإذا يتحاجون في النار فيقول الضعفآؤا للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (47) قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد (48) وقال الذين في النار لخزنه جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب (49) قالوا أو لم تك تأتكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاؤا الكافرين إلا في ضلال (50) يخبر تعالى عن تحاج أهل النار في النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم فيقول الضعفاء وهم الاتباع للذين استكبروا وهم القادة والسادة والكبراء " إنا كنا لكم تبعا " أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال " فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار " أي قسطا تتحملونه عنا " قال الذين استكبروا إنا كل فيها " أي لا نتحمل عنكم شيئا كفى بنا ما عندنا وما حملنا من العذاب والنكال " إن الله قد حكم بين العباد " أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى " قال لكل ضعف ولكن لا تعملون * وقال الذين في النار لخزية جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب " لما علموا أن الله عز وجل لا يستجيب منهم ولا يستمع
[ 90 ]
لدعائهم بل قد قال " اخسئوا فيها ولا تكلمون " سألوا الخزنة وهم كالسجانين لاهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم " أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات " أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل " قالوا بلى قالوا فادعوا " أي أنتم لانفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ولا نود خلاصكم ونحن منكم براء ثم نخبركم أنه سواء دعوتم أو لم تدعوا لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ولهذا قالوا " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال " أي إلا في ذهاب لا يقبل ولا يستجاب. إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد (51) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار (52) ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسرآءيل الكتاب (53) هدى وذكرى لاولى الالباب (54) فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار (55) إن الذين يجادلون فئ ايات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلاكبر ماهم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (56) قد أورد أبو جعفر ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا " سؤالا فقال قد علم أن بعض الانبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعيا ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم وإما إلى السماء كعيسى فأين النصرة في الدنيا ؟ ثم أجاب عن ذلك بجوابين " أحدهما " أن يكون الخبر خرج عاما والمراد به البعض قال وهذا سائغ في اللغة " الثاني " أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم كما فعل بقتلة يحيى وزكريا وشعيا سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم وأظهرهم الله تعالى عليهم ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إماما عادلا وحمكا مقسطا فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يقبل إلا الاسلام وهذه نصرة عظيمة وهذه سنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم. ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول الله تبارك وتعالى من عادى لى وليا فقد بارزني بالحرب ". وفى الحديث الآخر " إني لا ثأر لاوليائي كما يثأر الليث الحرب " ولهذا أهلك الله عز وجل قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحدا وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحدا قال السدي لم يبعث الله عز وجل رسولا قط إلى قوم فيقتلونه أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال فكانت الانبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها وهكذا نصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه وكذبه وعاداه فجعل كلمته هي العليا ودينه هو الظاهر على سائر الاديان وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية وجعل له فيها أنصارا وأعوانا ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم وأسر سراتهم فاستاقهم مقرنين في الاصفاد ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة فقرت عينه ببلده وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم فأنقذه الله تعالى
[ 91 ]
به مما كان فيه من الكفر والشرك وفتح له اليمن ودانت له جزيرة العرب بكمالها ودخل الناس في دين الله أفواجا ثم قبضه الله تعالى إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده فبلغوا عنه دين الله عز وجل ودعوا عباد الله تعالى إلى الله جل وعلا وفتحوا البلاد والرساتيق والاقاليم والمدائن والقرى والقلوب حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الارض ومغاربها ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة ولهذا قال تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل قال مجاهد: الاشهاد الملائكة. قوله تعالى " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم " بدل من قوله " ويوم يقوم الاشهاد " وقرأ آخرون يوم بالرفع كأنه فسره به " يوم يقوم الاشهاد يوم لا ينفع الظالمين " وهم المشركون " معذرتهم " أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية " ولهم اللعنة " أي الابعاد والطرد من الرحمة " ولهم سوء الدار " وهي النار قاله السدي بئس المنزل والمقيل وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " ولهم سوء الدار " أي سوء العاقبة وقوله تعالى " ولقد آتينا موسى الهدى " وهو ما بعثه الله عز وجل به من الهدى والنور " وأورثنا بني إسرائيل الكتاب " أي جعلنا لهم العاقبة وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه بما صبروا على طاعة الله تبارك وتعالى واتباع رسوله موسى عليه الصلاة والسلام وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة " هدى وذكرى لاولى الالباب " وهي العقول الصحيحة السليمة. قوله عز وجل " فاصبر " أي يا محمد " إن وعد الله حق " أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك " والله لا يخلف الميعاد " وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك وقوله تبارك وتعالى " واستغفر لذنبك " هذا تهييج للامة على الاستغفار " وسبح بحمد ربك بالعشي " أي في أواخر النهار وأوائل الليل " والابكار " وهي أوائل النهار وأواخر الليل. وقوله تعالى " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم " أي يدفعون الحق بالباطل ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله " إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق واحتقار لمن جاءهم به وليس ما يرومونه من إخماد الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم بل الحق هو المرفوع وقولهم وقصدهم هو الموضوع " فاستعذ بالله " أي من حال مثل هؤلاء أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان هذا تفسير ابن جرير وقال كعب وأبو العالية نزلت هذه الآية في اليهود " إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه " قال أبو العالية وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم وأنهم يملكون به الارض فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يستعيذ من فتنة الدجال ولهذا قال عز وجل " فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير " وهذا قول غريب وفيه تعسف بعيد وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه والله سبحانه وتعالى أعلم لخلق السماوات والارض من خلق الناس ولاكن أكثر الناس لا يعملون (57) وما يستوى الاعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصاحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون (57) إن الساعة لاتية لا ريب فيها لاكن أكثر الناس لا يؤمنون (59) يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة وأن ذلك سهل عليه يسير لديه بأنه خلق السماوات والارض وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الاولى والاحرى كما قال تعالى " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه
[ 92 ]
على كل شئ قدير " وقال ههنا " لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والارض وينكرون المعاد استبعادا وكفرا وعنادا وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ثم قال تعالى " وما يستوي الاعمى والبصير الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون " أي كما لا يستوي الاعمى الذي لا يبصر شيئا والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي الاعمى الذين لا يبصر شيئا والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره بل بينهما فرق عظيم كذلك لا يستوي المؤمنون الابرار والكفرة الفجار " قليلا ما تتذكرون " أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ثم قال تعالى " إن الساعة لآتية " أي لكائنة وواقعة " لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها. قال ابن أبي حاتم ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثنا أشهب حدثنا مالك عن شيخ قديم من أهل اليمن قدم من ثم قال سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس واشتد حر الشمس والله أعلم وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين (60) هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه وتكفل لهم بالاجابة كما كان سفيان الثوري يقول يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله وليس أحد كذلك غيرك يا رب. رواه ابن أبي حاتم وفي هذا المعنى يقول الشاعر: الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب وقال قتادة: قال كعب الاحبار أعطيت هذه الامة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلها إلا نبي: كان إذا أرسل الله نبيا قال له أنت شاهد على أمتك وجعلكم شهداء على الناس وكان يقال له ليس عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وكان يقال له ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة " ادعوني أستجب لكم " رواه ابن أبي حاتم. وقال الامام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده حدثنا أبو إبراهيم الترجماني حدثنا صالح المدني قال سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال " أربع خصال واحدة منهن لي وواحدة لك وواحدة فيما بيني وبينك وواحدة فيما بينك وبين عبادي فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك علي فما عملت من خير جزيتك به وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلي الاجابة وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك ". وقال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدعاء هو العبادة " ثم قرأ " ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير كلهم من حديث الاعمش به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضا من حديث شعبة عن منصور والاعمش كلاهما عن ذر به وكذا رواه ابن يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن ذر به ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم صحيح الاسناد. وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثني أبو صالح المدني شيخ من أهل المدينة سمعه عن أبي صالح وقال مرة سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يدع الله عز وجل غضب عليه " تفرد به أحمد وهذا إسناد لا بأس به وقال الامام أحمد أيضا حدثنا مروان الفزاري حدثنا صبيح أبو المليح سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لا يسأله يغضب عليه "
[ 93 ]
قال ابن معين أبو المليح هذا اسمه: صبيح كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد وأما أبو صالح هذا فهو الخوزي سكن شعب الخوز قاله البزار في مسنده وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي عن أبي صالح الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يسأل الله يغضب عليه ". وقال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي حدثنا همام حدثنا إبراهيم بن الحسن حدثنا نائل بن نجيح حدثني عائذ بن حبيب عن محمد بن سعيد قال لما مات محمد بن مسلمة الانصاري وجدنا في ذؤابة سيفه كتابا بسم الله الرحمن الرحيم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا " وقوله عز وجل " إن الذين يستكبرون عن عبادتي " أي عن دعائي وتوحيدي سيدخلون جهنم داخرين أي صاغرين حقيرين كما قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شئ من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الانيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خنيس قال سمعت أبي يحدث عن وهيب بن الورد حدثني رجل قال كنت أسير ذات يوم في أرض الروم فسمعت هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول: يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك يا رب عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك قال ثم ذهبت ثم جاءت الطامة الكبرى قال ثم عاد الثانية فقال يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشئ من سخطك يرضي غيرك قال وهيب وهذه الطامة الكبرى قال فناديته أجني أنت أم إنسي ؟ قال بل إنسي أشغل نفسك بما يعنيك عما لا يعنيك. الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون (61) ذالكم الله ربكم خالق كل شئ لآإله إلا هو فأنى تؤفكون (62) كذالك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون (63) الله الذى جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذالكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين (64) هو الحى لآإله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد الله رب العالمين (65) يقول تعالى ممتنا على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار وجعل النهار مبصرا أي مضيئا ليتصرفوا فيه بالاسفار وقطع الاقطار والتمكن من الصناعات " إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم قال عز وجل " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو " أي الذي فعل هذه الاشياء هو الله الواحد الاحد خالق الاشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه " فأنى تؤفكون " أي فكيف تعبدون غيره من الاصنام التي لا تخلق شيئا بل هي مخلوقة منحوته وقوله عز وجل " كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون " أي كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى وجحدوا حجج الله وآياته قوله تعالى " الله الذي جعل لكم الارض قرارا " أي جعلها لكم مستقرا بساطا مهادا تعيشون عليها وتتصرفون فيها وتمشون في مناكبها وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم " والسماء بناء " أي سقفا للعالم محفوظا " وصوركم فأحسن
[ 94 ]
صوركم " أي فخلقكم في أحسن الاشكال ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم " ورزقكم من الطيبات " أي من المآكل والمشارب في الدنيا فذكر أنه خل الدار والسكان والارزاق فهو الخالق الرازق كما قال تعالى في سورة البقرة " يايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ". وقال تعالى ههنا بعد خلق هذه الاشياء " ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين " أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم قال تعالى " هو الحي لا إله إلا هو " أي هو الحي أزلا وأبدا لم يزل ولا يزال وهو الاول والآخر والظاهر والباطن " لا إله إلا هو " أي لا نظير له ولا عديل له " فادعوه مخلصين له الدين " أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد لله رب العالمين. قال ابن جرير: كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال لا إله إلا الله أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين عملا بهذه الآية. ثم روى عن محمد بن علي بن الحسين بن شقيق عن أبيه عن الحسين بن واقد عن الاعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى " فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ". وقال أبو أسامة وغير عن إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير قال إذا قرأت " فادعوا الله مخلصين له الدين " فقل لا إله إلا الله وقل على أثرها الحمد لله رب العالمين ثم قرأ هذه الآية " فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين ". قال الامام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا هشام يعني ابن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكي قال كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن دبر كل صلاة ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام بن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وذكر تمامه. * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب العالمين (66) هو الذى خلقكم من تراب قو من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون (67) هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (68) يقول تبارك وتعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين إن الله عز وجل ينهى أن يعبد أحد سواه من الاصنام والانداد والاوثان وقد بين تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته " هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا " أي هو الذي يقلبكم في هذه الاطوار كلها وحده لا شريك له وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله " ومنكم من يتوفى من قبل " أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم بل تسقطه أمه سقطا ومنهم من يتوفى صغيرا وشابا وكهلا قبل الشيخوخة كقوله تعالى " لنبين لكم ونقر في الارحام ما نشاء إلى أجل مسمى " وقال عز وجل ههنا " ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون " قال ابن جريج تتذكرون البعث قال تعالى " هو الذي يحيى ويميت " أي هو المنفرد بذلك
[ 95 ]
لا يقدر على ذلك أحد سواه " فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يخالف ولا يمانع بل ما شاء كان لا محالة ألم تر إلى الذين يجادلون فئ ايات الله أنى يصرفون (69) الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون (70) إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون (72) ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون (73) من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذالك يضل الله الكافرين (74) ذالكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون (75) ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين (76) يقول تعالى ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ويجادلون في الحق بالباطل كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال " الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا " أي من الهدى والبيان " فسوف يعلمون " هذا تهديد شديد ووعيد أكيد من الرب جل جلاله لهؤلاء كما قال تعالى " ويل يومئذ للمكذبين ". وقوله عز وجل " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل " أي متصلة بالاغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم ولهذا قال تعالى " يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " كما قال تبارك وتعالى " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبن حميم آن " وقال تعالى بعد ذكر أكلهم الزقوم وشربهم الحميم " ثم إن مرجعهم لالى الجحيم " وقال عز وجل " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم - إلى أن قال - ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدين " وقال عز وجل " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم * كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون " أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ والتحقير والتصغير والتهكم والاستهزاء بهم قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن منيع حدثنا منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة الخزامي عن خالد بن دريك عن يعلى بن منبه رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ينشئ الله عز وجل سحابة لاهل النار سوداء مظلمة ويقال يا أهل النار أي شئ تطلبون ؟ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقول نسأل بارد الشراب فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيد في سلاسلهم وجمرا يلهب النار عليهم " هذا حديث غريب وقوله تعالى " ثم قيل لهم أينما كنتم تشركون من دون الله " أي قيل لهم أين الاصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينصرونكم اليوم " قالوا ضلوا عنا " أي ذهبوا فلم ينفعونا " بل لم نكن ندعو من قبل شيئا " أي جحدوا عبادتهم كقوله جلت عظمته " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " ولهذا قال عز وجل " كذلك يضل الله الكافرين ". وقوله " ذلكم بما كنتم تفرحون في الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون " أي تقول لهم الملائكة هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ومرحكم وأشركم وبطركم " ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين " أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد لمن استكبر عن آيات الله واتباع دلائله وحججه والله أعلم
[ 96 ]
فاصبر إن وعد الله حق فاما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون (77) ولقد أرسلنا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بأية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون (78) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه فإن الله تعالى سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة " فإما نرينك بعض الذي نعدهم " أي في الدنيا وكذلك وقع فإن الله تعالى أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم أبيدوا في يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم وقوله عز وجل " أو نتوفينك فإلينا يرجعون " أي فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة ثم قال تعالى مسليا له " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك " كما قال جل وعلا في سورة النساء سواء أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة " ومنهم من لم نقصص عليك " وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى " وما كان لرسول أن يأتي بأية إلا بإذن الله " أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا أن يأذن الله له في ذلك فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به " فإذا جاء أمر الله " وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين " قضى بالحق " فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين ولهذا قال عز وجل " وخسر هنالك المبطلون " الله الذى جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون (79) ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون (80) ويريكم ءاياته فأئ ايات الله تنكرون (81) يقول تعالى ممتنا على عباده بما خلق لهم من الانعام وهي الابل والبقر والغنم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون فالابل تركب وتؤكل وتحلب ويحمل عليها الاثقال في الاسفار والرحال إلى البلاد النائية والاقطار الشاسعة والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الارض والغنم تؤكل ويشرب لبنها والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الاثاث والثياب والامتعة كما فصل وبين في أماكن تقدم ذكرها في سورة الانعام وسورة النحل وغير ذلك ولذا قال عز وجل ههنا " لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون " وقوله جل وعلا " ويريكم آياته " أي حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم " فأي آيات الله تنكرون " أي لا تقدرون على إنكار شئ من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا في الارض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (82) فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (83) فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين (84) فلم يك
[ 97 ]
ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون (85) يخبر تعالى عن الامم المكذبة بالرسل في قديم الدهر وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم وما أثروه في الارض وجمعوه من الاموال فما أغنى عنهم ذلك شيئا ولا رد عنهم ذرة من بأس الله وذلك لانهم لما جاءتهم الرسل بالبينات والحجج القاطعات والبراهين الدامغات لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل قال مجاهد قالوا نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب وقال السدي فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به " وحاق بهم " أي أحاط بهم " ما كانوا به يستهزئون " أي يكذبون ويستبعدون وقوعه " فلما رأوا بأسنا " أي عاينوا وقوع العذاب بهم " قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " أي وحدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " قال الله تبارك تعالى " الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " أي فلم يقبل الله منه لانه قد استجاب لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام دعاءه عليه حين قال " واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم " وهكذا قال تعالى " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده " أي هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ولهذا جاء في الحديث " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة وعاين الملكفلا توبة حينئذ ولهذا قال تعالى " وخسر هنالك الكافرون " سورة فصلت بسم الله الرحمان الرحيم حم (1) تنزيل من الرحمان الرحيم (2) كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعملون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفئ اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5) يقول تعالى " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم كقوله " قل نزله روح القدس من ربك بالحق " وقوله " وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الامين * على قلبك لتكون من المنذرين " قوله تبارك وتعالى " كتاب فصلت آياته " أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه " قرآنا عربيا " أي في حال كونه قرآنا عربيا بينا واضحا فمعانيه مفصلة وألفاظه واضحة غير مشكلة كقوله تعالى " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وقوله تعالى " لقوم يعلمون " أي إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون " بشيرا ونذيرا " أي تارة يبشر المؤمنين وتارة ينذر الكافرين " فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه " وقالوا قلوبنا في أكنة " أي في غلف مغطاة " مما تدعونا إليه وفي
[ 98 ]
آذاننا وقر " أي صمم عما جئتنا به " ومن بيننا وبينك حجاب " فلا يصل إلينا شئ مما تقول " فاعمل إننا عاملون " أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك قال الامام العالم عبد بن حميد في مسنده حدثني ابن أبي شيبة حدثنا علي بن مسهر عن الاجلح عن الزيال بن حرملة الاسدي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا أنت يا أبا الوليد فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغت ؟ قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فقال عتبة حسبك حسبك عندك غير هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته قالوا فهل أجابك ؟ قال نعم لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قاله غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة. وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله سواء وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فضيل عن الاجلح وهو ابن عبد الله الكندي الكوفي وقد ضعف بعض الشئ عن الزيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث إلى قوله " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم فقال أبو جهل يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته فإنطلقوا بنا إليه فإنطلقوا إليه فقال أبو جهل يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدا أبدا وقال والله لقد علمتم أنى من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشئ والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر وقرأ السورة إلى قوله تعالى " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخشيت أن ينزل بكم العذاب وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى والله تعالى أعلم وقد أورد هذه القصة الامام محمد ابن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط فقال حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة - وكان سيدا - قال يوما وهو جالس في نادي قريش - ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده - يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ؟ - وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون - فقالوا بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا ننظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل يا أبا الوليد أسمع " قال يا ابن أخي إن كنت إنما تريد
[ 99 ]
بما جئت به من هذا الامر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده ن نفسك طلبنا لك الاطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه أو كما قال له حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال " أفرغت يا أبا الوليد ؟ " قال نعم. قال " فاستمع منى " قال أفعل. قال " بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك " فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال ورائي أني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به قالوا سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؟ قال هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم وهذا السياق أشبه من الذي قبله والله أعلم. قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما الاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين (6) الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالاخرة هم كافرون (7) إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون (8) يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين " إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " لا كما تعبدونه من الاصنام والانداد والارباب المتفرقين إنما الله إله واحد " فاستقيموا إليه " أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل " واستغفروه " أي لسالف الذنوب " وويل للمشركين " أي دمار لهم وهلاك عليهم " الذين لا يؤتون الزكاة " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله وكذا قال عكرمة وهذا كقوله تبارك وتعالى " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " وكقوله جلت عظمته " قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " وقوله عز وجل " فقل هل لك إلى أن تزكى " والمراد بالزكاة ههنا طهارة النفس من الاخلاق الرذيلة ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك وزكاة المال إنما سميت زكاة لانها تطهره من الحرام وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات. وقال السدي " وويل للمشركين الذي لا يؤتون الزكاة " أي لا يؤدون الزكاة وقال معاوية بن قرة ليس هم من أهل الزكاة وقال قتادة يمنعون زكاة أموالهم وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين واختاره ابن جرير وفيه نظر لان إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية اللهم إلا أن يقال لا يبعد أن يكون أصل الصدقة والزكاة كان مأمورا به في ابتداء البعثة كقوله تبارك وتعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بين أمرها بالمدينة ويكون هذا جمعا بين القولين كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة فلما كان ليلة الاسراء قبل الهجرة بسنة ونصف فرض الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك شيئا فشيئا والله أعلم. ثم قال جل جلاله بعد ذلك " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون " قال مجاهد وغيره غير مقطوع ولا مجبوب كقوله تعالى " ماكثين فيها أبدا " وكقوله عز وجل " عطاء غير مجذوذ " وقال السدي غير ممنون عليهم
[ 100 ]
وقد رد عليه هذا التفسير بعض الائمة فإن المنة لله تعالى على أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان " وقال أهل الجنة " فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ". * قل أئنكم لتكفرون بالذى خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذالك رب العالمين (9) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سوآء للسآلين (10) ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين (11) فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها بمصابيح وحفظا ذالك تقدير العزيز العليم (12) هذا إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره وهو الخالق لكل شئ القاهر لكل شئ المقتدر على كل شئ فقال " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا " أي نظراء وأمثالا تعبدونها معه " ذلك رب العالمين " أي الخالق للاشياء هو رب العالمين كلهم. وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى " خلق السموات والارض في ستة أيام " ففصل ههنا ما يختص بالارض مما اختص بالسماء فذكر أنه خلق الارض أولا لانها كالاساس والاصل أن يبدأ بالاساس ثم بعده بالسقف كما قال عز وجل " هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات " الآية فأما قوله تعالى " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والارض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولانعامكم " ففي هذه الآية أن دحو الارض كان بعد خلق السماء فالدحو هو مفسر بقوله " أخرج منها ماءها ومرعاها " وكان هذا بعد خلق السماء فأما خلق الارض فقبل خلق السماء بالنص وبهذا أجاب ابن عباس رضي الله تعالى عنه فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه فإنه قال: وقال المنهال عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما إني لاجد في القرآن أشياء تختلف علي قال " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " " ولا يكتمون الله حديثا " " والله ربنا ما كنا مشركين " فقد كتموا في هذه الآية. وقال تعالى " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - والارض بعد ذلك دحاها " فذكر خلق السماء قبل الارض ثم قال تعالى " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين - إلى قوله - طائعين " فذكر في هذه خلق الارض قبل خلق السماء قال " وكان الله غفورا رحيما " " عزيزا حكيما " " سميعا بصيرا " فكأنه كان ثم مضى ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " في النفخة الاولى ثم " نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله " فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون بينهم في النفخة الاخرى " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " وأما قوله " والله ربنا ما كنا مشركين " " ولا يكتمون الله حديثا " فإن الله تعالى يغفر لاهل الاخلاص ذنوبهم فيقول المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك يعرف أن الله تعالى لا يكتم حديثا وعنده " يود الذين كفروا " الآية وخلق الارض في يومين ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ثم دحى الارض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله تعالى دحاها وقوله " خلق الارض في يومين " فخلق الارض وما فيها من شئ في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين " وكان الله غفورا رحيما "
[ 101 ]
سمى نفسه بذلك وذلك قوله أي لم يزل كذلك فإن الله تعالى لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلفن عليك القرآن فإن كلا من عند الله عز وجل قال البخاري حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال - هو ابن عمرو - الحديث. وقوله " خلق الارض في يومين " يعني يوم الاحد ويوم الاثنين " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها " أي جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس وقدر فيها أقواتها وهو ما يحتاج أهلها إليه من الارزاق والاماكن التي تزرع وتغرس يعني يوم الثلاثاء والاربعاء فهما مع اليومين السابقين أربعة ولهذا قال " في أربعة أيام سواء للسائلين " أي لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه وقال عكرمة ومجاهد في قوله عز وجل " وقدر فيها أقواتها " وجعل في كل أرض مالا يصلح في غيرها ومنه العصب باليمن والسابوري بسابور والطيالسة بالري وقال ابن عباس وقتادة والسدي في قوله تعالى " سواء للسائلين " أي لمن أراد السؤال عن ذلك وقال ابن زيد معناه وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين أي على وفق مراده من له حاجة إلى رزق أو حاجة فإن الله تعالى قدر له ما هو محتاج إليه وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى " وآتاكم من كل ما سألتموه " والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الارض " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها " أي استجيبا لامري وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين قال الثوري عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها " قال: قال الله تبارك وتعالى للسماوات أطلعي شمسي وقمري ونجومي وقال للارض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك " قالتا أتينا طائعين " واختاره ابن جرير رحمه الله قالتا أتينا طائعين أي بل نستجيب لك مطيعين بما فينا مما تريد خلقه من الملائكة والجن والانس جميعا مطيعين لك حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال وقيل تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما وقيل إن المتكلم من الارض بذلك هو مكان الكعبة ومن السماء ما يسامته منها والله أعلم وقال الحسن البصري لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه ورواه ابن أبي حاتم " فقضاهن سبع سموات في يومين " أي ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين أي آخرين وهما يوم الخميس ويوم الجمعة " وأوحى في كل سماء أمرها " أي ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة ما فيها من الاشياء التي لا يعلمها إلا هو " وزينا السماء الدنيا بمصابيح " وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الارض " وحفظا " أي حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملا الاعلى " ذلك تقدير العزيز العليم " أي العزيز الذي قد عز كل شئ فغلبه وقهره العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم قال ابن جرير حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعيد البقال عن عكرمة عن ابن عباس - قال هناد قرأت سائر الحديث - أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والارض فقال صلى الله عليه وسلم " خلق الله تعالى الارض يوم الاحد ويوم الاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع وخلق يوم الاربعاء - الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب - فهذه أربعة " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيهل رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " لمن سأله قال وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه وفي الثانية ألقى الآفة على كل شئ مما ينتفع به الناس وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة " ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد قال " ثم استوى على العرش " قالوا قد أصبت لو أتممت قالوا: ثم استراح فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا فنزل " ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون " هذا الحديث فيه غرابة فأما حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدى فقال " خلق الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الاحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم
[ 102 ]
الاربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " فقد رواه مسلم والنسائي في كتابيهما من حديث ابن جريج به وهو من غرائب الصحيح وقد علله البخاري في التاريخ فقال رواه بعضهم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن كعب الاحبار وهو الاصح. فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود (13) إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ أرسلتم به كافرون (14) فأما عاد فاستكبروا في الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة منا قوة أو لم يروا أن الله الذى خلهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا ولعذاب الهون بما كانوا يكسبون (17) ونحينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون (18) يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم كما حلت بالامم الماضين من المكذبين بالمرسلين " صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " أي ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما " إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم " كقوله تعالى " واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه " أي في القرى المجاورة لبلادهم بعث الله إليهم الرسل يأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم وما ألبس أولياءه من النعم ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا بل كذبوا وجحدوا وقالوا " لو شاء ربنا لانزل ملائكة " أي لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده " فإنا بما أرسلتم به " أي أيها البشر " كافرون " أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا قال الله تعالى " فأما عاد فاستكبروا في الارض " أي بغوا وعتوا وعصوا " وقالوا من أشد منا قوة " أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله " أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة " أي أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة فإنه العظيم الذي خلق الاشياء وركب فيها قواها الحاملة لها وإن بطشه شديد كما قال عز وجل " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون " فبارزوا الجبار بالعداوة وجحدوا بآياته وعصوا رسله فلهذا قال " فأرسلنا عليهم ريح صرصرا " قال بعضهم وهي الشديدة الهبوب وقيل الباردة وقيل هي التي لها صوت والحق أنها متصفة بجميع ذلك فإنها كانت ريحا شديدة قوية لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم وكانت باردة شديدة البرد جدا كقوله تعالى " بريح صرصر عاتية " أي باردة شديدة وكانت ذات صوت مزعج ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق صرصرا لقوة صوت جريه. وقوله تعالى " في أيام نحسات " أي متتابعات " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " وكقوله " في يوم نحس مستمر " أي ابتدءوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " حتى أبادهم عن آخرهم واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ولهذا قال " لنذيقنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى " أي أشد خزيا لهم " وهم لا ينصرون " أي في الاخرى كما لم ينصروا في الدنيا وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال. وقوله عز وجل " وأما ثمود فهديناهم " قال ابن عباس رضي الله
[ 103 ]
عنهما وأبو العالية وسعيد بن جبير وقتادة والسدي وابن زيد: بينا لهم وقال الثوري دعوناهم " فاستحبوا العمى على الهدى " أي بصرناهم وبينا لهم ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام فخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم " فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا " بما كانوا يكسبون " أي من التكذيب والجحود " ونجينا الذين آمنوا " أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ولا نالهم من ذلك ضرر بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بإيمانهم وبتقواهم لله عز وجل ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولاكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذالكم ظنكم الذى ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (23) فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين (24) يقول تعالى " يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون " أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار يوزعون أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم كما قال تبارك وتعالى " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " أي عطاشا. قوله عز وجل " حتى إذا ما جاءوها " أي وقفوا عليها " شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون " أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه حرف " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك أجابتهم الاعضاء " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة " أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون. قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا علي بن قادم حدثنا شريف عن عبيد المكتب عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال صلى الله عليه وسلم " ألا تسألوني عن أي شئ ضحكت ؟ " قالوا يا رسول الله من أي شئ ضحكت ؟ قال صلى الله عليه وسلم " عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة يقول أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني ؟ قال بلى فيقول فإنى لا أقبل علي شاهدا إلا من نفسي فيقول الله تبارك وتعالى أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال فيردد هذا الكلام مرارا قال فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول بعدا لكن وسحقا عنكن كنت أجادل " ثم رواه هو وابن أبي حاتم من حديث أبي عامر الاسدي عن الثوري عن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو عن الشعبي ثم قال لا نعلم رواه عن أنس رضي الله عنه غير الشعبي وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الاشجعي عن الثوري به ثم قال النسائي لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الاشجعي وليس كما قال كما رأيت والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا إسماعيل ابن عليه عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة قال أبو موسى: ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عز وجل عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب علي هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا ؟ فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته قال فإذا فعل ذلك ختم على فيه قال الاشعري رضي الله عنه فإنى لاحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا حسن عن ابن لهيعة قال
[ 104 ]
دراج عن أبي الليث عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم فيقول هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقول أهلك وعشيرتك فيقول كذبوا فيقول احلفوا فيحلفون ثم يصمتهم الله تعالى وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال سمعت أبي يقول حدثنا علي بن زيد عن مسلم بن صبيح أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لابن الازرق إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم ثم يؤذن لهم فيختصمون فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم ثم يفتح لهم الافواه فتخاصم الجوارح فتقول " أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون " فتقر الالسنة بعد الجحود. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي عن رافع أبي الحسن قال وصف رجلا جحد قال فيشير الله تعالى إلى لسانه فيربو في فمه حتى يملاه فلا يستطيع أن ينطق بكلمة ثم يقول لآرابه كلها تكلمي واشهدي عليه فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه ويداه ورجلاه صنعنا عملنا فعلنا وقد تقدم أحاديث كثيرة وآثار عند قوله تعالى في سورة يس " اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون " بما أغنى عن إعادته ههنا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا يحيى بن سليم الطائفي عن أبي خيثم عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال " ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة ؟ " فقال فتية منهم بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهبانيهم تحمل على رأسها قلة من ماء فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت سوف تعلم يا غدر إذا وضع الله الكرسي وجمع الاولين والآخرين وتكلمت الايدي والارجل بما كانوا يكسبون فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا ؟ قال يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدقت صدقت كيف يقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم " هذا حديث غريب من هذا الوجه ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الاهوال حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن سليم به. وقوله تعالى " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " أي تقول لهم الاعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم لانكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ولهذا قال تعالى " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم " فأصبحتم من الخاسرين " أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم. قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن عمار عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه ثقفيان - أو ثقفي وختناه قرشيان - كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهما أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ؟ فقال الآخر إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه فقال الآخر إن سمع منه شيئا سمعه كله - قال - فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم - إلى قوله - من الخاسرين " وهكذا رواه الترمذي عن هناد عن أبي معاوية بإسناده نحوه وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا من حديث سفيان الثوري عن الاعمش عن عمارة بن عمير عن وهب بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود بنحوه ورواه البخاري ومسلم أيضا من حديث السفيانين كلاهما عن منصور عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي
[ 105 ]
الله عنه به وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم " قال " إنكم تدعون يوم القيامة مفدما على أفواهكم بالفدام فأول شئ يبين عن أحدكم فخذه وكفه " قال معمر: وتلا الحسن " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم " ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى أنا مع عبدي عند ظنه بي وأنا معه إذا دعاني " ثم افتر الحسن ينظر في هذا فقال: ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساء العمل ثم قال: قال الله تبارك وتعالى " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم - إلى قوله - وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم " الآية. وقال الامام أحمد حدثنا النضر بن إسماعيل القاص وهو أبو المغيرة حدثنا ابن أبي ليلى عن ابن الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله فقال الله تعالى " وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين " وقوله تعالى " فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين " أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار ولا تقال لهم عثرات. قال ابن جرير: ومعنى قوله تعالى " وإن يستعتبوا " أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم قال وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم " قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ". * وقيضنا لهم قرناء لهم فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قلبهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين (25) وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون (26) فليذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون (27) ذالك جرآء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون (28) وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين (29) يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته وهو الفي أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الانس والجن " فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " أي حسنوا لهم أعمالهم في الماضي وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين كما قال تعالى " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ". وقوله تعالى " وحق عليهم القول " أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ممن فعل كفعلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين أي استووا هم في الخسار والدمار. قوله تعالى " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن " أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا للقرآن ولا ينقادوا لاوامره " والغوا فيه " أي إذا تلي لا تسمعوا له كما قال مجاهد والغوا فيه يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله وقال الضحاك عن ابن عباس " والغوا فيه " عيبوه وقال قتادة اجحدوا به وأنكروه وعادوه " لعلكم تغلبون " هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال
[ 106 ]
تعالى " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " ثم قال عز وجل منتصرا للقرآن ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران " فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا " أي في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه " ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون " أي بشر أعمالهم وسئ أفعالهم أي بشر أعمالهم وسئ أفعالهم " ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والانس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين " قال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن مالك بن الحصين الفزاري عن أبيه عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى " اللذين أضلانا " قال إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه وهكذا روى العوفي عن علي رضي الله عنه مثل ذلك وقال السدي عن علي رضي الله عنه فإبليس يدعو به كل صاحب شرك وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة فإبليس الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه وابن آدم الاول كما ثبت في الحديث " ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الاول كفل من دمها لانه أول من سن القتل ". وقولهم " نجعلهما تحت أقدامنا " أي أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا ولهذا قالوا " ليكونا من الاسفلين " أي في الدرك الاسفل من النار كما تقدم في الاعراف في سؤال الاتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم " قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " أي أنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال بحسب عمله وإفساده كما قال تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ". إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الاخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم (32) يقول تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا الجراح حدثنا سلم بن قتيبة أبو قتيبة الشعيري ثنا سهيل بن أبي حازم حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها وكذا رواه النسائي في تفسيره والبزار وابن جرير عن عمرو عن علي الفلاس عن سلم بن قتيبة به. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن الفلاس به ثم قال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عامر بن سعيد عن سعيد بن عمران قال: قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قال هم الذين لم يشركوا بالله شيئا ثم روى من حديث الاسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما تقولون في هذه الآية " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " قال فقالوا " ربنا الله ثم استقاموا " من ذنب فقال لقد حملتموه على غير المحمل قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم يلتفتوا إلى إله غيره. وكذا قال مجاهد وعكرمة والسدي وغير واحد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني أخبرنا حفص بن عمر العقدي عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال سئل ابن عباس رضي الله عنهما أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص ؟ قال قوله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " على شهادة أن لا إله إلا الله وقال الزهري: تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ثم قال استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب وقال علي بن أبي طلحة
[ 107 ]
عن ابن عباس رضي الله عنهما " قالوا ربنا الله ثم استقاموا " على أداء فرائضه وكذا قال قتادة قال وكان الحسن يقول اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة وقال أبو العالية " ثم استقاموا " أخلصوا له الدين والعمل. وقال الامام أحمد حدثنا هشيم حدثنا يعلى بن عطاء عن عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه أن رجلا قال يا رسول الله مرني بأمر في الاسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم " قل آمنت بالله ثم استقم " قلت فما أتقى ؟ فأومأ إلى لسانه. ورواه النسائي من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء به. ثم قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إبراهيم بن سعد حدثني ابن شهاب عن عبد الرحمن بن ماعز الغامدي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال صلى الله عليه وسلم " قل ربي الله ثم استقم " قلت يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي ؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ثم قال " هذا " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقد أخرجه مسلم في صحيحه والنسائي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال قلت يا رسول الله قل لي في الاسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى الله عليه وسلم " قل آمنت بالله ثم استقم " وذكر تمام الحديث. وقوله تعالى " تتنزل عليهم الملائكة " قال مجاهد والسدى وزيد بن أسلم وابنه يعني عند الموت قائلين " أن لا تخافوا " قال مجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة " ولا تحزنوا " على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين فإنا نخلفكم فيه " وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال " إن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان " وقيل إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم حكاه ابن جرير عن ابن عباس والسدي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد السلام بن مطهر حدثنا جعفر بن سليمان قال سمعت ثابتا قرأ سورة حم السجدة حتى بلغ " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة " فوقف فقال بلغنا أن العبد المؤمن حين يبعثه الله تعالى من قبره يتلقاه الملكان اللذان كانا معه في الدنيا فيقولان له لا تخف ولا تحزن " وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون " قال فيؤمن الله تعالى خوفه ويقر عينه فما عظيمة يخشى الناس يوم القيامة إلا هي للمؤمن قرة عين لما هداه الله تبارك وتعالى ولما كان يعمل له في الدنيا وقال زيد بن أسلم يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث رواه ابن أبي حاتم وهذا القول يجمع الاقوال كلها وهو حسن جدا وهو الواقع. قوله تبارك وتعالى " نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة " أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور وعند النفخة في الصور ونؤمنكم يوم البعث والنشور ونجاوز بكم الصراط المستقيم ونوصلكم إلى جنات النعيم " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم " أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون " ولكم فيها ما تدعون " أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم " نزلا من غفور رحيم " أي ضيافة وعطاء وإنعاما من غفور لذنوبكم رحيم بكم رؤوف حيث غفر وستر ورحم ولطف وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديث سوق الجنة عند قوله تعالى " ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " فقال حدثنا أبي ثنا هشام بن عمار ثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين أبي سعيد حدثنا الاوزاعي حدثني حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقي أبا هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة رضي الله عنه أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة فقال سعيد أو فيها سوق ؟ فقال نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوا فيها نزلوا بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ويوضع
[ 108 ]
لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنئ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا قال أبو هريرة رضي الله عنه قلت يا رسول الله وهل نرى ربنا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر ؟ " قلنا لا: قال صلى الله عليه وسلم " فكذلك لا تتمارون في رؤية ربكم تعالى ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة حتى إنه ليقول للرجل منهم يا فلان بن فلان أتذكر يوم عملت كذا وكذا - يذكره ببعض غدراته في الدنيا - فيقول أي رب أفلم تغفر لي ؟ فيقول بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه - قال - فبينما هم على ذلك غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط - قال - ثم يقول ربنا عز وجل قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة وخذوا ما اشتهيتم قال فنأتي سوقا قد حفت به الملائكة فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه شئ ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا قال فيقبل الرجل ذو المنزلة الرفيعة فيلقى من هو دونه وما فيهم دنئ فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه وذلك لانه لا ينبغي لاحد أن يحزن فيهل ثم ننصرف إلى منازلنا فيتلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبيبنا لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فيقول إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالى وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به ". وقد رواه الترمذي في صفة الجنة من جامعه عن محمد بن إسماعيل عن هشام بن عمار ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار به نحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقال الامام أحمد حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " قلنا يا رسول الله كلنا نكره الموت قال صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه فليس شئ أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى فأحب الله لقاءه قال وإن الفاجر أو الكافر إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه " وهذا حديث صحيح وقد ورد في الصحيح من غير هذا الوجه ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين (33) ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم (34) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (35) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستذ بالله إنه هو السميع العليم (36) يقول عز وجل " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله " أي دعا عباد الله إليه " وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " أي وهو في نفسه مهتد بما يقوله فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه وينهون عن المنكر ويأتونه بل يأتمر بالخير ويترك الشر ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى وهذه عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتد ورسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك كما قال محمد بن سيرين والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقيل المراد بها المؤذنون الصلحاء كما ثبت في صحيح مسلم " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " وفي السنن مرفوعا " الامام ضامن والمؤذن مؤتمن فأرشد الله الائمة وغفر للمؤذنين " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عروة الهروي حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مطر عن الحسن عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال " سهام المؤذنين عند الله تعالى يوم القيامة كسهام المجاهدين وهو بين الاذان والاقامة كالمتشحط في سبيل الله تعالى في دمه " قال:
[ 109 ]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لو كنت مؤذنا ما باليت أن لا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد قال وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو كنت مؤذنا لكمل أمري وما باليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم اغفر للمؤذنين ثلاثا " قال: فقلت يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الاذان بالسيوف قال " كلا يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الاذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها الله عز وجل على النار لحوم المؤذنين " قال: وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ولهم هذه الآية " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " قالت فهو المؤذن إذا قال حي على الصلاة فقد دعا إلى الله وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة إنها نزلت في المؤذنين وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل " وعمل صالحا " يعني صلاة ركعتين بين الاذان والاقامة ثم أورد البغوي حديث عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بين كل أذانين صلاة - ثم قال في الثالثة - لمن شاء " وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من حديث عبد الله بن بريدة عنه وحديث الثوري عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال الثوري لا أراه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم " الدعاء لا يرد بين الاذان والاقامة " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي في اليوم والليلة كلهم من حديث الثوري به وقال الترمذي هذا حديث حسن ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي عن قتادة عن أنس به والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الاذان مشروعا بالكلية لانها مكية والاذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة حين أريه عبد الله بن عبد ربه الانصاري رضي الله عنه في منامه فقصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يلقيه على بلال رضي الله عنه فإنه أندى صوتا كما هو مقرر في موضعه فالصحيح إذن أنها عامة كما قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية " ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين " قال هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الارض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحا في إجابته وقال إنني من المسلمين هذا خليفة الله قوله تعالى " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة " أي فرق عظيم بين هذه وهذه " ادفع بالتي هي أحسن " أي من أساء إليك فادفعه عنك بالاحسان إليه كما قال عمر رضي الله عنه: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وقوله عز وجل " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم " وهو الصديق أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي قريب إليك من الشفقة عليك والاحسان إليك قال عز وجل " وما يلقاها إلا الذين صبروا " أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك فإنه يشق على النفوس " وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الاساءة فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم. وقوله تعالى " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله " أي أن شيطان الانس ربما ينخدع بالاحسان إليه فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في سورة الاعراف عند قوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " وفي سورة المؤمنين عند قوله " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون ".
[ 110 ]
ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله خلقهن إن كنتم إياه تعبدون (37) فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له باليل والنهار وهم لا يسئمون (38) ومن ءاياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شئ قدير (39) ومن يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر " ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر " أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه وهما متعاقبان لا يفتران والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياؤه وتقدير منازله في فلكه واختلاف سيره في سمائه ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار والجمع والشهور والاعوام ويتبين بذلك حلول الحقوق وأوقات العبادات والمعاملات ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الاجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده تحت قهره وتسخيره فقال " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون " أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره فإنه لا يغفر أن يشرك به " فإن استكبروا " أي عن إفراد العبادة له وأبو ا إلا أن يشركوا معه غيره " فالذين عند ربك " يعني الملائكة " يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " كقوله عز وجل " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سفيان يعني ابن وكيع حدثنا أبي عن ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذابا لقوم ". وقوله " ومن آياته " أي على قدرته على إعادة الموتى " أنك ترى الارض خاشعة " أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار " إن الذي أحياها لمحيى الموتى إنه على كل شئ قدير " إن الذين يلحدون فئ اياتنا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي امنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير (40) إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42) ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (43) قوله تبارك وتعالى " إن الذين يلحدون في آياتنا " قال ابن عباس: الالحاد وضع الكلام على غير مواضعه وقال قتادة وغيره هو الكفر والعناد. وقوله عز وجل " لا يخفون علينا " فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي أنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ولهذا قال تعالى " أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة " أي أيستوي هذا وهذا ؟ لا يستويان. ثم قال عز وجل تهديدا للكفرة " اعملوا ما شئتم " قال مجاهد والضحاك وعطاء الخراساني " اعملوا ما شئتم " وعيد: أي من خير أو شر إنه عليم بكم وبصير بأعمالكم ولهذا قال " إنه بما تعملون بصير " ثم قال جل جلاله " إن الذين كفروا بالذكر لما
[ 111 ]
جاءهم " قال الضحاك والسدي وقتادة وهو القرآن " وإنه لكتاب عزيز " أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد بمثله " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " أي ليس للبطلان إليه سبيل لانه منزل من رب العالمين ولهذا قال " تنزيل من حكيم حميد " أي حكيم في أقواله وأفعاله حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه الجميع محمودة عواقبه وغاياته. ثم قال عز وجل " ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك " قال قتادة والسدي وغيرهما ما يقال لك التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا وكما صبروا على أذى قومهم لهم فأصبر أنت على أذى قومك لك وهذا اختيار ابن جرير ولم يحك هو ولا ابن أبي حاتم غيره. وقوله تعالى " إن ربك لذو مغفرة " أي لمن تاب إليه " وذو عقاب أليم " أي لمن استمر على كفره وطغيانه وعناده وشقاقه ومخالفته. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال نزلت هذه الآية " إن ربك لذو مغفرة " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد ". ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون فئ اذانهم وقر وهو عليهم عمى أولائك ينادون من مكان بعيد (44) ولقدء اتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب (45) لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته وإحكامه في لفظه ومعناه ومع هذا لم يؤمن به المشركون نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت كما قال عز وجل " ولو نزلناه على بعض الاعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين " كذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على وجه التعنت والعناد " لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي " أي لقالوا هلا أنزل مفصلا بلغة العرب ولانكروا ذلك فقالوا أعجمي وعربي أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه ؟ هكذا روي هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم وقيل المراد بقولهم " لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي " أي هل ينزل بعضها بالاعجمي وبعضها بالعربي ؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي وهو رواية عن سعيد بن جبير وهو في التعنت والعناد أبلغ ثم قال عز وجل " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " أي قل يا محمد هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر " أي لا يفهمون ما فيه " وهو عليهم عمى " أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " " أولئك ينادون من مكان بعيد " قال مجاهد يعني بعيد من قلوبهم قال ابن جرير معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول قلت وهذا كقوله تعالى " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون " وقال الضحاك ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم. وقال السدي كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالسا عند رجل من المسلمين يقضي إذ قال يا لبيكاه فقال له عمر رضي الله عنه لم تلبي ؟ هل رأيت أحدا أو دعاك أحد ؟ فقال دعاني داع من وراء البحر فقال عمر رضي الله عنه أولئك ينادون من مكان بعيد رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى " ولقد أتينا موسى الكتاب فاختلف فيه " أي كذب وأوذي " فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى " بتأخير الحساب إلى يوم المعاد " لقضي بينهم " أي لعجل لهم العذاب بل
[ 112 ]
لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا " وإنهم لفي شك منه مريب " أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محققين لشئ كانوا فيه. هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل والله أعلم. من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد (46) إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركاءي قالوا ءاذناك مامنا من شهيد (47) وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص (48) يقول تعالى " من عمل صالحا فلنفسه " أي إنما يعود نفع ذلك على نفسه " ومن أساء فعليها " أي إنما يرجع وبال ذلك عليه " وما ربك بظلام للعبيد " أي لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ثم قال جل وعلا " إليه يرد علم الساعة " أي لا يعلم ذلك أحد سواه كما قال محمد صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر لجبريل عليه الصلاة والسلام وهو من سادات الملائكة حين سأله عن الساعة فقال " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " وكما قال عز وجل " إلى ربك منتهاها " وقال جل جلاله " لا يجليها لوقتها إلا هو " وقوله تبارك وتعالى " وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه " أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء وقد قال سبحانه وتعالى " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وقال جلت عظمته " يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار " وقال تعالى " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير ". وقوله جل وعلا " ويوم يناديهم أين شركائي " أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رءوس الخلائق أين شركائي الذين عبدتموهم معي " قالوا آذناك " أي أعلمناك " ما منا من شهيد " أي ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا " وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل " أي ذهبوا فلم ينفعوهم " وظنوا ما لهم من محيص " أي وظن المشركون يوم القيامة وهذا بمعنى اليقين " ما لهم من محيص " أي لا محيد لهم عن عذاب الله كقوله تعالى " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " لا يسئم الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط (49) ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب عليظ (50) وإذآ أنعمنا على الانسان أعرض ونأ بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض (51) يقول تعالى لا يمل الانسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك وإن مسه الشر وهو البلاء أو الفقر " فيئوس قنوط " أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي " أي إذا أصابه خير ورزق بعدما كان في شدة ليقولن هذا لي إنى كنت أستحقه عند ربي " وما أظن الساعة قائمة " أي يكفر بقيام الساعة أي لاجل أنه خول نعمة يبطر ويفخر ويكفر كما قال تعالى " كلا إن
[ 113 ]
الانسان ليطغى أن رآه استغنى " " ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إلى ربي كما أحسن إلي في هذه الدار يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين قال الله تبارك وتعالى " فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ " يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال ثم قال تعالى " وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه " أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لاوامر الله عز وجل كقوله جل جلاله " فتولى بركنه " " وإذا مسه الشر " أي الشدة " فذو دعاء عريض " أي يطيل المسألة في الشئ الواحد فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه والوجيز عكسه وهو ما قل ودل وقد قال تعالى " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " الآية. قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد (52) سنريهم ءاياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد (53) ألآ إنهم في مرية من لقاء ربهم ألآ إنه بكل شئ محيط (54) يقول تعالى " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن " أرأيتم إن كان " هذا القرآن " من عند الله ثم كفرتم به " أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله ؟ ولهذا قال عز وجل " من أضل ممن هو في شقاق بعيد " أي في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك بعيد من الهدى ثم قال جل جلاله " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم " أي سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقا منزلا من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية " في الآفاق " من الفتوحات وظهور الاسلام على الاقاليم وسائر الاديان قال مجاهد والحسن والسدي ودلائل في أنفسهم قالوا: وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه وخذل فيها الباطل وحزبه ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الانسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والاختلاط والهيئات العجيبة كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى وكذلك ما هو مجبول عليه من الاخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك وما هو متصرف فيه تحت الاقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها ولا يتعداها كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال وإذا نظرت تريد معتبرا فانظر إليك ففيك معتبر أنت الذي تمسي وتصبح في الدنيا وكل أموره عبر أنت المصرف كان في صغر ثم استقل بشخصك الكبر أنت الذي تنعاه خلقته ينعاه منه الشعر والبشر أنت الذي تعطى وتسلب لا ينجيه من أن يسلب الحذر أنت الذي لا شئ منه له وأحق منه بماله القدر وقوله تعالى " حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " أي كفى بالله شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم وهو يشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال " لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه " الآية. وقوله تعالى " ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم " أي في شك من قيام الساعة ولهذا لا
[ 114 ]
يتفكرون فيه ولا يعملون له ولا يحذرون منه بل هو عندهم هدر لا يعبأون به وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه قال ابن أبي الدنيا حدثنا أحمد بن إبراهيم حدثنا خلف بن تميم حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سعيد الانصاري قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لامر أحدثه فيكم ولكن فكرت في هذا الامر الذي أنتم إليه صائرون فعلمت أن المصدق بهذا الامر أحمق والمكذب به هالك ثم نزل. ومعنى قوله رضي الله عنه أن المصدق به أحمق أي لانه لا يعمل له عمل مثله ولا يحذر منه ولا يخاف من هوله وهو مع ذلك مصدق به موقن بوقوعه وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته وشهواته وذنوبه فهو أحمق بهذا الاعتبار والاحمق في اللغة ضعيف العقل وقوله والمكذب به هالك هذا واضح والله أعلم. ثم قال تعالى مقررا أنه على كل شئ قدير وبكل شئ محيط وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى " ألا إنه بكل شئ محيط " أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته وتحت طي علمه وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا إله إلا هو. آخر تفسير سورة حم السجدة ولله الحمد والمنة. سورة الشورى بسم الله الرحمان الرحيم حم (1) عسق (2) كذالك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم (3) له ما في السماوات وما في الارض وهو العلى العظيم (4) تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ألآ إن الله هو الغفور الرحيم (5) والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل (6) قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا منكرا فقال أخبرنا أحمد بن زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج عن أرطاة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال له وعنده حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أخبرني عن تفسير قول الله تعالى " حم * عسق " قال فأطرق ثم أعرض عنه ثم كرر مقالته فأعرض عنه فلم يجبه بشئ وكره مقالته ثم كررها الثالثة فلم يحر إليه شيئا فقال له حذيفة رضي الله عنه أنا أنبئك بها قد عرفت لم كرهها نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد الاله وعبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله تبارك وتعالى في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله عز وجل على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة وقد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ؟ فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا فذلك قوله تعالى " حم عسق " يعني عزيمة من الله تعالى وفتنة وقضاء حم عين يعني عدلا منه سين يعني سيكون ق يعني واقع بهاتين المدينتين وأغرب منه ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في الجزء الثاني من مسند ابن عباس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ولكن إسناده ضعيف جدا ومنقطع فإنه قال حدثنا أبو طالب عبد الجبار بن عاصم حدثنا أبو عبد الله
[ 115 ]
الحسن بن يحيى الخشني الدمشقي عن أبي معاوية قال: صعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر " حم عسق " فوثب ابن عباس رضي الله عنه فقال أنا قال حم اسم من أسماء الله تعالى قال فعين ؟ قال عاين المولون عذاب يوم بدر قال فسين ؟ قال سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال فقاف ؟ فسكت فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وقال قاف قارعة من السماء تغشى الناس. قوله عز وجل " كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم " أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل الكتب والصحف على الانبياء قبلك. وقوله تعالى " الله العزيز " أي في انتقامه " الحكيم " في أقواله وأفعاله قال الامام مالك رحمه الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت إن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يأتيني الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول " قالت عائشة رضي الله عنها فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقا. أخرجاه في الصحيحين ولفظه للبخاري. وقد رواه الطبراني عن عبد الله بن الامام أحمد عن أبيه عن عامر بن صالح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها عن الحارث بن هشام أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينزل عليك الوحي ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " في مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال - وقال - وهو أشده علي قال وأحيانا يأتيني الملك فيتمثل لي فيكلمني فأعي ما يقول ". وقال الامام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هل تحس بالوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إظننت أن نفسي تقبض " تفرد به أحمد. وقد ذكرنا كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة. وقوله تبارك وتعالى " له ما في السماوات يتفطرن من فوقهن " أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه " وهو العلي العظيم " كقوله تعالى " وهو الكبير المتعال " " وهو العلي الكبير " والآيات في هذا كثيرة. قوله عز وجل " تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن " قال ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك وقتادة والسدي وكعب الاحبار أي فرقا من العظمة " والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض " كقوله جل وعلا " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما " وقوله جل جلاله " ألا إن الله هو الغفور الرحيم " إعلام بذلك وتنويه به وقوله سبحانه وتعالى " والذين اتخذوا من دونه أولياء " يعني المشركين " الله حفيظ عليهم " أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عدا وسيجزيهم بها أوفر الجزاء " وما أنت عليهم بوكيل " أي إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل. وكذلك أوحينا إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ويتذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير (7) ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولاكن يدخل من يشآء في رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير (8) يقول تعالى وكما أوحينا إلى الانبياء قبلك " أوحينا إليك قرآنا عربيا " أي واضحا جليا بينا " لتنذر أم القرى "
[ 116 ]
وهي مكة " ومن حولها " أي من سائر البلاد شرقا وغربا وسميت مكة أم القرى لانها أشرف من سائر البلاد لادلة كثيرة مذكورة في مواضعها ومن أوجز ذلك وأدله ما قال الامام أحمد حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: إن عبد الله بن عدي بن الحمراء الزهري أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت " هكذا رواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح. وقوله عز وجل " وتنذر يوم الجمع " وهو يوم القيامة يجمع الله الاولين والآخرين في صعيد واحد وقوله تعالى " لا ريب فيه " أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة وقوله جل وعلا " فريق في الجنة وفريق في السعير " كقوله تعالى " يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن " أي يغبن أهل الجنة أهل النار وكقوله عز وجل " إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد " قال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ليث حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الاصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ " قلنا لا إلا أن تخبرنا يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه " هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم - ثم أجمل على أخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا - ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره - هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم - ثم أجمل على آخرهم - لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ". فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاي شئ نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل " ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ثم قال " فرغ ربكم عز وجل من العباد - ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال - فريق في الجنة - ونبذ باليسرى وقال - فريق في السعير " وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد وبكر بن مضر كلاهما عن أبي قبيل عن شفي بن ماتع الاصبحي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به وقال الترمذي حسن صحيح غريب وساقه البغوي في تفسيره من طريق بشر بن بكر عن سعيد بن عثمان عن أبي الزاهرية عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه وعنده زيادات منها - ثم فريق في الجنة وفريق في السعير عدل من الله عز جل - ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث به ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي قبيل عن شفي عن رجل من الصحابة رضي الله عنهم فذكره ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وحيوة بن شريح عن يحيى بن أبي أسيد أن أبا فراس حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول: " إن الله تعالى لما خلق آدم نفضه نفض المرود وأخرج منه كل ذريته فخرج أمثال النغف فقبضهم قبضتين ثم قال شقي وسعيد ثم ألقاهما ثم قبضهما فقال فريق في الجنة وفريق في السعير " وهذا الموقوف أشبه بالصواب والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد يعني ابن سلمة أخبرنا الجريري عن أبي نضرة قال: إن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له أبو عبد الله دخل عليه أصحابه يعني يزورونه فوجدوه يبكي فقالوا له ما يبكيك ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذ من شاربك ثم افره حتى تلقاني " قال بلى ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله تعالى قبض بيمينه قبضة وأخرى باليد الاخرى قال هذه لهذه وهذه لهذه ولا أبالي " فلا أدري في أي القبضتين أنا. وأحاديث القدر في الصحاح والسنن والمسانيد كثيرة جدا منها حديث علي وابن مسعود وعائشة وجماعة جمة رضي الله عنهم أجمعين. وقوله تبارك وتعالى " ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة " أي إما على الهداية أو على الضلالة ولكنه تعالى فاوت بينهم فهدى من يشاء إلى الحق وأضل من يشاء عنه وله الحكمة والحجة البالغة ولهذا قال ع ز وجل " ولكن يدخل من يشاء في
[ 117 ]
رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ". وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا وهيب أخبرني الحارث عن عمرو بن أبي سويد أنه حدثه عن ابن حجيرة أنه بلغه أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب خلقك الذين خلقتهم جعلت منهم فريقا في الجنة وفريقا في النار لو ما أدخلتهم كلهم الجنة فقال يا موسى ارفع درعك فرفع قال قد رفعت قال ارفع فرفع فلم يترك شيئا قال يا رب قد رفعت قال ارفع قال قد رفعت إلا مالا خير فيه قال كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا مالا خير فيه. أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولى وهو يحى الموتى وهو على كل شئ قدير (9) وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله ذالكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب (10) فاطر السماوات والارض حعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (11) له مقاليد السماوات والارض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شئ عليم (12) يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ومخبرا أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شئ قدير. ثم قال عز وجل " وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله " أي مهما اختلفتم فيه من الامور وهذا عام في جميع الاشياء " فحكمه إلى الله " أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " " ذلكم الله ربي " أي الحاكم في كل شئ " عليه توكلت وإليه أنيب " أي أرجع في جميع الامور. وقوله جل جلاله " فاطر السموات والارض " أي خالقهما وما بينهما " جعل لكم من أنفسكم أزواجا " أي من جنسكم وشكلكم منة عليكم وتفضلا جعل من جنسكم ذكرا وأنثى " ومن الانعام أزواجا " أي وخلق لكم من الانعام ثمانية أزواج وقوله تبارك وتعالى " يذرؤكم فيه " أي يخلقكم فيه أي في ذلك الخلق على هذه الصفة لا يزال يذرؤكم فيه ذكورا وإناثا خلقا من بعد خلق وجيلا بعد جيل ونسلا بعد نسل من الناس والانعام وقال البغوي يذرؤكم فيه أي في الرحم وقيل في البطن وقيل في هذا الوجه من الخلقة. قال مجاهد نسلا بعد نسل من الناس والانعام وقيل في بمعنى الباء أي يذرؤكم به " ليس كمثله شئ " أي ليس كخالق الازواج كلها شئ لانه الفرد الصمد الذي لا نظير له " وهو السميع البصير ": وقوله تعالى " له مقاليد السماوات والارض " تقدم تفسيره في سورة الزمر وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما " يبسط الرزق لمن السماوات والارض " أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وله الحكمة والعدل التام " إنه لكل شئ عليم ". * شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشآء ويهدى إليه من ينيب (13) وما تفرقوا فيه إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب (14)
[ 118 ]
يقول تعالى لهذه الامة " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك " فذكر أول الرسل بعد آدم عليه السلام وهو نوح عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهو إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الاحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " الآية والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال عز وجل " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ". وفي الحديث " نحن معشر الانبياء أولاد علات ديننا واحد " أي القدر المشترك بينهم هو بادة الله وحده لا شريك له وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم كقوله جل جلاله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " ولهذا قال تعالى ههنا " أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " أي أوصى الله تعالى جميع الانبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة ونهاهم عن الافتراق والاختلاف. وقوله عز وجل " كبر على المشركين ما تدعوهم إليه " أي شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد. ثم قال جل جلاله " الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب " أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ولهذا قال تبارك وتعالى " وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم " أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم وقيام الحجة عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد والمشاقة ثم قال عز وجل " ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى " أي لولا الكلمة السابقة من الله تعالى بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل عليهم العقوبة في الدنيا سريعا. وقوله جلت عظمته " وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم " يعني الجيل المتأخر بعد القرن الاول المكذب للحق " لفي شك منه مريب " أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان وهم في حيرة من أمرهم وشك مريب وشقاق بعيد فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير (15) اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها قالوا ولا نظير لها سوى آية الكرسي فإنها أيضا عشر فصول كهذه. وقوله " فلذلك فادع " أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم فادع الناس إليه. وقوله عز وجل " واستقم كما أمرت " أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى كما أمركم الله عز وجل وقوله تعالى " ولا تتبع أهواءهم " يعني المشركين فيما اختلفوا فيه وكذبوه وافتروه من عبادة الاوثان. وقوله جل وعلا " وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الانبياء لا نفرق بين أحد منهم. وقوله " وأمرت لاعدل بينكم " أي في الحكم كما أمرني الله وقوله جلت عظمته " الله ربنا وربكم " أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختيارا وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا فله يسجد من في العالمين طوعا وإجبارا. وقوله تبارك وتعالى " لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " أي نحن برآء منكم كما قال سبحانه وتعالى " وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون " وقوله تعالى " لا حجة بيننا وبينكم " قال مجاهد أي لا خصومة قال السدي وذلك قبل نزول آية السيف وهذا متجه لان هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة. وقوله عز وجل " الله يجمع بيننا " أي يوم القيامة كقوله " قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا
[ 119 ]
بالحق وهو الفتاح العليم " وقوله جل وعلا " وإليه المصير " أي المرجع والمآب يوم الحساب والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد (16) الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب (17) يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألآ إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد (18) يقول تعالى متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به " والذين يحاجون في الله من بعدما استجيب له " أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ليصدوهم ما سلكوه من طريق الهدى " حجتهم داحضة عند ربهم " أي باطلة عند الله " وعليهم غضب " أي منه " ولهم عذاب شديد " أي يوم القيامة قال ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد جادلوا المؤمنين بعدما استجابوا لله ولرسوله ليصدوهم عن الهدى وطمعوا أن تعود الجاهلية وقال قتادة هم اليهود والنصارى قالوا لهم ديننا خير من دينكم ونبينا قبل نبيكم ونحن خير منكم وأولى بالله منكم وقد كذبوا في ذلك. ثم قال تعالى " الله الذي أنزل الكتاب بالحق " يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه " والميزان " وهو العدل والانصاف قاله مجاهد وقتادة وهذه كقوله تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " وقوله " والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ". وقوله تبارك وتعالى " وما يدريك لعل الساعة قريب " فيه ترغيب فيها وترهيب منها وتزهيد في الدنيا وقوله " عز وجل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " أي يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا وكفرا وعنادا " والذين آمنوا مشفقون منها " أي خائفون وجلون من وقوعها " ويعلمون أنها الحق " أي كائنة لا محالة فهم مستعدون لها عاملون من أجلها. وقد روي من طرق تبلغ درجة التواتر في الصحاح والحسان والسنن والمسانيد وفي بعض ألفاظه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري وهو في بعض أسفاره فناداه فقال يا محمد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته " هاؤم " فقال له متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟ " فقال حب الله ورسوله فقال صلى الله عليه وسلم " أنت مع من أحببت " فقوله في الحديث " المرء مع من أحب " هذا متواتر لا محالة والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها. وقوله تعالى " ألا إن الذين يمارون في الساعة " أي يجادلون في وجودها ويدفعون وقوعها " لفي ضلال بعيد " أي في جهل بين لان الذي خلق السموات والارض قادر على إحياء الموتى بطريق الاولى والاحرى كما قال تعالى " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ". الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز (19) من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب (20) أم لهم شركآؤا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقصى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم (21) ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عيد ربهم ذالك هو الفضل الكبير (22)
[ 120 ]
يقول تعالى مخبرا عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم عن آخرهم لا ينسى أحدا منهم سواء في رزقه البر والفاجر كقوله عز وجل " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " ولها نظائر كثيرة وقوله جل وعلا " يرزق من يشاء " أي يوسع على من يشاء " وهو القوي العزيز " أي لا يعجزه شئ ثم قال عز وجل " من كان يريد حرث الآخرة " أي عمل الآخرة " نزد له في حرثه " أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ونكثر نماءه ونجزيه بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله " ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " أي ومن كان إنما سعيه ليحصل له شئ من الدنيا وليس له إلى الآخرة هم البتة بالكلية حرمه الله الآخرة والدنيا إن شاء أعطاه منها وإن لم يشأ لم يحصل لا هذه ولا هذه. وفاز الساعي بهذه النية بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة والدليل على هذا أن هذه الآية ههنا مقيدة بالآية التي في سبحان وهي قوله تبارك وتعالى " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء هؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ". وقال الثوري عن معمر عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بشر هذه الامة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الارض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب " قوله جل وعلا " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والانس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وتحليل أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والاموال الفاسدة. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " رأيت عمرو بن لحي بن قمعة يجر قصبه في النار " لانه أول من سيب السوائب وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة وهو أول من فعل هذه الاشياء وهو الذي حمل قريشا على عبادة الاصنام لعنه الله وقبحه ولهذا قال تعالى " ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم " أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الانظار إلى يوم المعاد " وإن الظالمين لهم عذاب أليم " أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير ثم قال تعالى " ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا " أي في عرصات القيامة " وهو واقع بهم " أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة هذا حالهم يوم معادهم وهم في هذا الخوف والوجل " والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم " فأين هذا من هذا ؟ أي أين من هو في العرصات في الذل والهوان والخوف المحقق عليه بظلمه ممن هو في روضات الجنات فيما يشاء من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومناظر ومناكح وملاذ مما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال الحسن بن عرفة حدثنا عمرو بن عبد الرحمن الابار حدثنا محمد بن سعد الانصاري عن أبي طيبة قال إن الشرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول ما أمطركم ؟ قال فما يدعو داع من القوم بشئ إلا أمطرتهم حتى إن القائل منهم ليقول أمطرينا كواعب أترابا. ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة به ولهذا قال تعالى " ذلك هو الفضل الكبير " أي الفوز العظيم والنعمة التامة السابغة الشاملة العامة. ذالك الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لآ أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور (23) أن يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور (24)
[ 121 ]
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات " ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي هذا حاصل لهم كائن لا محاله ببشارة الله تعالى لهم به. وقوله عز وجل " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح لكم ما لا تعطونيه وإنما أطلب منكم أن تكفوا شركم عني وتذروني أبلغ رسالات ربي إن لم تنصروني فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة. قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال سمعت طاوسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى " إلا المودة في القربى " فقال سعيد بن جبير قربى آل محمد فقال ابن عباس عجلت إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وانفرد به البخاري ورواه الامام أحمد عن يحيى القطان عن شعبة به وهكذا روى عامر الشعبي والضحاك وعلي بن أبي طلحة والعوفي ويوسف بن مهران وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن القاسم بن زيد الطبراني وجعفر القلانسي قالا حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم وتحفظوا القرابة بيني وبينكم " وروى الامام أحمد عن حسن بن موسى حدثنا قزعة يعني ابن سويد وابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجرا إلا أن توادوا الله تعالى وأن تقربوا إليه بطاعته " وهكذا روى قتادة عن الحسن البصري مثله وهذا كأنه تفسير بقول ثان كأنه يقول إلا المودة في القربى أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى. وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري وغيره رواية عن سعيد بن جبير ما معناه أنه قال معنى ذلك أن تودوني في قرابتي أي تحسنوا إليهم وتبروهم. وقال السدي عن أبي الديلم قال: لما جئ بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه أقرأت القرآن ؟ قال نعم. قال أقرأت آل حم ؟ قال قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم قال ما قرأت " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " ؟ قال وإنكم لانتم هم ؟ قال نعم وقال أبو إسحاق السبيعي سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " فقال قربى النبي صلى الله عليه وسلم رواهما ابن جرير. ثم قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا عبد السلام حدثني يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت الانصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا فقال ابن عباس أو العباس رضي الله عنهما - شك عبد السلام - لنا الفضل عليكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم في مجالسهم فقال " يا معشر الانصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي ؟ " قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي ؟ " قالوا بلى يا رسول الله قال " أفلا تجيبوني " قالوا ما نقول يا رسول الله ؟ قال " ألا تقولون ألم يخرجك قومك فآويناك أو لم يكذبوك فصدقناك أو لم يخذلوك فنصرناك " قال فما زال صلى الله عليه وسلم يقول حتى جثوا على الركب وقالوا أموالنا في أيدينا لله ولرسوله قال فنزلت " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين عن عبد المؤمن بن علي عن عبد السلام عن يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف بإسناده مثله أو قريبا منه. وفي الصحيحين في قسم غنائم حنين قريب من هذا السياق ولكن ليس فيه ذكر نزول هذه الآية وذكر نزولها في المدينة فيه نظر لان السورة مكية وليس يظهر بين هذه الآية وهذا السياق مناسبة والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا رجل سماه حدثنا حسين الاشقر عن
[ 122 ]
قيس عن الاعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودتهم ؟ قال " فاطمة وولدها رضي الله عنهم " وهذا إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الاشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل وذكر نزول الآية في المدينة بعيد فإنها مكية ولم يكن إذ ذاك لفاطمة رضي الله عنها أولاد بالكلية فإنها لم تتزوج بعلي رضي الله عنه إلا بعد بدر من السنة الثانية من الهجرة والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الامة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كما رواه عنه البخاري ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والامر بالاحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الارض فخرا وحسبا ونسبا ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته بغدير خم " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي وإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض " وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أنا إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقي بعضهم بعضا لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا نعرفها قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وقال " والذي نفسي بيده لا يدخل قلب الرجل الايمان حتى يحبكم لله ولرسوله " ثم قال أحمد حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقا إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودر عرق بين عينيه ثم قال صلى الله عليه وسلم " والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي " وقال البخاري حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا خالد حدثنا شعبة عن واقد قال سمعت أبي يحدث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبي بكر - هو الصديق - رضي الله عنه قال ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته. وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله تعالى عنهما والله لاسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم لان إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فحال الشيخين رضي الله عنهما هو الواجب على كل أحد أن يكون كذلك ولهذا كانا أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين وقال الامام أحمد رحمه الله حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حيان التيمي حدثني يزيد بن حيان قال انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه فلما جلسنا إليه قال حصين لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت معه لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي لقد كبر سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوه ومالا فلا تكلفونيه ثم قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال صلى الله عليه وسلم " أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه وقال صلى الله عليه وسلم " وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي " فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال إن نساءه لسن من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده قال ومن هم ؟ قال هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس رضي الله عنهم قال أكل هؤلاء حرم عليه الصدقة ؟ قال نعم. وهكذا رواه مسلم والنسائي من طرق يزيد بن حبان به وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا علي بن المنذر الكوفي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا الاعمش عن عطية عن أبي
[ 123 ]
سعيد والاعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما " تفرد بروايته ثم قال هذا حديث حسن غريب وقال الترمذي أيضا حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن الحسن عن جعفر بن محمد بن الحسن عن أبيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول " يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن اخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي " تفرد به الترمذي أيضا وقال حسن غريب. وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم. ثم قال الترمذي أيضا ثنا أبو داود سليمان الاشعث حدثنا يحيى بن معين حدثنا هشام بن يوسف عن عبد الله بن سليمان النوفلي عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحبوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبوني بحب الله وأحبوا أهل بيتي بحبي " ثم قال حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه وقد أوردنا أحاديث أخر عند قوله تعالى " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " بما أغنى عن إعادتها ههنا ولله الحمد والمنة. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مفضل بن عبد الله عن أبي إسحاق عن حنش قال سمعت أبا ذر رضي الله عنه وهو آخذ بحلقة الباب يقول: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن أنكرني فأنا أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح عليه الصلاة والسلام من دخلها نجا. ومن تخلف عنها هلك " هذا بهذا الاسناد ضعيف. وقوله عز وجل " ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا " أي ومن يعمل حسنة نزد له فيها حسنا أي أجرا وثوابا كقوله تعالى " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " وقال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن جزاء السيئة بعدها وقوله تعالى " إن الله غفور شكور " أي يغفر الكثير من السيئات ويكثر القليل من الحسنات فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر وقوله جل وعلا " أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك " أي لو افتريت عليه كذبا كما يزعم هؤلاء الجاهلون " يختم على قلبك " أي يطبع على قلبك وسلبك ما كان آتاك من القرآن كقوله جل جلاله " ولو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين " أي لانتقمنا منه أشد الانتقام وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه. وقوله جلت عظمته " ويمح الله الباطل " ليس معطوفا على قوله " يختم " فيكون مجزوما بل هو مرفوع على الابتداء. قاله ابن جرير قال وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الامام كما حذفت في قوله " سندع الزبانية " وقوله تعالى " ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير ". وقوله عز وجل " ويحق الحق بكلماته " معطوف على " ويمح الله الباطل ويحق الحق " أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه بكلماته أي بحججه وبراهينه " إنه عليم بذات الصدور " أي بما تكنه الضمائر وتنطوي عليه السرائر وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيأت ويعلم ما تفعلون (25) ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد (26) * ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولاكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير (27) وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد (28)
[ 124 ]
قول تعالى ممتنا على عباده بقبول توبتهم إليه إذا تابوا ورجعوا إليه إنه من كرمه وحلمه أنه يعفو ويصفح ويستر ويغفر كقوله عز وجل " ومن يعمل سوأ أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقد ثبت في صحيح مسلم رحمة الله عليه حيث قال حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب قالا: حدثنا عمر بن يونس حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك وهو عمه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك - أخطأ من شدة الفرح - " وقد ثبت أيضا في الصحيح من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " إن أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته في المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش " وقال همام بن الحارث سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن الرجل يفجر بالمرأة ثم يتزوجها ؟ قال لا بأس به وقرأ " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " الآية. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريح القاضي عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي عن همام فذكره وقوله عز وجل " ويعفو عن السيئات " أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي " ويعلم ما تفعلون " أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ومع هذا يتوب على من تاب إليه. قوله تعالى " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال السدي يعني يستجيب لهم وكذا قال ابن جرير معناه يستجيب لهم الدعاء لانفسهم ولاصحابهم وإخوانهم وحكاه عن بعض النحاة وأنه جعلها كقوله عز وجل " فاستجاب لهم ربهم " ثم روى هو وابن أبي حاتم من حديث الاعمش عن شقيق بن سلمة عن سلمة بن سبرة قال خطبنا معاذ رضي الله عنه بالشام فقال أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة والله إني لارجو أن يدخل الله تعالى من تسبون من فارس والروم الجنة وذلك بأن أحدكم إذا عمل له يعني أحدهم عملا قال أحسنت رحمك الله أحسنت بارك الله فيك ثم قرأ " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله " وحكى ابن جرير من بعض أهل العربية أنه جعل قوله " الذين يستمعون القول " أي هم الذين يستجيبون للحق ويتبعونه كقوله تبارك وتعالى " إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله " والمعنى الاول أظهر لقوله تعالى " ويزيدهم من فضله " أي يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك. ولهذا قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن المصفى حدثنا بقية حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكندي حدثنا الاعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " ويزيدهم من فضله " قال " الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفا في الدنيا " وقال قتادة عن إبراهيم النخعي في قوله عز وجل " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات " قال يشفعون في إخوانهم " ويزيدهم من فضله " قال يشفعون في إخوان إخوانهم. وقوله عز وجل " والكافرون لهم عذاب شديد " لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم وقوله تعالى " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض " أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشرا وبطرا وقال قتادة كان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك وذكر قتادة حديث " إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا " وسؤال السائل أيأتي الخير بالشر ؟ الحديث. وقوله عز وجل " ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير " أي ولكن يرزقهم من الرزق ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك فيغني من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر كما جاء في الحديث المروي " إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لافسدت عليه دينه وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لافسدت عليه
[ 125 ]
دينه ". وقوله تعالى " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " أي من بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه كقوله عز وجل " وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين " وقوله جل جلاله " وينشر رحمته " أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية قال قتادة ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس فقال عمر رضي الله عنه مطرتم ثم قرأ " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد " أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله ومن ءاياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم أذا يشآء قدير (29) وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير (30) وما أنتم بمعجزين في الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (31) يقول تعالى " ومن آياته " الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر " خلق السماوات والارض وما بث فيهما " أي ذرأ فيهما أي في السماوات والارض " من دابة " وهذا يشمل الملائكة والانس والجن وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والارض " وهو " مع هذا كله " على جمعهم إذا يشاء قدير " أي يوم القيامة يجمع الاولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق. وقوله عز وجل " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم " ويعفو عن كثير " أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " وفي الحديث الصحيح " والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها " وقال ابن جرير ثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال نزلت " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وأبو بكر رضي الله عنه يأكل فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر ؟ فقال " أرأيت ما رأيت مما تكره ؟ فهو من مثاقيل ذر الشر وتدخل مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة " قال: قال أبو إدريس فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال والاول أصح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع حدثنا مروان عن معاوية الفزاري حدثنا الازهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال " ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه " وكذا رواه الامام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي رضي الله عنه فذكر نحوه مرفوعا. ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفا فقال: حدثنا أبي حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل
[ 126 ]
مؤمن أن يعيه ؟ قال فسألناه فتلا هذه الآية " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " قال ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة وقال الامام أحمد حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا طلحة يعني ابن يحيى عن أبي بردة عن معاوية هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من شئ يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته " وقال الامام أحمد أيضا حدثنا حسن عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الاودي حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن هو البصري قال في قوله تبارك وتعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " قال لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ". وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمرو بن علي حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده فقال له بعضهم إنا لنبأس لك لما نرى فيك قال فلا تبتئس بما ترى فإن ما ترى بذنب وما يعفو الله عنه أكثر ثم تلا هذه الآية " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ". وحدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال فبذنوب والديك. وحدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه إلا بذنب ثم قرأ الضحاك " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " ثم يقول الضحاك وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن. ومن ءاياته الجوار في البحر كالاعلام (32) إن يشأ يسكن فيظللن رواكد على ظهره إن في ذالك لايات لكل صبار شكور (33) أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير (34) ويعلم الذين يجادلون فئ اياتنا ما لهم من محيص (35) يقول تعالى ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره وهي الجواري في البحر كالاعلام أي كالجبال قاله مجاهد والحسن والسدي والضحاك أي هذه في البحر كالجبال في البر " إن يشأ يسكن الريح " أي التي تسير في البحر بالسفن لو شاء لسكنها حتى لا تتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجئ ولا تذهب بل واقفة على ظهره أي على وجه الماء " إن في ذلك لآيات لكل صبار " أي في الشدائد " شكور " أي إن في تسخيره البحر وإجرائه في الهوى بقدر ما يحتاجون إليه لسيرهم لدلالات على نعمه تعالى على خلقه لكل صبار أي في الشدائد شكور في الرخاء. وقوله عز وجل " أو يوبقهن بما كسبوا " أي ولو شاء لاهلك السفن وغرقها بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها " ويعف عن كثير " أي من ذنوبهم ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لاهلك كل من ركب البحر وقال بعض علماء التفسير معنى قوله تعالى " أو يوبقهن بما كسبوا " أي لو شاء لارسل الريح قوية عاتية فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة مقصد وهذا القول هو يتضمن هلاكها وهو مناسب للاول وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت أو لقواه فشردت وأبقت وهلكت ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل
[ 127 ]
المطر بقدر الكفاية ولو أنزله كثيرا جدا لهدم البنيان أو قليلا لما أنبت الزرع والثمار حتى إنه يرسل إلى مثل بلاد مصر سيحا من أرض أخرى غيرها لانهم لا يحتاجون إلى مطر ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم وقوله تعالى " ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص " أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون (36) والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (38) والذين إذا أصابهم البغى هم ينتصرون (39) يقول تعالى محقرا لشأن الحياة الدنيا وزينتها وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى " فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا " أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به فإنما هو متاع الحياة الدنيا وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة " وما عند الله خير وأبقى " أي وثواب الله تعالى خير من الدنيا وهو باق سرمدي فلا تقدموا الفاني على الباقي ولهذا قال تعالى " للذين آمنوا " أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا " وعلى ربهم يتوكلون " أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات. ثم قال تعالى " والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش " وقد قدمنا الكلام على الاثم والفواحش في سورة الاعراف " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ليس سجيتهم الانتقام من الناس وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله. وفي حديث آخر كان يقول لاحدنا عند المعتبة " ماله تربت يمينه " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن زائدة عن منصور عن إبراهيم قال: كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا وكانوا إذا قدروا عفوا. وقوله عز وجل " والذين استجابوا لربهم " أي اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره " وأقاموا الصلاة " وهي أعظم العبادات لله عز وجل " وأمرهم شورى بينهم " أي لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها كما قال تبارك وتعالى " وشاورهم في الامر " الآية ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك قلوبهم وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب رضي الله عنه الوفاة حين طعن جعل الامر بعده شورى في ستة نفر وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فاجتمع رأي الصحابة كلهم رضي الله عنهم على تقديم عثمان عليهم رضي الله عنهم " ومما رزقناهم ينفقون " وذلك بالاحسان إلى خلق الله الاقرب إليهم منهم فالاقرب وقوله عز وجل " والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون " أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الاذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لاخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم " مع قدرته على مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه وكما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ونزلوا من جبل التنعيم فلما قدر عليهم من عليهم مع قدرته على الانتقام وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتا فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن
[ 128 ]
الاعصم الذي سحره عليه السلام ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية - وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة - التي سمت الذراع يوم خيبر - فأخبره الذراع بذلك - فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم " ما حملك على ذلك ؟ " قالت أردت إن كنت نبيا لم يضرك وإن لم تكن نبيا استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به والاحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا والله سبحانه وتعالى أعلم. وجزاؤا سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين (40) ولمن انتصر بعد ظلمه فأولآئك ما عليهم من سبيل (41) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولائك ما عذاب أليم (42) ولمن صبر وغفر إن ذالك لمن عز الامور (43) قوله تبارك وتعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " كقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وكقوله " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " الآية فشرع العدل وهو القصاص وندب إلى الفضل وهو العفو كقوله جل وعلا " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " ولهذا قال ههنا " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح ذلك في الحديث " وما زاد الله تعالى عبد ا بعفو إلا عزا " وقوله تعالى " إنه لا يحب الظالمين " أي المعتدين وهو المبتدئ بالسيئة ثم قال جل وعلا " لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون قال كنت أسأل عن الانتصار " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " فحدثني علي بن زيد بن جدعان عن أم محمد امرأة أبيه - قال ابن عون: زعموا أنها كانت تدخل على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها - قالت: قالت أم المؤمنين رضي الله عنها دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا زينب بنت جحش رضي الله عنها فجعل صلى الله عليه وسلم يصنع بيده شيئا فلم يفطن لها فقلت بيده حتى فطنته لها فأمسك وأقبلت زينب رضي الله عنها تفحم لعائشة رضي الله عنها فنهاها فأبت أن تنتهي فقال لعائشة رضي الله عنها " سبيها " فسبتها فغلبتها وانطلقت زينب رضي الله عنها فأتت عليا رضي الله عنه فقالت إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم فجاءت فاطمة رضي الله عنها فقال صلى الله عليه وسلم لها " إنها حبة أبيك ورب الكعبة " فانصرفت وقالت لعلي رضي الله عنه إني قلت له صلى الله عليه وسلم كذا وكذا فقال لي كذا وكذا قال وجاء علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في ذلك هكذا أورد هذا السياق وعلي بن زيد بن جدعان يأتي في رواياته بالمنكرات غالبا وهذا فيه نكارة والصحيح خلاف هذا السياق كما رواه النسائي وابن ماجة من حديث خالد بن سلمة الفأفاء عن عبد الله البهي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها ما علمت حتى دخلت علي زينب بغير إذن وهي غضبى ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها ثم أقبلت علي فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم " دونك فانتصري " فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئا فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه وهذا لفظ النسائي. وقال البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أبو غسان حدثنا أبو الاحوص عن أبي حمزة عن إبراهيم عن الاسود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعا على من ظلمه فقد انتصر " ورواه الترمذي من حديث أبي الاحوص عن أبي حمزة واسمه ميمون ثم قال لا نعرفه إلا من حديثه وقد تكلم فيه من قبل حفظه. قوله عز وجل " إنما السبيل " أي إنما الحرج والعنت " على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق " أي يبدءون
[ 129 ]
الناس بالظلم كما جاء في الحديث الصحيح " المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم " " أولئك لهم عذاب أليم " أي شديد موجع. قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد حدثنا عثمان الشحام حدثنا محمد بن واسع قال قدمت مكة فإذا على الخندق قنطرة فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب وهو أمير على البصرة فقال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما كان أخو بني عدي قال ومن أخو بني عدي ؟ قال العلاء بن زياد استعمل صديقا له مرة على عمل فكتب إليه أما بعد فإن استطعت أن لا تبيت إلا وظهرك خفيف وبطنك خميص وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم فإنك إذا فعلت ذلك لم يكن عليك سبيل " إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم " فقال مروان صدق والله ونصح ثم قال ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت حاجتي أن تلحقني بأهلي قال نعم رواه ابن أبي حاتم. إن الله تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص قال نادبا إلى العفو والصفح " ولمن صبر وغفر " أي صبر على الاذى وستر السيئة " إن ذلك لمن عزم الامور " قال سعيد بن جبير يعني لمن حق الامور التي أمر الله تعالى بها أي لمن الامور المشكورة والافعال الحميدة التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمران بن موسى الطرسوسي حدثنا عبد الصمد بن يزيد خادم الفضيل بن عياض قال سمعت الفضيل بن عياض يقول إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلا فقل يا أخى اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى فإن قال لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل فقل له إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو فإنه باب واسع فإنه من عفا وأصلح فأجره على الله وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل وصاحب الانتصار يقلب الامور. وقال الامام أحمد حدثنا يحيى يعني ابن سعيد القطان عن ابن عجلان حدثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رجلا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال " إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لاقعد مع الشيطان - ثم قال - يا أبا بكر ثلاث كلهن حق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة " كذا رواه أبو داود عن عبد الاعلى بن حماد عن سفيان بن عيينة قال ورواه صفوان بن عيسى كلاهما عن محمد بن عجلان ورواه من طريق الليث عن سعيد المقبري عن بشير بن المحرر عن سعيد بن المسيب مرسلا وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل (44) وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألآ إن الظالمين في عذاب مقيم (45) وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل (46) يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه ما شاء كان ولا راد له وما لم يكن فلا موجد له وأنه من هداه فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له كما قال عز وجل " ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " ثم قال عز وجل
[ 130 ]
مخبرا عن الظالمين وهم المشركون بالله " لما رأوا العذاب " أي يوم القيامة تمنوا الرجعة إلى الدنيا " يقولون هل إلى مرد من سبيل " كما قال جل وعلا " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " قوله عز وجل " وتراهم يعرضون عليها " أي على النار " خاشعين من الذل " أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى " ينظرون من طرف خفي " قال مجاهد يعني ذليل أي ينظرون إليها مسارقة خوفا منها والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة وما هو أعظم مما في نفوسهم أجارنا الله من ذلك " وقال الذين آمنوا " أي يقولون يوم القيامة " إن الخاسرين " أي الخسار الاكبر " الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة " أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الابد وخسروا أنفسهم وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وأهاليهم وقراباتهم فخسروهم " ألا إن الظالمين في عذاب مقيم " أي دائم سرمدي أبدي لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها وقوله تعالى " وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله " أي ينقذوهم مما هم فيه من العذاب والنكال " ومن يضلل الله فما له من سبيل " أي ليس له خلاص استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجإ يومئذ ومالكم من نكير (47) فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور (48) لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الاهوال والامور العظام الهائلة حذر منه وأمر بالاستعداد له فقال " استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله " أي إذا أمر بكونه فإنه كلمح البصر يكون وليس له دافع ولا مانع. وقوله عز وجل " ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير " أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته فلا ملجأ منه إلا إليه " يقول الانسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ". قوله تعالى " فإن أعرضوا " يعني المشركين " فما أرسلناك عليهم حفيظا " أي لست عليهم بمصيطر وقال عز وجل " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال تعالى " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وقال جل وعلا ههنا " إن عليك إلا البلاغ " أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم ثم قال تبارك وتعالى " وإنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها " أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك " وإن تصبهم " يعني الناس " سيئة " أي جدب ونقمة وبلاء وشدة " فإن الانسان كفور " أي يجحد ما تقدم من النعم ولا يعرف إلا الساعة الراهنة فإن أصابته نعمة أشر وبطر وإن أصابته محنة يئس وقنط كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء " يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة ولم يا رسول الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " لانكن تكثرن الشكاية وتكفرن العشير لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم تركت يوما قالت ما رأيت منك خيرا قط " وهذا حال أكثر النساء إلا من هداه الله تعالى وألهمه رشده وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم " إن أصابته سراء فشكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن ". لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور (49) أو يزوجهم
[ 131 ]
ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير (50) يخبر تعالى أنه خالق السماوات والارض ومالكهما والمتصرف فيهما وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأنه يخلق ما يشاء " يهب لمن يشاء إناثا " أي يرزقه البنات فقط قال البغوي ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام " ويهب لمن يشاء الذكور " أي يرزقه البنين فقط قال البغوي كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لم يولد له أنثى " أو يزوجهم ذكرانا وإناثا " أي ويعطي لمن يشاء من الناس الزوجين الذكر والانثى أي من هذا وهذا قال البغوي كمحمد صلى الله عليه وسلم " ويجعل من يشاء عقيما " أي لا يولد له قال البغوي كيحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فجعل الناس أربعة أقسام منهم من يعطيه البنات ومنهم من يعطيه البنين ومنهم من يعطيه من النوعين ذكورا وإناثا ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيما لا نسل له ولا ولد له " إنه عليم " أي بمن يستحق كل قسم من هذه الاقسام " قدير " أي على من يشاء من تفاوت الناس في ذلك وهذا المقام شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام " ولنجعله آية للناس " أي دلالة لهم على قدرته تعالى وتقدس حيث خلق الخلق على أربعة أقسام فآدم عليه الصلاة والسلام مخلوق من تراب لا من ذكر ولا أنثى وحواء عليها السلام مخلوقة من ذكر بلا أنثى وسائر الخلق سوى عيسى عليه السلام من ذكر وأنثى وعيسى عليه السلام من أنثى بلا ذكر فتمت الدلالة بخلق عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ولهذا قال تعالى " ولنجعله آية للناس " فهذا المقام في الآباء والمقام الاول في الابناء وكل منهما أربعة أقسام فسبحان العليم القدير * وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآى حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم (51) وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان ولاكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم (52) صراط الله الذى له ما في السماوات وما في الارض ألآ إلى الله تصير الامور (53) هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل وهو أنه تبارك وتعالى تارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها أجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". وقوله تعالى " أو من وراء حجاب " كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما " ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا " كذا جاء الحديث وكان قد قتل يوم أحد ولكن هذا في عالم البرزخ والآية إنما هي في الدار الدنيا وقوله عز وجل " أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء " كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الانبياء عليهم الصلاة والسلام " إنه علي حكيم " فهو علي عليم خبير حكيم قوله عز وجل " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " يعني القرآن " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان " أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن " ولكن جعلناه " أي القرآن " نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " كقوله تعالى " قل
[ 132 ]
هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " الآية وقوله تعالى " وإنك " أي يا محمد " لتهدي إلى صراط مستقيم " وهو الخلق القويم ثم فسره بقوله تعالى " صراط الله " أي شرعه الذي أمر به الله " الذي له ما في السماوات وما في الارض " أي شرعه الذي أمر به الله " الذى له ما في السماوات وما في الارض " أي ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه " ألا إلى الله تصير الامور " أي ترجع الامور فيفصلها ويحكم فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. سورة الزخرف بسم الله الرحمان الرحيم حم (1) والكتاب المبين (2) إنا جعلناه قرءانا عربيا لعكم تعقلون (3) وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم (4) أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين (5) وكم أرسلنا من نبى في الاولين (6) وما ياتيهم من نبى إلا كانوا به يستهزءون (7) فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين (8) يقول تعالى " حم * والكتاب المبين " أي البين الواضح الجلي المعاني والالفاظ لانه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس قال تعالى " إنا جعلناه " أي أنزلناه " قرآنا عربيا " أي بلغة العرب فصيحا واضحا " لعلكم تعقلون " أي تفهمونه وتتدبرونه كما قال عز وجل " بلسان عربي مبين " قوله تعالى " وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " بين شرفه في الملا الاعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الارض فقال تعالى " وإنه " أي القرآن " في أم الكتاب " أي اللوح المحفوظ قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد " لدينا " أي عندنا قاله قتادة وغيره " لعلي " أي ذو مكانة عظيمة وشرف وفضل قاله قتادة " حكيم " أي محكم برئ من اللبس والزيغ وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله كما قال تبارك وتعالى " إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين " وقال تعالى " كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة " ولهذا استنبط العلماء رضي الله عنهم من هاتين الآيتين أن المحدث لا يمس المصحف كما ورد به الحديث إن صح لان الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القرآن في الملا الاعلى فأهل الارض بذلك أولى وأحرى لانه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالاكرام والتعظيم والانقياد له بالقبول والتسليم لقوله تعالى " وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ". وقوله عز وجل " أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين " اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ولم تفعلوا ما أمرتم به قاله ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح ومجاهد والسدي واختاره ابن جرير وقال قتادة في قوله تعالى " أفنضرب عنكم الذكر صفحا " والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الامة لهلكوا ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك وقول قتادة لطيف المعنى جدا وحاصله أنه يقول في معناه أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وهو القرآن وإن كانوا مسرفين معرضين عنه بل أمر به ليهتدي به من قدر هدايته وتقوم الحجة على من كتب شقاوته ثم قال جل وعلا مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من
[ 133 ]
كذبه من قومه وآمرا له بالصبر عليهم " وكم أرسلنا من نبي في الاولين " أي في شيع الاولين " وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون " أي يكذبونه ويسخرون به وقوله تبارك وتعالى " فأهلكنا أشد منهم بطشا " أي فأهلكنا المكذبين بالرسل وقد كانوا أشد بطشا من هؤلاء المكذبين لك يا محمد كقوله عز وجل " أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة " والآيات في ذلك كثيرة جدا. وقوله جل جلاله " ومضى مثل الاولين " قال مجاهد: سنتهم وقال قتادة: عقوبتهم وقال غيرهما: عبرتهم أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم كقوله تعالى في آخر هذه السورة " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " وكقوله جلت عظمته " سنة الله التي قد خلت في عباده " وقال عز وجل " ولن تجد لسنة الله تبديلا ". ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم (9) الذى جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) والذى نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذالك تخرجون (11) والذى خلق الازواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون (12) لتستوا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين (13) وإنآ إلى ربنا لمنقلبون (14) يقول تعالى ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره " من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم " أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الاصنام والانداد ثم قال تعالى " الذي جعل لكم الارض مهدا " أي فراشا قرارا ثابتة تسيرون عليها وتقومون وتنامون وتنصرفون مع أنها مخلوقة على تيار الماء لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد هكذا ولا هكذا " وجعل لكم فيها سبلا " أي طرقا بين الجبال والاودية " لعلكم تهتدون " أي في سيركم من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم " والذي نزل من السماء ماء بقدر " أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم وشربكم لانفسكم ولانعامكم وقوله تبارك وتعالى " فأنشرنا به بلدة ميتا " أي أرضا ميتة فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ثم نبه تعالى بإحياء الارض على إحياء الاجساد يوم المعاد بعد موتها فقال " كذلك تخرجون ". ثم قال عز وجل " والذي خلق الازواج كلها " أي مما تنبت الارض من سائر الاصناف من نبات وزروع وثمار وأزاهير وغير ذلك ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها وأصنافها " وجعل لكم من الفلك " أي السفن " والانعام ما تركبون " أي ذللها لكم وسخرها ويسرها لاكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها ولهذا قال جل وعلا " لتستووا على ظهوره " أي لتستووا متمكنين مرتفعين " على ظهوره " أي على ظهور هذا الجنس " ثم تذكروا نعمة ربكم " أي فيما سخر لكم " إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " أي مقاومين ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والسدي وابن زيد: مقرنين أي مطيقين " وإنا إلى ربنا لمنقلبون " أي لصائرون إليه بعد مماتنا وإليه سيرنا الاكبر وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الاخروي في قوله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " وباللباس الدنيوي على الاخروي في قوله تعالى " وريشا ولباس التقوى ذلك خير "
[ 134 ]
" ذكر الاحاديث الواردة عند ركوب الدابة " " حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب " رضي الله عنه قال الامام حدثنا يزيد حدثنا شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق عن علي بن ربيعة قال رأيت عليا رضي الله عنه أتي بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى عليها قال: الحمد لله " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون " ثم حمد الله تعالى ثلاثا وكبر ثلاثا ثم قال سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ثم ضحك فقلت له مم ضحكت يا أمير المؤمنين ؟ فقال رضي الله عنه رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ثم ضحك فقلت مم ضحكت يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم " يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال رب اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري " وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي الاحوص زاد النسائي ومنصور عن أبي إسحاق السبيعي عن علي بن ربيعة الاسدي الوالي به وقال الترمذي حسن صحيح وقد قال عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة قلت لابي إسحاق السبيعي ممن سمعت هذا الحديث ؟ قال من يونس بن خباب فلقيت يونس بن خباب فقلت ممن سمعته ؟ فقال من رجل سمعه من علي بن ربيعة ورواه بعضهم عن يونس بن خباب عن شقيق بن عقبة الاسدي عن علي بن ربيعة الوابي به " حديث عبد الله بن عباس " رضي الله عنهما قال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا أبو بكر بن عبد الله عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردفه على دابته فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا وحمد ثلاثا وسبح ثلاثا وهلل الله واحدة ثم استلقى عليه وضحك ثم أقبل عليه فقال " ما من امرئ مسلم يركب دابة فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عز وجل عليه فضحك إليه كما ضحكت إليك " تفرد به أحمد " حديث عبد الله بن عمر " رضي الله عنهما قال الامام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن علي بن عبد الله البارقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثا ثم قال " سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون - ثم يقول - اللهم إنى أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هون علينا السفر واطو لنا البعيد اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الاهل اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا " وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهله قال " آيبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون " وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث ابن جريج والترمذي من حديث حماد بن سلمة كلاهما عن أبي الزبير به " حديث آخر " قال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عمرو بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس الخزاعي قال حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من إبل الصدقة إلى الحج فقلنا يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه فقال صلى الله عليه وسلم " ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما آمركم ثم امتهنوها لانفسكم فإنما يحمل الله عز وجل " أبو لاس اسمه محمد بن الاسود بن خلف " حديث آخر " في معناه قال أحمد حدثنا عتاب أخبرنا عبد الله ح وعلي بن إسحاق أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك أخبرنا أسامة بن زيد أخبرني محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل ثم لا تقصروا عن حاجاتكم " وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين (15) أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين (16) وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (17) أو من ينشؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين (18) وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون (19)
[ 135 ]
وقالوا لو شآء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذالك من علم إن هم إلا يخرصون (20) يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الانعام لطواغيتهم وبعضها لله تعالى كما ذكر الله عز وجل عنهم في سورة الانعام في قوله تبارك وتعالى " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " وكذلك جعلوا له من قسمة البنات والبنين أخسهما وأردأهما وهو البنات كما قال تعالى " ألكم الذكر وله الانثى * تلك إذا قسمة ضيزى " وقال جل وعلا ههنا " وجعلوا له من عباده جزءا إن الانسان لكفور مبين " ثم قال جل وعلا " أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين " وهذا إنكار عليهم غاية الانكار. ثم ذكر تمام الانكار فقال جلت عظمته " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم " أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات يأنف من ذلك غاية الانفة وتعلوه كآبة من سوء ما بشر به ويتوارى من القوم من خجله من ذلك يقول تبارك وتعالى فكيف تأنفون أنتم من ذلك وتنسبونه إلى الله عز وجل ؟ ثم قال سبحانه وتعالى " أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين " أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ تكون طفلة وإذا خاصمت فلا عبارة لها بل هي عاجزة عيية أو من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم ؟ فالانثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص كما قال بعض شعراء العرب وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار لا عبارة لها ولا همة كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت ما هي بنعم الولد نصرها بكاء وبرها سرقة وقوله تبارك وتعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " أي اعتقدوا فيهم ذلك فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال " أشهدوا خلقهم " أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثا " ستكتب شهادتهم " أي بذلك " ويسئلون " عن ذلك يوم القيامة وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة الاصنام التي هي على صورة الملائكة التي هي بنات الله فإنه عالم بذلك وهو يقررنا عليه فجمعوا بين أنوع كثيرة من الخطأ " أحدها " جعلهم لله تعالى ولدا تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا " الثاني " دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " الثالث " عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان ولا إذن من الله عزوجل بل بمجرد الآراء والاهواء والتقليد للاسلاف والكبراء والآباء والخبط في الجاهلية الجهلاء " الرابع " احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدرا وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلا كبيرا فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشد الانكار فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه قال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حطت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " وقال عز وجل " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال جل وعلا في هذه الآية بعد أن ذكر حجتهم هذه " ما لهم بذلك من علم " أي بصحة ما قالوه واحتجوا به " إن هم إلا يخرصون " أي يكذبون ويتقولون وقال مجاهد في قوله تعالى " ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون " يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك
[ 136 ]
أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون (21) بل قالوا إنا وجدنا ءابآءنا على أمة وإنا علئ اثارهم مهتدون (22) وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون (23) * قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون (24) فانيقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين (25) يقول تعالى منكرا على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة " أم آتيناهم كتابا من قبله " أي من قبل شركهم " فهم به مستمسكون " أي فيما هم فيه أي ليس الامر كذلك كقوله عز وجل " أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون " أي لم يكن ذلك. ثم قال تعالى " بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والاجداد بأنهم كانوا على أمة والمراد بها الذين ههنا وفي قوله تبارك تعالى " إن هذه أمتكم أمة واحدة " وقولهم " وإنا على آثارهم " أي ورائهم " مهتدون " دعوى منهم بلا دليل ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الامم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون * أتواصوا به بل هم قوم طاغون " وهكذا قال ههنا " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " ثم قال عز وجل " قل " أي يا محمد لهؤلاء المشركين " أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون " أي ولو علموا وتيقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله قال تعالى " فانتقمنا منهم " أي من الامم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم " فانظر كيف كان عاقبة المكذبين " أي كيف بادوا وهلكوا وكيف نجى الله المؤمنين. وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون (26) إلا الذى فطرني فإنه سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون (28) بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين (29) ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون (30) وقالوا لو لا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم (31) أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون (32) ولو لآ أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون (33) ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكؤن (34) وزخرفا وإن كل ذالك لما متاع الحياة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين (35) يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الانبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الاوثان فقال " إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجلعها كلمة باقية في عقبة " أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من
[ 137 ]
الاوثان وهي لا إله إلا الله أي جعلها دائمة في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله تعالى من ذريه إبراهيم عليه الصلاة والسلام " لعلهم يرجعون " أي إليها قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله عز وجل " وجعلها كلمة باقية في عقبه " يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال ابن زيد كلمة الاسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة قال جل وعلا " بل متعت هؤلاء " يعني المشركين " وآباءهم " أي فتطاول عليهم العمر في ضلالهم " حتى جاءهم الحق ورسول مبين " أي بين الرسالة والنذارة " ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنابه كافرون " أي كابروه وعاندوه ودفعوا بالصدور والراح كفرا وحسدا وبغيا " وقالوا " أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس " لو نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " أي هلا كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم من القريتين ؟ يعنون مكة والطائف قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وابن زيد وقد ذكر غير واحد منهم أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وقال مالك عن زيد بن أسلم والضحاك والسدي يعنون الوليد بن المغيرة ومسعود بن عمرو الثقفي وعن مجاهد يعنون عمير بن عمرو بن مسعود الثقفي وعنه أيضا أنهم يعنون عتبة بن ربيعة وعن ابن عباس رضي الله عنهما جبارا من جبابرة قريش وعنه رضي الله عنهما أنهم يعنون الوليد بن المغيرة وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي وعن مجاهد يعنون عتبة بن ربيعة بمكة وابن عبد ياليل بالطائف وقال السدي عنوا بذلك الوليد بن المغيرة وكنانة بن عمرو بن عمير الثقفي والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان قال الله تبارك وتعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض " أهم يقسمون رحمة ربك " أي ليس الامر مردودا إليهم بل إلى الله عز وجل والله أعلم حيث يجعل رسالاته فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا ثم قال عز وجل مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الاموال والارزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة فقال " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " الآية. وقوله جلت عظمته " ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " قيل معناه ليسخر بعضهم بعضا في الاعمال لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا قاله السدي وغيره وقال قتادة والضحاك ليملك بعضهم بعضا وهو راجع إلى الاول ثم قال عز وجل " ورحمة ربك خير مما يجمعون " أي رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الاموال ومتاع الحياة الدنيا ثم قال سبحانه وتعالى " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه فيجتمعوا على الكفر لاجل المال هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج " أي سلالم ودرجا من فضة. قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم " عليها يظهرون " أي يصعدون " ولبيوتهم أبوابا " أي أغلاقا على أبوابهم " وسررا عليها يتكئون " أي جميع ذلك يكون فضة " وزخرفا " أي وذهبا قاله ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. ثم قال تبارك وتعالى " وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا " أي إنما ذلك من الدنيا الفانية الزائلة الحقيرة عند الله تعالى أي يعجل لهم بحسانهم التي يعملونها في الدنيا مآكل ومشارب ليوافوا الآخرة وليس لهم عند الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها كما ورد به الحديث الصحيح وورد في حديث آخر " لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء " أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبى حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم " لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا " ثم قال سبحانه وتعالى " والآخرة عند ربك للمتقين " أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم لهذا لما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين صعد إليه في تلك المشربة لما آلى صلى الله عليه وسلم من نسائه فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه فابتدرت عيناه بالبكاء وقال
[ 138 ]
يا رسول الله هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال " أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ " ثم قال صلى الله عليه وسلم " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " وفى رواية " أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ " وفي الصحيح أيضا وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة. ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة " وإنما خولهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها كما روى الترمذي وابن ماجة من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء أبدا " قال الترمذي حسن صحيح. ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين (36) وإنهم ليصدونهم عن سبيل ويحسبون أنهم مهتدون (37) حتى إذا جاءنا قال ياليت بينى وبينك بعد الشرقين فبئس القرين (38) ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب المشتركون (39) أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان في ضلال مبين (40) فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون (41) أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون (42) فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم (43) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون (44) وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان ءالهة يعبدون (45) يقول تعالى " ومن يعش " أي يتعامى ويتغافل ويعرض " عن ذكر الرحمن " والعشا في العين ضعف بصرها والمراد ههنا عشا البصيرة " نقيض له شيطان فهو له قرين " كقوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى " الآية وكقوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وكقوله جل جلاله " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم " الآية ولهذا قال تبارك وتعالى ههنا " وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جاءنا " أي هذا الذي تغافل عن الهدى نقيض له من الشياطين من يضله ويهديه إلى صراط الجحيم فإذا وافى الله عز وجل يوم القيامة يتبرم من الشيطان الذي وكل به " قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " وقرأ بعضهم " حتى إذا جاءانا " يعني القرين والمقارن قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سعيد الجريري قال: بلغنا أن الكافر إذا بعث من قبره يوم القيامة شفع بيده شيطان فلم يفارقه حتى يصيرهما الله تبارك وتعالى إلى النار فذلك حين يقول " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " والمراد بالمشرقين ههنا هو ما بين المشرق والمغرب وإنما استعمل ههنا تغليبا كما يقال: القمران والعمران والابوان قاله ابن جرير وغيره. ثم قال تعالى " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون " أي لا يغني عنكم اجتماعكم في النار واشتراككم في العذاب الاليم. وقوله جلت عظمته " أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين " أي ليس ذلك إليك إنما عليك البلاغ وليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو الحكم العدل في ذلك. ثم قال تعالى " فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " أي لابد أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت " أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدون " أي نحن قادرون على هذا وعلى هذا ولم يقبض الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقر عينه من أعدائه وحكمه في نواصيهم وملكه ما تضمنته صياصيهم هذا معنى قول السدي واختاره ابن جرير وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا أبو ثور عن معمر قال تلا قتادة " فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون " فقال ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقيت النقمة ولم ير الله تبارك
[ 139 ]
وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في أمته شيئا يكرهه حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم قال وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أمته من بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبضه الله عز وجل وذكر من رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة نحوه ثم روى ابن جرير عن الحسن نحو ذلك أيضا وفي الحديث " النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لاصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون " ثم قال عز وجل " فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم " أي خذ بالقرآن المنزل على قلبك فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق المفضي إلى صراط الله المستقيم الموصل إلى جنات النعيم والخير الدائم المقيم ثم قال جل جلاله " وإنه لذكر لك ولقومك " قيل معناه لشرف لك ولقومك قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والسدي. وابن زيد واختاره ابن جرير ولم يحك سواه وأورد الترمذي ههنا حديث الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن هذا الامر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين " رواه البخاري ومعناه أنه شرف لهم من حيث إنه أنزل بلغتهم فهم أفهم الناس له فينبغي أن يكونوأا أقوم الناس به وأعملهم بمقتضاه وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلص من المهاجرين والسابقين الاولين ومن شابههم وتابعهم وقيل معناه " وإنه لذكر لك ولقومك " أي لتذكير لك ولقومك وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم كقوله تعالى " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " وكقوله تبارك وتعالى " وأنذر عشيرتك الاقربين " " وسوف تسئلون " أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له. وقوله سبحانه وتعالي " واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ونهوا عن عبادة الاصنام والانداد كقوله جلت عظمته " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه واسئل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي وابن مسعود رضي الله عنه وهذا كأنه تفسير لا تلاوة والله أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم واسألهم ليلة الاسراء فإن الانبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا له واختار ابن جرير الاول والله أعلم. ولقد أرسلنا موسى بأياتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب العالمين (46) فلما جاءهم بأياتنآ إذا هم منها يضحكون (47) وما نريهم من ءاية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون (48) وقالوا يا أيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد إننا لمهتدون (49) فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون (50) يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى عليه الصلاة والسلام أنه ابتعثه إلى فرعون وملئه من الامراء والوزراء والقادة والاتباع والرعايا من القبط وبني إسرائيل يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه وأنه بعث معه آيات عظاما كيده وعصاه وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ومن نقص الزروع والانفس والثمرات ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها وكذبوها وسخروا منها وضحكوا ممن جاءهم بها " وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر أختها " ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلاهم وجهلهم وخبالهم وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه الصلاة والسلام ويتلطفون له في العبارة بقولهم " يا أيها الساحر " أي العالم قاله ابن جرير وكان علماء زمانهم هم السحرة ولم يكن السحر في زمانهم مذموما عندهم فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص منهم لان الحال حال ضرورة منهم إليه لا تناسب ذلك وإنما هو تعظيم في زعمهم ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني
[ 140 ]
إسرائيل في كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه وهذا كقوله تبارك وتعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ". ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون (51) أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين (53) فاستخف قومه فأطاعوه إنهم قوما فاسقين (54) فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين (55) فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين (56) يقول تعالى مخبرا عن فرعون وتمرده وعتوه وكفره وعناده أنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها " أليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي " قال قتادة قد كانت لهم جنات وأنهار ماء " أفلا تبصرون " أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك يعني وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء وهذا كقوله تعالى " فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى فأخذه الله نكال الآخرة والاولى " وقوله " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين " قال السدي يقول بل أنا خير من هذا الذي هو مهين وهكذا قال بعض نحاة البصرة: إن أم ههنا بمعنى بل ويؤيد هذا ما حكاه الفراء عن بعض القراء أنه قرأها " أما أنا خير من هذا الذي هو مهين " قال ابن جرير ولو صحت هذه القراءة لكان معناها صحيحا واضحا ولكنها خلاف قراءة الامصار فإنهم قرأوا " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين " على الاستفهام " قلت " وعلى كل تقدير فإنما يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام وقد كذب في قوله هذا كذبا بينا واضحا فعليه لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ويعني بقوله مهين كما قال سفيان حقير وقال قتادة والسدي يعني ضعيف وقال ابن جرير يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال " ولا يكاد يبين " يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عيي حصر قال السدي " لا يكاد يبين " أي لا يكاد يفهم وقال قتادة والسدي وابن جرير يعني عيي اللسان وقال سفيان يعني في لسانه شئ من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير وهذا قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق وإنما حمله على هذا الكفر والعناد وهو ينظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام بعين كافرة شقية وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الالباب وقوله " مهين " كذب بل هو المهين الحقير خلقة وخلقا ودينا وموسى هو الشريف الرئيس الصادق البار الراشد وقوله " ولا يكاد يبين " افتراء أيضا فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شئ من جهة تلك الجمرة فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله وقد استجاب الله تبارك تعالى له ذلك في قوله " قد أوتيت سؤلك يا موسى " وبتقدير أن يكون قد بقي شئ لم يسأل إزالته كما قاله الحسن البصري وإنما سأل زوال ما يحصل معه الابلاغ والافهام فالاشياء الخلقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها ولا يذم عليها وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا وإنما أراد الترويج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء وهكذا قوله " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب " وهي ما يجعل في الايدي من الحلى قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وغير واحد " أو جاء معه الملائكة مقترنين " أي يكنفونه خدمة له ويشهدون بتصديقه نظر إلى الشكل الظاهر ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم ولهذا قال تعالى " فاستخف قومه
[ 141 ]
فأطاعوه " أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له " إنهم كانوا قوما فاسقين " قال الله تعالى " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين " علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما آسفونا أسخطونا وقال الضحاك عنه أغضبونا وهكذا قال ابن عباس أيضا ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحد بن كعب القرظي وقتادة والسدي وغيرهم من المفسرين وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبيد الله بن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثنا ابن لهيعة عن عقبة بن مسلم التجيبي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له " ثم تلا صلى الله عليه وسلم " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين " وحدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال كنت عند عبد الله رضي الله عنه فذكر عنده موت الفجأة فقال تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ثم قرأ رضي الله عنه " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين " وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجدت النقمة مع الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين " وقوله سبحانه وتعالى " فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين " قال أبو مجلز سلفا لمثل من عمل بعملهم وقال هو ومجاهد ومثلا أي عبرة لمن بعدهم والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب * ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون (57) وقالوا ءألهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون (58) إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى إسرآءيل (59) ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون (60) وإنه لعلم للساعة فلا تمترون بها واتبعون هذا صراط مستقيم (61) ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين (62) ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون (63) إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (64) فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65) يقول تعالى مخبرا عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قال غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والسدي والضحاك يضحكون أي أعجبوا بذلك وقال قتادة يجزعون ويضحكون وقال إبراهيم النخعي يعرضون وكأن السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة حيث قال: وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " الآيات. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري التميمي حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم فقال عبد الله بن الزبعري أما والله لو وجدته لخصمته سلوا محمدا أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله بن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كل
[ 142 ]
من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " فأنزل الله عز وجل " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الاحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عز وجل فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ونزل فيما يذكر من أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " الآيات ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضر من حجته وخصومته " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله. ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الارض يخلفون * وإنه لعلم للساعة " أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الاسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول " فلا تمترن بهل واتبعون هذا صراط مستقيم " وذكر ابن جرير من رواية العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قال يعني قريشا لما قيل لهم " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " إلى آخر الآيات فقالت له قريش فما ابن مريم ؟ قال " ذاك عبد الله ورسوله " فقالوا والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربا فقال الله عز وجل " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " وقال الامام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن أبي يحيى مولى ابن عقيل الانصاري قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد علمت آية من القرآن ما سألني عنها رجل قط ولا أدري أعلمها الناس فلم يسألوا عنها أم لم يفطنوا لها فيسألوا عنها قال ثم طفق يحدثنا فلما قام تلاومنا أن لا نكون سألناه عنها فقلت أنا لها إذا راح غدا فلما راح الغد قلت يا ابن عباس ذكرت أمس أن آية من القرآن لم يسألك عنها رجل قط فلا يدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها فقلت أخبرني عنها وعن اللاتي قرأت قبلها قال رضي الله عنه نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش " يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير " وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام وما تقول في محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألست تزعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نبيا وعبد ا من عباد الله صالحا فإن كنت صادقا كان آلهتهم كما تقولون قال فأنزل الله عز وجل " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قلت ما يصدون ؟ قال يضحكون " وإنه لعلم للساعة " قال هو خروج عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قبل يوم القيامة وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن يعقوب الدمشقي حدثنا آدم حدثنا شيبان عن عاصم بن أبي النجود عن أبي أحمد مولى الانصار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير " فقالوا له ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبد ا من عباد الله صالحا فقد كان يعبد من دون الله ؟ فأنزل الله عز وجل " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " وقال مجاهد في قوله تعالى " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون " قالت قريش إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى عيسى عليه السلام ونحو هذا قال قتادة. وقوله " وقالوا أآلهتنا خير أم هو " قال قتادة يقولون آلهتنا خير منه وقال قتادة قرأ ابن مسعود رضي الله عنه وقولوا أآلهتنا خير أم هذا يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. وقوله تبارك وتعالى " ما ضربوه لك إلا جدلا " أي مراء وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية لانها لما لا يعقل وهي قوله تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " ثم هي خطاب لقريش وهم إنما كانوا يعبدون الاصنام والانداد ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلا منهم ليسوا يعتقدون صحتها وقد قال الامام أحمد رحمه الله تعالى حدثنا ابن نمير حدثنا حجاج بن دينار عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم
[ 143 ]
خصمون " وقد رواه الترمذي وابن ماجة وابن جرير من حديث حجاج بن دينار به ثم قال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديثه كذا قال وقد روي من وجه آخر عن أبي أمامة رضي الله عنه بزيادة فقال ابن أبي حاتم حدثنا حميد بن عياش الرملي حدثنا مؤمل حدثنا حماد أخبرنا ابن مخزوم عن القاسم بن أبي عبد الرحمن السامي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال حماد لا أدري رفعه أم لا ؟ قال: ما ضلت أمة بعد نبيها إلا كان أول ضلالها التكذيب بالقدر وما ضلت أمة بعد نبيها إلا أعطوا الجدل ثم قرأ " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " وقال ابن جرير أيضا حدثنا أبو ريب حدثنا أحمد بن عبد الرحمن عن عبادة بن عباد عن جعفر عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن فغضب غضبا شديدا حتى كأنما صب على وجهه الخل ثم قال صلى الله عليه وسلم " لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل " ثم تلا صلى الله عليه وسلم " ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " قوله تعالى " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه " يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ما هو إلا عبد من عباد الله عز وجل أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة " وجعلناه مثلا لبني إسرائيل " أي دلالة وحجة وبرهانا على قدرتنا على ما نشاء وقوله عز وجل " ولو نشاء لجعلنا منكم " أي بدلكم " ملائكة في الارض يخلفون " قال السدي يخلفونك فيها وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يخلف بعضهم بعضا كما يخلف بعضكم بعضا وهذا القول يستلزم الاول وقال مجاهد يعمرون الارض بدلكم قوله سبحانه وتعالى " وإنه لعلم للساعة " تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وغير ذلك من الاسقام وفي هذا نظر وأبعد منه ما حكاه قتادة عن الحسن البصري وسعيد بن جبير أن الضمير في وإنه عائد على القرآن بل الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فإن السياق في ذكره ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة كما قال تبارك وتعالى " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام " ثم يوم القيامة يكون عليهم شهيدا " ويؤيد هذا المعنى القراءة الاخرى " وإنه لعلم للساعة " أي أمارة ودليل على وقوع الساعة قال مجاهد " وإنه لعلم للساعة " أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس وأبي العالية وأبي مالك وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وقد تواترت الاحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا. وقوله تعالى " فلا تمترون بها " أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة " واتبعون " أي فيما أخبركم به " هذا صراط مستقيم * ولا يصدنكم الشيطان " أي عن اتباع الحق " إنه لكم عدو مبين * ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة " أي بالنبوة " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه " قال ابن جرير يعني من الامور الدينية لا الدنيوية وهذا الذي قاله حسن جيد ثم رد قول من زعم أن بعض ههنا بمعنى كل واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال: تزال أمكنة إذا لم أرضها أو يتعلق بعض النفوس حمامها وأولوه علي أنه أراد جميع النفوس، قال ابن جرير وإنما أراد نفسه فقط وعبر بالبعض عنها وهذا الذي قاله محتمل. وقوله عز وجل " فاتقوا الله " أي فيما أمركم به " وأطيعون " فيما جئتكم به " إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " أي أنا وأنتم عبيد له فقراء إليه مشتركون في عبادته وحده لا شريك له " هذا صراط مستقيم " أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جل وعلا وحده. وقوله سبحانه وتعالى " فاختلف الاحزاب من بينهم " أي اختلفت الفرق وصاروا شيعا فيه منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ومنمن يدعي أنه ولد الله ومنهم من يقول إنه الله تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. ولهذا قال تعالى " فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم "
[ 144 ]
هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (66) الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين (67) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولآ أنتم تحزنون (68) الذين ءامنوا بأياتنا وكانوا مسلمين (69) ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون (70) يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون (71) وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون (72) لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون (73) يقول تعالى هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل " إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون " أي فإنها كائنة لا محاله وواقعة وهؤلاء غافلون عنها غير مستعدين فإذا جاءت إنما تجئ وهم لا يشعرون بها فحينئذ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم. وقوله تعالى " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإنه دائم بدوامه وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ". وقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه " الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " قال خليلان مؤمنان وخليلان كافران فتوفي أحد المؤمنين وبشر بالجنة فذكر خليله فقال اللهم إن فلانا خليلي كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أني ملاقيك اللهم فلا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني فيقال له اذهب فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيرا وبكيت قليلا قال ثم يموت الآخر فتجتمع أرواحهما فيقال ليثن أحدكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه نعم الاخ ونعم الصاحب ونعم الخليل وإذا مات أحد الكافرين وبشر بالنار ذكر خليله فيقول اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك ويأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويخبرني أني غير ملاقيك اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما سخطت علي قال فيموت الكافر الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال ليثن كل واحد منكما على صاحبه فيقول كل واحد منهما لصاحبه بئس الاخ وبئس الصاحب وبئس الخليل. رواه ابن أبي حاتم وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن أحمد عن هشام بن عبد الله بن كثير حدثنا أبو جعفر محمد بن الخضر بالرقة عن معافى حدثنا حكيم بن نافع عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشر والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة يقول هذا الذي أحببته في " وقوله تبارك وتعالى " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " ثم بشرهم فقال " الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين " أي آمنت قلوبهم وبواطنهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم قال المعتمر بن سليمان عن أبيه إذا كان يوم القيامة فإن الناس حين يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فنادي مناد " يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون " فيرجوها الناس كلهم قال فيتبعها " الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين " قال فييأس الناس منها غير المؤمنين " ادخلوا الجنة " أي يقال لهم ادخلوا الجنة " أنتم وأزواجكم " أي نظراؤكم " تحبرون " أي تتنعمون وتسعدون وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم " يطاف عليهم بصحاف من ذهب " أي زبادي آنية الطعام " وأكواب " وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى " وفيها ما تشتهي الانفس " وقرأ بعضهم تشتهيه الانفس " وتلذ الاعين " أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر قال عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني إسماعيل بن أبي سعيد قال: إن عكرمة مولى ابن
[ 145 ]
عباس رضي الله عنهما أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الاخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل به جميع أهل الارض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتى شيئا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا عمرو بن سواد السرحي حدثني عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر الجنة فقال " والذي نفس محمد بيده ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ثم يخطر على باله طعام آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون " وقال الامام أحمد حدثنا حسن هو ابن موسى حدثنا مسكين بن عبد العزيز حدثنا أبو الاشعث الضرير عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة وإن له ثلثمائة خادم ويغدي عليه ويراح كل يوم بثلثمائة صحفة - ولا أعلمه إلا قال من ذهب - في كل صحفة لون ليس في الاخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ومن الاشربة ثلثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لاطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شئ وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الارض ". وقوله تعالى " وأنتم فيها " أي في الجنة " خالدون " أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا. ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " أي أعمالكم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياكم فإنه لا يدخل أحدا عمله الجنة ولكن برحمة الله وفضله وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الاعمال الصالحات قال ابن أبي حاتم حدثنا الفضل بن شاذان المقري حدثنا يوسف بن يعقوب يعني الصفار حدثنا أبو بكر بن عياش عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أهل النار يرى منزله من الجنة حسرة فيكون له فيقول " لو أن الله هداني لكنت من المتقين " وكل أهل الجنة يرى منزله من النار فيقول " وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله " فيكون له شكرا " قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله من النار والمؤمن يرث الكافر منزلة من الجنة " وذلك قوله تعالى " وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " قوله تعالى " لكم فيها فاكهة كثيرة " أي من جميع الانواع " منها تأكلون " أي مهما اخترتم وأردتم ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة والله تعالى أعلم إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون (74) لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون (75) وما ظلمناهم ولاكن كانوا هم الظالمين (76) ونادوا يا مالك ليقبض علينا ربك قال إنكم ماكثون (77) لقد جئناكم بالحق ولاكن أكثركم للحق كارهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون (80) لما ذكر تعالى حال السعداء ثنى بذكر الاشقياء فقال " إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم " أي ساعة واحدة " وهم فيه مبلسون " أي آيسون من كل خير " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين " أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقا وما ربك
[ 146 ]
بظلام للعبيد " ونادوا يا مالك " وهو خازن النار قال البخاري حدثنا حجاج بن منهال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن عطاء عن صفوان بن يعلى عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه فإنهم كما قال تعالى " لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " وقال عز وجل " ويتجنبها الاشقى الذي يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا " فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك " قال إنكم ماكثون " قال ابن عباس مكث ألف سنة ثم قال إنكم ماكثون رواه ابن أبي حاتم أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتهم للحق ومعاندتهم له فقال " لقد جئناكم بالحق " أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه " ولكن أكثركم للحق كارهون " أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه وإنما تنقاد للباطل وتعظمه وتصد عن الحق وتأباه وتبغض أهله فعودوا على أنفسكم بالملامة واندموا حيث لا تنفعكم الندامة ثم قال تبارك وتعالى " أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون " قال مجاهد أرادوا كيد شر فكدناهم وهذا الذي قاله مجاهد كما قال تعالى " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون " وذلك لان المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم ولهذا قال " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم " أي سرهم وعلانيتهم " بلى ورسلنا لديهم يكتبون " أي نحن نعلم ما هم عليه والملائكة أيضا يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين (81) سبحانه رب السماوات والارض رب العرش عما يصفون (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون (83) وهو الذى في السماء إلاه وفي الارض إلاه وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الذى له ملك السماوات وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون (87) وقليه يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم سلام فسوف يعلمون (89) يقول تعالى " قل " يا محمد " إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك لاني عبد من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ليس عندي استكبار ولا إباء عن عبادته فلو فرض هذا لكان هذا ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضا كما قال عز وجل " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار " وقال بعض المفسرين في قوله تعالى " فأنا أول العابدين " أي الآنفين ومنهم سفيان الثوري والبخاري حكاه فقال ويقال أول العابدين الجاحدين من عبد يعبد وذكر ابن جرير لهذا القول من الشواهد ما رواه عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب حدثني ابن أبي ذئب عن أبي قسيط عن بعجة بن بدر الجهني أن امرأة منهم دخلت على زوجها وهو رجل منهم أيضا فولدت له في ستة أشهر فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفان رضي الله عنه فأمر بها أن ترجم فدخل عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال إن الله تعالى يقول في كتابه " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقال عز وجل " وفصاله في عامين " قال فوالله ما عبد عثمان رضي الله عنه أن بعث إليها ترد قال يونس قال ابن وهب عبد استنكف وقال الشاعر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما
[ 147 ]
وهذا القول فيه نظر لانه كيف يلتئم مع الشرط فيكون تقديره إن كان هذا فأنا ممتنع منه ؟ هذا فيه نظر فليتأمل اللهم إلا أن يقال أن إن ليست شرطا وإنما هي نافية كما قال على بن أبي طلحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " قل إن كان للرحمن ولد " يقول لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين وقال قتادة هي كلمة من كلام العرب " إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي وقال أبو صخر " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " أي فأنا أول من عبده بأن لا ولد له وأول من وحده وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال مجاهد " فأنا أول العابدين " أي أول من عبده ووحده وكذبكم وقال البخاري " فأنا أول العابدين " الآنفين وهما لغتان رجل عابد وعبد والاول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع وقال السدي " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " يقول لو كان له ولد كنت أول من عبده بأن له ولد ولكن لا ولد له وهو اختيار ابن جرير ورد قول من زعم أن إن نافية. ولهذا قال تعالى " سبحان رب السموات والارض رب العرش عما يصفون " أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الاشياء عن أن يكون له ولد فإنه فرد أحد صمد لا نظير له ولا كف ء له فلا ولد له وقال تعالى " فذرهم يخوضوا " أي في جهلهم وضلالهم " ويلعبون " في دنياهم " حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون " وهو يوم القيامة أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم. وقوله تبارك وتعالى " وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله " أي هو إله من في السماء وإله من في الارض يعبده أهلهما وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه " هو الحكيم العليم " وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى " وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون " أي هو المدعو الله في السموات والارض " وتبارك الذي له ملك السموات والارض وما بينهما " أي هو خالقهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة فسبحانه وتعالى عن الولد وتبارك أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص لانه الرب العلي العظيم المالك للاشياء الذي بيده أزمة الامور نقضا وإبراما " وعنده علم الساعة " أي لا يجليها لوقتها إلا هو " وإليه ترجعون " أي فيجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم قال تعالى " ولا يملك الذين يدعون من دونه " أي من الاصنام والاوثان " الشفاعة " أي لا يقدرون على الشفاعة لهم " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " هذا استثناء منقطع أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. ثم قال عز وجل " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون " أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره " من خلقهم ليقولن الله " أي هم يعترفون أنه الخالق للاشياء جميعها وحده لا شريك له في ذلك ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل. ولهذا قال تعالى " فأنى يؤفكون " وقوله جل وعلا " وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم قيله أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كما أخبر تعالى في الآية الاخرى " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " وهذا الذي قلناه هو قول ابن مسعود رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وعليه فسر ابن جرير قال البخاري وقرأ عبد الله يعني ابن مسعود رضي الله عنه " وقال الرسول يا رب " وقال مجاهد في قوله " وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون " قال يؤثر الله عز وجل قول محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل ثم حكى ابن جرير في قوله تعالى " وقيله يا رب " قراءتين إحداهما النصب ولها توجيهان أحدهما أنه معطوف على قوله تبارك وتعالى " نسمع سرهم ونجواهم " والثاني أن يقدر فعل وقال قيله والثانية الخفض وقيله عطفا على قوله " وعنده علم الساعة " وتقديره وعلم قيله. وقوله تعالى " فاصفح عنهم " أي المشركين " وقل سلام " أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السئ ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلا وقولا " فسوف يعلمون " هذا تهديد من الله تعالى لهم ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد وأعلى دينه وكلمته وشرع بعد ذلك
[ 148 ]
الجهاد والجلاد حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وانتشر الاسلام في المشارق والمغارب والله أعلم. آخر تفسير سورة الزخرف سورة الدخان قال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن عمرو بن أبي خثعم عن يحيى بن أبى كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وعمرو بن أبي خثعم يضعف قال البخاري منكر الحديث ثم قال حدثنا نصر بن عبد الرحمن الكوفي حدثنا زيد بن الحباب عن هشام أبي المقدام عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له " ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام أبو المقدام يضعف والحسن لم يسمع من أبي هريرة رضي الله عنه كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد رحمة الله عليهم أجمعين: وفي مسند البزار من رواية أبي الطفيل عامر بن واثلة عن زيد بن حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد " إني قد خبأت خبأ فما هو " وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الدخان فقال هو الدخ فقال " اخسأ ما شاء الله " ثم انصرف. بسم الله الرحمان الرحيم حم (1) والكتاب المبين (2) إنآ أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (3) فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم (6) رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لآ إلاه إلا هو يحى ويميت ربكم ورب أآبائكم الاولين (8) يقول تعالى مخبرا عن القرآن العظيم أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر كما قال عز وجل " إنا أنزلناه في ليلة القدر " وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تبارك وتعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " وقد ذكرنا الاحاديث الواردة في ذلك في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان كما روي عن عكرمة فقد أبعد النجعة فإن نص القرآن أنها في رمضان. والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة بن الاخنس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى " فهو حديث مرسل ومثله لا يعارض به النصوص. وقوله عز وجل " إنا كنا منذرين " أي معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعا لتقوم حجة الله على عباده قوله " فيها يفرق كل أمر حكيم " أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها من الآجال والارزاق وما يكون فيها إلى آخرها وهكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وأبي مالك والضحاك وغير واحد من السلف. وقوله جل وعلا " حكيم " أي محكم لا يبدل ولا يغير ولهذا قال جل جلاله " أمرا من عندنا " أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه " إنا كنا مرسلين " أي إلى الناس رسولا يتلو عليهم آيات الله مبينات فإن الحاجة كانت ماسة إليه ولهذا قال تعالى " رحمة من ربك إنه هو
[ 149 ]
السميع العليم * رب السموات والارض وما بينهما " أي الذي أنزل القرآن هو رب السموات والارض وخالقهما ومالكهما وما فيهما " إن كنتم موقنين " أي إن كنتم متحققين ثم قال تعالى " لا إله إلا هو يحيى ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين " وهذه الآية كقوله تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والارض لا إله إلا هو يحيى ويميت " الآية بل هم في شك يلعبون (9) فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين (10) يغشى الناس هذا عذاب أليم (11) ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون (12) أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين (13) ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون (14) إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون (15) يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون (16) يقول تعالى بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به ثم قال عز وجل متوعدا لهم ومهددا " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " قال سليمان بن مهران الاعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن مسروق قال دخلنا المسجد يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة فإذا رجل يقص على أصحابه " يوم تأتي السماء بدخان مبين " تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام قال فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له وكان مضطجعا ففزع فقعد وقال إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم " قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم الله أعلم سأحدثكم عن ذلك إن قريشا لما أبطأت عن الاسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد قال الله تعالى " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم " فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم فسقوا فنزلت " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " قال ابن مسعود رضي الله عنه فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنزل الله عز وجل " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " قال يعني يوم بدر قال ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ورواه الامام أحمد في مسنده وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الاعمش به وقد وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسير الاية بهذا وأن الدخان مضى جماعة من السلف: كمجاهد وأبى العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي وهو اختيار ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا جعفر بن مسافر حدثنا يحيى بن حسان حدثنا ابن لهيعة حدثنا عبد الرحمن الاعرج في قوله عز وجل " يوم تأتي السماء بدخان مبين " قال كان يوم فتح مكة وهذا القول غريب جدا بل منكر وقال أخرون لم يمض الدخان بعد بل هو من أمارات الساعة كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى بن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " تفرد بإخراجه مسلم في
[ 150 ]
صحيحه وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد " إنى خبأت لك خبأ " قال هو الدخ فقال صلى الله عليه وسلم له " اخسأ فلن تعدو قدرك " قال وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان وهم يقرظون العبارة ولهذا قال هو الدخ يعني الدخان فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته وأنها شيطانية فقال صلى الله عليه وسلم " اخسأ فلن تعدو قدرك " ثم قال ابن جرير وحدثني عصام بن رواد بن الجراح حدثنا أبي حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول الآيات الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان - قال حذيفة رضي الله عنه يا رسول الله وما الدخان ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم " - يملا ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة وأما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأما الكافر فيكون بمنزله السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " قال ابن جرير لو صح هذا الحديث لكان فاصلا وإنما لم أشهد له بالصحة لان محمد بن خلف العسقلاني حدثني أنه سأل روادا عن هذا الحديث هل سمعه من سفيان ؟ فقال له لا قال أقرأته عليه ؟ قال لا قال: فقلت له أقرأ عليه وأنت حاضر فأقربه فقال لا فقلت له فمن أين جئت به فقال جاءني به قوم فعرضوه علي وقالوا لى سمعه منا فقرءوه علي ثم ذهبوا فحدثوا به عني أو كما قال وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا فإنه موضوع بهذا السند وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير وفيه منكرات كثيرة جدا ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الاقصى والله أعلم وقال ابن جرير أيضا حدثني محمد بن عوف حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الاشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ربكم أنذركم ثلاثا الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه والثانية الدابة والثالثة الدجال " ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يهيج الدخان بالناس فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة وأما الكافر فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه " ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفا وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ. وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن السليماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ أي المشوي على الرضف ثم قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة قال غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال ما نمت الليلة حتى أصبحت قلت لم ؟ قال: قالوا طلع الكوكب ذو الذنب فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الامة وترجمان القرآن وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الاحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن قال الله تبارك وتعالى " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " أي بين واضح يراه كل أحد وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه
[ 151 ]
إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد وهكذا قوله تعالى " يغشى الناس " أي يتغشاهم ويعميهم ولو كان أمرا خياليا يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه " يغشى الناس ". وقوله تعالى " هذا عذاب اليم " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا كقوله عز وجل " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون " أو يقول بعضهم لبعض ذلك وقوله سبحانه وتعالى " ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون " أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بأيات ربنا ونكون من المؤمنين " وكذا قوله جل وعلا " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال " وهكذا قال جل وعلا ههنا " أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون " يقول كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولا بين الرسالة والنذارة ومع هذا تولوا عنه وما وافقوه بل كذبوه وقالوا معلم مجنون وهذا كقوله جلت عظمته " يوم يتذكر الانسان وأنى له الذكرى " الآية وكقوله عز وجل " ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب * وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " إلى آخر السورة وقوله تعالى " إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون " يحتمل معنين " أحدهما " أنه يقول تعالى ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب كقوله تعالى " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون " وكقوله جلت عظمته " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " " والثاني " أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلا بعد أنعقاد أسبابه ووصوله إليكم وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى " إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ولا يلزم أيضا أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه قال الله تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين * قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم وقال قتادة إنكم عائدون إلى عذاب الله وقوله عز وجل " يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون " فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب رضي الله عنه وهو محتمل والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة وهذا إسناد صحيح عنه وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه والله أعلم * ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم (17) أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين (18) وأن لا تعلوا على الله إنئ اتيكم بسلطان مبين (19) وإنى عذت بربي وربكم أن ترجمون (20) وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون (21) فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون (22) فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون (23) واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون (24) كم تركوا من جنات وعيون (25) وزروع ومقام كريم (26) ونعمة كانوا فيها فاكهين (27) كذالك
[ 152 ]
وأورثناها قوما ءاخرين (28) فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين (29) ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين (30) من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين (31) ولقد اخترناهم على علم على العالمين (32) وءاتيناهم من الابات ما فيه بلآؤا مبين (33) يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر " وجاءهم رسول كريم " يعني موسى كليمه عليه الصلاة والسلام " أن أدوا إلى عباد الله " كقوله عز وجل " أن أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بأية من ربك والسلام على من اتبع الهدى " وقوله جل وعلا " إني لكم رسول أمين " أي مأمون على ما أبلغكموه. وقوله تعالى " وأن لا تعلوا على الله " أي لا تستكبروا عن اتباع آياته والانقياد لحججه والايمان ببراهينه كقوله عز وجل " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " " إنى آتيكم بسلطان مبين " أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والادلة القاطعات " وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون " قال ابن عباس رضي الله عنهما وأبو صالح هو الرجم باللسان وهو الشتم وقال قتادة الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قول أو فعل " وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون " أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الامر بيني وبينكم مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وأقام حجج الله تعالى عليهم كل ذلك وما زادهم ذك إلا كفرا وعنادا دعا ربه عليهم دعوة نفذت فيهم كما قال تبارك وتعالى " وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما " هكذا قال ههنا " فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون " فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ولهذا قال جل جلاله " فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون " كما قال تعالى " ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى " وقوله عز وجل ههنا " واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون " وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ليصير حائلا بينهم وبين فرعون فلا يصل إليهم فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكنا وبشره بأنهم جند مغرقون فيه وأنه لا يخاف دركا ولا يخشى قال ابن عباس رضي الله عنهما " واترك البحر رهوا " كهيئه وامضه وقال مجاهد رهوا طريقا يبسا كهيئه يقول لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم وكذا قال عكرمة والربيع بن أنس والضحاك وقتادة وابن زيد وكعب الاحبار وسماك بن حرب وغير واحد ثم قال تعالى " كم تركوا من جنات " وهي البساتين " وعيون وزروع " والمراد بها الانهار والآبار " ومقام كريم " وهي المساكن الانيقة والاماكن الحسنة. وقال مجاهد وسعيد بن جبير " ومقام كريم " المنابر وقال ابن لهيعة عن وهب بن عبد الله المعافري عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال نيل مصر سيد الانهار سخر الله تعالى له كل نهر بين المشرق والمغرب وذلله له فإذا أراد الله عز وجل أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الانهار بمائها وفجر الله تبارك وتعالى له الارض عيونا فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله جل وعلا أوحى الله تعالى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره وقال في قول الله تعالى " فأخرجناهم من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكيهن " قال كانت الجنان بحافتي نهر النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعا ما بين أسوان إلى رشيد وكان له تسع خلج (1): خليج الاسكندرية وخليج دمياط (1) الخليج: شرم من النهر ويطلق على السفينة والجمع خلجان وخلج. وقوله: تسع خلج هكذا في الاصول (*)
[ 153 ]
وخليج سردوس وخليج منف وخليج الفيوم وخليج المنتهى متصلة لا ينقطع منها شئ عن شئ وزرع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعا لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها " ونعمة كانوا فيها فاكهين " أي عيشة كانوا يتفكهون فيها فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا مع الاموال والجاهات والحكم في البلاد فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة وفارقوا الدنيا وصاروا إلى جهنم وبئس المصير واستولى على البلاد المصرية وتلك الحواصل الفرعونية والممالك القبطية بنو إسرائيل كما قال تبارك وتعالى " كذلك وأورثناها بنى إسرائيل " وقال في الآية الاخرى " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " قال عز وجل ههنا " كذلك وأورثناها قوما آخرين " وهم بنو إسرائيل كما تقدم. قوله سبحانه وتعالى " فما بكت عليهم السماء والارض " أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ولا لهم في الارض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم. قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أحمد بن إسحاق البصري حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة حدثني يزيد الرقاشي حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من عبد إلا وله في السماء بابان: باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله وكلامه فإذا مات فقداه وبكيا عليه " وتلا هذه الآية " فما بكت عليهم السماء والارض " وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الارض عملا صالحا يبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم ورواه ابن أبي حاتم من حديث موسى بن عبيدة وهو الربذي. وقال ابن جرير حدثني يحيى بن طلحة حدثني عيسى بن يونس عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والارض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " فما بكت عليهم السماء والارض " - ثم قال - إنهما لا يبكيان على الكافر " وقال ابن أبى حاتم حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا العلاء بن صالح عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله قال سأل رجل عليا رضي الله عنه هل تبكي السماء والارض على أحد ؟ فقال له لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد قبلك إنه ليس من عبد إلا له مصلى في الارض مصعد عمله من السماء وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الارض ولا عمل يصعد في السماء ثم قرأ علي رضي الله عنه " فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين " وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن منهال عن سعيد بن جبير قال أتى ابن عباس رضي الله عنهما رجل فقال يا أبا العباس أرأيت قول الله تعالى " فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين " فهل تبكي السماء والارض على أحد ؟ قال رضي الله عنه نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه وإذا فقده مصلاه من الارض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الارض آثار صالحة ولم يكن يصعد إلى الله عز وجل منهم خير فلم تبك عليهم السماء والارض وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال سفيان الثوري عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان يقال تبكي الارض على المؤمن أربعين صباحا وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد وقال مجاهد أيضا ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والارض أربعين صباحا قال: فقلت له أتبكي الارض ؟ فقال أتعجب ؟ وما للارض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود ؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل. وقال قتادة كانوا
[ 154 ]
أهون على الله عز وجل من أن تبكي عليهم السماء والارض وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد السلام بن عاصم حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا المستورد بن سابق عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين قلت لعبيد أليس السماء والارض تبكي على المؤمن ؟ قال ذاك مقامه حيث يصعد عمله قال وتدري ما بكاء السماء ؟ قلت لا قال تحمر وتصير وردة كالدهان: إن يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام لما قتل احمرت السماء وقطرت دما وإن الحسين بن علي رضي الله عنهما لما قتل احمرت السماء. وحدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو غسان محمد بن عمر وزنيج حدثنا جرير عن يزيد بن أبي زياد قال لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما احمرت آقاق السماء أربعة أشهر قال يزيد واحمرارها بكاؤها وهكذا قال السدي في الكبير وقال عطاء الخراساني بكاؤها أن تحمر أطرافها وذكروا أيضا في مقتل الحسين رضي الله عنه أنه ما قلب حجر يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط وأنه كسفت الشمس واحمر الافق وسقطت حجارة وفي كل من ذلك نظر والظاهر أنه من سخف الشيعة وكذبهم ليعظموا الامر ولا شك أنه عظيم ولكن لم يقع هذا الذي اختلقوه وكذبوه وقد وقع ما هو أعظم من قتل الحسين رضي الله عنه ولم يقع شئ مما ذكروه فإنه قد قتل أبوه علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أفضل منه بالاجماع ولم يقع شئ من ذلك وعثمان بن عفان رضي الله عنه قتل محصورا مظلوما ولم يكن شئ من ذلك وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل في المحراب في صلاة الصبح وكأن المسلمين لم تطرقهم مصيبة قبل ذلك ولم يكن شئ من ذلك وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد البشر في الدنيا والآخرة يوم مات لم يكن شئ مما ذكروه ويوم مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم خسفت الشمس فقال الناس خسفت لموت إبراهيم فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف وخطبهم وبين لهم أن الشمس والقمر لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته. قوله تبارك وتعالى " ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين " يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كانوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم وتسخيره إياهم في الاعمال المهينة الشاقة وقوله تعالى " من فرعون إنه كان عاليا " أي مستكبرا جبارا عنيدا كقوله عز وجل " إن فرعون علا في الارض " وقوله جلت عظمته " فاستكبروا وكانوا قوما عالين " من المسرفين أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه. وقوله جل جلاله " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " قال مجاهد " اخترناهم على علم على العالمين " على من هم بين ظهريه وقال قتادة اختيروا على أهل زمانهم ذلك وكان يقال إن لكل زمان عالما وهذا كقوله تعالى " قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس " أي أهل زمانه ذلك كقوله عز وجل لمريم عليها السلام " واصطفاك على نساء العالمين " أي في زمنها فإن خديجة رضي الله عنها إما أفضل منها أو مساوية لها في الفضل وكذا آسية بنت مزاحم امرأة فرعون وفضل عائشة رضي الله عنه على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. قوله جل جلاله " وآتيناهم من الآيات " أي الحجج والبراهين وخوارق العادات " ما فيه بلاء مبين " أي اختبار ظاهر جلي لمن اهتدى به. إن هؤلاء ليقولون (34) إن هي إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين (35) فأتوا بأبأئنآ إن كنتم صادقين (36) أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين (37) يقول تعالى منكرا على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد وأنه ماثم إلا هذه الحياة الدنيا ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور ويحتجون بأبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا فإن كان البعث حقا " فأتوا بأبائنا إن كنتم
[ 155 ]
صادقين " وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة فإن المعاد إنما هو يوم القيامة لا في الدار الدنيا بل بعد انقضائها " وذهابها " وفراغها يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. ثم قال تعالى متهددا لهم ومتوعدا ومنذرا لهم بأسه الذي لا يرد كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع وهم سبأ حيث أهلكهم الله عز وجل وخرب بلادهم وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر كما تقدم ذلك في سورة سبأ وهي مصدرة بإنكار المشركين للمعاد وكذلك ههنا شبههم بأولئك وقد كانوا عربا من قحطان كما أن هؤلاء عرب من عدنان وقد كانت حمير وهم سبأ كلما ملك فيهم رجل سموه تبعا كما يقال كسرى لمن ملك الفرس وقيصر لمن ملك الروم وفرعون لمن ملك مصر كافرا والنجاشي لمن ملك الحبشة وغير ذلك من أعلام الاجناس ولكن اتفق أن بعض تبابعتهم خرج من اليمن وسار في البلاد حتى وصل إلى سمرقند واشتد ملكه وعظم سلطانه وجيشه واتسعت مملكته وبلاده وكثرت رعاياه وهو الذي مصر الحيرة فاتفق أنه مر بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية فأراد قتال أهلها فمانعوه وقاتلوه بالنهار وجعلوا يقرونه الليل فاستحيا منهم وكف عنهم واستصحب معه حبرين من أحبار يهود كانا قد نصحاه وأخبراه أنه لا سبيل له على هذه البلدة فإنها مهاجر نبي يكون في آخر الزمان فرجع عنها وأخذهما معه إلى بلاد اليمن فلما اجتاز بمكة أراد هدم الكعبة فنهيناه عن ذلك أيضا وأخبراه بعظمة هذا البيت وأنه من بناء إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وأنه سيكون له شأن عظيم على يدي ذلك النبي المبعوث في آخر الزمان فعظمها وطاف بها وكساها الملاء والوصائل والحبر ثم كر راجعا إلى اليمن ودعا أهلها إلى التهود معه وكان إذا ذاك دين موسى عليه الصلاة والسلام فيه من يكون على الهداية قبل بعثة المسيح عليه الصلاة والسلام فتهود معه عامة أهل اليمن وقد ذكر القصة بطولها الامام محمد بن إسحاق في كتابه السيرة وقد ترجمه الحافظ ابن عساكر في تاريخه ترجمة حافلة أورد فيها أشياء كثيرة مما ذكرنا ومما لم يذكر وذكر أنه ملك دمشق وأنه كان إذا استعرض الخيل صفت له من دمشق إلى اليمن ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أدري الحدود طهارة لاهلها أم لا ؟ ولا أدري تبع لعينا كان أم لا ؟ ولا أدري ذو القرنين نبيا كان أم ملكا " وقال غيره " عزير أكان نبيا أم لا ؟ " وهكذا رواه ابن أبن حاتم عن محمد بن حماد الظهراني عن عبد الرزاق قال الدارقطني تفرد به عبد الرزاق. ثم روى ابن عساكر من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا " عزير لا أدري أنبيا كان أم لا ؟ ولا أدري ألعين تبع أم لا ؟ " ثم أورد ما جاء في النهي عن سبه ولعنته كما سيأتي إن شاء الله تعالى وكأنه والله أعلم كان كافرا ثم أسلم وتابع دين الكليم على يدي من كان من أحبار اليهود في ذلك الزمان على الحق قبل بعثة المسيح عليه السلام وحج البيت في زمن الجرهميين وكساه الملاء والوصائل من الحرير والحبر ونحر عنده ستة آلاف بدنة وعظمه وأكرمه ثم عاد إلى اليمن وقد ساق قصته بطولها الحافظ ابن عساكر من طرق متعددة مطوله مبسوطة عن أبي بن كعب وعبد الله بن سلام وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وكعب الاحبار وإليه المرجع في ذلك كله وإلى عبد الله بن سلام أيضا وهو أثبت وأكبرو أعلم وكذا روى قصته وهب بن منبه ومحمد بن إسحاق في السيرة كما هو مشهور فيها. وقد اختلط عل الحافظ ابن عساكر في بعض السياقات ترجمة تبع هذا بترجمة آخر متأخر عنه بدهر طويل فإن تبعا هذا المشار إليه في القرآن أسلم قومه على يديه ثم لما توفي عادوا بعده إلى عبادة النيران والاصنام فعاقبهم الله تعالى كما ذكره في سورة سبأ وقد بسطنا قصتهم هنالك ولله الحمد والمنة وقال سعيد بن جبير كسا تبع الكعبة وكان سعيد ينهى عن سبه وتبع هذا هو تبع الاوسط واسمه أسعد أبو كريب بن مليكرب اليماني ذكروا أنه ملك على قومه ثلاثمائة سنة وستا وعشرين سنة ولم يكن في حمر أطول مدة منه وتوفي قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو من سبعمائة سنة. وذكروا أنه لما ذكر له الحبران من يهود المدينة أن هذه البلدة مهاجر نبي في آخر الزمان اسمه أحمد قال في ذلك شعرا
[ 156 ]
واستودعه عند أهل المدينة فكانوا يتوارثونه ويروونه خلفا عن سلف وكان ممن يحفظه أبو أيوب خالد بن زيد الذي نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره وهو شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيرا له وابن عم وجاهدت بالسيف أعداءه وفرجت من صدره كل غم وذكر ابن أبي الدنيا أنه حفر قبر بصنعاء في الاسلام فوجدوا فيه امرأتين صحيحتين وعند رؤوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب: هذا قبر حيي وتميس وروي حيي وتماضر ابنتي تبع ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله ولا تشركان به شيئا وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما وقد ذكرنا في سورة سبأ شعر سبأ في ذلك أيضا قال قتادة ذكر لنا أن كعبا كان يقول في تبع نعت الرجل الصالح ذم الله تعالى قومه ولم يذمه قال وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لا تسبوا تبعا فإنه قد كان رجلا صالحا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي زرعة - يعني عمرو بن جابر الحضرمي - قال سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم " ورواه الامام أحمد في مسنده عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة به. وقال الطبراني حدثنا أحمد بن علي الابار حدثنا أحمد بن محمد بن أبي برزة حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا سفيان عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم " وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أدري تبع نبيا كان أم غير نبي " وتقدم بهذا السند من رواية ابن أبي حاتم كما أورده ابن عساكر " لا أدري تبع كان لعينا أم لا " فالله أعلم. ورواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى المدني عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا وقال عبد الرزاق أخبرنا عمران أبو الهذيل أخبرني تميم بن عبد الرحمن قال: قال عطاء بن أبي رباح لا تسبوا تبعا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن سبه والله تعالى أعلم وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين (38) ما حلقناهما إلا بالحق ولاكن أكثرهم لا يعلمون (39) إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين (40) يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون (41) إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم (42) يقول تعالى مخبرا عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل كقوله جل وعلا " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " قال تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " قال تعالى " إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين " وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين وقوله عز وجل " ميقاتهم أجمعين " أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم " يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا " أي لا ينفع قريب قريبا كقوله سبحانه وتعالى " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " وكقوله جلت عظمته " ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم " أي لا يسأل أخا له عن حاله وهو يراه عيانا. وقوله جل وعلا " ولا هم ينصرون " أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصره من خارج قال " إلا من رحم الله " أي لا ينفع يومئذ إلا رحمة الله عز وجل بخلقه " إنه هو العزيز الرحيم " أي هو عزيز ذو رحمة واسعة
[ 157 ]
إن شجرت الزقوم (43) طعام الاثيم (44) كالمهل يغلى في البطون (45) كغلى الحميم (46) خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم (47) ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (48) ذق أنت العزيز الكريم (49) إن هذا ما كنتم به تمترون (50) يقول تعالى مخبرا عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه " إن شجرة طعام الاثيم " والاثيم أي في قوله وفعله وهو الكافر وذكر غير واحد أنه أبو جهل ولا شك في دخوله في هذه الآية ولكن ليست خاصة به قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الاعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث أن أبا الدرداء كان يقرئ رجلا " إن شجرة الزقوم طعام الاثيم " فقال طعام اليتيم فقال أبو الدرداء رضي الله عنه قل إن شجرة الزقوم طعام الفاجر أي ليس له طعام من غيرها قال مجاهد ولو وقعت قطرة منها في الارض لافسدت على أهل الارض معايشهم وقد مقدم نحوه مرفوعا وقوله " كالمهل " قالوا كعكر الزيت " يغلي في البطون كغلي الحميم " أي من حرارتها ورداءتها قوله " خذوه " أي الكافر وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية خذوه ابتدره سبعون ألفا منهم وقوله " فاعتلوه " أي سوقوه سحبا ودفعا في ظهره قال مجاهد " خذوه فاعتلوه " أي خذوه فادفعوه، وقال الفرزدق: ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل " إلى سواء الجحيم " أي وسطها " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم " كقوله عز وجل " يصب من فوق رؤوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود " وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد فتفتح دماغه ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه - أعاذنا الله تعالى من ذلك - وقوله تعالى " ذق إنك أنت العزيز الكريم " أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ وقال الضحاك عن ابن عباس أي لست بعزيز ولا كريم. وقد قال الاموي في مغازيه حدثنا أسباط بن محمد حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل لعنه الله فقال " إن الله تعالى أمرني أن أقول لك أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى " قال فنزع ثوبه من يده وقال ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شئ ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء وأنا العزيز الكريم قال فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته وأنزل " ذق إنك أنت العزيز الكريم " قوله عز وجل " إن هذا ما كنتم به تمترون " كقوله تعالى " يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون " ولهذا قال تعالى ههنا " إن هذا ما كنتم به تمترون " إن المتقين في مقام أمين (51) في جنات وعيون (52) يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين (53) كذالك وزوجناهم بحور عين (54) يذعون فيها بكر فاكهة ءامنين (55) لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم (56) فضلا من ربك ذالك هو الفوز العظيم (57) فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون (58) فارتقب إنهم مرتقبون (59)
[ 158 ]
لما ذكر تعالى حال الاشقياء عطف بذكر السعداء ولهذا سمي القرآن مثاني فقال " إن المتقين " أي لله في الدنيا " في مقام أمين " أي في الآخرة وهو الجنة قد أمنوا فيها من الموت والخروج ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ومن الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب " في جنات وعيون " وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم. قوله تعالى " يلبسون من سندس " وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها " وإستبرق " وهو ما فيه بريق ولمعان وذلك كالرياش وما يلبس على أعالي القماش " متقابلين " أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره قوله تعالى " كذلك وزوجناهم بحور عين " أي هذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " " كأنهن الياقوت والمرجان " " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نوح بن حبيب حدثنا نصر بن مزاحم العطار حدثنا عمر بن سعد عن رجل عن أنس رضي الله عنه رفعه نوح قال: لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب الماء لعذوبة ريقها قوله عز وجل " يدعون فيها بكل فاكهة آمنين " أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا قوله " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى " هذا استثناء يؤكد النفي فإنه استثناء منقطع ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت " وقد تقدم الحديث في سورة مريم عليها السلام. وقال عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي مسلم الاغر عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقال لاهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا " رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق أبو مسلم الاغر وأهل المدينة يقولون أبو عبد الله الاغر. وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني حدثنا أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن الحجاج هو ابن حجاج عن عبادة عن عبد الله بن عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اتقى الله دخل الجنة ينعم فيها ولا يبأس ويحيا فيها فلا يموت لا تبلي ثيابه ولا يفنى شبابه " وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا سليم بن عبد الله الرقي حدثنا مصعب بن إبراهيم حدثنا عمران بن الربيع الكوفي عن يحيى بن سعيد الانصاري عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم أينام أهل الجنة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون " وهكذا رواه أبو بكر بن مردوية في تفسيره حدا أحمد بن القاسم بن صدقه المصري حدثنا المقدام بن داود حدثنا عبد الله بن المغيرة حدثنا سفيان الثور عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون ". وقال أبو بكر البزار في مسنده حدثنا الفضل بن يعقوب حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله هل ينام أهل الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لا النوم أخو الموت " ثم قال لا نعلم أحدا أسنده عن ابن المنكدر عن جابر رضي الله عنه إلا الثوري ولا عن الثوري إلا الفريابي هكذا قال وقد تقدم خلاف ذلك والله أعلم وقوله تعالى " ووقاهم عذاب الجحيم " أي مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم وسلمهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الاليم في دركات الجحيم فحصل لهم المطلوب ونجاهم من المرهوب ولهذا قال عز وجل " فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم " أي إنما كان هذا بفضله عليهم وإحسانه إليهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا لن يدخله عمله الجنة " قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " قوله تبارك وتعالى " فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون " أي إنما يسرنا
[ 159 ]
هذا القرآن الذي أنزلناه سهلا واضحا بينا جليا بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها " لعلهم يتذكرون " أي يتفهمون ويعلمون ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان من الناس من كفر وخالف وعاند قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليا له وواعدا له بالنصر ومتوعدا لمن كذبه بالعطب والهلاك " فارتقب " أي انتظر " إنهم مرتقبون " أي فسيعلمون لمن تكون النصرة والظفر وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة فإنها لك يا محمد ولاخوانك من النبيين والمرسلين ومن اتبعكم من المومنين كما قال تعالى " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " الآية وقال تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " آخر تفسير سورة الدخان ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة الجاثية بسم الله الرحمان الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) إن في السماوات والارض لايات للمؤمنين (3) وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون (4) واختلاف اليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون (5) يرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه وقدرته العظيمة التي خلق بهما السموات الارض وما فيهما من المخلوقات المختلفة الاجناس والانواع من الملائكة والجن والانس والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات وما في البحر من الاصناف المتنوعة واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران هذا بظلامه وهذا بضيائه وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه وسماه رزقا لان به يحصل الرزق فأحيا به الارض بعد موتها أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شئ. وقوله عز وجل " وتصريف الرياح " أي جنوبا وشمالا ودبورا وصبا برية وبحرية ليلية ونهارية ومنها ما هو للمطر ومنها ما هو للقاح ومنها ما هو غذاء للارواح ومنها ما هو عقيم لا ينتج وقال سبحانه وتعالى أولا لآيات للمؤمنين ثم يوقنون ثم يعقلون وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى هذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى " إن في خلق السموات الارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لآيات لقوم يعقلون " وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا عن وهب بن منبه أثرا طويلا غريبا في خلق الانسان من الاخلاط الاربعة والله أعلم تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون (6) ويل لكل أفاك أثيم (7) يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم (8) وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين (9) من ورائهم جهنم ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا
[ 160 ]
من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم (10) هذا هدى والذين كفروا بأيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم (11) يقول تعالى " تلك آيات الله " يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات " نتلوها عليك بالحق " أي متضمنة الحق من الحق فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ ثم قال تعالى " ويل لكل أفاك أثيم " أي أفاك في قوله كذاب حلاف مهين أثيم في فعله وقلبه كافر بأيات الله ولهذا قال " يسمع آيات الله تتلى عليه " أي تقرأ عليه " ثم يصر " أي على كفره وجحوده استكبارا وعنادا " كأن لم يسمعها " أي كأنه ما سمعها فبشره بعذاب أليم أي فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذابا أليما موجعا " وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا " أي إذا حفظ شيئا من القرآن كفر به واتخذه سخريا وهزوا " أولئك لهم عذاب مهين " أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ولهذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال " من ورائهم جهنم " أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة " ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا " أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم " ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء " أي ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئا " ولهم عذاب عظيم " ثم قال تبارك وتعالى " هذا هدى " يعني القرآن " والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم " وهو المؤلم الموجع والله سبحانه وتعالى أعلم. * الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12) وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه إن في ذالك لايات لقوم يتفكرون (13) قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون (14) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون (15) يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر " لتجري الفلك " وهي السفن فيه بأمره تعالى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها " ولتبتغوا من فضله " أي في المتاجو المكاسب " ولعلكم تشكرون " أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم من الاقاليم النائية والآفاق القاصية ثم قال عز وجل " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض " أي من الكواكب والجبال والبحار والانهار وجميع ما تنتفعون به أي الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ولهذا قال " جميعا منه " أي من عنده وحده لا شريك له في ذلك كما قال تبارك وتعالى " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تبارك وتعالى " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه " كل شئ هو من الله. وذلك الاسم فيه إسم من أسمائه فذلك جميعا منه ولا ينازعه فيه المنازعون واستيقن أنه كذلك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا الفريابي عن سفيان عن الاعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي أراكة قال سأل رجل عبد الله بن عمر قال مم خلق الخلق ؟ قال من النور والنار والظلمة والثرى قال وائت ابن عباس فاسأله فأتاه فقال له مثل ذلك فقال ارجع إليه فسله مم خلق ذلك كله ؟ فرجع إليه
[ 161 ]
فسأله فتلا " وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه " هذا أثر غريب وفيه نكارة " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " وقوله تعالى " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله " أي ليصفحوا عنهم ويتحملوا الاذى منهم وكان هذا في ابتداء الاسلام أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ليكون ذلك كالتأليف لهم ثم لما أصروا علن العناد شرع الله للمؤمنين الجلاء والجهاد. هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وقال مجاهد " لا يرجون أيام الله " لا ينالون نعم الله تعالى وقوله تبارك وتعالى " ليجزي قوما بما كانوا يكسبون " أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا فإن الله عز وجل مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ولهذا قال تعالى " من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون " أي تعودون إليه يوم القيامة فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها والله سبحانه وتعالى أعلم ولقد ءاتينا بنى إسرآءيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين (16) وءاتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (17) ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم الياء بعض والله ولى المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون (20) يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل من إنزال الكتب عليهم وإرسال الرسل إليهم وجعله الملك فيه ولهذا قال تبارك وتعالى " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات " أي من المآكل والمشارب " وفضلناهم على العالمين " أي في زمانهم " وآتيناهم بينات من الامر " أي حججا وبراهين وأدلة قاطعات فقامت عليهم الحجج ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة وإنما كان ذلك بغيا منهم على بعضهم بعضا " إن ربك " يا محمد " يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " أي سيفصل بينهم بحكمه العدل وهذا فيه تحذير لهذه الامة أن تسلك مسلكهم وأن تقصد منهجهم ولهذا قال جل وعلا " ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها " ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أي اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين وقال جل جلاله ههنا " ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض " أي وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضا فإنهم لا يزيدونهم إلا خسارا ودمارا وهلاكا " والله ولي المتقين " وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات. ثم قال عز وجل " هذا بصائر للناس " يعني القرآن " وهدى ورحمة لقوم يوقنون " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21) وخلق الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون (22) أفرءيت من اتخذ إلاهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون (23)
[ 162 ]
يقول تعالى لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال عز وجل " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " وقال تبارك وتعالى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات " أي عملوها وكسبوها " أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم " أي نساويهم بهم في الدنيا والآخرة " ساء ما يحكمون " أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الابرار والفجار في الدار الآخرة وفي هذه الدار قال الحافظ أبو يعلى حدثنا مؤمل بن إهاب حدثنا بكير بن عثمان التنوخي حدثنا الوضين بن عطاء عن يزيد بن مرثد الباجي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: إن الله تعالى بنى دينه على أربعة أركان فمن صبر عليهن ولم يعمل بهن لقي الله من الفاسقين قيل وما هن يا أبا ذر ؟ قال يسلم حلال الله لله وحرام الله لله وأمر الله لله ونهي الله لله لا يؤتمن عليهن إلا الله قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " كما أنه لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينال الفجار منازل الابرار " هذا حديث غريب من هذا الوجه وقد ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أنهم وجدوا حجرا بمكة في أس الكعبة مكتوب عليه: تعملون السيئات وترجون الحسنات أجل كما يجنى من الشوك العنب. وقد روى الطبراني من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن مسروق أن تميما الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات " ولهذا قال تعالى " ساء ما يحكمون " وقال عز وجل " وخلق الله السموات والارض بالحق " أي بالعدل " ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون " ثم قال جل وعلا " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " أي إنما يأتمر بهواه فمهما رآه حسنا فعله ومهما رآه قبيحا تركه وهذا قد يستدل به على المعتزلة في قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين وعن مالك فيما روي عنه من التفسير لا يهوى شيئا إلا عبده وقوله " وأضله الله على علم " يحتمل قولين " أحدهما " وأضله الله لعلمه أنه يستحق ذلك " والآخر " وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه والثاني يستلزم الاول ولا ينعكس " وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة " أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئا يهتدي به ولا يرى حجة يستضئ بها ولهذا قال تعالى " فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون " كقوله تعالى " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (24) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين (25) قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (26) يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا " أي ما ثم إلا هذه الدار يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد وتقوله الفلاسفة الالهيون منهم وهم ينكرون البداءة والرجعة وتقوله الفلاسفة الدهرية الدرية المنكرون للصانع المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شئ إلى ما كان عليه وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا " وما يهلكنا إلا الدهر " قال الله تعالى " وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " أي يتوهمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله
[ 163 ]
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الامر أقلب ليله ونهاره " وفي رواية " لا تسبوا الدهر فإن الله تعالى هو الدهر " وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا فقال: حدثنا أبو كريب حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا يميتنا ويحيينا فقال الله تعالى في كتابه " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر " ويسبون الدهر فقال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الامر أقلب الليل والنهار " وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن شريح بن النعمان عن ابن عيينة مثله ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعال يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر بيدي الليل والنهار " وأخرجه صاحبا الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله تعالى أستقرضت عبدي فلم يعطني وسبني عبدي يقول وادهراه وأنا الدهر " قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الائمة في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر فيسندون تلك الافعال إلى الدهر ويسبونه وإنما فاعلها هو الله تعالى فكأنهم إنما سبوا الله عز وجل لانه فاعل ذلك في الحقيقة فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار لان الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الافعال هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد والله أعلم. وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم الدهر من الاسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث وقوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات أي إذا استدل عليهم وبين لهم الحق وأن الله تعالى قادر على إعادة الابدان بعد فنائها وتفرقها ما كان حجتهم إلا ان قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقا قال الله تعالى " قل الله يحييكم ثم يميتكم " أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " أي الذي قدر على البداءة قادر على الاعادة بطريق الاولى والاخرى " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " " ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " أي إنما يجمعكم إلى يوم القيامة لا يعيدكم في الدنيا حتى تقولوا " ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين " " يوم يجمعكم ليوم الجمع " " لاي يوم أجلت ليوم الفصل " " وما نؤخره إلا لاجل معدود " وقال ههنا " ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " أي لا شك فيه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الاجساد قال الله تعالى " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرون ذلك سهلا قريبا. ولله ملك السموات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون (27) وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (38) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (39) يخبر تعالى أنه مالك السموات والارض والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ولهذا قال عز وجل ويوم تقوم الساعة " أي يوم القيامة " يخسر المبطلون " وهم الكافرون بالله الجاحدون بما أنزله على رسله من الآيات البينات والدلائل الواضحات. وقال ابن أبي حاتم قدم سفيان الثوري المدينة فسمع المعافري يتكلم ببعض ما يضحك به الناس فقال له يا شيخ
[ 164 ]
أما علمت أن لله تعالى يوما يخسر فيه المبطلون ؟ قال فما زالت تعرف في المعافري حتى لحق بالله تعالى. ذكره ابن أبي حاتم ثم قال تعالى " وترى كل أمة جاثية " أي على ركبها من الشدة والعظمة ويقال إن هذا إذا جئ بجهنم فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ويقول نفسي نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول لا أسألك اليوم إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني. وقال مجاهد وكعب الاحبار والحسن البصري " كل أمة جاثية " أي على الركب وقال عكرمة جاثية متميزة على ناحيتها وليس على الركب والاول أولى. قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم ". وقال إسماعيل بن أبي رافع المدني عن محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا في حديث الصور فيتميز الناس وتجثو الامم وهي التي يقول الله تعالى " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعي إلى كتابها وهذا فيه جمع بين القولين ولا منافاة والله أعلم. وقوله عز وجل " كل أمة تدعى إلى كتابها " يعني كتاب أعمالها كقوله جل جلاله " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " ولهذا قال سبحانه وتعالى " اليوم تجزون ما كنتم تعملون " أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها كقوله عز وجل " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الانسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره " ولهذا قال جلت عظمته " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " أي يستحضر جميع أعمالكم من غير زيادة ولا نقص كقوله جل جلاله " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " وقوله عز وجل " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء فيقابلون الملائكة الذين في ديوان الاعمال على ما بأيدي الكتبة مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم فلا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ثم قرأ " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (31) وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين (32) وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (33) وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين (34) ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحيوة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون (35) فلله الحمد رب السموات ورب الارض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (37) يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الاعمال الصالحة وهي الخالصة الموافقة للشرع فيدخلهم ربهم في رحمته وهي الجنة كما ثبت في الصحيح أن الله تعالى قال للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ذلك هو الفوز المبين أي البين الواضح. ثم قال تعالى " وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا أما قرئت عليكم آيات الله تعالى فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتم عن سماعها وكنتم قوما مجرمين في
[ 165 ]
أفعالكم مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب ؟ " وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها أي إذا قال لكم المؤمنون ذلك " قلتم ما ندري ما الساعة " أي لا نعرفها " إن نظن إلا ظنا " أي إن نتوهم وقوعها إلا توهما أي مرجوحا ولهذا قال " وما نحن بمستيقنين أي بمتحققين قال الله تعالى " وبدا لهم سيئات ما عملوا " أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة " وحاق بهم " أي أحاط بهم " ما كانوا به يستهزئون " أي من العذاب والنكال " وقيل اليوم ننساكم " أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم " كما نسيتم لقاء يومكم هذا " أي فلم تعملوا له لانكم لم تصدقوا به " ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة " ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والابل وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول بلى يا رب فيقول أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم أنساك كما نسيتني " قال الله تعالى " ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا " أي إنما جازيناكم هذا الجزاء لانكم اتخذتم حجج الله عليكم سخريا تسخرون وتستهزئون بها " وغرتكم الحياة الدنيا " أي خدعتكم فاطمأننتم إليها فأصبحتم من الخاسرين " ولهذا قال عز وجل " فاليوم لا يخرجون منها " أي من النار " ولا هم يستعتبون " أي لا يطلب منهم العتبى بل يعذبون بغير حساب ولا عتاب كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب. ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين قال " فلله الحمد رب السموات ورب الارض " أي المالك لهما وما فيهما ولهذا قال " رب العالمين " ثم قال جل وعلا " وله الكبرياء في السموات والارض قال مجاهد يعني السلطان أي هو العظيم الممجد الذي كل شئ خاضع لديه فقير إليه. وقد ورد في الحديث الصحيح " يقول الله تعالى العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما أسكنته ناري " رواه مسلم من حديث الاعمش عن أبي إسحاق عن الاغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه وقوله تعالى " وهو العزيز " أي الذي لا يغالب ولا يمانع " الحكيم " في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره تعالى وتقدس لا إله إلا هو آخر تفسير سورة الجاثية ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة الاحقاف بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم (2) ما خلقنا السموات والارض إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون (3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات أئتوني بكتاب من قبل هذا أو أثرة من علم إن كنتم صادقين (4) ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون (5) وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين (6) يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام والحكمة في الاقوال والافعال ثم قال تعالى " ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق " أي لا على وجه العبث والباطل " وأجل مسمى " أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص. وقوله
[ 166 ]
تعالى " والذين كفروا عما أنذروا معرضون " أي لاهون عما يراد بهم وقد أنزل الله تعالى إليهم كتابا وأرسل إليهم رسولا وهم معرضون عن ذلك كله أي وسيعلمون غب ذلك. ثم قال تعالى " قل " أي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره " أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض " أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الارض " أم لهم شرك في السموات " أي ولا شرك لهم في السموات ولا في الارض وما يملكون من قطمير إن الملك والتصرف كله إلا لله عز وجل فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به ؟ من أرشدكم إلى هذا ؟ من دعاكم إليه ؟ أهو أمركم به ؟ أم هو شئ اقترحتموه من عند أنفسكم ؟ ولهذا قال " ائتوني بكتاب من قبل هذا " أي هاتوا كتابا من كتب الله المنزلة على الانبياء عليهم الصلاة والسلام يأمركم بعبادة هذه الاصنام " أو أثارة من علم " أي دليل بين على هذا المسلك الذي سلكتموه " إن كنتم صادقين " أي لا دليل لكم لا نقليا ولا عقليا على ذلك ولهذا قرأ آخرون أو أثرة من علم أي أو علم صحيح تؤثرونه عن أحد ممن قبلكم كما قال مجاهد في قوله تعالى " أو أثارة من علم " أو أحد يأثر علما وقال العوفي عن ابن عباس أو بينة من الامر. وقال الامام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سفيان لا أعلم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أثرة من علم قال الخط. وقال أبو بكر بن عياش أو بقية من علم وقال الحسن البصري أو أثارة شئ يستخرجه فيثيره وقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وأبو بكر ابن عياش أيضا أو أثارة من علم يعني الخط وقال قتادة أو أثارة من علم خاصة من علم وكل هذه الاقوال متقاربة وهي راجعة إلى ما قلناه وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وأكرمه وأحسن مثواه. وقوله تبارك وتعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون " أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناما ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش لانها جماد حجارة صم، وقوله تبارك وتعالى " وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " كقوله عز وجل " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم وقال الخليل عليه الصلاة والسلام " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ". وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين (7) أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم (8) قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين (9) يقول عز وجل مخبرا عن المشركين في كفرهم وعنادهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الله بينات أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها يقولون هذا سحر مبين أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا " أم يقولون افتراه " يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل قل " إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا " أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة ولم يقدر أحد من أهل الارض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه كقوله تبارك وتعالى " قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته " وقال تعالى " ولو تقول علينا بعض الاقاويل * لاخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين " ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا " قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما
[ 167 ]
تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم " هذا تهديد لهم ووعيد أكيد وترهيب شديد. وقوله جل وعلا " وهو الغفور الرحيم " ترغيب لهم إلى التوبة والانابة أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب عليكم وعفا عنكم وغفر ورحم وهذه الآية كقوله عز وجل في سورة الفرقان " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما ". وقوله تبارك وتعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " أي لست بأول رسول طرق العالم بل قد جاءت الرسل من قبلي فما أنا بالامر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدون بعثتي إليكم فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الانبياء إلى الامم قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة " وما كنت بدعا من الرسل " ما أنا بأول رسول ولم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم غير ذلك. وقوله تعالى " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية نزل بعدها " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وهكذا قال عكرمة والحسن وقتادة إنها منسوخة بقوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قالوا ولما نزلت هذه الآية قال رجل من المسلمين هذا قد بين الله تعالى ما هو فاعل بك يا رسول الله فما هو فاعل بنا ؟ فأنزل الله تعالى " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار " هكذا قال والذي هو ثابت في الصحيح أن المؤمنين قالوا هنيئا لك يا رسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية وقال الضحاك " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا ؟ وقال أبو بكر الهذلي عن الحسن البصري في قوله تعالى " وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قال أما في الآخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة ولكن قال لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا أخرج كما أخرجت الانبياء عليهم الصلاة والسلام من قبلي ؟ أم أقتل كما قتلت الانبياء من قبلي ؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة ؟ وهذا القول هو الذي عول عليه ابن جرير وأنه لا يجوز غيره ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم فإنه بالنسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه. وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش إلى ماذا ؟ أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء وهى امرأة من نسائهم أخبرته وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت طار لهم في السكنى حين اقترعت الانصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله عنهما فاشتكى عثمان رضي الله عنهما عندنا فمرضناه حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله تعالى أكرمه ؟ " فقلت لا أدري بأبي أنت وأمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لارجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " قالت: فقلت والله لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنهما عينا تجري فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك عمله " فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم وفي لفظ له " ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به " وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ بدليل قولها فأحزنني ذلك وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعينهم كالعشرة ابن سلام والعميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. وقوله " إن اتبع إلا ما يوحى إلي " أي إنما أتبع ما ينزله الله علي من الوحي " وما أنا إلا نذير مبين " أي بين النذارة أمري ظاهر لكل ذي لب وعقل والله أعلم. قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله
[ 168 ]
لا يهدي القوم الظالمين (10) وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم (11) ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين (13) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (13) أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون (14) يقول تعالى " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن " أرأيتم إن كان " هذا القرآن " من عند الله وكفرتم به " أي ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله علي لابلغكموه وقد كفرتم به وكذبتموه " وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله " أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الانبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به. وقوله عز وجل " فآمن " أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته " واستكبرتم " أنتم عن اتباعه وقال مسروق فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " وهذا الشاهد اسم جنس يعم عبد الله بن سلام رضي الله عنه وغيره فإن هذه الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه وهذه كقوله تبارك وتعالى " وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين " وقال " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " قال مسروق والشعبي ليس بعبدالله بن سلام هذه الآية مكية وإسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه كان بالمدينة. رواه عنهما ابن جرير وابن أبي حاتم واختاره ابن جرير. وقال مالك عن أبي النضر عن عامر بن سعد عن أبيه قال ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لاحد يمشي على وجه الارض إنه من أهل الجنة إلا لعبدالله بن سلام رضي الله عنه قال وفيه نزلت " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله " رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث مالك به. وكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ويوسف بن عبد الله بن سلام وهلال بن يساف والسدي والثوري ومالك بن أنس وابن زيد أنهم كلهم قالوا: إنه عبد الله بن سلام. وقوله تعالى " وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه " أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والاماء وما ذاك إلا لانهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا وأخطؤا خطأ بينا كما قال تبارك وتعالى " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا " لو كان خيرا ما سبقونا إليه " وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم هو بدعة لانه لو كان خيرا لسبقونا إليه لانهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. وقوله تعالى " وإذ لم يهتدوا به " أي بالقرآن " فسيقولون هذا إفك قديم " أي كذب قديم أي مأثور عن الناس الاقدمين فينتقصون القرآن وأهله وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بطر الحق وغمط الناس " ثم قال تعالى " ومن قبله كتاب موسى " وهو التوراة " إماما ورحمة " وهذا كتاب " يعني القرآن " مصدق " أي لما قبله من الكتب " لسانا عربيا " أي فصيحا بينا واضحا " لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين " أي مشتمل على النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين. وقوله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " تقدم تفسيرها في سورة حم السجدة وقوله تعالى " فلا خوف عليهم " أي فيما يستقبلون " ولا هم يحزنون " على ما خلفوا " أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء
[ 169 ]
بما كانوا يعملون) أي الاعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم والله أعلم. ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (15) أولئك الذين نتقبل عنهم ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون (16) لما ذكر تعالى في الآية الاولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه عطف بالوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عز وجل " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقوله جل جلاله " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير " إلى غير ذلك فن الآيات الكثيرة. وقال عز وجل ههنا " ووصينا الانسان بوالديه إحسانا " أي أمرناه بالاحسان إليهما والحنو عليهما وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة أخبرني سماك بن حرب قال سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ونزلت هذه الآية " ووصينا الانسان بوالديه إحسانا " الآية ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه من حديث شعبة بإسناد نحوه وأطول منه " حملته أمه كرها " أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا من وحم وغشيان وثقل وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة " ووضعته كرها " أي بمشقة أيضا من الطلق وشدته " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". وقد استدل علي رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان " وفصاله في عامين وقوله تبارك وتعالى " والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وهو استنباط قوي صحيح ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم قال محمد بن إسحاق بن يسار عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن معمر بن عبد الله الجهني قال تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه فذكر ذلك له فبعث إليها فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها فقالت وما يبكيك فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط فيقضي الله سبحانه وتعالى في ما شاء فلما أتي بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها فبلغ ذلك عليا رضي الله عنه فأتاه فقال له ما تصنع ؟ قال ولدت تماما لستة أشهر وهل يكون ذلك ؟ فقال له علي رضي الله عنه أما تقرأ القرآن ؟ قال بلى قال أما سمعت الله عز وجل يقول " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقال " حولين كاملين " فلم نجده بقي إلا ستة أشهر قال: فقال عثمان رضي الله عنه والله ما فطنت بهذا علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها قال: فقال معمر فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه فلما رآه أبوه قال ابني والله لا أشك فيه قال وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة فما زالت تأكله حتى مات رواه ابن أبي حاتم وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله عز وجل " فأنا أول العابدين ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين لان الله تعالى يقول " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده " أي قوي وشب وارتجل " وبلغ أربعين سنة " أي تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه ويقال إنه لا يتغير غالبا عما يكون
[ 170 ]
عليه ابن الاربعين قال أبو بكر بن عياش عن الاعمش عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قلت لمسروق متى يؤخذ الرجل بذنوبه قال إذا بلغت الاربعين فخذ حذرك وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو عبد الله القواريري حدثنا عروة بن قيس الازدي وكان قد بلغ مائة سنة حدثنا أبو الحسن الكوفي عمر بن أوس قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " قال العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الانابة إليه وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه الله تعالى في أهل بيته وكتب في السماء أسير الله في أرضه " وقد روي هذا من غير هذا الوجه وهو في مسند الامام أحمد وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ثم تركتها حياء من الله عز وجل وما أحسن قول الشاعر: صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه * فلما علاه قال للباطل أبعد " قال رب أوزعني " أي ألهمني " أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه " أي في المستقبل " وأصلح لي في ذريتي " أي نسلي وعقبي " إني تبت إليك وإني من المسلمين " وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الاربعين أن يجدد التوبة والانابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد " اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها أتممها علينا " قال الله عز وجل " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة " أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا التائبون إلى الله المنيبون إليه المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار هم الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم فيغفر لهم الكثير من الزلل ونتقبل منهم اليسير من العمل من أصحاب الجنة أي هم في جملة أصحاب الجنة وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عز وجل من تاب إليه وأناب. ولهذا قال تعالى " وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا المعتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح الامين عليه الصلاة والسلام قال " يؤتي بحسنات العبد وسيئاته فيقتص بعضها ببعض فإن بقيت حسنة وسع الله تعالى له في الجنة " قال فدخلت على يزداد فحدث بمثل هذا قال: قلت فإن ذهبت الحسنة قال " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن عبد الاعلى الصنعاني عن المعتمر بن سليمان بإسناده مثله وزاد عن الروح الامين قال: قال الرب جل جلاله يؤتى بحسنات العبد وسيئاته فذكره وهو حديث غريب وإسناده جيد لا بأس به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سليمان بن معبد حدثنا عمرو بن عاصم الكلائي حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية عن أبي وحشية عن يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب وقال ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة فقال لي يوما لقد شهدت أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة والاشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده فقال قائل منهم إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه فقال علي رضي الله عنه كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى " أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن
[ 171 ]
سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون " قال والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثا قال يوسف فقلت لمحمد بن حاطب الله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه ؟ قال الله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه. والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين (17) أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين (18) ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون (19) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون (20) لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما وما لهم عنده من الفوز والنجاة عطف بحال الاشقياء العاقين للوالدين فقال " والذي قال لوالديه أف لكما " وهذا عام في كل من قال هذا ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبن بكر رضي الله عنهما فقوله ضعيف لان عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في ابن لابي بكر الصديق رضي الله عنهما وفى صحة هذا نظر والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما قاله ابن جريج وقال آخرون عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما وهذا أيضا قول السدي وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق فقال لوالديه " أف لكما " عقهما وقال ابن أبي حاتم حدثنا على بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء حدثنا يحيى بن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد أخبرني عبد الله بن المديني قال إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا وإن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أهرقلية ؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمه وكرامة لولده فقال مروان ألست الذي قال لوالديه أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك قال وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا كذبت ما فيه نزلت ولكن نزلت في فلان بن فلان ثم انتحب مروان ثم نزل عن المنبر حتى أتى باب حجرتها فجعل يكلمها حتى انصرف وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر فقال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدروا عليه فقال مروان إن هذا الذي أنزل فيه " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي " فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله عز وجل فينا شيئا من القرآن إلا أن الله تعالى أنزل عذري. " طريق أخرى " قال النسائي حدثنا علي بن الحسين حدثنا أمية بن خالد حدثنا شعبة عن محمد بن زياد قال لما
[ 172 ]
بايع معاوية رضي الله عنه لابنه قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما سنة هرقل وقيصر فقال مروان هذا الذي أنزل الله تعالى فيه " والذي قال لوالديه أف لكما " الآية فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض من لعنة الله. وقوله " أتعدانني أن أخرج " أي أبعث " وقد خلت القرون من قبلي " أي قد مضى الناس فلم يرجع منهم مخبر " وهما يستغيثان الله " أي يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لولدهما " ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين ". قال الله تعالى " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين " أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة وقوله " أولئك " بعد قوله " والذي قال " دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك وقال الحسن وقتادة هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمه سهل بن داود من طريق همام بن عمار حدثنا حماد بن عبد الرحمن حدثنا خالد الزبرقان العليمي عن سليم بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أربعة لعنهم الله تعالى من فوق عرشه وأمنت عليهم الملائكة مضل المساكين " قال خالد الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول هلم أعطيك فإذا جاءه قال ليس معي شئ " والذي يقول للماعون ابن (1) وليس بين يديه شئ والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا " غريب جدا وقوله تبارك وتعالى " ولكل درجات مما عملوا " أي لكل عذاب بحسب عمله " وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون " أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات النار تذهب سفالا ودرجات الجنة تذهب علوا. وقوله عز وجل " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنها ويقول إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم وبخهم وقرعهم " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " وقال أبو مجلز ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا فيقال لهم " أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا " وقوله عز وجل " فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون " فجوزوا من جنس عملهم فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق وتعاطوا الفسق والمعاصي جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون وهو الاهانة والخزي والآلام الموجعة والحسرات المتتابعة والمنازل في الدركات المفظعة أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله. * واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالاحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (21) قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (22) قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكن أراكم قوما تجهلون (23) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم (24) تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين (25) (1) بياض في الاصل والحديث غير محرر فليراجع في كتاب الحافظ ابن عساكر. (*)
[ 173 ]
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قوله " واذكر أخا عاد " وهو هود عليه الصلاة والسلام بعثه الله عز وجل إلى عاد الاولى وكانوا يسكنون الاحقاف جمع حقف وهو الجبل من الرمل قاله ابن زيد وقال عكرمة الاحقاف الجبل والغار وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الاحقاف واد بحضرموت يدعي برهوت تلقى فيه أرواح الكفار وقال قتادة ذكر لنا أن عادا كانوا حيا باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر. قال ابن ماجة " باب إذا دعا فليبدأ بنفسه " حدثنا الحسين بن علي على الخلال حدثنا أبي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا سفيان حدثنا علي بن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحمنا الله وأخا عاد " وقوله تعالى " وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه " يعني وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين كقوله عز وجل " فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفهما " وكقوله جل وعلا " فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " أي قال لهم هود ذلك فأجابه قومه قائلين " أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا " أي لتصدنا عن آلهتنا " فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعادا منهم وقوعه كقوله جلت عظمته " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " " قال إنما العلم عند الله " أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم وأما أنا فمن شأني أني أبلغكم ما أرسلت به " ولكني أراكم قوما تجهلون " أي لا تعقلون ولا تفهمون. قال الله تعالى " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم " أي لما رأوا العذاب مستقبلهم اعتقدوا أنه عارض ممطر ففرحوا واستبشروا به وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر قال الله تعالى " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " أي هو العذاب الذي قلتم فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين " تدمر " أي تخرب " كل شئ " من بلادهم مما من شأنه الخراب " بأمر ربها " أي بإذن الله لها في ذلك كقوله سبحانه وتعالى " ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " أي كالشئ البالي ولهذا قال عز وجل " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " أي قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية " كذلك نجزي القوم المجرمين " أي هذا حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف أمرنا وقد ورد حديث في قصتهم وهو غريب جدا من غرائب الحديث وأفراده قال الامام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال حدثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحارث البكري قال خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي يا عبد الله: إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال فحملتها فأتيت بها المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال رضي الله عنه متقلدا السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما شأن الناس ؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص رضى الله عنه وجها قال فجلست فدخل منزله أو قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فسلمت فقال صلى الله عليه وسلم " هل كان بينكم وبين تميم شئ ؟ " قلت نعم وكانت لنا الدائرة عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك فها هي بالباب فأذن لها فدخلت فقلت يا رسول الله إني رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك ؟ قال: قلت إن مثلي ما قال الاول: معزى حملت حتفها حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد قال لي " وما وافد عاد ؟ " وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه قلت إن عادا قحطوا فبعوا وفدا لهم يقال له قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا لا تبقى من عاد أحدا قال فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا قدر ما يجري
[ 174 ]
في خاتمي هذا حتى هلكوا قال أبو وائل وصدق وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة كما تقدم في سورة الاعراف. وقال الامام أحمد حدثنا هارون بن معروف أخبرنا ابن وهب أخبرنا عمرو أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يتبسم وقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه قالت يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب قد عذب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا " وأخرجاه من حديث ابن وهب " طريق أخرى " قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن المقدام بن شريح عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول " اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه فإن كشفه الله تعالى حمد الله عز وجل وإن أمطر قال اللهم صيبا نافعا " " طريق أخرى " قال مسلم في صحيحه حدثنا أبو بكر الطاهر أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدثنا عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به " قالت وإذا تخبلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سري عنه فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعله يا عائشة كما قال قوم عاد " فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا " وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورة الاعراف وهود بما أغنى عن إعادته ههنا ولله تعالى الحمد والمنة وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا إسماعيل بن زكريا الكوفي حدثنا أبو مالك بن مسلم الملائي عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فتح على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم ثم أرسلت عليهم في البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أو ديتنا وكان أهل البوادي فيها فألقى أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا قال عتت على خزانها حتى خرجت من خلال الابواب " والله سبحانه وتعالى أعلم. ولقد مكناهم فيما أن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (26) ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون (27) فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون (28) يقول تعالى ولقد مكنا الامم السالفة في الدنيا من الاموال والاولاد وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه " وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " أي وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " يعني أهل مكة قد أهلك الله الامم المكذبة بالرسل مما حولها
[ 175 ]
كعاد وكانوا بالاحقاف بحضرموت عند اليمن وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضا وقوله عز وجل " وصرفنا الآيات " أي بيناها وأوضحناها " لعلهم يرجعون * فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة " أي فهل نصروهم عند احتياجهم إليهم ؟ " بل ضلوا عنهم " أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم " وذلك إفكهم " أي كذبهم " وما كانوا يفترون " أي وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها والله أعلم. وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين (29) قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (30) يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب إليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين (32) قال الامام أحمد حدثنا سفيان حدثنا عمرو سمعت عكرمة عن الزبير " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " قال بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة " كادوا يكونون عليه لبدا " قال سفيان ألبد بعضهم على بعض كاللبد بعضه على بعض تفرد به أحمد وسيأتي من رواية ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس أنهم سبعة من جن نصيبين وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبن عوانة ح وقال الامام الشهير الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا إسماعيل القاضي أخبرنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم ؟ فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شئ حدث فاضربوا مشارق الارض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانطلقوا يضربون مشارق الارض ومغاربها يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم " فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا " وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن " وإنما أوحي إليه قول الجن رواه البخاري عن مسدد بنحوه وأخرجه مسلم عن شيبان بن فروج عن أبي عوانة به. ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث أبي عوانة وقال الامام أحمد أيضا حدثنا أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان الجن يستمعون الوحي فيسمعون الكلمة فيزيدون فيها عشرا فيكون ما سمعوا حقا وما زادوا باطلا وكانت النجوم لا يرمي بها قبل ذلك فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب فشكوا ذلك إلى إبليس فقال ما هذا إلا من أمر قد حدث فبث جنوده فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بين جبلي نخلة فأتوه فأخبروه فقال هذا الحدث الذي حدث في الارض ورواه الترمذي
[ 176 ]
والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث إسرائيل به وقال الترمذي حسن صحيح وهكذا رواه أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا بمثل هذا السياق بطوله وهكذا قال الحسن البصري إنه صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ودعائه إياهم إلى الله عز وجل وإبائهم عليه فذكر القصة بطولها وأورد ذلك الدعاء الحسن " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني ؟ إلى عدو بعيد يتجهمني أم إلى صديق قريب ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك أو يحل بي سخطك ولك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك " قال فلما انصرف عنهم بات بنخلة فقرأ تلك الليلة من القرآن فاستمعه الجن من أهل نصيبين وهذا صحيح ولكن قوله إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الايحاء كما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان بعد موت عمه وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره والله أعلم وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة " فلما سمعوه قالوا أنصتوا " قال صه وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فأنزل الله عز وجل " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين - إلى - ضلال مبين " فهذا مع الاول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة وإنما استمعوا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم وفوجا بعد فوج كما ستأتي بذلك الاخبار في موضعها والآثار مما سنوردها ههنا إن شاء الله تعالى وبه الثقة. فأما ما رواه البخاري ومسلم جميعا عن أبي قدامة عبيد الله بن سعيد السرخسي عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن مسعر بن ندام عن معن بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يقول سألت مسروقا من آذن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة استمعوا القرآن ؟ فقال حدثني أبوك يعني ابن مسعود رضي الله عنه أنه آذنته بهم شجرة فيحتمل أن يكون هذا في المرة الاولى ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما ويحتمل أن يكون في الاولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة أي أعلمته باجتماعهم والله أعلم ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم. قال الحافظ البيهقي وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل كما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. " ذكر الروايات عنه بذلك " قال الامام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا داود عن الشعبي وابن أبي زائدة أخبرنا داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد ؟ فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة بمكة فقلنا اغتيل ؟ استطير ؟ ما فعل ؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما كان في وجه الصبح أو قال في السحر إذا نحن به يجئ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فذكروا له الذي كانوا فيه فقال " إنه أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم " قال فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم قال: قال الشعبي سألوه الزاد قال عامر سألوه بمكة وكانوا من جن الجزيرة فقال " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما
[ 177 ]
يكون لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم قال فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن " وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه. وقال مسلم أيضا حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا داود وهو ابن أبي هند عن عامر قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن قال: فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الاودية والشعاب فقيل استطير ؟ اغتيل ؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال " أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن " قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال " كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " " طريق أخرى " عن ابن مسعود رضي الله عنه قال أبو جعفر بن جرير حدثني أحمد بن عبد الرحمن حدثني عمي حدثني يونس عن الزهري عن عبيد الله قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " بت الليلة أقرأ على الجن واقفا بالحجون " " طريق أخرى " فيها إنه كان معه ليلة الجن قال ابن جرير رحمه الله حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام قال: إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه وهو بمكة " من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل " فلم يحضر منهم أحد غيري قال فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط لي برجله خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بين وبينه حتى ما أسمع صوته ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر فانطلق فتبرز ثم أتاني فقال " ما فعل الرهط ؟ " قلت هم أولئك يا رسول الله فأعطاهم عظما وروثا زادا ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم. ورواه ابن جرير عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي زرعة وهب بن بن راشد عن يونس بن يزيد الايلي به. ورواه البيهقي في الدلائل من حديث عبد الله بن صالح كاتب الليث عن يونس به وقد روى إسحاق بن راهوايه عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكر نحو ما تقدم ورواه الحافظ أبو نعيم من طريق موسى بن عبيدة عن سعيد بن الحارث عن أبي المعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه فذكر نحوه أيضا. " طريق أخرى " قال أبو نعيم حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال حدثنا عفان وعكرمة قالا حدثنا معتمر قال: قال أبي حدثني أبو تميمة عن عمرو ولعله قد يكون قال البكالي يحدثه عمرو عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا حتى أتينا مكان كذا وكذا فخط لي خطا فقال " كن بين ظهر هذه لا تخرج منها فإنك إن خرجت منها هلكت " فذكر الحديث بطوله وفيه غرابة شديدة " طريق أخرى " قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا ابن ثور عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي أنه قال لابن مسعود رضي الله عنه حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن قال أجل قال فكيف كان ؟ فذكر الحديث وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خط عليه خطا وقال " لا تبرح منها " فذكر مثل العجاجة السوداء فغشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذعر ثلاث مرات حتى إذا كان قريبا من الصبح أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال " أنمت ؟ " فقلت لا والله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول " اجلسوا " فقال صلى الله عليه وسلم " لو خرجت لم آمن أن يتخطفك بعضهم " ثم قال صلى الله عليه وسلم " هل رأيت شيئا ؟ " قلت نعم رأيت رجالا سودا مستثفرين ثيابا بياضا قال صلى الله عليه وسلم " أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والمتاع الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة " فقلت يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا
[ 178 ]
عليه لحمه يوم أكل ولا ورثا إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت فلا يستنقين أحد منكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة " " طريق أخرى " قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو نصر بن قتاده قال أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي حدثنا روح بن صلاح حدثنا موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن نفرا من الجن خمسة عشر بني إخوة وبني عم يأتوني الليلة أقرأ عليهم القرآن " فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فخط لي خطا وأجلسني فيه وقال لي " لا تخرج من هذا " فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر في يده عظم حائل وروثة وحمة فقال " إذا ذهبت إلى الخلاء فلا تستنج بشئ من هؤلاء " قال فلما أصبحت قلت لاعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت فرأيت موضع مبرك ستين بعيرا. " طريق أخرى " قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس الاصم حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا عثمان بن عمر عن الشمر بن الريان عن أبي الجوزاء عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال انطلقت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخط لي خطا ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وزدان أنا أرحلهم عنك فقال " إني لن يجيرني من الله أحد ". " طريق أخرى " قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن أبي فزارة العبسي حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال لما كان ليلة الجن قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " أمعك ماء ؟ " قلت ليس معي ماء ولكن معي إداوة فيها نبيذ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تمرة طيبة وماء طهور " ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث ابن زيد به. " طريق أخرى " قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرنا ابن لهيعة عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عبد الله أمعك ماء " قال: معي نبيذ في إداوة قال صلى الله عليه وسلم " اصبب علي " فتوضأ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عبد الله شراب وطهور " تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد أورده الدارقطني من طريق آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه به. " طريق أخرى " قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرني أبي عن ميناء عن عبد الله رضي الله عنه قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فلما انصرف تنفس فقلت ما شأنك ؟ قال " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " هكذا رأيته في المسند مختصرا وقد رواه الحافظ أبو نعيم في كتابه دلائل النبوة فقال حدثنا سليمان بن أحمد بن أيوب حدثنا إسحاق بن إبراهيم وحدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي قالا حدثنا عبد الرزاق عن أبيه عن ميناء عن ابن مسعود قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن فتنفس فقلت مالك يا رسول الله ؟ قال " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " قلت استخلف قال " من ؟ " قلت أبا بكر قال فسكت ثم مضى ساعة فتنفس فقلت ما شأنك بأبي أنت وأمى يا رسول الله ؟ قال " نعيت إلي نفسي يا ابن مسعود " قلت فاستخلف قال من ؟ " قلت عمر فسكت ثم مضى ساعة ثم تنفس فقلت ما شأنك. قال " نعيت إلي نفسي " قلت فاستخلف قال صلى الله عليه وسلم " من ؟ " قلت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلن الجنة أجمعين أكتعين " وهو حديث غريب جدا وأحرى به أن لا يكون محفوظا وبتقدير صحته فالظاهر أن هذا بعد وفودهم إليه بالمدينة على ما سنورده إن شاء الله تعالى فإن في ذلك الوقت كان في آخر الامر لما فتحت مكة ودخل الناس والجان أيضا في دين الله أفواجا نزلت سورة " إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " وهي السورة التي نعيت نفسه الكريمة فيها إليه كما نص على ذلك ابن عباس رضي الله عنهما ووافقه عمر بن الخطاب رضى الله عنه عليه وقد ورد في ذلك حديث سنورده إن شاء الله تعالى عند تفسيرها والله أعلم وقد رواه أبو نعيم أيضا عن الطبراني عن محمد بن عبد الله الحضرمي عن علي بن الحسين بن أبي بردة عن يحيى بن سعيد الاسلمي عن حرب بن صبيح عن سعيد بن سلمة عن أبي مرة
[ 179 ]
الصنعاني عن أبي عبد الله الجدلي عن ابن مسعود رضى الله عنه فذكره وذكر فيه قصة الاستخلاف وهذا إسناد غريب وسياق عجيب. " طريق أخرى " قال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط حوله فكان أحدهم مثل سواد النحل وقال " لا تبرح مكانك فأقرئهم كتاب الله " فلما رأى المرعى قال كأنهم هؤلاء وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أمعك ماء ؟ " قلت لا قال: " أمعك نبيذ ؟ " قلت نعم فتوضأ به " طريق أخرى مرسلة " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الطهراني أخبرنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " قال هم اثنا عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رضي الله عنه " أنظرني حتى آتيك " وخط عليه خطا وقال " لا تبرح حتى آتيك " فلما خشيهم ابن مسعود رضي الله عنه كاد أن يذهب فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبرح فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لو ذهبت ما التقينا إلى يوم القيامة ". " طريق أخرى مرسلة أيضا " قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " قال ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من نينوى وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " إني أمرت أن أقرأ على الجن فأيكم يتبعني ؟ " فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ثم استتبعهم الثالثة فقال رجل يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذيل قال فدخل النبي صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون وخط عليه وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطا ليثبته بذلك قال فجعلت أهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم تلا القرآن فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال " اختصموا في قتيل فقضي بينهم بالحق " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فهذه الطرق كلها تدل عل أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل وشرع الله تعالى لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن لم يشعر بهم كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه وأما ابن مسعود رضي الله عنه فإنه لم يكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حال مخاطبته الجن ودعائه إياهم وإنما كان بعيدا منه ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم أحد سواه ومع هذا لم يشهد حال المخاطبة هذه طريقة البيهقي. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم لم يكن معه صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ولا غيره كما هو ظاهر سياق الرواية الاولى من طريق الامام أحمد وهي عند مسلم ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى والله أعلم كما روى ابن أبي حاتم في تفسير " قل أوحي إلي " من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين وتأوله البيهقي على أنه يقول فبتنا بشر ليلة بات بها قوم على غير ابن مسعود رضي الله عنه ممن لم يعلم بخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الجن وهو محتمل على بعد والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الاديب حدثنا أبو بكر الاسماعيلي أخبرنا الحسن بن سفيان حدثني سويد بن سعيد حدثنا عمرو بن يحي عن جده سعيد بن عمرو قال كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته فأدركه يوما فقال " من هذا ؟ " قال أنا أبو هريرة قال صلى الله عليه وسلم " ائتني بأحجار استنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة " فأتيته بأحجار في ثوبي فوضعتها إلى جنبه حتى إذا فرغ وقام اتبعته فقلت يا رسول الله ما بال العظم والروثة ؟ قال صلى الله عليه وسلم " أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما " أخرجه البخاري في صحيحه عن موسى بن إسماعيل عن عمرو بن يحيى بإسناده قريبا منه فهذا يدل مع ما تقدم على أنهم وفدوا عليه بعد ذلك. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يدل على تكرار ذلك.
[ 180 ]
وقد روي عن ابن عباس غير ما روي عنه أولا من وجه جيد فقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الحميد الحماني حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " الآية قال كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم. فهذا يدل على أنه قد روى القصتين. وقال ابن أبي حازم حدثنا علي بن الحسين حدثنا سويد بن عبد العزيز حدثنا رجل سماه عن ابن جريج عن مجاهد " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " الآية قال كانوا سبعة نفر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين وكانت أسماؤهم حسى وحسي ومنسى وساصر وناصر والارد وبيان والاحتم وذكر أبو حمزة الثمالي أن هذا الحي من الجن كان يقال لهم بنو الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم كانوا عامة جنود إبليس. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن ابن مسعود رضي الله عنه كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه من أصل نخلة وتقدم عنهم أنهم كانوا خمسة عشر. وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة وتقدم عنه أن اسم سيدهم وردان وقيل كانوا ثلثمائة وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثنى عشر ألفا فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في صحيحه حدثنا يحيى بن سليمان حدثني ابن وهب حدثني عمر هو ابن محمد قال إن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشئ قط إني لاظنه هكذا إلا كان كما يظن بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل فقال لقد أخطأ ظني أو أن هذا على دينه في الجاهلية أو لقد كان كاهنهم علي بالرجل فدعى له فقال له ذلك فقال ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم قال فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني قال كنت كاهنهم في الجاهلية قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك قال بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها * ويأسها من بعد إنكاسها * ولحقوها بالقلاص وأحلاسها قال عمر رضي الله عنه صدق بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله قال فوثب القوم فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ثم نادى يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي. هذا سياق البخاري وقد رواه البيهقي من حديث ابن وهب بنحوه ثم قال وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه وسائر الروايات تدل على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه والله أعلم. وهذا الذي قاله البيهقي هو المتجه وهذا الرجل هو سواد بن قارب وقد ذكرت هذا مستقصى في سيرة عمر رضي الله عنه فمن أراده فليأخذه من ثم ولله الحمد والمنة. وقال البيهقي حديث سواد بن قارب ويشبه أن يكون هذا هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المفسر من أصل سماعه أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الاصبهاني قراءة عليه حدثنا أبو جعفر أحمد بن موسى الحمار الكوفي بالكوفة حدثنا زياد بن يزيد بن بادويه ثنا أبو بكر القصري حدثنا محمد بن نواس الكوفي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال فلم يجبه أحد تلك السنة فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس أفيكم سواد بن قارب ؟ قال: فقلت يا أمير المؤمنين وما سواد بن قارب ؟ قال: فقال له عمر رضي الله عنه إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا قال بينما نحن كذلك إذ طلع سواد بن قارب قال فقال له عمر
[ 181 ]
رضي الله عنه يا سواد حدثنا ببدء إسلامك كيف كان قال سواد رضي الله عنه فإني كنت نازلا بالهند وكان لي رئي من الجن قال فبينا أنا ذات ليلة نائم إذ جاءني في منامي ذلك قال قم فافهم واعقل إن كنت تعقل قد بعث رسول من لؤي بن غالب ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتحساسها * وشدها العيس بأحلاسها تهوى إلى مكة تبغي الهدى * ما خير الجن كأنحاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى رأسها قال ثم أنبهتي فأفزعني وقال يا سواد بن قارب إن الله عز وجل بعث نبيا فانهض إليه تهتد وترشد فلما كان من الليلة الثانية أتاني فأنبهني ثم أنشأ يقول: عجبت للجن وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس قداماها كأذنابها فانهض إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى قابها فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فأنبهني ثم قال: عجبت للجن وتخبارها * وشدها العيس بأكوارها تهوي إلى مكة تبغي الهدى * ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم * ما مؤمنوا الجن ككفارها قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة وقع في قلبي حب الاسلام من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله قال فانطلقت إلى رحلي فشددته على راحلتي فما حللت تسعة ولا عقدت أخرى حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بالمدينة يعني مكة والناس عليه كعرف الفرس فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم قال " مرحبا بك يا سواد بن قارب قد علمنا ما جاء بك " قال: قلت يا رسول الله قد قلت شعرا فاسمعه مني قال صلى الله عليه وسلم " قل يا سواد " فقلت: أتاني رئي بعد ليل وهجعة * ولم يك فيما قد بلوت بكاذب ثلات ليال قوله كل ليلة * أتاك رسول من لؤي بن غالب فشمرت عن ساقي الازار ووسطت * بي الدعلب الوجناء بين السباسب فأشهد أن الله لا رب غيره * وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا ابن الاكرمين الاطايب فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما جاء شيب الذوائب وكن لى شفيعا يوم لا ذو شفاعة * سواك بمغن عن سواد بن قارب قال فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال لي " أفلحت يا سواد " فقال له عمر رضي الله عنه هل يأتيك رئيك الآن ؟ فقال " منذ قرأت القرآن لم يأتني ونعم العوض كتاب الله عز وجل من الجن " ثم أسنده البيهقي من وجهين آخرين. ومما يدل على وفادتهم إليه صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر إلى المدينة الحديث الذي رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن عبدة المصيصي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن أسلم أنه سمع أبا سلام يقول حدثني من حدثه عمرو بن غيلان الثقفي قال أتيت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقلت له حدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجن قال أجل قلت حدثني كيف كان شأنه ؟ فقال إن أهل الصفة أخذ كل رجل منهم رجل يعشيه وتركت فلم يأخذني أحد منهم فمر بي رسول الله
[ 182 ]
صلى الله عليه وسلم فقال " من هذا ؟ " فقلت أنا ابن مسعود فقال صلى الله عليه وسلم " ما أخذك أحد يعشيك ؟ " فقلت لا قال صلى الله عليه وسلم " فانطلق لعلي أجد لك شيئا " قال فانطلقنا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرة أم سلمة رضي الله عنها فتركني قائما ودخل إلى أهله ثم خرجت الجارية فقالت يا ابن مسعود إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجد لك عشاء فارجع إلى مضجعك، قال فرجعت إلى المسجد فجمعت حصباء المسجد فتوسدته والتففت بثوبي فلم ألبث إلا قليلا حتى جاءت الجارية قالت أجب رسول الله فاتبعتها وأنا أرجو العشاء حتى إذا بلغت مقامي خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عسيب من نخل فعرض به على صدري فقال صلى الله عليه وسلم " انطلق أنت معي حيث انطلقت ؟ " قلت ما شاء الله فأعادها علي ثلاث مرات كل ذلك أقول ما شاء الله فانطلق وانطلقت معه حتى أتينا بقيع الغرقد فخط صلى الله عليه وسلم بعصاه خطا ثم قال " اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك " ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه خلال النخل حتى إذا كان من حيث لا أراه ثارت قبله العجاجة السوداء ففرقت فقلت ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن أن هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه فأسعى إلى البيوت فأستغيث الناس فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا أبرح مكاني الذي أنا فيه فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول " اجلسوا " فجلسوا حتى كاد ينشق عمود الصبح ثم ثاروا وذهبوا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أنمت بعدي ؟ " فقلت لا ولقد فزعت الفزعة الاولى حتى رأيت أن آتي البيوت فأستغيث الناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وكنت أظنها هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه فقال " لو أنك خرجت من هذه الحلقة ما أمنت عليك أن يختطفك بعضهم فهل رأيت من شئ منهم " ؟ فقلت رأيت رجالا سودا مستثفرين بثياب بيض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أولئك وفد جن نصيبين أتوني فسألوني الزاد والمتاع فمتعتهم بكل عظم حائل أو روثة أو بعرة " قلت فما يغني عنهم ذلك قال صلى الله عليه وسلم " إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها الذي كان فيها يوم أكلت فلا يستنقي أحد منكم بعظم ولا بعرة " وهذا إسناد غريب جدا ولكن فيه رجل مبهم لم يسم والله تعالى أعلم وقد روى الحافظ أبو نعيم من حديث بقية بن الوليد حدثني نمير بن زيد القنبر حدثنا أبي حدثنا قحافة بن ربيعة حدثني الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال " أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة ؟ " فأسكت القوم ثلاثا فمر بي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى حبست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض برازا فإذا برجال طوال كأنهم الرماح مستثفرين بثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة ثم ذكر نحو حديث ابن مسعود المتقدم وهذا حديث غريب والله أعلم. ومما يتعلق بوفود الجن ما رواه الحافظ أبو نعيم حدثنا أبو محمد بن حبان حدثنا أبو الطيب أحمد بن روح حدثنا يعقوب الدورقي حدثنا الوليد بن بكير التميمي حدثنا حصين بن عمر أخبرني عبيد المكتب عن إبراهيم قال خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا في بعض الطريق إذا هم بحية تنثني على الطريق أبيض ينفح منه ريح المسك فقلت لاصحابي امضوا فلست ببارح حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمر هذه الحية قال فما لبثت أن ماتت فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها ثم نحيتها عن الطريق فدفنتها وأدركت أصحابي في المتعشى قال فوالله إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمرا ؟ قلنا ومن عمرو ؟ قالت أيكم دفن الحية ؟ قال: فقلت أنا فقالت أما والله لقد دفنت صواما قواما يأمر بما أنزل الله تعالى ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته من السماء قبل أن يبعث بأربعمائة عام قال الرجل فحمدنا الله تعالى ثم قضينا حجتنا ثم مررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة فأنبأته بأمر الحية فقال صدقت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة " وهذا حديث غريب جدا والله أعلم. قال أبو نعيم: وقد روى الثوري عن أبي إسحاق عن الشعبي عن رجل من ثقيف بنحوه وروى عبد الله بن أحمد والطبراني عن صفوان بن المعطل هو الذي نزل ودفن تلك الحية من بين الصحابة وأنهم قالوا إنه آخر التسعة موتا الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن وروى أبو
[ 183 ]
نعيم من حديث الليث بن سعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه عن معاذ بن عبد الله بن معمر قال كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء رجل فقال يا أمير المؤمنين إني كنت بفلاة من الارض فذكر أنه رأى ثعبانين اقتتلا ثم قتل أحدهما الآخر قال فذهبت إلى المعترك فوجدت حيات كثيرة مقتولة وإذ ينفح من بعضها ريح المسك فجعلت أشمها واحدة واحدة حتى وجدت ذلك من حية صفراء رقيقة فلففتها في عمامتي ودفنتها فبينا أنا أمشي إذ ناداني مناد: يا عبد الله لقد هديت هذان حيان من الجن بنو شعيان وبنو قيس التقوا فكان من القتلى ما رأيت واستشهد الذي دفنته وكان من الذين سمعوا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال عثمان لذلك الرجل إن كنت صادقا فقد رأيت عجبا وإن كنت كاذبا فعليك كذبك وقوله تبارك وتعالى " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن " أي طائفة من الجن " يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا " أي استمعوا وهذا أدب منهم وقد قال الحافظ البيهقي حدثنا الامام أبو الطيب سهل بن محمد بن سليمان أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الله الدقاق حدثنا محمد بن إبراهيم البوشنجي حدثنا هشام بن عمار الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال " مالي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلا قالوا: ولا بشئ من آلائك أو نعمك ربا نكذب فلك الحمد " ورواه الترمذي في التفسير عن أبي مسلم عبد الرحمن بن واقد عن الوليد بن مسلم به قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن فذكره ثم قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد عن زهير كذا قال وقد رواه البيهقي من حديث مروان بن محمد الطاطري عن زهير بن محمد به مثله وقوله عز وجل " فلما قضى " أي فرغ كقوله تعالى " فإذا قضيت الصلاة " " فقضاهن سبع سموات في يومين " " فإذا قضيتم مناسككم " " ولوا إلى قومهم منذرين " أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جل وعلا " ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر وليس فيهم رسل ولا شك أن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولا لقوله تعالى " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " وقال عز وجل " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " وقال عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم فمن ذريته وسلالته فأما قوله تبارك وتعالى في الانعام " يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم " فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الانس كقوله " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " أي أحدهما ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم فقال مخبرا عنهم " قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى " ولم يذكروا عيسى لان عيسى عليه السلام أنزل عليه الانجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة فالعمدة هو التوراة فلهذا قالوا أنزل من بعد موسى وهكذا قال ورقة بن نوفل حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه عليه الصلاة والسلام أول مرة فقال بخ بخ هذا الناموس الذي كان يأتي موسى يا ليتني أكون فيها جذعا " مصدقا لما بين يديه " أي من الكتب المنزلة على الانبياء قبله وقولهم " يهدي إلى الحق " أي في الاعتقاد والاخبار " وإلى طريق مستقيم " في الاعمال فإن القرآن مشتمل على شيئين خبر وطلب فخبره صدق وطلبه عدل كما قال تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " وقال سبحانه وتعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق " فالهدى هر العلم النافع ودين الحق هو العمل الصالح وهكذا قالت الجن " يهدي إلى الحق " في الاعتقادات " وإلى طريق مستقيم " أي في العمليات " يا قومنا أجيبوا داعي الله " فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والانس حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهى سورة الرحمن ولهذا قال " أجيبوا داعي الله وآمنوا به " وقوله تعالى
[ 184 ]
" يغفر لكم من ذنوبكم " قيل إن ههنا زائدة وفيه نظر لان زيادتها في الاثبات قليل وقيل إنها على بابها للتبغيض " ويجركم من عذاب أليم " أي ويقيكم من عذابه الاليم. وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ولهذا قالوا هذا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الايمان أعلى من هذا لاوشك أن يذكروه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي قال حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا يدخل مؤمنو الجن الجنة لانهم من ذرية إبليس ولا تدخل ذرية إبليس الجنة والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الانس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " وفي هذا الاستدلال نظر وأحسن منه قوله جل وعلا " ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الانس فقالوا ولا بشئ من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم وأيضا فإنه إذا كان يجازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلان يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الاولى والاحرى. ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " وما أشبه ذلك من الآيات. وقد أفردت هذه المسألة في جزء على حدة ولله الحمد والمنة وهذه الجنة لا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله تعالى لها خلقا أفلا يسكنها من آمن به وعمل له صالحا وما ذكروه ههنا من الجزاء على الايمان من تكفير الذنوب والاجارة من العذاب الاليم هو يستلزم دخول الجنة لانه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ولو صح لقلنا به والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه " يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى " ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة فكذلك هؤلاء.. وقد حكي فيهم أقوال غريبة فعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا ومن الناس من قال لا يأكلون في الجنة ولا يشربون وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضا عن الطعام والشراب كالملائكة لانهم من جنسهم وكل هذه الاقوال فيها نظر ولا دليل عليها ثم قال مخبرا عنهم " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الارض " أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة به " وليس لهم من دونه أولياء " أي لا يجيرهم منه أحد " أولئك في ضلال مبين " وهذا مقام تهديد وترهيب فدعوا قومهم بالترغيب والترهيب ولهذا نجع في كثير منهم وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفودا وفودا كما تقدم بيانه ولله الحمد والمنة والله أعلم. أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والارض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شئ قدير (33) ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (34) فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون (35) يقول تعالى أو لم ير هؤلاء المنكرون للبعث يوم القيامة المستبعدون لقيام الاجساد يوم المعاد " أن
[ 185 ]
الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن " أي ولم يكرثه خلقهن بل قال لها كوني فكانت بلا ممانعة ولا مخالفة بل طائعة مجيبة خائفة وجلة أفليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى ؟ كما قال عز وجل في الآية الاخرى " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ولهذا قال تعالى بلى إنه على كل شئ قدير. ثم قال جل جلاله مهددا ومتوعدا لمن كفر به " ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق " أي يقال لهم أما هذا حق أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ؟ " قالوا بلى وربنا " أي لا يسعهم إلا الاعتراف " قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " ثم قال تبارك وتعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " أي على تكذيب قومهم لهم وقد اختلفوا في تعداد أولي العزم على أقوال وأشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الانبياء كلهم محمد صلى الله عليه وسلم قد نص الله تعالى على أسمائهم من بين الانبياء في آيتين من سورتي الاحزاب والشورى وقد يحتمل أن يكون المراد بأولي العزم جميع الرسل فتكون " من " في قوله من الرسل لبيان الجنس والله أعلم وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحجاج الحضرمي حدثنا السري بن حيان حدثنا عباد بن عباد حدثنا مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: قالت لي عائشة رضي الله عنها ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال " يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل " وإني والله لاصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله " " ولا تستعجل لهم " أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تبارك وتعالى " فذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا " وكقوله تعالى " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " " كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " كقوله جل وعلا " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " وكقوله عز وجل " ويوم نحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم " الآية وقوله جل وعلا " بلاغ " قال ابن جرير يحتمل معنيين " أحدهما " أن يكون تقديره وذلك لبث بلاغ " وآخر " أن يكون تقديره هذا القرآن بلاغ. وقوله تعالى " فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " أي لا يهلك على الله إلا هالك. وهذا من عدله عز وجل أنه لا يعذب إلا من يستحق العذاب والله أعلم. آخر تفسير سورة الاحقاف ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة محمد بسم الله الرحمن الرحيم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم (1) والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم (2) ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم (3) يقول تعالى " الذين كفروا " أي بآيات الله " وصدوا " غيرهم " عن سبيل الله أضل أعمالهم " أي أبطلها وأذهبها ولم يجعل لها ثوابا ولا جزاء كقوله تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " ثم قال جل وعلا " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنت قلوبهم وسرائرهم وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم
[ 186 ]
وظواهرهم " وآمنوا بما نزل على محمد " عطف خاص على عام وهو دليل على أنه شرط في صحة الايمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم وقوله تبارك وتعالى " وهو الحق من ربهم " جملة معترضة حسنة ولهذا قال جل جلاله " كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم " قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي أمرهم وقال مجاهد: شأنهم وقال قتادة وابن زيد حالهم والكل متقارب وقد جاء في حديث تشميت العاطس " يهديكم الله ويصلح بالكم " ثم قال عز وجل " ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل " أي إنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الابرار وأصلحنا شؤونهم لان الذين كفروا اتبعوا الباطل أي اختاروا الباطل على الحق " وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم " أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه في معادهم والله سبحانه وتعالى أعلم. فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم (4) سيهديهم ويصلح بالهم (5) ويدخلهم الجنة عرفها لهم (6) يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (7) والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم (8) ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم (9) يقول تعالى مرشدا للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب " أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف " حتى إذا أثخنتموهم " أي أهلكتموهم قتلا " فشدوا الوثاق " الاسارى الذين تأسرونهم ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشارطونهم عليه والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الاسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء والتقليل من القتل يومئذ فقال " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الاسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى " فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " الآية رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وقال الآخرون وهم الاكثرون ليست بمنسوخة ثم قال بعضهم إنما الامام مخير بين المن على الاسير ومفاداته فقط ولا يجوز له قتله وقال آخرون منهم بل له أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له " ما عندك يا ثمامة ؟ " فقال إن تقتل تقتل ذا دم وإن تمنن تمنن على شاكر وإن كنت تريد المال فاسأل تعط منه ما شئت وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال الامام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضا وهذه المسألة محررة في علم الفروع وقد دللنا على ذلك في كتابنا الاحكام ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة وقوله عز وجل " حتى تضع الحرب أوزارها " قال مجاهد حتى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال " وقال الامام أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل
[ 187 ]
ابن عياش عن إبراهيم بن سليمان عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال إن سلمة بن نفيل أخبرهم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى سيبت الخيل وألقيت السلاح ووضعت الحرب أوزارها وقلت لا قتال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " الآن جاء القتال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ألا إن عقد دار المؤمنين بالشام والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به وقال أبو القاسم البغوي حدثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد عن جبير بن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح قالوا يا رسول الله سيبت الخيل ووضعت السلاح ووضعت الحرب أوزارها قالوا لا قتال قال: " كذبوا الآن جاء القتال لا يزال الله تعالى يزيغ قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وعقد دار المسلمين بالشام " وهكذا رواه الحافظ أبو يعلي الموصلي عن داود بن رشيد به. والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم وهذا يقوي القول بعدم النسخ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب وقال قتادة " حتى تضع الحرب أوزارها " حتى لا يبقى شرك وهذا كقوله تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله " ثم قال بعضهم حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل وقيل أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى وقوله عز وجل " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم " أي هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده " ولكن ليبلو بعضكم ببعض " أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الاعداء ليختبركم وليبلو أخباركم كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " وقال تبارك وتعالي في سورة براءة " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم " ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال " والذي قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم " أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها. ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الامام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا زيد بن يحي الدمشقي حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي رجل كانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة ويرى مقعده من الجنة ويزوج من الحور العين ويأمن من الفزع الاكبر ومن عذاب القبر ويحلى حلة الايمان " تفرد به أحمد رحمه الله. " حديث آخر " قال أحمد أيضا حدثنا الحكم بن نافع حدثني إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه ويرى مقعده من الجنة ويحلى حلة الايمان ويزوج من الحور العين ويجار من عذاب القبر ويأمن من الفزع الاكبر ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه " وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجة وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يغفر للشهيد كل شئ إلا الدين " وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقال أبو الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته " ورواه أبو داود والاحاديث في فضل الشهيد كثيرة جدا. وقوله تبارك وتعالى " سيهديهم " أي إلى الجنة
[ 188 ]
كقوله تعالى " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم " وقوله عز وجل " ويصلح بالهم " أي أمرهم وحالهم (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) أي عرفهم بها وهداهم إليها قال مجاهد يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا وروى مالك عن زيد بن أسلم نحو هذا وقال محمد بن كعب يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل ابن حيان بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شئ أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه ذكره ابن أبي حاتم رحمه الله وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا ". ثم قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) كقوله عز وجل " ولينصرن الله من ينصره " فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى " يثبت أقدامكم " كما جاء في الحديث " من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة " ثم قال تبارك وتعالى " والذين كفروا فتعسا لهم " عكس تثبيت الاقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش " أي فلا شفاه الله عز وجل ". وقوله سبحانه وتعالى " وأضل أعمالهم " أي أحبطها وأبطلها ولهذا قال " ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله " أي لا يريدونه ولا يحبونه " فأحبط أعمالهم ". * أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها (10) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم (11) إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم (12) وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهكلناهم فلا ناصر لهم (13) يقول تعالى " أفلم يسيروا " يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله " في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم " أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم أي ونجى المؤمنين من بين أظهرهم ولهذا قال تعالى " وللكافرين أمثالها ". ثم قال (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) ولهذا لما قال أبو سفيان صخر بن حرب رئيس المشركين يوم أحد حين سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجب وقال أما هؤلاء فقد هلكوا وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال كذبت يا عدو الله بل أبقى الله تعالى لك ما يسوءك وإن الذين عددت لاحياء فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر والحرب سجال أما إنكم ستجدون مثلة لم آمر بها ولم أنه عنها ذهب يرتجز ويقول ثم * اعل هبل اعل هبل * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تجيبوه ؟ " قالوا يا رسول الله وما نقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم قولوا " الله أعلى وأجل " ثم قال أبو سفيان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تجيبوه ؟ " قالوا وما نقول يا رسول الله ؟ قال قولوا " الله مولانا ولا
[ 189 ]
مولى لكم " ثم قال سبحانه وتعالى " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار " أي يوم القيامة " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام " أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الانعام خضما وقضما وليس لهم همة إلا في ذلك ولهذا ثبت في الصحيح " المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " ثم قال تعالى " والنار مثوى لهم " أي يوم جزائهم وقوله عز وجل " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك " يعني مكة " أهلكناهم فلا ناصر لهم " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لاهل مكة في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الرسل وخاتم الانبياء فإذا كان الله عز وجل قد أهلك الامم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والاخرى ؟ فإن رفع عن كثير منهم العقوبة في الدنيا لبركة وجود الرسول نبي الرحمة فإن العذاب يوفر على الكافرين به في معادهم " يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون " وقوله تعالى " من قريتك التي أخرجتك " أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم وقال ابن أبي حاتم ذكر أبي عن محمد بن عبد الاعلى عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه فالتفت إلى مكة وقال " أنت أحب بلاد الله إلى الله وأنت أحب بلاد الله إلي ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك " فأعدي الاعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم ". أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم (14) مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم (15) يقول تعالى " أفمن كان على بينة من ربه " أي على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة " كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم " أي ليس هذا كهذا كقوله تعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " وكقوله تعالى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " ثم قال عز وجل " مثل الجنة التي وعد المتقون " قال عكرمة " مثل الجنة " أي نعتها " فيها أنهار من ماء غير آسن " قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة يعني غر متغير وقال قتادة والضحاك وعطاء الخراساني غير منتن والعرب تقول أسن الماء إذا تغير ريحه وفي حديث مرفوع أورده ابن أبي حاتم غير آسن يعني الصافي الذي لا كدر فيه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا وكيع عن الاعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: أنهار الجنة تفجر من جبل من مسك " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " أي بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة وفي حديث مرفوع " لم يخرج من ضروع الماشية " " وأنهار من خمر لذة للشاربين " أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا بل حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل " لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " " بيضاء لذة للشاربين " وفي حديث مرفوع " لم يعصرها الرجال بأقدامهم " " وأنهار من عسل مصفى " أي وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح وفي حديث مرفوع " لم يخرج من
[ 190 ]
بطون النحل " وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون اخبرنا الجريري عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقق الانهار منها بعد " ورواه الترمذي في صفة الجنة عن محمد بن يسار عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي إياس الجريري وقال حسن صحيح. وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة الايادي حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذه الانهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدع بعد أنهارا " وفي الصحيح " إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن " وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري وعبد الله بن الصفر السكري قالا حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا عبد الرحمن بن المغيرة حدثني عبد الرحمن بن عياش عن دلهم بن الاسود قال دلهم وحدثنيه أيضا أبو الاسود عن عاصم بن لقيط قال إن لقيط بن عامر خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم " على أنهار عسل مصفى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله وأزواج مطهرة " قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج مصلحات ؟ قال " الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد " وقال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا حدثنا يعقوب بن عبيد عن يزيد بن هارون أخبرني الجريري عن معاوية بن قرة عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجرى في أخدود في الارض والله إنها لتجري سائحة على وجه الارض حافاتها قباب اللؤلؤ وطينها المسك الاذفر. وقد رواه أبو بكر بن مردويه من حديث مهدي بن حكيم عن يزيد بن هارون به مرفوعا. وقوله تعالى " ولهم فيها من كل الثمرات " كقوله عز وجل " يدعون فيها بكل فاكهة آمنين " وقوله تبارك وتعالى " فيهما من كل فاكهة زوجان " وقوله سبحانه وتعالى " ومغفرة من ربهم " أي مع ذلك كله. وقوله سبحانه وتعالى " كمن هو خالد في النار " أي أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة كمن هو خالد في النار ؟ ليس هؤلاء كهؤلاء وليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات " وسقوا ماء حميما " أي حارا شديد الحر لا يستطاع " فقطع أمعاءهم " أي قطع ما في بطونهم من الامعاء والاحشاء عياذا بالله تعالى من ذلك. ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16) والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17) فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18) فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19) يقول تعالى مخبرا عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئا فإذا خرجوا من عنده " قالوا للذين أوتوا العلم من الصحابة " رضي الله عنهم " ماذا قال آنفا " أي الساعة لا يعقلون ما قال ولا يكترثون له. قال الله تعالى " أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا
[ 191 ]
أهواءهم " أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح ثم قال عز وجل (والذين اهتدوا زادهم هدى) أي والذين قصدوا الهداية وفقهم الله تعالى لها فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها " وآتاهم تقواهم " أي ألهمهم رشدهم. وقوله تعالى " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة " أي وهم غافلون عنها " فقد جاء أشراطها " أي أمارات اقترابها كقوله تبارك وتعالى " هذا نذير من النذر الاولى أزفت الآزفة " وكقوله جلت عظمته " اقتربت الساعة وانشق القمر " وقوله سبحانه وتعالى " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " وقوله جل وعلا " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " فبعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة لانه خاتم الرسل الذي أكمل الله تعالى به الدين وأقام به الحجة على العالمين وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها وأبان عن ذلك وأوضحه بما لم يؤته نبي قبله كما هو مبسوط في موضعه وقال الحسن البصري بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة وهو كما قال ولهذا جاء في أسمائه صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة ونبي الملحمة والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه والعاقب الذي ليس بعده نبي. وقال البخاري حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا أبو رجاء حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها " بعثت أنا والساعة كهاتين " ثم قال تعالى " فأني لهم إذا جاءتهم ذكراهم " أي فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ؟ كقوله تعالى " يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى ". " وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ". وقوله عز وجل " فاعلم أنه لا إله إلا الله " هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله ولا يتأتى كونه آمرا بعلم ذلك ولهذا عطف عليه قوله عز وجل " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت اعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ". وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت " وفي الصحيح أنه قال " يأيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " وقال الامام أحمد حدثنا بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم الاحول قال سمعت عبد الله بن سرخس قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلت معه من طعامه فقلت غفر الله لك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم " ولك " فقلت أستغفر لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم ولكم " وقرأ " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " ثم نظرت إلى بعض كتفه الايمن أو كتفه الايسر شعبة الذي شك فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن عاصم الاحول به وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو يعلى حدثنا محمد بن عون حدثنا عثمان بن مطر حدثنا عبد الغفور عن أبي نصر عن أبي رجاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فان إبليس قال إنما أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالاهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون " وفي الاثر المروي " قال إبليس وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله عز وجل وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني " والاحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جدا وقوله تبارك وتعالى " والله يعلم متقلبكم ومثواكم " أي يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم كقوله تبارك وتعالى " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " وقوله سبحانه وتعالى " وما من دابة في الارض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " وهذا القول ذهب إليه ابن جريج وهو اختيار ابن جرير وعن ابن عباس رضي الله عنهما متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة وقال السدي متقلبكم في الدنيا ومثواكم في قبوركم والاول أولى وأظهر والله أعلم.
[ 192 ]
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت فأولى لهم (20) طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21) فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم (22) أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23) يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد فلما فرضه الله عز وجل وأمر به نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا " وقال عز وجل ههنا " ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة " أي مشتملة على حكم القتال ولهذا قال " فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الاعداء. ثم قال مشجعا لهم " فأولى لهم طاعة وقول معروف " أي وكان الاولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا أي في الحالة الراهنة " فإذا عزم الامر " أي جد الحال وحضر القتال " فلو صدقوا الله " أي أخلصوا له النية " لكان خيرا لهم " وقوله سبحانه وتعالى " فهل عسيتم إن توليتم " أي عن الجهاد ونكلتم عنه " أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم " أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء تسفكون الدماء وتقطعون الارحام ولهذا قال تعالى (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وهذا نهى عن الافساد في الارض عموما وعن قطع الارحام خصوصا بل قد أمر الله تعالى بالاصلاح في الارض وصلة الارحام وهو الاحسان إلى الاقارب في المقال والافعال وبذل الاموال وقد وردت الاحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة قال البخاري حدثنا خالد بن مخلد حدثنا سليمان حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرحمن عز وجل فقال مه فقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت بلى قال فذاك لك " قال أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم " ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقرءوا إن شئتم " فهل عستم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم " ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به. وقال الامام أحمد حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل هو ابن علية به وقال الترمذي هذا حديث صحيح. وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا ميمون أبو محمد المراني حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سره النساء في الاجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه " تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيح. وقال أحمد أيضا حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حجاج ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي ذوي أرحام أصل ويقطعون وأعفو ويظلمون وأحسن ويسيئون أفأكافئهم ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لا إذن تتركون جميعا ولكن جد
[ 193 ]
بالفضل وصلهم فإنه لن يزال معك ظهير من الله عز وجل ما كنت على ذلك " تفرد به أحمد من هذا الوجه وله شاهد من وجه آخر. وقال الامام أحمد حدثنا يعلى حدثنا مطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرحم معلقة بالعرش وليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " رواه البخاري. وقال أحمد حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضع الرحم يوم القيامة لها حجبة كحجبة المغزل تكلم بلسان طلق ذلق فتقطع من قطعها وتصل من وصلها " وقال الامام أحمد حدثنا سفيان حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الارض يرحمكم أهل السماء والرحم شجنة من الرحمن من وصلها وصلته ومن قطعها بتته " وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به وهذا هو الذي يروي بتسلسل الاولية وقال الترمذي حسن صحيح. وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم ابن عبد الله بن فارض أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو مريض فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه وصلتك رحم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته أو قال من بتها أبته " تفرد به أحمد من هذا الوجه ورواه أحمد أيضا من حديث الزهري عن أبي سلمة عن المرداد أو أبي المرداد عن عبد الرحمن بن عوف به ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه والاحاديث في هذا كثيرة جدا وقال الطهراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا عيسى بن يونس عن الحجاج بن يونس عن الحجاج بن القرافصة عن أبي عمر البصري عن سليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الارواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا ظهر القول وحزن العمل وائتلفت الالسنة وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم " والاحاديث في هذا كثيرة والله أعلم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملي لهم (25) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم (26) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28) يقول تعالى آمرا بتدبر القرآن وتفهمه وناهيا عن الاعراض عنه فقال " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " أي بل على قلوب أقفالها فهي مطبقة لا يخلص إليها شئ من معانيه قال ابن جرير حدثنا بشر حدثنا حماد بن زيد حدثنا هشام بن عروة عن أبيه رضي الله عنه قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " فقال شاب من أهل اليمن بل عليها أقفالها حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به. ثم قال تعالى (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى) أي فارقوا الايمان ورجعوا إلى الكفر " من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم " أي زين لهم ذلك وحسنه " وأملى لهم " أي غرهم وخدعهم (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض
[ 194 ]
الامر) أي مالؤوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون ولهذا قال الله عز وجل " والله يعلم إسرارهم " أي ما يسرون وما يخفون الله مطلع عليه وعالم به كقوله تبارك وتعالى " والله يكتب ما يبيتون ". ثم قال تعالى (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعاصت الارواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب كما قال سبحانه وتعالى " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " الآية وقال تعالى " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم " أي بالضرب " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " ولهذا قال ههنا (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30) ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم (31) يقول تعالى (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذوو البصائر وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم وما يعتمدونه من الافعال الدالة على نفاقهم ولهذا كانت تسمى الفاضحة والاضغان جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للاسلام وأهله والقائمين بنصره. وقوله تعالى (ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) يقول عز وجل ولو نشاء يا محمد لاريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين سترا منه على خلقه وحملا للامور على ظاهر السلامة وردا للسرائر إلى عالمها " ولتعرفنهم في لحن القول " أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه وهو المراد من لحن القول كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه وفي الحديث " ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى جلبابها إن خيرا فخير وإن شرا فشر " وقد ذكرنا ما يستدل به على نفاق الرجل وتكلمنا على نفاق العمل والاعتقاد في أول شرح البخاري بما أغنى عن إعادته ههنا. وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين. قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سلمة بن عياض عن أبيه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال " إن منكم منافقين فمن سميت فليقم. - ثم قال - قم يا فلان قم يا فلان قم يا فلان - حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال إن فيكم أو منكم منافقين فاتقوا الله " قال فمر عمر رضي الله عنه برجل ممن سمي مقنع قد كان يعرفه فقال مالك ؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعدا لك سائر اليوم. وقوله عز وجل " ولنبلونكم " أي لنختبرنكم بالاوامر والنواهي " حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن أنه سيكون شك ولا ريب فالمراد حتى نعلم وقوعه ولهذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما في مثل هذا إلا لنعلم أي لنرى. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط
[ 195 ]
أعمالهم (32) * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم (33) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم (34) فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (35) يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله وخالف الرسول وشاقه وارتد عن الايمان من بعد ما تبين له الهدى أنه لن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها وسيحبط الله عمله فلا يثيبه على سالف من عمله الذي عقبه بردته مثقال بعوضة من خير بل يحبطه ويمحقه بالكلية كما أن الحسنات يذهبن السيئات. وقد قال الامام محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة حدثنا أبو قدامة حدثنا وكيع حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) فخافوا أن يبطل الذنب العمل ثم روى من طريق عبد الله ابن المبارك اخبرني بكر بن معروف عن مقاتل بن حيان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شئ من الحسنات إلا مقبول حتى نزلت " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم " فقلنا ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل قوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ونرجو لمن لم يصبها. ثم أمر تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للاعمال ولهذا قال تعالى " ولا تبطلوا أعمالكم " أي بالردة ولهذا قال بعدها " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم " كقوله سبحانه وتعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " الآية. ثم قال جل وعلا لعباده المؤمنين " فلا تهنوا " أي لا تضعفوا عن الاعداء " وتدعوا إلى السلم " أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم وكثرة عددكم وعدتكم ولهذا قال " فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون " أي في حال علوكم على عدوكم فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ورأى الامام في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك. وقوله جلت عظمته " والله معكم " فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الاعداء " ولن يتركم أعمالكم " أي ولن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئا والله أعلم. إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم (36) إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم (37) هأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم (38) يقول تعالى تحقيرا لامر الدنيا وتهوينا لشأنها " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو " أي حاصلها ذلك إلا ما كان منها لله
[ 196 ]
عز وجل ولهذا قال تعالى " وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم " أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئا وإنما فرض عليكم الصدقات من الاموال مواساة لاخوانكم الفقراء ليعود نفع ذلك عليكم ويرجع ثوابه إليكم. ثم قال جل جلاله " إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا " أي يحرجكم تبخلوا " ويخرج أضغانكم " قال قتادة: قد علم الله تعالى أن في إخراج الاموال إخراج الاضغان وصدق قتاده فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه. وقوله تعالى " ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل " أي لا يجيب إلى ذلك " ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه " أي إنما نقص نفسه من الاجر وإنما يعود وبال ذلك عليه " والله الغني " أي عن كل ما سواه وكل شئ فقير إليه دائما ولهذا قال تعالى " وأنتم الفقراء " أي بالذات إليه فوصفه بالغني وصف لازم له ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه. وقوله تعالى " وإن تتولوا " أي عن طاعته واتباع شرعه " يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولاوامره. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير حدثنا يونس بن عبد الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ثم قال " هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد وقد تكلم فيه بعض الائمة رحمة الله عليهم والله أعلم. آخر تفسير سورة القتال ولله الحمد والمنة. سورة الفتح قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة قال سمعت عبد الله بن مغفل يقول قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسيره سورة الفتح على راحلته فرجع فيها قال معاوية لولا أني أكره أن يجتمع الناس علينا لحكيت قراءته أخرجاه من حديث شعبة به. بسم الله الرحمن الرحيم إنا فتحنا لك فتحا مبينا (1) ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما (2) وينصرك الله نصرا عزيزا (3) نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه وحالوا بينه وبين ذلك ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل فأجابهم إلى ذلك على كره من جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل الله عز وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم وجعل ذلك الصلح فتحا باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الامر إليه كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية وقال الاعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا
[ 197 ]
يوم الحديبية. وقال البخاري حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا وقال الامام أحمد حدثنا نوح حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال فسألته عن شئ ثلاث مرات فلم يرد علي قال فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألححت كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك ؟ قال فركبت راحلتي فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل في شئ قال فإذا أنا بمناد يا عمر قال فرجعت وأنا أظن أنه نزل في شئ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: " إن فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالك رحمه الله وقال علي بن المديني هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا عندهم. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " مرجعه من الحديبية قال النبي صلى الله عليه وسلم " لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الارض " ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هنيئا مريئا يا نبي الله بين الله عز وجل ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار - حتى بلغ - فوزا عظيما " أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به. وقال الامام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا مجمع بن يعقوب قال سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن زيد الانصاري عن عمه مجمع بن حارثة الانصاري رضي الله عنه وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال شهدنا الحديبية فلما أنصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الاباعر فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس ؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم " أي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح " فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس أعطى الفارس سهمين وأعطى الراجل سهما ورواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا أبويحيى حدثنا شعبة حدثنا جامع بن شداد عن أبي عبد الرحمن بن أبي علقمة قال سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال: فقلنا أيقظوه فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي " قال وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي قال وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به. وقال الامام أحمد حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه فقالت له عائشة رضي الله عنها يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا " أخرجه مسلم في الصحيح من رواية
[ 198 ]
عبد الله بن وهب به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عون الخراز وكان ثقة بمكة حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه - أو قال ساقاه - فقيل له أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال " أفلا أكون عبدا شكورا " غريب من هذا الوجه فقوله " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " أي بينا ظاهرا والمراد به صلح الحديبية فإنه حصل بسببه خير جزيل وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض وتكلم المؤمن مع الكافر وانتشر العلم النافع والايمان وقوله تعالى " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره وليس في حديث صحيح في ثواب الاعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الاولين ولا من الآخرين وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الاطلاق وسيدهم في الدنيا والآخرة ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيما لاوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة " حبسها حابس الفيل " ثم قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها " فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له " إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك " أي في الدنيا والآخرة " ويهديك صراطا مستقيما " أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم (وينصرك الله نصرا عزيزا) أي بسبب خضوعك لامر الله عز وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك كما جاء في الحديث الصحيح " وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله عز وجل إلا رفعه الله تعالى " وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما عاقبت أحدا عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه. هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السموات والارض وكان الله عليما حكيما (4) ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما (5) ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا (6) ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا حكيما (7) يقول تعالى " هو الذي أنزل السكينة " أي جعل الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه الرحمة وقال قتادة الوقار في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيمانا مع إيمانهم وقد استدل بها البخاري وغيره من الائمة على تفاضل الايمان في القلوب ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين فقال سبحانه وتعالى " ولله جنود السموات والارض " أي ولو أرسل عليهم ملكا واحدا لاباد خضراءهم ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد والقتال لما له في ذلك من الحكمة البالغة والحجة القاطعة والبراهين الدامغة ولهذا قال جلت عظمته " وكان الله عليما حكيما ". ثم قال عز وجل (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها) قد تقدم حديث أنس رضي الله عنه حين قالوا هنيئا لك يا رسول الله هذا لك فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى " ليدخل المؤمنين
[ 199 ]
والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها " أي ماكثين فيها أبدا " ويكفر عنهم سيئاتهم " أي خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر " وكان ذلك عند الله فوزا عظيما " كقوله جل وعلا " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " الآية. وقوله تعالى (ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء) أي يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ولهذا قال تعالى " عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم " أي أبعدهم من رحمته " وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا " ثم قال عز وجل مؤكدا لقدرته على الانتقام من الاعداء أعداء الاسلام من الكفرة والمنافقين " ولله جنود السموات والارض وكان الله عزيزا حكيما ". إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (8) لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا (9) إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (10) يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (إنا أرسلناك شاهدا) أي على الخلق (ومبشرا) أي المؤمنين (ونذيرا) أي للكافرين وقد تقدم تفسيرها في سورة الاحزاب " لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه " قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد تعظموه " وتوقروه " من التوقير وهو الاحترام والاجلال والاعظام " وتسبحوه " أي تسبحون الله " بكرة وأصيلا " أي أول النهار وآخره، ثم قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتعظيما وتكريما " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " كقوله جل وعلا " من يطع الرسول فقد أطاع الله " " يد الله فوق أيديهم " أي هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم فهو تعالى هو المبايع بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا الفضل بن يحيى الانباري حدثنا علي بن بكار عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله " وحدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر " والله ليبعثنه الله عز وجل يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق فمن استلمه فقد بايع الله تعالى " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " ولهذا قال تعالى ههنا " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث والله غني عنه " ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما " أي ثوابا جزيلا وهذه البيعة هي بيعة الرضوان وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ قيل ألفا وثلثمائة وقيل وأربعمائة وقيل وخمسمائة والاوسط أصح. (ذكر الاحاديث الواردة في ذلك) قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عمرو عن جابر رضي الله عنه قال كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة.
[ 200 ]
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وأخرجاه أيضا من حديث الاعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يومئذ ألفا وأربعمائة ووضع يده في ذلك الماء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى رووا كلهم وهذا مختصر من سياق آخر حين ذكر قصة عطشهم يوم الحديبية وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاهم سهما من كنانته فوضعوه في بئر الحديبية فجاشت بالماء حتى كفتهم فقيل لجابر رضي الله عنه كم كنتم يومئذ ؟ قال كنا ألفا وأربعمائة ولو كنا مائة ألف لكفانا وفي رواية في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أنهم كانوا خمس عشرة مائة وروى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيب كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة قلت فإن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كانوا أربع عشرة مائه قال رحمه الله: وهم هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة. قال البيهقي هذه الرواية تدل على أنه كان في القديم يقول خمس عشرة مائة ثم ذكر الوهم فقال أربع عشرة مائة وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين والمشهور الذي رواه عنه غير واحد أربع عشرة مائة وهذا هو الذي رواه البيهقي عن الحاكم عن الاصم عن العباس الدوري عن يحيى بن معين عن شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ألفا وأربعمائة وكذلك هو الذي في رواية سلمة بن الاكوع ومعقل بن يسار البراء بن عازب رضي الله عنهم وبه يقول غير واحد من أصحاب المغازي والسير وقد أخرج صاحبا الصحيح من حديث شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه يقول: كان أصحاب الشجرة ألفا وأربعمائة وكانت أسلم يومئذ ثمن المهاجرين وروى محمد بن إسحاق في السيرة عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبعمائة رجل كل بدنة عن عشرة نفر وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فيما بلغني عنه يقول: كنا أصحاب الحديبية أربعة عشرة مائة كذا قال ابن إسحاق وهو معدود من أوهامه فإن المحفوظ في الصحيحين أنهم كانوا بضع عشرة مائة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. " ذكر سبب هده البيعة العظيمة " قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إنى أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني عثمان بن عفان رضي الله عنه نبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم إن شئت أن تطوف بالبيت فطف فقال ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول صلى الله عليه وسلم واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل قال ابن إسحاق فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل: " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة فكان الناس يقولون بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وكان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر فبايع الناس ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة فكان جابر رضي الله عنه يقول والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد صبأ إليها يستتر بها من الناس ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان
[ 201 ]
رضي الله عنه باطل وذكر ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قريبا من هذا السياق وذاد في سياقه أن قريشا بعثوا وعندهم عثمان رضي الله عنه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم عندهم إذ وقع كلام بين بعض المسلمين وبعض المشركين وتراموا بالنبل والحجارة وصاح الفريقان كلاهما وارتهن كل من الفريقين من عنده من الرسل ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوا فسار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت الشجرة فبايعوه على أن لا يفروا أبدا فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا من كان عندهم من المسلمين ودعوا إلى الموادعة والصلح وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار حدثنا هشام حدثنا الحسن بن بشير حدثنا الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايع الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله " فضرب بإحدى يديه على الاخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه خيرا من أيديهم لانفسهم. قال ابن هشام حدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن أبي مليكة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه فضرب بإحدى يديه على الاخرى وقال عبد الملك بن هشام النحوي فذكر وكيع عن إسماعيل بن أبى خالد عن الشعبي قال: إن أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الاسدي وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي خالد عن الشعبي قال لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة كان أول من انتهى إليه أبو سنان الاسدي فقال ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " علام تبايعني ؟ " فقال أبو سنان رضي الله عنه على ما في نفسك هذا أبو سنان بن وهب الاسدي رضي الله عنه. وقال البخاري حدثنا شجاع بن الوليد أنه سمع النضر بن محمد يقول حدثنا صخر بن الربيع عن نافع رضي الله عنه قال إن الناس يتحدثون أن ابن عمر رضي الله عنهما أسلم قبل عمر وليس كذلك ولكن عمر رضي الله عنه يوم الحديبية أرسل عبد الله إلى الفرس له عند رجل من الانصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر رضي الله عنه لا يدري بذلك فبايعه عبد الله رضي الله عنه ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يستلئم للقتال فاخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي يتحدث الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر رضي الله عنهما. ثم قال البخاري وقال هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عمرو بن محمد العمري أخبرني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في ظلال الشجر فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال يعني عمر رضي الله عنه يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم يبايعون فبايع ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه فخرج فبايع. وقد أسنده البيهقي عن أبي عمرو الاديب عن أبي بكر الاسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن دحيم حدثني الوليد بن مسلم فذكره وقال الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر رضي الله عنه أخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت رواه مسلم عن قتيبة عنه. وروى مسلم عن يحيى عن يزيد بن زريع عن خالد عن الحكم بن عبد الله الاعرج عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها على رأسه ونحن أربع عشرة مائة قال ولم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر. وقال البخاري حدثنا المكي بن إبراهيم عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الاكوع رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال يزيد قلت يا أبا مسلمة على أي شئ كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال على الموت وقال البخاري أيضا حدثنا أبو عاصم حدثنا يزيد ابن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ثم تنحيت فقال صلى الله عليه وسلم " يا سلمة ألا
[ 202 ]
تبايع ؟ " قلت قد بايعت قال صلى الله عليه وسلم " أقبل فبايع " فدنوت فبايعته قلت علام بايعته يا سلمة ؟ قال على الموت. وأخرجه مسلم من وجه آخر عن يزيد بن أبي عبيد وكذا روى البخاري عن عباد بن تميم أنهم بايعوه على الموت. وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو الفضل بن إبراهيم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة بن الاكوع رضي الله عنه قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أربع عشرة مائة وعليها خمسون شاة لا ترويها فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جباها يعني الركي فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. قال ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى البيعة في أصل الشجرة فبايعته أول الناس ثم بايع وبايع حتى إذا كان في وسط الناس قال صلى الله عليه وسلم " بايعني يا سلمة " قال: قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس قال صلى الله عليه وسلم " وأيضا " قال ورآني رسول الله صلى الله عليه وسلم عزلا فأعطاني حجفة أو درقة ثم بايع حتى إذا كان في آخر الناس قال صلى الله عليه وسلم " ألا تبايع يا سلمة ؟ " قال: قلت يا رسول الله قد بايعتك في أول الناس وأوسطهم قال صلى الله عليه وسلم " وأيضا " فبايعته الثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمة أين حجفتك أو درقتك التي أعطيتك ؟ " قال: قلت يا رسول الله لقيني عامر عزلا فأعطيتها إياه فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " إنك كالذي قال الاول اللهم ابغني حبيبا هو أحب إلي من نفسي " قال ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح حتى مشى بعضنا في بعض فاصطلحنا قال وكنت خادما لطلحة بن عبيدالله رضي الله عنه أسقي فرسه وأجنبه وآكل من طعامه وتركت أهلي ومالي مهاجرا إلى الله ورسوله فلما اصطلحنا نحن وأهل مكة واختلط بعضنا في بعض أتيت شجرة فكشحت شوكها ثم اضطجعت في أصلها في ظلها فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم فاخترطت سيفى فشددت على أولئك الاربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته ضغثا في يدي ثم قلت والذي كرم وجه محمد صلى الله عليه وسلم لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه قال ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وجاء عمي عامر برجل من العبلات يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناؤه " فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " الآية وهكذا رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه بسنده نحوه أو قريبا منه. وثبت في الصحيحين من حديث أبي عوانة عن طارق عن سعيد بن المسيب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال فانطلقنا من قابل حاجين فخفي علينا مكانها فإن كان بينت لكم فأنتم أعلم وقال أبو بكر الحميدي حدثنا سفيان حدثنا أبو الزبير حدثنا جابر رضي الله عنه قال لما دعا رسول الله الناس إلى البيعة وجدنا رجلا منا يقال له الجد بن قيس مختبئا تحت إبط بعيره رواه مسلم من حديث ابن جريج عن ابن الزبير به وقال الحميدي أيضا حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمع جابرا رضي الله عنه قال كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم خير أهل الارض اليوم " قال جابر رضي الله عنه: لو كنت أبصر لاريتكم موضع الشجرة قال سفيان إنهم اختلفوا في موضعها أخرجاه من حديث سفيان وقال الامام أحمد حدثنا يونس حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة " وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي حدثنا سعيد بن عمرو الاشعثي حدثنا محمد بن ثابت العبدي عن خداش بن عياش عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل من بايع تحت الشجرة كلهم الجنة إلا صاحب الجمل الاحمر " قال فانطلقنا نبتدره فإذا رجل قد أضل بعيره فقلنا تعال فبايع قال أصيب بعيري أحب إلي من أن أبايع وقال عبد الله بن أحمد حدثنا عبيدالله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا قرة عن
[ 203 ]
أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل " فكان أول من صعد خيل بني الخزرج ثم تبادر الناس بعد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الاحمر " فقلنا تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله لان أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم فإذا هو رجل ينشد ضالة رواه مسلم عن عبيدالله به وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا رضي الله عنه يقول أخبرتني أم مبشر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها " لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها أحد " قالت بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت حفصة رضي الله عنها " وإن منكم إلا واردها " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد قال الله تعالى " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " رواه مسلم وفيه أيضا عن قتيبة عن الليث عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: إن عبدا لحاطب بن أبي بلتعة جاء يشكو حاطبا فقال يارسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كذبت لا يدخلها فإنه قد شهد بدرا والحديبية " ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما " كما قال عز وجل في الآية الاخرى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ". سيقول لك المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا (11) بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا (12) ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا (13) ولله ملك السموات والارض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما (14) يقول تعالى مخبرا رسوله صلى الله عليه وسلم بما يعتذر به المخلفون من الاعراب الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذروا بشغلهم بذلك وسألوا أن يستغفر لهم الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك قول منهم لا على سبيل الاعتقاد بل على وجه التقية والمصانعة ولهذا قال تعالى " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا " أي لا يقدر أحدا أن يرد ما أراده الله فيكم تعالى وتقدس وهو العليم بسرائركم وضمائركم وإن صانعتمونا ونافقتمونا ولهذا قال تعالى " بل كان الله بما تعملون خبيرا " ثم قال تعالى (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا) أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص بل تخلف نفاق " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا " أي اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم وتستباد خضراؤهم ولا يرجع منهم مخبر " وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا " أي هلكى قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد وقال قتادة فاسدين وقيل هي لغة عمان. ثم قال تعالى (ومن لم يؤمن بالله ورسوله) أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله فإن الله تعالى سيعذبه في السعير وإن أظهر للناس ما يعتقدون خلاف ما هو عليه في نفس الامر. ثم بين تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السموات والارض " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما " أي لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه.
[ 204 ]
سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (15) يقول تعالى مخبرا عن الاعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى خيبر يفتحونها أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم وقد تخلفوا عن وقت محاربة الاعداء ومجالدتهم ومصابرتهم فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يأذن لهم في ذلك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الاعراب المتخلفين فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا ولهذا قال تعالى " يريدون أن يبدلوا كلام الله " قال مجاهد وقتادة وجويبر وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد هو قوله تعالى " فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين " وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر لان هذه الآية التي في براءة نزلت في غزوة تبوك وهي متأخرة عن عمرة الحديبية وقال ابن جريج " يريدون أن يبدلوا كلام الله " يعني بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد " قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل " أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم " فسيقولون بل تحسدوننا " أي أن نشرككم في المغانم " بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا " أي ليس الامر كما زعموا ولكن لا فهم لهم قل للمخلفين من الاعراب ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما (16) ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولا على المريض حرج ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما (17) اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين يدعون إليهم الذين هم أولو بأس شديد على أقوال " أحدها " أنهم هوازن رواه شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير أو عكرمة أو جميعا ورواه هشيم عن أبي بشر عنهما وبه يقول قتادة في رواية عنه " الثاني " ثقيف قاله الضحاك " الثالث " بنو حنيفة قاله جويبر ورواه محمد بن إسحاق عن الزهري وروى مثله عن سعيد وعكرمة " الرابع " هم أهل فارس رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه يقول عطاء ومجاهد وعكرمة في إحدى الروايات عنه وقال كعب الاحبار هم الروم وعن ابن أبي ليلى وعطاء والحسن وقتادة وهم فارس والروم وعن مجاهد هم أهل الاوثان وعنه أيضا هم رجال أولو بأس شديد ولم يعين فرقة وبه يقول ابن جريج وهو اختيار ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا الاشج حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق القواريري عن معمر عن الزهري في قوله تعالى " ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد " قال لم يأت أولئك بعد وحدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى " ستدعون إلى قوم أولى بأس شديد " قال هم البارزون قال وحدثنا سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما صغار الاعين ذلف الانوف كأن وجوههم المجان المطرقة " قال سفيان هم الترك قال ابن أبي عمر وجدت في مكان آخر حدثنا ابن
[ 205 ]
أبي خالد عن أبيه قال نزل علينا أبو هريرة رضي الله عنه ففسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " تقاتلوا قوما نعالهم الشعر " قال هم البارزون يعني الاكراد وقوله تعالى " تقاتلونهم أو يسلمون " يعني شرع لكم جهادهم وقتالهم فلا يزال ذلك مستمرا عليهم ولكم النصرة عليهم أو يسلمون فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار ثم قال عز وجل " فإن تطيعوا " أي تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه " يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل " يعني زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم " يعذبكم عذابا أليما ". ثم ذكر تعالى الاعذار في ترك الجهاد فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر وعارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول فهو في حال مرضه ملحق بذوي الاعذار اللازمة حتى يبرأ ثم قال تبارك وتعالى مرغبا في الجهاد وطاعة الله ورسوله " ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الانهار ومن يتول " أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش " يعذبه عذابا أليما " في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار والله تعالى أعلم. * لقد رضى الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (18) ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما (19) يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفا وأربعمائة وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية. قال البخاري حدثنا محمود حدثنا عبيدالله عن إسرائيل عن طارق أن عبد الرحمن رضي الله عنه قال انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون فقلت ما هذا المسجد ؟ قالوا هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها فقال سعيد إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأنتم أعلم. وقوله تعالى " فعلم ما في قلوبهم " أي من الصدق والوفاء والسمع والطاعة " فأنزل السكينة " وهي الطمأنينة " عليهم وأثابهم فتحا قريبا " وهو ما أجرى الله عز وجل على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام والمستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة ثم فتح سائر البلاد والاقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى (ومغانم كثيرة تأخذونها وكان الله عزيزا حكيما) قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا عبيدالله بن موسى يعني ابن عبيدة حدثني إياس بن سلمة عن أبيه قال. بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس قال فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " قال فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الاخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت ونحن ههنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف ". وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدى الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما (20) وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا (21) ولو قاتلكم الذين
[ 206 ]
كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا (22) سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا (24) قال مجاهد في قوله تعالى " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " هي جميع المغانم إلى اليوم " فعجل لكم هذه " يعني فتح خيبر وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما " فعجل لكم هذه " يعني صلح الحديبية " وكف أيدي الناس عنكم " أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم " ولتكون آية للمؤمنين " أي يعتبرون بذلك فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الاعداء مع قلة عددهم وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العالم بعواقب الامور وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر كما قال عز وجل " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " " ويهديكم صراطا مستقيما " أي بسبب انقيادكم لامره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله تبارك تعالى (وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شئ قديرا) أي وغنيمة أخرى وفتحا آخر معينا لم تكونوا تقدرون عليها قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم فإنه تعالى يرزق عباده المتقين له من حيث لا يحتسبون وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها فقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما هي خيبر وهذا على قوله في قوله عز وجل " فعجل لكم هذه " إنها صلح الحديبية وقاله الضحاك وابن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال قتادة هي مكة واختاره ابن جرير وقال ابن أبي ليلى والحسن البصري هي فارس والروم وقال مجاهد هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن سماك الحنفي عن ابن عباس رضي الله عنهما " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها " قال هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم وقوله تعالى (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا) يقول عز وجل مبشرا لعباده المؤمنين بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ولا نهزم جيش الكفر فارا مدبرا لا يجدون وليا ولا نصيرا لانهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين ثم قال تبارك وتعالى " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " أي هذه سنة الله وعادته في خلقه ما تقابل الكفر والايمان في موطن فيصل إلا نصر الله الايمان على الكفر فرفع الحق ووضع الباطل كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين نصرهم على أعدائه من المشركين مع قله عدد المسلمين وعددهم وكثرة المشركين وعددهم وقوله سبحانه وتعالى (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم وكان الله بما تعملون بصيرا) هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين حين كف أيدي المشركين عنهم فلم يصل إليهم منهم سوء. وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام بل صان كلا من الفريقين وأوجد بينهم صلحا فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة. وقد تقدم في حديث سلمة بن الاكوع رضي الله عنه حين جاءوا بأولئك السبعين الاسارى فأوثقوهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليهم فقال " أرسلوهم يكن لهم بدء الفجور وثناؤه " قال وفي ذلك أنزل الله عز وجل " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " الآية. وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة بالسلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا قال عفان فعفا عنهم ونزلت هذه الآية " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " ورواه مسلم وأبو داود في سننه والترمذي والنسائي في التفسير من
[ 207 ]
سننيهما من طرق عن حماد بن سلمة به. وقال أحمد أيضا حدثنا زيد بن الحباب حدثنا الحسين بن واقد حدثنا ثابت البناني عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال تعالى في القرآن وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهيل ابن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ": فأخد سهيل بيده وقال ما نعرف الرحمن الرحيم: اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: " اكتب باسمك اللهم - وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة " فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال لقد ظلمناك إن كنت رسوله اكتب في قضيتنا ما نعرف فقال: " اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله " فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الله تعالى بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل جئتم في عهد أحد ؟ أو هل جعل لكم أحد أمانا " ؟ فقالوا لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " الآية رواه النسائي من حديث حسين بن واقد به وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب العمي حدثنا جعفر عن ابن أبزى قال لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بالهدي وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمر رضي الله عنه يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع ؟ قال فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى مني فنزل بمنى فأتاه عينه أن عكرمة بن أبي جهل قد خرج عليك في خمسمائة فقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه " يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل " فقال خالد رضي الله عنه أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمي سيف الله فقال يا رسول الله ابعثني أين شئت فبعثه على خيل فلقي عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ثم عاد في الثانية فهزمه حتى أدخله حيطان مكة ثم عاد في الثالثة فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة - إلى قوله تعالى - عذابا أليما " قال فكف الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عنهم من بعد أن أظفره عليهم لبقايا من المسلمين كانوا أبقوا فيها كراهية أن تطأهم الخيل ورواه ابن أبي حاتم عن ابن أبزى بنحوه وهذا السياق فيه نظر فإنه لا يجوز أن يكون عام الحديبية لان خالدا رضي الله عنه لم يكن أسلم بل قد كان طليعة للمشركين يومئذ كما ثبت في الصحيح ولا يجوز أن يكون في عمرة القضاء لانهم قاضوه على أن يأتي في العام القابل فيعتمر ويقيم بمكة ثلاثه أيام ولما قدم صلى الله عليه وسلم لم يمانعوه ولا حاربوه ولا قاتلوه فإن قيل فيكون يوم الفتح فالجواب ولا يجوز أن يكون يوم الفتح لانه لم يسق عام الفتح هديا وإنما جاء محاربا مقاتلا في جيش عرمرم فهذا السياق فيه خلل وقد وقع فيه شئ فليتأمل والله أعلم. وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال إن قريشا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصحابه أحدا فأخذوا أخذا فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا عنهم وخلى سبيلهم وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل. قال ابن اسحاق وفي ذلك أنزل الله تعالى " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " الآية وقال قتادة ذكر لنا أن رجلا يقال له ابن زنيم اطلع على الثنية من الحديبية فرماه المشركون بسهم فقتلوه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأتوه باثني عشر من الكفار فقال لهم " هل لكم علي عهد ؟ هل لكم علي ذمة ؟ " قالوا لا فأرسلهم وأنزل الله تعالى في ذلك " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم " الآية. هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء
[ 208 ]
مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما (25) إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما (26) يقول تعالى مخبرا عن الكفار من مشركي العرب من قريش ومن مالاهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم الذين كفروا " أي هم الكفار دون غيرهم " وصدوكم عن المسجد الحرام " أي وأنتم أحق به وأنتم أهله في نفس الامر " والهدي معكوفا أن يبلغ محله " أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله وهذا من بغيهم وعنادهم وكان الهدي سبعين بدنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله عز وجل " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم خيفة على أنفسهم من قومهم لكنا سلطانكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل ولهذا قال تعالى " لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة " أي إثم وغرامة " بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء " أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين وليرجع كثير منهم إلى الاسلام. ثم قال تبارك وتعالى " لو تزيلوا " أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم " لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلا ذريعا قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أبو الزنباع روح بن الفرج حدثنا عبد الرحمن بن أبي عباد المكي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد مولى بني هاشم حدثنا حجر بن خلف قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت جنيد بن سبيع يقول قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما وفينا نزلت " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " قال كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن عباد المكي به وقال فيه عن أبي جمعة جنيد بن سبيع فذكره والصواب أبو جعفر حبيب بن سباع ورواه ابن أبي حاتم من حديث حجر بن خلف به وقال كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة وفينا نزلت " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي حمزة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " يقول لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذابا أليما بقتلهم إياهم. وقوله عز وجل " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " وذلك حين أبو ا أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم وأبو ا أن يكتبوا هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى " وهي قول لا إله إلا الله كما قال ابن جرير وعبد الله بن الامام أحمد حدثنا الحسن بن قزعة أبو علي البصري حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن ثور عن أبيه عن الطفيل يعني ابن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ألزمهم كلمه التقوى " - قال - لا إله إلا الله " وكذا رواه الترمذي عن الحسن بن قزعة وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه وسألت أبا زرعة عنه فلم يعرفه إلا من هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل " وأنزل الله عز وجل في كتابه وذكر قوما فقال " إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون " وقال جل ثناؤه " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله فاستكبروا عنها
[ 209 ]
واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قضية المدة وكذا رواه بهذه الزيادات ابن جرير من حديث الزهري والظاهر أنها مدرجة من كلام الزهري والله أعلم. وقال مجاهد كلمة التقوى الاخلاص وقال عطاء بن أبي رباح هي لا إله إلا الله حده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن المسور " وألزمهم كلمة التقوى " قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن عباية بن ربعي عن علي رضي الله عنه " وألزمهم كلمة التقوى " قال لا إله إلا الله والله أكبر وكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى " وألزمهم كلمة التقوى " قال يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى وقال سعيد بن جبير " وألزمهم كلمة التقوى " قال لا إله إلا الله والجهاد في سبيله وقال عطاء الخراساني هي لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن الزهري " وألزمهم كلمة التقوى " قال بسم الله الرحمن الرحيم وقال قتادة " وألزمهم كلمة التقوى " قال لا إله إلا الله " وكانوا أحق بها وأهلها " كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها " وكان الله بكل شئ عليما " أي هو عليم بمن يستحق الخير ممن يستحق الشر وقد قال النسائي حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثنا شبابة بن سوار عن أبي رزين عن عبد الله بن العلاء بن زبر عن بشر بن عبيدالله عن أبي إدريس (1) عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه كان يقرأ " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام " فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فأغلظ له فقال إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلمني مما علمه الله تعالى فقال عمر رضي الله عنه بل أنت رجل عندك علم وقرآن فاقرأ وعلم مما علمك الله تعالى ورسوله. " وهذا ذكر الاحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح " قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زيارة البيت لا يريد قتالا وساق معه الهدي سبعين بدنة وكان الناس سبعمائة رجل فكانت كل بدنة عن عشرة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر بن سفيان الكعبي فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل قد لبست جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس ؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الاسلام وهم وافرون وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة فماذا تظن قريش فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عز وجل أو تنفرد هذه السالفة " ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة قال فسلك بالجيش تلك الطريق فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش فخرج رسول الله حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته فقال الناس خلات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلات وما ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها " ثم قال صلى الله عليه وسلم للناس " انزلوا " قالوا يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس فأخرج رسول الله سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب فغرزه فيه فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحقه فاتهموهم قال محمد بن إسحاق قال (1) اسم الراوي (أبو ادريس) سقط من نسخة عيسى البابي الحلبي والصواب إتباعه. (*)
[ 210 ]
الزهري وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركها ومسلمها لا يخفون على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بمكة فقالوا وإن كان إنما جاء لذلك فوالله لا يدخلها أبدا علينا عنوة ولا يتحدث بذلك العرب ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص أحد بني عامر بن لؤي فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هذا رجل غادر " فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو مما تكلم به مع أصحابه ثم رجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إليه الحليس بن علقمة الكناني وهو يومئذ سيد الاحابيش فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هذا من قوم يتألهون فابعثوا الهدي " فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أو باره من طول الحبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى فقال يا معشر قريش لقد رأيت مالا يحل صد الهدي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله قالوا اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي فقال يا معشر قريش إنى قد رأيت ما يلقى منكم من تبعثون إلى محمد إذا جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ وقد عرفتم أنكم إلى والد وأنا ولد وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئت حتى آسيتكم بنفسي قالوا صدقت ما أنت عندنا بمتهم فخرج حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه فقال يا محمد جمعت أوباش الناس ثم جئت بهم لبيضتك لنقضها إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبدا وايم الله لكأني بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا قال وأبو بكر رضي الله عنه قاعد خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال امصص بظر اللات أنحن ننكشف عنه ؟ قال من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم " هذا ابن أبي قحافة " قال أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها ولكن هذه بها ثم تناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديد قال فقرع يده ثم قال أمسك يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل والله أن لا تصل إليك قال ويحك ما أفظك وأغلظك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من هذا يا محمد ؟ قال صلى الله عليه وسلم " هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة " قال أغدر وهل غسلت سوأتك إلا بالامس ؟ قال فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما كلم به أصحابه وأخبره أنه لم يأت يريد حربا قال فقام من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروه ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه فرجع إلى قريش فقال يا معشر قريش إنى جئت كسرى في ملكه وجئت قيصر والنجاشي في ملكهما والله ما رأيت ملكا قط مثل محمد صلى الله عليه وسلم في أصحابه ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ أبدا فروا رأيكم. قال وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بعث خراش بن أمية الخزاعي إلى مكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب فلما دخل مكة عقرت به قريش وأرادوا قتل خراش فمنعتهم الاحابيش حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة فقال يا رسول الله إنى أخاف قريشا على نفسي وليس بها من بني عدي أحد يمنعني وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكن أدلك على رجل هو أعز مني بها عثمان بن عفان رضي الله عنه قال فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثه يخبرهم أنه لم يأت لحرب أحد وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته فخرج عثمان رضي الله عنه حتى أتى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله بين يديه أردفه خلفه وأجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان رضي الله عنه إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به فقال ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال واحتبسته قريش عندها قال وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه قد قتل. قال محمد فحدثني الزهري أن قريشا بعثوا سهيل بن عمرو وقالوا إئت محمدا فصالحه ولا تلن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل " فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلما وأظالا الكلام وتراجعا حتى جرى بينهما الصلح فلما التأم الامر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر أو ليس
[ 211 ]
برسول الله ؟ أو لسنا بالمسلمين ؟ أو ليسوا بالمشركين ؟ قال بلى قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه الزم غرزه حيث كان فإني أشهد أنه رسول الله فقال عمر رضي الله عنه وأنا أشهد ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أو لسنا بالمسلمين ؟ أو ليسوا بالمشركين ؟ قال صلى الله عليه وسلم " بلى " قال فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني " ثم قال عمر رضي الله عنه ما زلت أصوم وأصلي وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ حتى رجوت أن يكون خيرا قال ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال اكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلى الله عليه 0 وسلم " أكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " فقال سهيل بن عمرو لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه بغير إذن وليه رده عليه ومن أتى قريشا ممن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا أسلال ولا أغلال وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب: أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا نحن في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم وأنك ترجع عنا عامنا هذا فلا تدخل علينا مكة وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فتدخلها بأصحابك وأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب لا تدخلها بغير السيوف في القرب فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب إذ جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه دخل الناس من ذلك أمر عظيم حتى كادوا أن يهلكوا فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وقال يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا قال " صدقت " فقام إليه فأخذ بتلابيبه قال وصرخ أبو جندل بأعلى صوته يا معشر المسلمين أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني ؟ قال فزاد الناس شرا إلى ما بهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدا وإنا لن نغدر بهم " قال فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل يمشي مع أبي جندل إلى جنبه ويقول اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب قال ويدني قائم السيف منه قال يقول رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه قال فضن الرجل بأبيه قال ونفذت القضية فلما فرغا من الكتاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يأيها الناس انحروا واحلقوا " قال فما قام أحد قال ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها فما قام رجل ثم عاد صلى الله عليه وسلم بمثلها فما قام رجل فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على أم سلمة رضي الله عنها فقال " يا أم سلمة ما شأن الناس ؟ " قالت يا رسول الله قد دخلهم ما رأيت فلا تكلمن منهم إنسانا واعمد إلى هديك حيث كان فانحره واحلق فلو قد فعلت ذلك فعل الناس ذلك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكلم أحدا حتى إذا أتى هديه فنحره ثم جلس فحلق قال فقام الناس ينحرون ويحلقون حتى إذا كان بين مكة والمدينة في وسط الطريق نزلت سورة الفتح هكذا ساقه أحمد من هذا الوجه وهكذا رواه يونس بن بكير وزياد البكائي عن أبي إسحاق بنحوه وقد رواه أيضا عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري به نحوه وخالفه في أشياء وفيه إغراب وقد رواه البخاري رحمه الله في صحيحه فساقه سياقة حسنة مطولة بزيادات جيدة فقال في كتاب الشروط من صحيحه حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنا معمر أخبرني الزهري أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه فلما أتى ذا الحلفية قلد الهدي وأشعره
[ 212 ]
وأحرم منها بعمرة وبعث عينا من خزاعة وسار حتى إذا كان بغير الاشطاط أتاه عينه فقال إن قريشا قد جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم " أشيروا أيها الناس علي أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت " وفي لفظ " ترون أن نميل على ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فإن يأتونا كان الله قد قطع عنقا من المشركين وإلا تركناهم محزونين " وفي لفظ " فإن قعدوا قعدوا موتورين مجهودين محزونين وإن نجو يكن عنقا قطعها الله عز وجل أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه " فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حربا فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه وفي لفظ فقال أبو بكر رضي الله عنه الله ورسوله علم إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فروحوا إذن " وفي لفظ " فامضوا على اسم الله تعالى " حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش فانطلق يركض نذيرا لقريش وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته فقال الناس حل حل فألحت فقالوا خلات القصواء خلات القصواء فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل - ثم قال صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها " ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبث الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع صلى الله عليه وسلم من كنانته سهما ثم أمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عدا مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره " قال بديل سأبلغهم ما تقول فانطلق حتى أتى قريشا فقال إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول: قال سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عروة بن مسعود فقال أي قوم ألستم بالوالد ؟ قالوا بلى قال أو لست بالولد ؟ قالوا بلى قال فهل تتهموني ؟ قالوا لا قال ألستم تعلمون أني استغفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني ؟ قالوا بلى قال فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودوني آته قالوا ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحوا من قوله لبديل بن ورقاء فقال عروة عند ذلك أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ وإن تك الاخرى فإني والله لارى وجوها وإني لارى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك فقال له أبو بكر رضي الله عنه امصص بظر اللات أنحن نفر وندعه ؟ قال من ذا ؟ قالوا أبو بكر قال أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لاجبتك قال وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فكلما كلمه أخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع عروة رأسه وقال من هذا ؟ قال المغيرة بن شعبة قال أي غدر ألست أسعى في غدرتك ؟ وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوما في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الاسلام فأقبل وأما المال فلست منه في شئ " ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه قال فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها
[ 213 ]
وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذ توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له صلى الله عليه وسلم فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل منهم من بني كنانة دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم " هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له " فبعثت له واستقبله الناس يلبون فلما رأى ذلك قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فلما رجع إلى أصحابه قال رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال دعوني آته فقالوا ائته فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم " هذا مكرز وهو رجل فاجر " فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو. وقال معمر أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم " قد سهل لكم من أمركم " قال معمر قال الزهري في حديثه فجاء سهيل بن عمرو فقال هات أكتب بيننا وبينك كتابا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه وقال " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل بن عمرو أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اكتب باسمك اللهم - ثم قال - هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله " قال الزهري وذلك لقوله " والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب فقال سهيل وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا لم نقض الكتاب بعد " قال فوالله إذا لا أصالحك على شئ أبدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فأجزه لي " قال ما أنا بمجيز ذلك لك قال " بلى فافعل " قال ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك قال أبو جندل أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله عز وجل قال عمر رضي الله عنه فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " بلى " قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال صلى الله عليه وسلم " بلى " قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري " قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال صلى الله عليه وسلم: " بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام " قلت لا قال صلى الله عليه وسلم " فإنك آتيه ومطوف به " قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال بلى قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق قلت أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام ؟ قلت لا قال فإنك تأتيه وتطوف به. قال الزهري قال عمر رضي الله عنه فعملت لذلك أعمالا قال فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " قوموا فانحروا ثم احلقوا " قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقى من الناس قالت له أم سلمة رضي الله عنها يا
[ 214 ]
نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بيده ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات " حتى بلغ " بعصم الكوافر " فطلق عمر رضي الله عنه يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير لاحد الرجلين والله إني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل والله إنه لجيد لقد جربت منه ثم جربت فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه " لقد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله تعالى منهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد " فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأنزل الله عز وجل " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة " حت بلغ " حمية الجاهلية " وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بينهم وبين البيت هكذا ساقه البخاري ههنا وقد أخرجه في التفسير وفي عمرة الحديبية وفي الحج وغير ذلك من حديث معمر وسفيان بن عيينة كلاهما عن الزهري به. ووقع في بعض الاماكن عن الزهري عن عروة بن مروان والمسور عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهذا أشبه والله أعلم ولم يسقه أبسط من ههنا وبينه وبين سياق ابن إسحاق تباين في مواضع وهناك فوائد ينبغي إضافتها إلى ما هنا ولذلك سقنا تلك الرواية وهذه والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. وقال البخاري في التفسير حدثنا أحمد بن إسحاق السلمي حدثنا يعلى حدثنا عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت قال أتيت أبا وائل أسأله فقال كنا بصفين فقال رجل ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم فقال سهل بن حنيف اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية يعني الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر رضي الله عنه فقال ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ؟ فقال " بلى " قال ففيما نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا " فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر رضي الله عنه فقال يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل ؟ فقال يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا فنزلت سورة الفتح. وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق اخر عن أبي وائل سفيان بن سلمة عن سهل بن حنيف به وفي بعض ألفاظه يا أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر على أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددته وفي رواية فنزلت سورة الفتح فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأها عليه وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: إن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سهيل بن عمرو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم فقال صلى الله عليه وسلم " اكتب من محمد رسول الله " قال لو نعلم أنك
[ 215 ]
رسول الله لاتبعناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اكتب من محمد بن عبد الله " واشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقال يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله " رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به وقال أحمد أيضا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عكرمة بن عمار قال حدثني سماك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال لما خرجت الحرورية اعتزلوا فقلت لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعلي رضي الله عنه " اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " قالوا لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " امح يا علي اللهم إنك تعلم أني رسولك امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله " والله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه ولم يكن محوه ذلك يمحوه من النبوة أخرجت من هذه ؟ قالوا نعم ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار اليمامي بنحوه وروى الامام أحمد عن يحيى بن آدم عن زهير بن حرب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة فيها جمل لابي جهل فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها. لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا (27) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا (28) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شئ حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: " بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ " قال لا قال النبي صلى الله عليه وسلم " فإنك آتيه ومطوف به " وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضا حذو القذة بالقذة ولهذا قال تبارك وتعالى " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله " هذا لتحقيق الخبر وتوكيده وليس هذا من الاستثناء في شئ. وقوله عز وجل " آمنين " أي في حال دخولكم وقوله " محلقين رؤوسكم ومقصرين " حال مقدرة لانهم في حال دخولهم لم يكونوا محلقين ومقصرين وإنما كان هذا في ثاني الحال كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " رحم الله المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " رحم الله المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " رحم الله المحلقين " قالوا والمقصرين يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " والمقصرين " في الثالثة أو الرابعة. وقوله سبحانه وتعالى: " لا تخافون " حال مؤكدة في المعنى فأثبت لهم الامن حال الدخول ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد لا يخافون من أحد وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم وخرج في صفر إلى خيبر ففتحها الله عليه بعضها عنوة وبعضها صلحا وهى إقليم عظيم كثير النخل والزروع فاستخدم من فيها من اليهود عليها على الشطر وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم ولم يشهدها أحد غيرهم إلا الذين قدموا من الحبشة جعفر بن أبي طالب وأصحابه وأبو موسى الاشعري وأصحابه رضي الله عنهم ولم يغب
[ 216 ]
منهم أحد قال ابن زيد إلا أبا دجانه سماك بن خرشة كما هو مقرر في موضعه ثم رجع إلى المدينة فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية فأحرم من ذي الحليفة وساق معه الهدي قيل كان ستين بدنة فلبى وسار أصحابه يلبون فلما كان صلى الله عليه وسلم قريبا من مر الظهران بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين فذهبوا فأخبروا أهل مكة فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص فقال يا محمد ما عرفناك تنقض العهد فقال صلى الله عليه وسلم " وما ذاك ؟ " قال دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح فقال صلى الله عليه وسلم " لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج ؟ " فقال بهذا عرفناك بالبر والوفاء وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظا وحنقا وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والوالدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فدخلها عليه الصلاة والسلام وبين يديه أصحابه يلبون والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية وعبد الله بن رواحة الانصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودها وهو يقول: باسم الذي لا دين إلا دينه * باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضربكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله * ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله * قد أنزل الرحمن في تنزيله في صحف تتلى على رسوله * بأن خير القتل في سبيله يا رب إنى مؤمن بقيله فهذا مجموع من روايات متفرقة قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء دخلها وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه آخذ بخطام ناقته صلى الله عليه وسلم وهو يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * إني شهيد أنه رسوله خلوا فكل الخير في رسوله * يا رب إني مؤمن بقيله نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضاء مشى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه بين يديه وفي رواية وابن رواحة آخذ بغرزه وهو رضي الله عنه يقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله بأن خير القتل في سبيله * يا رب إني مؤمن بقيله نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله اليوم نضربكم على تأويله * ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
[ 217 ]
وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن عبد الله يعني ابن عثمان عن أبي الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر الظهران في عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول ما يتباعثون من العجف فقال أصحابه لو انتحرنا من ظهرنا فاكلنا من لحمه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين ندخل على القوم وبنا جمامة قال صلى الله عليه وسلم لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم فجمعوا له وبسطوا الانطاع فأكلوا حتى تركوا وحشا كل واحد منهم في جرابه ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر فاضطجع صلى الله عليه وسلم بردائه ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة فاستلم الركن ثم رمل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الاسود فقالت قريش ما ترضون بالمشي أما إنكم لتنقرون نقر الظباء ففعل ذلك ثلاثة أشواط فكانت سنة قال أبو الطفيل فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. وقال أحمد أيضا حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن سعيد بن حبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءا فقال المشركون إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الاشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم قال فرملوا ثلاثة أشواط وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الاشواط كلها إلا إبقاء عليهم فقال المشركون أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمي قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا. أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به وفي لفظ قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم صبيحة رابعة يعني من ذي القعدة فقال المشركون إنه يقدم عليكم وفد وقد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الاشواط الثلاثة ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم قال البخاري وزاد ابن سلمة يعني حماد بن سلمة عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامه الذي استأمن قال " ارملوا " ليرى المشركين قوتهم والمشركون من قبل قعيقعان وحدثنا محمد حدثنا سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركون قوته ورواه في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن سفيان بن عيينة به. وقال أيضا حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد أنه سمع ابن أبي أوفى يقول لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم انفرد به البخاري دون مسلم وقال البخاري أيضا حدثنا محمد بن رافع حدثنا شريح بن النعمان حدثنا فليح وحدثني محمد بن الحسين بن إبراهيم حدثنا أبي حدثنا فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحال كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا عليهم إلا سيوفا ولا يقيم بها إلا ما أحبوا فاعتمر صلى الله عليه وسلم من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم فلما أن قام بها ثلاثا أمروه أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم أيضا. وقال البخاري أيضا حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله قالوا لا نقر بهذا ولو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا ولكن اكتب محمد بن عبد الله قال صلى الله عليه وسلم " أنا رسول الله وأنا محمد بن عبد الله " ثم قال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه " امح رسول الله " قال رضي الله عنه لا والله لا أمحوك أبدا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب " هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله أن لا يدخل مكة بالسلاح إلا بالسيف في القراب وأن لا يخرج من أهلها بأحد أراد أن يتبعه وأن لا يمنع من أصحابه أحدا إن اراد أن يقيم بها " فلما دخلها ومضى الاجل أتوا عليا فقالوا قل لصاحبك اخرج عنا فقد مضى الاجل فخرج النبي صلى الله عليه وسلم
[ 218 ]
فتبعته ابنة حمزة رضي الله عنه تنادي يا عم يا عم فتناولها علي رضي الله عنه فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك فحملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم فقال علي رضي الله عنه أنا أخذتها وهي ابنة عمي وقال جعفر رضي الله عنه ابنة عمي وخالتها تحتي وقال زيد رضي الله عنه ابنة أخي فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال " الخالة بمنزلة الام " وقال لعلي رضي الله عنه " أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر رضي الله عنه " أشبهت خلقي وخلقي " وقال صلى الله عليه وسلم لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " قال علي رضي الله عنه ألا تتزوج ابنة حمزة رضي الله عنه ؟ قال صلى الله عليه وسلم " إنها ابنة أخي من الرضاعة " تفرد به هذا الوجه. وقوله تعالى " فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " أي فعلم الله عز وجل من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم " فجعل من دون ذلك " أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتحا قريبا وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين ثم قال تبارك وتعالى مبشرا للمؤمنين بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم على عدوه وعلى سائر أهل الارض " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق " أي بالعلم النافع والعمل الصالح فإن الشريعة تشتمل على شيئين علم وعمل فالعلم الشرعي صحيح والعمل الشرعي مقبول فإخباراتها حق وإنشاآتها عدل " ليظهره على الدين كله " أي على أهل جميع الاديان من سائر أهل الارض من عرب وعجم ومسلمين ومشركين " وكفى بالله شهيدا " أي أنه رسوله وهو ناصره والله سبحانه وتعالى أعلم. محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما (29) يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب فقال " محمد رسول الله " وهذا مبتدأ وخبر وهو مشتمل على كل وصف جميل ثم ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال " والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " كما قال عز وجل " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار رحيما برا بالاخيار غضوبا عبوسا في وجه الكافر ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ". وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه: كلا الحديثين في الصحيح. وقوله سبحانه وتعالى " تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا " وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الاعمال ووصفهم بالاخلاص فيها لله عز وجل والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الاول كما قال جل وعلا " ورضوان من الله أكبر ". وقوله جل جلاله " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " قال علي بن أبي طلحة
[ 219 ]
عن ابن عباس رضي الله عنهما سيماهم في وجوههم يعني السمت الحسن وقال مجاهد وغير واحد يعني الخشوع والتواضع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن منصور عن مجاهد " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " قال الخشوع قلت ما كنت أراه إلا هذا الاثر في الوجه فقال ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال السدي الصلاة تحسن وجوههم وقال بعض السلف من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقد أسنده ابن ماجة في سننه عن إسماعيل بن محمد الصالحي عن ثابت بن موسى عن شريك عن الاعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه والغرض أن الشئ الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا محمود بن محمد المروزي حدثنا حامد بن آدم المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عبيدالله العرزمي عن سلمة بن كهيل عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر " العرزمي متروك. وقال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ". وقال الامام أحمد حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة " ورواه أبو داود عن عبد الله بن محمد النفيلي عن زهير به فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم. وقال مالك رضي الله عنه بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا وصدقوا في ذلك فإن هذه الامة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والاخبار المتداولة ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا " ذلك مثلهم في التوراة " ثم قال " ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه " أي فراخه " فآزره " أي شده " فاستغلظ " أي شب وطال " فاستوى على سوقه يعجب الزراع " أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع " ليغيظ بهم الكفار " ومن هذه الآية انتزع الامام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال لانهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك والاحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم والنهي عن التعرض بمساويهم كثيرة ويكفيهم ثناء الله عليهم ورضاه عنهم ثم قال تبارك وتعالى " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم " من هذه لبيان الجنس " مغفرة " أي لذنوبهم " وأجرا عظيما " أي ثوابا جزيلا ورزقا كريما ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الامة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل. قال مسلم في صحيحه حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " آخر تفسير سورة الفتح ولله الحمد والمنة.
[ 220 ]
سورة الحجرات بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم (1) يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون (2) إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم (3) هذه آيات أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والاعظام فقال تبارك وتعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " أي لا تسرعوا في الاشياء بين يديه أي قبله بل كونوا تبعا في جميع الامور حتى يدخل في عموم هذا الادب الشرعي. حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن " بم تحكم ؟ " قال بكتاب الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم " فإن لم تجد ؟ " قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم " فإن لم تجد ؟ " قال رضي الله عنه أجتهد رأيي فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " وقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة فالغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وقال العوفي عنه: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه وقال مجاهد لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ حتى يقضي الله تعالى على لسانه وقال الضحاك لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم. وقال سفيان الثوري " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " بقول ولا فعل وقال الحسن البصري " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " قال لا تدعوا قبل الامام وقال قتادة ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا لو صح كذا فكره الله تعالى ذلك وتقدم فيه " واتقوا الله " أي فيما أمركم به " إن الله سميع " أي لاقوالكم " عليم " بنياتكم. وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " هذا أدب ثان أدب الله تعالى به المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته وقد روى إنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وقال البخاري حدثنا يسرة بن صفوان اللخمي حدثنا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع وأشار الآخر برجل آخر قال نافع لا أحفظ اسمه فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما ما أردت إلا خلافي قال ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر رضي الله عنه - انفرد به دون مسلم. ثم قال البخاري حدثنا حسن بن محمد حدثنا حجاج عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه أمر القعقاع بن معبد
[ 221 ]
وقال عمر رضي الله عنه بل أمر الاقرع بن حابس فقال أبو بكر رضي الله عنه ما أردت إلا خلافي فقال عمر رضي الله عنه ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " حتى انقضت الآية " ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم " الآية. وهكذا رواه ههنا منفردا به أيضا. وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا الفضل بن سهل حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا حصين بن عمر عن مخارق عن طارق بن شهاب عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قلت يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار. حصين بن عمر هذا وإن كان ضعيفا لكن قد رويناه من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما بنحو ذلك والله أعلم. وقال البخاري حدثنا علي بن عبد الله حدثنا أزهر بن سعد أخبرنا ابن عون أنبأني موسى بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه فقال له ما شأنك ؟ فقال شركان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا قال موسى فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال " اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة " تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال الامام أحمد حدثنا هاشم حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله - وأنتم لا تشعرون " وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار حبط عملي وجلس في أهله حزينا ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك ؟ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي أنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا بل هو من أهل الجنة " قال أنس رضي الله عنه فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئسما تعودون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه. وقال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " إلى آخر الآية جلس ثابت رضي الله عنه في بيته قال أنا من أهل النار واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ " يا أبا عمرو ما شأن ثابت أشتكى ؟ " فقال سعد رضي الله عنه إنه لجاري وما علمت له بشكوى قال فأتاه سعد رضي الله عنه فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل هو من أهل الجنة " ثم رواه مسلم عن أحمد بن سعيد الدارمي عن حيان بن هلال عن سليمان بن المغيرة به قال ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وعن قطن ابن بشير عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس رضي الله عنه بنحوه وقال ليس فيه ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه حدثني هدبة بن عبد الاعلى الاسدي حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبى يذكر عن أنس رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة. فهذه الطرق الثلاث معللة لرواية حماد بن سلمة فيما تفرد به من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه. والصحيح أن حال نزول هذه الآية لم يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه موجودا لانه كان قد مات بعد بني قريظة بأيام قلائل سنة خمس وهذه الآية نزلت في وفد بني تميم والوفود إنما تواتروا في سنة تسع من الهجرة والله أعلم وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو ثابت بن ثابت بن قيس بن شماس حدثني عمي إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس عن أبيه رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية " لا ترفعوا
[ 222 ]
أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " قال قعد ثابت بن قيس رضي الله عنه في الطريق يبكي قال فمر به عاصم بن عدي من بني العجلان فقال ما يبكيك يا ثابت ؟ قال هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت في وأنا صيت رفيع الصوت قال فمضى عاصم بن عدي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وغلبه البكاء فأتى امرأته جميلة ابنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال لها إذا دخلت بيت فرشي فشدي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرج عطفه وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله تعالى أو يرضى عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأتى عاصم رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال " اذهب فادعه لي " فجاء عاصم رضي الله عنه إلى المكان فلم يجده فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقال اكسر الضبة قال فخرجا فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يبكيك يا ثابت ؟ " فقال رضي الله عنه أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ؟ " فقال رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنزل الله تعالى " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ". الآية. وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين كذلك فقد نهى الله عز وجل عن رفع الاصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف فقال لو كنتما من أهل المدينة لاوجعتكما ضربا. وقال العلماء يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام لانه محترم حيا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائما ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبة ممن عداه بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ولهذا قال تبارك وتعالى " ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض " كما قال تعالى " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ". وقوله عز وجل " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري كما جاء في الصحيح " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقى لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والارض " ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك امتحن الله قلوبهم للتقوى) أي أخلصها لها وجعلها أهلا ومحلا " لهم مغفرة وأجر غطيم " وقد قال الامام أحمد في كتاب الزهد حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد قال كتب إلى عمر يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب عمر رضي الله عنه إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ". إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4) ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم (5) أنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الاعراب فقال " أكثرهم لا يعقلون " ثم أرشد تعالى إلى الادب في ذلك فقال عز وجل (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم
[ 223 ]
لكان خيرا لهم) أي لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة. ثم قال جل ثناؤه داعيا لهم إلى التوبة والانابة (والله غفور رحيم) وقد ذكر أنها نزلت في الاقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه فيما أورده غير واحد قال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا موسى بن عقبة عن أبي سلمة بن عبدالرجمن عن الاقرع بن حابس رضي الله عنه أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد يا محمد وفي رواية يارسول الله فلم يجبه فقال يا رسول الله إن حمدي لزين وإن ذمي لشين فقال " ذاك الله عز وجل " وقال ابن جرير حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي حدثنا الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء في قوله تبارك وتعالى " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن حمدي زين وذمي شين فقال صلى الله عليه وسلم " ذاك الله عز وجل " وهكذا ذكره الحسن البصري وقتادة مرسلا. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة قال كان بشر بن غالب ولبيد بن عطارد أو بشر بن عطارد ولبيد بن غالب وهما عند الحجاج جالسان فقال بشر بن غالب للبيد بن عطارد نزلت في قومك بني تميم " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " قال فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير فقال أما إنه لو علم بآخر الآية أجابه " يمنون عليك أن أسلموا " قالوا أسلمنا ولم يقاتلك بنو أسد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبى حدثنا عمرو بن علي الباهلي حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت داود الطائي يحدث عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: اجتمع أناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به وإن يك ملكا نعش بجناحه قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاءوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته يا محمد يا محمد فأنزل الله تعالى " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها فجعل يقول " لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد لقد صدق الله قولك يا زيد " ورواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة عن المعتمر بن سليمان به. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8) يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله فيكون في نفس الامر كاذبا أو مخطئا فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الامر وقبلها آخرون لانا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق وهذا ليس بمحقق الفسق لانه مجهول الحال وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الامام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها قال الامام أحمد حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الاسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يارسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الاسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي
[ 224 ]
يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الا بان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسول ولم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم ؟ قالوا إليك قال ولم ؟ قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال رضي الله عنه لا والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ " قال لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله قال فنزلت الحجرات " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ - إلى قوله - حكيم " ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به غير أنه سماه الحارث بن سرار والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة فسمع بذلك القوم فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله قالت فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قالت فبلغ القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر فقالوا نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله بعثت إلينا رجلا مصدقا فسررنا بذلك وقرت به أعيننا ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه فأذن بصلاة العصر قالت ونزلت " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". وروى ابن جرير أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأخذ منهم الصدقات وأنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا شديدا فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول الله إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق وإنا خشينا إنما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا " إلى آخر الآية. وقال مجاهد وقتادة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك زاد قتادة وأنهم قد ارتدوا عن الاسلام فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلمنا جاءوا اخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالاسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " التثبت من الله والعجلة من الشيطان " وكذا ذكر غير
[ 225 ]
واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم في هذه الآية أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله أعلم. وقوله تعالى " واعلموا أن فيكم رسول الله " أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لامره فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم ورأيه فيكم أتم من رأيكم لانفسكم كما قال تبارك وتعالى " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال " لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم " أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لادى ذلك إلى عنتكم وحرجكم كما قال سبحانه وتعالى " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " وقوله عز وجل " ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم " أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم قال الامام أحمد حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الاسلام علانية والايمان في القلب - قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول - التقوى ههنا التقوى ههنا " " وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان " أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة وقوله تعالى " أولئك هم الراشدون " أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم. قال الامام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال لما كان يوم أحد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استووا حتى أثني على ربي عز وجل " فصاروا خلفه صفوفا فقال صلى الله عليه وسلم " اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والامن يوم الخوف اللهم إنى عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا اللهم حبب إلينا الايمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق " ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به وفي الحديث المرفوع " من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن " ثم قال (فضلا من الله ونعمة) أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه " والله عليم حكيم " أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره. وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10) يقول تعالى آمرا بالاصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
[ 226 ]
بينهما " فسماهم مؤمنين مع الاقتتال بهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الايمان بالمعصية وإن عظمت لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول " إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فكان كما قال صلى الله عليه وسلم أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة وقوله تعالى " فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله وتسمع للحق وتطيعه كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال صلى الله عليه وسلم: " تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه ". وقال الامام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر قال سمعت أبي يحدث أن أنسا رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال: إليك عني فوالله لقد آذانى ريح حمارك فقال رجل من الانصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك قال فغضب لعبدالله رجال من قومه فغضب لكل واحد منهما أصحابه قال فكان بينهم ضرب بالجريد والايدي والنعال فبلغنا أنه أنزلت فيهم " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " ورواه البخاري في الصلح عن مسدد ومسلم في المغازي عن محمد بن عبد الاعلى كلاهما عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه. وذكر سعيد بن جبير أن الاوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر بالصلح بينهما. وقال السدي كان رجلا من الانصار يقال له عمران كانت له امرأة تدعى أم زيد وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها. وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها لينطلقوا بها وإن الرجل كان قد خرج فاستعان أهل الرجل فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى وقوله عز وجل " فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " أي اعدلوا بينهما فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهو العدل " إن الله يحب المقسطين ". قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا عبد الاعلى عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا " ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبد الاعلى به وهذا إسناده جيد قوي رجاله على شرط الصحيح. وحدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا " ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به. وقوله تعالى (إنما المؤمنون إخوة) أي الجميع إخوة في الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه " وفي الصحيح " والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " وفي الصحيح أيضا " إذا دعا المسلم لاخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله " والاحاديث في هذا كثيرة وفي الصحيح " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وفي الصحيح أيضا " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا " وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وقال أحمد حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا عبد الله أخبرنا مصعب بن ثابت حدثني أبو حازم قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن من أهل الايمان بمنزلة
[ 227 ]
الرأس من الجسد يألم المؤمن لاهل الايمان كما يألم الجسد لما في الرأس " تفرد به أحمد ولا بأس بإسناده. وقوله تعالى " فأصلحوا بين أخويكم " يعني الفئتين المقتتلتين " واتقوا الله " أي في جميع أموركم " لعلكم ترحمون " وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه. يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11) ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " الكبر بطر الحق وغمص الناس - ويروى - وغمط الناس " والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ولهذا قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن " فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء. وقوله تبارك وتعالى " ولا تلمزوا أنفسكم " أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى " ويل لكل همزة لمزة " والهمز بالفعل واللمز بالقول كما قال عز وجل " هماز مشاء بنميم " أي يحتقر الناس ويهمزهم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال ولهذا قال ههنا " ولا تلمزوا أنفسكم " كما قال " ولا تقتلوا أنفسكم " أي لا يقتل بعضكم بعضا. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جيبر وقتادة ومقاتل بن حيان " ولا تلمزوا انفسكم " أي لا يطعن بعضكم على بعض. وقوله تعالى " ولا تنابزوا بالالقاب " أي لا تداعوا بالالقاب وهي التي يسوء الشخص سماعها. قال الامام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن الشعبي قال حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال فينا نزلت في بني سلمة " ولا تنابزوا بالالقاب " قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الاسماء قالوا يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت " ولا تنابزوا بالالقاب " ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهب عن داود به. وقوله جل وعلا " بئس الاسم الفسوق بعد الايمان " أي بئس الصفة والاسم الفسوق وهو التنابز بالالقاب كما كان أهل الجاهلية يتناعتون بعدما دخلتم في الاسلام وعقلتموه " ومن لم يتب " أي من هذا " فأولئك هم الظالمون ". يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12) يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن وهو التهمة والتخون للاهل والاقارب والناس في غير محله لان بعض ذلك يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه احتياطا. وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا. وقال أبو عبد الله ابن ماجة حدثنا أبو القاسم بن أبي ضمرة نصر بن محمد بن سليمان الحمصي حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي
[ 228 ]
قيس النضري حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول " ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا " تفرد به ابن ماجة من هذا الوجه وقال مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن العتبي عن مالك به وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام " رواه مسلم والترمذي وصححه من حديث سفيان بن عيينة به. وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله القرمطي العدوي حدثنا بكر بن عبد الوهاب المدني حدثنا إسماعيل ابن قيس الانصاري حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الرجال عن أبيه عن جده حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث لازمات لامتي: الطيرة والحسد وسوء الظن " فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم " إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض " وقال أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن زيد رضي الله عنه قال أتي ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له هذا فلان تقطر لحيته خمرا فقال عبد الله رضي الله عنه إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شئ نأخذ به سماه ابن أبي حاتم في روايته الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وقال الامام أحمد حدثنا هاشم حدثنا ليث عن إبراهيم بن نشيط الخولاني عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن دجين كاتب عقبة قال: قلت لعقبة إن لنا جيرانا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم قال لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم قال ففعل فلم ينتهوا قال فجاءه دجين فقال إني قد نهيتهم فلم ينتهوا وإني داع لهم الشرط فتأخذهم فقال له عقبة ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها " ورواه أبو داود والنسائي من حديث الليث بن سعد به نحوه وقال سفيان الثوري عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم " فقال أبو الدرداء رضي الله عنه كلمة سمعها معاوية رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها ورواه أبو داود منفردا به من حديث الثوري به. وقال أبو داود أيضا حدثنا سعيد بن عمرو الحضرمي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير وكثير بن مرة وعمرو بن الاسود والمقدام بن معد يكرب وأبي أمامة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الامير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " " ولا تجسسوا " أي على بعضكم بعضا والتجسس غالبا يطلق في الشر ومنه الجاسوس وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما قال عز وجل إخبارا عن يعقوب أنه قال " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله " وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " وقال الاوزاعي التجسس البحث عن الشئ والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم والتدابر: الصرم. رواه ابن أبي حاتم عنه. وقوله تعالى " ولا يغتب بعضكم بعضا " فيه نهي عن الغيبة وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال: صلى الله عليه وسلم " ذكرك أخاك بما يكره " قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " ورواه الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي به وقال حسن صحيح ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة عن العلاء وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما ومسروق وقتادة
[ 229 ]
وأبو إسحاق ومعاوية بن قرة وقال أبو داود حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني علي بن الاقمر عن أبي حذيفة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا. قال غير مسدد تعني قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم " لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته " قالت وحكيت له إنسانا فقال صلى الله عليه وسلم " ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا " ورواه الترمذي من حديث يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع ثلاثتهم عن سفيان الثوري عن علي بن الاقمر عن أبي حذيفة سلمة بن صهيب الارحبي عن عائشة رضي الله عنها به وقال حسن صحيح وقال ابن جرير حدثني ابن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا سليمان الشيباني حدثنا حسان بن المخارق أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله عنها فلما قامت لتخرج أشارت عائشة رضي الله عنها بيدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي أنها قصيرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اغتبتيها " والغيبة محرمة بالاجماع لا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر " ائذنوا له بئس أخو العشيرة " وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبوالجهم " أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وكذا ما جرى مجرى ذلك ثم بقيتها على التحريم الشديد وقد ورد فيها الزجر الاكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الانسان الميت كما قال عز وجل " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه " أي كما تكرهون هذا طبعا فاكرهوا ذاك شرعا فإن عقوبته أشد من هذا وهذا من التنفير عنها والتحذير منها كما قال صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته " كالكلب يقئ ثم يرجع في قيئه " وقد قال " ليس لنا مثل السوء " وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " وقال أبو داود حدثنا واصل ابن عبد الاعلى حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " ورواه الترمذي عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به وقال حسن غريب وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الاسود بن عامر حدثنا أبو بكر بن عياش عن الاعمش عن سعيد بن عبد الله بن خديج عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الايمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " تفرد به أبو داود وقد روى من حديث البراء بن عازب فقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا مصعب بن سلام عن حمزة بن حبيب الزيات عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها أو قال في خدورها فقال " يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته " " طريق أخرى " عن ابن عمر قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم الاسماعيلي حدثنا عبد الله بن ناجية حدثنا يحيى بن أكثم حدثنا الفضل بن موسى الشيباني عن الحسين بن واقد عن أوفى بن دلهم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الايمان إلى قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله " قال ونظر ابن عمر يوما إلى الكعبة فقال ما أعظمك وأعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك. قال أبو داود حدثنا حيوة بن شريح حدثنا قتيبة عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن وقاص بن ربيعة عن المسور أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ومن كسا ثوبا برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " تفرد به أبو داود وحدثنا ابن مصفى حدثنا بقية وأبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما عرج بي
[ 230 ]
مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ". تفرد به أبو داود هكذا رواه الامام أحمد عن أبي المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الشامي به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة أخبرنا أبو عبد الصمد بن عبد العزيز العمي أخبرنا أبو هارون العبدي من أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك ؟ قال " ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير رجال ونساء موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم فيجذون منه الجذة مثل النعل ثم يضعونها في في أحدهم فيقال له كل كما أكلت وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه فقلت يا جبرائيل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون اللمازون أصحاب النميمة فيقال أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وهو يكره على أكل لحمه " هكذا أورد هذا الحديث وقد سقناه بطوله في أول تفسير سورة سبحان الله ولله الحمد والمنة. وقال أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن يصوموا يوما ولا يفطرن أحد حتى آذن له فصام الناس فلما أمسوا جعل الرجل يجئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ظللت منذ اليوم صائما فئذن لي فأفطر فائذن له ويجئ الرجل فيقول ذلك فيأذن له حتى جاء رجل فقال يا رسول الله إن امرأتين من أهلك ظلتا منذ اليوم صائمتين فائذن لهما فليفطرا فأعرض عنه ثم أعاد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما صامتا وكيف صام من ظل يأكل من لحوم الناس ؟ اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن يستقيئا " ففعلتا فقاءت كل واحدة منهما علقة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله " لو ماتتا وهما فيهما لاكلتهما النار " إسناد ضعيف ومتن غريب وقد رواه الحافظ البيهقي من حديث يزيد بن هارون حدثنا سليمان التيمي قال سمعت رجلا يحدث في مجلس أبي عثمان النهدي عن عبيدا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن رجلا أتى رسول الله من فقال يا رسول الله إن ههنا امرأتين صامتا وإنهما كادتا تموتان من العطش أراه قال بالهاجرة فأعرض عنه أو سكت عنه فقال يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا أو كادتا تموتان فقال " ادعهما " فجاءتا قال فجئ بقدح أو عس فقال لاحداهما " قيئي " فقاءت من قيح ودم وصديد حتى قاءت نصف القدح ثم قال للاخرى " قيئي " فقاءت قيحا ودما وصديدا ولحما ودما عبيطا وغيره حتى ملات القدح ثم قال " إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما جلست إحداهما إلى الاخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس " وهكذا رواه الامام أحمد عن يزيد بن هارون وابن أبي عدي كلاهما عن سليمان بن صوعان التيمي به مثله أو نحو ثم رواه أيضا من حديث مسدد عن يحيى القطان عن عثمان بن غياث حدثني رجل أظنه في حلقة أبي عثمان عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أمروا بصيام فجاء رجل في نصف النهار فقال يا رسول الله فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد فأعرض عنه مرتين أو ثلاثا ثم قال " ادعهما " فجاء بعس أو قدح فقال لاحداهما: قيئي فقاءت لحما ودما عبيطا وقيحا وقال للاخرى مثل ذلك ثم قال " إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما أتت إحداهما للاخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلات أجوافهما قيحا " قال البيهقي كذا قال عن سعد والاول وهو عبيد أصح وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا عمرو بن الضحاك بن مخلد حدثنا أبي ثنا أبو عاصم حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن ابن عمر (1) لابي هريرة أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه حتى قالها أربعا فلما كان في الخامسة قال " زنيت ". قال نعم قال " وتدري ما الزنا " قال نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا قال " ما تريد إلى هذا القول ". قال أريد أن تطهرني قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر ". قال نعم يا رسول الله قال فأمر برجمه فرجم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال: أين فلان (1) عمر بتشديد الميم مبني للمجهول. (*)
[ 231 ]
وفلان " انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار " قالا غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم " فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها " إسناد صحيح. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثني أبي حدثنا واصل مولى ابن عيينة حدثني خالد بن عرفطة عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدرون ما هذه الريح ؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس ؟ " " طريق أخرى " قال عبد بن حميد في مسنده حدثنا إبراهيم بن الاشعث حدثنا الفضيل بن عياض عن سليمان عن أبي سفيان وهو طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فهاجت ريح منتنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن نفرا من المنافقين اغتابوا أناسا من المسلمين فلذلك بعثت هذه الريح " وربما قال " فلذلك هاجت هذه الريح " وقال السدي في قوله تعالى " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " زعم أن سلمان الفارسي رضي الله عنه كان مع رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفر يخدمهما ويخف لهما وينال من طعامهما وأن سلمان رضي الله عنه لما سار الناس ذات يوم وبقي سلمان رضي الله عنه نائما لم يسر معهم فجعل صاحباه يكلماه فلم يجداه فضربا الخباء فقالا ما يريد سلمان أو هذا العبد شيئا غير هذا أن يجئ إلى طعام مقدور وخباء مضروب فلما جاء أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب لهما إداما فانطلق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه قدح له فقال يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال صلى الله عليه وسلم " ما يصنع أصحابك بالادم ؟ قد ائتدموا " فرجع سلمان رضي الله عنه يخبرهما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكما قد ائتدمتما بسلمان بقولكما " قال ونزلت " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا " إنه كان نائما. وروى الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المختار من طريق حسان بن هلال عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الاسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيئ لهما طعاما فقالا إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يقرئانك السلام ويستأدمانك فقال صلى الله عليه وسلم " إنهما قد ائتدما " فجاءا فقالا يا رسول الله بأي شئ ائتدمنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لارى لحمه بين ثنايكما " فقالا رضي الله عنهما استغفر لنا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم " مراه فليستغفر لكما " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا الحكم بن موسى حدثنا محمد بن مسلمة عن محمد بن إسحاق عن عمه موسى بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكل من لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة فيقال له كله ميتا كما أكلته حيا - قال - فيأكله ويكلح ويصيح " غريب جدا وقوله عز وجل " واتقوا الله " أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه " إن الله تواب رحيم " أي تواب على من تاب إليه رحيم لمن رجع إليه واعتمد عليه. قال الجمهور من العلماء طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ويعزم على أن لا يعود وهل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع. وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون لا يشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه فطريقه إذا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته لتكون تلك بتلك كما قال الامام أحمد حدثنا أحمد بن الحجاج حدثنا عبد الله أخبرنا يحيى بن أيوب عن عبد الله بن سليمان أن إسماعيل بن يحيى المعافري أخبره أن سهل بن معاذ بن أنس الجهني أخبره عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مؤمنا بشئ يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال " وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه. وقال أبو داود أيضا حدثنا إسحاق بن الصباح حدثنا بن أبي مريم أخبرنا الليث حدثنى يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن
[ 232 ]
سهل الانصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من امرئ يخذل امرءا مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته وما من امرئ ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته " تفرد به أبو داود. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13) يقول تعالى مخبرا للناس أنه خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها وهما آدم وحواء وجعلهم شعوبا وهي أعم من القبائل وبعد القبائل مراتب أخر كالفصائل والعشائر والعمائر والافخاد وغير ذلك وقيل المراد بالشعوب بطون العجم وبالقبائل بطون العرب كما أن الاسباط بطون بني إسرائيل وقد لخصت هذا في مقدمة مفردة جمعتها من كتاب الاشباه لابي عمر بن عبد البر ومن كتاب " القصد والامم في معرفة أنساب العرب والعجم " فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء وإنما يتفاضلون بالامور الدينية وهى طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا منبها على تساويهم في البشرية " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته وقال مجاهد في قوله عز وجل " لتعارفوا " كما يقال فلان بن فلان من كذا وكذا أي من قبيلة كذا وكذا وقال سفيان الثوري كانت حمير ينتسبون إلى مخاليفها وكانت عرب الحجاز ينتسبون إلى قبائلها وقد قال أبو عيسى الترمذي حدثنا أحمد بن محمد حدثنا عبد الله بن المبارك عن عبد الملك بن عيسى الثقفي عن يزيد مولى المنبعث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الاهل مثراة في المال منسأة في الاثر " ثم قال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقوله تعالى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالاحساب وقد وردت الاحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البخاري حدثنا محمد بن سلام حدثنا عبدة عن عبيدالله عن سعيد بن أبي سعيد رضي الله عنه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم ؟ قال " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا ليس عن هذا نسألك قال " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " قالوا ليس عن هذا نسألك قال " فعن معادن العرب تسألوني ؟ " قالوا نعم قال " فخياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا " وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله وهو ابن عمر العمري به. " حديث آخر " قال مسلم رحمه الله حدثنا عمرو الناقد حدثنا كثير بن هشام حدثنا جعفر بن برقان عن يزيد بن الاصم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ورواه ابن ماجة عن أحمد بن سنان عن كثير بن هشام به " حديث آخر " وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن أبي هلال عن بكر عن أبي ذر رضي الله عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله " تفرد به أحمد رحمه الله " حديث آخر " وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أبو عبيدة عبد الوارث بن إبراهيم العسكري حدثنا عبدالرجمن بن عمرو بن جبلة حدثنا عبيد بن حنين الطائي سمعت محمد بن حبيب بن خراش العصري يحدث عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المسلمون إخوة لافضل لاحد على أحد إلا بالتقوى " " حديث آخر " قال أبو بكر البزار في
[ 233 ]
مسنده حدثنا أحمد بن يحيى الكوفي حدثنا الحسن بن الحسين حدثنا قيس يعني ابن الربيع عن شبيب بن عرقدة عن المستظل بن حصين عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ". ثم قال لا نعرفه عن حذيفة إلا من هذا الوجه " حديث آخر " قال ابن أبي حاتم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا يحيى بن زكريا القطان حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الاركان بمحجن في يده فما وجد لها مناخا في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدى الرجال فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ثم قال: " يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله تعالى. ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى إن الله عز وجل يقول " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأثنى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " - ثم قال صلى الله عليه وسلم - أقول قولي هذا وأستغفر الله لي لكم " هكذا رواه عبد بن حميد عن أبي عاصم الضحاك عن مخلد عن موسى بن عبيدة به " حديث آخر " قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد كلكم بنو آدم طف الصاع لم يملئوه ليس لاحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيا بخيلا فاحشا ". وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة به ولفظه: " الناس لآدم وحواء طف الصاع لم يملئوه إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وليس هو في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه " حديث آخر " قال الامام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عمرة زوج درة بنت أبي لهب عن درة بنت أبي لهب رضي الله عنها قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم: " خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله عز وجل وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم " " حديث آخر " قال الامام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو الأسود عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من الدنيا ولا أعجبه أحد قط إلا ذو تقى تفرد به أحمد وقوله تعالى " إن الله عليم خبير " أي عليم بكم خبير بأموركم فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء ويفضل من يشاء على من يشاء وهو الحكيم العليم الخبير في ذلك كله وقد استدل بهذه الآية الكريمة وهذه الاحاديث الشريفة من ذهب من العلماء إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط ولا يشترط سوى الدين لقوله تعالى " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " وذهب الآخرون إلى أدلة أخرى مذكورة في كتب الفقه وقد ذكرنا طرفا من ذلك في " كتاب الاحكام " ولله الحمد والمنة. وقد روى الطبراني عن عبد الرحمن أنه سمع رجلا من بني هاشم يقول أنا أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال غيره أنا أولى به منك ولك منه نسبة. * قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما
[ 234 ]
في الارض والله بكل شئ عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون (18) يقول تعالى منكرا على الاعراب الذين أول ما دخلوا في الاسلام ادعوا لانفسهم مقام الايمان ولم يتمكن الايمان في قلوبهم بعد " قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم " وقد أستفيد من هذه الآية الكريمة أن الايمان أخص من الاسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الاسلام ثم عن الايمان ثم عن الاحسان فترقى من الاعم إلى الاخص ثم للاخص منه. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنهما قال أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا فقال سعد رضي الله تعالى عنه يارسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا وهو مؤمن فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أو مسلم " حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " أو مسلم " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لاعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم فلم أعطه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم " أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم فدل على أن الايمان أخص من الاسلام وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لانه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الاسلام فدل هذا على أن هؤلاء الاعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين وإنما هم مسلمون لم يستحكم الايمان في قلوبهم فادعوا لانفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك وهذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير وإنما قلنا هذا لان البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الايمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى " ولكن قولوا أسلمنا " أي استسلمنا خوف القتل والسبي قال مجاهد نزلت في بني أسد بن خزيمة وقال قتادة نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحيح الاول أنهم قوم ادعوا لانفسهم مقام الايمان ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة وإنما قيل لهؤلاء تأديبا " قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم " أي لم تصلوا إلى حقيقة الايمان بعد ثم قال تعالى " وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا " أي لا ينقصكم من أجوركم شيئا كقوله عز وجل " وما ألتناهم من عملهم من شئ " وقوله تعالى " إن الله غفور رحيم " أي لمن تاب إليه وأناب. وقوله تعالى " إنما المؤمنون " أي إنما المؤمنون الكمل " الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة وهي التصديق المحض " وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه " أولئك هم الصادقون " أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون لا كبعض الاعراب الذين ليس لهم من الايمان إلا الكلمة الظاهرة. وقال الامام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين حدثنا عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء: الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل " وقوله سبحانه وتعالى (قل أتعلمون الله بدينكم) أي أتخبرونه بما في ضمائركم " والله يعلم ما في السموات وما في الارض " أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر " والله بكل شئ عليم " ثم قال تعالى " يمنون عليك
[ 235 ]
أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم " يعني الاعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ردا عليهم " قل لا تمنوا علي إسلامكم " فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه " بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين " أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للانصار يوم حنين " يا معشر الانصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ " كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا يحيى بن سعيد الاموي عن محمد بن قيس عن أبي عون عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم نقاتلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم " ونزلت هذه الآية " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين " ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيدالله عن سعيد بن جبير غير هذا الحديث ثم كرر الاخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال " إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون " آخر تفسير سوره الحجرات ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة ق هذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح وقيل من الحجرات وأما ما يقوله العوام إنه من " عم " فلا أصل له ولم يقله أحد من العلماء رضي الله عنهم المعتبرين فيما نعلم والدليل على أن هذه السورة هي أول المفصل ما رواه أبو داود في سننه باب تحزيب القرآن ثم قال حدثنا مسدد حدثنا قراب بن تمام وحدثنا عبد الله بن سعيد أبو سعيد الاشج حدثنا أبو خالد ثنا سليمان بن حبان وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس عن جده قال عبد الله بن سعيد حدثنيه أوس بن حذيفة ثم اتفقا قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف قال فنزلت الاحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له قال مسدد وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قال أبو سعيد قائما على رجله حتى يراوح بين رجليه من طول القيام فأكثر ما يحدثنا صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه قريش ثم يقول صلى الله عليه وسلم " لا أساء وكنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت الحرب سجالا بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا " فلما كانت ليلة أبطأ عنا صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي كان يأتينا فيه فقلنا لقد أبطأت علينا الليلة قال صلى الله عليه وسلم " إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجئ حتى أتمه " قال أوس سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن فقالوا ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الاحمر به ورواه الامام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عبد الرحمن هو ابن يعلى الطائفي به إذا علم هذا فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة ق بيانه ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء وخمس: المائدة والانعام والاعراف والانفال وبراءة وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والانبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة والاحزاب وسبأ وفاطر ويس وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والاحقاف والقتال والفتح والحجرات ثم بعد
[ 236 ]
ذلك الحزب المفصل كما قاله الصحابة رضي الله عنهم فتعين أن أوله سورة ق وهو الذي قلناه ولله الحمد والمنة. قال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبد الله بن عبد الله أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيد ؟ قال بقاف واقتربت ورواه مسلم وأهل السنن الاربعة من حديث مالك به وفي رواية لمسلم عن مالك عن ضمرة عن عبد الله عن أبي واقد قال سألني عمر رضي الله عنه فذكره. " حديث آخر " وقال أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي ثنا أبي إسحاق حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة عن أم هشام بنت حارثة قالت لقد كان تنورنا وتنور النبي صلى الله عليه وسلم واحدا سنتين أو سنة وبعض سنة وما أخذت " ق والقرآن المجيد " إلا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس رواه مسلم من حديث ابن إسحاق به وقال أبو داود حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الله بن محمد بن معن عن ابنة الحارث بن النعمان قالت ما حفظت ق إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة قالت وكان تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا وكذا رواه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة به والقصد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار كالعيد والجمع لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم ق والقرآن المجيد (1) بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب (2) أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3) قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4) بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5) " ق " حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى " ص - ون - والم - وحم - وطس " ونحو ذلك قاله مجاهد وغيره وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا ق جبل محيط بجميع الارض يقال له جبل قاف وكأن هذا والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم كما افتري في هذه الامة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما بالعهد من قدم فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد فيهم وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه وتبديل كتب الله وآياته وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فيما قد يجوزه العقل فأما فيما تحيله العقول ويحكم فيه بالبطلان ويغلب على الظنون كذبه فليس من هذا القبيل والله أعلم. وقد أكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف من الحكاية عن كتب أهل الكتاب في تفسير القرآن المجيد وليس بهم احتياج إلى أخبارهم ولله الحمد والمنة حتى إن الامام أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمه الله عليه أورد ههنا أثرا غريبا لا يصح سنده عن ابن عباس رضي الله عنهما فقال حدثنا أبي قال حدثت عن محمد بن إسماعيل - المخزومي حدثنا ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الارض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له قاف سماء الدنيا مرفوعة
[ 237 ]
عليه ثم خلق الله تعالى من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الارض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيط بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مرفوعة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات قال وذلك قوله تعالى " والبحر يمده من بعده سبعة أبحر " فإسناد هذا الاثر فيه انقطاع. والذي رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل " ق " هو اسم من أسماء الله عز وجل والذي ثبت عن مجاهد أنه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى " ص - ن - حم - طس - الم " ونحو ذلك فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل المراد قضي الامر والله وأن قوله جل ثناؤه " ق " دلت على المحذوف من بقية الكلمة كقول الشاعر: * قلت لها قفي فقالت ق * وفي هذا التفسير نظر لان الحذف في الكلام إنما يكون إذا دل دليل عليه ومن أين يفهم هذا من ذكر هذا الحرف ؟ وقوله تعالى " والقرآن المجيد " أي الكريم العظيم الذي " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " واختلفوا في جواب القسم ما هو ؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى " قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ " وفي هذا نظر بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه وإن لم يكن القسم يتلقى لفظا وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله " ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق " وهكذا قال ههنا " ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب " أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر كقوله جل جلاله " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس " أي وليس هذا بعجيب فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس. ثم قال عز وجل مخبرا عنهم في تعجبهم أيضا من المعاد واستبعادهم لوقوعه (أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الاوصال منا وصرنا ترابا كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب ؟ " ذلك رجع بعيد " أي بعيد الوقوع. والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه قال الله تعالى رادا عليهم (قد علمنا ما تنقص الارض منهم) أي ما تأكل من أجسادهم في البلى نعلم ذلك ولا يخفى علينا أين تفرقت الابدان وأين ذهبت وإلى أين صارت " وعندنا كتاب حفيظ " أي حافظ لذلك فالعلم شامل والكتاب أيضا فيه كل الاشياء مضبوطة. قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " قد علمنا ما تنقص الارض منهم " أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم وعظامهم وأشعارهم كذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد فقال (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل والمريج المختلف المضطرب الملتبس المنكر خلاله كقوله تعالى " إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك ". أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6) والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7) تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8) ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9) والنخل باسقات لها طلع نضيد (10) رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11) يقول تعالى منبها للعباد على قدرته العظيمة التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه " أفلم ينظروا
[ 238 ]
إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها " أي بالمصابيح " وما لها من فروج " قال مجاهد يعني من شقوق وقال غيره فتوق وقال غيره صدوع والمعنى متقارب كقوله تبارك وتعالى " الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " أي كليل عن أن يرى عيبا أو نقصا وقوله تبارك وتعالى (والارض مددناها) أي وسعناها وفرشناها " وألقينا فيها رواسي " وهي الجبال لئلا تميد بأهلها وتضطرب فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها " وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج " أي من جميع الزروع والثمار والنبات والانواع " ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " وقوله بهيج أي حسن المنظر (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) أي ومشاهدة خلق السموات والارض وما جعل فيهما من الآيات العظيمة تبصرة ودلالة وذكرى لكل عبد منيب أي خاضع خائف وجل رجاع إلى الله عز وجل. وقوله تعالى (ونزلنا من السماء ماء مباركا) أي نافعا " فأنبتنا به جنات " أي حدائق من بساتين ونحوها " وحب الحصيد " وهو الزرع الذي راد لحبه وادخاره (والنخل باسقات) أي طوال شاهقات قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وغيرهم الباسقات الطوال " لها طلع نضيد " أي منضود (رزقا للعباد) أي للخلق " وأحيينا به بلدة ميتا " وهي الارض التي كانت هامدة فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج من أزاهير وغير ذلك مما يحار الطرف في حسنها وذلك بعدما كانت لا نبات بها فأصبحت تهتز خضراء فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك كذلك يحيى الله الموتى وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث كقوله عز وجل " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس ". وقوله تعالى " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شئ قدير " وقال سبحانه وتعالى " ومن آياته أنك نرى الارض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير ". كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12) وعاد وفرعون وإخوان لوط (13) وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14) أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد (15) يقول تعالى متهددا لكفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم وأمثالهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الاليم في الدنيا كقوم نوح وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الارض وأصحاب الرس وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان " وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط " وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ومعاملتها من الغور وكيف خسف الله تعالى بهم الارض وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق (وأصحاب الايكة) وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام " وقوم تبع " وهو اليماني وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والشكر " كل كذب الرسل " أي كل من هذه الامم وهؤلاء القرون كذب رسولهم ومن كذب رسولا فكأنما كذب جميع الرسل كقوله جل وعلا " كذبت قوم نوح المرسلين " وإنما جاءهم رسول واحد فهم في نفس الامر لو جاءهم جميع الرسل كذبوهم " فحق وعيد " أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك وقوله تعالى (أفعيينا بالخلق الاول) أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الاعادة ؟ " بل هم في لبس من خلق جديد " والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا والاعادة أسهل منه كما قال عز وجل " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وقال الله جل جلاله " وضرب لنا مثلا ونسي
[ 239 ]
خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقد تقدم في الصحيح " يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم يقول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ". ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16) إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22) يخبر تعالى عن قدرته على الانسان بأنه خالقه وعمله محيط بجميع أموره حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفوس بني آدم من الخير والشر وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى تجاوز لامتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل " وقوله عز وجل " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الانسان من حبل وريده إليه ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد وهما منفيان بالاجماع تعالى الله وتقدس ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل وأنا أقرب إليه من حبل الوريد وإنما قال " ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " كما قال في المحتضر " ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون " يعني ملائكته وكما قال تبارك وتعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن بإذن الله عز وجل وكذلك الملائكة أقرب إلى الانسان من حبل وريده إليه بإقدار الله جل وعلا لهم على ذلك فللملك لمة من الانسان كما أن للشيطان لمة وكذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما أخبر بذلك الصادق المصدوق ولهذا قال تعالى ههنا (إذ يتلقى المتلقيان) يعنى الملكين اللذين يكتبان عمل الانسان " عن اليمين وعن الشمال قعيد " أي مترصد " ما يلفظ " أي ابن آدم " من قول " أي ما يتكلم بكلمة " إلا لديه رقيب عتيد " أي إلا ولها من يرقبها معد لذلك يكتبها لا يترك كلمة ولا حركة كما قال تعالى " وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون " وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شئ من الكلام ؟ وهو قول الحسن وقتادة أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب كما هو قول ابن عباس رضي الله عنهما ؟ على قولين وظاهر الآية الاول لعموم قوله تبارك وتعالى " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ". وقد قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبيه عن جده علقمة عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم يلقاه وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه " فكان علقمة يقول كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث محمد بن عمرو به وقال الترمذي حسن صحيح وله شاهد في الصحيح وقال الاحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال فإن أصاب العبد خطيئة قال له أمسك فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها رواه ابن أبي حاتم وقال الحسن البصري وتلا هذه الآية " عن اليمين وعن الشمال قعيد " يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر
[ 240 ]
حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة فعند ذلك يقول تعالى " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " ثم يقول عدل والله فيك من جعلك حسيب نفسك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " قال يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره وذلك قوله تعالى " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " وذكر عن الامام أحمد أنه كان يئن في مرضه فبلغه عن طاوس أنه قال يكتب الملك كل شئ حتى الانين فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله. وقوله تبارك وتعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) يقول عز وجل وجاءت أيها الانسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه " ذلك ما كنت منه تحيد " أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص. وقد اختلف المفسرون في المخاطب بقوله " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " فالصحيح أن المخاطب بذلك الانسان من حيث هو وقيل الكافر وقيل غير ذلك. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا إبراهيم بن زياد سبلان اخبرنا عباد بن عباد عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال إن عائشة رضي الله عنها قالت حضرت أبى رضي الله عنه وهو يموت وأنا جالسة عند رأسه فأخذته غشية فتمثلت ببيت من الشعر: من لا يزال دمعه مقنعا * فإنه لا بد مرة مدفوق قالت فرفع رضي الله عنه رأسه فقال يا بنية ليس كذلك ولكن كما قال تعالى " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " وحدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الخياط عن إسماعيل بن أبي خالد عن البهي قال لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه ليس كذلك ولكن قولي " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " وقد أوردت لهذا الاثر طرقا كثيرة في سيرة الصديق رضي الله عنه عند ذكر وفاته. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول " سبحان الله إن للموت لسكرات " وفي قوله " ذلك ما كنت منه تحيد " قولان " أحدهما " أن ما ههنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتتناءى وتفر قد حل بك ونزل بساحتك " والقول الثاني " أن ما نافية بمعنى ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه وقد قال الطبراني في المعجم الكبير حدثنا مؤمل بن علي الصائغ المكي حدثنا حفص عن ابن عمر الحدي حدثنا معاذ بن محمد الهذلي عن يونس بن عبيد عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل الذي يفر من الموت مثل الثعلب تطلبه الارض بدين فجاء يسعى حتى إذا أعيى وأسهر دخل جحره وقالت له الارض يا ثعلب ديني فخرج وله حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه ومات " ومضمون هذا المثل كما لا انفكاك له ولا محيد عن الارض كذلك الانسان لا محيد له عن الموت وقوله تبارك وتعالى " ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد " قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور والفزع والصعق والبعث وذلك يوم القيامة وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كيف أنعم وصاحب هذا القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له " قالوا يا رسول الله كيف نقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " فقال القوم حسبنا الله ونعم الوكيل.
[ 241 ]
" وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " أي ملك يسوقه إلى المحشر وملك يشهد عليه بأعماله هذا هو الظاهر من الآية الكريمة. وهو اختيار ابن جرير ثم روى من حديث إسماعيل بن أبى خالد عن يحيى بن رافع مولى لثقيف قال سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية " وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد " فقال سائق يسوقها إلى الله تعالى وشاهد يشهد عليها بما عملت وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد وقال مطرف عن أبي جعفر مولى أشجع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال السائق الملك والشهيد العمل وكذا قال الضحاك والسدي وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما السائق من الملائكة والشهيد الانسان نفسه يشهد على نفسه وبه قال الضحاك بن مزاحم أيضا. وحكى ابن جرير ثلاثة أقوال في المراد بهذا الخطاب في قوله تعالى " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " أحدها أن المراد بذلك الكافر رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه يقول الضحاك بن مزاحم وصالح بن كيسان والثاني أن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر لان الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة والدنيا كالمنام وهذا اختيار ابن جرير ونقله عن حسين بن عبد الله بن عبيدالله عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. والثالث أن المخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبه يقول زيد بن أسلم وابنه والمعنى على قولهما لقد كنت في غفلة من هذا القرآن قبل أن يوحى إليك فكشفنا عنك غطاءك بإنزاله إليك فبصرك اليوم حديد والظاهر من السياق خلاف هذا بل الخطاب مع الانسان من حيث هو والمراد بقوله تعالى " لقد كنت في غفلة من هذا " يعني من هذا اليوم " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " أي قوي لان كل أحد يوم القيامة يكون مستبصرا حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة لكن لا ينفعهم ذلك قال الله تعالى " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا " وقال عز وجل " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ". وقال قرينه هذا ما لدى عتيد (23) ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24) مناع للخير معتد مريب (25) الذى جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26) * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27) قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد (28) ما يبدل القول لدى وما أنا بظلام للعبيد (29) يقول تعالى مخبرا عن الملك الموكل بعمل ابن آدم أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول " هذا ما لدي عتيد " أي معتد محضر بلا زيادة ولا نقصان وقال مجاهد هذا كلام الملك السائق يقول هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته وقد اختار ابن جرير أن يعم السائق والشهيد وله اتجاه وقوة فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " وقد اختلف النحاة في قوله " ألقيا " فقال بعضهم هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية كما روي عن الحجاج أنه كان يقول يا حرسي اضربا عنقه ومما أنشد ابن جرير على هذه قول الشاعر فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر * وإن تتركاني أحم عرضا ممنعا وقيل بل هي نون التأكيد سهلت إلى الالف وهذا بعيد لان هذا إنما يكون في الوقف والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب فلما أدى الشهيد عليه أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد " أي كثير الكفر والتكذيب بالحق عنيد معاند للحق معارض له
[ 242 ]
بالباطل مع علمه بذلك " مناع للخير " أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ولا بر فيه ولا صلة ولا صدقة " معتد " أي فيما ينفقه ويصرفه يتجاوز فيه الحد. وقال قتادة معتد في منطقه وسيره وأمره " مريب " أي شاك في أمره مريب لمن نظر في أمره " الذي جعل مع الله إلها آخر " أي أشرك بالله فعبد معه غيره " فألقياه في العذاب الشديد " وقد تقدم في الحديث " أن عنقا من النار يبرز للخلائق فينادي بصوت يسمع الخلائق إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد ومن جعل مع الله إلها آخر وبالمصورين ثم تنطوي عليهم " قال الامام أحمد حدثنا معاوية هو ابن هشام حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يخرج عنق من النار يتكلم يقول وكلت اليوم بثلاثة بكل جبار عنيد ومن جعل مع الله إلها آخر ومن قتل نفسا بغير نفس فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم " " قال قرينه " قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة وغيرهم هو الشيطان الذي وكل به " ربنا ما أطغيته " أي يقول عن الانسان الذي قد وافى القيامة كافرا يتبرأ منه شيطانه فيقول " ربنا ما أطغيته " أي ما أضللته " ولكن كان في ضلال بعيد " أي بل كان هو في نفسه ضالا قابلا للباطل معاندا للحق كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية الاخرى في قوله " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ". وقوله تبارك وتعالى " قال لا تختصموا لدي " يقول الرب عز وجل للانسي وقرينه من الجن وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى فيقول الانسي يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ويقول الشيطان " ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد " أي عن منهج الحق فيقول الرب عز وجل لهما " لا تختصموا لدي " أي عندي " وقد قدمت إليكم بالوعيد " أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبينات والبراهين " ما يبدل القول لدي " قال مجاهد يعني قد قضيت ما أنا قاضي " وما أنا بظلام للعبيد " أي لست أعذب أحدا بذنب أحد ولكن لا أعذب أحدا إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه. يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد (30) وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31) هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32) من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34) لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35) يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة هل امتلات ؟ وذلك لانه تبارك وتعالى وعدها أن سيملؤها من الجنة والناس أجمعين فهو سبحانه وتعالى يأمر بمن يأمر به إليها ويلقى وهي تقول هل من مزيد: أي هل بقي شئ تزيدوني ؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية وعليه تدل الاحاديث. قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبد الله بن الاسود حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يلقى في النار وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع قدمه فيها فتقول قط قط ": وقال الامام أحمد حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقا آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة " ثم رواه مسلم من حديث قتادة بنحوه. ورواه أبان العطار وسليمان التيمي عن قتادة بنحوه " حديث آخر " قال البخاري حدثنا محمد بن موسى القطان حدثنا أبو
[ 243 ]
سفيان الحميري سعيد بن يحيى بن مهدي حدثنا عوف عن محمد عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان: " يقال لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول قط قط ". ورواه أبو أيوب وهشام بن حسان عن محمد بن سيرين به " طريق أخرى " قال البخاري وحدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم قال الله عز وجل للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله عز وجل ممن خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا آخر ". " حديث آخر " قال مسلم في صحيحه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن الاعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احتجت الجنة والنار فقالت النار في الجبارون والمتكبرون وقالت الجنة في ضعفاء الناس ومساكينهم فقضى بينهما فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها " انفرد به مسلم دون البخاري من هذا الوجه والله سبحانه وتعالى أعلم: وقد رواه الامام أحمد من طريق أخرى عن أبي سعيد رضي الله عنه بأبسط من هذا السياق فقال حدثنا حسن وروح قالا حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " افتخرت الجنة والنار فقالت النار يا رب يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والاشراف وقالت الجنة أي رب يدخلني الضعفاء والفقراء والمساكين فيقول الله تبارك وتعالى للنار أنت عذابي أصيب بك من أشاء وقال للجنة أنت رحمتي وسعت كل شئ ولكل واحدة منكما ملؤها فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد قال ويلقى فيها وتقول هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليها فتنزوي وتقول قدني قدني وأما الجنة فيبقى فيها ما شاء الله تعالى أن يبقى فينشئ الله سبحانه وتعالى لها خلقا ما يشاء " " حديث آخر " وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس حدثنا عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يعرفني الله تعالى نفسه يوم القيامة فأسجد سجدة يرضى بها عني ثم أمدحه مدحة يرضي بها عني ثم يؤذن لي في الكلام ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم فيمرون أسرع من الطرف والسهم وأسرع من أجود الخيل حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الاعمال وجهنم تسأل المزيد حتى يضع فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وأنا على الحوض " قيل وما الحوض يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك وآنيته أكثر من عدد النجوم لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدا ولا يصرف فيروى أبدا " وهذا القول هو اختيار ابن جرير. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو يحيى الحمامي عن نصر الجزار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما " يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد " قال ما امتلات قال تقول وهل في من مكان يزاد في وكذا رواه الحكم بن أبان عن عكرمة " وتقول هل من مزيد " وهل في مدخل واحد قد امتلات قال الوليد بن مسلم عن زيد بن أبي مريم أنه سمع مجاهدا يقول لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلات فتقول هل في مزيد وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا فعند هؤلاء أن قوله تعالى " هل امتلات " إنما هو بعدما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذ هل بقي في مزيد يسع شيئا ؟ قال العوفي عن ابن
[ 244 ]
عباس رضي الله عنهما وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة والله أعلم. وقوله تعالى " وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد " قال قتادة وأبو مالك والسدى " وأزلفت " أدنيت وقربت من المتقين " غير بعيد " وذلك يوم القيامة وليس ببعيد لانه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب (هذا ما توعدون لكل أواب) أي رجاع تائب مقلع " حفيظ " أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه وقال عبيد بن عمر الاواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلسا فيقوم حتى يستغفر الله عز وجل " من خشي الرحمن بالغيب " أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلا الله عز وجل كقوله صلى الله عليه وسلم " ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه " " وجاء بقلب منيب " أي ولقي الله عز وجل يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه " ادخلوها " أي الجنة " بسلام " قال قتادة سلموا من عذاب الله عز وجل وسلم عليهم ملائكة الله وقوله سبحانه وتعالى " ذلك يوم الخلود " أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبدا ولا يظعنون أبدا ولا يبغون عنها حولا وقوله جلت عظمته (لهم ما يشاءون فيها) أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عمر بن عثمان حدثنا بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة قال من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول ماذا تريدون فأمطره لكم ؟ فلا يدعون بشئ إلا أمطرتهم قال كثير لئن أشهدني الله تعالى ذلك لاقولن أمطرينا جواري مزينات. وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا ". وقال الامام أحمد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن عامر الاحول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله وضعه وسنه في ساعة واحدة " ورواه الترمذي وابن ماجة عن بندار عن معاذ بن هشام به وقال الترمذي حسن غريب وزاد: كما اشتهى وقوله تعالى " ولدينا مزيد " كقوله عز وجل " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وقد تقدم في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم وقد روى البزار وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن عثمان بن عمير أبي اليقظان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله عز وجل " ولدينا مزيد " قال يظهر لهم الرب عز وجل في كل جمعة وقد رواه الامام أبو عبد الله الشافعي مرفوعا فقال في مسنده أخبرنا إبراهيم بن محمد حدثني موسى بن عبيدة حدثني أبو الازهر معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عبيدالله بن عمر أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول أتى جبرائيل عليه الصلاة والسلام بمرآة بيضاء فيها نكتة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذه ؟ " فقال هذه الجمعة فضلت بها أنت وأمتك فالناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ولكم فيها خير ولكم فيها ساعة لا يوافقها مؤمن يدعو الله تعالى فيها بخير إلا استجيب له وهو عندنا يوم المزيد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا جبريل وما يوم المزيد ؟ " قال عليه السلام إن ربك تبارك وتعالى اتخذ في الفردوس واديا أفيح فيه كثب المسك فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله تعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين وحفت تلك المنابر من ذهب مكللة بالياقوت والزبرجد عليها الشهداء والصديقون فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب فيقول الله عز وجل أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك فيقول قد رضيت عنكم ولكم علي ما تمنيتم ولدي مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم تبارك وتعالى من الخير وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة. هكذا أورده الامام الشافعي رحمه الله في كتاب الجمعة من الام وله طرق عن أنس بن مالك رضي الله عنه وقد أورد ابن جرير هذا الحديث من رواية عثمان بن عمير عن أنس رضي الله عنه بأبسط من هذا وذكر ههنا أثرا مطولا عن أنس بن مالك رضي الله عنه موقوفا وفيه غرائب كثيرة وقال الامام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله
[ 245 ]
صلى الله عليه وسلم قال " إن الرجل في الجنة ليتكئ في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحول ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضئ ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام فيسألها من أنت ؟ فتقول أنا من المزيد وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك وإن عليها من التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضئ ما بين المشرق والمغرب " وهكذا رواه عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37) ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39) ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40) يقول تعالى وكم أهلكنا قبل هؤلاء المكذبين (من قرن هم أشد منهم بطشا) أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى ههنا " فنقبوا في البلاد هل من محيص " قال ابن عباس رضي الله عنهما أثروا فيها وقال مجاهد " فنقبوا في البلاد " ضربوا في الارض وقال قتادة فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الارزاق والمتاجر والمكاسب أكثر مما طفتم أنتم بها ويقال لمن طوف في البلاد نقب فيها وقال امرؤ القيس لقد نقبت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالاياب وقوله تعالى " هل من محيص " أي هل من مفر كان لهم من قضاء الله وقدره وهل نفعهم ما جمعوه ورد عنهم عذاب الله إذ جاءهم لما كذبوا الرسل فأنتم أيضا لا مفر لكم ولا محيد ولا مناص ولا محيص. وقوله عز وجل (إن في ذلك لذكرى) أي لعبرة " لمن كان له قلب " أي لب يعي به وقال مجاهد عقل " أو ألقى السمع وهو شهيد " أي استمع الكلام فوعاه وتعقله وعقله وتفهمه بلبه وقال مجاهد " أو ألقى السمع " يعني لا يحدث نفسه في هذا بقلب وقال الضحاك العرب تقول ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب وهكذا قال الثوري وغير واحد وقوله سبحانه وتعالى (ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) فيه تقرير للمعاد لان من قدر على خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بطريق الاولى والاحرى وقال قتادة قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السموات والارض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه " وما مسنا من لغوب " أي من إعياء ولا تعب ولا نصب كما قال تبارك وتعالى في الآية الاخرى " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شئ قدير " وكما قال عز وجل " لخلق السموات والارض أكبر من خلق الناس " وقال تعالى " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ". وقوله عز وجل (فاصبر على ما يقولون) يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجرا جميلا " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " وكانت الصلاة المفروضة قبل الاسراء ثنتان قبل طلوع الشمس في وقت
[ 246 ]
الفجر وقبل الغروب في وقت العصر وقيام الليل كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمته حولا ثم نسخ في حق الامة وجوبه ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الاسراء بخمس صلوات ولكن منهن صلاة الصبح والعصر فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. وقد قال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال " أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا " ثم قرأ " وسبح محمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب " ورواه البخاري ومسلم وبقية الجماعة من حديث إسماعيل به. وقوله تعالى " ومن الليل فسبحه " أي فصل له كقوله " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " " وأدبار السجود " قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما هو التسبيح بعد الصلاة ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء فقراء المهاجرين فقالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وما ذاك ؟ " قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق قال صلى الله عليه وسلم " أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " قال فقالوا يا رسول الله سمع إخواننا أهل الاموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال صلى الله عليه وسلم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى " وأدبار السجود " هما الركعتان بعد المغرب وروي ذلك عن عمر وعلي وابنه الحسن وابن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي والحسن وقتادة وغيرهم قال الامام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلا الفجر والعصر وقال عبد الرحمن دبر كل صلاة ورواه أبو داود والنسائي من حديث سفيان الثوري به زاد النسائي ومطرف عن أبي إسحاق به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا ابن فضيل عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر ثم خرج إلى الصلاة فقال " يا ابن عباس ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم وركعتين بعد المغرب إدبار السجود " ورواه الترمذي عن هشام الرفاعي عن محمد بن فضيل به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وحديث ابن عباس رضي الله عنهما وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها وصلى تلك الليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة ركعة ثابت في الصحيحين وغيرهما. فأما هذه الزيادة فغريبة لا تعرف إلا من هذا الوجه ورشدين بن كريب ضعيف ولعله من كلام ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه والله أعلم. واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41) يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42) إنا نحن نحيى ونميت وإلينا المصير (43) يوم تشقق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44) نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (45) يقول تعالى " واستمع " يا محمد " يوم يناد المناد من مكان قريب " قال قتادة قال كعب الاحبار يأمر الله تعالى
[ 247 ]
ملكا أن ينادي على صخر بيت المقدس أيتها العظام البالية والاوصال المتقطعة إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء (يوم يسمعون الصيحة بالحق) يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون " ذلك يوم الخروج " أي من الاجداث (إنا نحن نحيى ونميت وإلينا المصير) أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وإليه مصير الخلائق كلهم فيجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقوله تعالى (يوم تشقق الارض عنهم سراعا) وذلك أن الله عز وجل ينزل مطرا من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء فإذا تكاملت الاجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور وقد أودعت الارواح في ثقب في الصور فإذا نفخ إسرافيل فيه خرجت الارواح تتوهج بين السماء والارض فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فترجع كل روح إلى جسدها فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ وتنشق الارض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب سراعا مبادرين إلى أمر الله عز وجل " مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " وقال الله تعالى " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أول من تنشق عنه الارض " وقوله عز وجل " ذلك حشر علينا يسير " أي تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا كما قال جل جلاله " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " وقال سبحانه وتعالى " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير " وقوله جل وعلا " نحن أعلم بما يقولون " أي نحن علمنا محيط بما يقول لك المشركون من التكذيب فلا يهولنك ذلك كقوله " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ". وقوله تبارك وتعالى " وما أنت عليهم بجبار " أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى وليس ذلك ما كلفت به قال مجاهد وقتادة والضحاك " وما أنت عليهم بجبار " أي لا تتجبر عليهم والقول الاول أولى ولو أراد ما قالوه لقال ولا تكن جبارا عليهم وإنما قال " وما أنت عليهم بجبار " بمعنى وما أنت بمجبرهم على الايمان إنما أنت مبلغ. قال الفراء سمعت العرب تقول جبر فلان فلانا على كذا بمعنى أجبره ثم قال عز وجل " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " أي بلغ أنت رسالة ربك فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده ويرجو وعده كقوله تعالى " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وقوله جل جلاله " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر " " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ولهذا قال تعالى ههنا " وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " كان قتادة يقول اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ويرجو موعودك يا بار يا رحيم. آخر تفسير سورة ق والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل. سورة الذاريات بسم الله الرحمن الرحيم والذاريات ذروا (1) فالحاملات وقرا (2) فالجاريات يسرا (3) فالمقسمات أمرا (4) إنما توعدون لصادق (5) وإن الدين لواقع (6) والسماء ذات الحبك (7) إنكم لفي قول مختلف (8) يؤفك عنه من أفك (9) قتل الخراصون (10) الذين هم في غمرة ساهون (11) يسئلون أيان يوم الدين (12) يوم هم على النار
[ 248 ]
يفتنون (13) ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون (14) قال شعبة بن الحجاج عن سماك عن خالد بن عرعرة أنه سمع علي رضي الله عنه وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أنه سمع عليا رضي الله عنه وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه صعد منبر الكوفة فقال: لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنبأتكم بذلك فقام إليه ابن الكواء فقال يا أمير المؤمنين ما معنى قوله تعالى " والذاريات ذروا " قال علي رضي الله عنه: الريح قال (فالحاملات وقرا) قال رضي الله عنه: السحاب قال (فالجاريات يسرا) قال رضي الله عنه: السفن قال (فالمقسمات أمرا) قال رضي الله عنه: الملائكة. وقد روي في ذلك حديث مرفوع فقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن هانئ حدثنا سعيد بن سلام العطار حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الذاريات ذروا فقال رضي الله عنه هي الرياح ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته قال: فأخبرني عن المقسمات أمرا قال رضي الله عنه هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته قال فأخبرني عن الجاريات يسرا قال رضي الله عنه هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر بضربه فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعا به فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الاشعري رضي الله عنه امنع الناس من مجالسته فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى رضي الله عنه فحلف بالايمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر ما إخاله إلا قد صدق فخل بينه وبين مجالسة الناس قال أبو بكر البزار فأبو بكر بن أبي سبرة لين وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث قلت فهذا الحديث ضعيف رفعه وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر رضي الله عنه فإن قصة صبيغ بن عسل مشهورة مع عمر رضي الله عنه وإنما ضربه لانه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا والله أعلم. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك وقد قيل إن المراد بالذاريات الريح كما تقدم وبالحاملات وقرا السحاب كما تقدم لانها تحمل الماء كما قال زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت نفسي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا فأما الجاريات يسرا فالمشهور عن الجمهور كما تقدم أنها السفن تجري ميسرة في الماء جريا سهلا وقال بعضهم هي النجوم تجري يسرا في أفلاكها ليكون ذلك ترقيا من الادنى إلى الاعلى إلى ما هو أعلى منه فالرياح فوقها السحاب والنجوم فوق ذلك والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ولهذا قال تعالى " إنما توعدون لصادق " أي لخبر صدق " وإن الدين " وهو الحساب " لواقع " أي لكائن لا محالة. ثم قال تعالى (والسماء ذات الحبك) قال ابن عباس رضي الله عنهما ذات الجمال والبهاء والحسن والاستواء وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو صالح والسدي وقتادة وعطية العوفي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال الضحاك والمنهال بن عمرو وغيرهما مثل تجعد الماء والرمل والزرع إذا ضربته الريح فينسج بعضه بعضا طرائق طرائق فذلك الحبك قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا أيوب عن أبي
[ 249 ]
قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن من ورائكم الكذاب المضل وإن رأسه من ورائه حبكا حبكا " يعني بالحبك الجعودة وعن أبي صالح " ذات الحبك " الشدة وقال خصيف " ذات الحبك " ذات الصفافة وقال الحسن بن أبي الحسن البصري " ذات الحبك " حبكت بالنجوم. وقال قتادة عن سالم بن أبي عن معدان بن أبي طلحة عن عمرو البكالي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " والسماء ذات الحبك " يعني السماء السابعة وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة وهي عند كثير من علماء الهيئة في الفلك الثامن الذي فوق السابع والله أعلم. وكل هذه الاقوال ترجع إلى شئ واحد وهو الحسن والبهاء كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة شديدة البناء متسعة الارجاء أنيقة البهاء مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات موشحة بالشمس والقمر والكواكب الزاهرات. وقوله تعالى (إنكم لفي قول مختلف) أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل لفي قول مختلف مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع وقال قتادة إنكم لفي قول مختلف ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به. (يؤفك عنه من أفك) أي إنما يروج على من هو ضال في نفسه لانه قول باطل إنما ينقاد له ويضل بسببه ويؤفك عنه من هو مأفوك ضال غمر لا فهم له كما قال تعالى " فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بقانتين * إلا من هو صال الجحيم " قال ابن عباس رضي الله عنهما والسدي " يؤفك عنه من أفك " يضل عنه من ضل وقال مجاهد " يؤفك عنه من أفك " يؤفن عنه من أفن وقال الحسن البصري يصرف عن هذا القرآن من كذب به. وقوله تعالى " قتل الخراصون " قال مجاهد الكذابون قال وهي مثل التي في عبس " قتل الانسان ما أكفره " والخراصون الذين يقولون لا نبعث ولا يوقنون. وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " قتل الخراصون " أي لعن المرتابون. وهكذا كان معاذ رضي الله عنه يقول في خطبته هلك المرتابون وقال قتادة الخراصون أهل الغرة والظنون وقوله تبارك وتعالى (الذين هم في غمرة ساهون) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد في الكفر والشك غافلون لاهون (يسألون أيان يوم الدين) وإنما يقولون هذا تكذيبا وعنادا وشكا واستبعادا قال الله تعالى (يوم هم على النار يفتنون). قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد يفتنون يعذبون قال مجاهد كما يفتن الذهب على النار وقال جماعة آخرون كمجاهد أيضا وعكرمة وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وسفيان الثوري يفتنون يحرقون " ذوقوا فتنتكم " قال مجاهد حريقكم وقال غيره عذابكم " هذا الذي كنتم به تستعجلون " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا والله أعلم. إن المتقين في جنات وعيون (15) آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين (16) كانوا قليلا من الليل ما يهجعون (17) وبالاسحار هم يستغفرون (18) وفي أموالهم حق للسائل والمحروم (19) وفي الارض آيات للموقنين (20) وفي أنفسكم أفلا تبصرون (21) وفي السماء رزقكم وما توعدون (22) فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون (23) يقول تعالى مخبرا عن المتقين لله عز وجل أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون بخلاف ما أولئك الاشقياء فيه من العذاب والنكال والحريق والاغلال. وقوله تعالى (آخذين ما آتاهم ربهم) قال ابن جرير أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض " إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في
[ 250 ]
الاعمال أيضا ثم روى عن ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي عمر عن مسلم البطين عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " آخذين ما آتاهم ربهم " قال من الفرائض " إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " قبل الفرائض يعملون وهذا الاسناد ضعيف ولا يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد رواه عثمان بن أبي شيبة عن معاوية بن هشام عن سفيان عن أبي عمر البزار عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره والذي فسر به ابن جرير فيه نظر لان قوله تبارك وتعالى " آخذين " حال من قوله في جنات وعيون فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون آخذين ما آتاهم ربهم أي من النعيم والسرور والغبطة وقوله عز وجل " إنهم كانوا قبل ذلك " أي في الدار الدنيا " محسنين " كقوله جل جلاله " كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية " ثم إنه تعالى بين إحسانهم في العمل فقال جل وعلا (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) اختلف المفسرون في ذلك على قولين أحدهما أن ما نافية تقديره كانوا قليلا من الليل لا يهجعونه قال ابن عباس رضي الله عنهما لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئا وقال قتادة عن مطرف بن عبد الله قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عز وجل إما من أولها وإما من أوسطها وقال مجاهد قل ما يرقدون ليلة حتى الصباح يتهجدون وكذا قال قتادة وقال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو العالية كانوا يصلون بين المغرب والعشاء. وقال أبو جعفر الباقر كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة والقول الثاني أن ما مصدرية تقديره كانوا قليلا من الليل هجوعهم ونومهم واختاره ابن جرير وقال الحسن البصري " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر وقال قتادة قال الاحنف بن قيس " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " كانوا لا ينامون إلا قليلا ثم يقول لست من أهل هذه الآية. وقال الحسن البصري كان الاحنف بن قيس يقول عرضت عملي على عمل أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا إذا قوم لا نبلغ أعمالهم كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وعرضت عملي علي عمل أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله وبرسل الله مكذبون بالبعث بعد الموت فقد وجدت من خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال رجل من بني تميم لابي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوما فقال " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ونحن والله قليلا من الليل ما نقوم فقال له أبي رضي الله عنه طوبى لمن رقد إذا نعس واتقى الله إذا استيقظ. وقال عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن أنجفل فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول " يا أيها الناس أطعموا الطعام وصلوا الارحام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ". وقال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها " فقال أبو موسى الاشعري رضي الله عنه لمن هي يا رسول الله ؟ قال صلى الله عليه وسلم " لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وبات لله قائما والناس نيام " وقال معمر في قوله تعالى " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " كان الزهري والحسن يقولان كانوا كثيرا من الليل ما يصلون وقال ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهيم النخعي " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ما ينامون وقال الضحاك " إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا " ثم ابتدأ فقال " من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون " وهذا القول فيه بعد وتعسف. وقوله عز وجل " وبالاسحار هم يستغفرون " قال مجاهد وغير واحد يصلون وقال آخرون قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الاسحار كما قال تبارك وتعالى " والمستغفرين بالاسحار " فإن كان الاستغفار في صلاة فهو
[ 251 ]
أحسن وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخير فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فيعطى سؤله ؟ حتى يطلع الفجر " وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال لبنيه " سوف أستغفر لكم ربي " قالوا أخرهم إلى وقت السحر وقوله تعالى (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) لما وصفهم بالصلاة ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة فقال " وفي أموالهم حق " أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم. أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدئ بالسؤال وله حق كما قال الامام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان عن مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للسائل حق وإن جاء على فرس " ورواه أبو داود من حديث سفيان الثوري به. ثم أسنده من وجه آخر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروي من حديث الهرماس بن زياد مرفوعا وأما المحروم فقال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وهو المحارف الذي ليس له في الاسلام سهم يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه وقال الضحاك هو الذي لا يكون له مال إلا ذهب قضى الله له تعالى ذلك وقال أبو قلابة جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل فقال رجل من الصحابة رضي الله عنهم هذا المحروم وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ونافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وعطاء بن أبي رباح المحروم المحارف وقال قتادة والزهري المحروم الذي لا يسأل الناس شيئا. قال الزهري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غني يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه " وهذا الحديث قد أسنده الشيخان في صحيحيهما من وجه آخر وقال سعيد بن جبير هو الذي يجئ وقد قسم المغنم فيرضخ له. وقال محمد بن إسحاق حدثني بعض أصحابنا قال كنا مع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في طريق مكة فجاء كلب فانتزع عمر رضي الله عنه كتف شاة فرمى بها إليه وقال يقولون إنه المحروم وقال الشعبي أعياني أن أعلم ما المحروم واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله سواء كان لا يقدر على الكسب أو قد هلك ماله أو نحوه بآفة أو نحوها. وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد رضي الله عنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا فجاءه قوم لم يشهدوا الغنيمة فنزلت هذه الآية " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " وهذا يقتضي أن هذه مدنية وليس كذلك بل هي مكية شاملة لما بعدها وقوله عز وجل (وفي الارض آيات للموقنين) أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد والجبال والقفار والانهار والبحار واختلاف ألسنة الناس وألوانهم وما جبلوا عليه من الارادات والقوى وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والحركات والسعادة والشقاوة وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ولهذا قال عز وجل " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " قال قتادة من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة. ثم قال تعالى " وفي السماء رزقكم " يعني المطر " وما توعدون " يعني الجنة قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد وقال سفيان الثوري قرأ واصل الاحدب هذه الآية " وفي السماء رزقكم وما توعدون " فقال ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الارض ؟ فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فلما أن كان اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت وقوله تعالى " فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن محالة وهو حق لا مرية فيه فلا تشكو فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشئ
[ 252 ]
يقول لصاحبه إن هذا لحق كما أنك ههنا قال مسدد عن ابن أبي عدى عن عوف عن الحسن البصري قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا " ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلا. هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين (24) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون (25) فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين (26) فقربه إليهم قال ألا تأكلون (27) فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم (28) فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم (29) قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم (30) هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر أيضا فقوله " هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين " أي الذين أرصد لهم الكرامة وقد ذهب الامام أحمد وطائفة من العلماء إلى وجوب الضيافة للنزيل وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل. وقوله تعالى (قالا سلاما قال سلام) الرفع أقوى وأثبت من النصب فرده أفضل من التسليم ولهذا قال تعالى " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " فالخليل اختار الافضل وقوله تعالى " قوم منكرون " وذلك أن الملائكة وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ولهذا قال " قوم منكرون ". وقوله عز وجل " فراغ إلى أهله " أي انسل خفية في سرعة " فجاء بعجل سمين " أي من خيار ماله وفي الآية الاخرى " فما لبث أن جاء بعجل حنيذ " أي مشوي على الرضف " فقربه إليهم " أي أدناه منهم " قال ألا تأكلون " تلطف في العبارة وعرض حسن وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة ولم يمتن عليهم أولا فقال نأتيكم بطعام بل جاء به بسرعة وخفاء وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجل فتي سمين مشوي فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا بل وضعه بين أيديهم ولم يأمرهم أمرا يشق على سامعه بصيغة الجزم بل قال " ألا تأكلون " على سبيل العرض والتلطف كما يقول القائل اليوم إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل. وقوله تعالى (فأوجس منهم خيفة) هذا محال على ما تقدم في القصة في السورة الاخرى وهي قوله تعالى " فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت " أي استبشرت بهلاكهم لتمردهم وعتوهم على الله تعالى فعند ذلك بشرتها الملائكة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا " وبشروه بغلام عليم " فالبشارة له هي بشارة لها لان الولد منهما فكل منهما بشر به. وقوله تعالى (فأقبلت امرأته في صرة) أي في صرخة عظيمة ورنة قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم والثوري والسدي وهي قولها " يا ويلتا " " فصكت وجهها " أي ضربت بيدها على جبينها قاله مجاهد وابن سابط وقال ابن عباس رضي الله عنهما لطمت أي تعجبا كما تتعجب النساء من الامر الغريب " وقالت عجوز عقيم " أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيما لا أحبل ؟ (قالوا كذلك قال ربك أنه هو الحكيم العليم) أي عليم بما تستحقون من الكرامة حكيم في أقواله وأفعاله.
[ 253 ]
* قال فما خطبكم أيها المرسلون (31) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (32) لنرسل عليهم حجارة من طين (33) مسومة عند ربك للمسرفين (34) فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين (35) فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين (36) وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم (37) قال الله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام " فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود " وقال ههنا " قال فما خطبكم أيها الرسلون " أي ما شأنكم وفيم جئتم ؟ (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) يعنون قوم لوط " لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة " أي معلمة " عند ربك للمسرفين " أي مكتتبة عنده بأسمائهم كل حجر عليه اسم صاحبه فقال في سورة العنكبوت " قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين " وقال تعالى ههنا " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين " وهم لوط وأهل بيته إلا امرأته (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) احتج بهذه من ذهب إلى رأي المعتزل ممن لا يفرق بين مسمى الايمان والاسلام لانه أطلق عليهم المؤمنين والمسلمين وهذا الاستدلال ضعيف لان هؤلاء كانوا قوما مؤمنين وعندنا أن كل مؤمن مسلم لا ينعكس فاتفق الاسمان ههنا لخصوصية الحال ولا يلزم ذلك في كل حال. وقوله تعالى (وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم) أي جعلناها عبرة ما أنزلنا بهم من العذاب والنكال وحجارة السجيل. وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ففي ذلك عبرة للمؤمنين " الذين يخافون العذاب الاليم ". وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين (38) فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم (40) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم (41) ما تذر من شئ وأتت عليه إلا جعلته كالرميم (42) وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين (43) فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون (44) فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين (45) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين (46) يقول تعالى " وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين " أي بدليل باهر وحجة قاطعة " فتولى بركنه " أي فأعرض فرعون عما جاءه به موسى من الحق المبين استكبارا وعنادا وقال مجاهد تعزز بأصحابه وقال قتادة غلب عدو الله على قومه، وقال ابن زيد " فتولى بركنه " أي بجموعه التي معه ثم قرأ " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " والمعنى الاول قوي كقوله تعالى " ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله " أي معرض عن الحق مستكبر " وقال ساحر أو مجنون " أي لا يخلو امرك فيما جئتني به من أن تكون ساحرا أو مجنونا قال الله تعالى (فأخذناه وجنوده فنبذناهم) أي ألقيناهم " في اليم " وهو البحر " وهو مليم " أي وهو ملوم كافر جاحد فاجر معاند. ثم قال عز وجل " وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " أي المفسدة التي لا تنتج شيئا. قاله الضحاك وقتادة وغيرهما ولهذا قال تعالى " ما تذر من شئ أتت عليه " أي مما تفسده الريح " إلا جعلته كالرميم " أي
[ 254 ]
كالشئ الهالك البالي وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب حدثنا عمي عبد الله بن وهب حدثني عبد الله يعني ابن عياش الغساني حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الريح مسخرة من الثانية - يعني من الارض الثانية - فلما أراد الله تعالى أن يهلك عادا أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا قال أي رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور ؟ قال له الجبار تبارك وتعالى لا إذا تكفأ الارض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله عز وجل في كتابه " ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم " هذا الحديث رفعه منكر والاقرب أن يكون موقوفا على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما من زاملتيه اللتين أصابهما يوم اليرموك والله أعلم قال سعيد بن المسيب وغيره في قوله تعالى " إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " قالوا هي الجنوب. وقد ثبت في الصحيح من رواية شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " (وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين) قال ابن جرير يعني إلى وقت فناء آجالكم والظاهر أن هذه كقوله تعالى " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون " وهكذا قال ههنا " وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتي حين * فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون " وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار (فما استطاعوا من قيام) أي من هرب ولا نهوض (وما كانوا منتصرين) أي ولا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه. وقوله عز وجل " وقوم نوح من قبل " أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء " إنهم كانوا قوما فاسقين " وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة والله تعالى أعلم. والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون (47) والارض فرشناها فنعم الماهدون (48) ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون (49) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين (50) ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين (51) يقول تعالى منبها على خلق العالم العلوي والسفلي " والسماء بنيناها " أي جعلناها سقفا محفوظا رفيعا " بأيد " أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والثوري وغير واحد " وإنا لموسعون " أي قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي " والارض فرشناها " أي جعلناها فراشا للمخلوقات " فنعم الماهدون " أي وجعلناها مهدا لاهلها " ومن كل شئ خلقنا زوجين " أي جميع المخلوقات أزواج سماء وأرض وليل ونهار وشمس وقمر وبر وبحر وضياء وظلام وإيمان وكفر وموت وحياة وشقاء وسعادة وجنة ونار حتى الحيوانات والنباتات ولهذا قال تعالى " لعلكم تذكرون " أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له (ففروا إلى الله) أي الجأوا إليه واعتمدوا في أموركم عليه " إني لكم منه نذير مبين " * ولا تجعلوا مع الله إلها آخرا " أي لا تشركوا به شيئا " إني لكم منه نذير مبين ". كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون (52) أتواصوا به بل هم قوم طاغون (53) فتول عنهم فما أنت بملوم (54) وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين (55) وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون (56) ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (57) إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين (58) فإن للذين ظلموا ذنوبا
[ 255 ]
مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون (59) فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون (60) يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم وكما قال لك هؤلاء المشركون قال المكذبون الاولون لرسلهم " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " قال الله ع ز وجل (أتواصوا به) أي أوصى بعضهم بعضا بهذه المقالة ؟ " بل هم قوم طاغون " أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم فقال متأخرهم كما قال متقدمهم قال الله تعالى (فتول عنهم) أي فأعرض عنهم يا محمد " فما أنت بملوم " يعني فما نلومك على ذلك " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة ثم قال جل جلاله (وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجي إليهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إلا ليعبدون " أي إلا ليقروا بعبادتي طوعا أو كرها وهذا اختيار ابن جرير. وقال ابن جريج إلا ليعرفون وقال الربيع بن أنس " إلا ليعبدون " أي إلا للعبادة وقال السدي من العبادة ما ينفع ومنها ما لا ينفع " ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله " هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع الشرك. وقال الضحاك: المراد بذلك المؤمنون وقوله تعالى (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أنا الرزاق ذو القوة المتين " ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث إسرائيل وقال الترمذي حسن صحيح ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد العذاب وأخبر أنه غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم فهو خالقهم ورازقهم قال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نشيط عن أبيه عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني قال الله تعالى - " يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملا صدرك غنى وأسد فقرك وإلا تفعل ملات صدرك شغلا ولم أسد فقرك " ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة وقال الترمذي حسن غريب. وقد روى الامام أحمد عن وكيع وأبي معاوية عن الاعمش عن سلام بن شرحبيل سمعت حبة وسواء ابني خالد يقولان: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء - وقال أبو معاوية يصلح شيئا فأعناه عليه فلما فرغ دعا لنا وقال " لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الانسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يعطيه الله ويرزقه ". وقد ورد في بعض الكتب الالهية: يقول الله تعالى ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شئ وإن فتك فاتك كل شئ وأنا أحب إليك من كل شئ. وقوله تعالى (فإن للذين ظلموا ذنوبا) أي نصيبا من العذاب " مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون " أي فلا يستعجلون ذلك فإنه واقع لا محالة (فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون) يعني يوم القيامة. آخر تفسير سورة الذاريات ولله الحمد والمنة. سورة الطور قال مالك عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه أخرجاه من طريق مالك وقال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 256 ]
أني أشتكي فقال " طوفي من وراء الناس وأنت راكبة " فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور. بسم الله الرحمن الرحيم والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت المعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6) إن عذاب ربك لواقع (7) ماله من دافع (8) يوم تمور السماء مورا (9) وتسير الجبال سيرا (10) فويل يومئذ للمكذبين (11) الذين هم في خوض يلعبون (12) يوم يدعون إلى نار جهنم دعا (13) هذه النار التي كنتم بها تكذبون (14) أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون (15) اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون (16) يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه وأنه لا دافع له عنهم فالطور هو الجبل الذي يكون فيه أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى وأرسل منه عيسى وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طورا إنما يقال له جبل " وكتاب مسطور " قيل هو اللوح المحفوظ وقيل الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهارا ولهذا قال " في رق منشور * والبيت المعمور " ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الاسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة " ثم رفع بي إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه آخر ما عليهم " يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الارض بكعبتهم كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور لانه باني الكعبة الارضية والجزاء من جنس العمل وهو بحيال الكعبة وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا روح بن جناح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " في السماء السابعة بيت يقال له المعمور بحيال الكعبة وفي السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم فينغمس فيه انغماسة ثم يخرج فينتفض انتفاضة يخر عنه سبعون ألف قطرة يخلق الله في كل قطرة ملكا يؤمرون أن البيت المعمور فيصلون فيه فيفعلون ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبدا ويولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم من السماء موقفا يسبحون الله فيه إلى أن تقوم الساعة " هذا حديث غريب جدا تفرد به روح بن جناح هذا وهو القرشي الاموي مولاهم أبو سعيد الدمشقي وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ منهم الجوزجاني والعقيلي والحاكم أبو عبد الله النيسابوري وغيرهم قال الحاكم لا أصل له من حديث أبي هريرة ولا سعيد ولا الزهري وقال ابن جرير حدثنا هناد بن السرى حدثنا أبو الاحوص عن سماك بن حرب عن خالد بن عرعرة أن رجلا قال لعلي ما البيت المعمور ؟ قال بيت في السماء يقال له الضراح وهو بحيال الكعبة من فوقها حرمته في السماء كحرمة البيت في الارض يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. وكذا رواه شعبة وسفيان الثوري عن سماك وعندهما أن ابن الكواء هو السائل عن ذلك ثم رواه ابن جرير عن أبي كريب عن طلق بن غنام عن زائدة عن عاصم عن علي بن ربيعة قال سأل ابن الكواء عليا عن البيت المعمور
[ 257 ]
قال مسجد في السماء يقال له الضراح يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون فيه أبدا. رواه من حديث أبي الطفيل عن علي بمثله. وقال العوفي عن ابن عباس هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة يصلي فيه كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ثم لا يعودون إليه وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف وقال قتادة والربيع بن أنس والسدي ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لاصحابه " هل تدرون ما البيت المعمور ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم " وزعم الضحاك أنه يعمره طائفة من الملائكة يقال لهم الجن من قبيلة إبليس فالله أعلم. وقوله تعالى (والسقف المرفوع) قال سفيان الثوري وشعبة وأبو الاحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة عن علي " والسقف المرفوع " يعني السماء قال سفيان ثم تلا " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون " وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وابن جرير وابن زيد واختاره ابن جرير وقال الربيع بن أنس هو العرش يعني أنه سقف لجميع المخلوقات وله اتجاه وهو مراد مع غيره كما قاله الجمهور. وقوله تعالى (والبحر المسجور) قال الربيع بن أنس هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر الذي تحيا به الاجساد في قبورها يوم معادها وقال الجمهور هو هذا البحر واختلف في معنى قوله المسجور فقال بعضهم المراد أنه يوقد يوم القيامة نارا كقوله " وإذا البحار سجرت " أي أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف ورواه سعيد بن المسيب عن على بن أبي طالب وروي عن ابن عباس وبه يقول سعيد بن جبير ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهم وقال العلاء بن بدر إنما سمي البحر المسجور لانه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع وكذلك البحار يوم القيامة كذا رواه عنه ابن أبي حاتم وعن سعيد بن جبير " والبحر المسجور " يعني المرسل وقال قتادة المسجور المملوء واختاره ابن جرير ووجهه بأنه ليس موقدا اليوم فهو مملوء وقيل المراد به الفارغ قال الاصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " والبحر المسجور " قال الفارغ خرجت أمة تستسقي فرجعت فقالت إن الحوض مسجور يعني فارغا. رواه ابن مردويه في مسانيد الشعراء وقيل المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الارض لئلا يغمرها فيغرق أهلها. قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه يقول السدي وغيره وعليه يدل الحديث الذي رواه الامام أحمد رحمه الله في مسنده فإنه قال حدثنا يزيد حدثنا العوام حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال حدثنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضح عليهم فيكفه الله عز وجل " وقال الحافظ أبو بكر الاسماعيلي حدثنا الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه عن يزيد وهو ابن هارون عن العوام ابن حوشب حدثني شيخ مرابط قال خرجت ليلة لمحرسي لم يخرج أحد من الحرس غيري فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي رؤوس الجبال فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ فلقيت أبا صالح فقال: حدثنا عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل " فيه رجل مبهم لم يسم. وقوله تعالى " إن عذاب ربك لواقع " هذا هو المقسم عليه أي لواقع بالكافرين كما قال في الآية الاخرى " ماله من دافع " أي ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك. قال الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا أبي حدثنا موسى بن داود عن صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي قال خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ " والطور - حتى بلغ إن عذاب ربك لواقع *
[ 258 ]
ماله من دافع " قال قسم ورب الكعبة حق فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ثم رجع إلى منزله فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضى الله عنه وقال الامام أبو عبيد في فضائل القرآن حدثنا محمد بن صالح حدثنا هشام بن حسان عن الحسن أن عمر قرأ " إن عذاب ربك لواقع * ماله من دافع " فربا لها ربوة عيد منها عشرين يوما. وقوله تعالى (يوم تمور السماء مورا) قال ابن عباس وقتادة: تتحرك تحريكا وعن ابن عباس هو تشققها وقال مجاهد: تدور دورا وقال الضحاك: استدارتها وتحركها لامر الله وموج بعضها في بعض وهذا اختيار ابن جرير إنه التحرك في استدارة. قال وأنشد أبو عبيدة معمر بن المثنى بيت الاعشى فقال: كأن مشيتها من بيت جارتها * مور السحابة لا ريث ولا عجل. (وتسير الجبال سيرا) أي تذهب فتصير هباء منبثا وتنسف نسفا (فويل يموئذ للمكذبين) أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم (الذين هم في خوض يلعبون) أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزوا ولعبا " يوم يدعون " أي يدفعون ويساقون " إلى نار جهنم دعا " وقال مجاهد والشعبي ومحمد بن كعب والضحاك والسدي والثوري يدفعون فيها دفعا (هذه النار التي كنتم بها تكذبون) أي تقول له الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا " أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها " أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته " فاصبروا أولا تصبروا سواء عليكم " أي سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها و " إنما تجزون ما كنتم تعملون " أي ولا يظلم الله أحدا بل يجازي كلا بعمله. إن المتقين في جنات ونعيم (17) فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم (18) كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون (19) متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين (20) أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال " إن المتقين في جنات ونعيم " وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال " فاكهين بما آتاهم ربهم " أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك " ووقاهم ربهم عذاب الجحيم " أي وقد نجاهم من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة التي فيها من السرور مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وقوله تعالى " كلوا وأشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) كقوله تعالى (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الايام الخالية " أي هذا بذاك تفضلا منه وإحسانا وقوله تعالى " متكئين على سرر مصفوفة " قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس السرر في الحجال وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا صفوان بن عمرو أنه سمع الهيثم بن مالك الطائي يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه ". وحدثنا أبي أخبرنا هدبة بن خالد عن سليمان بن المغيرة عن ثابت قال بلغنا أن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم فإذا حانت منه نظرة فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك فيقلن قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيبا ومعنى " مصفوفة " أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله " على سرر متقابلين " " وزوجناهم بحور عين " أي وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حسان من الحور العين وقال مجاهد " وزوجناهم " أنكحناهم بحور عين وقد تقدم وصفهم في غير موضع بما أغنى عن إعادته ههنا.
[ 259 ]
والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل أمرئ بما كسب رهين (21) وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون (22) يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم (23) * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون (24) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (25) قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (26) فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم (27) إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم (28) يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الايمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالابناء عندهم في منازلهم فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك ولهذا قال " ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " قال الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري به. وكذا رواه ابن جرير من حديث شعبة عن عمرو بن مرة به ورواه البزاز عن سهل بن بحر عن الحسن بن حماد الوراق عن قيس بن الربيع عن عمرو بن مرة عن سعيد عن ابن عباس مرفوعا فذكره ثم قال وقد رواه الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن ابن عباس موقوفا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد البيروتي أخبرني محمد بن سعيد أخبرني شيبان أخبرني ليث عن حبيب بن أبي ثابت الاسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " قال هم ذرية المؤمن يموتون على الايمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا. وقال الحافظ الطبراني حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن غزوان حدثنا شريك عن سالم الافطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا دجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به " وقرأ ابن عباس " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان " الآية. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية يقول والذين أدرك ذريتهم الايمان فعملوا بطاعتي ألحقتهم بإيمانهم إلى الجنة وأولادهم الصغار تلحق بهم وهذا راجع إلى التفسير الاول فإن ذلك مفسر اصرح من هذا. وهكذا يقول الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم وقتادة وأبو صالح والربيع بن أنس والضحاك وابن زيد وهو اختيار ابن جرير وقد قال عبد الله بن الامام أحمد حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن علي قال سألت خديجة النبي صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هما في النار " فلما رأى الكراهية في وجهها قال " لو رأيت مكانهما لابغضتهما " قالت يا رسول الله فولدي منك قال " في الجنة " قال ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان " " الآية هذا فضله تعالى على الابناء ببركة عمل الآباء وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الابناء فقد قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أني لي هذه ؟ فيقول باستغفار ولدك لك " إسناده صحيح ولم يخرجوه من هذا الوجه ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو
[ 260 ]
علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ". وقوله تعالى " كل امرئ بما كسب رهين " لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء عن غير عمل يقتضي ذلك أخبر عن مقام العدل وهو أنه لا يؤاخذ أحدا بذنب أحد فقال تعالى " كل امرئ بما كسب رهين " أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس سواء كان أبا أو ابنا كما قال تعالى " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين " وقوله (وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون) أي وألحقناهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهي. وقوله " يتنازعون فيها كأسا " أي تعاطون فيها كأسا أي من الخمر قاله الضحاك " لا لغو فيها ولا تأثيم " أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان ولا إثم أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا قال ابن عباس: اللغو الباطل والتأثيم الكذب وقال مجاهد لا يستبون ولا يؤثمون وقال قتادة كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها كما تقدم فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال " بيضاء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون " وقال " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " وقال ههنا " يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم ". وقوله تعالى " ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم كما قال " ويطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين ". وقوله تعالى (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي أقبلوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا وهذا كما يتحدث أهل الشراب على شرابهم إذا أخذ فيهم الشراب بما كان من أمرهم (قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) أي فتصدق علينا وأجارنا مما نخاف " إنا كنا من قبل ندعوه " أي نتضرع إليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا " إنه هو البر الرحيم ". وقد ورد في هذا المقام حديث رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده فقال حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن دينار حدثنا الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الاخوان فيجئ سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا فيتحدثان فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا فيقول أحدهما لصاحبه يا فلان تدرى أي يوم غفر الله لنا ؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عز وجل فغفر لنا " ثم قال البزار لا نعرفه يروى إلا بهذا الاسناد قلت وسعيد بن دينار الدمشقي قال أبو حاتم هو مجهول وشيخه الربيع بن صبيح وقد تكلم فيه غير واحد من جهة حفظه وهو رجل صالح ثقة في نفسه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الاودي حدثنا وكيع عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية " فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم " فقالت اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم. قيل للاعمش في الصلاة ؟ قال نعم. فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون (29) أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون (30) قل تربصوا فإني معكم من المتربصين (31) أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون (32) أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون (33) فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين (34) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه ثم نفى عنه ما يرميه به أهل
[ 261 ]
البهتان والفجور فقال " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون " أي لست بحمد الله بكاهن كما تقول الجهلة من كفار قريش والكاهن الذي يأتيه الرئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء " ولا مجنون " وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكرا عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " أي قوارع الدهر والمنون الموت يقولون ننتظره ونصبر عليه حتى يأتيه الموت فنستريح منه ومن شأنه قال الله تعالى " قل تربصوا فإني معكم من المتربصين " أي انتظروا فإني منتظر معكم وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. قال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما إن قريشا لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " ثم قال تعالى " أم تأمرهم أحلامهم بهذا " أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الاقاويل الباطلة التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور " أم هم قوم طاغون " أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك. وقوله تعالى " أم يقولون تقوله " أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن قال الله تعالى " بل لا يؤمنون " أي كفرهم هو الذي حملهم على هذه المقالة (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) أي إن كانوا صادقين في قولهم تقوله وافتراه فليأتوا بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الارض من الجن والانس ما جاءوا بمثله ولا بعشر سور من مثله ولا بسورة من مثله. أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون (35) أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون (36) أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون (37) أم لهم سلام يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين (38) أم له البنات ولكم البنون (39) أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون (40) أم عندهم الغيب فهم يكتبون (41) أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون (42) أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون (43) هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الالوهية فقال تعالى " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون " أي أوجدوا من غير موجد ؟ أم هم أوجدوا أنفسهم أي لا هذا ولا هذا بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا. قال البخاري حدثنا الحميدي حدثنا سفيان قال حدثني عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون * أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون " كاد قلبي أن يطير وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طرق عن الزهري به وجبير بن مطعم كان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقعة بدر في فداء الاسارى وكان إذ ذاك مشركا فكان سماعه هذه الآية من هذه السورة من جملة ما حمله على الدخول في الاسلام بعد ذلك. ثم قال تعالى (أم خلقوا السموات والارض بل لا يوقنون) أي أهم خلقوا السموات والارض ؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك (أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون) أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن " أم هم المسيطرون " أي المحاسبون للخلائق ؟ ليس الامر كذلك بل الله عز وجل هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. وقوله تعالى " أم لهم سلم يستمعون فيه " أي مرقاة إلى الملا الاعلى
[ 262 ]
" فليأت مستمعهم بسلطان مبين " أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال أي وليس لهم سبيل إلى ذلك فليسوا على شئ ولا لهم دليل. ثم قال منكرا عليهم فيما نسبوه إليه من البنات وجعلهم الملائكة إناثا واختيارهم لانفسهم الذكور على الاناث بحيث إذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم هذا وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال (أم له النبات ولكم البنون) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد " أم تسألهم أجرا " أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله ؟ أي لست تسألهم على ذلك شيئا " فهم من مغرم مثقلون " أي فهم من أدنى شئ يتبرمون منه ويثقلهم ويشق عليهم " أم عندهم الغيب فهم يكتبون " أي ليس الامر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السموات والارض الغيب إلا الله (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) يقول تعالى أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه فكيدهم إنما يرجع وباله على أنفسهم فالذين كفروا هم المكيدون (أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون) وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الاصنام والانداد مع الله ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ويشركون فقال " سبحان الله عما يشركون ". وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم (44) فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون (45) يوم لا يغنى عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون (46) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون (47) واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم (48) ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم (49) يقول تعالى مخبرا عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا " أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ولما أيقنوا بل يقولون هذا سحاب مركوم أي متراكم وهذا كقوله تعالى " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ". وقال الله تعالى " فذرهم " أي دعهم يا محمد " حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون " وذلك يوم القيامة " يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا " أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئا " ولا هم ينصرون " ثم قال تعالى " وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك " أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى " ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر لعلهم يرجعون " ولهذا قال تعالى " ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب لعلهم يرجعون وينيبون فلا يفهمون ما يراد بهم بل إذا جلى عنهم مما كانوا فيه عادوا إلى أسوإ ما كانوا عليه كما جاء في بعض الاحاديث " إن المنافق إذا مرض وعوفي مثله في ذلك كمثل البعير لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه " وفي الاثر الالهي " كم أعصيك ولا تعاقبني ؟ قال الله تعالى يا عبدي كم أعاقبك وأنت لا تدري " ؟ وقوله تعالى " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " أي اصبر على أذاهم ولا تبا لهم فإنك بمرأى منا وتحت كلاءتنا والله يعصمك من الناس. وقوله تعالى " وسبح بحمد ربك حين تقوم " قال الضحاك أي إلى الصلاة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وقد روي مثله عن الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وروى مسلم في صحيحه عن عمر أنه كان يقول هذا في ابتداء الصلاة ورواه أحمد وأهل السنن عن أبي سعيد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك. وقال أبو الجوزاء " وسبح بحمد ربك حين تقوم " أي من نومك من فراشك واختاره ابن جرير ويتأيد هذا القول بما رواه الامام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الاوزاعي حدثني عمير بن هانئ حدثني جنادة بن
[ 263 ]
أبي أمية حدثنا عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال رب اغفر لي - أو قال ثم دعا - استجيب له فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته " وأخرجه البخاري في صحيحه وأهل السنن من حديث الوليد بن مسلم به وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " وسبح بحمد ربك حين تقوم " قال من كل مجلس وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص " وسبح بحمد ربك حين تقوم " قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الدمشقي حدثنا محمد بن شعيب أخبرني طلحة ابن عمرو الحضرمي عن عطاء بن أبي رباح أنه حدثه عن قول الله تعالى " وسبح بحمد ربك حين تقوم " يقول حين تقوم من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيرا وإن كنت غير ذلك كان هذا كفارة له وقد قال عبد الرزاق في جامعه أخبرنا معمر عن عبد الكريم الجزري عن أبي عثمان الفقير أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. قال معمر وسمعت غيره يقول هذا القول كفارة المجالس وهذا مرسل وقد وردت أحاديث مسندة من طرق يقوي بعضها بعضا بذلك فمن ذلك حديث ابن جريج عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك " رواه الترمذي وهذا لفظه والنسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال إسناده على شرط مسلم إلا أن البخاري علله قلت علله الامام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج على أن أبا داود قد رواه في سننه من طريق غير ابن جريج إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ورواه أبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم في المستدرك من طريق الحجاج بن دينار عن هاشم عن أبي العالية عن أبي برزة الاسلمي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بآخر عمره إذا أراد أن يقوم من المجلس " سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك " فقال رجل يا رسول الله إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى قال " كفارة لما يكون في المجلس " وقد روي مرسلا عن أبى العالية فالله أعلم وهكذا رواه النسائي والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله سواء وروي مرسلا أيضا فالله أعلم. وكذا رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير ومجلس ذكر إلا ختم له بهن كما يختم بالخاتم: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. وأخرجه الحاكم من حديث أم المؤمنين عائشة وصححه ومن رواية جبير بن مطعم ورواه أبو بكر الاسماعيلي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أفردت لذلك جزءا على حدة بذكر طرقه وألفاظه وعلله وما يتعلق بها ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى " ومن الليل فسبحه " أي اذكره واعبده بالتلاوة والصلاة في الليل كما قال تعالى " ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ". وقوله تعالى " وإدبار النجوم " قد تقدم في حديث ابن عباس أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة. وقد روى ابن سيلان عن أبي هريرة مرفوعا " لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل " يعني ركعتي الفجر رواه أبو داود ومن هذا الحديث حكي عن بعض أصحاب أحمد القول بوجوبهما وهو ضعيف لحديث " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال هل علي غيرها قال " لا إلا أن تطوع ". وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يكن رسول الله
[ 264 ]
صلى الله عليه وسلم على شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر وفي لفظ لمسلم " ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها " آخر تفسير الطور ولله الحمد والمنة. سورة النجم قال البخاري حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد - يعني الزبيدي - حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الاسود بن يزيد عن عبد الله قال أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم قال فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف. وقد رواه البخاري أيضا في مواضع ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن أبي إسحاق به وقوله في الممتنع إنه أمية بن خلف في هذه الرواية مشكل فإنه قد جاء من غير هذه الطريق أنه عتبة بن ربيعة. بسم الله الرحمن الرحيم والنجم إذا هوى (1) ما ضل صاحبكم وما غوى (2) وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحى يوحى (4) قال الشعبي وغيره: الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق رواه ابن أبي حاتم. واختلف المفسرون في معنى قوله " والنجم إذا هوى " فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني بالنجم الثريا إذا سقطت مع الفجر وكذا روي عن ابن عباس وسفيان الثوري واختاره ابن جرير وزعم السدي أنها الزهرة وقال الضحاك " والنجم إذا هوى " إذا رمي به الشياطين وهذا القول له اتجاه. وروى الاعمش عن مجاهد في قوله تعالى " والنجم إذا هوى " يعني القرآن إذا نزل وهذه الآية كقوله تعالى " فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين ". وقوله تعالى (ما ضل صاحبكم وما غوى) هذا هو المقسم عليه وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد تابع للحق ليس بضال: وهو الجاهل الذي يسلك على غير طريق بغير علم والغاوي هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره فنزه الله رسوله وشرعه عن مشابهة أهل الضلال كالنصارى وطرائق اليهود وهي علم الشئ وكتمانه والعمل بخلافه بل هو صلاة الله وسلامه عليه وما بعثه الله به من الشرع العظيم في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ولهذا قال تعالى (وما ينطق عن الهوى) أي ما يقول قولا عن هوى وغرض (إن هو إلا وحي يوحى) أي إنما يقول ما أمر به يبلغه إلى الناس كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان كما رواه الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليدخل الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين - أو مثل أحد الحيين - ربيعة ومضر " فقال رجل يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر ؟ قال " إنما أقول ما أقول " وقال الامام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن الاخنس أخبرنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا إنك تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب فأمسكت عن الكتاب فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق " ورواه أبو داود عن مسدد وأبي بكر بن أبي شيبة كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أحمد ابن منصور حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة
[ 265 ]
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه " ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد وقال الامام أحمد حدثنا يونس حدثنا ليث عن محمد بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا أقول إلا حقا " قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول الله ؟ قال " إني لا أقول إلا حقا ". علمه شديد القوى (5) ذو مرة فاستوى (6) وهو بالافق الاعلى (7) ثم دنا فتدلى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى (9) فأوحى إلى عبده ما أوحى (10) ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى (12) ولقد رأه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14) عندها جنة المأوى (15) إذ يغشى السدرة ما يغشى (16) ما زاغ البصر وما طغى (17) لقد رأى من آيات ربه الكبرى (18) يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علمه الذي جاء به إلى الناس " شديد القوى " وهو جبريل عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى " إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ". قال ههنا " ذو مرة " أي ذو قوة قاله مجاهد والحسن وابن زيد وقال ابن عباس: ذو منظر حسن وقال قتادة ذو خلق طويل حسن ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية ابن عمر وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مره سوي " وقوله تعالى " فاستوى " يعني جبريل عليه السلام قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس (وهو بالافق الاعلى) يعني جبريل استوى في الافق الاعلى. قاله عكرمة وغير واحد. قال عكرمة: والافق الاعلى الذي يأتي منه الصبح وقال مجاهد هو مطلع الشمس وقال قتادة هو الذي يأتي منه النهار وكذا قال ابن زيد وغيرهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا مصرف بن عمرو اليامي أبو القاسم حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن طلحة بن مصرف حدثني أبي عن الوليد هو ابن قيس عن إسحق بن أبي الكهتلة أظنه ذكره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الافق وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد فذلك قوله " وهو بالافق الاعلى " وقد قال ابن جرير ههنا قولا لم أره لغيره ولا حكاه هو عن أحد وحاصله: أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى أي هذا الشديد القوى ذو المرة هو ومحمد صلى الله عليه وسلم بالافق الاعلى أي استويا جميعا بالافق الاعلى وذلك ليلة الاسراء كذا قال ولم يوافقه أحد على ذلك ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال وهو كقوله " أئذا كنا ترابا وآباؤنا " فعطف بالآباء على المكنى في كنا من غير إظهار نحن فكذلك قوله فاستوى وهو قال وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده: ألم تر أن النبع يصلب عوده * ولا يستوي والخروع المتقصف وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ولكن لا يساعده المعنى على ذلك فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الاسراء بل قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الاسراء وكانت هذه الرؤية الاولى في أوائل البعثة بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ ثم فتر الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال فكلما هم بذلك ناداه جبريل من الهواء يا محمد أنت رسول الله حقا وأنا جبريل فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه وكلما طال عليه الامر عاد لمثلها حتى
[ 266 ]
تبدى له جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالابطح في صورته التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح قد سد عظم خلقه الافق فاقترب منه وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة وجلالة قدره وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حيث قال حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن منصور حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينا أنا قاعد إذ جاء جبريل عليه السلام فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست فالتفت إلى جبريل كأنه جلس لاطئ فعرفت فضل علمه بالله علي وفتح لي باب من أبواب السماء ورأيت النور الاعظم وإذا دون الحجاب رفزفة الدر والياقوت وأوحي إلي ما شاء الله أن يوحي " ثم قال البزار لا يرويه إلا الحارث بن عبيد وكان رجلا مشهورا من أهل البصر " قلت " الحارث بن عبيد هذا هو أبو قدامة الايادي أخرج له مسلم في صحيحه إلا أن ابن معين ضعفه وقال ليس هو بشئ وقال الامام أحمد مضطرب الحديث وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وقال ابن حبان كثر وهمه فلا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد فهذا الحديث من غرائب رواياته فإن فيه نكارة وغرابة ألفاظ وسياقا عجيبا ولعله منام والله أعلم وقال الامام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله أنه قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الافق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم. انفرد به أحمد وقال أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن إدريس بن منبه عن وهب بن منبه عن ابن عباس قال: سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال ادع ربك فدعا ربه عز وجل فطلع عليه سواد من قبل المشرق فجعل يرتفع وينتشر فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم صعق فأتاه فنعشه ومسح البزاق عن شدقه. تفرد به أحمد وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب من طريق محمد بن إسحاق عن عثمان بن عروة بن الزبير عن أبيه عن هناد بن الاسود قال: كان أبو لهب وابنه عتبة قد تجهزا إلى الشام فتجهزت معهما فقال ابنه عتبة والله لانطلقن إلى محمد ولآذينه في ربه سبحانه وتعالى فانطلق حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هو يكفر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " ثم انصرف عنه فرجع إلى أبيه فقال يا بني ما قلت له ؟ فذكر له ما قاله فقال فما قال لك قال: قال " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " قال يا بني والله ما آمن عليك دعاءه فسرنا حتى نزلنا أبراه وهي في سدة ونزلنا إلى صومعة راهب فقال الراهب يا معشر العرب ما أنزلكم هذه البلاد فإنها يسرح الاسد فيها كما تسرح الغنم فقال لنا أبو لهب: إنكم قد عرفتم كبر سني وحقي وإن هذا الرجل قد دعا على ابني دعوة والله ما آمنها عليه فاجمعوا متاعكم إلى هذه الصومعة وافرشوا لابني عليها ثم افرشوا حولها ففعلنا فجاء الاسد فشم وجوهنا فلما لم يجد ما يريد تقبض فوثب وثبة فإذا هو فوق المتاع فشم وجهه ثم هزمه هزمة ففسخ رأسه فقال أبو لهب قد عرفت أنه لا ينفلت عن دعوة محمد. وقوله تعالى (فكان قاب قوسين أو أدنى) أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الارض حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أي بقدرهما إذا مدا قاله مجاهد وقتادة. وقد قيل إن المراد بذلك بعد ما بين وتر القوس إلى كبدها. وقوله تعالى " أو أدنى " قد تقدم أن هذه الصيغة تستعمل في اللغة لاثبات المخبر عنه ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة " أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة وكذا قوله " يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " وقوله " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها فهذا تحقيق للمخبر به لا شك ولا تردد فإن هذا ممتنع ههنا وهكذا هذه الآية " فكان قاب قوسين أو أدنى " وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني الذي صار بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل عليه السلام وهو قول أم المؤمنين عائشة وابن مسعود وأبي ذر وأبي
[ 267 ]
هريرة كما سنورد أحاديثهم قريبا إن شاء الله تعالى. وروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فجعل هذه إحداهما وجاء في حديث شريك بن أبي نمر عن أنس في حديث الاسراء ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية وذكروا أشياء فيها من الغرابة فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أخرى لا أنها تفسير لهذه الآية فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض لا ليلة الاسراء ولهذا قال بعده " ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى " فهذه هي ليلة الاسراء والاولى كانت في الارض. وقد قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا سليمان الشيباني حدثنا زر بن حبيش قال: قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية " فكان قاب قوسين أو أدنى " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت جبريل له ستمائة جناح ". وقال ابن وهب حدثنا ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كان أول شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى في منامه جبريل بأجياد ثم إنه خرج ليقضي حاجته فصرخ به جبريل يا محمد يا محمد فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينا وشمالا فلم ير أحدا ثلاثا ثم رفع بصره فإذا هو ثاني إحدى رجليه مع الاخرى على أفق السماء فقال يا محمد جبريل جبريل يسكنه فهرب النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل في الناس فنظر فلم ير شيئا ثم خرج من الناس ثم نظر فرآه فدخل في الناس فلم ير شيئا ثم خرج فنظر فرآه فذلك قول الله عز وجل " والنجم إذا هوى - إلى قوله ثم دنا فتدلى " يعني جبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام " فكاد قاب قوسين أو أدنى " ويقولون: القاب نصف أصبع وقال بعضهم ذراعين كان بينهما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب به وفي حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر شاهدا لهذا. وروى البخاري عن طلق بن غنام عن زائدة عن الشيباني قال سألت زرا عن قوله " فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى " قال حدثنا عبد الله أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح. وقال ابن جرير حدثني ابن بزيع البغدادي حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله " ما كذب الفؤاد ما رأى " قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف قد ملا ما بين السماء والارض، فعلى ما ذكرناه يكون قوله (فأوحى إلى عبده ما أوحى) معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل وكلا المعنيين صحيح وقد ذكر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى " فأوحى إلى عبده ما أوحى " قال أوحى الله إليه: ألم أجدك يتيما - ورفعنا لك ذكرك. وقال غيره أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الانبياء حتى تدخلها وعلى الامم حتى تدخلها أمتك وقوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى) قال مسلم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا وكيع حدثنا الاعمش عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس " ما كذب الفؤاد ما رأى " " ولقد رآه نزلة أخرى " قال رآه بفؤاده مرتين وكذا رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله وكذا قال أبو صالح والسدي وغيرهما إنه رآه بفؤاده مرتين وقد خالفه ابن مسعود وغيره وفي رواية عنه أنه أطلق الرؤية وهي محمولة على المقيدة بالفؤاد ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب فإنه لا يصح في ذلك شئ عن الصحابة رضي الله عنهم وقول البغوي في تفسيره وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس والحسن وعكرمة فيه نظر والله أعلم وقال الترمذي حدثنا محمد بن عمرو بن المنهال بن صفوان حدثنا يحيى بن كثير العنبري عن سلمة بن جعفر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال رأى محمد ربه قلت أليس الله يقول " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " قال ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره وقد رأى ربه مرتين ثم قال حسن غريب وقال أيضا حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال لقي ابن عباس كعبا بعرفة فسأله عن شئ فكبر حتى
[ 268 ]
جاوبته الجبال فقال ابن عباس إنا بنو هاشم فقال كعب إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين وقال مسروق دخلت على عاثشة فقلت هل رأى محمد ربه فقالت لقد تكلمت بشئ قف له شعري فقلت رويدا ثم قرأت " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " فقالت أين يذهب بك إنما هو جبريل من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمر به أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث " فقد أعظم على الله الفرية ولكنه رأى جبريل لم يره في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في أجياد وله ستمائة جناح قد سد الافق. وقال النسائي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال أتعجبون أن تكون الخلة لابراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد عليهم السلام وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال " نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب قال: قالوا يا رسول الله رأيت ربك ؟ قال " رأيته بفؤادي مرتين " ثم قرأ " ما كذب الفؤاد ما رأى " ورواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال " لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين " ثم تلا " ثم دنا فتدلى " ثم قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا محمد بن عبد الله الانصاري أخبرني عباد بن منصور قال سألت عكرمة عن قوله " ما كذب الفؤاد ما رأى " فقال عكرمة تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت نعم قال قد رآه ثم قد رآه قال فسألت عنه الحسن فقال قد رأى جلاله وعظمته ورداءه. وحدثنا أبي حدثنا محمد بن مجاهد حدثنا أبو عامر العقدي أخبرنا أبو خلدة عن أبي العالية قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال " رأيت نهرا ورأيت وراء النهر حجابا ورأيت وراء الحجاب نورا لم أر غيره " وذلك غريب جدا. فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ربي عز وجل " فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح لكنه مختصر من حديث المنام كما رواه الامام أحمد أيضا حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتاني ربي الليلة في أحسن صورة - أحسبه يعني في النوم - فقال يا محمد أتدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت لا فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي - أو قال نحري - فعلمت ما في السموات وما في الارض ثم قال يا محمد هل تدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ قال: قلت نعم يختصمون في الكفارات والدرجات قال وما الكفارات ؟ قال: قلت المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الاقدام إلى الجماعات وإبلاغ الوضوء في المكاره من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه وقال قل يا محمد إذا صليت اللهم أني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون قال والدرجات بذل الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام " وقد تقدم في آخر سورة ص عن معاذ نحوه. وقد رواه ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس وفيه سياق آخر وزيادة غريبة فقال حدثني أحمد بن عيسى التميمي حدثنا سليمان بن عمر بن سيار حدثني أبي عن سعيد بن زربي عن عمر بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي يا محمد هل تدري فيم يختصم الملا الاعلى ؟ فقلت لا يا رب فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثدي فعلمت ما في السموات والارض فقلت يا رب في الدرجات والكفارات ونقل الاقدام إلى الجماعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فقلت يا رب إنك اتخذت إبراهيم خليلا وكلمت موسى تكليما وفعلت وفعلت فقال ألم أشرح لك صدرك ؟ ألم أضع عنك وزرك ؟ ألم أفعل بك ألم أفعل بك ؟ قال فأفضى إلي باشياء لم يؤذن لي أن أحدثكموها
[ 269 ]
قال فذاك قوله في كتابه " ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى " فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي " إسناده ضعيف. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر بسنده إلى هبار بن الاسود رضي الله عنه أن عتبة بن أبي لهب لما خرج في تجارة إلى الشام قال لاهل مكة اعلموا أني كافر بالذي دنا فتدلى فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (سيرسل الله عليه كلبا من كلابه) قال هبار فكنت معهم فنزلنا بأرض كثيرة الاسد قال فلقد رأيت الاسد جاء فجعل يشم رؤوس القوم واحدا واحدا حتى تخطى إلى عتبة فاقتطع رأسه من بينهم. وذكر ابن إسحاق وغيره في السيرة أن ذلك كان بأرض الزرقاء وقيل بالسراة وأنه خاف ليلتئذ وأنهم جعلوه بينهم وناموا من حوله فجاء الاسد فجعل يزأر ثم تخطاهم إليه فضغم رأسه لعنه الله. وقوله تعالى (ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى) هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الاسراء. وقد قدمنا الاحاديث الواردة في الاسراء بطرقها وألفاظها في أول سورة سبحان بما أغنى عن إعادته ههنا. وتقدم أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يثبت الرؤية ليلة الاسراء ويستشهد بهذه الآية وتابعه جماعة من السلف والخلف وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم. وقال الامام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود في هذه الآية " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت جبريل وله ستمائة جناح ينتثر من ريشه التهاويل من الدر والياقوت " وهذا إسناد جيد قوي وقال أحمد أيضا حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل عن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الافق: يسقط من جناحه من التهاويل من الدر والياقوت ما الله به عليم. إسناده حسن أيضا. وقال الامام أحمد أيضا حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين حدثني عاصم بن بهدلة قال: سمعت شقيق بن سلمة يقول سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت جبريل على سدرة المنتهى وله ستمائة جناح " سألت عاصما عن الاجنحة فأبى أن يخبرني قال فأخبرني بعض أصحابه أن الجناح ما بين المشرق والمغرب وهذا أيضا إسناد جيد وقال أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثنا حسين حدثني عاصم بن بهدلة حدثني شقيق بن سلمة قال سمعت ابن مسعود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل عليه السلام في حصر معلق به الدر " إسناده جيد أيضا. وقال الامام أحمد حدثنا يحيى عن إسماعيل حدثنا عامر قال أتى مسروق عائشة فقال يا أم المؤمنين هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ؟ قالت سبحان الله لقد قف شعري لما قلت أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الارحام " الآية. ومن أخبرك أن محمدا قد كتم فقد كذب ثم قرأت " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين. وقال الامام أحمد أيضا حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق قال كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول " ولقد رآه بالافق المبين " " ولقد رآه نزلة أخرى " فقالت أنا أول هذه الامة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال " إنما ذاك جبريل " لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين رآه منهبطا من السماء إلى الارض سادا عظم خلقه ما بين السماء والارض أخرجاه في الصحيحين من حديث الشعبي به. " رواية أبي ذر " قال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لابي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته قال وما كنت تسأله ؟ قال كنت أسأله هل رأى ربه عز وجل فقال إني قد سألته فقال " قد رأيته نورا أنى أراه " وهكذا وقع في رواية الامام أحمد وقد أخرجه مسلم من طريقين بلفظين فقال حدثنا أبو
[ 270 ]
بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ فقال " نور أنى أراه " وقال حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لابي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شئ كنت تسأله ؟ قال كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر قد سألته فقال " رأيت نورا " وقد حكى الخلال في علله أن الامام أحمد سئل عن هذا الحديث فقال ما زلت منكرا له وما أدري ما وجهه ؟ وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عون الواسطي أخبرنا هشيم عن منصور عن الحكم عن إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه وحاول ابن خزيمة أن يدعي انقطاعه بين عبد الله بن شقيق وبين أبي ذر وأما ابن الجوزي فتأوله على أن أبا ذر لعله سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الاسراء فأجابه بما أجابه به ولو سأله بعد الاسراء لاجابه بالاثبات وهذا ضعيف جدا فإن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قد سألت عن ذلك بعد الاسراء ولم يثبت لها الرؤية ومن قال إنه خاطبها على قدر عقلها أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة في كتاب التوحيد فإنه هو المخطئ والله أعلم. وقال النسائي حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن منصور عن الحكم عن يزيد بن شريك عن أبي ذر قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى " ولقد رآه نزلة أخرى " قال رأى جبريل عليه السلام وقال مجاهد في قوله " ولقد رآه نزلة أخرى " قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين وكذا قال قتادة والربيع بن أنس وغيرهم. وقوله تعالى " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قد تقدم في أحاديث الاسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان وغشيها نور الرب وغشيها ألوان ما أدري ما هي ؟ وقال الامام أحمد حدثنا مالك بن مغول حدثنا الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله هو ابن مسعود قال لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الارض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال فراش من ذهب قال وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا من أمته المقحمات. انفرد به مسلم وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر - قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى السدرة فقيل له إن هذه السدرة فغشيها نور الخلاق وغشيتها الملائكة مثل الغربان حين يقعن على الشجر وقال فكلمه عند ذلك فقال له سل. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا فرآها محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه وقال ابن زيد قيل يا رسول الله أي شئ رأيت يغشى تلك السدرة ؟ قال " رأيت يغشاها فراش من ذهب ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله عز وجل وقوله تعالى (ما زاغ البصر وما طغى) قال ابن عباس رضي الله عنهما ما ذهب يمينا ولا شمالا " وما طغى " ما جاوز ما أمر به وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة فإنه ما فعل إلا ما أمر به ولا سأل فوق ما أعطى وما أحسن ما قال الناظم: رأى جنة المأوى وما فوقها ولو * رأى غيره ما قد رآه لتاها وقوله تعالى " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " كقوله " لنريه من آياتنا الكبرى " أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا وبهاتين الآيتين استدل من ذهب من أهل السنة أن الرؤية تلك الليلة لم تقع لانه قال " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ولو كان رأى ربه لاخبر بذلك ولقال ذلك للناس وقد تقدم تقرير ذلك في سورة سبحان. وقد قال
[ 271 ]
الامام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا محمد بن طلحة عن الوليد بن قيس عن إسحاق بن أبي الكهتلة قال محمد أظنه عن ابن مسعود أنه قال إن محمدا لم ير جبريل في صورته إلا مرتين أما مرة فإنه سأله أن يريه في صورته فأراه صورته فسد الافق وأما الاخرى فإنه صعد معه حين صعد به وقوله " وهو بالافق الاعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى " فلما أخبر جبريل ربه عز وجل عاد في صورته وسجد فقوله " ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى " قال خلق جبريل عليه السلام. وهكذا رواه الامام أحمد وهو غريب. أفرأيتم اللات والعزى (19) ومناة الثالثة الاخرى (20) ألكم الذكر وله الانثى (21) تلك إذا قسمة ضيزى (22) إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى (23) أم للانسان ما تمنى (24) فلله الاخرة والاولى (25) * وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى (26) يقول تعالى مقرعا للمشركين في عبادتهم الاصنام والانداد والاوثان واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن عليه السلام " أفرأيتم اللات " وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش قال ابن جرير وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا اللات يعنون مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وحكي عن ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس أنهم قرأوا اللات بتشديد التاء وفسروه بأنه كان رجلا يلت للحجيج في الجاهلية السويق فلما مات عكفوا على قبره فعبدوه وقال البخاري حدثنا مسلم هو ابن إبراهيم حدثنا أبو الاشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " اللات والعزى " قال كان اللات رجلا يلت السويق سويق الحاج. قال ابن جرير وكذا العزى من العزيز وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهي بين مكة والطائف وكانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق " فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته في زمن الجاهلية كما قال النسائي أخبرنا أحمد بن بكار حدثنا عبد الحميد بن محمد قالا حدثنا مخلد حدثنا يونس عن أبيه حدثني مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال حلفت باللات والعزى فقال لي أصحابي بئس ما قلت قلت هجرا فأتيت رسول صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وانفث عن شمالك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم لا تعد " وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة وروى البخاري عن عائشة نحوه وقد كانت بجزيرة العرب وغيرها وطواغيت أخر تعظيمها العرب كتعظيم الكعبة غير هذه الثلاثة التي نص عليها في كتابه العزيز وإنما أفرد هذه بالذكر لانها اشهر من غيرها. قال ابن اسحاق في السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما
[ 272 ]
تهدي للكعبة وتطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليه لانها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده فكانت لقريش ولبني كنانة العزى بنخلة وكان سدنتها وحجابها بني شيبان من سليم حلفاء بني هاشم قلت بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك وقال النسائي أخبرنا علي بن المنذر أخبرنا ابن فضيل حدثنا الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال " ارجع فإنك لم تصنع شيئا " فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها أمعنوا في الحيل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فغمسها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال " تلك العزى " قال ابن إسحاق وكانت اللات لثقيف بالطائف وكان سدنتها وحجابها بنى معتب " قلت " وقد بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان صخر بن حرب فهدماها وجعلا مكانها مسجدا بالطائف قال ابن إسحاق وكانت مناة للاوس والخزرج ومن دان بدينهم من أهل يثرب على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها أبا سفيان صخر بن حرب فهدمها ويقال علي بن أبي طالب قال وكانت ذو الخلصة لدوس وخثعم وبجيلة ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة " قلت " وكان يقال لها الكعبة اليمانية وللكعبة التي بمكة الكعبة الشامية فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله البجلي فهدمه قال وكانت قيس لطي ومن يليها بجبل طي بين سلمى وأجا قال ابن هشام فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه علي بن أبي طالب فهدمه واصطفى منه سيفين الرسوب والمخزم فنفله إياهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما سيفا علي قال ابن اسحاق وكان لحمير وأهل اليمن بيت بصنعاء يقال له ريام وذكر أنه كان به كلب أسود وأن الحبرين اللذين ذهبا مع تبع استخرجاه وقتلاه وهدما البيت: قال ابن إسحاق وكانت رضاء بيتا لبني ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ولها يقول المستوغر بن ربيعة بن كعب ابن سعد حين هدمها في الاسلام ولقد شددت على رضاء شدة * فتركتها قفرا بقاع أسمحا قال ابن هشام يقال إنه عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة وهو القائل ولقد سئمت من الحياة وطولها * وعمرت من عدد السنين مئينا مائة حدتها بعدها مائتان لي * وعمرت من عدد الشهور سنينا هل ما بقي إلا كما قد فاتنا * يوم يمر وليلة تحدونا قال ابن إسحاق وكان ذو الكعبات لبكر وتغلب ابني وائل وإياد بسنداد وله يقول أعشى بن قيس بن ثعلبة بين الخورنق والسدير وبارق * والبيت ذو الكعبات في سنداد ولهذا قال تعالى " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى " ثم قال تعالى (ألكم الذكر وله الانثى) أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لانفسكم الذكور فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت " قسمة ضيزى " أي جورا باطلة فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها ؟ ثم قال تعالى منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عادة الاصنام وتسميتها آلهة " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " أي من تلقاء أنفسكم " ما أنزل الله بها من سلطان "
[ 273 ]
أي من حجة " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس " أي ليس له مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإلا حظ نفوسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الاقدمين " ولقد جاءهم من ربهم الهدى " أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له. ثم قال تعالى (أم للانسان ما تمنى) أي ليس كل من تمنى خيرا حصل له " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب " ما كل من زعم أنه مهتد يكون كما قال ولا كل من ود شيئا يحصل له. قال الامام أحمد حدثنا إسحاق حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته " تفرد به أحمد. وقوله (فلله الآخرة والاولى) أي إنما الامر كله لله مالك الدنيا والآخرة والمتصرف في الدنيا والآخرة فهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى (وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الاصنام والانداد عند الله وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه ؟ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الانثى (27) وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا (28) فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحيوة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هم أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم من اهتدى (30) يقول تعالى منكرا على المشركين في تسميتهم الملائكة تسمية الانثى وجعلهم لها أنها بنات الله تعالى الله عن ذلك كما قال تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسئلون " ولهذا قال تعالى (وما لهم به من علم) أي ليس لهم علم صحيح بصدق ما قالوه بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع " إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " أي لا يجدي شيئا ولا يقوم أبدا مقام الحق. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وقوله تعالى (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا) أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره. وقوله " ولم يرد إلا الحياة الدنيا " أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا فذاك هو غاية ما لا خير فيه ولهذا قال تعالى (ذلك مبلغهم من العلم) أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه. وقد روى الامام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له " وفي الدعاء المأثور " اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا " وقوله تعالى " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى " أي هو الخالق لجميع المخلوقات والعالم بمصالح عباده وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته وهو العادل الذي لا يجور أبدا لا في شرعه ولا في قدره. ولله ما في السموات وما في الارض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى (31) الذين
[ 274 ]
يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى (32) يخبر تعالى أنه مالك السموات والارض وأنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " أي يجازي كلا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الاخرى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ". وقال ههنا " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم " وهذا استثناء منقطع لان اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الاعمال. قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الاعلى أخبرنا ابن ثور حدثنا معمر عن الاعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم وكذا قال مسروق والشعبي. وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال سألت أبا هريرة عن قول الله " إلا اللمم " قال القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إلا اللمم " إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم. وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية " إلا اللمم " قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه قال الشاعر: إن تغفر اللهم تغفر جما * أي عبد لك ما ألما وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قول الله تعالى " إلا اللمم " قال الرجل يلم بالذب ثم ينزع عنه قال وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك ما ألما ؟ وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا قال ابن جرير حدثني سليمان بن عبد الجبار حدثنا أبو عاصم حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم " قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك ما ألما " وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم قال هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل وفي صحته مرفوعا نظر. ثم قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي
[ 275 ]
الله عنه أراه رفعه في " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم " قال " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود. واللمم من السرقة ثم يتوب ولا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فذلك الالمام " وحدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قول الله تعالى " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم " قال اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود. وحدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول الله " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم " قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها. وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس " إلا اللمم " يلم بها في الحين قلت الزنا ؟ قال الزنا ثم يتوب وقال ابن جرير أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه قال اللمم الذي يلم المرة. وقال السدي قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب وأخبرت بذلك ابن عباس فقال لقد أعانك عليها ملك كريم حكاه البغوي. وروى ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح وهو ضعيف عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال اللمم ما دون الشرك وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير " إلا اللمم " قال ما بين الحدين حد الزنا وعذاب الآخرة وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " إلا اللمم " كل شئ بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات فهو اللمم وهو دون كل موجب فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حد الآخرة فكل شئ ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة. وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك وقوله تعالى " إن ربك واسع المغفرة " أي رحمته وسعت كل شئ ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها كقوله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم " وقوله تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الارض " أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم وتقع منكم حين أنشأ أباكم آدم من الارض واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين فريقا للجنة وفريقا للسعير وكذا قوله " وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم " قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ؟ قال مكحول كنا أجنة في بطون أمهاتنا فسقط منا من سقط وكنا فيمن بقي ثم كنا مراضيع فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ثم صرنا يفعة فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ثم صرنا شبانا فهلك منا من هلك وكنا فيمن بقي ثم صرنا شيوخا لا أبالك فماذا بعد هذا ننتظر ؟ رواه ابن أبي حاتم عنه. وقوله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم " هو أعلم بمن اتقى " كما قال تعالى " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ". وقال مسلم في صحيحه حدثنا عمرو الناقد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن عمرو بن عطاء قال سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت أبي سلمة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم وسميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم " فقالوا بم نسميها ؟ قال " سموها زينب " وقد ثبت أيضا في الحديث الذي رواه الامام أحمد حيث قال حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله " ويلك قطعت عنق صاحبك - مرارا - إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك " ثم رواه عن غندر عن شعبة عن خالد الحذاء به وكذا رواه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة من طرق عن خالد الحذاء به. وقال الامام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن قالا أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام بن الحارث قال جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه قال فجعل المقداد بن الاسود يحثو في وجهه التراب ويقول أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب ورواه مسلم وأبو داود من حديث الثوري عن منصور به.
[ 276 ]
أفرأيت الذي تولى (33) وأعطى قليلا وأكدى (34) أعنده علم الغيب فهو يرى (35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى (36) وإبراهيم الذي وفى (37) ألا تزر وازرة وزر أخرى (38) وأن ليس للانسان إلا ما سعى (39) وأن سعيه سوف يرى (40) ثم يجزاه الجزاء الاوفى (41) يقول تعالى ذاما لمن تولى عن طاعة الله " فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى " " وأعطى قليلا وأكدى " قال ابن عباس أطاع قليلا ثم قطعه وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة وغير واحد قال عكرمة وسعيد كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئرا فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل فيقولون أكدينا ويتركون العمل وقوله تعالى (أعنده علم الغيب فهو يرى) أي أعند هذا الذي قد أمسك يده خشية الانفاق وقطع معروفه أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى قد أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عيانا ؟ أي ليس الامر كذلك وإنما أمسك عن الصدقة والمعروف والبر والصلة بخلا وشحا وهلعا. ولهذا جاء في الحديث " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا " وقد قال الله تعالى " وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين ". وقوله تعالى " أم لم ينبأ بما في صحف موسى * وإبراهيم الذي وفى " قال سعد بن جبير والثوري أي بلغ جميع ما أمر به وقال ابن عباس " وفى " لله بالبلاغ وقال سعيد بن جبير " وفى " ما أمر به وقال قتادة " وفى " طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ويشهد له قوله تعالى " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما " فقام بجميع الاوامر وترك جميع النواهي وبلغ الرسالة على التمام والكمال فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله قال الله تعالى " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا حماد بن سلمة حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " وإبراهيم الذي وفى " - قال - أتدري ما وفى ؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال " وفى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار " ورواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف. وقال الترمذي في جامعه حدثنا أبو جعفر السمناني حدثنا أبو مسهر حدثنا إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء وأبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال " ابن آدم اركع لى أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " قال ابن أبي حاتم رحمه الله وحدثنا أبي حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى ؟ إنه كان يقول كل ما أصبح وأمسى " فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون " حتى ختم الآية. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن رشدين بن سعيد عن زبان به ثم شرع تعالى يبين ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شئ من الذنوب فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى " " وأن ليس للانسان إلا ما سعى " أي كما لا يحمل عليه وزر غيره كذلك لا يحصل من الاجر إلا ما كسب هو لنفسه ومن وهذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لانه ليس من عملهم ولا كسبهم ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه وباب القربات يقتصر فيه على النصوص ولا يتصرف فيه بأنواع الاقيسة والآراء فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما.
[ 277 ]
وأما الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات الانسان انقطع عمله إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به " فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله كما جاء في الحديث " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه وقد قال تعالى " إنا نحن نحيى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم " الآية والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو أيضا من سعيه وعمله وثبت في الصحيح " من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا " وقوله تعالى (وأن سعيه سوف يرى) أي يوم القيامة كقوله تعالى " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر وهكذا قال ههنا " ثم يجزاه الجزاء الاوفى " أي الاوفر. وأن إلى ربك المنتهى (42) وأنه هو أضحك وأبكى (43) وأنه هو أمات وأحيا (44) وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى (45) من نطفة إذا تمنى (46) وأن عليه النشأة الاخرى (47) وأنه هو أغنى وأقنى (48) وأنه هو رب الشعرى (49) وأنه أهلك عادا الاولى (50) وثمودا فما أبقى (51) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (52) والمؤتفكة أهوى (53) فغشاها ما غشى (54) فبأئ ألآء ربك تتمارى (55) يقول تعالى (وأن إلى ربك المنتهى) أي المعاد يوم القيامة قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مسلم بن خالد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون الاودي قال قام فينا معاذ بن جبل فقال يا بني أود إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار. وذكر البغوي من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " وأن إلى ربك المنتهى " " قال لا فكرة في الرب " قال البغوي وهذا مثل ما روي عن أبي هريرة مرفوعا " تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنه لا تحيط به الفكرة " وكذا أورده وليس بمحفوظ بهذا اللفظ وإنما الذي في الصحيح " يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقول من خلق ربك ؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته ". والحديث الآخر الذي في السنن " تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله فإن الله تعالى خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة " أو كما قال. وقوله تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى) أي خلق في عباده الضحك والبكاء وسببهما وهما مختلفان " وأنه هو أمات وأحيا " كقوله " الذي خلق الموت والحياة " " وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى * من نطفة إذا تمنى " كقوله " أيحسب الانسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والانثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى " تمنى " كقوله تعالى (وأن عليه النشأة الاخرى) أي كما خلق البداءة هو قادر على الاعادة وهي النشأة الآخرة يوم القيامة (وأنه هو أغنى وأقنى) أي ملك عباده المال وجعله لهم قنية مقيما عندهم لا يحتاجون إلى بيعه فهذا تمام النعمة عليهم وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين منهم أبو صالح وابن جرير وغيرهما وعن مجاهد " أغنى " مول " وأقنى " أخدم وكذا قال قتادة وقال ابن عباس ومجاهد أيضا " أغنى " أعطى " وأقنى " رضى وقيل معناه أغنى نفسه وأفقر الخلائق إليه قاله الحضرمي بن لاحق وقيل أغنى من شاء من خلقه وأقنى أي أفقر من شاء منهم قال ابن زيد حكاهما ابن جرير وهما بعيدان من حيث اللفظ
[ 278 ]
وقوله (وأنه هو رب الشعرى) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد وغيرهم هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه (وأنه أهلك عادا الاولى) وهم قوم هود ويقال لهم عاد بن إرم بن سام بن نوح كما قال تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله " بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " أي متتابعة. وقوله تعالى (وثمود فما أبقى) أي دمرهم فلم يبق منهم أحدا " وقوم نوح من قبل " أي من قبل هؤلاء " إنهم كانوا هم أظلم وأطغى " أي أشد تمردا من الذين من بعدهم (والمؤتفكة أهوى) يعني مدائن قوم لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ولهذا قال فغشاها ما غشى يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم " وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين " قال قتادة كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الاتون. رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن محمد بن وهب بن عطية عن الوليد بن مسلم عن خليد عنه به وهو غريب جدا (فبأي آلاء ربك تتمارى) أي ففي أي نعم الله عليك أيها الانسان تمتري ؟ قاله قتادة وقال ابن جريج (فبأي آلاء ربك تتمارى) يا محمد والاول أولى وهو اختيار ابن جرير هذا نذير من النذر الاولى (56) أزفت الازفة (57) ليس لها من دون الله كاشفة (58) أفمن هذا الحديث تعجبون (59) وتضحكون ولا تبكون (60) وأنتم سامدون (61) فاسجدوا لله واعبدوا (62) " هذا نذير " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " من النذر الاولى " أي من جنسهم كما أرسلوا كما قال تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " (أزفت الازفة) أي اقتربت القريبة وهي القيامة (ليس لها من دون الله كاشفة) أي لا يدفعها إذا من دون الله أحد ولا يطلع على علمها سواه والنذير الحذر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم كما قال " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " وفي الحديث " أنا النذير العريان " أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئا بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عريانا مسرعا وهو مناسب لقوله " أزفت الآزفة " أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة كما قال في أول السورة التي بعدها " اقتربت الساعة " وقال الامام أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثني أبو حاتم لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكة " وقال أبو حازم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو نضرة لا أعلم إلا عن سهل بن سعد قال " مثلي ومثل الساعة كهاتين " وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الابهام ثم قال " مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان " ثم قال " مثلي ومثل الساعة كمثل رجل بعثه قومه طليعة فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه أتيتم أتيتم " ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا ذلك " وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم " تعجبون " من أن يكون صحيحا " وتضحكون " منه استهزاء وسخرية " ولا تبكون " أي كما يفعل الموقنون به كما أخبر عنهم " ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " وقوله تعالى (وأنتم سامدون) قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس قال: الغناء هي يمانية أسمد لنا غن لنا وكذا قال عكرمة وفي رواية عن ابن عباس " سامدون "
[ 279 ]
معرضون وكذا قال مجاهد وعكرمة وقال الحسن غافلون وهو رواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفي رواية عن ابن عباس تستكبرون وبه يقول السدي ثم قال تعالى آمرا لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم والتوحيد والاخلاص (فاسجدوا لله واعبدوا) أي فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوه قال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال: سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والانس. انفرد به دون مسلم وقال الامام أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة سورة النجم فسجد وسجد من عنده فرفعت رأسي فأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه. وقد رواه النسائي في الصلاة عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به. آخر تفسير سورة النجم ولله الحمد والمنة. سورة القمر قد تقدم في حديث أبي واقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الاضحى والفطر وكان يقرأ بهما في المحافل الكبار لاشتمالهما على ذكر الوعد والوعيد وبدء الخلق وإعادته والتوحيد وإثبات النبوات وغير ذلك من المقاصد العظيمة. بسم الله الرحمن الرحيم اقتربت الساعة وانشق القمر (1) وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر (2) وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر (3) ولقد جاءهم من الانباء ما فيه مزدجر (4) حكمة بالغة فما تغن النذر (5) يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها كما قال تعالى " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " قال " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " وقد وردت الاحاديث بذلك قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى وعمرو بن علي قالا حدثنا خلف بن موسى حدثني أبي عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال " والذى نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه " وما نرى من الشمس إلا يسيرا " قلت " هذا حديث مداره على خلف بن موسى بن خلف العمي عن أبيه وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما أخطأ " حديث آخر يعضد الذي قبله ويفسره " قال الامام أحمد حدثنا الفضل بن دكين حدثنا شريك حدثنا سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عمر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم والشمس على قعيقعان بعد العصر فقال " ما أعماركم في أعمار من مضى إلا كما بقي من النهار فيما مضى " وقال الامام أحمد حدثنا حسين حدثنا محمد بن مطرف عن أبي حازم عن سهل ابن سعد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " بعثت أنا والساعة هكذا " وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. أخرجاه من حديث أبي حازم سلمة بن دينار. وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبيد أخبرنا الاعمش عن أبي خالد عن وهب السوائي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 280 ]
" بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني " وجمع الاعمش بين السبابة والوسطى وقال الامام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا الاوزاعي حدثني إسماعيل بن عبيدالله قال قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فسأله ماذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر به الساعة ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أنتم والساعة كهاتين " تفرد به أحمد رحمه الله وشاهد ذلك أيضا في الصحيح في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه. وقال الامام أحمد حدثنا بهز بن أسد حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير قال خطب عتبة بن غزوان قال بهز وقال قبل هذه المرة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الاناء يتصابها صاحبها وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها فانتقلوا منها بخير ما بحضرتكم " فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاما ما يدرك لها قعرا والله لتملؤنه أفعجبتم والله لقد ذكر لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاما وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام. وذكر تمام الحديث انفرد به مسلم وقال أبو جعفر بن جرير حدثني يعقوب حدثني ابن علية أخبرنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة فحضر أبي وحضرت معه فخطبنا حذيفة فقال ألا إن الله يقول " اقتربت الساعة وانشق القمر " ألا وإن الساعة قد اقتربت ألا وإن القمر قد انشق ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق فقلت لابي أيستبق الناس غدا ؟ فقال يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالاعمال ثم جاءت الجمعة الاخرى فحضرنا فخطب حذيفة فقال ألا إن الله عز وجل يقول " اقتربت الساعة وانشق القمر " ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ألا وإن الغاية النار والسابق من سبق إلى الجنة وقوله تعالى " وانشق القمر " قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الاحاديث المتواترة بالاسانيد الصحيحة. وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال " خمس قد مضين الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر " وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أي انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات " ذكر الاحاديث الواردة في ذلك " " رواية أنس بن مالك " قال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين فقال " اقتربت الساعة وانشق القمر " ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق وقال البخاري حدثني عبد الله بن عبد الوهاب حدثنا بشر بن المفضل حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما. وأخرجاه أيضا من حديث يونس بن محمد المؤدب عن شيبان عن قتادة ورواه مسلم أيضا عن حديث أبي داود الطيالسي ويحيى القطان وغيرهما عن شعبة عن قتادة به " رواية جبير بن مطعم رضي الله عنه " قال الامام أحمد حدثنا محمد بن كثير ثنا سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل وفرقة على هذا الجبل فقالوا سحرنا محمد فقالوا إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم تفرد به الامام أحمد من هذا الوجه وأسنده البيهقي في الدلائل من طريق محمد بن كثير عن أخيه سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به ورواه البيهقي أيضا من طريق إبراهيم بن طهمان وهشيم كلاهما عن حصين عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده فذكره " رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال البخاري حدثنا يحيى بن كثير حدثنا بكر عن جعفر عن عراك بن مالك عن
[ 281 ]
عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك به مثله. وقال ابن جرير: حدثنا ابن مثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا داود بن أبي هند عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر " قال قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه. وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا وقال الطبراني حدثنا أحمد بن عمرو البزار حدثنا محمد بن يحيى القطعي حدثنا محمد بن شكر حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا سحر القمر فنزلت " اقتربت الساعة وانشق القمر - إلى قوله - مستمر " " رواية عبد الله بن عمر " قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا حدثنا أبو العباس الاصم حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا وهب بن جرير عن شعبة عن الاعمش عن مجاهد عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين فلقة من دون الجبل وفلقه من خلف الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اشهد " وهكذا رواه مسلم والترمذي من طرق عن شعبة عن الاعمش عن مجاهد به قال مسلم كرواية مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود وقال الترمذي حسن صحيح " رواية عبد الله ابن مسعود " قال الامام أحمد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشهدوا " وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث سفيان بن عيينة به وأخرجاه من حديث الاعمش عن إبراهيم عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود به وقال ابن جرير حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي حدثنا عمي يحيى بن عيسى عن الاعمش عن إبراهيم عن رجل عن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر فأخذت فرقة خلف الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشهدوا اشهدوا " قال البخاري: وقال أبو الضحى عن مسروق عن عبد الله بمكة وقال أبو داود الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن المغيرة عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة قال فقالوا انظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم قال فجاء السفار فقالوا ذلك وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا العباس بن محمد الدوري حدثنا سعيد ابن سليمان حدثنا هشام حدثنا مغيرة عن أبى الضحى عن مسروق عن عبد الله قال انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين فقال كفار قريش أهل مكة هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به قال فسئل السفار قال وقدموا من كل وجهة فقالوا: رأينا. ورواه ابن جرير من حديث المغيرة به وزاد فأنزل الله عز وجل " اقتربت الساعة وانشق القمر ". ثم قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال نبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول لقد انشق القمر. وقال ابن جرير أيضا حدثني محمد بن عمارة حدثنا عمرو بن حماد حدثنا أسباط عن سماك عن إبراهيم عن الاسود عن عبد الله قال لقد رأيت الجبل من فرج القمر حين انشق. ورواه الامام أحمد عن مؤمل عن إسرائيل عن سماك عن إبراهيم عن الاسود عن عبد الله قال انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر وقال ليث عن مجاهد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابي بكر " اشهد يا أبا بكر " فقال المشركون سحر القمر حتى انشق.. وقوله تعالى (وإن يروا آية) أي دليلا وحجة وبرهانا " يعرضوا " أي لا ينقادوا له بل يعرضون عنه ويتركونه وراء ظهورهم " ويقولوا سحر مستمر " أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحر سحرنا به ومعنى " مستمر " أي ذاهب قاله مجاهد وقتادة وغيرهما أي باطل مضمحل لا دوام له.
[ 282 ]
(وكذبوا واتبعوا أهواءهم) أي كذبوا بالحق إذ جاءهم واتبعوا ما أمرتهم به آراؤهم وأهواؤهم من جهلهم وسخافة عقلهم وقوله " وكل أمر مستقر " قال قتادة معناه أن الخير واقع بأهل الخير والشر واقع بأهل الشر وقال ابن جريج مستقر بأهله وقال مجاهد " وكل أمر مستقر " أي يوم القيامة وقال السدي مستقر أي واقع. وقوله تعالى (ولقد جاءهم من الانباء) أي من الاخبار عن قصص الامم المكذبين بالرسل وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في هذا القرآن " ما فيه مزدجر " أي ما فيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب. وقوله تعالى (حكمة بالغة) أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله " فما تغني النذر " يعني أي شئ تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه ؟ فمن الذي يهديه من بعد الله ؟ وهذه الآية كقوله تعالى " قل فالله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " وكذا قوله تعالى " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ". فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شئ نكر (6) خشعا أبصارهم يخرجون من الاجداث كأنهم جراد منتشر (7) مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر (8) يقول تعالى فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر أعرض عنهم وانتظرهم " يوم يدع الداع إلى شئ نكر " أي إلى شئ منكر فظيع وهو موقف الحساب وما فيه من البلاء والزلازل والاهوال " خشعا أبصارهم " أي ذليلة أبصارهم " يخرجون من الاجداث " وهي القبور " كأنهم جراد منتشر " أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي جراد منتشر في الآفاق ولهذا قال (مهطعين) أي مسرعين " إلى الداعي " لا يخالفون ولا يتأخرون " يقول الكافرون هذا يوم عسر " أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير " فذلك يوم عسير على الكافرين غير يسير ". * كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر (9) فدعا ربه أني مغلوب فانتصر (10) ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر (11) وفجرنا الارض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر (12) وحملناه على ذات ألواح ودسر (13) تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر (14) ولقد تركناها آية فهل من مدكر (15) فكيف كان عذابي ونذر (16) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (17) يقول تعالى " كذبت " قبل قومك يا محمد " قوم نوح فكذبوا عبدنا " أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون " وقالوا مجنون وازدجر " قال مجاهد وازدجر أي استطير جنونا وقيل وازدجر أي انتهروه وزجروه وتواعدوه لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك قال الله تعالى (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) قال السدي وهو الكثير (وفجرنا الارض عيونا) أي نبعت جميع أرجاء الارض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيونا " فالتقى الماء " أي من السماء والارض " على أمر قد قدر " أي أمر مقدر. قال ابن جريج عن ابن عباس (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده
[ 283 ]
إلا من السحاب فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماآن على أمر قد قدر وروى ابن أبي حاتم أن ابن الكواء سأل عليا عن المجرة فقال هي شرج السماء ومنها فتحت السماء بماء منهمر (وحملنا على ذات ألواح ودسر) قال ابن عباس وسعيد بن جبير والقرظي وقتادة وابن زيد هي المسامير واختاره ابن جرير قال وواحدها دسار ويقال دسير كما يقال حبيك وحباك والجمع حبك وقال مجاهد الدسر أضلاع السفينة وقال عكرمة والحسن هو صدرها الذي يضرب به الموج وقال الضحاك الدسر طرفاها وأصلها وقال العوفي عن ابن عباس هو كلكلها أي صدرها. وقوله (تجري بأعيننا) أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا " جزاء لمن كان كفر " أي جزاء لهم على كفرهم بالله وانتصارا لنوح عليه السلام. وقوله تعالى (ولقد تركناها آية) قال قتادة أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أول هذه الامة والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن كقوله تعالى " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " وقال تعالى " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية " ولهذا قال ههنا " فهل من مدكر " أي فهل من يتذكر ويتعظ. قال الامام أحمد حدثنا حجاج حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الاسود عن ابن مسعود قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " فهل من مدكر " وهكذا رواه البخاري حدثنا يحيى حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الاسود بن يزيد عن عبد الله قال قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم " فهل من مدكر " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " فهل من مدكر " وروى البخاري أيضا من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن الاسود عن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ " فهل من مدكر " وقال حدثنا أبو نعيم حدثنا زهير عن أبي إسحاق أنه سمع رجلا سأل الاسود فهل من مذكر أو مدكر قال سمعت عبد الله يقرأ " فهل من مدكر " وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها " فهل من مدكر " - دالا - وقد أخرج مسلم هذا الحديث وأهل السنن إلا ابن ماجة من حديث أبي إسحاق. وقوله تعالى (فكيف كان عذابي ونذر) أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نذري وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر (ولقد يسرنا القرآن للذكر) أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس كما قال " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الالباب " وقال تعالى " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ". قال مجاهد " ولقد يسرنا القرآن للذكر " يعني هونا قراءته وقال السدي يسرنا تلاوته على الالسن وقال الضحاك عن ابن عباس لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله عز وجل قلت ومن تيسيره تعالى على الناس تلاوة القرآن ما تقدم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف " وأوردنا الحديث بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وقوله " فهل من مدكر " أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه ؟ وقال محمد بن كعب القرظي فهل من منزجر عن المعاصي ؟ وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا الحسن بن رافع حدثنا ضمرة عن ابن شوذب عن مطر هو الوراق في قوله تعالى " فهل من مدكر " هل من طالب علم فيعان عليه وكذا علقه البخاري بصيغة الجزم عن مطر الوراق ورواه ابن جرير وروى عن قتادة مثله. كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر (19) تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر (20) فكيف كان عذابي ونذر (21) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (22) يقول تعالى مخبرا عن عاد قوم هود إنهم كذبوا رسولهم أيضا كما صنع قوم نوح وأنه تعالى أرسل " عليهم ريحا
[ 284 ]
صرصرا " وهي الباردة الشديدة البرد " في يوم نحس " أي عليهم قاله الضحاك وقتادة والسدي " مستمر " عليهم نحسه ودماره لانه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالاخروي. وقوله تعالى (تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر) وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فترفعه حتى تغيبه عن الابصار ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط إلى الارض فتثلغ رأسه فيبقى جثة بلا رأس ولهذا قال " كأنهم أعجاز نخل منقعر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ". كذبت ثمود بالنذر (23) فقالوا أبشر منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر (24) أءلقى الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر (25) سيعلمون غدا من الكذاب الاشر (26) إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر (27) ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر (28) فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر (29) فكيف كان عذابي ونذر (30) إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر (31) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (32) وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا (فقالوا أبشر منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر) يقولون لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا. ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ثم رموه بالكذب فقالوا " بل هو كذاب أشر " أي متجاوز في حد الكذب قال الله تعالى (سيعلمون غدا من الكذاب الاشر) وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد ثم قال تعالى " إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم " أي اختبارا لهم أخرج الله تعالى لهم ناقة عظيمة عشراء من صخرة صماء طبق ما سألوا لتكون حجة الله عليهم في تصديق صالح عليه السلام فيما جاءهم به ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله صالح " فارتقبهم واصطبر " أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم واصبر عليهم فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة (ونبئهم أن الماء قسمة بينهم) أي يوم لهم ويوم للناقة كقوله " قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " وقوله تعالى " كل شرب محتضر " قال مجاهد إذا غابت حضروا الماء وإذا جاءت حضروا اللبن ثم قال تعالى (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) قال المفسرون هو عاقر الناقة واسمه قدار بن سالف وكان أشقى قومه كقوله " إذ انبعث أشقاها " " فتعاطى " أي حسر (فعقر * فكيف كان عذابي ونذر) أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية وخمدوا وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات قاله غير واحد من المفسرين والمحتظر قال السدي هو المرعى بالصحراء حين يبيس ويحترق وتسفيه الريح وقال ابن زيد كانت العرب يجعلون حظارا على الابل والمواشي من يبيس الشوك فهو المراد من قوله " كهشيم المحتظر " وقال سعيد بن جبير هشيم المحتظر هو التراب المتناثر من الحائط وهذا قول غريب والاول أقوى والله أعلم. كذبت قوم لوط بالنذر (33) إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر (34) نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر (35) ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر (36) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا
[ 285 ]
عذابي ونذر (37) ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر (38) فذوقوا عذابي ونذر (39) ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (40) يقول تعالى مخبرا عن قوم لوط كيف كذبوا رسولهم وخالفوه وارتكبوا المكروه من إتيان الذكور وهي الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ولهذا أهلكهم الله هلاكا لم يهلكه أمة من الامم فإنه تعالى أمر جبريل عليه السلام بحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء ثم قلبها عليها وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود ولهذا قال ههنا " إنا أرسلنا عليهم حاصبا " وهي الحجارة " إلا آل لوط نجيناهم بسحر " أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ولم يؤمن بلوط من قومه أحد ولا رجل واحد حتى ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها وخرج نبي الله لوط وبنات له من بين أظهرهم سالما لم يمسسه سوء ولهذا قال تعالى (كذلك نجزي من شكر * ولقد أنذرتهم بطشتنا) أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم قد أنذرهم بأس الله وعذابه فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه بل شكوا فيه وتماروا به (ولقد راودوه عن ضيفه) وذلك ليلة ورد عليه الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل في صور شباب مرد حسان محنة من الله بهم فأضافهم لوط عليه السلام وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها فأعلمتهم بأضياف لوط فأقبلوا يهرعون إليه من كل مكان فأغلق لوط دونهم الباب فجعلوا يحاولون كسر الباب وذلك عشية ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم " هؤلاء بناتي " يعني نساءهم " إن كنتم فاعلين * قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق " أي ليس لنا فيهن أرب " وإنك لتعلم ما نريد " فلما اشتد الحال وأبوا إلا الدخول خرج عليهم جبريل عليه السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه فانطمست أعينهم يقال إنها غارت من وجوههم وقيل إنه لم تبق لهم عيون بالكلية فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ويتوعدون لوطا " عليه السلام إلى الصباح. قال الله تعالى (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر) أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه (فذوقوا عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) ولقد جاء آل فرعون النذر (41) كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر (42) أكفاركم خير من أولائكم أم لكم براءة في الزبر (43) أم يقولون نحن جميع منتصر (44) سيهزم الجمع ويولون الدبر (54) بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر (46) يقول تعالى مخبرا عن فرعون وقومه إنهم جاءهم رسول الله موسى وأخوه هارون بالبشارة إن آمنوا والنذارة إن كفروا وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة فكذبوا بها كلها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر أي فأبادهم الله ولم يبق منهم مخبر ولا عين ولا أثر. ثم قال تعالى " أكفاركم " أي أيها المشركون من كفار قريش " خير من أولئكم " يعني من الذين تقدم ذكرهم ممن أهلكوا بسبب تكذيبهم الرسل وكفرهم بالكتب أأنتم خير من أولئكم ؟ " أم لكم براءة في الزبر " أي أم معكم من الله براءة أن لا ينالكم عذاب ولا نكال ؟ ثم قال تعالى مخبرا عنهم (أم يقولون نحن جميع منتصر) أي يعتقدون أنهم يتناصرون بعضهم بعضا وأن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء قال الله تعالى (سيهزم الجمع ويولون الدبر) أي سيتفرق شملهم ويغلبون. قال البخاري حدثنا إسحاق حدثنا خالد عن خالد وقال أيضا حدثنا محمد بن عفان عن وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر " أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الارض أبدا " فأخذ أبو بكر
[ 286 ]
رضي الله عنه بيده وقال حسبك يا رسول الله ألححت على ربك فخرج وهو يثب في الدرع وهو يقول " سيهزم الجمع ويولون الدبر * بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " وكذا رواه البخاري والنسائي في غير موضع من حديث خالد وهو ابن مهران الحذاء به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة قال لما نزلت " سيهزم الجمع ويولون الدبر " قال عمر أي جمع يهزم ؟ أي جمع يغلب ؟ قال عمر فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول " سيهزم الجمع ويولون الدبر " فعرفت تأويلها يومئذ. وقال البخاري حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم أخبرني يوسف بن ماهك قال إني عند عائشة أم المؤمنين فقالت نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب " بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر " هكذا رواه ههنا مختصرا. ورواه في فضائل القرآن مطولا ولم يخرجه مسلم. إن المجرمين في ضلال وسعر (47) يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر (48) إنا كل شئ خلقناه بقدر (49) وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر (50) ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر (51) وكل شئ فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر (53) إن المتقين في جنات ونهر (54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر (55) يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق وسعر مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء وهذا يشمل كل من اتصف بذلك من كافر ومبتدع من سائر الفرق ثم قال تعالى (يوم يسحبون في النار على وجوههم) أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار وكما كانوا ضلالا يسحبون فيها على وجوههم لا يدرون أين يذهبون ويقال لهم تقريعا وتوبيخا " ذوقوا مس سقر ". وقوله تعالى " إنا كل شئ خلقناه بقدر " كقوله " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " وكقوله تعالى " سبح اسم ربك الاعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى " أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة على إثبات قدر الله السابق لخلقه وهو علمه الاشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها وردوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات وما ورد في معناها من الاحاديث الثابتات على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الاحاديث في شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري رحمه الله ولنذكر ههنا الاحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة. قال أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان الثوري عن زياد بن إسماعيل السهمي عن محمد بن عباد بن جعفر عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت " يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شئ خلقناه بقدر " وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث وكيع عن سفيان الثوري به. وقال البزار حدثنا عمرو بن علي حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا يونس بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ما نزلت هذه الآيات " إن المجرمين في ضلال وسعر * يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شئ خلقناه بقدر " إلا في أهل القدر. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سهل بن صالح الانطاكي حدثني قرة بن حييب عن كنانة حدثني جرير بن حازم عن سعيد بن عمرو بن جعدة عن ابن زرارة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية " ذوقوا مس سقر * إنا كل شئ خلقناه بقدر " قال " نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله ". وحدثنا الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن عبد الملك بن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن
[ 287 ]
عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له قد تكلم في القدر فقال أو قد فعلوها ؟ قلت نعم قال فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم " ذوقوا مس سقر * إنا كل شئ خلقناه بقدر " أولئك شرار هذه الامة فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين. وقد رواه الامام أحمد من وجه آخر وفيه مرفوع فقال حدثنا أبو المغيرة حدثنا الاوزاعي عن بعض إخوته عن محمد بن عبيد المكي عن عبد الله بن عباس قال قيل له إن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر فقال دلوني عليه وهو أعمى قالوا وما تصنع به يا أبا عباس ؟ قال والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لاعضن أنفه حتى أقطعه ولئن وقعت رقبته في يدي لادقنها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطفق إلياتهن مشركات هذا أول شرك هذه الامة والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا " ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة عن الاوزاعي عن العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد فذكر مثله لم يخرجوه. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد عن أبي أيوب حدثني أبو صخر عن نافع قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه عبد الله بن عمر إنه بلغني أنك تكلمت في شئ من القدر فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر " ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به. وقال أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثنا عمر بن عبد الله مولى غفرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم " لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه وقال أحمد حدثنا قتيبة حدثنا رشدين عن أبي صخر حميد بن زياد عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " سيكون في هذه الامة مسخ ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزندقية " ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صخر حميد بن زياد به وقال الترمذي حسن صحيح غريب. وقال الامام أحمد حدثنا إسحاق بن الطباع أخبرني مالك عن زياد بن سعد عن عمرو بن مسلم عن طاوس اليماني قال سمعت ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل شئ بقدر حتى العجز والكيس " ورواه مسلم منفردا به من حديث مالك. وفي الحديث الصحيح " استعن بالله ولا تعجز فإن أصابك أمر فقل قدر الله وما شاء فعل ولا تقل لو إني فعلت لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان ". وفي حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " واعلم أن الامة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشئ لم يكتبه الله لك لم ينفعوك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يكتبه الله عليك لم يضروك جفت الاقلام وطويت الصحف ". وقال الامام أحمد حدثنا الحسن بن سوار حدثنا الليث عن معاوية عن أيوب بن زياد حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثنى أبي قال دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال أجلسوني فلما أجلسوه قال يا بني إنك لما تطعم الايمان ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار. ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البلخي عن أبي داود الطيالسي عن عبد الواحد بن سليم عن عطاء بن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه به وقال حسن صحيح غريب. وقال سفيان الثوري عن منصور عن ربعي بن خراش عن رجل عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر خيره وشره ". وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن علي فذكره وقال هذا عندي أصح وكذا رواه ابن ماجة من حديث شريك عن منصور عن
[ 288 ]
ربعي عن علي به وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عبد عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة " زاد ابن وهب " وكان عرشه على الماء " ورواه الترمذي وقال حسن صحيح غريب. وقوله تعالى (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وهو إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه كما أخبر بنفوذ قدره فيهم فقال " وما أمرنا إلا واحدة " إنما نأمر بالشئ مرة واحدة لا نحتاج إلى تأكيد بثانية فيكون ذلك الذي نأمر به حاصلا موجودا كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين وما أحسن ما قال بعض الشعراء: إذا ما أراد الله أمرا فإنما * يقول له كن قولة فيكون وقوله تعالى (ولقد أهلكنا أشياعكم) يعني أمثالكم وسلفكم من الامم السابقة المكذبين بالرسل " فهل من مدكر " أي فهل من متعظ بما أخزى الله أولئك وقدر لهم من العذاب كما قال تعالى " وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل ". وقوله تعالى (وكل شئ فعلوه في الزبر) أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام (وكل صغير وكبير) أي من أعمالهم " مستطر " أي مجموع عليهم ومسطر في صحائفهم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا احصاها. وقد قال الامام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا سعيد بن مسلم ابن بانك سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير حدثني عوف بن الحارث وهو ابن أخي عائشة لامها عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا ". ورواه النسائي وابن ماجه من طريق سعيد بن مسلم بن ماهك المدني وثقه أحمد وابن معين وأبو حاتم وغيرهم. وقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن مسلم هذا من وجه آخر ثم قال سعيد فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي ويحك يا سعيد بن مسلم لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنبا فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له يا سليمان: لا تحقرن من الذنوب صغيرا * إن الصغير غدا يعود كبيرا إن الصغير ولو تقادم عهده * عند الاله مسطرا تسطيرا فازجر هواك عن البطالة لا تكن * صعب القياد وشمرن تشميرا إن المحب إذا أحب إلهه * طار الفؤاد وألهم التفكيرا فاسأل هدايتك الاله بنية * فكفى بربك هاديا ونصيرا وقوله تعالى (إن المتقين في جنات ونهر) أي بعكس ما الاشقياء فيه من الضلال والسعر والسحب في النار على وجوههم مع التوبيخ والتقريع والتهديد وقوله تعالى (في مقعد صدق) أي في دار كرامة الله ورضوانه وفضله وامتنانه وجوده وإحسانه " عند مليك مقتدر " أي عند الملك العظيم الخالق للاشياء كلها ومقدرها وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون. وقد قال الامام أحمد حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال " المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " انفرد بإخراجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينه بإسناده مثله. آخر تفسير سورة اقتربت ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
[ 289 ]
سورة الرحمن قال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن عاصم عن زر أن رجلا قال كيف تعرف هذا الحرف من ماء غير آسن أو أسن ؟ فقال كل القرآن قد قرأت قال إني لاقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال أهذا كهذا الشعر لا أبالك ؟ قد علمت قرائن النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يقرن قرينتين قرينتين من أول المفصل وكان أول مفصل ابن مسعود " الرحمن " وقال أبو عيسى الترمذي: حدثنا عبد الرحمن بن واقد وأبو مسلم السعدي حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم كنت كلما أتيت على قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا لا بشئ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد " ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد ثم حكى عن الامام أحمد أنه كان لا يعرفه ينكر رواية أهل الشام عن زهير بن محمد هذا ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عمرو بن مالك عن الوليد بن مسلم وعن عبد الله بن أحمد بن شبويه عن هشام بن عمارة كلاهما عن الوليد بن مسلم به ثم قال لا نعرفه يروى إلا من هذا الوجه وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا محمد بن عباد بن موسى وعمرو بن مالك البصري قالا حدثنا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال " مالي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ؟ " قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال " ما أتيت على قول الله تعالى " فبأي آلاء ربكما تكذبان ؟ " إلا قالت الجن لا بشئ من نعم ربنا نكذب " ورواه الحافظ البزار عن عمرو بن مالك به ثم قال لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الاسناد. بسم الله الرحمن الرحيم الرحمن (1) علم القرآن (2) خلق الانسان (3) علمه البيان (4) الشمس والقمر بحسبان (5) والنجم والشجر يسجدان (6) والسماء رفعها ووضع الميزان (7) ألا تطغوا في الميزان (8) وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان (9) والارض وضعها للانام (10) فيها فاكهة والنخل ذات الاكمام (11) والحب ذو العصف والريحان (12) فبأي آلاء ربكما تكذبان (13) يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه أنه أنزل على عباده القرآن ويسر حفظه وفهمه على من رحمه فقال تعالى " الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان " قال الحسن يعني النطق وقال الضحاك وقتادة وغيرهما يعني الخير والشر وقول الحسن ههنا أحسن وأقوى لان السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها وقوله تعالى " الشمس والقمر بحسبان " أي يجريان متعاقبين بحساب مقنن لا يختلف ولا يضطرب " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وقال تعالى " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم "
[ 290 ]
وعن عكرمة أنه قال لو جعل الله نور جميع أبصار الانس والجن والدواب والطير في عيني عبد ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس لما استطاع أن ينظر إليها ونور الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي ونور الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش ونور العرش جزء من سبعين جزءا من نور الستر فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا ؟ رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى (والنجم والشجر يسجدان) قال ابن جرير اختلف المفسرون في معنى قوله والنجم بعد إجماعهم على أن الشجر ما قام على ساق فروى عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال النجم ما انبسط على وجه الارض يعني من النبات وكذا قال سعيد بن جبير والسدي وسفيان الثوري وقد اختاره ابن جرير رحمه الله تعالى وقال مجاهد النجم الذي في السماء وكذا قال الحسن وقتادة وهذا القول هو الاظهر والله أعلم لقوله تعالى " ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس " الآية وقوله تعالى (والسماء رفعها ووضع الميزان) يعني العدل كما قال تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط " وهكذا قال هههنا (ألا تطغوا في الميزان) أي خلق السموات والارض بالحق والعدل لتكون الاشياء كلها بالحق والعدل ولهذا قال تعالى (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط كما قال تعالى " وزنوا بالقسطاس المستقيم " وقوله تعالى (والارض وضعها للانام) أي كما رفع السماء وضع الارض ومهدها وأرساها بالجبال الراسيات الشامخات لتستقر لما على وجهها من الانام وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم وألسنتهم في سائر أقطارها وأرجائها قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الانام الخلق " فيها فاكهة " أي مختلفة الالوان والطعوم والروائح " والنخل ذات الاكمام " أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطبا ويابسا والاكمام قال ابن جريج عن ابن عباس هي أوعية الطلع وهكذا قال غير واحد من المفسرين وهو الذي يطلع فيه العنقود ثم ينشق عن العنقود فيكون بسرا ثم رطبا ثم ينضج ويتناهى نفعه واستواؤه وقال ابن أبي حاتم ذكر عن عمرو بن علي الصيرفي حدثنا أبو قتيبة حدثنا يونس بن الحارث الطائفي عن الشعبي قال كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب أخبرك أن رسلي أتتني من قبلك فزعمت أن قبلكم شجرة ليست بخليقة لشئ من الخير تخرج مثل آذان الحمير ثم ثشقق مثل اللؤلؤ ثم تخضر فتكون مثل الزمرد الاخضر ثم تحمر فتكون كالياقوت الاحمر ثم تينع فتنضج فتكون كأطيب فالوذج أكل ثم تيبس فتكون عصمة للمقيم وزادا للمسافر فإن تكن رسلي صدقتني فلا أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة فكتب إليه عمر بن الخطاب من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم أن رسلك قد صدقوك هذه الشجرة عندنا وهي الشجرة التي أنبتها الله على مريم حين نفست بعيسى ابنها فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله فإن " مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين " وقيل الاكمام رفاتها وهو الليف الذي على عنق النخلة وهو قول الحسن وقتادة " والحب ذو العصف والريحان " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (والحب ذو العصف) يعني التبن. وقال العوفي عن ابن عباس العصف ورق الزرع الاخضر الذي قطع رؤوسه فهو يسمى العصف إذا يبس وكذا قال قتادة والضحاك وأبو مالك عصفه تبنه وقال ابن عباس ومجاهد وغير واحد والريحان يعني الورق وقال الحسن هو ريحانكم هذا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والريحان خضر الزرع ومعنى هذا والله أعلم أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما له في حال نباته عصف وهو ما على السنبلة وريحان وهو الورق الملتف على ساقها وقيل العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا والريحان والورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة.
[ 291 ]
وقولا له من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا ويخرج منه حبه في رؤوسه * ففي ذاك آيات لمن كان واعيا وقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الانس والجن تكذبان ؟ قاله مجاهد وغير واحد ويدل عليه السياق بعده أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها فنحن نقول كما قالت الجن المؤمنون به اللهم ولا بشئ من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد وكان ابن عباس يقول لا بأيها يا رب أي لا نكذب بشئ منها قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يستمعون " فبأي آلاء ربكما تكذبان ". خلق الانسان من صلصال كالفخار (14) وخلق الجان من مارج من نار (15) فبأي آلاء ربكما تكذبان (16) رب المشرقين ورب المغربين (17) فبأئ آلاء ربكما تكذبان (18) مرج البحرين يلتقيان (19) بينهما برزخ لا يبغيان (20) فبأئ آلاء ربكما تكذبان (21) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان (22) فبأئ آلاء ربكما تكذبان (23) وله الجوار المنشأت في البحر كالاعلام (24) فبأئ آلاء ربكما تكذبان (25) يذكر تعالى خلقه الانسان من صلصال كالفخار وخلقه الجان من مارج من نار وهو طرف لهبها قاله الضحاك عن ابن عباس وبه يقول عكرمة ومجاهد والحسن وابن زيد وقال العوفي عن ابن عباس من مارج من نار من لهب النار من أحسنها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس من مارج من نار من خالص النار وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " ورواه مسلم عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به. وقوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) تقدم تفسيره (رب المشرقين ورب المغربين) يعني مشرقي الصيف والشتاء ومغربي الصيف والشتاء وقال في الآية الاخرى " فلا أقسم برب المشارق والمغارب " وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس وقال في الآية الاخرى " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " وهذا المراد منه جنس المشارق والمغارب ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والانس قال (فبأي آلاء ربكما تكذبان) وقوله تعالى مرج البحر يلتقيان) قال ابن عباس أي أرسلهما وقوله " يلتقيان " قال ابن زيد أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما والمراد بقوله البحرين الملح والحلو فالحلو هذه الانهار السارحة بين الناس وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة الفرقان عند قوله تعالى " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج * وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا " وقد اختار ابن جرير ههنا ان المراد بالبحرين: بحر السماء وبحر الارض وهو مروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وعطية وابن أبزى قال ابن جرير لان اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الارض وهذا وإن كان هكذا لكن ليس المراد بذلك ما ذهب إليه فإنه لا يساعده اللفظ فإنه تعالى قد قال (بينهما برزخ لا يبغيان) أي وجعل بينهما برزخا وهو الحاجز من الارض لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا فيفسد كل واحد
[ 292 ]
منهما الآخر ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه وما بين السماء والارض لا يسمى برزخا وحجرا محجورا. وقوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) أي من مجموعهما فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى كما قال تعالى " يا معشر الجن والانس ألم يأتكم رسل منكم " والرسل إنما كانوا في الانس خاصة دون الجن وقد صح هذا الاطلاق. واللؤلؤ معروف. وأما المرجان فقيل هو صغار اللؤلؤ. قاله مجاهد وقتادة وأبو رزين والضحاك وروي عن علي وقيل كباره وجيده حكاه ابن جرير عن بعض السلف ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس وحكاه السدي عمن حدثه عن ابن عباس وروى مثله عن علي ومجاهد أيضا ومرة الهمداني وقيل هو نوع من الجواهر أحمر اللون. قال السدي عن أبي مالك عن مسروق عن عبد الله قال: المرجان الخرز الاحمر قال السدي وهو الكسد بالفارسية وأما قوله " ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها " فاللحم من كل من الاجاج والعذب والحلية إنما هي من المالح دون العذب. قال ابن عباس ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إلا صار منها لؤلؤة وكذا قال عكرمة وزاد فإذا لم تقع في صدفة نبتت بها عنبرة وروي من غير وجه عن ابن عباس نحوه وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن الاعمش عن عبد الله بن عبد الله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا أمطرت السماء فتحت الاصداف في البحر أفواهها فما وقع فيها يعني من قطر فهو اللؤلؤ. إسناده صحيح ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الارض امتن بها عليهم فقال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقوله تعالى " وله الجوار المنشآت " يعني السفن التي تجري " في البحر " قال مجاهد ما رفع قلعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت وقال قتادة المنشآت يعني المخلوقات وقال غيره المنشئات بكسر الشين يعني البادئات " كالاعلام " أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم مما فيه صلاح للناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ولهذا قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة حدثنا العيزار بن سويد عن عمرة بن سويد قال كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شاطئ الفرات إذ أقلبت سفينة مرفوع شراعها فبسط علي يديه ثم قال: يقول الله عز وجل " وله الجوار المنشآت في البحر كالاعلام " والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالات على قتله. كل من عليها فان (26) ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (27) فبأي آلاء ربكما تكذبان (28) يسئله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن (29) فبأي آلاء ربكما تكذبان (30) يخبر تعالى أن جميع أهل الارض سيذهبون ويموتون أجمعون وكذلك أهل السماوات إلا من شاء الله ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم فإن الرب تعالى وتقدس لا يموت بل هو الحي الذي لا يموت أبدا قال قتادة أنبأ بما خلق ثم أنبأ أن ذلك كله فان وفي الدعاء المأثور: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والارض يا ذا الجلال والاكرام لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك وقال الشعبي إذا قرأت " كل من عليها فان " فلا تسكت حتى تقرأ " ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " وهذه الآية كقوله تعالى " كل شئ هالك إلا وجهه " وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والاكرام أي هو أهل أن يجل فلا يعصى وأن يطاع فلا يخالف كقوله تعالى " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " وكقوله إخبارا عن المتصدقين " إنما نطعمكم لوجه الله "
[ 293 ]
قال ابن عباس ذو الجلال والاكرام ذو العظمة والكبرياء ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الارض كلهم في الوفاة وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة فيحكم فيهم ذو الجلال والاكرام بحكمه العدل قال " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقوله تعالى (يسأله من في السموات والارض كل يوم هو في شأن) وهذا إخبار عن غناه عما سواه وافتقار الخلائق إليه في جميع الآنات وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم وأنه كل يوم هو في شأن قال الاعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير " كل يوم هو في شأن " قال من شأنه أن يجيب داعيا أو يعطي سائلا أو يفك عانيا أو يشفي سقيما. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كل يوم هو يجيب داعيا ويكشف كربا ومجيب مضطرا ويغفر ذنبا وقال قتادة لا يستغني عنه أهل السموات والارض يحيى حيا ويميت ميتا ويربي صغيرا ويفك أسيرا وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان الحمصي حدثنا جرير بن عثمان عن سويد بن جبلة هو الفزاري قال إن ربكم كل يوم هو في شأن فيعتق رقابا ويعطي رغابا ويقحم عقابا. وقال ابن جرير حدثني عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي حدثني إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثني عمرو بن بكر السكسكي حدثنا الحارث بن عبدة بن رباح الغساني عن أبيه عن منيب بن عبد الله بن منيب الازدي عن أبيه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " كل يوم هو في شأن " فقلنا يا رسول الله وما ذاك الشأن ؟ قال " أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار وسليمان بن أحمد الواسطي قالا: حدثنا الوزير بن صبيح الثقفي أبو روح الدمشقي والسياق لهشام قال سمعت يونس بن ميسرة بن حلبس يحدث عن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل " كل يوم هو في شأن " قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ". وقد رواه ابن عساكر من طرق متعددة عن هشام بن عمار به. ثم ساقه من حديث أبي الوليد بن شجاع عن الوزير بن صبيح قال ورد فيما علقه الوليد بن مسلم عن مطرف عن الشعبي عن ام الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره قال والصحيح الاول يعني إسناده الاول " قلت " وقد روي موقوفا كما علقه البخاري بصيغة الجزم فجعله من كلام أبي الدرداء فالله أعلم. وقال البزار حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن الحارث حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " كل يوم هو في شأن " قال " يغفر ذنبا ويكشف كربا " ثم قال ابن جرير وحدثنا أبو كريب حدثنا عبيدالله بن موسى عن أبي حمزة الثمالي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور وكتابه نور وعرضه ما بين السماء والارض ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة يخلق في كل نظرة ويحيى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء. سنفرغ لكم أيه الثقلان (31) فبأي آلاء ربكما تكذبان (32) يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان (33) فبأي آلاء ربكما تكذبان (34) يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران (35) فبأي آلاء ربكما تكذبان (36) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالي " سنفرغ لكم أيها الثقلان " قال وعيد من الله تعالى للعباد وليس بالله شغل وهو فارغ وكذا قال الضحاك هذا وعيد وقال قتادة قد دنا من الله فراغ لخلقه وقال ابن
[ 294 ]
جريج " سنفرغ لكم " أي سنقضي لكم وقال البخاري سنحاسبكم لا يشغله شئ عن شئ وهو معروف في كلام العرب يقال لاتفرغن لك وما به شغل يقول لآخذنك على غرتك. وقوله تعالى " أيها الثقلان " الثقلان: الانس والجن كما جاء في الصحيح " يسمعه كل شئ إلا الثقلين " وفي رواية " إلا الانس والجن " وفي حديث الصور " الثقلان الانس والجن " " فبأي آلاء ربكما تكذبان ". ثم قال تعالى (يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) أي لا تستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه ولا النفوذ عن حكمه فيكم أينما ذهبتم أحيط بكم وهذا في مقام الحشر الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب فلا يقدر أحد على الذهاب " إلا بسلطان " أي إلا بأمر الله " يقول الانسان يومئذ أين المفر * كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر ". وقال تعالى " والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ولهذا قال تعالى (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الشواظ هو لهب النار وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس الشواظ الدخان وقال مجاهد هو اللهب الاخضر المنقطع وقال أبو صالح الشواظ هو اللهب الذي فوق النار ودون الدخان وقال الضحاك " شواظ من نار " سيل من نار. وقوله تعالى " ونحاس " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ونحاس " دخان النار وروي مثله عن أبي صالح وسعيد بن جبير وأبي سنان وقال ابن جرير والعرب تسمي الدخان نحاسا بضم النون وكسرها والقراءة مجمعة على الضم ومن النحاس بمعنى الدخان قول نابغة جعدة: يضئ كضوء سراج السليط * لم يجعل الله فيه نحاسا يعني دخانا هكذا قال. وقد روى الطبراني من طريق جويبر عن الضحاك أن نافع بن الازرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال هو اللهب الذي لا دخان معه فسأله شاهدا على ذلك من اللغة فأنشده بيت أمية بن أبي الصلت في حسان: ألا من مبلغ حسان عني * مغلغلة تدب إلى عكاظ أليس أبوك فينا كان قينا * لدى القينات فسلا في الحفاظ يمانيا يظل يشد كيرا * وينفخ دائبا لهب الشواظ قال صدقت فما النحاس ؟ قال هو الدخان الذي لا لهب له فهل تعرفه العرب ؟ قال نعم أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول: يضئ كضوء سراج السليط * لم يجعل الله فيه نحاسا ؟ وقال مجاهد: النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم وكذا قال قتادة وقال الضحاك ونحاس سيل من نحاس والمعنى على كل قول لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ولهذا قال " فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان ". فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان (37) فبأي آلاء ربكما تكذبان (38) فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان (39) فبأي آلاء ربكما تكذبان (40) يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام (41) فبأي
[ 295 ]
آلاء ربكما تكذبان (42) هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (43) يطوفون بينها وبين حميم آن (44) فبأي آلاء ربكما تكذبان (45) يقول تعالى " فإذا انشقت السماء " يوم القيامة كما دلت عليه هذه الآيات مع ما شاكلها من الآيات الواردة في معناها كقوله تعالى " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية " وقوله " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " وقوله " إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت ". وقوله تعالى " فكانت وردة كالدهان " أي تذوب كما يذوب الدردي والفضة في السبك وتتلون كما تتلون الاصباغ التي يدهن بها فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة الامر وهول يوم القيامة العظيم. وقد قال الامام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا عبد الرحمن بن أبي الصهباء حدثنا نافع أبو غالب الباهلي حدثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم " قال الجوهري الطش المطر الضعيف وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى " وردة كالدهان " قال هو الاديم الاحمر وقال أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس " فكانت وردة كالدهان " كالفرس الورد وقال العوفي عن ابن عباس تغير لونها. وقال أبو صالح كالبرذون الورد ثم كانت بعد كالدهان وحكى البغوي وغيره أن الفرس الورد تكون في الربيع صفراء وفي الشتاء حمراء فإذا اشتد البرد تغير لونها وقال الحسن البصري تكون ألوانا وقال السدي تكون كلون البغلة الوردة وتكون كالمهل كدردي الزيت وقال مجاهد " كالدهان " كألوان الدهان وقال عطاء الخراساني كلون دهن الورد في الصفرة وقال قتادة هي اليوم خضراء ويومئذ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان وقال أبو الجوزاء في صفاء الدهن وقال ابن جريج تصير السماء كالدهن الذائب وذلك حين يصيبها حر جهنم. وقوله تعالى (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) وهذه كقوله تعالى " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " فهذا في حال وثم في حال يسئل الخلائق عن جميع أعمالهم قال الله تعالى " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " ولهذا قال قتادة " فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان " قال قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون وقد قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لانه أعلم بذلك منهم ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا. فهذا قول ثان. وقال مجاهد في هذه الآية لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم وهذا قول ثالث. وكأن هذا بعدما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسئلون عن ذنوبهم بل يقادون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى " يعرف المجرمون بسيماهم " أي بعلامات تظهر عليهم وقال الحسن وقتادة يعرفونهم باسوداد الوجوه وزرقة العيون " قلت " وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء. وقوله تعالى " فيؤخذ بالنواصي والاقدام " أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك وقال الاعمش عن ابن عباس يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور وقال الضحاك يجمع بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره وقال السدي يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يعني جده أخبرني عبد الرحمن حدثني رجل من كندة قال أتيت عائشة فدخلت عليها وبيني وبينها حجاب فقلت حدثك رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأتي عليه ساعة لا يملك فيها لاحد شفاعة ؟ قالت نعم لقد سألته عن هذا وأنا وهو في شعار واحد قال " نعم حين يوضع الصراط لا أملك لاحد فيها شفاعة حتى أعلم أين يسلك بي ويوم تبيض وجوه وتسود وجوه حتى أنظر ماذا يفعل بي - أو قال يوحى - وعند الجسر حين يستحد ويستحر " فقالت وما يستحد وما يستحر ؟ قال " يستحد حتى يكون مثل شفرة السيف ويستحر حتى يكون مثل الجمرة فأما المؤمن فيجوزه لا يضره
[ 296 ]
وأما المنافق فيتعلق حتى إذا بلغ أوسطه خر من قدميه فيهوي بيديه إلى قدميه " قالت فهل رأيت من يسعى حافيا فتأخذه شوكة حتى تكاد تنفذ قدميه فإنها كذلك يهوي بيده ورأسه إلى قدميه فتضربه الزبانية بخطاف في ناصيته وقدمه فتقذفه في جهنم فيهوي فيها مقدار خمسين عاما قلت ما ثقل الرجل ؟ قالت ثقل عشر خلفات سمان فيومئذ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام. هذا حديث غريب جدا وفيه ألفاط منكر رفعها وفي الاسناد من لم يسم ومثله لا يحتج به والله أعلم. وقوله تعالى (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ها هي حاضرة تشاهدونها عيانا يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا. وقوله تعالى (يطوفون بينها وبين حميم آن) أي تارة يعذبون في الجحيم وتارة يسقون من الحميم وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الامعاء والاحشاء وهذه كقوله تعالى " إذ الاغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون " وقوله تعالى " آن " أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة لا يستطاع من شدة ذلك قال ابن عباس في قوله " يطوفون بينها وبين حميم آن " أي قد انتهى غليه واشتد حره وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن والثوري والسدي وقال قتادة قد آن طبخه منذ خلق الله السموات والارض. وقال محمد بن كعب القرظي يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس وهي كالتي يقول الله تعالى " في الحميم ثم في النار يسجرون " والحميم الآن يعني الحار وعن القرظي رواية أخرى " حميم آن " أي حاضر وهو قول ابن زيد أيضا والحاضر لا ينافي ما روي عن القرظي أولا أنه الحار كقوله تعالى " تسقى من عين آنية " أي حاضرة شديدة الحر لا تستطاع وكقوله " غير ناظرين إناه " يعني استواءه ونضجه فقوله " حميم آن " أي حميم حار جدا. ولما كان معاقبة العصاة المجرمين وتنعيم المتقين من فضله ورحمته وعدله ولطفه بخلقه وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي وغير ذلك قال ممتنا بذلك على بريته (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ولمن خاف مقام ربه جنتان (46) فبأي آلاء ربكما تكذبان (47) ذواتا أفنان (48) فبأي آلاء ربكما تكذبان (49) فيهما عينان تجريان (50) فبأي آلاء ربكما تكذبان (51) فيهما من كل فاكهة زوجان (52) فبأي آلاء ربكما تكذبان (53) قال ابن شوذب وعطاء الخراساني نزلت هذه الآية " ولمن خاف مقام ربه جنتان " في أبي بكر الصديق وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن مصفى حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطية بن قيس في قوله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان " نزلت في الذي قال أحرقوني بالنار لعلي أضل الله قال تاب يوما وليلة بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره يقول الله تعالى " ولمن خاف مقام ربه " بين يدي الله عز وجل يوم القيامة " ونهى النفس عن الهوى " ولم يطع ولا آثر الحياة الدنيا وعلم أن الآخرة خير وأبقى فأدى فرائض الله واجتنب محارمه فله يوم القيامة عند ربه جنتان كما قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن أبي الاسود حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " وأخرجه بقية
[ 297 ]
الجماعة إلا أبا داود من حديث عبد العزيز به. وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبي موسى عن أبيه قال حماد ولا أعلمه إلا قد رفعه في قوله تعالى " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وفي قوله " ومن دونهما جنتان " " جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لاصحاب اليمين " وقال ابن جرير حدثنا زكريا بن يحيى بن أبان المقري حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر عن محمد بن حرملة عن عطاء بن يسار أخبرني أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوما هذه الآية " " ولمن خاف مقام ربه جنتان " " فقلت وإن زنى وإن سرق ؟ فقال " " ولمن خاف مقام ربه جنتان " " فقلت وإن زنى وإن سرق ؟ فقال " " ولمن خاف مقام ربه جنتان " " فقلت وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ فقال " وإن رغم أنف أبي الدرداء " ورواه النسائي من حديث محمد بن أبي حرملة به ورواه النسائي أيضا عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل عن الجريري عن موسى عن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء به وقد روي موقوفا على أبي الدرداء وروي عنه أنه قال: إن من خاف مقام ربه ولم يزن ولم يسرق. وهذه الآية عامة في الانس والجن فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال " ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " ثم نعت هاتين الجنتين فقال " ذواتا أفنان " أي أغصان نضرة حسنة تحمل من كل ثمرة نضيجه فائقة " فبأي آلاء ربكما تكذبان " هكذا قال عطاء الخراساني وجماعة أن الافنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن علي حدثنا مسلم بن قتيبة حدثنا عبد الله بن النعمان سمعت عكرمة يقول (ذواتا أفنان) يقول ظل الاغصان عل الحيطان ألم تسمع قول الشاعر ما هاج شوقك من هديل حمامة * تدعو على فنن الغصون حماما تدعو أبا فرخين صادف طاويا * ذا مخلبين من الصقور قطاما وحكى البغوي عن مجاهد وعكرمة والضحاك والكلبي أنه الغصن المستقيم وحدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا عبد السلام ابن حرب حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ذواتا أفنان ذواتا ألوان قال وروي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي وخصيف والنضر بن عربي وابن سنان مثل ذلك ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ واختاره ابن جرير وقال عطاء كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة وقال الربيع بن أنس " ذواتا أفنان " واسعتا الفناء وكل هذه الاقوال صحيحة ولا منافاة بينها والله أعلم وقال قتادة ذواتا أفنان يعني بسعتها وفضلها ومزيتها على ما سواها وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت سمعت رسول الله وذكر سدرة المنتهى فقال " يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال - يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال " ورواه الترمذي من حديث يونس بن بكر وقال حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي بكر بن أبى موسى عن أبيه قال حماد ولا أعلمه إلا قدر رفعه في قوله " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وفي قوله " ومن دونهما جنتان " قال جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لاصحاب اليمين " فيهما عينان تجريان " أي تسرحان لسقي تلك الاشجار والاغصان فتثمر من جميع الالوان " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قال الحسن البصري إحداهما يقال لها تسنيم والاخرى السلسبيل. وقال عطية إحداهما من ماء غير آسن والاخرى من خمر لذة للشاربين ولهذا قال بعد هذا (فيهما من كل فاكهة زوجان) أي من جميع أنواع الثمار مما يعلمون وخير مما يعلمون ومما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قال إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل وقال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الاسماء يعني أن بين ذلك بونا عظيما وفرقا بينا في التفاضل.
[ 298 ]
متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان (54) فبأي آلاء ربكما تكذبان (55) فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (56) فبأي آلاء ربكما تكذبان (57) كأنهن الياقوت والمرجان (58) فبأي آلاء ربكما تكذبان (59) هل جزاء الاحسان إلا الاحسان (60) فبأي آلاء ربكما تكذبان (61) يقول تعالى " متكئين " يعني أهل الجنة والمراد بالاتكاء ههنا الاضطجاع ويقال الجلوس على صفة التربيع " على فرش بطائنها من إستبرق " وهو ما غلظ من الديباج قاله عكرمة والضحاك وقتادة وقال أبو عمران الجوني هو الديباج المزين بالذهب فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة فهذا من التنبيه بالادنى على الاعلى قال أبو إسحاق عن هبيرة بن مريم عن عبد الله بن مسعود قال: هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر ؟ وقال مالك بن دينار بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور وقال سفيان الثوري أو شريك بطائنها من إستبرق وظواهرها من نور جامد وقال القاسم بن محمد بطائنها من استبرق وظواهرها من الرحمة وقال ابن شوذب عن أبي عبد الله الشامي ذكر الله البطائن ولم يذكر الظواهر وعلى الظواهر المحابس ولا يعلم ما تحت المحابس إلا الله تعالى ذكر ذلك كله الامام ابن أبي حاتم رحمه الله " وجنى الجنتين دان " أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه على أي صفة كانوا كما قال تعالى " قطوفها دانية " وقال " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " أي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك " فيهن " أي في الفرش " قاصرات الطرف " أي غضيضات عن غير أزواجهن فلا يرين شيئا في الجنة أحسن من أزواجهن قاله ابن عباس وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد وقد ورد أن الواحدة منهن تقول لبعلها والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا في الجنة شيئا أحب إلي منك فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " أي بل هن أبكار عرب أتراب لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الانس والجن وهذه أيضا من الادلة على دخول مؤمني الجن الجنة. قال أرطاة بن المنذر سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة ؟ قال نعم وينكحون للجن جنيات وللانس إنسيات وذلك قوله " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان ". ثم قال ينعتهن للخطاب " كأنهن الياقوت والمرجان " قال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم في صفاء الياقوت وبياض المرجان فجعلوا المرجان ههنا اللؤلؤ. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبيد بن حميد عن عطاء بن السائب عن عمرو بن ميمون الاودي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن المرأة من نساء أهل الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها " وذلك قول الله تعالى " كأنهن الياقوت والمرجان " فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكا ثم استصفيته لرأيته من ورائه وهكذا رواه الترمذي من حديث عبيدة بن حميد وأبي الاحوص عن عطاء بن السائب به ورواه موقوفا ثم قال وهو أصح. وقال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يونس عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب " تفرد به الامام أحمد من هذا الوجه وقد روى مسلم حديث إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال إما تفاخروا وإما تذاكروا الرجال أكثر في الجنة أم النساء ؟ فقال أبو هريرة أو لم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب " وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث همام بن منبه وأبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الامام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا محمد بن طلحة عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس
[ 299 ]
أحدكم أو موضع قده - يعني سوطه - من الجنة خير من الدنيا وما فيها ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الارض لملات ما بينهما ريحا ولطاب ما بينهما ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها " ورواه البخاري من حديث أبي إسحاق عن حميد عن أنس بنحوه. وقوله تعالى " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " أي لا لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الاحسان إليه في الآخرة كما قال تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ". وقال البغوي حدثنا أبو سعيد الشريحي حدثنا أبو إسحاق الثعلبي أخبرني ابن منجويه حدثنا ابن شيبة حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام حدثنا الحجاج بن يوسف المكتب حدثنا بشر بن الحسين عن الزيبر بن عدي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " وقال " هل تدرون ما قال ربكم ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة " ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ومما يتعلق بقوله تعالى (ولمن خاف مقام ربه جنتان) ما رواه الترمذي والبغوي من حديث أبي النضر بن هاشم بن القاسم عن أبي عقيل الثقفي عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي عن بكر بن فيروز عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة) ثم قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر وروى البغوي من حديث علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة مولى حويطب بن عبد العزى عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على المنبر وهو يقول " (ولمن خاف مقام ربه جنتان) " قلت وإن زنى وإن سرق يارسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (ولمن خاف مقام ربه جنتان) " فقلت الثانية وإن زنى وإن سرق يارسول الله ؟ فقال " (ولمن خاف مقام ربه جنتان) " فقلت الثالثة وإن زنى وإن سرق يارسول الله ؟ قال (وإن رغم أنف أبي الدرداء). ومن دونهما جنتان (62) فبأي آلاء ربكما تكذبان (63) مدهامتان (64) فبأي آلاء ربكما تكذبان (65) فيهما عينان نضاختان (66) فبأي آلاء ربكما تكذبان (67) فيهما فاكهة ونخل ورمان (68) فبأي آلاء ربكما تكذبان (69) فيهم خيرات حسان (70) فبأي آلاء ربكما تكذبان (71) حور مقصورات في الخيام (72) فبأي آلاء ربكما تكذبان (73) لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان (74) فبأي آلاء ربكما تكذبان (75) متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان (76) فبأي آلاء ربكما تكذبان (77) تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام (78) هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن قال الله تعالى " ومن دونهما جنتان " وقد تقدم في الحديث جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما فالاوليان للمقربين والاخريان لاصحاب اليمين وقال أبو موسى: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من فضة لاصحاب اليمين وقال ابن عباس " ومن دونهما جنتان " من دونهما في الدرج وقال ابن زيد من دونهما في الفضل. والدليل على شرف الاوليين على الاخريين وجوه " أحدها " أنه نعت الاوليين قبل هاتين والتقديم يدل على الاعتناء ثم قال " ومن دونهما جنتان " وهذا ظاهر في شرف التقدم وعلوه على الثاني وقال هناك " ذواتا أفنان " وهي الاغصان أو الفنون في الملاذ وقال ههنا " مدهامتان " أي سوداوان من شدة الري من الماء قال ابن عباس في قوله " مدهامتان " قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا ابن فضيل حدثنا
[ 300 ]
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " مدهامتان " قال خضراوان وروى عن أبي أيوب الانصاري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن أبي أوفى وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في إحدى الروايات وعطاء وعطية العوفي والحسن البصري ويحيى بن رافع وسفيان الثوري نحو ذلك. وقال محمد بن كعب " مدهامتان " ممتلئتان من الخضرة وقال قتادة خضراوان من الري ناعمتان ولا شك في نضارة الاغصان على الاشجار المشتبكة بعضها في بعض وقال هناك (فيهما عينان تجريان) وقال ههنا (نضاختان) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي فياضتان والجري أقوى من النضخ وقال الضحاك " نضاختان " أي ممتلئتان ولا تنقطعان وقال هناك " فيهما من كل فاكهة زوجان) وقال ههنا (فيهما فاكهة ونخل ورمان " ولا شك أن الاولى أعم وأكثر في الافراد والتنويع على فاكهة وهي نكرة في سياق الاثبات لا تعم ولهذا ليس قوله " ونخل ورمان " من باب عطف الخاص على العام كما قرره البخاري وغيره وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما. قال عبد بن حميد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا حصين بن عمر حدثنا مخارق عن طارق بن سهل عن شهاب عن عمر بن الخطاب قال جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد أفي الجنة فاكهة ؟ قال " نعم فيها فاكهة ونخل ورمان " قالوا أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا ؟ " قال نعم وأضعاف " قالوا فيقضون الحوائج ؟ قال " لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب الله ما في بطونهم من أذى " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا الفضيل بن دكين حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال نخل الجنة سعفها كسوة لاهل الجنة منها مقطعاتهم ومنها حللهم وكربها ذهب أحمر وجذوعها زمرد أخضر وثمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم. وحدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد هو أبن سلمة عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب " ثم قال (فيهم خيرات حسان) قيل المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة وقيل خيرات جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور وروي مرفوعا عن أم سلمة وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله تعالى أن الحور العين يغنين: نحن الخيرات الحسان خلقنا لازواج كرام ولهذا قرأ بعضهم " فيهن خيرات " بالتشديد " حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " ثم قال " حور مقصورات في الخيام " وهناك قال " فيهن قاصرات الطرف " ولا شك أن التي قد قصرت طرفها بنفسها أفضل ممن قصرت وإن كان الجميع مخدرات: قال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الاودي حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر عن القاسم بن أبي بزة عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهديه لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ولا بخرات ولا ذفرات حرر عين كأنهن بيض مكنون وقوله تعالى " في الخيام " قال البخاري حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد حدثنا أبو عمران الجوني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون " ورواه أيضا من حديث أبي عمران به وقال ثلاثون ميلا وأخرجه مسلم من حديث أبي عمران به ولفظه " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن أبي الربيع حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أخبرني خليد العصري عن أبي الدرداء قال الخيمة لؤلؤة واحدة فيها سبعون بابا من در وحدثنا أبي حدثنا عيسى بن أبي فاطمة حدثنا جرير عن هشام عن محمد بن المثنى عن ابن عباس في قوله تعالى " حور مقصورات في الخيام " وقال في خيام اللؤلؤ وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب وقال عبد الله بن وهب أخبرنا عمرو أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أدنى أهل الجنة منزلة
[ 301 ]
الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء " ورواه الترمذي من حديث عمرو بن الحارث به. وقوله تعالى " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في وصف الاوائل بقوله (كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان). وقوله تعالى " متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الرفرف المحابس. وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم هي المحابس وقال العلاء بن زيد الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي وقال عاصم الجحدري " متكئين على رفرف خضر " يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري في رواية عنه وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى " متكئين على رفرف خضر " قال الرفرف رياض الجنة وقوله تعالى " وعبقري حسان " قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي: العبقري الزرابي: وقال سعيد بن جبير هي عتاق الزرابي يعني جيادها وقال مجاهد العبقري الديباج وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى " وعبقري حسان " فقال هي بسط أهل الجنة لا أبا لكم فاطلبوها وعن الحسن رواية أنها المرافق وقال زيد بن أسلم العبقري أحمر وأصفر وأخضر وسئل العلاء بن زيد عن العبقري فقال البسط أسفل من ذلك. وقال أبو حرزة يعقوب بن مجاهد: العبقري من ثياب أهل الجنة لا يعرفه أحد وقال أبو العالية العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي وقال القيسي كل ثوب موشى عند العرب عبقري وقال أبو عبيدة هو منسوب إلى أرض يعمل بها الوشي وقال الخليل بن أحمد كل شئ نفيس من الرجال وغير ذلك يسمى عند العرب عبقريا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمر " فلم أر عبقريا يفري فريه " وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الاولتين أرفع وأعلى من هذه الصفة فإنه قد قال هناك " متكئين على فرش بطائنها من إستبرق " فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن بطريق الاولى والاحرى وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " فوصف أهلها بالاحسان وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الاسلام ثم الايمان ثم الاحسان فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الاوليين على هاتين الاخيرتين ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الاوليين. ثم قال " تبارك اسم ربك ذي الجلال والاكرام " أي هو أهل أن يجل فلا يعصى وأن يكرم فيعبد ويشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى وقال ابن عباس " ذي الجلال والاكرام " ذي العظمة والكبرياء وقال الامام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن عمير بن هانئ عن أبي العذراء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أجلوا الله يغفر لكم " وفي الحديث الآخر " إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وذي السلطان وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو يوسف الحربي حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألظوا بياذا الجلال والاكرام " وكذا رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به ثم قال غلط المؤمل فيه وهو غريب وليس بمحفوظ وإنما يروى هذا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال الامام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق حدثنا عبد الله بن المبارك عن يحيى بن حسان المقدسي عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ألظوا بذي الجلال والاكرام " ورواه النسائي من حديث عبد الله بن المبارك به وقال الجوهري ألظ فلان بفلان إذا لزمه وقول ابن مسعود ألظوا بياذا الجلال والاكرام أي الزموا يقال الالظاظ هو الالحاح " قلت " وكلاهما قريب من الآخر والله أعلم وهو المداومة واللزوم والالحاح وفي صحيح مسلم والسنن الاربعة من حديث عبد الله بن الحارث عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت وتعاليت يا ذا الجلال والاكرام ". آخر تفسير سورة الرحمن والله الحمد والمنه.
[ 302 ]
سورة الواقعة قال أبو إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت قال " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت " رواه الترمذي وقال حسن غريب. قال الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن مسعود بسنده إلى عمرو بن الربيع بن طارق المصري حدثنا السري بن يحيى الشيباني عن شجاع عن أبي ظبية قال مرض عبد الله مرضه الذي توفي فيه فعاده عثمان بن عفان فقال ما ثشتكي ؟ قال ذنوبي قال فما تشتهي ؟ قال رحمة ربي قال ألا آمر لك بطبيب ؟ قال الطبيب أمرضني قال ألا آمر لك بعطاء ؟ قال لا حاجة لي فيه قال يكون لبناتك من بعدك قال أتخشى على بناتي الفقر ؟ إني أمرت بناتي يقرأن كل ليلة سورة الواقعة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " ثم قال ابن عساكر كذا قال والصواب عن شجاع كما رواه عبد الله بن وهب عن السري. وقال عبد الله بن وهب أخبرني السري بن يحيى أن شجاعا حدثه عن أبي ظبية عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " فكان أبو ظبية لا يدعها وكذا رواه أبو يعلى عن إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن منيب عن السري بن يحيى عن شجاع عن أبي ظبية عن ابن مسعود به. ثم رواه أبو يعلى عن إسحاق بن إبراهيم عن محمد ابن منيب العدني عن السري بن يحيى عن أبي ظبية عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ سورة الواقعة في كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا " لم يذكر في مسنده شجاعا قال وقد أمرت بناتي أن يقرأنها كل ليلة. وقد رواه ابن عساكر أيضا من حديث حجاج بن نصير وعثمان بن أبي اليمان عن السري بن يحيى عن شجاع عن أبي فاطمة قال مرض عبد الله فأتاه عثمان بن عفان يعوده فذكر الحديث بطوله قال عثمان بن اليمان كان أبو فاطمة هذا مولى لعلي بن أبي طالب. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل ويحيى بن آدم حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب أنه سمع جابر بن سمرة يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم ولكنه كان يخفف كانت صلاته أخف من صلاتكم وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور. بسم الله الرحمن الرحيم إذا وقعت الواقعة (1) ليس لوقعتها كاذبة (2) خافضة رافعة (3) إذا رجت الارض رجا (4) وبست الجبال بسا (5) فكانت هباء منبثا (6) وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة (9) والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) الواقعة من أسماء يوم القيامة سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها كما قال تعالى " فيومئذ وقعت الواقعة " وقوله تعالى " ليس لوقعتها كاذبة " أي ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ولا دافع يدفعها كما قال " استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله " وقال " سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع " وقال تعالى " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ". ومعنى " كاذبة " كما قال محمد بن كعب لا بد أن تكون وقال قتادة ليس فيها مثنوية ولا ارتداد ولا رجعة قال ابن جرير والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية. وقوله تعالى (خافضة رافعة) أي تخفض أقواما إلى أسفل سافلين إلى الجحيم وإن كانوا في الدنيا أعزاء وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم
[ 303 ]
وإن كانوا في الدنيا وضعاء هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو زيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعني حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن أبيه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس " خافضة رافعة " تخفض أقواما وترفع آخرين. وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب " خافضة رافعة " قال الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة وقال محمد بن كعب تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين وترفع رجالا كانوا في الدنيا مخفوضين وقال السدي خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين وقال العوفي عن ابن عباس " خافضة رافعة " أسمعت القريب والبعيد وقال عكرمة خفضت فأسمعت الادنى ورفعت فأسمعت الاقصى. وكذا قال الضحاك وقتادة. وقوله تعالى (إذا رجت الارض رجا) أي حركت تحريكا فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد في قوله تعالى " إذا رجت الارض رجا " أي زلزلت زلزالا وقال الربيع بن أنس ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه وهذا كقوله تعالى " إذا زلزلت الارض زلزالها " وقال تعالى " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم " وقوله تعالى (وبست الجبال بسا) أي فتتت فتا قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة وغيرهم وقال ابن زيد صارت الجبال كما قال الله تعالى " كثيبا مهيلا ". وقوله تعالى (فكانت هباء منبثا) قال أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه: هباء منبثا كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شئ وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " فكانت هباء منبثا " الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه الشرر فإذا وقع لم يكن شيئا وقال عكرمة: المنبث الذي قد ذرته الريح وبثته وقال قتادة " هباء منبثا " كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح. وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة وذهابها وتسييرها ونسفها أي قلعها وصيرورتها كالعهن المنفوش. وقوله تعالى (وكنتم أزواجا ثلاثة) أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش وهم الذين خرجوا من شق آدم الايمن ويؤتون كتبهم بأيمانهم ويؤخذ بهم ذات اليمين قال السدي وهم جمهور أهل الجنة وآخرون عن يسار العرش وهم الذين خرجوا من شق آدم الايسر ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار - عياذا بالله من صنيعهم - وطائفة سابقون بين يديه عز وجل وهم أخص وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين الذين هم سادتهم فيهم الرسل والانبياء والصديقون والشهداء وهم أقل عددا من أصحاب اليمين لهذا قال تعالى " فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون " وهكذا قسمهم إلى هذه الانواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم وهكذا ذكرهم في قوله تعالى " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " الآية وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه قال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس عن قوله " وكنتم أزواجا ثلاثة " قال هي التي في سورة الملائكة " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " وقال ابن جريج عن ابن عباس هذه الازواج الثلاثة هم المذكورون في آخر السورة وفي سورة الملائكة. وقال يزيد الرقاشي سألت ابن عباس في قوله " وكنتم أزواجا ثلاثة " قال أصنافا ثلاثة وقال مجاهد " وكنتم أزواجا ثلاثه " يعني فرقا ثلاثة. وقال ميمون بن مهران أفواجا ثلاثة وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة بن خالة عمر بن الخطاب " وكنتم أزواجا ثلاثة " اثنان في الجنة وواحد في النار. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن الصباح حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإذا النفوس زوجت " قال: الضرباء كل رجل من كل قوم كانوا يعملون عمله وذلك بأن الله تعالى يقول " وكنتم أزواجا ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما
[ 304 ]
أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون " قال هم الضرباء. وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى حدثنا البراء الغنوي حدثنا الحسن عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين. وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " فقبض بيده قبضتين فقال " هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي " وقال الامام أحمد أيضا حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أتدرون من السابقون إلى ظل يوم القيامة " قالوا الله ورسوله أعلم قال " الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لانفسهم " وقال محمد بن كعب وأبو حرزة ويعقوب بن مجاهد " والسابقون السابقون " الانبياء عليهم السلام وقال السدي هم أهل عليين وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس " والسابقون السابقون " قال يوشع بن نون سبق إلى موسى ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن هارون الفلاس عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزار عن سفيان بن الضحاك المدائني عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح به. وقال ابن أبي حاتم وذكر عن محمد بن أبي حماد حدثنا مهران عن خارجة عن قرة عن ابن سيرين " والسابقون السابقون " الذي صلوا إلى القبلتين. ورواه ابن جرير من حديث خارجة به وقال الحسن وقتادة " والسابقون السابقون " أي من كل أمة وقال الاوزاعي عن عثمان بن أبي سودة أنه قرأ هذه الآية " والسابقون السابقون أولئك المقربون " ثم قال أولهم رواحا إلى المسجد وأولهم خروجا في سبيل الله وهذه الاقوال كلها صحيحة فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات كما أمروا كما قال تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض " وقال تعالى " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض " فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى فعل الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان. ولهذا قال تعالى " أولئك المقربون في جنات النعيم ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن زكريا الفزاري الرازي حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال: قالت الملائكة يا رب جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون فاجعل لنا الآخرة فقال لا أفعل فراجعوا ثلاثا فقال لا أجعل من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان. ثم قرأ عبد الله " والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم " وقد روى هذا الاثر الامام عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الرد على الجهمية ولفظه: فقال الله عز وجل لن أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فيكون. ثلة من الاولين (13) وقليل من الاخرين (14) على سرر موضونة (15) متكئين عليها متقابلين (16) يطوف عليهم ولدان مخلدون (17) بأكواب وأباريق وكأس من معين (18) لا يصدعون عنها ولا ينزفون (19) وفاكهة مما يتخيرون (20) ولحم طير مما يشتهون (21) وحور عين (22) كأمثال اللؤلؤ المكنون (23) جزاء بما كانوا يعملون (24) لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما (25) إلا قيلا سلاما سلاما (26) يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين أنهم ثلة أي جماعة من الاولين وقليل من الآخرين وقد اختلفوا في المراد بقوله الاولين والآخرين فقيل المراد بالاولين الامم الماضية وبالآخرين هذه الامة وهذا رواية عن مجاهد والحسن البصري رواها عنهما ابن أبي حاتم وهو اختيار ابن جرير واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم " نحن الآخرون السابقون يوم
[ 305 ]
القيامة " ولم يحك غيره ولا عزاه إلى أحد ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه الامام أبو محمد ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع حدثنا شريك عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت " ثلة من الاولين * وقليل من الآخرين " شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت " ثلة من الاولين * وثلة من الآخرين " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لارجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسمونهم النصف الثاني " ورواه الامام أحمد عن أسود بن عامر عن شريك عن محمد بياع الملاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكره وقد روى من حديث جابر نحو هذا ورواه الحافظ ابن عساكر من طريق هشام بن عمارة حدثنا عبدربه بن صالح عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت " إذا وقعت الواقعة " ذكر فيها " ثلثة الاولين * وقليل من الآخرين " قال عمر يا رسول الله ثلة من الاولين وقليل منا ؟ قال فأمسك آخر السورة سنة ثم نزل " ثلة من الاولين * وثلة من الآخرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عمر تعال فاسمع ما قد أنزل الله " ثلة من الاولين * وثلة من الآخرين " ألا وإن من آدم إلي ثلة وأمتي ثلة ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الابل ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له " هكذا أورده في ترجمة عروة بن رويم إسنادا ومتنا ولكن في إسناده نظر وقد وردت طرق كثيرة متعددة بقوله صلى الله عليه وسلم " إني لارجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " الحديث بتمامه وهو مفرد في صفة الجنة ولله الحمد والمنة وهذا الذي اختاره ابن جرير ههنا فيه نظر بل هو قول ضعيف لان هذه الامة هي خير الامم بنص القرآن فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها اللهم إلا أن يقابل مجموع الامم بهذه الامة والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الامم والله أعلم فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح وهو أن يكون المراد بقوله تعالى " ثلة من الاولين " أي من صدر هذه الامة " وقليل من الآخرين " أي من هذه الامة وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عفان حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني سمعت الحسن أتى على هذه الآية " والسابقون السابقون * أولئك المقربون " فقال أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين. ثم قال حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا السري بن يحيى قال قرأ الحسن " والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم * ثلة من الاولين " قال ثلة ممن مضى من هذه الامة وحدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري حدثنا أبو هلال عن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية " ثلة من الاولين * وقليل من الآخرين " قال كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الامة فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الامة ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها فيحتمل أن تعم الآية جميع الامم كل أمة بحسبها ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " الحديث بتمامه. فأما الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا زياد أبو عمر عن الحسن عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " فهذا الحديث بعد الحكم بصحة إسناده محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الامة في إبلاغه إلى من بعدهم كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها وتثبيت الناس على السنة وروايتها وإظهارها والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الاول وإلى المطر الثاني ولكن العمدة الكبرى على الاول واحتياج الزرع إليه آكد فإنه لولاه ما نبت في الارض ولا تعلق أساسه فيها ولهذا قال عليه السلام " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة " وفي لفظ " حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك " والغرض أن هذه الامة أشرف من سائر الامم والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها ولهذا ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الامة سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وفي لفظ " مع كل ألف سبعون ألفا - وفي آخر - مع كل واحد سبعون ألفا " وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هشام بن يزيد
[ 306 ]
الطبراني حدثنا محمد هو ابن اسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم يعني ابن زرعة عن شريح هو ابن عبيد عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الاسود زمرة جميعها يحيطون الارض تقول الملائكة لما جاء مع محمد صلى الله عليه وسلم أكثر مما جاء مع الانبياء عليهم السلام " وحسن أن يذكر ههنا عند قوله تعالى " ثلة من الاولين وقليل من الآخرين " الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة حيث قال أخبرنا أبو نصر بن قتادة أخبرنا أبو عمرو بن مطر أخبرنا جعفر بن محمد بن المستفاض الفريابي حدثني أبو وهب الوليد بن عبد الملك بن عبد الله بن مسرح الحراني حدثنا سليمان بن عطاء القرشي الحراني عن مسلم بن عبد الله الجني عن عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي زمل الجهني رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح يقول وهو ثان رجليه " سبحان الله وبحمده أستغفر الله إن الله كان توابا " سبعين مرة ثم يقول " سبعين بسبعمائة لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة " ثم يقول ذلك مرتين ثم يستقبل الناس بوجهه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا ثم يقول " هل رأى أحد منكم شيئا ؟ " قال أبو زمل فقلت أنا يا رسول الله فقال " خير تلقاه وشر توقاه وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك " فقلت رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب والناس على الجادة منطلقين فبينما هم كذلك إذا أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله يرف رفيفا يقطر ماؤه فيه من أنواع الكلا قال وكانوا بالرعلة الاولى حين أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فلم يظلموه يمينا ولا شمالا قال فكأني أنظر إليهم منطلقين ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا فلما أشفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فمنهم المرتع ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك قال ثم قدم عظم الناس فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا هذا خير المنزل كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى إذا هو تكلم يسمو فيقرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باز كثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها كلكم تأمونه تريدونه وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها قال فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب فذاك ما حملتكم عليه من الهدى وأنتم عليه وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغدارة عيشها مضيت وأنا وأصحابي لم نتعلق منها بشئ ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا فمنهم المرتع ومنهم الآخذ الضغث ونجوا على ذلك ثم جاء عظم الناس فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة فلن تزال عليها حتى تلقاني وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة فالدنيا سبعة آلاف سنة أنا في آخرها ألفا وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل فذلك موسى عليه السلام إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه كأنما حمم شعره بالماء فذلك عيسى ابن مريم نكرمه لاكرام الله إياه وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم كلنا نؤمه ونقتدي به وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي " قال فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجئ الرجل فيحدثه بها متبرعا. وقوله تعالى " على سرر موضونة " قال ابن عباس أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك وغيره وقال السدي مرمولة بالذهب واللؤلؤ وقال عكرمة مشبكة بالدر والياقوت. وقال ابن جرير ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها وهو فعيل بمعنى مفعول لانه مضفور وكذلك السرر في الجنة مضفورة بالذهب واللآلئ.
[ 307 ]
وقوله تعالى " متكئين عليها متقابلين " أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد (يطوف عليهم ولدان مخلدون) أي مخلدون على صفة واحدة لا يكبرون عنها ولا يشيبون ولا يتغيرون (بأكواب وأباريق وكأس من معين) أما الاكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان والاباريق التي جمعت الوصفين والكؤوس الهنابات والجميع من خمر من عين جارية معين ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة وقوله تعالى " لا يصدعون عنها ولا ينزفون " أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقئ والبول فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال وقال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطية وقتادة والسدي " لا يصدعون عنها " يقول ليس لهم فيها صداع رأس وقالوا في قوله " ولا ينزفون " أي لا تذهب بعقولهم وقوله تعالى " وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون " أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ويدل على ذلك حديث عكراش بن ذؤيب الذي رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في مسنده حدثنا العباس بن الوليد الترسي حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سومة حدثنا عبيدالله بن عكراش عن أبيه عكراش بن ذؤيب قال: بعثني مرة في صدقات أموالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت المدينة فإذا هو جالس بين المهاجرين والانصار وقدمت عليه بإبل كأنها عروق الارطي قال " من الرجل ؟ " قلت عكراش بن ذؤيب قال " ارفع في النسب " فانتسبت له إلى مرة بن عبيد وهذه صدقة مرة بن عبيد فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " هذه إبل قومي هذه صدقات قومي " ثم أمر بها أن توسم بميسم إبل الصدقة وتضم إليها ثم أخذ بيدي فانطلقنا إلى منزل أم سلمة فقال " هل من طعام ؟ " فأتينا بحفنة كالقصعة كثيرة الثريد والوذر فجعل يأكل منها فأقبلت أخبط بيدي في جوانبها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى فقال " يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد " ثم أتينا بطبق فيه تمر أو رطب - شك عبيد الله رطبا كان أو تمرا - فجعلت آكل من بين يدي وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق وقال " يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ومسح ببلل كفيه وجهه وذراعيه ورأسه ثلاثا ثم قال " يا عكراش هذا الوضوء مما غيرت النار " وهكذا رواه الترمذي مطولا وابن ماجه جميعا عن محمد بن بشار عن أبي الهزيل العلاء بن الفضل به وقال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من حديثه وقال الامام أحمد حدثنا بهز بن أسد وعفان وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا شيبان قالوا حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا ثابت قال: قال أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا فربما رأى الرجل الرؤيا فسأل عنه إذا لم يكن يعرفه فإذا أثنى عليه معروف كان أعجب لرؤياه إليه فأتتته امرأة فقالت يا رسول الله رأيت كأني أتيت فأخرجت من المدينة فأدخلت الجنة فسمعت وجبة انتحبت لها الجنة فنظرت فإذا فلان بن فلان وفلان بن فلان فسمت اثنى عشر رجلا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية قبل ذلك فجئ بهم عليهم ثياب طلس تشخب أوداجهم فقيل اذهبوا بهم إلى نهر البيدخ أو البيذخ قال فغمسوا فيه فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر فأكلوا من بسره ما شاءوا فما يقلبونها من وجه إلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا وأكلت معهم فجاء البشير من تلك السرية فقال ما كان من رؤيا كذا وكذا فأصيب فلان وفلان حتى عد اثني عشر رجلا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة فقال " قصي رؤياك " فقصتها وجعلت تقول فجئ بفلان وفلان كما قال. هذا لفظ أبي يعلى قال الحافظ الضياء وهذا على شرط مسلم وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا ريحان بن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " وقوله تعالى " ولحم طير مما يشتهون " قال الامام أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في
[ 308 ]
شجر الجنة " فقال أبو بكر يارسول الله إن هذه لطير ناعمة فقال " آكلها أنعم منها - قالها ثلاثا - وإني لارجو أن تكون ممن يأكل منها " انفرد به أحمد من هذا الوجه. وروى الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه صفة الجنة من حديث إسماعيل بن علي الخطمي عن أحمد بن علي الحيوطي عن عبد الجبار بن عاصم عن عبد الله بن زياد عن زرعة عن نافع عن ابن عمر قال: ذكرت عند النبي صلى الله عليه وسلم طوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر هل بلغك ما طوبى ؟ " قال الله ورسوله أعلم قال " طوبي شجرة في الجنة ما يعلم طولها إلا الله سير الراكب تحت غصن من أغصانها سبعين خريفا ورقها الحلل يقع عليها الطير كأمثال البخت " فقال أبو بكر يا رسول الله إن هناك لطيرا ناعما ؟ قال " أنعم منه من يأكله وأنت منهم إن شاء الله تعالى " وقال قتادة في قوله تعالى " ولحم طير مما يشتهون " وذكر لنا أن أبا بكر قال يا رسول الله إني أرى طيرها ناعمة كأهلها ناعمون قال " من يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لامثال البخت وإني لاحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر ". وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني مجاهد بن موسى حدثنا معن بن عيسى حدثني ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال " نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر " فقال عمر إنها لناعمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آكلها أنعم منها " وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن القعنبي عن محمد بن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أبيه عن أنس وقال حسن. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن عبيدالله بن الوليد الرصافي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لطيرا فيه سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة فينتفض فيخرج من كل ريشة يعني لونا أبيض من اللبن وألين من الزبد وأعذب من الشهد ليس منها لون يشيه صاحبه ثم يطير " هذا حديث غريب جدا والرصافي وشيخه ضعيفان ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثنا خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي حازم عن عطاء عن كعب قال: إن طائر الجنة أمثال البخت يأكل من ثمرات الجنه ويشرب من أنهار الجنة فيصطففن له فإذا اشتهى منها شيئا أتى حتى يقع بين يديه فيأكل من خارجه وداخله ثم يطير لم ينقص منه شئ صحيح إلى كعب وقال الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الاعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا ". وقوله تعالى " وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون " قرأ بعضهم بالرفع وتقديره ولهم فيها حور عين وقراءة الجر تحتمل معنيين أحدهما أن يكون الاعراب على الاتباع بما قبله كقوله " يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين " كما قال تعالى " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " وكما قال تعالى " عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق " والاحتمال الثاني أن يكون مما يطوف به الولدان المخلدون عليهم الحور العين ولكن يكون ذلك في القصور لا بين بعضهم بعضا بل في الخيام يطوف عليهم الخدام بالحور العين والله أعلم. وقوله تعالى " كأمثال اللؤلؤ المكنون " أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم في سورة الصافات " كأنهن بيض مكنون " وقد تقدم في سورة الرحمن وصفهن أيضا ولهذا قال " جزاء بما كانوا يعملون " أي هذا الذي اتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا من العمل. ثم قال تعالى " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " أي لا يسمعون في الجنة كلاما لاغيا أي عبثا خاليا عن المعنى أو مشتملا على معنى حقير أو ضعيف كما قال " لا تسمع فيها لاغية " أي كلمة لاغية " ولا تأثيما " أي ولا كلاما فيه قبح " إلا قيلا سلاما سلاما " أي إلا التسليم منهم بعضهم على بعض كما قال تعالى " تحيتهم فيها سلام " وكلامهم أيضا سالم من اللغو والاثم.
[ 309 ]
وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين (27) في سدر مخضود (28) وطلح منضود (29) وظل ممدود (30) وماء مسكوب (31) وفاكهة كثيرة (32) لا مقطوعة ولا ممنوعة (33) وفرش مرفوعة (34) إنا أنشأناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37) لاصحاب اليمين (38) ثلة من الاولين (39) وثلة من الاخرين (40) لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الابرار كما قال ميمون بن مهران أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين فقال " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " أي أي شئ أصحاب اليمين وما حالهم وكيف مآلهم. ثم فسر ذلك فقال تعالى " في سدر مخضود " قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو الاحوص وقسامة ابن زهير والسفر بن قيس والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وأبو حرزة وغيرهم هو الذي لا شوك فيه وعن ابن عباس هو الموقر بالثمر وهو رواية عن عكرمة ومجاهد وكذا قال قتادة أيضا كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك فيه والظاهر أن المراد هذا وهذا فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله كما قال الحافظ أبو بكر أحمد بن سلمان النجار حدثنا عبد الله بن محمد هو البغوي حدثني حمزة بن العباس حدثنا عبد الله بن عثمان حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله لينفعنا بالاعراب ومسائلهم قال أقبل أعرابي يوما فقال يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما هي ؟ " قال السدر فإن له شوكا مؤذيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أليس الله تعالى يقول " في سدر مخضود " خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكه ثمرة فإنها لتنبت ثمرا تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ما فيها لون يشبه الآخر ". " طريق آخر " قال أبو بكر بن أبي داود حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن المبارك حدثني يحيى بن حمزة حدثني ثور بن مزيد حدثني حبيب بن عبيد عن عتبة بن عبدالسلمي قال كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال يا رسول الله أسمعك تذكر في الجنة شجرة لا أعلم أكثر شوكا منها يعني الطلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يجعل مكان كل شوكة منها ثمرة مثل خصوة التيس الملبود فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون الآخر ". وقوله " وطلح منضود " الطلح شجر عظام يكون بأرض الحجاز من شجر العضاه واحدته طلحة وهو شجر كثير الشوك وأنشد ابن جرير لبعض الحداة بشرها دليلها وقالا * غدا ترين الطلح والجبالا وقال مجاهد " منضود " أي متراكم الثمر يذكر بذلك قريشا لانهم كانوا يعجبون من وج وظلاله من طلح وسدر وقال السدي منضود مصفود قال ابن عباس يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل قال الجوهري والطلح لغة في الطلع " قلت " وقد روى ابن أبي حاتم من حديث الحسن بن سعد عن شيخ من همدان قال سمعت عليا يقول هذا الحرف في طلح منضود قال طلع منضود فعلى هذا يكون من صفة السدر فكأنه وصفه بأنه مخضود وهو الذي لا شوك له وأن طلعه منضود وهو كثرة ثمره والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو معاوية عن إدريس عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد " وطلح منضود " قال الموز قال وروي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وعكرمة وقسامة بن زهير وقتادة وأبي حزرة مثل ذلك وبه قال مجاهد وابن زيد وزاد فقال أهل اليمن يسمون الموز الطلح ولم يحك ابن جرير غير هذا القول وقوله تعالى " وظل ممدود " قال البخاري حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرأوا إن شئتم " وظل ممدد " ورواه مسلم من
[ 310 ]
حديث الاعرج به وقال الامام أحمد حدثنا شريح حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود " وكذا رواه مسلم من حديث الاعرج به وكذا رواه البخاري عن محمد بن سفيان عن فليح به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة وكذا رواه حماد بن سلمة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة والليث بن سعد عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة وعوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة به وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين أو مائة سنة هي شجرة الخلد " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو بن أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها واقرأوا إن شئتم " وظل ممدود " إسناده جيد ولم يخرجوه وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبدة وعبد الرحيم والبخاري كلهم عن محمد بن عمرو به وقد رواه الترمذي من حديث عبد الرحيم بن سليمان به وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زياد مولى بني مخزوم عن أبي هريرة قال: إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام اقرأوا إن شئتم " وظل ممدود " فبلغ ذلك كعبا فقال صدق والذي أنزل التوراة على موسى والفرقان على محمد لو أن رجلا ركب حقة أو جذعة ثم دار بأعلى تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هرما إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من روحه وإن أفنائها لمن وراء سور الجنة وما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " وظل ممدود " قال " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " وكذا رواه البخاري عن روح بن عبد المؤمن عن يزيد بن زريع وهكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران بن داود القطان عن قتادة به وكذا رواه معمر وأبو هلال عن قتادة به وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام يقطعها " فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله. وقد قال الامام أبو جعفر ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر حدثنا أبو حصين قال: كنا على باب في موضع ومعنا أبو صالح وشقيق يعني الضبي فحدث أبو صالح قال حدثني أبو هريرة قال إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما قال أبو صالح أتكذب أبا هريرة ؟ قال ما أكذب أبا هريرة ولكني أكذبك أنت فشق ذلك على القراء يومئذ. " قلت " فقد أبطل من يكذب بهذا الحديث مع ثبوته وصحته ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا زياد بن الحسن بن الفرات القزاز عن أبيه عن جده عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب " ثم قال حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن أبي الربيع حدثنا أبو عامر العقدي عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام قال فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها قال فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا. هذا أثر غريب وإسناده جيد قوي حسن وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا ابن يمان حدثنا سفيان حدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى " وظل ممدود " قال سبعون ألف سنة وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان مثله ثم قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون وظل ممدود قال خمسمائة ألف سنة
[ 311 ]
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا حصين بن نافع عن الحسن في قوله الله تعالى " وظل ممدود " قال في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها وقال عوف عن الحسن بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها " رواه ابن جرير وقال شبيب عن عكرمة عن ابن عباس في الجنة شجر لا يحمل يستظل به رواه ابن أبي حاتم وقال الضحاك والسدي وأبو حزرة في قوله تعالى " وظل ممدود " لا ينقطع ليس فيها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر وقال ابن مسعود الجنة سجسج كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وقد تقدمت الآيات كقوله " وندخلهم ظلا ظليلا " وقوله " أكلها دائم وظلها " وقوله " في ظلال وعيون " إلى غير ذلك من الآيات. وقوله تعالى " وماء مسكوب " قال الثوري يجري في غير أخدود وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى " فيها أنهار من ماء غير آسن " الآية بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة " أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الالوان مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما قال تعالى " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها " أي يشبه الشكل الشكل ولكن الطعم غير الطعم وفي الصحيحين في ذكر سدرة المنتهى " فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثلا قلال هجر " وفيهما أيضا من حديث مالك عن زيد عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فذكر الصلاة وفيه قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت قال " إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لاكلتم منه ما بقيت الدنيا " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبيد الله حدثنا أبو عقيل عن جابر قال بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما كنت تصنعه فقال: " إنه عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لاكل منه من بين السماء والارض لا ينقص منه " وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر نحوه. وقال الامام أحمد حدثنا علي بن بحر حدثنا هشام بن يوسف أخبرنا معمر عن أبي يحيى بن أبي كثير عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الاعرابي فيها فاكهة. قال " نعم وفيها شجرة تدعى طوبي " قال فذكر شيئا لا أدري ما هو قال أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال " ليست تشبه شيئا من شجر أرضك " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أتيت الشام " قال لا قال " تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد وينفرش أعلاها " قال ما عظم العنقود ؟ قال " مسيرة شهر للغراب الابقع لا يفتر " قال ما عظم أصلها ؟ قال " لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتها هرما " قال فيها عنب ؟ قال " نعم " قال فما عظم الحبة ؟ قال " هل ذبح أبوك تيسا من غنمه قط عظيما " قال نعم قال " فسلخ إهابه فأعطاه أمك فقال اتخذي لنا منه دلوا " قال نعم قال الاعرابي فإن تلك الحبة لتشبعني وأهل بيتي ؟ قال " نعم وعامة عشيرتك " وقوله تعالى " لا مقطوعة ولا ممنوعة " أي لا تنقطع شتاء ولا صيفا بل أكلها دائم مستمر أبدا مهما طلبوا وجدوا لا يمتنع عليهم بقدرة الله شئ وقال قتادة لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد وقد تقدم في الحديث: إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أخرى. وقوله تعالى " وفرش مرفوعة " أي عالية وطيئة ناعمة قال النسائي وأبو عيسى الترمذي حدثنا أبو كريب حدثنا رشدين بن سعد عن عمر بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وفرش مرفوعة " قال " ارتفاعها كما بين السماء والارض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام " ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من
[ 312 ]
حديث رشدين بن سعد قال: وقال بعض أهل العلم معنى هذا الحديث ارتفاع الفرش في الدرجات وبعد ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض هكذا قال إنه لا يعرف هذا إلا من رواية رشدين بن سعد وهو المصري وهو ضعيف هكذا رواه أبو جعفر بن جرير عن أبي كريب عن رشدين به. ثم رواه هو وابن أبي حاتم كلاهما عن يونس بن عبد الاعلى عن أبن وهب عن عمر بن الحارث فذكره وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا عن نعيم بن حماد عن ابن وهب وأخرجه الضياء في صفة الجنة من حديث حرملة عن ابن وهب به مثله ورواه الامام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة حدثنا دراج فذكره. وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو معاوية جويبر عن أبي سهل يعني كثير بن زياد عن الحسن " وفرش مرفوعة " قال ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة. وقوله تعالى " إنا أنشأناهن إنشاء * فجعلناهن أبكارا عربا أترابا * لاصحاب اليمين " جرى الضمير على غير مذكور لكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهن وعاد الضمير عليهن كما في قوله تعالى " إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس على المشهور من قولي المفسرين، وقال الاخفش في قوله تعالى " إنا أنشأناهن " أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك وقال أبو عبيدة ذكرن في قوله تعالى " وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون " فقوله تعالى " إنا أنشأناهن " أي أعدناهن في النشأة الاخرى بعدما كن عجائز رمصا صرن أبكارا عربا أي بعد الثيوبة عدن أبكارا عربا متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة وقال بعضهم عربا أي غنجات قال موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنا أنشأناهن إنشاء " - قال - نساء عجائزكن في الدنيا عمشا رمصا " رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال الترمذي غريب وموسى ويزيد ضعيفان وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا آدم يعني ابن أبي إياس حدثنا شيبان عن جابر عن يزيد بن مرة عن سلمة بن يزيد قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى " إنا أنشأناهن إنشاء " يعني " الثيب والابكار اللاتي كن في الدنيا " وقال عبد بن حميد حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال أتت عجوز فقالت يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال " يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز " قال فولت تبكى قال " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول " إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا " وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن عبد بن حميد وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا بكر بن سهل الدمياطي حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي أخبرنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى " حور عين " قال " حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر " قلت أخبرني عن قوله تعالى " كأمثال اللؤلؤ المكنون " قال " صفاؤهن صفاء الدر الذي في الاصداف الذي لم تمسه الايدي " قلت أخبرني عن قوله " فيهن خيرات حسان " " قال خيرات الاخلاق حسان الوجوه " قلت أخبرني عن قوله " كأنهن بيض مكنون " قال " رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقئ " قلت يا رسول الله أخبرني عن قوله " عربا أترابا " قال " هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصا شمطا خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات أترابا على ميلاد واحد " قلت يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال: " بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة " قلت يا رسول الله وبم ذاك ؟ قال " بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عز وجل ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الالوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا طوبي لمن كنا له وكان لنا " قلت يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والاربعة ثم تموت
[ 313 ]
فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها ؟ قال " يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم في دخولها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ الله وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما الله في الدنيا يدخل على الاولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق وأنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها وأنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة يعني وكبدها له مرآة فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا منى ولا منية فبينما هو كذلك إذ نودى إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا إن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة كلما جاء واحدة قالت والله ما في الجنه شئ أحسن منك وما في الجنة شئ أحب إلي منك " وقال عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج من ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال له أنطأ في الجنة ؟ قال " نعم: والذي نفسي بيده دحما دحما فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا " وقال الطبراني حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي حدثنا محمد بن عبد الملك الدمشقي الواسطي حدثنا معلى بن عبد الرحمن الواسطي حدثنا شريك عن عاصم الاحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا " وقال أبو داود الطيالسي أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء " قلت يا رسول الله ويطيق ذلك " قال يعطى قوة مائة " ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال صحيح غريب: وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة ؟ قال " إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء " قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم. وقوله " عربا " قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني متحببات إلى أزواجهن ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك وقال الضحاك عن ابن عباس العرب العواشق لازواجهن وأزواجهن لهن عاشقون وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم وقال ثور بن يزيد عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن قوله " عربا " قال هي الملقة لزوجها وقال شعبة عن سماك عن عكرمة هي الغنجة. وقال الاجلح بن عبد الله عن عكرمة هي المشكلة وقال صالح بن حسان عن عبد الله بن بريدة في قوله " عربا " قال الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة وقال تميم بن حذلم هي حسن التبعل وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن العرب حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري حدثنا أبو علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عربا " - قال - كلامهن عربي " وقوله " أترابا " قال الضحاك عن ابن عباس يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة وقال مجاهد الاتراب المستويات وفي رواية عنه الامثال وقال عطية الاقران وقال السدي " أترابا " أي في الاخلاق المتواخيات بينهن ليس بينهن تباغض ولا تحاسد يعني لا كما كن ضرائر متعاديات وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد " عربا أترابا " " قال المستويات الاسنان يأتلفن جميعا ويلعبن جميعا وقد روى أبو عيسى الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن على رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن أصواتا لم تسمع الخلائق بمثلها قال يقلن نحن الخالدات فلا
[ 314 ]
نبيد ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبي لمن كان لنا وكنا له " ثم قال هذا حديث غريب. وقال الحافظ أبو يعلى أخبرنا أبو خيثمة حدثنا إسماعيل بن عمر حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات حسان خبئنا لازواج كرام " قلت إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الاثبات. وقد روى هذا الحديث الامام عبد الرحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن لانس عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا لازواج كرام " وقوله تعالى " لاصحاب اليمين " أي خلقن لاصحاب اليمين أو ادخرن لاصحاب اليمين أو زوجن لاصحاب اليمين والاظهر أنه متعلق بقوله " إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لاصحاب اليمين " فتقديره أنشأناهن لاصحاب اليمين وهذا توجيه ابن جرير وروي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله قال صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديدا فجعلت أدعو بيد واحدة فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول يا أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة قلت ويحتمل أن يكون قوله " لاصحاب اليمين " متعلقا بما قبله وهو قوله " أترابا لاصحاب اليمن " أي في أسنانهم كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء " وقال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة. وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع ". وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة " ثم قال حسن غريب. وقال ابن وهب أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار " ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به. وقال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا القاسم بن هاشم حدثنا صفوان بن صالح حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني حدثنا الاوزاعي عن هارون بن ذئاب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك على حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون " وقال أبو بكر ابن أبي داود حدثنا محمد بن خالد وعباس بن الوليد قالا حدثنا عمر عن الاوزاعي عن هارون بن ذئاب عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم ". وقوله تعالى " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " أي جماعة من الاولين وجماعة من الآخرين. وقال ابن أبي حاتم حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا محمد بن بكار حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال أكربنا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
[ 315 ]
ثم غدونا عليه فقال " عرضت علي الانبياء وأتباعها بأممها فيمر علي النبي والنبي في العصابة والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد - وتلا قتادة هذه الآية " أليس منكم رجل رشيد " قال - حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة من بني إسرائيل قال: قلت ربي من هذا ؟ قال هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل قال: قلت رب فأين أمتي ؟ قال انظر عن يمينك في الضراب قال فإذا وجوه الرجال قال: قال أرضيت ؟ قلت قد رضيت رب قال انظر إلى الافق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال أرضيت قلت قد رضيت رب قال فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب " قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدريا قال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال " اللهم اجعله منهم " قال انشأ رجل آخر قال يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكاشة " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا وإلا فكونوا من أصحاب الضراب وإلا فكونوا من أصحاب الافق فإني قد رأيت ناسا كثيرا قد ناشبوا أحوالهم - ثم قال - إني لارجو أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا ثم قال " إني لارجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " قال فكبرنا قال " إني لارجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " قال فكبرنا قال ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " قال: فقلنا بيننا من هؤلاء السبعون ألفا فقلنا هم الذين ولدوا في الاسلام ولم يشركوا قال فبلغه ذلك فقال " بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا مهران حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ثلة من الاولين * وثلة من الآخرين " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هما جميعا من أمتي ". وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم (43) لا بارد ولا كريم (44) إنهم كانوا قبل ذلك مترفين (45) وكانوا يصرون على الحنث العظيم (46) وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون (47) أو آباؤنا الاولون (48) قل إن الاولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم (50) ثم إنكم أيها الضالون المكذبون (51) لاكلون من شجر من زقوم (52) فمالئون منها البطون (53) فشاربون عليه من الحميم (54) فشاربون شرب الهيم (55) هذا نزلهم يوم الدين (56) لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " أي شئ هم فيه أصحاب الشمال ؟ ثم فسر ذلك فقال " في سموم " وهو الهواء الحار " وحميم " وهو الماء الحار " وظل من يحموم " قال ابن عباس ظل الدخان وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم وهذه كقوله تعالى " انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذبين " ولهذا قال ههنا " وظل من يحموم " وهو الدخان الاسود (لا بارد ولا كريم) أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة " ولا كريم " أي ولا كريم المنظر وقال الضحاك كل شراب ليس بعذب فليس بكريم
[ 316 ]
وقال ابن جرير: العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى " إنهم كانوا قبل ذلك مترفين " أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على ما جاءتهم به الرسل (وكانوا يصرون) أي يقيمون ولا ينوون توبة " على الحنث العظيم " وهو الكفر بالله وجعل الاوثان والانداد أربابا من دون الله قال ابن عباس الحنث العظيم الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الشعبي هو اليمين الغموس (وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون * أو آباؤنا الاولون) يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه قال الله تعالى " قل إن الاولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " أي أخبرهم يا محمد أن الاولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد " ولهذا قال ههنا " لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " أي هو موقت بوقت محدود لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص " ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون " وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملاوا منها بطونهم " فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم " وهي الابل العطاش واحدها أهيم والانثى هيماء ويقال هائم وهائمة قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة الهيم الابل العطاش الظماء وعن عكرمة أنه قال الهيم الابل المراض تمص الماء مصا ولا تروى وقال السدي الهيم داء يأخذ الابل فلا تروى أبدا حتى تموت فكذلك أهل جهنم لا يرون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم غبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثا ثم قال تعالى " هذا نزلهم يوم الدين " أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم كما قال تعالى في حق المؤمنين " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " أي ضيافة وكرامة. نحن خلقناكم فلولا تصدقون (57) أفرأيتم ما تمنون (58) أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون (59) نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين (60) على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون (61) ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون (62) يقول تعالى مقررا للمعاد ورادا على المكذبين به من أهل الزيغ والالحاد من الذين قالوا " أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون " وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد فقال تعالى " نحن خلقناكم " أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الاعادة بطريق الاولى والاخرى ؟ ولهذا قال " فلولا تصدقون " أي فهلا تصدقون بالبعث ؟ ثم قال تعالى مستدلا عليهم بقوله " أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون " أي أنتم تقرونه في الارحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك ؟ ثم قال تعالى " نحن قدرنا بينكم الموت " أي صرفناه بينكم وقال الضحاك ساوى فيه بين أهل السماء والارض " وما نحن بمسبوقين " أي وما نحن بعاجزين " على أن نبدل أمثالكم " أي نغير خلقكم يوم القيامة " وننشئكم فيما لا تعلمون " أي من الصفات والاحوال. ثم قال تعالى " ولقد علمتم النشأة الاولى فلولا تذكرون " أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا فخلقكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة قادر على النشأة الاخرى وهي الاعادة
[ 317 ]
بطريق الاولى والاخرى كما قال تعالى " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وقال تعالى " أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقال تعالى " أيحسب الانسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والانثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى ". أفرأيتم ما تحرثون (63) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون (64) لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون (65) إنا لمغرمون (66) بل نحن محرومون (67) أفرأيتم الماء الذي تشربون (68) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون (69) لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون (70) أفرأيتم النار التي تورون (71) أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون (72) نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين (73) فسبح باسم ربك العظيم (74) يقول تعالى " أفرأيتم ما تحرثون " وهو شق الارض وإثارتها والبذر فيها " أأنتم تزرعونه " أي تنبتونه في الارض " أم نحن الزارعون " أي بل نحن الذي نقره قراره وننبته في الارض. قال ابن جرير وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت " قال أبو هريرة ألم تسمع إلى قوله تعالى " أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " ورواه البزار عن محمد بن عبد الرحيم عن مسلم الجرمي به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن عطاء عن أبي عبد الرحمن: لا تقولوا زرعنا ولكن قولوا حرثنا وروى عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ " أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون " وأمثالها يقول بل أنت يا رب. وقوله تعالى " لو نشاء لجعلناه حطاما " أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم ولو نشاء لجعلناه حطاما أي لايبسناه قبل استوائه واستحصاده " فظلتم تفكهون " ثم فسر ذلك بقوله " إنا لمغرمون * بل نحن محرومون " أي لو جعلناه حطاما لظللتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم فتقولون تارة إنا لمغرمون أي لملقون وقال مجاهد وعكرمة إنا لموقع بنا وقال قتادة معذبون وتاره تقولون بل نحن محرومون وقال مجاهد أيضا إنا لمغرمون ملقون للشر أي بل نحن محارفون قاله قتادة أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح وقال مجاهد بل نحن محرومون أي مجدودون يعني لاحظ لنا قال ابن عباس ومجاهد " فظلتم تفكهون " تعجبون وقال مجاهد أيضا فظلتم تفكهون تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم وهذا يرجع إلى الاول وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة فظلتم تفكهون تلاومون وقال الحسن وقتادة والسدي فظلتم تفكهون تندمون ومعناه إما على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب قال الكسائي تفكه من الاضداد تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت وتفكهت بمعنى حزنت. ثم قال تعالى " أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن " يعنى السحاب قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد " أم نحن المنزلون " يقول بل نحن المنزلون " لو نشاء جعلناه أجاجا " أي زعاقا مرا لا يصلح لشرب ولا زرع " فلولا تشكرون " أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبا زلالا " لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا
[ 318 ]
شرب الماء قال " الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا " ثم قال " أفرأيتم النار التي تورون " أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها " أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون " أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها وللعرب شجرتان " إحداهما " المرخ " والاخرى " العفار إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار. وقوله تعالى " نحن جعلناها تذكرة " قال مجاهد وقتادة أي تذكر النار الكبرى قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزأ من نار جهنم " قالوا يا رسول الله إن كانت لكافية ؟ قال " إنها قد ضربت بالبحر ضربتين أو مرتين حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها " وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الامام أحمد في مسنده فقال حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لاحد " وقال الامام مالك عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " فقالوا يا رسول الله إن كانت لكافية فقال " إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا " رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث أبي الزناد ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وفي لفظ " والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها " وقد قال أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن عمرو الخلال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا معن بن عيسى القزاز عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين ضعفا " قال الضياء المقدسي وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على شرط الصحيح وقوله تعالى " ومتاعا للمقوين " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي يعني بالمقوين المسافرين واختاره ابن جرير وقال ومنه قولهم أقوت الدار إذا رحل أهلها وقال غيره القي والقواء القفر الخالي البعيد من العمران وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المقوي ههنا الجائع وقال ليث ابن أبي سليم عن مجاهد ومتاعا للمقوين للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار وكذا روى سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله للمقوين يعني المستمتعين من الناس أجمعين وكذا ذكر عن عكرمة وهذا التفسير أعم من غيره فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والاضاءة وغير ذلك من المنافع ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الاحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها واشتوى واستأنس بها وانتفع بها سائر الانتفاعات فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم وقد يستدل له بما رواه الامام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعي الشامي عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المسلمون شركاء في ثلاثة النار والكلا والماء " وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلات لا يمنعن الماء والكلا والنار " وله من حديث ابن عباس مرفوعا مثل هذا وزيادة وثمنه ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب وهو ضعيف والله أعلم وقوله تعالى " فسبح باسم ربك العظيم " أي الذي بقدرته خلق هذه الاشياء المختلفة المتضادة الماء الزلال العذب البارد ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة وخلق النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجرا لهم في المعاد. * فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76) إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون (78)
[ 319 ]
لا يمسه إلا المطهرون (79) تنزيل من رب العالمين (80) أفبهذا الحديث أنتم مدهنون (81) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون (82) قال جويبر عن الضحاك إن الله تعالى لا يقسم بشئ من خلقه ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه وهذا القول ضعيف والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمته ثم قال بعض المفسرين لا ههنا زائدة وتقديره أقسم بمواقع النجوم رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير ويكون جوابه " إنه لقرآن كريم " وقال آخرون ليست لا زائدة لا معنى لها بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها: لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط وهكذا ههنا تقدير الكلام لا أقسم بمواقع النجوم ليس الامر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم. وقال ابن جرير وقال بعض أهل العربية معنى قوله " فلا أقسم " فليس الامر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل أقسم واختلفوا في معنى قوله " بمواقع النجوم " فقال حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا في السنين بعد ثم قرأ ابن عباس هذه الآية وقال الضحاك عن ابن عباس نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ونجمه جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم عشرين سنة فهو قوله " فلا أقسم بمواقع النجوم " نجوم القرآن وكذا قال عكرمة ومجاهد والسدي وأبو حزرة وقال مجاهد أيضا مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها. وكذا قال الحسن وقتادة وهو اختيار ابن جرير وعن قتادة مواقعها منازلها وعن الحسن أيضا أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة وقال الضحاك " فلا أقسم بمواقع النجوم " يعني بذلك الانواء التي كان أهل الجاهلية إذا أمطروا قالوا مطرنا بنوء كذا وكذا. وقوله " وإنه لقسم لو تعلمون عظيم " أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه " إنه لقرآن كريم " أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم " في كتاب مكنون " أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر. وقال ابن جرير حدثني موسى بن إسماعيل أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " لا يمسه إلا المطهرون " قال الكتاب الذي في السماء وقال العوفي عن ابن عباس " لا يمسه إلا المطهرون " يعني الملائكة وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد وأبو نهيك والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم. وقال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا ابن ثور حدثنا معمر عن قتادة " لا يمسه إلا المطهرون " قال لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس قال وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون وقال أبو العالية " لا يمسه إلا المطهرون " ليس أنتم أنتم أصحاب الذنوب وقال ابن زيد زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه " لا يمسه إلا المطهرون " كما قال تعالى " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون " وهذا القول قول جيد وهو لا يخرج عن الاقوال التي قبله. وقال الفراء لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به. وقال آخرون " لا يمسه إلا المطهرون " أي من الجنابة والحدث قالوا ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب قالوا والمراد بالقرآن ههنا المصحف كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو. واحتجوا في ذلك بما رواه الامام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري
[ 320 ]
قال قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ولا يمس القرآن إلا طاهر " وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره ومثل هذا ينبغي الاخذ به وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منهما نظر والله أعلم. وقوله تعالى " تنزيل من رب العالمين " أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع. وقوله تعالى " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون " قال العوفي عن ابن عباس أي مكذبون غير مصدقين. وكذا قال الضحاك وأبو حزرة والسدي وقال مجاهد " مدهنون " أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قال بعضهم معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون أي تكذبون بدل الشكر وقد روي عن علي وابن عباس أنهما قرأها " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " كما سيأتي وقال ابن جرير وقد ذكر عن الهيثم بن عدي أن من لغة أزدشنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر فلان. وقال الامام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن عبد الاعلى عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتجعلون رزقكم " يقول - شكركم " أنكم تكذبون " تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا " وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مخول بن إبراهيم النهدي وابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبيدالله بن موسى وعن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى ابن أبي بكير ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعا وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن حسين بن محمد وهو المروزي به وقال حسن غريب وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الاعلى ولم يرفعه. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وقرأ ابن عباس " وتجعلون شكركم أنكم تكذبون " وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وقال مالك في الموطأ عن صالح بن كيسان عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال " هل تدرون ماذا قال ربكم " قالوا الله ورسوله أعلم قال " قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي كلهم من حديث مالك به. وقال مسلم حدثنا محمد بن سلمة المرادي وعمرو بن سواد حدثنا عبد الله بن وهب عن عمر بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا " انفرد به مسلم من هذا الوجه. وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا " قال محمد هو ابن إبراهيم فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال ونحن قد سمعنا من أبي هريرة وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس فقال يا عباس يا عم رسول الله كم أبقى من نوء الثريا فقال العلماء يزعمون أنها تعترض في الافق بعد سقوطها سبعا قال فما مضت سابعة حتى مطروا وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده وقد تقدم شئ من هذه الاحاديث عند قوله تعالى " ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ". وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا سفيان عن إسماعيل بن أمية فيما أحسبه أو غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا ومطروا يقول مطرنا ببعض عثانين الاسد فقال " كذبت بل هو رزق الله ". ثم قال ابن جرير حدثني أبو صالح
[ 321 ]
الصراري حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الاودي حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين - ثم قال - " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " يقول قائل مطرنا بنجم كذا وكذا ". وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعا " لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدع " وقال مجاهد " وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون " قال قولهم في الانواء مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا يقول قولوا هو من عند الله وهو رزقه وهكذا قال الضحاك وغير واحد وقال قتادة أما الحسن فكان يقول بئس ما أخذ قوم وأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله " أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ". فلولا إذا بلغت الحلقوم (83) وأنتم حينئذ تنظرون (84) ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون (85) فلولا إن كنتم غير مدينين (86) ترجعونها إن كنتم صادقين (87) يقول تعالى " فلولا إذا بلغت " أي الروح " الحلقوم " أي الحلق وذلك حين الاحتضار كما قال تعالى " كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أنه الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى ربك يومئذ المساق ". ولهذا قال ههنا " وأنتم حينئذ تنظرون " أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت " ونحن أقرب إليه منكم " أي بملائكتنا " ولكن لا تبصرون " أي ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الاخرى " وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون * ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين " وقوله تعالى " فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها " معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الاول ومقرها من الجسد إن كنتم غير مدينين قال ابن عباس يعني محاسبين وروى عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي حزرة مثله. وقال سعيد بن جبير والحسن البصري " فلولا إن كنتم غير مدينين " غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس وعن مجاهد " غير مدينين " غير موقنين وقال ميمون بن مهران غير معذبين مقهورين. فأما إن كان من المقربين (88) فروح وريحان وجنت نعيم (89) وأما إن كان من أصحاب اليمين (90) فسلام لك من أصحاب اليمين (91) وأما إن كان من المكذبين الضالين (92) فنزل من حميم (93) وتصلية جحيم (94) إن هذا لهو حق اليقين (95) فسبح باسم ربك العظيم (96) هذه الاحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله ولهذا قال تعالى " فأما إن كان " أي المحتضر " من المقربين " وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات (فروح وريحان وجنة نعيم) أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول " أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " فروح " يقول راحة وريحان يقول
[ 322 ]
مستراحة وكذا قال مجاهد إن الروح الاستراحة وقال أبو حزرة الراحة من الدنيا وقال سعيد بن جبير والسدي الروح الفرح وعن مجاهد " فروح وريحان " جنة ورخاء وقال قتادة فروح فرحمة وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وريحان ورزق وكل هذه الاقوال متقاربة صحيحة فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن " وجنة نعيم " وقال أبو العالية لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتي بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه فيه وقال محمد بن كعب لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار ؟ وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " ولو كتبت ههنا لكان حسنا وأجلها حديث تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ائتني فلاريحه - قال - فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ومعهم ضبائر الريحان أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ومعهم الحرير الابيض فيه المسك " وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية قال الامام أحمد حدثنا يونس بن محمد حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة أنها سمعت رسول الله يقرأ " فروح وريحان " برفع الراء وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون وهو ابن موسى الاعور به. وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديثه وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرأوا " فروح وريحان " بفتح الراء. وقال الامام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يكون النسم طيرا يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها ". هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن. ومعنى يعلق يأكل ويشهد له بالصحة أيضا ما رواه الامام أحمد عن الامام محمد بن إدريس الشافعي عن الامام مالك بن أنس عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " وهذا إسناد عظيم ومتن قريم وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش " الحديث وقال الامام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا عطاء بن السائب قال كان أول يوم عرفت فيه عبد الرحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار وهو يتبع جنازة فسمعته يقول حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " قال فأكب القوم يبكون فقال ما يبكيكم ؟ فقالوا إنا نكره الموت قال ليس ذاك ولكنه إذا احتضر " فأما إن كان من المقربين * فروح وريحان وجنة نعيم " فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عز وجل والله عز وجل للقائه أحب " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقاءه أكره هكذا رواه الامام أحمد عن عائشة رضي الله عنهما شاهد لمعناه. وقوله تعالى " وأما إن كان من أصحاب اليمين " أي وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين " فسلام لك من أصحاب اليمين " أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لاحدهم سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة أنت من أصحاب اليمين وقال قتادة وابن زيد: سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين وهذا معنى حسن ويكون ذلك كقول الله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل
[ 323 ]
عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " وقال البخاري " فسلام لك " أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين وألغيت أن وبقي معناها كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إنى مسافر عن قليل وقد يكون كالدعاء له كقولك سقيا لك من الرجال إن رفعت السلام فهو من الدعاء وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم. وقوله تعالى " وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم " أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى " فنزل " أي فضيافة " من حميم " وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود " وتصلية جحيم " أي وتقرير له في النار التي تغمره عن جميع جهاته. ثم قال تعالى " إن هذا لهو حق اليقين " أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لاحد عنه " فسبح باسم ربك العظيم " قال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا موسى بن أيوب الغافقي حدثني إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " فسبح باسم ربك العظيم " قال " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت " سبح اسم ربك الاعلى " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجعلوها في سجودكم " وكذا رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به. وقال روح بن عبادة حدثنا حجاج الصواف عن أبي الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة " هكذا رواه الترمذي من حديث روح ورواه هو والنسائي أيضا من حديث حماد بن سلمة من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير وقال البخاري في آخر كتابه حدثنا أحمد بن أشكاب حدثنا محمد بن فضيل حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله آخر تفسير سورة الواقعة ولله الحمد والمنة. سورة الحديد قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن عرباض بن سارية أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال " إن فيهن آية أفضل من ألف آية " وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن بقية به وقال الترمذي حسن غريب. ورواه النسائي عن ابن أبي السرح عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره مرسلا ولم يذكر عبد الله بن أبي بلال ولا العرباض بن سارية والآية المشار إليها في الحديث هي والله أعلم قوله تعالى " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (1) له ملك السموات والارض يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير (2) هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم (3)
[ 324 ]
يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات والارض أي من الحيوانات والنباتات كما قال في الآية الاخرى " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقوله تعالى " وهو العزيز " أي الذي قد خضع له كل شئ " الحكيم " في خلقه وأمره وشرعه " له ملك السموات والارض يحيى ويميت " أي هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ويعطي من يشاء ما يشاء " وهو على كل شئ قدير " أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى (هو الاول والآخر والظاهر والباطن) وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية. وقال أبو داود حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة - يعني ابن عمار - حدثنا أبو زميل قال سألت ابن عباس فقلت ما شئ أجده في صدري ؟ قال ما هو ؟ قلت والله لا أتكلم به قال: فقال لي أشئ من شك ؟ قال وضحك قال ما نجا من ذلك أحد قال حتى أنزل الله تعالى " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك " الآية قال وقال لي إذا وجدت في نفسك شيئا فقل " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا. وقال البخاري قال يحيى: الظاهر على كل شئ علما والباطن على كل شئ علما. وقال شيخنا الحافظ المزي يحيى هذا هو ابن زياد الفراء له كتاب سماه معاني القرآن. وقد ورد في ذلك أحاديث فمن ذلك ما قال الامام أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم " اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شئ منزل التوراة والانجيل والفرقان فالق الحب والنوى لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته أنت الاول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن ليس دونك شئ اقض عنا الدين وأغننا من الفقر " ورواه مسلم في صحيحه حدثني زهير بن حرب حدثنا جرير عن سهل قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الايمن ثم يقول: اللهم رب السموات ورب الارض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شئ فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والانجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الاول فليس قبلك شئ وأنت الآخر فليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا فقال حدثنا عقبة حدثنا يونس حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس ما يدرى ما يقول فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال: " اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم إله كل شئ ومنزل التوراة والانجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شئ أنت آخذ بناصيته اللهم أنت الاول الذي ليس قبلك شئ وأنت الآخر الذي ليس بعدك شئ وأنت الظاهر فليس فوقك شئ وأنت الباطن فليس دونك شئ اقض عنا الدين وأغننا من الفقر ". السري بن إسماعيل هذا هو ابن عم الشعبي وهو ضعيف جدا والله أعلم. وقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية حدثنا عبد بن حميد وغير واحد المعنى واحد قالوا حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة قال حدث الحسن عن أبي هريرة قال بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما هذا " قالوا الله ورسوله أعلم قال " هذا العنان هذه روايا الارض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - ثم قال - هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف - ثم قال - هل تدرون كم بينكم وبينها " قالوا الله ورسوله أعلم قال " بينكم وبينها خمسمائة سنة - ثم قال - هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله
[ 325 ]
ورسوله أعلم قال " فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سموات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والارض - ثم قال - هل تدرون ما فوق ذلك ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ؟ قال " فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل بعد ما بين السماءين - ثم قال - هل تدرون ما الذي تحتكم ؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإنها الارض - ثم قال - هل تدرون ما الذي تحت ذلك " قالوا الله ورسوله أعلم قال " فإن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع أرضين - بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة - ثم قال - والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلا إلى الارض السفلى لهبط على الله - ثم قرأ - " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " ثم قال الترمذي هذا حديث غريب من هذا الوجه ويروى عن أيوب ويونس يعني ابن عبيد وعلي بن زيد قالوا لم يسمع الحسن من أبي هريرة وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه انتهى كلامه وقد روى الامام أحمد هذا الحديث عن شريح عن الحكم بن عبد الملك عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وعنده وبعد ما بين الارضين مسيرة سبعمائة عام وقال " لو دليتم أحدكم بحبل إلى الارض السفلى السابعة لهبط على الله " ثم قرأ - " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " ورواه ابن أبي حاتم والبزار من حديث أبي جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة فذكر الحديث ولم يذكر ابن أبي حاتم آخره وهو قوله: " لو دليتم بحبل " وإنما قال حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام ثم تلا " هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم " وقال البزار لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو هريرة ورواه ابن جرير عن بشر عن يزيد عن سعيد عن قتادة " هو الاول والآخر والظاهر والباطن " ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في أصحابه إذ مر عليهم سحاب فقال: هل تدرون ما هذا. وذكر الحديث مثل سياق الترمذي سواء إلا أنه مرسل من هذا الوجه ولعل هذا هو المحفوظ والله أعلم وقد روي من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه رواه البزار في مسنده والبيهقي في كتاب الاسماء والصفات ولكن في إسناده نظر وفي متنه غرابة ونكارة والله سبحانه وتعالى أعلم. وقال ابن جرير عند قوله تعالى " ومن الارض مثلهن " حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال التقى أربعة من الملائكة بين السماء والارض فقال بعضهم لبعض من أين جئت قال أحدهم أرسلني ربي عز وجل من السماء السابعة وتركته ثم قال الآخر أرسلني ربي عز وجل من الارض السابعة وتركته ثم قال الآخر أرسلني ربي من المشرق وتركته ثم قال الآخر أرسلني ربي من المغرب وتركته ثم وهذا حديث غريب جدا وقد يكون الحديث الاول موقوفا على قتادة كما روي ههنا من قوله والله أعلم. هو الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4) له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور (5) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6) يخبر تعالى عن خلقه السموات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن وقد تقدم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الاعراف بما أغنى عن إعادته ههنا. وقوله تعالى " يعلم ما يلج في الارض " أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر " وما يخرج منها " من نبات وزرع وثمار كما قال تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في
[ 326 ]
ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وقوله تعالى " وما ينزل من السماء " أي من الامطار والثلوج والبرد والاقدار والاحكام مع الملائكة الكرام وقد تقدم في سورة البقرة أنه ما ينزل من قطرة من السماء إلا ومعها ملك يقررها في المكان الذي يأمر الله به حيث يشاء الله تعالى. وقوله تعالى " وما يعرج فيها " أي من الملائكة والاعمال كما جاء في الصحيح " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل " وقوله تعالى " وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير " أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم حيث كنتم وأينما كنتم من بر أو بحر في ليل أو نهار في البيوت أو في القفار الجميع في علمه على السواء وتحت بصره وسمعه فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ويعلم سركم ونجواكم كما قال تعالى " ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور " وقال تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " فلا إله غيره ولا رب سواه. وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الاحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وروى الحافظ أبو بكر الاسماعيلي من حديث نصر بن خزيمة بن جنادة بن محفوظ بن علقمة حدثني أبي عن نصر بن علقمة عن أخيه عن عبد الرحمن بن عامر قال: قال عمر جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زودني حكمة أعيش بها فقال: " استح الله كما تستحي رجلا من صالحي عشيرتك لا يفارقك " هذا حديث غريب. وروى أبو نعيم من حديث عبد الله بن علوية العامري مرفوعا " ثلاث من فعلهن فقد طعم الايمان إن عبد الله وحده. وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام ولم يعط الهرمة ولا الرذية ولا الشرطة اللئيمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم وزكى نفسه " وقال رجل يا رسول الله ما تزكية المرء نفسه فقال " يعلم أن الله معه حيث كان ". وقال نعيم بن حماد رحمه الله حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي عن محمد بن مهاجر عن عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أفضل الايمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت " غريب. وكان الامام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما تخفي عليه يغيب وقوله تعالى (له ملك السموات والارض وإلى الله ترجع الامور) أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى " وإن لنا للآخرة والاولى " وهو المحمود على ذلك كما قال تعالى " وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الاولى والآخرة " وقال تعالى " الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الارض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير " فجميع ما في السماوات والارض ملك له وأهلهما عبيد أرقاء أذلاء بين يديه كما قال تعالى " إن كل ما في السموات والارض إلا آت الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " ولهذا قال " وإلى الله ترجع الامور " أي إليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة بل إن يكن عمل أحدهم حسنة واحدة يضاعفها إلى عشر أمثالها " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " كما قال تعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ". وقوله تعالى (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) أي هو المتصرف في الخلق يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء فتارة يطول الليل ويقصر النهار وتارة بالعكس وتارة يتركهما معتدلين وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعا ثم قيظا ثم خريفا وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه " وهو عليم بذات الصدور " أي يعلم السرائر وإن دقت وإن خفيت.
[ 327 ]
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7) وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8) هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم (9) وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11) أمر تبارك وتعالى بالايمان به وبرسوله على الوجه الاكمل والدوام والثبات على ذلك والاستمرار وحث على الانفاق مما جعلكم مستخلفين فيه أي مما هو معكم على سبيل العارية فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته فإن يفعلوا وإلا حاسبهم عليه وعاقبهم لتركهم الواجبات فيه وقوله تعالى " مما جعلكم مستخلفين فيه " فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفا عنك فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك أو يعصي الله فتكون قد سعيت في معاونته على الاثم والعدوان. قال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول " ألهاكم التكاثر " يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟ ورواه مسلم من حديث شعبة به وزاد " وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " وقوله تعالى " فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " ترغيب في الايمان والانفاق في الطاعة ثم قال تعالى (وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم) أي وأي شئ يمنعكم من الايمان والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به وقد روينا في الحديث من طرق في أوائل شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لاصحابه " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ - قالوا الملائكة قال - وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ قالوا فالانبياء قال - وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم - قالوا فنحن قال - وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " وقد ذكرنا طرفا من هذه في أول سورة البقرة عند قوله تعالى " الذين يؤمنون بالغيب " وقوله تعالى " وقد أخذ ميثاقكم " كما قال تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا " ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم وزعم ابن جرير أن المراد بذلك الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم وهو مذهب مجاهد فالله أعلم. وقوله تعالى " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات " أي حججا واضحات ودلائل باهرات - وبراهين قاطعات " ليخرجكم من الظلمات إلى النور " أي من ظلمات الجهل والكفر والآراء المتضادة إلى نور الهدى واليقين " وإن الله بكم لرؤوف رحيم " أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس وإزاحة العلل وإزالة الشبه ولما أمرهم أولا بالايمان والانفاق ثم حثهم على الايمان وبين أنه قد أزال عنهم موانعه حثهم أيضا على الانفاق. فقال " ومالكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والارض " أي أنفقوا ولا تخشوا فقرا وإقلالا فإن الذي انفقتم في سبيله هو مالك السموات والارض وبيده مقاليدهما وعنده خزائنهما وهو مالك العرش بما حوى وهو القائل " وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين " وقال " ما عندكم ينفذ وما عند الله باق " فمن
[ 328 ]
توكل على الله أنفق ولم يخش من ذي العرش إقلالا وعلم أن الله سيخلفه عليه وقوله تعالى " لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل " أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدا فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون وأما بعد الفتح فإنه ظهر الاسلام ظهورا عظيما ودخل الناس في دين الله أفواجا ولهذا قال تعالى " أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح ههنا صلح الحديبية وقد يستدل لهذا القول بما قال الامام أحمد حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا زهير حدثنا حميد الطويل عن أنس قال كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبد الرحمن تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم " ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد المواجه بهذا الخطاب كان بين صلح الحديبية وفتح مكة وكانت هذه المشاجرة بينهما في بني جذيمة الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد بعد الفتح فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فأمر خالد بقتلهم وقتل من أسر منهم فخالفه عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمر وغيرهما فاختصم خالد وعبد الرحمن بسبب ذلك والذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث ابن وهب أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم " فقلنا من هم يا رسول الله أقريش ؟ قال " لا ولكن أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا " فقلنا أهم خير منا يا رسول الله ؟ قال " لو كان لاحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إلا أن هذا فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعلمون خبير ". وهذا الحديث غريب بهذا السياق. والذي في الصحيحين من رواية جماعة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ذكر الخوارج " تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " الحديث ولكن روى ابن جرير هذا الحديث من وجه آخر فقال: حدثنى ابن البرقي حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم عن أبي سعيد التمار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا من هم يا رسول الله قريش ؟ قال " لا ولكن أهل اليمن لانهم أرق أفئدة وألين قلوبا " وأشار بيده إلى اليمن فقال " هم أهل اليمن ألا إن الايمان يمان والحكمة يمانية " فقلنا يا رسول الله هم خير منا ؟ قال: " والذي نفسي بيده لو كان لاحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه " ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال " ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير " فهذا السياق ليس فيه ذكر الحديبية فإن كان ذلك محفوظا كما تقدم فيحتمل أنه أنزل قبل الفتح إخبارا عما بعده كما في قوله تعالى في سورة المزمل وهي مكية من أوائل ما نزل " وآخرون يقاتلون في سبيل الله " الآية فهي بشارة بما يستقبل وهكذا هذه والله أعلم. وقوله تعالى " وكلا وعد الله الحسنى " يعني المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء كما قال تعالى " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " وهكذا الحديث الذي في الصحيح " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير " وإنما نبه بهذا لئلا يهدر جانب الآخر
[ 329 ]
بمدح الاول دون الآخر فيتوهم متوهم ذمه فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه مع تفضيل الاول عليه لهذا قال تعالى " والله بما تعملون خبير " أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ومن فعل ذلك بعد ذلك وما ذاك إلا لعلمه بقصد الاول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق وفي الحديث " سبق درهم مائه ألف " ولا شك عند أهل الايمان أن الصديق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الاوفر من هذه الآية فإنه سيد من عمل بها من سائر أمم الانبياء فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عز وجل ولم يكن لاحد عنده نعمة يجزيه بها. وقد قال أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي عند تفسير هذه الآية أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد أخبرنا أحمد بن إسحاق بن أيوب أخبرنا محمد بن يونس حدثنا العلاء بن عمرو الشيباني حدثنا أبو إسحاق الفزاري حدثنا سفيان بن سعيد عن آدم بن علي عن ابن عمر قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر الصديق وعليه عباءة قد خلها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلها في صدره بخلال ؟ فقال " أنفق ماله علي قبل الفتح " قال فإن الله يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط ؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه أسخط على ربي عز وجل ؟ إنى عن ربي راض " هذا الحديث ضعيف الاسناد من هذا الوجه والله أعلم. وقوله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال عمر بن الخطاب هو الانفاق في سبيل الله. وقيل هو النفقة على العيال والصحيح أنه أعم من ذلك فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية ولهذا قال تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له " كما قال في الآية الاخرى " أضعافا كثيرة " " وله أجر كريم " أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الاعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له " قال أبو الدحداح الانصاري يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض ؟ " قال نعم يا أبا الدحداح " قال أرني يدك يا رسول الله قال فناوله يده قال فإني قد أقرضت ربى حائطي وله حائط فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، وفي رواية أنها قالت له ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كم من عذق رداح في الجنة لابي الدحداح - وفي لفظ - رب نخلة مدلاة عروقها در وياقوت لابي الدحداح في الجنة ". يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12) يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13) ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14) فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير (15)
[ 330 ]
يقول تعالى مخبرا عن المؤمنين المتصدقين أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم في عرصات القيامة بحسب أعمالهم كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى " يسعى نورهم بين أيديهم " قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة ومنهم من نوره مثل الرجل القائم وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " من المؤمنين من يضئ نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء فدون ذلك حتى أن من المؤمنين من يضئ نوره موضع قدميه ". وقال سفيان الثوري عن حصين عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية قال إنكم مكتوبون عند الله بأسمائكم وسيماكم وحلاكم ونجواكم ومجالسكم فإذا كان يوم القيامة قيل يا فلان هذا نورك يا فلان لا نور لك وقرأ " يسعى نورهم بين أيديهم ". وقال الضحاك ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفئ نور المنافقين فقالوا " ربنا أتمم لنا نورنا " وقال الحسن " يسعى نورهم بين أيديهم " يعني على الصراط. وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب أخبرنا عمي عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن مسعود أنه سمع عبد الرحمن بن جبير يحدث أنه سمع أبا الدرداء وأبا ذر يخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي من بين الامم " فقال له رجل يا نبي الله كيف تعرف أمتك من بين الامم ما بين نوح إلى أمتك ؟ فقال " أعرفهم محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لاحد من الامم غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ". وقوله " وبأيمانهم " قال الضحاك أي وبأيمانهم كتبهم كما قال " فمن أوتي كتابه بيمينه " وقوله " بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الانهار " أي يقال لهم بشراكم اليوم جنات أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الانهار " خالدين فيها " أي ماكثين فيها أبدا " ذلك هو الفوز العظيم " وقوله " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الاهوال المزعجة والزلازل العظيمة والامور الفظيعة وإنه لا ينجو يومئذ إلا من آمن بالله ورسوله وعمل بما أمر الله به وترك ما عنه زجر. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك حدثنا صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال خرجنا على جنازة في باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي فلما صلى على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات. وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من الله فتبيض وجوه وتسود وجوه ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر فيغشى الناس ظلمة شديدة ثم يقسم النور فيعطي المؤمن نورا ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئا وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور " فلا يستضئ الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضئ الاعمى ببصر البصير ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا " انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال " يخادعون الله وهو خادعهم " فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم " بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " الآية يقول سليم بن عامر فما يزال المنافق مغترا حتى يقسم النور ويميز الله بين المنافق والمؤمن ثم قال حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا ابن حيوة حدثنا أرطأة بن المنذر حدثنا يوسف بن الحجاج عن أبي أمامة
[ 331 ]
قال يبعث الله ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله بالنور إلى المؤمنين بقدر أعمالهم فيتبعهم المنافقون فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم وقال العوفي والضحاك وغيرهما عن ابن عباس بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نورا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا من الله إلى الجنة فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين فقالوا حينئذ " انظرونا نقتبس من نوركم " فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون " ارجعوا وراءكم " من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا الحسن بن عرفة بن علوية العطار حدثنا إسماعيل بن عيسى العطار حدثنا إسحاق بن بشر ابن حذيفة حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون " انظرونا نقتبس من نوركم " وقال المؤمنون " ربنا أتمم لنا نورنا " فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا ". وقوله تعالى " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " قال الحسن وقتادة هو حائط بين الجنة والنار وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو الذي قال الله تعالى " وبينهما حجاب " وهكذا روي عن مجاهد رحمه الله وغير واحد وهو الصحيح " باطنه فيه الرحمة " أي الجنة وما فيها " وظاهره من قبله العذاب " أي النار قاله قتادة وابن زيد وغيرهما، قال ابن جرير وقد قيل إن ذلك السور سور بيت المقدس عند وادي جهنم. ثم قال حدثنا ابن البرقي حدثنا عمرو بن أبي سلمة عن سعيد بن عطية بن قيس عن أبي العوام مؤذن بيت المقدس قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول إن السور الذي ذكره الله في القرآن " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " هو السور الشرقي باطنه المسجد وما يليه وظاهره وادي جهنم. ثم روي عن عبادة بن الصامت وكعب الاحبار وعلي بن الحسين وزين العابدين نحو ذلك. وهذا محمول منهم على أنهم أرادوا بهذا تقريب المعنى ومثالا لذلك لا أن هذا هو الذي أريد من القرآن هذا الجدار المعين ونفس المسجد وما وراءه من الوادي المعروف بوادي جهنم فإن الجنة في السموات في أعلى عليين والنار في الدركات أسفل سافلين وقول كعب الاحبار إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد فهذا من إسرائيلياته وترهاته وإنما المراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب وبقي المنافقون من وراءه في الحيرة والظلمة والعذاب كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وجهل وشك وحيرة " ينادونهم ألم نكن معكم " أي ينادي المنافقون المؤمنين أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات ونصلي معكم الجماعات ونقف معكم بعرفات ونحضر معكم الغزوات ونؤدي معكم سائر الواجبات ؟ " قالوا بلى " أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين بلى قد كنتم معنا " ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الاماني " قال بعض السلف أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات وتربصتم أي أخرتم التوبة من وقت إلى وقت. وقال قتادة " تربصتم " بالحق وأهله " وارتبتم " أي بالبعث بعد الموت " وغرتكم الاماني " أي قلتم سيغفر لنا وقيل غرتكم الدنيا " حتى جاء أمر الله " أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت " وغركم بالله الغرور " أي الشيطان قال قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار. ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين إنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون الله إلا قليلا. قال مجاهد كان المنافقون مع المؤمنين أحياء يناكحونهم ويغشونهم ويعاشرونهم وكانوا معهم أمواتا ويعطون النور جميعا يوم القيامة ويطفأ النور من المنافقين إذا بلغوا السور ويماز بينهم حينئذ. وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول وهو أصدق القائلين " كل نفس بما
[ 332 ]
كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين " فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ ثم قال تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " كما قال ههنا (فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا) أي لو جاء أحدكم اليوم بمل ء الارض ذهبا ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه وقوله تعالى " مأواكم النار " أي هي مصيركم وإليها منقلبكم وقوله تعالى " هي مولاكم " أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير. * ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون (16) أعلموا أن الله يحيى الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون (17) يقول تعالى أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. قال عبد الله بن المبارك حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " الآية رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن حسين المروزي عن ابن المبارك به. ثم قال هو ومسلم حدثنا يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال يعني الليثي عن عون بن عبد الله عن أبيه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " الآية إلا أربع سنين كذا رواه مسلم في آخر الكتاب وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية عن هارون بن سعيد الايلي عن ابن وهب به. وقد رواه ابن ماجه من حديث موسى بن يعقوب الزمعي عن أبي حازم عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مثله فجعله من مسند ابن الزبير لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب عن أبي حازم عن عامر عن ابن الزبير عن ابن مسعود فذكره وقال سفيان الثوري عن المسعودي عن القاسم قال مل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى " نحن نقص عليك أحسن القصص " قال ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى " الله نزل أحسن الحديث " ثم ملوا ملة فقالوا حدثنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " وقال قتادة " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أول ما يرفع من الناس الخشوع " وقوله تعالى " ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الامد فقست قلوبهم " نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الامد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم وأقبلوا على الآراء المختلفة والاقوال المؤتفكة. وقلدوا الرجال في دين الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد " وكثير منهم فاسقون " أي في الاعمال فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة كما قال تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به " أي فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه وتركوا الاعمال التي أمروا بها وارتكبوا ما نهوا عنه ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شئ من الامور الاصلية والفرعية
[ 333 ]
وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا شهاب بن خراش حدثنا حجاج بن دينار عن منصور بن المعتمر عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري قال حدثنا عبد الله بن مسعود حديثا ما سمعت أعجب إلي منه إلا شيئا من كتاب الله أو شيئا قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الامد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم واستلذته وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا تعالوا ندعوا بني إسرائيل إلى كتابنا هذا فمن تابعنا عليه تركناه ومن كره أن يتابعنا قتلناه ففعلوا ذلك وكان فيهم رجل فقيه فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شئ لطيف ثم أدرجه فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض يا هؤلاء إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس وإن أبى فاقتلوه فدعوا فلانا ذلك الفقيه فقالوا أتؤمن بما في كتابنا هذا ؟ قال وما فيه ؟ اعرضوه علي فعرضوه عليه إلى آخره ثم قالوا أتؤمن بهذا ؟ قال نعم أمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه فلما مات فتشوه فوجدوه معلقا ذلك القرن فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله فقال بعضهم لبعض يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن. قال ابن مسعود وإنكم أوشك بكم إن بقيتم أو بقي من بقى منكم أن تروا أمورا تنكرونها لا تستطيعون لها غيرا فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره. وروى أبو جعفر الطبري حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم قال جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال يا أبا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر فقال عبد الله هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا إن بني إسرائيل لما طال عليهم الامد وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم وقالوا نعرض على بني إسرائيل على هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ومن كفر به قتلناه قال فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به ويومئ إلى القرن بين ثندوتيه ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن. وقوله تعالى (اعلموا أن الله يحيى الارض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) فيه إشارة إلى أن الله تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها ويفرج الكروب بعد شدتها فكما يحيي الارض الميته المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال والمضل لمن أراد بعد الكمال الذي هو لما يشاء فعال وهو الحكيم العدل في جميع الفعال اللطيف الخبير الكبير المتعال. إن المتصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (18) والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (19) يخبر تعالى عما يثيب به المصدقين والمصدقات بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة " وأقرضوا الله قرضا حسنا " أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكورا ولهذا قال " يضاعف لهم " أي يقابل لهم الحسنة بعشر أمثالها ويزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك " ولهم أجر كريم " أي ثواب جزيل حسن ومرجع صالح ومآب كريم. وقوله تعالى " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " هذا تمام لجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " والذين
[ 334 ]
امنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " هذه مفصولة " والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم " وقال أبو الضحى " أولئك هم الصديقون " ثم استأنف الكلام فقال " والشهداء عند ربهم " وهكذا قال مسروق والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم. وقال الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى " أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " قال هم ثلاثه أصناف: يعني المصدقين والصديقين والشهداء كما قال تعالى " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " ففرق بين الصديقين والشهداء فدل على أنهما صنفان ولا شك أن الصديق أعلى مقاما من الشهيد كما رواه الامام مالك بن أنس رحمه الله في كتابه الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الافق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " قال يا رسول الله تلك منازل الانبياء لا يبلغها غيرهم قال " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث مالك به. وقال آخرون بل المراد من قوله تعالى " أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " فأخبر عن المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون وشهداء حكاه ابن جرير عن مجاهد ثم قال ابن جرير حدثني صالح بن حرب أبو معمر حدثنا إسماعيل بن يحيى حدثنا ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " مؤمنوا أمتي شهداء " قال ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية " " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم " " هذا حديث غريب. وقال أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون في قوله تعالى " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم " قال يجيئون يوم القيامة معا كالاصبعين. وقوله تعالى " والشهداء عند ربهم " أي في جنات النعيم كما جاء في الصحيحين " إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال ماذا تريدون ؟ فقالوا نحب أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل فيك فنقتل كما قتلنا أول مرة فقال إني قد قضيت أنهم إليها لا يرجعون ". وقوله تعالى " لهم أجرهم ونورهم " أي لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الاعمال كما قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن أبى يزيد الخولاني قال: سمعت فضاله بن عبيد يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " الشهداء أربعة رجل مؤمن جيد الايمان لقي العدو فصدق الله فقتل فذاك الذي ينظر الناس إليه هكذا ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنسوة عمر والثاني مؤمن لقي العدو فكأنما يضرب ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية والثالث رجل مؤمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافا كثيرا لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الرابعة " وهكذا رواه علي بن المديني عن أبي داود الطيالسي عن ابن المبارك عن ابن لهيعة وقال هذا إسناد مصري صالح ورواه الترمذي من حديث ابن لهيعة وقال حسن غريب، وقوله تعالى " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم " لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الاشقياء وبين حالهم. اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحيوة الدنيا
[ 335 ]
إلا متاع الغرور (20) سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (21) يقول تعالى موهنا أمر الحياة الدنيا ومحقرا لها " إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد " أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا كما قال تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب " ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال " كمثل غيث " وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس كما قال تعالى " وهو الذي ينزل الغيث من بعدما قنطوا ". وقوله تعالى " أعجب الكفار نباته " أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث وكما يعجب الزراع ذلك كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار فإنهم أحرص شئ عليها وأميل الناس إليها " ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما " أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفرا بعدما كان خضرا نضرا ثم يكون بعد ذلك كله حطاما أي يصير يبسا متحطما هكذا الحياة الدنيا تكون أولا شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزا شوهاء والانسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضا طريا لين الاعطاف بهي المنظر ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه ثم يكبر فيصير شيخا كبيرا ضعيف القوى قليل الحركة يعجزه الشئ اليسير كما قال تعالى " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير " ولما كان هذا المثل دالا على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة وأن الآخرة كائنة لا محالة حذر من أمرها ورغب فيما فيها من الخير فقال " وفي الآخرة عذاب شديد * ومغفرة من الله ورضوان * وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا إما هذا وإما هذا: إما عذاب شديد وإما مغفرة من الله ورضوان. وقوله تعالى " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " أي هي متاع فإن غار لمن ركن إليه فإنه يغتر بها وتعجبه حتى يعتقد أن لا دار سواها ولا معاد وراءها وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلى الدار الآخرة. قال ابن جرير حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا المحاربي حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرأوا " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " " وهذا الحديث ثابت في الصحيح بدون هذه الزيادة والله أعلم. وقال الامام أحمد حدثنا ابن نمير ووكيع كلاهما عن الاعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك " انفرد بإخراجه البخاري في الرقاق من حديث الثوري عن الاعمش به ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الانسان وإذا كان الامر كذلك فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات من فعل الطاعات وترك المحرمات التي تكفر عنه الذنوب والزلات وتحصل له الثواب والدرجات فقال تعالى " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والارض " والمراد جنس السماء والارض كما قال تعالى في الآية الاخرى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والارض أعدت للمتقين " وقال ههنا " أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله ومنه عليهم وإحسانه إليهم كما قدمنا في الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا يارسول الله ذهب أهل الدثور بالاجور بالدرجات العلى والنعيم المقيم قال " وما ذاك ؟ " قالوا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق ويعتقون ولا نعتق قال " أفلا أدلكم على شئ إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثة وثلاثين " قال فرجعوا فقالوا
[ 336 ]
سمع إخواننا أهل الاموال ما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ". ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور (23) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (24) يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم " أي في الآفاق وفي نفوسكم " إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة وقال بعضهم " من قبل أن نبرأها " عائد على النفوس وقيل عائد على المصيبة والاحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها كما قال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال كنت جالسا مع الحسن فقال رجل سله عن قوله تعالى " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " فسألته عنها فقال سبحان الله ومن يشك في هذا ؟ كل مصيبة بين السماء والارض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة وقال قتادة ما أصاب من مصيبة في الارض قال هي السنون يعني الجدب " ولا في أنفسكم " يقول الاوجاع والامراض قال وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر. وهذه الآية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - وقال الامام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حيوة وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو هانئ الخولاني أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين ألف سنة ". ورواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب وحيوة بن شريح ونافع بن زيد وثلاثتهم عن أبي هانئ به وزاد ابن وهب " وكان عرشه على الماء " ورواه الترمذي وقال حسن صحيح وقوله تعالى " إن ذلك على الله يسير " أي أن علمه تعالى الاشياء قبل كونها وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله عز وجل لانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وقوله تعالى " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للاشياء قبل كونها وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم فلا تأسوا على ما فاتكم لانه لو قدر شئ لكان " ولا تفرحوا بما آتاكم " أي جاءكم وتفسير آتاكم أي أعطاكم وكلاهما متلازم أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم فلا تتخذوا نعم الله أشرا وبطرا تفخرون بها على الناس ولهذا قال تعالى " والله لا يحب كل مختال فخور " أي مختال في نفسه متكبر فخور أي على غيره وقال عكرمة ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا. ثم قال تعالى " الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل " أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه " ومن يتول " أي عن أمر الله وطاعته " فإن الله هو الغني الحميد " كما قال موسى عليه السلام " إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغني حميد ". لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس
[ 337 ]
شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز (25) يقول تعالى " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " أي بالمعجزات والحجج الباهرات والدلائل القاطعات " وأنزلنا معهم الكتاب " وهو النقل الصدق " والميزان " وهو العدل قاله مجاهد وقتادة وغيرهما وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " وقال تعالى " فطرة الله التى فطر الناس عليها " وقال تعالى " والسماء رفعها ووضع الميزان " ولهذا قال في هذه الآية " ليقوم الناس بالقسط " أي بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا به فإن الذي جاؤوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق كما قال " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي صدقا في الاخبار وعدلا في الاوامر والنواهي ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ". وقوله تعالى " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " أي وجعلنا الحديد رادعا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية وكلها جدال مع المشركين وبيان وإيضاح للتوحيد وبينات ودلالات فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله الهجرة وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده. وقد روى الامام أحمد وأبو داود من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي المنيب الجرشي الشامي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم " ولهذا قال تعالى " فيه بأس شديد " يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها " ومنافع للناس " أي في معايشهم كالسكة والفأس والقدوم والمنشار والازميل والمجرفة والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز ومالا قوام للناس بدونه وغير ذلك. قال علباء بن أحمد عن عكرمة أن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم السندان والكلبتان والميقعة يعني المطرقة رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقوله تعالى " وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب " أي من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله " إن الله قوي عزيز " أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض. ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون (26) ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الانجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون (27) يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحا عليه السلام لم يرسل بعده رسولا ولا نبيا إلا من ذريته وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته كما قال تعالى في الآية الاخرى " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا قال تعالى " ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا
[ 338 ]
بعيسى بن مريم وآتيناه الانجيل " وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه " وهم الحواريون " رأفة " أي رقة وهي الخشية " ورحمة " بالخلق وقوله " ورهبانية ابتدعوها " أي ابتدعتها أمة النصارى " ما كتبناها عليهم " أي ما شرعناها وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم وقوله تعالى " إلا ابتغاء رضوان الله " فيه قولان (أحدهما) أنهم قصدوا بذلك رضوان الله قال سعيد بن جبير وقتادة " والآخر " ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله وقوله تعالى " فما رعوها حق رعايتها " أي فما قاموا بما التزموه حق القيام وهذا ذم لهم من وجهين " أحدهما الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله " والثاني " في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنها قربة تقربهم إلى الله عز وجل. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السري بن عبد ربه حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا ابن مسعود " قلت لبيك يا رسول الله قال " هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة ؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى " ورهبانبة ابتدعوها ما كتبناها عليهم " وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخر فقال حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا داود بن المحبر حدثنا الصعق ابن حزن حدثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم " وذكر نحو ما تقدم وفيه " فآتينا الذين أمنوا منهم أجرهم " هم الذين آمنوا بي وصدقوني " وكثير منهم فاسقون " وهم الذين كذبوني وخالفوني " ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث ولكن قد أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن به مثل ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه وقال ابن جرير وأبو عبد الرحمن النسائي واللفظ له أخبرنا الحسين بن حريث حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان بن سعيد عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلت التوراة والانجيل فكان منهم مؤمنون يقرءون التوراة والانجيل فقيل لملوكهم ما نجد شيئا أشد من شتم يشتموناه هؤلاء إنهم يقرءون " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " هذه الآيات مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرأوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والانجيل إلا ما بدلوا منها فقالوا ما تريدون إلى ذلك دعونا فقالت طائفة منهم ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم وقالت طائفة دعونا نسيح في الارض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا وقالت طائفة ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " والآخرون قالوا نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط منهم رجل من صومعته وجاء سائح من سياحته وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته " أجرين بإيمانهم بعيسى بن مريم ونصب أنفسهم والتوارة والانجيل وبإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقهم قال " ويجعل
[ 339 ]
لكم نورا تمشون به " القرآن واتباعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال " لئلا يعلم أهل الكتاب " الذين يتشبهون بكم " أن لا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " هذا السياق فيه غرابة وسيأتي تفسير هاتين الآيتين الاخيرتين على غير هذا والله أعلم. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أحمد بن عيسى حدثنا عبد الله بن وهب حدثني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير وهو يصلي صلاة خفيفة وقعة كأنها صلاة مسافر أو قريبا منها فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شئ تنفلته ؟ قال إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " ثم غدوا من الغد فقالوا نركب فننظر ونعتبر قال نعم فركبوا جميعا فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية على عروشها فقالوا أتعرف هذه الديار ؟ قال ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل الديار أهلكهم البغي والحسد إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه وقال الامام أحمد حدثنا معمر حدثنا عبد الله أخبرنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الامة الجهاد في سبيل الله عز وجل " ورواه الحافظ أبو يعلى عن عبد الله بن محمد بن أسماء عن عبد الله بن المبارك به ولفظه " لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الامة الجهاد في سبيل الله ". وقال الامام أحمد حدثنا حسين - هو ابن محمد - حدثنا عياش يعني إسماعيل عن الحجاج بن هارون الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاءه فقال أوصني فقال سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شئ وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الاسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الارض. تفرد به أحمد والله تعالى أعلم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم (28) لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (29) قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الاشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران " أخرجه في الصحيحين ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما وهو اختيار ابن جرير وقال سعيد بن جبير لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الامة " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين " أي ضعفين " من رحمته " وزادهم " ويجعل لكم نورا تمشون به " يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم ففضلهم بالنور والمغفرة رواه ابن جرير عنه وهذه الآية كقوله تعالى " يا أيها الذين أمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم
[ 340 ]
والله ذو الفضل العظيم " وقال سعيد بن عبد العزيز سأل عمر بن الخطاب حبرا من أحبار يهود أفضل ما ضعف لكم حسنة قال كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة قال فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين ثم ذكر سعيد قول الله عز وجل " يؤتكم كفلين من رحمته " قال سعيد والكفلان في الجمعة مثل ذلك رواه ابن جرير ومما يؤيد هذا القول ما رواه الامام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ ألا فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط ؟ قيراط ؟ ألا فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ ألا فأنتم الذين عملتم فغضبت النصارى واليهود وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا لا. قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء " قال أحمد وحدثناه مؤمل عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحو حديث نافع عنه انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن سليمان بن حرب عن حماد عن نافع به وعن قتيبة عن الليث عن نافع بمثله. وقال البخاري حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن يزيد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الاجر فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الاجر الذي جعلت لنا فيه فقال أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار يسيرا فأبوا. فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجر الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور " انفرد به البخاري ولهذا قال الله تعالى " لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من فضل الله " أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله " وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " قال ابن جرير " لئلا يعلم أهل الكتاب " أي ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها لكي يعلم وكذا عطاء بن عبد الله وسعيد بن جبير قال ابن جرير: لان العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله وآخره جحد غير مصرح فالسابق كقوله " ما منعك ألا تسجد " " وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " بالله " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون ". آخر تفسير سورة الحديد ولله الحمد والمنة. سورة المجادلة بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1) قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الاعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الاصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عز وجل " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " إلى آخر الآية وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا فقال وقال الاعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة فذكره وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن
[ 341 ]
جرير من غير وجه عن الاعمش به. وفي رواية لابن أبي حاتم عن الاعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها قالت: تبارك الذى أوعى سمعه كل شئ إنى لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله وهي تقول يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك قالت فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " قالت وزوجها أوس بن الصامت وقال ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة عن أوس بن الصامت وكان أوس امرءا به لمم فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته وإذا ذهب لم يقل شيئا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه في ذلك وتشتكي إلى الله فأنزل الله " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله " الآية وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا كان به لمم فذكر مثله وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة حدثنا جرير يعنى ابن حازم قال سمعت أبا يزيد يحدث قال لقيت امرأة عمر يقال لها خولة بنت ثعلبة وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت فقال له رجل يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز قال ويحك وتدري من هذه ؟ قال لا قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات هذه خولة بنت ثعلبة والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلى أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها. هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب وقد روي من غير هذا الوجه وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا يعلى حدثنا زكريا عن عامر قال: المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت وأمها معاذة التي أنزل الله فيها " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " صوابه خولة امرأة أوس بن الصامت. الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور (2) والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير (3) فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم (4) قال الامام أحمد حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا حدثنا أبي حدثنا محمد بن إسحاق حدثني معمر بن عبد الله ابن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة بنت ثعلبة قالت في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه قالت فدخل علي يوما فراجعته بشئ فغضب فقال أنت علي كظهر أمي. قالت ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدنى عن نفسي قالت قلت كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه قالت فواثبني فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني قالت ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه قالت فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه " قالت فوالله ما برحت حتى نزل في قرآن فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سرى عنه فقال لي " يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا - ثم قرأ علي - " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الله
[ 342 ]
والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير - إلى قوله تعالى - وللكافرين عذاب أليم " قالت: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " مريه فليعتق رقبة " قالت: فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق قال " فليصم شهرين متتابعين " قالت: فقلت والله إنه لشيخ كبير ماله من صيام قال " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر " قالت: فقلت يا رسول الله ما ذاك عنده قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإنا سنعينه بفرق من تمر " قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر قال " قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا " قالت: ففعلت. ورواه أبو داود في كتاب الطلاق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن يسار به وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال لها خولة بنت مالك بن ثعلبة وقد تصغر فيقال خويلة ولا منافاة بين هذه الاقوال فالامر فيها قريب والله أعلم. هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كان سبب النزول ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة من العتق أو الصيام أو الاطعام كما قال الامام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق بن يسار عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر الانصاري قال كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان تظهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لى منها شئ فوثبت عليها فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت انطلقوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري فقالوا لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدالك قال فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاخبرته خبري فقال لي " أنت بذاك " فقلت أنا بذاك فقال " أنت بذاك " فقلت أنا بذاك قال " أنت بذاك " قلت نعم ها أناذا فأمض في حكم الله عز وجل فإني صابر له قال " اعتق رقبة " قال فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها قال " فصم شهرين متتابعين " قلت يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال " فتصدق " فقلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشا ما لنا عشاء قال " اذهب إلى صاحب صدقة بني رزيق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك " قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي فدفعوها إلي وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه واختصره الترمذي وحسنه وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل قال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أوسا ظاهر مني وإنا إن افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في ذلك شئ فأنزل الله تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله - إلى قوله تعالى - وللكافرين عذاب أليم " فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتقدر على رقبة تعتقها " قال لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها قال فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق عتقه ثم راجع أهله رواه ابن جرير ولهذا ذهب ابن عباس والاكثرون إلى ما قلناه والله أعلم فقوله تعالى " الذين يظاهرون منكم من نسائهم " أصل الظهار مشتق من الظهر وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر الاعضاء قياسا على الظهر وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الامة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم هكذا قال غير واحد من السلف قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبيدالله بن موسى عن أبي حمزة عن عكرمة عن ابن عباس قال كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الاسلام أوس وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة
[ 343 ]
فظاهر منها فأسقط في يديه وقال ما أراك إلا قد حرمت علي وقالت له مثل ذلك قال فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا خويلة أبشري " قالت خيرا قال فقرأ عليها " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكى إلى الله والله يسمع تحاوركما - إلى قوله تعالى - والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " قالت وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري قال " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " قالت والله لولا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره قال " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " قالت من أين ما هي إلا أكلة إلي مثلها قال فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعا والوسق ستون صاعا فقال: ليطعم ستين مسكينا وليراجعك. وهذا إسناد جيد قوى وسياق غريب وقد روي عن أبي العالية نحو هذا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي حدثنا على بن العاصم عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال: كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الانصار وكان ضرير البصر فقيرا سئ الخلق وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته قال أنت علي كظهر أمي وكان لها منه عيل أو عيلان فنازعته يوما في شئ فقال أنت علي كظهر أمي فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة وعائشة تغسل شق رأسه فقدمت عليه ومعها عيلها فقالت يا رسول الله إن زوجي ضرير البصر فقير لا شئ له سئ الخلق وإني نازعته في شئ فغضب فقال أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق ولي منه عيل أو عيلان فقال " ما أعلمك إلا قد حرمت عليه " فقالت أشكو إلى الله ما نزل بى وأبا صبيتي قالت ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر فدارت معها فقالت يا رسول الله زوجي ضرير البصر فقير سئ الخلق وإن لي منه عيلا أو عيلين وإنى نازعته في شئ فغضب وقال أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق قالت فرفع إلي رأسه وقال " ما أعلمك إلا قد حرمت عليه " فقالت أشكو إلى الله ما نزل بى وأبا صبيتي ورأت عائشة وجه النبي صلى الله عليه وسلم تغير فقالت لها وراءك وراءك فتنحت فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله فلما انقطع الوحي قال يا عائشة أين المرأة فدعتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذهبي فأتيني بزوجك " فانطلقت تسعى فجاءت به فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقير سئ الخلق فقال النبي صلى الله عليه وسلم أستعيذ بالله السميع العليم " بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها - إلى قوله - والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " " قال النبي صلى الله عليه وسلم " أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها ؟ " قال لا قال " أفتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ " قال والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين والثلات يكاد أن يعشو بصري " قال أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ " قال لا إلا أن تعينني قال فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أطعم ستين مسكينا " قال وحول الله الطلاق فجعله ظهارا ورواه ابن جرير عن ابن المثنى عن عبد الاعلى عن داود سمعت أبا العالية فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق وقال سعيد بن جبير كان الايلاء والظهار من طلاق الجاهلية فوقت الله الايلاء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة رواه ابن أبي حاتم بنحوه وقد استدل الامام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله منكم فالخطاب للمؤمنين وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له واستدل الجمهور عليه بقوله " من نسائهم " على أن الامة لاظهار منها ولا تدخل في هذا الخطاب وقوله تعالى " ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك لا تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته ولهذا قال تعالى " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " أي كلاما فاحشا باطلا " وإن الله لعفو غفور " أي عما كان منكم في حال الجاهلية وهكذا أيضا عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم كما رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لامرأته يا أختي فقال " أختك هي ؟ " فهذا إنكار ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لانه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه لانه لا فرق على الصحيح بين الام وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.
[ 344 ]
وقوله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " اختلف السلف والائمة في المراد بقوله تعالى " ثم يعودون لما قالوا " فقال بعض الناس العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود حكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير بن الاشج والفراء وفرقة من أهل الكلام وقال الشافعي هو أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق وقال أحمد بن حنبل هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع أو الامساك عنه وعنه أنه الجماع وقال أبو حنيفة هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد. وقال ابن لهيعة حدثني عطاء عن سعيد بن جبير " ثم يعودون لما قالوا " يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم وقال الحسن البصري يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " من قبل أن يتماسا " والمس النكاح وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان وقال الزهري ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر. وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال " ما حملك على ذلك يرحمك الله " قال رأيت خلخالها في ضوء القمر قال " فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عز وجل " وقال الترمذي حسن غريب صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا قال النسائي وهو أولى بالصواب. وقوله تعالى " فتحرير رقبة " أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالايمان وفي كفارة القتل مقيدة بالايمان فحمل الشافعي رحمه الله ما أطلق ههنا علي ما قيد هناك لاتحاد الموجب وهو عتق الرقبة واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعتقها فإنها مؤمنة " وقد رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن مسلم بن يسار عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألم يقل الله تعالى " من قبل أن يتماسا " قال أعجبتني قال " أمسك حتى تكفر " ثم قال البزار لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة وقوله تعالى " ذلك توعظون به " أي تزجرون به " والله بما تعملون خبير " أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم وقوله تعالى (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) من قبل أن يتماسا (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) قد تقدمت الاحاديث الآمرة بهذا على الترتيب كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " أي شرعنا هذا لهذا. وقوله تعالى " وتلك حدود الله " أي محارمه فلا تنتهكوها وقوله تعالى " وللكافرين عذاب أليم " أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء كلا ليس الامر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة. إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين (5) يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد (6) ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى
[ 345 ]
من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم (7) يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه " كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم " وقد أنزلنا آيات بينات " أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر " وللكافرين عذاب مهين " أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له والخضوع لديه. ثم قال الله تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا " وذلك يوم القيامة يجمع الله الاولين والآخرين في صعيد واحد " فينبئهم بما عملوا " أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر " أحصاه الله ونسوه " أي ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا " والله على كل شئ شهيد " أي لا يغيب عنه شئ ولا يخفى ولا ينسى شيئا، ثم قال تعالى مخبرا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال تعالى " ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة " أي من سر ثلاثة " إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله وسمعه له كما قال تعالى " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب " وقال تعالى " أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون " ولهذا حكى غير واحد الاجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شئ ثم قال تعالى " ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم " وقال الامام أحمد: افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم. ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10) قال ابن أبي نجيح عن مجاهد " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " قال اليهود وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل الله تعالى " الم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني سفيان بن حمزة عن كثير عن زيد عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات ليلة كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية فتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما هذه النجوى ؟ ألم تنهوا عن
[ 346 ]
النجوى " قلنا تبنا إلى الله يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح فرقا منه فقال " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه ؟ " قلنا بلى يا رسول الله ؟ قال " الشرك الخفى أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل " هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء. وقوله تعالى " ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " أي يتحدثون فيما بينهم بالاثم وهو ما يختص بهم " والعدوان " وهو ما يتعلق بغيرهم ومنه معصية الرسول ومخالفته يصرون عليها ويتواصون بها وقوله تعالى " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا ابن نمير عن الاعمش عن مسروق عن عائشة قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة: وعليكم السام قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش " قلت ألا تسمعهم يقولون السام عليك " ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو ما سمعت أقول وعليكم " فأنزل الله تعالى " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله " وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم: عليكم السام والذام واللعنة وأن رسول الله قال " إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا ". وقال ابن جرير حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " هل تدرون ما قال ؟ " قالوا سلم يا رسول الله قال " بل قال سام عليكم " أي تسامون دينكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ردوه " فردوه عليه فقال نبي الله " أقلت سام عليكم " قال نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك " أي عليك ما قلت وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه وقوله تعالى " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول " أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام وإنما هو شتم في الباطن ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لان الله يعلم ما نسره فلو كان هذا نبيا حقا لاوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى " حسبهم جهنم " أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة " يصلونها فبئس المصير " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سام عليكم ثم يقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول ؟ فنزلت هذه الآية " وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " إسناد حسن ولم يخرجوه وقال العوفي عن ابن عباس " وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله " قال كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه سام عليك قال الله تعالى " حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " ثم قال الله تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين " يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مألاهم على ضلالهم من المنافقين " وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون " أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم وسيجزيكم بها. قال الامام أحمد حدثنا بهز وعفان قالا أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فيقول الاشهاد " هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة. ثم قال تعالى (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل
[ 347 ]
المؤمنون) أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا " من الشيطان ليحزن الذين آمنوا " يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه " ليحزن الذين آمنوا " أي ليسوءهم وليس ذلك بضارهم شيئا إلا بإذن الله ومن أحس من ذلك شيئا فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شئ بإذن الله. وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن كما قال الامام أحمد حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا حدثنا الاعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه " وأخرجاه من حديث الاعمش. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه " انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب به. يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير (11) يقول تعالى مؤدبا عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس " وقرئ " في المجلس " " فافسحوا يفسح الله لكم " وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح " من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة " وفي الحديث الآخر " ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " ولهذا أشباه كثيرة ولهذا قال تعالى " فافسحوا يفسح الله لكم " قال قتادة نزلت هذه الآية في مجالس الذكر وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض. وقال مقاتل بن حيان أنزلت هذه الآية يوم الجمعة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ في الصفة وفى المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والانصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ثم سلموا إلى القوم بعد ذلك فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والانصار من غير أهل بدر " قم يا فلان وأنت يا فلان " فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والانصار من أهل بدر فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس ؟ والله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " رحم الله رجلا يفسح لاخيه " فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا فيفسح القوم لاخوانهم ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم وقد قال الامام أحمد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا " وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع به. وقال الشافعي أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى عن جابر عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا " على شرط السنن ولم يخرجوه. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا فليح عن أيوب عن عبد الرحمن بن صعصعة عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه
[ 348 ]
ولكن افسحوا يفسح الله لكم " ورواه أيضا عن شريح بن يونس ويونس بن محمد المؤدب عن فليح به ولفظه " لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ولكن افسحوا يفسح الله لكم " تفرد به أحمد. وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال: فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث " قوموا إلى سيدكم " ومنهم من منع من ذلك محتجا بحديث " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " ومنهم من فصل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل ولايته كما دل عليه قصة سعد بن معاذ فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين " قوموا إلى سيدكم " وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك. وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه غالبا عثمان وعلي لانهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك كما رواه مسلم من حديث الاعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " ليليني منكم أولوا الاحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر إما لتقصير أولئك في حق البدريين أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم كما أخذ أولئك قبلهم أو تعليما بتقديم الافاضل إلى الامام وقال الامام أحمد حدثنا وكيع عن الاعمش عن عمارة بن عمير الليثي عن أبي معمر عن أبي مسعود قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول " استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الاحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافا. وكذا رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طرق عن الاعمش به وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء منهم والعلماء فبطريق الاولى أن يكون ذلك في غير الصلاة. وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله " ولهذا كان أبى بن كعب سيد القراء إذا انتهى إلى الصف الاول انتزع منه رجلا يكون من أفناد الناس ويدخل هو في الصف المقدم ويحتج بهذا الحديث " ليليني منكم أولوا الاحلام والنهى " وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه ولنقتصر على هذا المقدار من الانموذج المتعلق بهذه الآية وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع. وفي الحديث الصحيح بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها وأما الآخر فجلس وراء الناس وأدبر الثالث ذاهبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ؟ أما الاول فآوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه " وقال الامام أحمد حدثنا عتاب بن زياد أخبرنا عبد الله أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما " ورواه أبو داود والترمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به وحسنه الترمذي وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى " إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم " يعني في مجالس الحرب قالوا ومعنى قوله " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " أي انهضوا للقتال وقال قتادة " وإذا قيل انشزوا
[ 349 ]
فانشزوا " أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده فربما يشق ذلك عليه عليه السلام وقد تكون له الحاجة فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا كقوله تعالى " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا " وقوله تعالى " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير " أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لاخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج أن يكون ذلك نقصا في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله والله تعالى لا يضيع ذلك له بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لامر الله رفع الله قدره ونشر ذكره ولهذا قال تعالى " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير " أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه قال الامام أحمد حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان وكان عمر استعمله على مكة فقال له عمر من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال استخلفت عليهم ابن أبزي رجل من موالينا فقال عمر استخلفت عليهم مولى ؟ فقال يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قاص فقال عمر رضي الله عنه أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال " إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين " وهكذا رواه مسلم من غير وجه عن الزهري به وروي من غير وجه عن عمر بنحوه وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الاحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (12) أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون (13) يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يساره فيما بينه وبينه أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لان يصلح لهذا المقام ولهذا قال تعالى " ذلك خير لكم وأطهر " ثم قال تعالى " فإن لم تجدوا " أي إلا من عجز عن ذلك لفقره " فإن الله غفور رحيم " فما أمر إلا من قدر عليها. ثم قال تعالى " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول " فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون " فنسخ وجوب ذلك عنهم وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارا صدقة تصدق به ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال ثم أنزلت الرخصة وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه: آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدى ثم تلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " الآية. وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الانماري عن علي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ما ترى دينار ؟ " قال لا يطيقون قال " نصف دينار " قال لا يطيقون قال " ما ترى ؟ " قال شعيرة فقال له
[ 350 ]
النبي صلى الله عليه وسلم " إنك لزهيد " قال فنزلت " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " قال علي: في خفف الله عن هذه الامة. ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن يحيى بن آدم عن عبيدالله الاشجعي عن سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن على بن علقمة الانماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما نزلت " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " إلى آخرها قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " ما ترى ؟ دينار ؟ " قال لا يطيقونه وذكره بتمامه مثله. ثم قال هذا حديث حسن غريب إنما نعرفة من هذا الوجه ثم قال ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب ورواه أبو يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة - إلى - فإن الله غفور رحيم " كان المسلمون يقدمون بين يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن نبيه عليه السلام فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين وكفوا عن المسألة فأنزل الله بعد هذا " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذا لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " فوسع الله عليهم ولم يضيق. وقال عكرمة والحسن البصري في قوله تعالى " فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " نسختها الآية التي بعدها " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " إلى آخرها. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ومقاتل بن حيان سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ففطمهم الله بهذه الآية فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقه فاشتد ذلك عليهم فأنزل الله الرخصة بعد ذلك " فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ". وقال معمر عن قتادة " إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " إنها منسوخة ما كانت إلا ساعة من نهار وهكذا روى عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن مجاهد قال علي: ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال وما كانت إلا ساعة. * ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون (14) أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون (15) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين (16) لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (17) يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ إلا إنهم هم الكاذبون (18) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون (19) يقول الله تعالى منكرا على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن وهم في نفس الامر لا معهم ولا مع المؤمنين كما قال تعالى " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا " وقال ههنا " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم " يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن ثم قال تعالى " ما هم منكم ولا منهم " أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود ثم قال تعالى " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " يعني المنافقين يحلفون على
[ 351 ]
الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا جاءوا الرسول حلفوا له بالله أنهم مؤمنون وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به لانهم لا يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان في نفس الامر مطابقا ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك. ثم قال تعالى (أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون) أي أرصد الله لهم على هذا الصنيع العذاب الاليم على أعمالهم السيئة وهى موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين وغشهم. ولهذا قال تعالى (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله) أي أظهروا الايمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالايمان الكاذبة فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتربهم فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس " فلهم عذاب مهين " أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الايمان الكاذبة الحانثة ثم قال تعالى " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا " أي لن يدفع ذلك عنهم بأسا إذا جاءهم " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ثم قال تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا " أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ أي يحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا لان من عاش على شئ مات عليه وبعث عليه ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الاحكام الظاهرة ولهذا قال " ويحسبون أنهم على شئ " أي حلفهم ذلك لربهم عز وجل. ثم قال منكرا عليهم حسبانهم " ألا إنهم هم الكاذبون " فأكد الخبر عنهم بالكذب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا زهير عن سماك بن حرب حدثني سعيد بن جبير أن ابن عباس حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين قد كاد يقلص عنهم الظل قال " إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه " فجاء رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال " علام تشتمني أنت وفلان وفلان " نفر دعاهم بأسمائهم قال فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه قال فأنزل الله عز وجل " فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون ". وهكذا رواه الامام أحمد من طريقين عن سماك به ورواه ابن جرير عن محمد بن المثني عن غندر عن شعبة عن سماك به نحوه وأخرجه أيضا من حديث سفيان الثوري عن سماك بنحوه إسناد جيد ولم يخرجوه وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " ثم قال تعالى " استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله " أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عز وجل وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه. ولهذا قال أبو داود حدثنا أحمد بن يونس حدثنا زائدة حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن أبي طلحه اليعمري عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية " قال زائدة قال السائب يعني الصلاة في الجماعة. ثم قال تعالى " أولئك حزب الشيطان " يعنى الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. ثم قال تعالى " ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ". إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الاذلين (20) كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز (21) لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضى
[ 352 ]
الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون (22) يقول تعالى مخبرا عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله يعني الذين هم في حد والشرع في حد أي مجانبون للحق مشاقون له هم في ناحية والهدى في ناحية " أولئك في الاذلين " أي في الاشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب الاذلين في الدنيا والآخرة " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " أي قد حكم وكتب في كتابه الاول وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة " وأن العاقبة للمتقين " كما قال تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " وقال ههنا " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لاعدائه وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الاقربين كما قال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " الآية وقال تعالى " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره أنزلت هذه الآية " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر " إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الامر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم ولو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته وقيل في قوله تعالى " ولو كانوا آباءهم " نزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر " أو أبناءهم " في الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن " أو إخوانهم " في مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ " أو عشيرتهم " في عمر قتل قريبا له يومئذ أيضا وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ فالله أعلم " قلت " ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين وهم بنو العم والعشيرة ولعل الله تعالى أن يهديهم وقال عمر لا أرى ما رأى يا رسول الله هل تمكنني من فلان قريب لعمر فأقتله وتمكن عليا من عقيل وتمكن فلانا من فلان ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين القصة بكمالها. وقوله تعالى " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الايمان أي كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الايمان في بصيرته قال السدي " كتب في قلوبهم الايمان " جعل في قلوبهم الايمان وقال ابن عباس " وأيدهم بروح منه " أي قواهم. وقوله تعالى " ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه " كل هذا تقدم تفسيره غير مرة وفي قوله تعالى " رضي الله عنهم ورضوا عنه " سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم والفضل العميم وقوله تعالى " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته وقوله تعالى " ألا إن حزب الله هم المفلحون " تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة في مقابلة ما ذكر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان ثم قال " ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون " وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا هارون بن حميد الواسطي حدثنا الفضل بن عنبسة عن رجل قد سماه فقال هو عبد الحميد بن سليمان - انقطع من كتابي - عن الذيال بن عباد قال: كتب أبو حازم الاعرج إلى الزهري: اعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تعالى على
[ 353 ]
أيدي أوليائه لاوليائه وأنهم الخامل ذكرهم الخفية شخوصهم ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب الاخفياء الاتقياء الابرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة " فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ". وقال نعيم بن حماد حدثنا محمد بن ثور عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة فإنى وجدت فيما أوحيته إلي " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " قال سفيان يرون أنها نزلت فيمن يخالط السلطان. رواه أبو أحمد العسكري. آخر تفسير سورة المجادلة ولله الحمد والمنة. سورة الحشر " وكان ابن عباس يقول: سورة بني النضير " قال سعيد بن منصور حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر ؟ قال أنزلت في بني النضير ورواه البخاري ومسلم من وجه آخر عن هشيم به ورواه البخاري من حديث أبي عوانه عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر ؟ قال سورة بنى النضير. بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم (1) هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يأولى الابصار (2) ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار (3) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب (4) ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين (5) يخبر تعالى أن جميع ما في السموات وما في الارض من شئ يسبح له ويمجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعالى " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " وقوله تعالى " وهو العزيز " أي منيع الجناب " الحكيم " في قدره وشرعه، وقوله تعالى " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني يهود بني النضير. قاله ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل الله بهم بأسه الذي لا مرد له وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله فما أغنى عنهم من الله شيئا وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم وسيرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام وهي أرض المحشر والمنشر ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما
[ 354 ]
حملت إبلهم فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ولهذا قال تعالى " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار " أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله وكذب كتابه كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الاليم. قال أبو داود حدثنا محمد بن داود وسفيان حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إلى ابن أبي ومن كان معه يعبد الاوثان من الاوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجكم أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم فلما بلغ ذلك عبد الله بن أبي ومن كان معه من عبدة الاوثان أجمعوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال " لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم " فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعه بدر إلى اليهود إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شئ وهو الخلاخيل فلما بلغ كتابهم النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخرج إلينا في ثلاثين رجلا من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبرا حتى نلتقي بمكان النصف وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك. فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم " إنكم والله لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدوني عليه فأبوا أن يعطوه عهدا فقاتلهم يومهم ذلك ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب وترك بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه فانصرف عنهم وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير واحتملوا ما أقلت الابل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها فقال تعالى " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " نقول بغير قتال فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الانصار وكانا ذوي حاجة ولم يقسم من الانصار غيرهما وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة ولنذكر ملخص غزوة بني النضير على وجه الاختصار والله المستعان. وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب المغازي والسير أنه لما قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وكانوا سبعين وأفلت منهم عمرو بن أمية الضمري فلما كان في أثناء الطريق راجعا إلى المدينة قتل رجلين من بني عامر وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمان لم يعلم به عمرو فلما رجع أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد قتلت رجلين لادينهما " وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية ذينك الرجلين وكانت منازل بني النضير ظاهر المدينة على أميال منها شرقيها. قال محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه السيرة ثم خرج رسول الله إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر الذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد لهما فيما حدثني يزيد بن رومان وكان بين بني النضير وبني عامر عقد وحلف فلما أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية ذينك القتيلين قالوا نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه - ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم - فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخره فيريحنا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم فقام وخرج راجعا إلى المدينة فلما استلبث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قاموا في طلبه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عنه فقال رأيته داخلا المدينة فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهوا
[ 355 ]
إليه فأخبرهم الخبر بما كانت يهود أرادت من الغدر به وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم ثم سار حتى نزل بهم فتحصنوا منه في الحصون فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها فنادوه أن يا محمد قد كنت تنهي عن الفساد في الارض وتعيبه على من يصنعه فما بال قطع النخل وتحريقها ؟ وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة بن مالك بن أبي قوقل وسويد وداعس قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الابل فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إيجاف بابه فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام وخلوا الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت لرسول الله خاصة يضعها حيث يشاء فقسمها على المهاجرين الاولين دون الانصار إلا سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها. قال ابن إسحاق وقد حدثني بعض آل يامين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ليامين " ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني " فجعل يامين بن عمرو لرجل جعلا على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون. قال ابن إسحاق ونزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق بنحو ما تقدم فقوله تعالى " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب " يعني بني النضير " من ديارهم لاول الحشر " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال: من شك في أن أرض المحشر ههنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر " قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " اخرجوا " قالوا إلى أين ؟ قال " إلى أرض المحشر " وحدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا أبو أسامة عن عوف عن الحسن قال لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير قال " هذا أول الحشر وأنا على الاثر " ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن به. وقوله تعالى " ما ظننتم أن يخرجوا " أي في مدة حصاركم لهم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها ولهذا قال تعالى " وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الاخرى " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون " وقوله تعالى " وقذف في قلوبهم الرعب " أي الخوف والهلع والجزع وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه. وقوله " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين " قد تقدم تفسير ابن إسحاق لذلك وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وتحملها على الابل وكذا قال عروه بن الزبير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد وقال مقاتل بن حيان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال وكان اليهود إذا علوا مكانا أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ثم حصنوها ودربوها يقول الله تعالى " فاعتبروا يا أولي الابصار ". وقوله " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا " أي لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد لان الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العذاب في نار جهنم. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير قال ثم
[ 356 ]
كانت وقعة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا من الجلاء وأن لهم ما أقلت الابل من الاموال والامتعة إلا الحلقة وهي السلاح فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام قال والجلاء أنه كتب عليهم في آي من التوراة وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله فيهم " سبح لله ما في السموات وما في الارض " إلى قوله " وليخزي الفاسقين " وقال عكرمة الجلاء القتل وفي رواية عنه الفناء وقال قتادة الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد وقال الضحاك أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيرا وسقاء فهذا الجلاء. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أحمد بن كامل القاضي حدثنا محمد بن سعيد العوفي حدثني أبي عن عمي حدثني أبي عن جدي عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى وروى أيضا من حديث يعقوب بن محمد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن محمود بن محمد بن مسلمة عن أبيه عن جده عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام. وقوله تعالى " ولهم في الآخرة عذاب النار " أي حتم لازم لابد لهم منه. وقوله تعالى (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين لانهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزله الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ثم قال " ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب ". وقوله تعالى (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) اللين نوع من التمر وهو جيد. قال أبو عبيدة وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر وقال كثيرون من المفسرين اللينة ألوان التمر سوى العجوة. قال ابن جرير هو جميع النخل ونقله عن مجاهد وهو البويرة أيضا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرهابا وإرعابا لقلوبهم فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا فبعث بنو قريظة يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهي عن الفساد فما بالك تأمر بقطع الاشجار ؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة أي " ما قطعتم من لينة " وما تركتم من الاشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم وإرغام لا نوفهم وقال مجاهد نهى بعض المهاجرين بعضا عن قطع النخل وقالوا إنما هي مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه وتحليل من قطعه من الاثم وإنما قطعه وتركه بإذنه وقد روي نحو هذا مرفوعا فقال النسائي أخبرنا الحسن بن محمد بن عفان حدثنا حفص بن غياث حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " قال يستنزلونهم من حصونهم وأمروا بقطع النخل فحاك في صدورهم فقال المسلمون: قطعنا بعضا وتركنا بعضا فلنسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل الله " ما قطعتم من لينة " وقال الحافظ يعلى في مسنده حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر وعن أبي الزبير عن جابر قال رخص لهم في قطع النخل ثم شدد عليهم فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو علينا وزر فيما تركنا ؟ فأنزل الله عز وجل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال حاربت النضير وقريظة فأجلى بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حارب قريظة فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي
[ 357 ]
صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع وهم رهط عبد الله بن سلام ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة ولهما أيضا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله عز وجل فيه " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ". وللبخاري رحمه الله من رواية جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه وهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير فأجابه أبو سفيان بن الحارث يقول: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في نواحيها السعير ستعلم أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا نضير كذا رواه البخاري ولم يذكره ابن إسحاق وقال محمد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير وقتل ابن الاشرف لقد خزيت بغدرتها الحبور * كذاك الدهر ذو صرف يدور وذلك أنهم كفروا برب * عظيم أمره أمر كبير وقد أوتوا معا فهما وعلما * وجاءهمو من الله النذير نذير صادق أدى كتابا * وآيات مبينة تنير فقالوا ما أتيت بأمر صدق * وأنت بمنكر منا جدير فقال بلى لقد أديت حقا * يصدقني به الفهم الخبير فمن يتبعه يهد لكل رشد * ومن يكفر به يجز الكفور فلما أشربوا غدرا وكفرا * وجد بهم عن الحق النفور أرى الله النبي برأي صدق * وكان الله يحكم لا يجور فأيده وسلطه عليهم * وكان نصيره نعم النصير فغودر منهمو كعب صريعا * فذلت بعد مصرعه النضير على الكفين ثم وقد علته * بأيدينا مشهرة ذكور بأمر محمد إذ دس ليلا * إلى كعب أخا كعب يسير فماكره فأنزله بمكر * ومحمود أخو ثقة جسور فتلك بنو النضير بدار سوء * أبادهمو بما اجترم المبير غداة أتاهمو في الزحف زهوا * رسول الله وهو بهم بصير وغسان الحماة موازروه * على الاعداء وهو لهم وزير فقال السلم ويحكمو فصدوا * وخالف أمرهم كذب وزور فذاقوا غب أمرهمو وبالا * لكل ثلاثة منهم بعير وأجلوا عامدين لقينقاع * وغودر منهمو نخل ودور قال وكان مما قيل من الاشعار في بني النضير قول ابن القيم العبسي ويقال قالها قيس بن بحر بن طريف قال ابن هشام الاشجعي:
[ 358 ]
أهلي فداء لامرئ غير هالك * أجلى اليهود بالحسى المزنم يقيلون في جمر العضاه وبدلوا * أهيضب عوذا بالودى المكمم فإن يك ظني صادقا بمحمد * يروا خيله بين الصلا ويرمرم يؤم بها عمرو بن بهثة إنهم * عدو وما حي صديق كمجرم عليهن أبطال مساعير في الوغى * يهزون أطراف الوشيج المقوم وكل رقيق الشفرتين مهند * تورث من أزمان عاد وجرهم فمن مبلغ عني قريشا رسالة * فهل بعدهم في المجد من متكرم بأن أخاكم فاعلمن محمدا * تليد الندى بين الحجون وزمزم فدينوا له بالحق تحسم أموركم * وتسموا من الدنيا إلى كل معظم نبي تلاقته من الله رحمة * ولا تسألوه أمر غيب مرجم فقد كان في بدر لعمري عبرة * لكم يا قريش والقليب الملمم غداة أتى قي الخزرجية عامدا * إليكم مطيعا للعظيم المكرم معانا بروح القدس ينكي عدوه * رسولا من الرحمن حقا بمعلم رسولا من الرحمن يتلو كتابه * فلما أنار الحق لم يتلعثم أرى أمره يزداد في كل موطن * علوا لامر حمه الله محكم وقد أورد ابن إسحاق رحمه الله ههنا أشعارا كثيرة فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة تركنا باقيها اختصارا واكتفاء بما ذكرناه ولله الحمد والمنة. قال ابن إسحاق كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر. وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير (6) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) يقول تعالى مبينا ما الفئ وما صفته وما حكمه فالفئ كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب أي لم يقاتلوا الاعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاءه الله على رسوله ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآيات فقال تعالى " وما أفاء الله على رسوله منهم " أي من بني النضير " فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " يعني الابل " ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير " أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شئ. ثم قال تعالى " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير ولهذا قال تعالى " فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفئ ووجوهه. قال الامام أحمد حدثنا سفيان عن عمرو
[ 359 ]
ومعمر عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله إلى رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته وقال مرة قوت سنته وما بقي جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله عز وجل هكذا أخرجه أحمد ههنا مختصرا وقد أخرجه الجماعة في كتبهم إلا ابن ماجه من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن الزهري به وقد رويناه مطولا وقال أبو داود رحمه الله حدثنا الحسن بن علي ومحمد بن يحيى بن فارس المعنى واحد قالا حدثنا بشر بن عمرو الزهراني حدثني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن مالك بن أوس قال أرسل إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تعالى النهار فجئته فوجدته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله فقال حين دخلت عليه: يا مال إنه قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشئ فاقسم فيهم قلت لو أمرت غيري بذلك فقال خذه فجاءه يرفا فقال يا أمير المؤمنين هل لك في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص ؟ قال نعم فأذن لهم فدخلوا. ثم جاءه يرفا فقال يا أمير المؤمنين هل لك في العباس وعلي ؟ قال نعم فأذن لهما فدخلا فقال العباس يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا يعني عليا فقال بعضهم أجل يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرحهما قال مالك بن أوس خيل إلي أنهما قدما أولئك النفر لذلك فقال عمر رضي الله عنه اتئد ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والارض هل تعلمون أن رسول الله قال " لا نورث ما تركنا صدقة " قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والارض هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ما تركنا صدقة " فقالا نعم فقال إن الله خص رسوله بخاصة لم يخص بها أحدا من الناس فقال تعالى " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير " فكان الله تعالى أفاء إلى رسوله أموال بني النضير فوالله ما استأثر بها عليكم ولا أحرزها دونكم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة ويجعل ما بقي أسوة المال ثم أقبل على أولئك الرهط فقال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والارض هل تعلمون ذلك ؟ قالوا نعم ثم أقبل على علي والعباس فقال أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والارض هل تعلمان ذلك ؟ قالا نعم فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أنت وهذا إلى أبي بكر تطلب أنت ميراثك عن ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث ما تركنا صدقة " والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر فلما توفي قلت أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر فوليتها ما شاء الله أن إليها فجئت أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد فسألتمانيها فقلت إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تلياها بالذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يليها فأخذتماها مني على ذلك ثم جئتماني لاقضي بينكما بغير ذلك والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إلي أخرجوه من حديث الزهري به. قال الامام أحمد حدثنا عارم وعفان قالا أخبرنا معمر سمعت أبي يقول حدثنا أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الرجل كان يجعل من ماله النخلات أو كما شاء الله حتى فتحت عليه قريظة والنضير قال فجعل يرد بعد ذلك قال وإن أهلي أمروني أن آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله الذي كان أهله أعطوه أو بعضه. وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاه أم أيمن أو كما شاء الله قال فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فأعطانيهن فجاءت أم أيمن فجعلت الثوب في عنقي وجعلت تقول كلا والله الذي لا إله إلا هو لا يعطيكهن وقد أعطانيهن أو كما قالت فقال نبي الله " لك كذا وكذا " قال: وتقول كلا والله قال ويقول " لك كذا وكذا " قال: وتقول كلا والله قال: ويقول " لك كذا وكذا " قال حتى أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريبا من عشرة أمثاله أو كما قال. رواه البخاري ومسلم من طرق عن معمر به وهذه المصارف المذكورة في هذه الآية هي المصارف المذكورة في خمس الغنيمة وقد قدمنا الكلام عليها في سورة الانفال بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد وقوله تعالى " كيلا
[ 360 ]
يكون دولة بين الاغنياء منكم " أي جعلنا هذه المصارف لمال الفئ كيلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الاغنياء ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء ولا يصرفون منه شيئا إلى الفقراء وقوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهي عن شر قال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن العوفي عن يحيى بن الجزار عن مسروق قال جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت بلغني أنك تنهي عن الواشمة والواصلة أشئ وجدته في كتاب الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال بلى شئ وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف فما وجدت فيه الذي تقول قال فما وجدت " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " قالت بلى قال فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة قالت فلعله في بعض أهلك قال فادخلي فانظري فدخلت فنظرت ثم خرجت قالت ما رأيت بأسا فقال لها أما حفظت وصية العبد الصالح " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل قال فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أم يعقوب فجاءت إليه فقالت بلغني أنك قلت كيت وكيت قال مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى فقالت إني لاقرأ ما بين لوحيه فما وجدته فقال إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه أما قرأت " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " قالت بلى ! قال فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه. قالت إني لاظن أهلك يفعلونه قال اذهبي فانظري فذهبت فلم تر من حاجتها شيئا فجاءت فقالت ما رأيت شيئا قال لو كان كذا لم تجامعنا. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري وقد ثبت في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " وقال النسائي أخبرنا أحمد بن سعيد حدثنا يزيد حدثنا منصور بن حيان عن سعيد بن جبير عن عمر وابن عباس أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقوله تعالى " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه وارتكب ما عنه زجره ونهاه. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (8) والذين تبوء والدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9) والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم (10) يقول تعالى مبينا حال الفقراء المستحقين لمال الفئ أنهم " الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه " وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون " أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين. ثم قال تعالى مادحا للانصار
[ 361 ]
ومبينا فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى " والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم " أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم قال عمر: وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الاولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم وأوصيه بالانصار خيرا الذين تبوءوا الدار والايمان من قبل أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضا وقوله تعالى " يحبون من هاجر إليهم " أي من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلا في كثير لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالاجر كله قال " لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم " لم أره في الكتب من هذا الوجه. وقال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد سمع أنس بن مالك حين خرج معه إلى الوليد قال دعا النبي صلى الله عليه وسلم الانصار أن يقطع لهم البحرين قالوا لا إلا أن تقطع لاخواننا من المهاجرين مثلها قال " إما لا فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة " تفرد به البخاري من هذا الوجه. وقال البخاري حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة قال: قالت الانصار اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال لا قالوا أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا تفرد به دون مسلم " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " أي ولا يجدون في أنفسهم حسدا للمهاجرين فيما فضلهم الله به من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة. قال الحسن البصري " ولا يجدون في صدورهم حاجة " يعني الحسد " مما أوتوا " قال قتادة يعني فيما أعطى إخوانهم. وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا المعنى ما رواه الامام أحمد حيث قال حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال: كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " فطلع رجل من الانصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل مثل المرة الاولى فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضا فطلع ذلك الرجل على مثل حالته الاولى فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت قال " نعم " قال أنس فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات " يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة " فطلعت أنت الثلاث المرات فأردت أن آوي إليك لانظر ما عملك فأقتدي به فلم أرك تعمل كبير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال ما هو إلا ما رأيت فلم وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لاحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه. قال عبد الله فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق ورواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس فالله أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " يعني مما أوتوا المهاجرون قال وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الانصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير " قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إخوانكم قد تركوا الاموال والاولاد وخرجوا إليكم " فقالوا أموالنا بيننا
[ 362 ]
قطائع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو غير ذلك " قالوا وما ذاك يا رسول الله ؟ قال " هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر " فقالوا نعم يا رسول الله. وقوله تعالى " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصه " يعني حاجة أي يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أفضل الصدقة جهد المقل " وهذا المقام أعلى من حال الذين وصف الله بقوله تعالى " ويطعمون الطعام على حبه " وقوله " وآتى المال على حبه " فإن هؤلاء تصدقوا وهم يحبون ما تصدقوا به وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة به وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه ومن هذا المقام تصدق الصديق رضي الله عنه بجميع ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أبقيت لاهلك ؟ فقال رضي الله عنه أبقيت لهم الله ورسوله وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء فرده الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم. وقال البخاري حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثير حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو حازم الاشجعي عن أبي هريرة قال: أتى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا رجل يضيف هذا الليلة رحمه الله " فقام رجل من الانصار فقال أنا يارسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئا فقالت والله ما عندي إلا قوت الصبية قال فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئ السراج ونطوي بطوننا الليلة ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لقد عجب الله عز وجل - أو ضحك - من فلان وفلانة " وأنزل الله تعالى " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان به وفى رواية لمسلم تسمية هذا الانصاري بأبي طلحة رضي الله عنه. وقوله تعالى " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح. قال أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيدالله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به. وقال الاعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الاقمر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالفجور ففجروا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا " ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الاعمش كلاهما عن عمرو بن مرة به وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن الجلاح عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الشح والايمان في قلب عبد أبدا " وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أخبرنا ابن المبارك حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الاسود بن هلال قال جاء رجل إلى عبد الله فقال يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت فقال له عبد الله وما ذاك ؟ قال سمعت الله يقول " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا فقال عبد الله: ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ولكن ذاك البخل وبئس الشئ البخل. وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الاسدي قال كنت
[ 363 ]
أطوف بالبيت فرأيت رجلا يقول اللهم قني شح نفسي. لا يزيد على ذلك فقلت له فقال إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رواه ابن جرير وقال ابن جرير حدثني محمد بن إسحق حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا مجمع بن جارية الانصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة " وقوله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) هؤلاء في القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفئ وهم المهاجرون ثم الانصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة " والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه " فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة " والذين جاءوا من بعدهم يقولون " أي قائلين " ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا " أي بغضا وحسدا " للذين أمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " وما أحسن ما استنبط الامام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفئ نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم " ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " وقال ابن أبي حاتم حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا محمد بن بشر حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت: أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " الآية وقال إسماعيل بن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت: أمرتم بالاستغفار لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسببتموهم ! سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تذهب هذه الامة حتى يلعن آخرها أولها ". رواه البغوي وقال أبو داود حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أيوب عن الزهري قال: قال عمر رضي الله عنه " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب " قال الزهري: قال عمر رضي الله عنه: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وقرى عرينه وكذا وكذا مما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل - وللفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم - والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب - أو قال حظ إلا بعض من تملكون من أرقائكم. كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع وقال ابن جرير حدثنا عبد الاعلى حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال قرأ عمر بن الخطاب " إنما الصدقات للفقراء والمساكين - حتى بلغ - عليم حكيم " ثم قال هذه لهؤلاء ثم قرأ " واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى " الآية ثم قال هذه لهؤلاء ثم قرأ " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى " - حتى بلغ - للفقراء - والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم - والذين جاءوا من بعدهم " ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا وله فيها حق ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه. * ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون (11) لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون (12) لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم
[ 364 ]
لا يفقهون (13) لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (14) كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم (15) كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين (16) فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين (17) يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " قال الله تعالى " والله يشهد إنهم لكاذبون " أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لانهم قالوا لهم قولا من نيتهم أن لا يقول لهم به وإما لانهم لا يقع منهم الذي قالوه ولهذا قال تعالى " ولئن قوتلوا لا ينصرونهم " أي لا يقاتلون معهم " ولئن نصروهم " أي قاتلوا معهم " ليولن الادبار ثم لا ينصرون " وهذه بشارة مستقلة بنفسها. ثم قال تعالى " لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله " أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله كقوله تعالى " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " ولهذا قال تعالى " ذلك بأنهم قوم لا يفقهون " ثم قال تعالى " لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر " يعني أنهم من جبنهم وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الاسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة. ثم قال تعالى " بأسهم بينهم شديد " أي عداوتهم فيما بينهم شديدة كما قال تعالى " ويذيق بعضكم بأس بعض " ولهذا قال تعالى " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف قال إبراهيم النخعي يعني أهل الكتاب والمنافقين " ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ". ثم قال تعالى (كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر وقال ابن عباس " كمثل الذين من قبلهم " يعني يهود بني قينقاع وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا. وقوله تعالى (كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك) يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم لئن قوتلتم لننصرنكم ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للانسان - والعياذ بالله - الكفر فإذا دخل فيما سوله له تبرأ منه وتنصل وقال " إني أخاف الله رب العالمين ". وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل لا أنها المرادة وحدها بالمثل بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها فقال ابن جرير حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: إن راهبا تعبد ستين سنة وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها ولها إخوة فقال لاخوتها عليكم بهذا القس فيداويها قال فجاءوا بها إليه فداواها وكانت عنده فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها فقال الشيطان للراهب أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك فاسجد لي سجدة فسجد فلما سجد له قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين فذلك قوله " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين ". وقال ابن جرير حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الاعمش عن عمارة عن عبد
[ 365 ]
الرحمن بن زيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين " قال كان امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا فلما أصبحوا قال رجل منهم والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدرى أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا لا بل قصها علينا قال فقصها فقال الآخر وأنا والله لقد رأيت ذلك فقال الآخر وأنا والله لقد رأيت ذلك قالوا فوالله ما هذا إلا لشئ قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان فقال إني أنا الله الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه قال فسجد له فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل وكذا روى عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فالله أعلم. وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجا اتهمته امرأة بغي بنفسها وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الامر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم مالكم ؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جدا ثم قال يا غلام من أبوك ؟ قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه. فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيما بليغا وقالوا نعيد صومعتك من ذهب قال لا بل أعيدوها من طين كما كانت وقوله تعالى (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها " وذلك جزاء الظالمين " أي جزاء كل ظالم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (18) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون (19) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون (20) قال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال فجاءه قوم حفاة عراة محتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة قال فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب فقال " " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " " إلى آخر الآية وقرأ الآية التي في الحشر " ولتنظر نفس ما قدمت لغد " " تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره - حتى قال ولو بشق تمرة " قال فجاء رجل من الانصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سن في الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شئ " انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله " أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر. وقوله تعالى " ولتنظر نفس ما قدمت لغد " أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وانظروا ماذا ادخرتم لانفسكم من
[ 366 ]
الاعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم " واتقوا الله " تأكيد ثان " إن الله خبير بما تعملون " أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير. وقوله تعالى (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) أي لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم فإن الجزاء من جنس العمل ولهذا قال تعالى " أولئك هم الفاسقون " أي الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون يوم معادهم كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا المغيرة حدثنا جرير بن عثمان عن نعيم بن نمحة قال كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لاجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الاجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل ولن تنالوا ذلك إلا بالله عز وجل إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عز وجل أن تكونوا أمثالهم " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة أين الجبارون الاولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة واستضيئوا بسنائه وبيانه إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا غبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات. وشيخ جرير بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ جرير كلهم ثقات وقد روى لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم. وقوله تعالى (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة كما قال تعالى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " وقال تعالى " وما يستوي الاعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ قليلا ما تتذكرون " وقال تعالى " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أنجعل المتقين كالفجار " في آيات أخر دالات على أن الله تعالى يكرم الابرار ويهين الفجار ولهذا قال تعالى ههنا " أصحاب الجنة هم الفائزون " أي الناجون المسلمون من عذاب الله عز وجل. لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون (21) هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم (22) هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون (23) هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم (24) يقول تعالى معظما لامر القرآن ومبينا علو قدره وأنه ينبغي وأن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الاكيد " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ولهذا قال تعالى
[ 367 ]
" وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا " إلى آخرها يقول لو أني أنزلت هذا القران على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ثم قال تعالى " وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " وكذا قال قتادة وابن جرير. وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عمل له المنبر وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكت لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجذع وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعالى " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى " الآية وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن وقد قال تعالى " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله " ثم قال تعالى (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه وكل ما يعبد من دونه فباطل وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا فلا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات. وقوله تعالى " هو الرحمن الرحيم " قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما وقد قال تعالى " ورحمتي وسعت كل شئ " وقال تعالى " كتب ربكم على نفسه الرحمة " وقال تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ". ثم قال تعالى " هو الله الذي لا إله إلا هو الملك " أي المالك لجميع الاشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة وقوله تعالى " القدوس " قال وهب بن منبه أي الطاهر وقال مجاهد وقتادة أي المبارك وقال ابن جريج تقدسه الملائكة الكرام " السلام " أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله وقوله تعالى " المؤمن " قال الضحاك عن ابن عباس أي أمن خلقه من أن يظلمهم وقال قتادة أمن بقوله أنه حق وقال ابن زيد صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به. وقوله تعالى " المهيمن " قال ابن عباس وغير واحد أي الشاهد على خلقه بأعمالهم بمعنى هو رقيب عليهم كقوله " والله على كل شئ شهيد " وقوله " ثم الله شهيد على ما يفعلون " وقوله " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " الآية. وقوله تعالى " العزيز " أي الذي قد عز كل شئ فقهره وغلب الاشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ولهذا قال تعالى " الجبار المتكبر " أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما تقدم في الصحيح " العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته " وقال قتادة: الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء وقال ابن جرير الجبار المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم وقال قتادة المتكبر يعني عن كل سوء ثم قال تعالى " سبحان الله عما يشركون " وقوله تعالى " هو الله الخالق البارئ المصور " الخلق التقدير والبرء هو الفري وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل قال الشاعر يمدح آخر: ولانت تفري ماخلقت وبع * - ض القوم يخلق ثم لا يفري أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد فالخلق التقدير والفري التنفيذ ومنه يقال
[ 368 ]
قدر الجلاد ثم فرى أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله تعالى " الخالق البارئ المصور " أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد الصورة التي يختار كقوله تعالى " في أي صورة ما شاء ركبك " ولهذا قال المصور أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها. وقوله تعالى " له الاسماء الحسنى " قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الاعراف ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر " وتقدم سياق الترمذي وابن ماجه له عن أبي هريرة أيضا وزاد بعد قوله: " وهو وتر يحب الوتر " واللفظ للترمذي " هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والاكرام المقسط الجامع الغني المغني المعطي المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور " وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير وقد قدمنا ذلك مبسوطا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته ههنا وقوله تعالى " يسبح له ما في السموات والارض " كقوله تعالى " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا " وقوله تعالى " وهو العزيز " أي فلا يرام جنابه " الحكيم " في شرعه وقدره وقد قال الامام أحمد حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد يعني ابن طهمان أبو العلاء الخفاف حدثنا نافع بن أبي نافع عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة " ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. آخر تفسير سورة الحشر ولله الحمد والمنة. سورة الممتحنة بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم
[ 369 ]
والله بما تعملون بصير (3) كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضا وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفا لعثمان فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال " اللهم عم عليهم خبرنا " فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته. قال الامام أحمد حدثنا سفيان عن عمه أخبرني حسن بن محمد بن علي أخبرني عبد الله بن أبي رافع وقال مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب قال فأخرجت الكتاب من عقاصها فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا حاطب ما هذا ؟ " قال لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه صدقكم " فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجه من غير وجه عن سفيان بن عيينة به وزاد البخاري في كتاب المغازي فأنزل الله السورة " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " وقال في كتاب التفسير قال عمرو ونزلت فيه " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " وقال لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو قال البخاري قال علي يعني ابن المديني قيل لسفيان في هذا نزلت " لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء " فقال سفيان هذا في حديث الناس حفظته من عمرو ما تركت منه حرفا ولا أدري أحدا حفظه غيري. وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حصين بن عبد الرحمن عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس وقال " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين " فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا الكتاب ؟ فقالت ما معي كتاب فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا فقلنا ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلاضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما حملك على ما صنعت ؟ " قال حاطب والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال " صدق لا تقولوا له إلا خيرا " فقال عمر إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلاضرب عنقه فقال " صدق لا تقولوا له إلا خيرا " فقال عمر إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلاضرب عنقه فقال " أليس من أهل بدر ؟ - فقال - لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة - أو - قد غفرت لكم " فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم هذا لفظ البخاري في المغازي في غزوة بدر. وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني
[ 370 ]
حدثنا عبيد بن يعيش حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أبي سنان هو سعيد بن سنان عن عمرو بن مرة الحملي عن أبي إسحاق البحتري الطائي عن الحارث عن علي لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم حاطب بن أبي بلتعة وأفشى في الناس أنه يريد خيبر قال فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس فقال " ائتوا روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا لها هات الكتاب فقالت ما معي كتاب فوضعنا متاعها وفتشناها فلم نجده في متاعها فقال أبو مرثد لعله أن لا يكون معها فقلت ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا فقلنا لها لتخرجنه أو لنعرينك فقالت أما تتقون الله ؟ ألستم مسلمين ؟ فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك قال عمرو بن مرة فأخرجته من حجزتها وقال حبيب بن أبي ثابت أخرجته من قبلها فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة فقام عمر فقال يا رسول الله خان الله ورسوله فائذن لي فلاضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أليس قد شهد بدرا ؟ " قالوا بلى وقال عمر بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني بما تعملون بصير " ففاضت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاطب فقال " يا حاطب ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال يا رسول الله إنى كنت امرأ ملصقا في قريش وكان لي بها مال وأهل ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله فكتبت بذلك إليهم ووالله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق حاطب فلا تقولوا لحاطب إلا خيرا " قال حبيب بن أبي ثابت فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة " الآية وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن أبي سنان سعيد بن سنان بإسناده مثله. وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير فقال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة حدثني محمد بن جعفر ابن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الامر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة وزعم غيره أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب وجعل لها جعلا على أن تبلغه لقريش فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال " أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم " فخرجا حتى أدركاها بالحليفة حليفة بني أبي أحمد فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي بن أبي طالب إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك فلما رأت الجد منه قالت أعرض فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطبا فقال " يا حاطب ما حملك على هذا ؟ " فقال يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله دعني فلاضرب عنقه فإن الرجل قد نافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فأنزل الله عز وجل في حاطب " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى قوله - قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده " إلى آخر القصة وروى معمر عن الزهري عن عروة نحو ذلك وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أنه بعث سارة مولاة بني هاشم وأنه أعطاها عشرة دراهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأدركاها بالجحفة وذكر تمام القصة كنحو ما
[ 371 ]
تقدم وعن السدي قريبا منه وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " وقال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه " ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لاجل ما كان له عندهم من الاموال والاولاد. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الامام أحمد حدثنا مصعب بن سلام حدثنا الاجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن حراش سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا: واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر قال فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها قال " إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه " وقوله تعالى " يخرجون الرسول وإياكم " هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لانهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ولهذا قال تعالى " أن تؤمنوا بالله ربكم " أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " وكقوله تعالى " الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ". وقوله تعالى " إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي " أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم وسخطا لدينكم. وقوله تعالى " تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم " أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر " ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفونكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء " أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال " وودوا لو تكفرون " أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيرا فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء ؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضا وقوله تعالى " لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير " أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءا ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ولو كان قريبا إلى نبي من الانبياء. قال الامام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟ قال " في النار " فلما قفى دعاه فقال " إن أبي وأباك في النار " ورواه مسلم وأبو داود من حديث حماد بن سلمة به. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما
[ 372 ]
أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم (5) لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد (6) يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه " أي وأتباعه الذين آمنوا معه " إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم " أي تبرأنا منكم " ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم " أي بدينكم وطريقكم " وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا " يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم " حتى تؤمنوا بالله وحده " أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الاوثان والانداد. وقوله تعالى " إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك " أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لابيه فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لابيه فأنزل الله عزوجل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم ". وقال تعالى في هذه الآية الكريمة " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم - إلى قوله تعالى - إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله شئ " أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين هكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد. ثم قال تعالى مخبرا عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم فلجأوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير " أي توكلنا عليك في جميع الامور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك وإليك المصير: أي المعاد في الدار الآخرة " ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا " قال مجاهد: معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا وكذا قال الضحاك وقال قتادة لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه واختاره ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لا تسلطهم علينا فيفتنونا وقوله تعالى " واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم " أي واستر ذنوبنا عن غيرك واعف عنها فيما بيننا وبينك " إنك أنت العزيز " أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك " الحكيم " في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ثم قال تعالى " لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " وهذا تأكيد لما تقدم ومستثني منه ما تقدم أيضا لان هذه الاسوة المثبتة ههنا هي الاولى بعينها. وقوله تعالى " لمن كان يرجو الله واليوم الآخر " تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد وقوله تعالى " ومن يتول " أي عما أمر الله به " فإن الله هو الغني الحميد " كقوله تعالى " إن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعا فإن الله لغني حميد " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كف ء وليس كمثله شئ سبحان الله الواحد القهار والحميد المستحمد إلى خلقه أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه. * عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم (7) لا ينهاكم الله عن الذين
[ 373 ]
لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (9) يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " أي محبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة بعد الفرقة " والله قدير " أي على ما يشاء من الجمع بين الاشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة كما قال تعالى متنا على الانصار " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " الآية وكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ " وقال الله تعالى " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ". وفي الحديث " أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوما ما وأبغض بغيضك هونا ما فعسى أن يكون حبيبك يوما ما " وقال الشاعر: وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما * يظنان كل الظن أن لا تلاقيا وقوله تعالى " والله غفور رحيم " أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان. وقد قال مقاتل بن حيان إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته فكانت هذه مودة ما بينه وبينه وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال قرئ على محمد بن عزيز حدثني سلامة حدثني عقيل حدثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدا فقاتله فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين قال ابن شهاب وهو ممن أنزل الله فيه " عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " الآية. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال يارسول الله ثلاث أعطنيهن قال " نعم " قال تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال " نعم " قال ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك قال " نعم " قال وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها - الحديث - وقد تقدم الكلام عليه. وقوله تعالى " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا " أي يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الاحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم " أن تبروهم " أي تحسنوا إليهم " وتقسطوا إليهم " أي تعدلوا " إن الله يحب المقسطين ". قال الامام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال " نعم صلي أمك " أخرجاه وقال الامام أحمد حدثنا عارم حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " إلى آخر الاية فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. وهكذا رواه ابن جرير
[ 374 ]
وابن أبي حاتم من حديث مصعب بن ثابت به وفي رواية لاحمد وابن جرير قتيلة بنت عبد العزى بن سعد من بني مالك بن حسل وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأسماء أنهما قالتا قدمت علينا أمنا المدينة وهي مشركة في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش فقلنا يا رسول الله إن أمنا قدمت علينا المدينة وهي راغبة أفنصلها ؟ قال " نعم فصلاها " ثم قال وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة إلا من هذا الوجه " قلت " وهو منكر بهذا السياق لان أم عائشة هي أم رومان وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها كما هو مصرح باسمها في هذه الاحاديث المتقدمة والله أعلم وقوله تعالى " إن الله يحب المقسطين " قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات وأورد الحديث الصحيح " المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا ". وقوله تعالى " إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم " أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ينهاكم الله عزوجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال " ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون " كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ". يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم (10) وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (11) تقدم في سورة الفتح في ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فكان فيه: على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وفي رواية على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة فإن الله عزوجل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن. وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن [ أبي ] (1) أحمد بن جحش من المسند الكبير من طريق أبي بكر بن أبي عاصم عن محمد بن يحيى الذهلي عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب عن حنين بن أبي أبانة عن عبد الله بن أبي أحمد قال هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان. قال ابن جرير حدثنا أبو (1) ما بين الحاصرتين ساقط من الاصل المطبوع وهي زيادة يقتضيها النص. (*)
[ 375 ]
كريب حدثنا يونس بن بكير عن قيس بن الربيع عن الاغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن أبي نصر الاسدي قال سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ؟ قال كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله ثم رواه من وجه آخر عن الاغر بن الصباح به وكذا رواه البزار من طريقه وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وقال مجاهد " فامتحنوهن " فاسألوهن عما جاء بهن فإن كان بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمن فارجعوهن إلى أزواجهن وقال عكرمة يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك فذلك قوله " فامتحنوهن " وقال قتادة كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز وما أخرجكن إلا حب الاسلام وأهله وحرص عليه فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن. وقوله تعالى " فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار " فيه دلالة على أن الايمان يمكن الاطلاع عليه يقينا وقوله تعالى " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداء الاسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ولهذا كان أمر أبي العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه فلما وقع في الاسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لامها خديجة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا " ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه فوفي له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الاول ولم يحدث لها صداقا كما قال الامام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي حدثنا ابن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الاول ولم يحدث شهادة ولا صداقا ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ومنهم من يقول بعد سنتين وهو صحيح لان إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين وقال الترمذي ليس بإسناده بأس ولا نعرف وجه هذا الحديث ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين وسمعت عبد بن حميد يقول سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث وحديث ابن الحجاج يعني ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد فقال يزيد حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب ثم قلت وقد روى حديث الحجاج ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب الامام أحمد والترمذي وابن ماجه وضعفه الامام أحمد وغير واحد والله أعلم وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه لان الذي عليه الاكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه. وقال آخرون بل إذا انقضت العدة هي بالخيار إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت وحملوا عليه حديث ابن عباس والله أعلم وقوله تعالى " وآتوهم ما أنفقوا " يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الاصدقة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وغير واحد وقوله تعالى " ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن " يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن أي تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك وقوله تعالى " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " تحريم من الله عزوجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن.
[ 376 ]
وفي الصحيح عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزوجل " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات - إلى قوله - ولا تمسكوا بعصم الكوافر " فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية. وقال ابن ثور عن معمر عن الزهري: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال وإنما حكم الله بينهم بذلك لاجل ما كان بينهم وبينهم من العهد وقال محمد بن إسحاق عن الزهري طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوجها معاوية وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية وهي أم عبد الله فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما وطلق طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص. وقوله تعالى " واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا " أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين وقوله " ذلكم حكم الله يحكم بينكم " أي في الصلح واستثناء النساء منه والامر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه " والله عليم حكيم " أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك ثم قال تعالى " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما انفقوا " قال مجاهد وقتادة هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئا فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شئ حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها وقال ابن جرير حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري قال أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين فقال الله تعالى للمؤمنين به " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون " فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم والعقب ما كان بقي من صداق نساء الكفار حين آمن وهاجرن وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة وهكذا قال مجاهد " فعاقبتم " أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " يعني مهر مثلها. وهكذا قال مسروق وإبراهيم وقتادة ومقاتل والضحاك وسفيان بن حسين والزهري أيضا. وهذا لا ينافي الاول لانه إذا أمكن الاول فهو الاولى وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار وهذا أوسع وهو اختيار ابن جرير ولله الحمد والمنة. يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم (12) قال البخاري حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي
[ 377 ]
صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك - إلى قوله - غفور رحيم " قال عروة قالت عائشة فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد بايعتك " كلاما ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط وما يبايعهن إلا بقوله " قد بايعتك على ذلك " هذا لفظ البخاري. وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا الآية وقال " فيما استطعتن وأطقتن " قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا قلنا يا رسول الله ألا تصافحنا ؟ قال " إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة " هذا إسناد صحيح وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة والنسائي أيضا من حديث الثوري ومالك بن أنس كلهم عن محمد بن المنكدر عن أميمة به وقال الترمذي حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر وزاد: ولم يصافح منا امرأة وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر به ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي عن محمد ابن المنكدر حدثتني أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خديجة خالة فاطمة من فيها إلي في فذكره وقال الامام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلت معه القبلتين وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار قالت جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم نبايعه في نسوة من الانصار فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف قال " ولا تغششن أزواجكن " قالت فبايعناه ثم انصرفنا فقلت لامرأة منهن ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما غش أزواجنا ؟ قال فسألته فقال: " تأخذ ماله فتحابي به غيره " وقال الامام أحمد حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب حدثني أبي عن أمه عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول " أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصينني في معروف - قلن نعم - فيما استطعتن " فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي أي بنية نعم فكنت أقول كما يقلن وقال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا " ولا تشركن بالله شيئا " ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها قالت أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلقت ورجعت فبايعها ورواه مسلم وفي رواية فما وفى منهن امرأة غيرها وغير أم سليم امرأة ملحان وللبخاري عن أم عطية قالت أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البيعة أن لا ننوح فما وفت منا امرأة غير خمس نسوة أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد كما قال البخاري حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني ابن جريج أن الحسن بن مسلم أخبره عن طاوس عن ابن عباس قال شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف " حتى فرغ من الآية كلها ثم قال حين فرغ " أنتن على ذلك ؟ " فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها نعم يا رسول الله لا يدري حسن من هي قال فتصدقن قال وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال وقال الامام أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا عباس عن سليمان بن سليم عن عمرو بن
[ 378 ]
شعيب عن أبيه عن جده قال جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الاسلام فقال " أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الاولى " وقد قال الامام أحمد حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال " تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم - قرأ الآية التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات - فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه " أخرجاه في الصحيحين. وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال: كنت فيمن حضر العقبة الاولى وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء وذلك قبل أن يفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف وقال " فإن وفيتم فلكم الجنة " رواه ابن أبي حاتم وقد روى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال " قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا " وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء فقالت إني إن أتكلم يعرفني وإن عرفني قتلني وإنما تنكرت فرقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت النسوة اللاتي مع هند وأبين أن يتكلمن فقالت هند وهي متنكرة كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال ؟ فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعمر " قل لهن ولا يسرقن " قالت هند والله إني لاصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا ؟ قال أبو سفيان ما أصبت من شئ مضى أو قد بقي فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال " أنت هند " قالت عفا الله عما سلف فصرف عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ولا يزنين " فقالت يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة ؟ قال " لا والله ما تزني الحرة - قال - ولا يقتلن أولادهن " قالت هند أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر قال " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " قال " ولا يعصينك في معروف " قال منعهن أن ينحن وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ويقطعن الشعور ويدعون بالويل والثبور. وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيفهما بل أظهر الصفاء والود لهما وكذلك كان الامر من جانبه عليه السلام لهما. وقال مقاتل بن حيان أنزلت هذه الآية يوم الفتح بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفاء وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد: فلما قال ولا تقتلن أولادكن قالت هند ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا نصر بن علي حدثتني أم عطية بنت سليمان حدثني عمي عن جدي عن عائشة قالت: جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبايعه فنظر إلى يدها فقال " اذهبي فغيري يدك " فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال " أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا " فبايعته وفي يدها سواران من ذهب فقالت ما تقول في هذين السوارين فقال " جمرتين من نار جهنم ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال: بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وفي يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال " ولا تقتلن أولادكن " فقالت امرأة تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم ؟ قال وكان بعد ذلك إذا جاء النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن فقوله تعالى " يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك " أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن أموال الناس الاجانب فأما إذا كان الزوج مقصرا في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما
[ 379 ]
جرت به عادة أمثالها وإن كان من غير علمه عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني فهل علي جناح إن أخذت من ماله بغير علمه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك " أخرجاه في الصحيحين وقوله تعالى " ولا يزنين " كقوله تعالى " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " وفي حديث سمرة ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الاليم في نار الجحيم وقال الامام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها " أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين " الآية قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها فقال عائشة أقري أيتها المرأة فوالله ما بايعنا إلا على هذا قالت فنعم إذا فبايعها بالآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الاشج حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال ولا تقتلن أولادكن فقالت امرأة تقتل آباءهم وتوصي بأولادهم ؟ قال وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهم فإذا أقررن رجعن وقوله تعالى " ولا يقتلن أولادهن " وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الاملاق ويعم قتله وهو جنين كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه. وقوله تعالى " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهم وأرجلهن " قال ابن عباس يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب حدثنا عمرو يعني ابن الحارث عن ابن الهاد عن عبد الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ ولن يدخلها الله الجنة وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رءوس الاولين والآخرين " وقوله تعالى " ولا يعصينك في معروف " يعني فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال البخاري حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال سمعت الزبير عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " ولا يعصينك في معروف " قال إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وقال ميمون بن مهران لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف والمعروف طاعة وقال ابن زيد أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره من ابن عباس وأنس بن مالك وسالم بن أبي الجعد وأبي صالح وغير واحد نهاهن يومئذ عن النوح وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضا. وقال ابن جرير حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن النياحة ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرما فقال عبد الرحمن بن عوف يا رسول الله إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس أولئك عنيت ليس أولئك عنيت " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أخبرنا ابن أبي زائدة حدثني مبارك عن الحسن قال كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه. وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن ابن سيرين عن أم عطية الانصارية قالت كان فيما اشترط علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح فقالت امرأة من بني فلان إن بني فلان أسعدوني فلا حتى أجزيهم فانطلقت فأسعدتهم ثم جاءت فبايعت قالت فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنس بن مالك وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الانصارية رضي الله عنها وقد روي نحوه من وجه آخر أيضا قال: حدثنا ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا عمرو بن فروخ القتات حدثني مصعب بن نوح الانصاري قال: أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فأتيته لابايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن لا تنحن فقالت عجوز يا رسول الله إن أناسا قد كانوا
[ 380 ]
أسعدوني على مصائب أصابتني وأنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أسعدهم قال " فانطلقي فكافئيهم " فانطلقت فكافأتهم. ثم إنها أتته فبايعته وقال هو المعروف الذي قال الله عز وجل " ولا يعصينك في معروف " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا الضبي حدثنا الحجاج بن صفوان عن أسيد بن أبي أسيد البزار عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجها ولا ننشر شعرا ولا نشق جيبا ولا ندعو ويلا وقال ابن جرير حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب حدثني إسماعيل بن عبد الرحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الانصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام على الباب وسلم علينا فرددن أو فرددنا عليه السلام ثم قال أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن قالت فقلنا مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله فقال تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين قالت فقلنا نعم قالت فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد قالت وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا ونهانا عن اتباع الجنائز قال إسماعيل فسألت جدتي عن قوله تعالى " ولا يعصينك في معروف " قالت النياحة. وفي الصحيحين من طريق الاعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الاشعري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الاحساب والطعن في الانساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت - وقال - النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " ورواه مسلم في صحيحه منفردا به من حديث أبان بن يزيد العطار به وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة رواه أبو داود. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن يزيد مولى الصهباء عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " ولا يعصينك في معروف " قال " النوح " ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد عن أبي نعيم وابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولى الصهباء به وقال الترمذي حسن غريب. يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور (13) ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والابعاد فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة أي ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل. وقوله تعالى " كما يئس الكفار من أصحاب القبور " فيه قولان أحدهما كما يئس الكفار الاحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك لانهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه. قال العوفي عن ابن عباس " يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم " إلى آخر السورة يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الاحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عز وجل وقال الحسن البصري " كما يئس الكفار من أصحاب القبور " قال الكفار الاحياء قد يئسوا من الاموات وقال قتادة كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا وكذا قال الضحاك رواهن ابن جرير
[ 381 ]
والقول الثاني معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير قال الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود " كما يئس الكفار من أصحاب القبور " قال كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكلبي ومنصور وهو اختيار ابن جرير رحمه الله. آخر تفسير سورة الممتحنة ولله الحمد والمنة. سورة الصف قال الامام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعن عطاء بن يسار عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله أي الاعمال أحب إلى الله فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها هكذا رواه الامام أحمد وقال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن الوليد بن مرثد البيروتي قراءة قال أخبرني أبي سمعت الاوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني عبد الله بن سلام أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الاعمال إلى الله عز وجل فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم هذه السورة " سبح لله " الصف قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها قال أبو سلمة وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها قال الاوزاعي وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها قال أبي وقرأها علينا الاوزاعي كلها وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي حدثنا محمد بن كثير عن الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الاعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه فأنزل الله تعالى " سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم * يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون " قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سلمة فقرأها علينا ابن سلام قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة قال ابن كثير فقرأها علينا الاوزاعي قال عبد الله فقرأها علينا ابن كثير ثم قال الترمذي وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الاوزاعي فروى ابن المبارك عن الاوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونه عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام أو عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قلت وهكذا رواه الامام أحمد عن معمر عن ابن المبارك به قال الترمذي وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الاوزاعي نحو رواية محمد بن كثير قلت وكذا رواه الوليد بن يزيد عن الاوزاعي كما رواه ابن كثير. قلت وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبوالمنجا عبد الله بن عمر بن اللتي أخبرنا أبو الوقت عبد الاول بن عيسى بن شعيب السجزي قال أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي أخبرنا عيسى بن عمر بن عمران السمرقندى. أخبرنا الامام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الاوزاعي فذكر بإسناده مثله وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ولم يقرأها لانه كان أميا وضاق الوقت عن تلقينها إياه ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان رحمه الله الذهبي أخبرنا القاضي تقي الدين بن سليمان بن الشيخ أبي عمرو أخبرنا أبوالمنجا بن اللتي فذكره بإسناده وتسلسل لي من طريقه وقرأها علي بكمالها ولله الحمد والمنة.
[ 382 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم (1) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (4) قد تقدم الكلام على قوله تعالى (سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم) غير مرة بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف. وإذا حدث كذب. وإذا أؤتمن خان ". وفي الحديث الآخر في الصحيح " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها " فذكر منهن إخلاف الوعد وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولهذا أكد الله تعالى هذا الانكار عليهم بقوله تعالى " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ". وقد روى الامام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبي فذهبت لاخرج لالعب فقالت أمي يا عبد الله تعالى أعطيك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما أردت أن تعطيه ؟ " قالت تمرا فقال " أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة " وذهب الامام مالك رحمه الله إلى أنه إذا تعلق بالوعد عزم على الموعود وجب الوفاء به كما لو قال لغيره تزوج ولك علي كل يوم كذا فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك لانه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقال تعالى " ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت " الآية وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " قال كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الاعمال إليه فنعمل به فأخبر الله نبيه أن أحب الاعمال إيمان به لا شك فيه وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الايمان ولم يقروا به فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " وهذا اختيار ابن جرير. وقال مقاتل بن حيان قال المؤمنون لو نعلم أحب الاعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله على أحب الاعمال إليه فقال " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا " فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين فأنزل الله في ذلك " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " وقال: أحبكم إلي من قاتل في سبيلي ومنهم من يقول أنزلت في شأن القتال يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر. وقال قتادة والضحاك نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون قتلنا ضربنا طعنا وفعلنا ولم يكونوا فعلوا ذلك وقال ابن زيد نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك وقال
[ 383 ]
مالك عن زيد بن أسلم " لم تقولون ما لا تقعلون " قال الجهاد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " لم تقولون ما لا تفعلون - إلى قوله - كأنهم بنيان مرصوص " فما بين ذلك في نفر من الانصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لو نعلم أي الاعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت فأنزل الله تعالى هذا فيهم فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت فقتل شهيدا وقال ابن أبى حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن أبي حرب بن أبي الاسود الديلي عن أبيه قال بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه منهم ثلثمائة رجل كلهم قد قرأ القرآن فقال أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم وقال كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بأحدى المسبحات فأنسيناها غير أني قد حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون " فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ولهذا قال تعالى " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عباده المؤمنين إذا صفوا مواجهين لاعداء الله في حومة الوغى يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الاديان. وقال الامام أحمد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا هشيم قال مجاهد أخبرنا مجالد عن أبى الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يضحك الله إليهم: الرجل يقوم من الليل والقوم إذا صفوا للصلاة والقوم إذا صفوا للقتال " ورواه ابن ماجه من حديث مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف به وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا الاسود يعني ابن شيبان حدثني يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك فقال لله أبوك فقد لقيت فهات فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة قال أجل فلا إخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم قلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل ؟ قال رجل غزا في سبيل الله خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " وذكر الحديث هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق وهذا اللفظ واختصره. وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر بأبسط من هذا السياق وأتم وقد أوردناه في موضع آخر ولله الحمد. وعن كعب الاحبار أنه قال: يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الاسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر. مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه الشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يوضون أطرافهم ويأتزرون على أنصافهم صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة ثم قرأ " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " رعاة الشمس يصلون الصلاة حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة. رواه ابن أبى حاتم. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال وقوله تعالى " كأنهم بنيان مرصوص " أي ملتصق بعضه ببعض من الصف في القتال. وقال مقاتل بن حيان ملتصق بعضه ببعض وقال ابن عباس " كأنهم بنيان مرصوص " مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض. وقال قتادة " كأنهم بنيان مرصوص ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه ؟ فكذلك الله عز وجل لا يحب أن يختلف أمره وأن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم. فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به. أورد ذلك كله ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن يحيى بن جابر الطائي عن أبي بحرية ; قال كانوا يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الارض
[ 384 ]
لقول الله عز وجل " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص " قال وكان أبو بحرية يقول: إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجؤا في لحيي. وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدى القوم الفاسقين (5) وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين (6) يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه " لم تؤذونني وقد تعلمون أنى رسول الله إليكم " أي لم توصلون الاذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم وأمر له بالصبر ولهذا قال " رحمة الله على موسى: لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها " وقوله تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون " وقال تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " ولهذا قال تعالى في هذه الآية " والله لا يهدي القوم الفاسقين. وقوله تعالى " وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " يعني التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الامي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه السلام وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل وقد قام في ملا بني إسرائيل مبشرا بمحمد وهو أحمد خاتم الانبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الذي قال فيه حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري قال أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه. وقال أبو داود الطيالسي حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال سمى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال " أنا محمد وأنا أحمد والحاشر والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة " ورواه مسلم من حديث الاعمش عن عمرو بن مرة به وقد قال الله تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل " الآية وقال تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه. وقال محمد بن إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " وهذا إسناد جيد وروي له شواهد من وجوه أخر فقال الامام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الاعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية
[ 385 ]
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنى عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين " وقال أحمد أيضا حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج بن فضالة حدثنا لقمان بن عامر قال سمعت أبا أمامة قال: قلت يارسول الله ما كان بدء أمرك ؟ قال " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام ". وقال أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن رواحة وعثمان بن مظعون وأبو موسى فأتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا قال فأين هم ؟ قالا هم في أرضك فابعث إليهم فقال إليهم فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه فسلم ولم يسجد فقالوا له مالك لا تسجد للملك ؟ قال إنا لا نسجد إلا لله عز وجل قال وما ذاك ؟ قال إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا أن لا نسجد لاحد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة قال عمرو بن العاص: فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم قال ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟ قال: نقول كما قال الله عز وجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعترضها ولد قال فرفع عودا من الارض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الانجيل وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم والله لو لا ما أنا فيه من الملك لاتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له حين بلغه موته وقد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما وموضع ذلك كتاب السيرة. والمقصد أن الانبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث وكان ما اشتهر الامر في أهل الارض على لسان إبراهيم الخليل والد الانبياء بعده حين دعا لاهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم وكذا على لسان عيسى ابن مريم ولهذا قالوا أخبرنا عن بدء أمرك يعني في الارض قال " دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورؤيا أمي التي رأت " أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك والارهاص فذكره صلوات الله وسلامه عليه. وقوله تعالى " فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " قال ابن جريج وابن جرير " فلما جاءهم " أحمد أي المبشر به في الاعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون " هذا سحر مبين ". ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام والله لا يهدي القوم الظالمين (7) يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (8) هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (9) يقول تعالى " ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الاسلام " أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والاخلاص ولهذا قال تعالى " والله لا يهدي القوم الظالمين " ثم قال تعالى " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم " أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه وكما أن هذا مستحيل كذاك ذلك مستحيل ولهذا قال الله
[ 386 ]
تعالى " والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم (10) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (11) يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم (12) وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13) تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الاعمال إلى الله عز وجل ليفعلوه فأنزل الله تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " ثم فسر هذه التجارة العظيمة التي لا تبور والتي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى " تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها ثم قال تعالى " يغفر لكم ذنوبكم " أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ولهذا قال تعالى " ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ". ثم قال تعالى " وأخرى تحبونها " أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي " نصر من الله وفتح قريب " أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل الله بنصركم قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم " وقال تعالى " ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز " وقوله تعالى " وفتح قريب " أي عاجل فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الله ودينه ولهذا قال تعالى " وبشر المؤمنين ". يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فأمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين (14) يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال " من أنصاري إلى الله " أي معيني في الدعوة إلى الله عز وجل ؟ " قال الحواريون " وهم أتباع عيسى عليه السلام " نحن أنصار الله " أي نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك ولهذا بعثهم دعاة إلى الناس في بلاد الشام في الاسرائيليين واليونانيين وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج " من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي ؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي " حتى قيض الله عز وجل له الاوس والخزرج من أهل المدينة فبايعوه ووازروه وشارطوه أن يمنعوه من الاسود والاحمر إن هو هاجر إليهم فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وفوا له بما عاهدوا الله عليه ولهذا سماهم الله ورسوله الانصار وصار ذلك علما عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم
[ 387 ]
وقوله تعالى " فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " أي لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه ووازره من وازره من الحواريين اهتدت طائفة من بني إسرئيل بما جاءهم به وضلت طائفة فخرجت عما جاءهم به وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقا وشيعا فمن قائل منهم إنه ابن الله. وقائل إنه ثالث ثلاثة: الاب والابن وروح القدس ومن قائل إنه الله وكل هذه الاقوال مفصلة في سورة النساء. وقوله تعالى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم " أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى " فأصبحوا ظاهرين " أي عليهم وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الامام أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثني أبو السائب حدثنا أبو معاوية عن الاعمش عن المنهال يعني ابن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد الله عز وجل أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال " إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي قال ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي " قال فقام شاب من أحدثهم سنا فقال أنا فقال له " اجلس " ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا. فقال له " اجلس " ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا فقال " نعم أنت ذاك " قال فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى عليه السلام من روزنة في البيت إلى السماء قال وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه وكفر به بعضهم أثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به فتفرقوا فيه ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم " فآمنت طائفة من إسرائيل وكفرت طائقة " يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى والطائفة التي آمنت في زمن عيسى " فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار. هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه عن أبي كريب عن محمد بن العلاء عن أبى معاوية بمثله سواء فأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام كما وردت بذلك الاحاديث الصحاح والله أعلم. آخر تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة. سورة الجمعة عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين. رواه مسلم في صحيحه. بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السموات وما في الارض الملك القدوس العزيز الحكيم (1) هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (2) وآخرين منهم لما يلحقوا
[ 388 ]
بهم وهو العزيز الحكيم (3) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (4) يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الارض أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها كما قال تعالى " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " ثم قال تعالى " الملك القدوس " أي هو مالك السموات والارض المتصرف فيها بحكمه وهو المقدس أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال " العزيز الحكيم " تقدم تفسيرها غير مرة. وقوله تعالى " هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم " الاميون هم العرب كما قال تعالى " وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " وتخصيص الاميين بالذكر لا ينفي من عداهم ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر كما قال تعالى في قوله " وإنه لذكر لك ولقومك " وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به وكذا قال تعالى " وأنذر عشيرتك الاقربين " وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وقوله " لانذركم به ومن بلغ " وقوله تعالى إخبارا عن القرآن " ومن يكفر به من الاحزاب فالنار موعده " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الانعام بالآيات والاحاديث الصحيحة ولله الحمد والمنة وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم حين دعا لاهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل وقد اشتدت الحاجة إليه وقد مقت الله أهل الارض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب أي نزرا يسيرا ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ولهذا قال تعالى " هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم وفاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الاصول والفروع وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله وأعطاه ما لم يعط أحدا من الاولين ولا يعطيه أحدا من الآخرين فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وقوله تعالى " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم " قال الامام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " قالوا من هم يا رسول الله ؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال " لو كان الايمان عند الثريا لناله رجال أو رجل من هؤلاء " ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق عن ثور بن يزيد الديلي عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة به ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس لانه فسر قوله تعالى " وآخرين منهم " بفارس. ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الامم يدعوهم إلى الله عز وجل وإلى اتباع ما جاء به ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " قال هم الاعاجم وكل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
[ 389 ]
إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب " ثم قرأ " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم " يعني بقية من بقي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وهو العزيز الحكيم " أي ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره. وقوله تعالى (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) يعني ما أعطاه الله محمدا صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته صلى الله عليه وسلم إليهم. مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين (5) قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (6) ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (7) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (8) يقول تعالى ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا أي كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه حفظوه لفظا ولم يتفهموه. ولا عملوا بمقتضاه بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالا من الحمير لان الحمار لا فهم له وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ولهذا قال تعالى في الآية الاخرى " أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " وقال تعالى ههنا " بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين ". وقال الامام أحمد رحمه الله حدثنا ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة " ثم قال تعالى (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) أي إن كنتم تزعمون أنكم على هدى وأن محمدا وأصحابه على ضلالة فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين أي فيما تزعمونه قال الله تعالى (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) أي بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور " والله عليم بالظالمين " وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود حيث قال تعالى " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعلمون " وقد أسلفنا الكلام هناك وبينا أن المراد أن يدعو على الضلال من أنفسهم أو خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " ومباهلة المشركين في سورة مريم " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ". وقد قال الامام أحمد حدثنا إسماعيل بن يزيد الزرقي حدثنا أبو يزيد حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم قال البخاري وتبعه
[ 390 ]
عمرو بن خالد عن عبيدالله بن عمرو عن عبد الكريم ورواه النسائي أيضا عن عبد الرحمن بن عبد الله الحلبي عن عبيدالله بن عمرو الرقي به أتم. وقوله تعالى " قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " كقوله تعالى في سورة النساء " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وفي معجم الطبراني من حديث معاذ محمد بن محمد الهدلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعا " مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الارض بدين فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره فقالت له الارض يا ثعلب ديني فخرج له حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات ". يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (9) فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (10) إنما سميت الجمعة جمعة لانها مشتقة من الجمع فإن أهل الاسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والارض وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل فيها الله خيرا إلا أعطاه إياه كما ثبتت بذلك الاحاديث الصحاح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي حدثنا سلمان قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " يا سلمان ما يوم الجمعة ؟ " قلت الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم - أو أبوكم " وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة وثبت أن الامم قبلنا أمروا به فضلوا عنه واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم واختار النصارى يوم الاحد الذي ابتدئ فيه الخلق واختار الله لهذه الامة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد " لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الاحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والاحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والاولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق " وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن " وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها " فامضوا إلى ذكر الله " فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا سمعتم الاقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال " ما شأنكم " قالوا استعجلنا إلى الصلاة قال " فلا تفعلوا ! إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " أخرجاه وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
[ 391 ]
أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا " رواه الترمذي من حديث عبد الرزاق كذلك وأخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله قال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله " فاسعوا إلى ذكر الله " يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشى إليها وكان يتأول قوله تعالى " فلما بلغ معه السعي " أي المشي معه وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك. ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يغسل رأسه وجسده " رواه مسلم وعن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة " رواه أحمد والنسائي وابن حبان. وقال الامام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن الاوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الاشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها " وهذا الحديث له طرق وألفاظ وقد أخرجه أهل السنن الاربعة وحسنه الترمذي وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الاولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الامام حضرت الملائكة يستمعون الذكر " أخرجاه. ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر في حديث أبي سعيد المتقدم " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من طيب أهله ". وقال الامام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن عمران بن أبي يحيى عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب الانصاري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بداله ولم يؤذ أحدا ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الاخرى ". وفي سنن أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر " ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته " وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار فقال " ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته " رواه ابن ماجه. وقوله تعالى " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه فهذا هو المراد فأما النداء الاول الذى زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمه الله حيث قال: حدثنا آدم هو ابن أبي إياس حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الامام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء يعني يؤذن به على الدار التي تسمى الزوراء وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم حدثنا محمد بن راشد المكحول عن مكحول أن النداء كان في الجمعة مؤذن واحد حين يخرج الامام ثم تقام الصلاة وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادي قبل
[ 392 ]
خروج الامام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الاحرار دون العبيد والنساء والصبيان ويعذر المسافر. والمريض وقيم المريض وما أشبه ذلك من الاعذار كما هو مقرر في كتب الفروع وقوله تعالى " وذروا البيع " أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا ؟ على قولين وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه والله أعلم. وقوله تعالى " ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم أي في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون. وقوله تعالى " فإذا قضيت الصلاة " أي فرغ منها " فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله " لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الارض والابتغاء من فضل الله كما كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين رواه ابن أبي حاتم. وروي عن بعض السلف أنه قال: من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله ". وقوله تعالى " واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " أي حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرا كثيرا ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ولهذا جاء في الحديث " من دخل سوقا من الاسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة ". وقال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا. وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين (11) يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما " أي على المنبر تخطب هكذا ذكره غير واحد من التابعين منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة وزعم مقاتل بن حيان أن التجارة كانت لدحيه بن خليفة قبل أن يسلم وكان معها طبل فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر إلا القليل منهم وقد صح بذلك الخبر فقال الامام أحمد حدثنا ابن إدريس عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن جابر قال: قدمت غير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها " أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به. وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا هشيم عن حصين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا " ونزلت هذه الآية " وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما " وقال كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وفي قوله تعالى " تركوك قائما " دليل على أن الامام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس ولكن ههنا شئ ينبغي أن يعلم هو: إن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل حدثنا محمود بن خالد عن الوليد أخبرني أبو معاذ بكير ابن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى إذا
[ 393 ]
كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة يعني فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير وقوله تعالى " قل ما عند الله " أي الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة " خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين " أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. آخر تفسير سورة الجمعة ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة المنافقون بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2) ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (3) * وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون (4) يقول تعالى مخبرا عن المنافقين أنهم إنما يتفوهون بالاسلام إذا جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فأما في باطن الامر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك ولهذا قال تعالى " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك وأظهروا لك ذلك وليس كما يقولون ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال " والله يعلم إنك لرسوله ". ثم قال تعالى " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " أي فيما أخبروا به وإن كان مطابقا للخارج لانهم لم يكونوا يعتقدوا صحة ما يقولون ولا صدقه ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم. وقوله تعالى " اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله " أي اتقوا الناس بالايمان الكاذبة والحلفان الآثمة ليصدقوا فيما يقولون فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم فاعتقدوا أنهم مسلمون فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الاسلام وأهله خبالا فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ولهذا قال تعالى " فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون " ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرؤها " اتخذوا إيمانهم جنة " أي تصديقهم الظاهر جنة أي تقية يتقون به القتل والجمهور يقرؤها " أيمانهم " جمع يمين وقوله تعالى " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الايمان إلى الكفران واستبدالهم الضلالة بالهدى " فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي. وقوله تعالى " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " أي وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن ولهذا قال تعالى " يحسبون كل صيحة عليهم " أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم كما قال تعالى " أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا " فهم جهامات وصور بلا معاني ولهذا قال تعالى " هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون "
[ 394 ]
أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلالة وقد قال الامام أحمد حدثنا يزيد حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن إسحاق بن بكير أبي الفرات عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن للمنافقين علامات يعرفون بها: تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجرا ولا يأتون الصلاة إلا دبرا مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون خشب بالليل صخب بالنهار " وقال يزيد بن مرة: سخب بالنهار. وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون (5) سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين (6) هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون (7) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون (8) يقول تعالى مخبرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم " إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك واحتقارا لما قيل لهم ولهذا قال تعالى " ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون " ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " كما قال في سورة براءة وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الاحاديث المروية هناك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان " لووا رؤوسهم " قال ابن أبي عمر حول سفيان وجهه على يمينه ونظر بعينه شذرا ثم قال هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي بن سلول كما سنورده قريبا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان. وقد قال محمد بن إسحق في السيرة ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يعني مرجعه من أحد وكان عبد الله بن أبي بن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة لا ينكر شرفا له من نفسه ومن قومه وكان فيهم شريفا إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس قام يفعل ذلك كما كان يفعله فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا اجلس أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بجرا أأن قمت أشدد أمره فلقيه رجال من الانصار بباب المسجد فقالوا ويلك مالك ؟ قال قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرا أأن قمت أشدد أمره قالوا ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والله ما أبتغي أن يستغفر لي. وقال قتادة والسدي أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بحديث عنه وأمر شديد فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك وأقبلت الانصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وأنزل الله فيه ما تسمعون وقيل لعدو الله لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يلوي رأسه أي لست فاعلا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن
[ 395 ]
سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله ابن أبي بن سلول قال ليخرجن الاعز منها الاذل فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار وقيل لعبدالله بن أبي ائت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك فأنزل الله تعالى " إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم " وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير وقوله إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد فإن عبد الله بن أبي بن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك بل رجع بطائفة من الجيش وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك كان في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق حدثني محمد بن يحي بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري وكان أجيرا لعمر بن الخطاب وسنان بن يزيد قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال ازدحما على الماء فاقتتلا فقال سنان يا معشر الانصار وقال الجهجاه يا معشر المهاجرين وزيد بن أرقم ونفر من الانصار عند عبد الله بن أبي فلما سمعها قال قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ثم أقبل على من عنده من قومه وقال هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم في بلادكم إلى غيرها فسمعها زيد ابن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخبره الخبر فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه ؟ لا ولكن ناد يا عمر الرحيل " فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فاعتذر إليه وحلف بالله ما قال ما قال عليه زيد بن أرقم وكان عند قومه بمكان فقالوا يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي ؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الاعز منها الاذل " قال فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل ثم قال ارفق به يا رسول الله فوالله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوجه فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الارض فناموا ونزلت سورة المنافقين. وقال الحافظ أبو بكر البيهقى أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمر بن دينار سمعت جابر بن عبد الله يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الانصار فقال الانصاري يا للانصار وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بال دعوى الجاهلية ؟ دعوها فإنها منتنة " وقال عبد الله بن أبي بن سلول وقد فعلوها: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل قال جابر وكان الانصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " ورواه الامام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه. وقال الامام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن محمد بن كعب القرظى عن زيد بن أرقم قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شئ من ذلك قال فلامني قومي وقالوا ما أردت إلى هذا ؟ قال فانطلقت فنمت كئيبا حزينا قال فأرسل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن الله قد أنزل عذرك وصدقك " قال فنزلت هذه الآية " هم
[ 396 ]
الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - حتى بلغ - لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل " ورواه البخاري عند هذه الآية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة ثم قال وقال ابن أبي زائدة عن الاعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة به. " طريق أخرى عن زيد " قال الامام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال سمعت زيد بن أرقم وقال أبو بكير عن زيد بن أرقم قال خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول لاصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل فذكرت ذلك لعمي فذكره عمى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته فأرسل إلى عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط وجلست في البيت فقال عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك ؟ قال حتى أنزل الله " إذا جاءك المنافقون " قال فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثم قال " إن الله قد صدقك " ثم قال أحمد أيضا حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدة وقال عبد الله بن أبي لاصحابه لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا: كذب زيد يا رسول الله فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي " إذا جاءك المنافقون " قال ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم. وقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) قال كانوا رجالا أجمل شئ، وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به " طريق أخرى عن زيد " قال أبو عيسى الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدى عن أبي سعيد الازدي قال حدثنا زيد بن أرقم قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان معنا أناس من الاعراب فكنا نبتدر الماء وكان الاعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملا الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجئ أصحابه قال فأتى رجل من الانصار الاعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا فغاض الماء فرفع الاعرابي خشبته فضرب بها رأس الانصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الاعراب وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام فقال عبد الله لاصحابه إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن معه ثم قال لاصحابه لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الاعز منها الاذل قال زيد وأنا ردف عمي قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد قال فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبني قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك المسلمون ؟ قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وقد خفقت برأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ثم إن أبا بكر لحقني وقال ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لابي بكر فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين. انفرد بإخراجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن عبيدالله بن موسى به وزاد بعد قوله سورة المنافقين " إذا جاءك المنافقون قالوا فشهد إنك لرسول الله - حتى بلغ - هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - حتى بلغ - ليخرجن الاعز منها الاذل ".
[ 397 ]
وقد ورى عبد الله بن لهيعة عن أبي الاسود عروة بن الزبير في المغازي وكذا ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ولكن جعلا الذي بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عبد الله بن أبي بن سلول إنما هو أوس بن أقرم من بني الحارث بن الخزرج فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم. وقد قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد عزيز الايلي حدثنا سلام حدثني عقيل أخبرت محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الانصاري أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة المريسيع وهي التي هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز وهم حلفاء الانصار فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي يا معشر الانصار فنصره رجال من الانصار وقال المهاجري يا معشر المهاجرين فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الانصار شئ من القتال ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي بن سلول فقال قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث الهجرة الجلابيب فقال عبد الله بن أبي عدو الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. قال مالك بن الدخشن وكان من المنافقين ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ؟ فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه يريد عمر عبد الله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله ؟ " فقال عمر نعم والله لئن أمرتني بقتله لاضربن عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجلس " فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الانصار ثم أحد بني عبد الاشهل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو قاتله أنت إن امرتك بقتله ؟ " قال نعم والله لئن أمرتني بقتله لاضربن بالسيف تحت قرط أذنيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجلس " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آذنوا بالرحيل " فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله ؟ " فقال عمر نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لو قتلته يومئذ لارغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله لقتلوه فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرا " وأنزل الله عز وجل " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا - إلى قوله تعالى - يقولون لئن رجعنا إلى المدينة " الآية وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه وقال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمسي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا " وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه وراءك فقال مالك ويلك ؟ فقال والله لا تجوز من ههنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه فقال ابنه عبد الله والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا أبو هارون المدني قال: قال عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول لابيه والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الاعز وأنا الاذل قال وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
[ 398 ]
فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فوالذي بعثك بالحق ما تأملت وجهه قط هيبة له لئن شئت أن آتيك برأسه لاتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي. يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون (9) وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين (10) ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون (11) يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره وناهيا لهم عن أن تشغلهم الاموال والاولاد عن ذلك ومخبرا لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره فإنه من الخاسرين الذي يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ثم حثهم على الانفاق في طاعته فقال " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين " فكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات كان ما كان وأتى ما هو آت وكل بحسب تفريطه أما الكفار فكما قال تعالى " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال " وقال تعالى " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ". ثم قال تعالى " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعلمون " أي لا ينظر أحدا بعد حلول أجله وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه ولهذا قال تعالى " والله خبير بما تعملون ". وقال أبو عيسى الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا جعفر بن عون حدثنا أبو جناب الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت فقال رجل يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال سأتلوا عليك بذلك قرآنا " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين - إلى قوله - والله خبير بما تعملون " قال فما يوجب الذكاة ؟ قال إذا بلغ المال مائتين فصاعدا قال فما يوجب الحج ؟ قال الزاد والبعير. ثم قال حدثنا عبد بن حميد حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن أبي حية وهو أبو جناب الكلبي عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح وضعف أبو جناب الكلبي " قلت " ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة الجهني عن عمه يعني أبا مشجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال " إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه دعاؤهم في قبره ". آخر تفسير سورة المنافقين ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة. سورة التغابن قال الطبراني حدثنا محمد بن محمد بن بكار الدمشقي حدثنا العباس بن الوليد الخلال حدثنا الوليد بن الوليد
[ 399 ]
حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود ولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن " أورده ابن عساكر في ترجمة الوليد بن صالح وهو غريب جدا بل منكر. بسم الله الرحمن الرحيم يسبح لله ما في السموات وما في الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السموات والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3) يعلم ما في السموات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور (4) هذه السورة هي آخر المسبحات وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها ولهذا قال تعالى " له الملك وله الحمد " أي هو المتصرف في جميع الكائنات المحمود على جميع ما يخلق ويقدر وقوله تعالى " وهو على كل شئ قدير " أي مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع وما لم يشأ لم يكن وقوله تعالى " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " أي هو الخالق لكم على هذه الصفة وأراد منكم ذلك فلا بد من وجود مؤمن وكافر وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال وهو شهيد على أعمال عباده وسيجزيهم بها أتم الجزاء ولهذا قال تعالى " والله بما تعملون بصير " ثم قال تعالى " خلق السموات والارض بالحق " أي بالعدل والحكمة " وصوركم فأحسن صوركم " أي أحسن أشكالكم كقوله تعالى " يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك " وكقوله تعالى " الله الذي جعل لكم الارض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات " الآية وقوله تعالى " وإليه المصير " أي المرجع والمآب ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والارضية والنفسية فقال تعالى " يعلم ما في السموات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ". ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم (5) ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد (9) يقول تعالى مخبرا عن الامم الماضين وما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق فقال تعالى " ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل " أي خبرهم وما كان من أمرهم " فذاقوا وبال أمرهم " أي وخيم تكذيبهم وردئ أفعالهم وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي " ولهم عذاب أليم " أي في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي ثم علل ذلك فقال " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات " أي بالحجج والدلائل والبراهين " فقالوا أبشر يهدوننا " أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم " فكفروا وتولوا " أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل " واستغنى الله " أي عنهم " والله غني حميد ".
[ 400 ]
زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8) يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (9) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير (10) يقول تعالى مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون " قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم " أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها " وذلك على الله يسير " أي بعثكم ومجازاتكم وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده فالاولى في سورة يونس " ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي إنه الحق وما أنتم بمعجزين " والثانية في سورة سبأ " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم " الآية والثالثة هي هذه " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ". ثم قال تعالى " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا " يعني القرآن " والله بما تعملون خبير " أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية وقوله تعالى " يوم يجمعكم ليوم الجمع " وهو يوم القيامة سمي بذلك لانه يجمع فيه الاولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر كما قال تعالى " ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود " وقال تعالى " قل إن الاولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " وقوله تعالى " ذلك يوم التغابن " قال ابن عباس هو اسم من أسماء يوم القيامة وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار وكذا قال قتادة ومجاهد وقال مقاتل بن حيان لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ويذهب بأولئك إلى النار قلت وقد فسر ذلك بقوله تعالى " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير " وقد تقدم تفسير مثل هذه غير مرة. ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم (11) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين (12) الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13) يقول تعالى مخبرا بما أخبر به في سورة الحديد " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " وهكذا قال ههنا " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " قال ابن عباس بأمر الله يعني عن قدره ومشيئته " ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم " أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبه وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " يعني يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال الاعمش عن أبي ظبيان قال كنا عند علقمة فقرئ عنده هذه الآية " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " فسئل عن
[ 401 ]
ذلك فقال هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما وقال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " يعني يسترجع يقول " إنا لله وإنا إليه راجعون " وفي الحديث المتفق عليه " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن " وقال أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح أنه سمع جنادة بن أبي أمية يقول سمعت عباده بن الصامت يقول إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أي العمل أفضل ؟ قال " إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيل الله " قال أريد أهون من هذا يا رسول الله ؟ قال " لا تتهم الله في شئ قضى لك به " لم يخرجوه. وقوله تعالى " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول " أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع وفعل ما به أمر وترك ما عنه نهى وزجر. ثم قال تعالى " فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين " أي إن نكلتم عن العمل فإنما عليه ما حمل من البلاغ وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة. قال الزهري من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم. ثم قال تعالى مخبرا أنه الاحد الصمد الذي لا إله غيره فقال تعالى " الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون " فالاول خبر عن التوحيد ومعناه معنى الطلب أي وحدوا الالهية له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه كما قال تعالى " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ". يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفو وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15) فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم (18) يقول تعالى مخبرا عن الازواج والاولاد أن منهم من هو عدو الزوج والولد بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون " ولهذا قال تعالى ههنا " فاحذروهم " قال ابن زيد يعني على دينكم وقال مجاهد " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " قال يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف الصيدلاني حدثنا الفريابي حدثنا إسرائيل حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين فهموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآية " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " وكذا رواه الترمذي عن محمد بن يحيى عن الفريابي وهو محمد بن يوسف به وقال حسن صحيح ورواه ابن جرير والطبراني من حديث إسرائيل به وروى من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه وهكذا قال عكرمة مولاه سواء وقوله تعالى " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله
[ 402 ]
عنده أجر عظيم " يقول تعالى إنما الاموال والاولاد فتنة أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ليعلم من يطيعه ممن يعصيه وقوله تعالى " والله عنده " أي يوم القيامة " أجر عظيم " كما قال تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب " والتي بعدها وقال الامام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين بن واقد حدثني عبد الله بن بريدة سمعت أبا بريدة يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال " صدق الله ورسوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما ". ورواه أهل السنن من حديث حسين بن واقد به وقال الترمذي حسن غريب إنما نعرفه من حديثه وقال الامام أحمد حدثنا شريح بن النعمان حدثنا هشيم أخبرنا مجالد عن الشعبي حدثنا الاشعث بن قيس قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة فقال لي " هل لك من ولد ؟ " قلت غلام ولد لي في مخرجي إليك من ابنة حمد ولوددت أن بمكانه سبع القوم فقال " لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين وأجرا إذا قبضوا " ثم قال " ولئن قلت ذاك إنهم لمجبنة محزنة " تفرد به أحمد وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمود بن بكر حدثنا أبي عن عيسى عن ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد ثمرة القلوب وإنهم مجبنة محزنة " ثم قال لا نعرفه إلا بهذا الاسناد وقال الطبراني حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الاشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس عدوك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت الجنة ولكن الذي لعله عدو لك ولدك الذي خرج من صلبك ثم أعدى عدو لك مالك الذي ملكت يمينك ". وقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ". وقد قال بعض المفسرين كما رواه مالك عن زيد بن أسلم إن هذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ". قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء هو ابن دينار عن سعيد بن جبير في قوله " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " قال لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفا على المسلمين " فاتقوا الله ما استطعتم " فنسخت الآية الاولى وروي عن أبي العالية وزيد بن أسلم وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقوله تعالى " واسمعوا وأطيعوا " أي كونوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ولا تقدموا بين يدي الله ورسوله ولا تتخلفوا عما به أمرتم. ولا تركبوا ما عنه زجرتم وقوله تعالى " وأنفقوا خيرا لانفسكم " أي وابذلوا مما رزقكم الله على الاقارب والفقراء والمساكين وذوي الحاجات وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم يكن خيرا لكم في الدنيا والآخرة. وإن لا تفعلوا يكن شرا لكم في الدنيا والآخرة وقوله تعالى " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " تقدم تفسيره في سورة الحشر وذكر الاحاديث الواردة في معنى هذه الآية بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وقوله تعالى " إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم " أي مهما أنفقتم من شئ فهو يخلفه ومهما تصدقتم من شئ فعليه جزاؤه ونزل ذلك منزلة القرض له كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول: من يقرض غير ظلوم ولا عديم ولهذا قال تعالى يضاعفه لكم كما تقدم في سورة البقرة " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " " ويغفر لكم " أي ويكفر عنكم السيئات ولهذا قال تعالى " والله شكور " أي يجزي على القليل بالكثير " حليم " أي يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات
[ 403 ]
" عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم " تقدم تفسيره غير مرة. آخر تفسير سورة التغابن ولله الحمد والمنة. سورة الطلاق بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا (1) خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفا وتكريما ثم خاطب الامة تبعا فقال تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " وقال ابن أبي حاتم ثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري ثنا أسباط بن محمد عن سعيد عن قتادة عن أنس قال: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " فقيل له راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك ونسائك في الجنة ورواه ابن جرير عن ابن بشار عن عبد الاعلى عن سعيد عن قتادة فذكره مرسلا وقد ورد من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها وقال البخاري ثنا يحيى بن بكير ثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ثم قال " ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل " هكذا رواه البخاري ههنا وقد رواه في مواضع من كتابه ومسلم ولفظه " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة وموضع استقصائها كتب الاحكام وأمس لفظ يورد ههنا ما رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع: كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليراجعها - فردها وقال - إذا طهرت فليطلق أو يمسك " قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " وقال الاعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله في قوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " قال الطهر من غير جماع وروي عن ابن عمر وعطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين وقتادة وميمون بن مهران ومقاتل بن حيان مثل ذلك وهو رواية عن عكرمة والضحاك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " قال لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة. وقال عكرمة " فطلقوهن لعدتهن " العدة الطهر والقرء الحيضة أن يطلقها حبلى مستبينا حملها ولا يطلقها وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا. ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة فطلاق السنة أن يطلقها من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها والبدعة هو أن يطلقها في حال الحيض أو في طهر قد جامعها فيه ولا يدري أحملت أم لا وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى
[ 404 ]
" وأحصوا العدة " أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الازواج " واتقوا الله ربكم " أي في ذلك. وقوله تعالى " لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن " أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه فليس للرجل أن يخرجها ولا يجوز لها أيضا الخروج لانها معتقلة لحق الزوج أيضا. وقوله تعالى " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة فتخرج من المنزل والفاحشة المبينة تشمل الزنا كما قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو قلابة وأبو صالح والضحاك وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدي وسعيد بن أبي هلال وغيرهم وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال كما قاله أبي بن كعب وابن عباس وعكرمة وغيرهم وقوله تعالى " وتلك حدود الله " أي شرائعه ومحارمه " ومن يتعد حدود الله " أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها " فقد ظلم نفسه " أي بفعل ذلك. وقوله تعالى " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " أي إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها فيكون ذلك أيسر وأسهل. قال الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " قالت هي الرجعة وكذا قال الشعبي وعطاء وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والثوري ومن ههنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم كالامام أحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة وكذا المتوفى عنها زوجها واعتمدوا أيضا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات وكان غائبا عنها باليمن فأرسل إليها بذلك فأرسل إليها وكيله بشعير يعني نفقة فتسخطته فقال والله ليس لك علينا نفقة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ليس لك عليه نفقة " ولمسلم " ولا سكنى " وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ثم قال " تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك " الحديث. وقد رواه الامام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر فقال حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا مجالد ثنا عامر قال: قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية قالت فقال لي أخوه أخرجي من الدار فقلت إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الاجل قال لا قالت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن فلانا طلقني وأن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة فقال له " مالك ولابنة آل قيس ؟ " قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " انظري يا بنت آل قيس إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى اخرجي فانزلي على فلانة ثم قال إنه يتحدث إليها انزلي على ابن أم مكتوم فإنه أعمى لا يراك " وذكر تمام الحديث. وقال أبو القاسم الطبراني ثنا أحمد بن عبد الله البزار التستري ثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ثنا بكر بن بكار ثنا سعيد بن يزيد البجلي ثنا عامر الشعبي أنه دخل على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي فقالت إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى فقالوا ما أرسل إلينا في ذلك شيئا ولا أوصانا به فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي فسألت أولياءه السكنى والنفقة علي فقال أولياؤه لم يرسل إلينا في ذلك بشئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما السكنى والنفقة للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح غيره فلا نفقة لها ولا سكنى " وكذا رواه النسائي عن أحمد بن يحيى الصوفي عن أبى نعيم الفضل بن دكين عن سعيد بن يزيد وهو الاحمسي البجلي الكوفي قال أبو حاتم الرازي وهو شيخ يروى عنه. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم
[ 405 ]
يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا (3) يقول تعالى فإذا بلغت المعتدات أجلهن أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ولكن لم تفرغ العدة الكلية فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده " بمعروف " أي محسنا إليها في صحبتها وإما أن يعزم على مفارقتها بمعروف أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن وقوله تعالى " وأشهدوا ذوي عدل منكم " أي على الرجعة إذا عزمتم عليها كما رواه أبو داود وابن ماجه عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد وقال ابن جريج كان عطاء يقول " وأشهدوا ذوي عدل منكم " قال لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر. وقوله تعالى " ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " أي هذا الذي أمرناكم به من الاشهاد وإقامة الشهادة إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر وأنه شرع هذا ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة ومن ههنا ذهب الشافعي في أحد قوليه إلى وجوب الاشهاد في الرجعة كما يجب عنده في ابتداء النكاح وقد قال بهذا طائفة من العلماء ومن قال بهذا يقول إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الاشهاد عليها. وقوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " أي ومن يتق الله فيما أمره به وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب أي من جهة لا تخطر بباله قال الامام أحمد حدثنا يزيد أنا كهمس بن الحسن حدثنا أبو السليل عن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو علي هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " حتى فرغ من الآية ثم قال " يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " وقال فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ثم قال " يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة ؟ " قلت إلى السعة والدعة أنطلق فأكون حمامة من حمام مكة قال " كيف تصنع إذا خرجت من مكة ؟ " قال: قلت إلى السعة والدعة إلى الشام والارض المقدسة قال " وكيف تصنع إذا أخرجت من الشام ؟ قلت إذا والذي بعثك بالحق أضع سيفى على عاتقي قال " أو خير من ذلك " قلت أو خير من ذلك ؟ قال " تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا ". وقال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا علي بن عبيد ثنا ذكريا عن عامر عن شتير بن شكل قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول إن أجمع آية في القرآن " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " وإن أكبر آية في القرآن فرجا " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " وفي المسند حدثني مهدي بن جعفر ثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " يقول ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة " ويرزقه من حيث لا يحتسب " وقال الربيع بن خيثم " يجعل له مخرجا " أي من كل شئ ضاق على الناس وقال عكرمة من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا وكذا روى عن ابن عباس والضحاك وقال ابن مسعود ومسروق " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " يعلم أن الله إن شاء أعطى وإن شاء منع " من حيث لا يحتسب " أي من حيث لا يدري. وقال قتادة " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " أي من شبهات الامور والكرب عند الموت " ويرزقه من حيث لا يحتسب " من حيث يرجو ولا يأمل وقال السدي " ومن يتق الله " يطلق للسنة ويراجع للسنة وزعم
[ 406 ]
أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عوف بن مالك الاشجعي كان له ابن وأن المشركين أسروه فكان فيهم وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ويقول له " إن الله سيجعل لك فرجا " فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو فاستاقها فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم فنزلت فيه هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " رواه ابن جرير وروى أيضا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه وقال الامام أحمد ثنا وكيع ثنا سفيان عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر " ورواه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان وهو الثوري به. وقال محمد بن إسحاق جاء مالك الاشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أسرا بني عوف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله " وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها وأقبل فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم فاتبع أولها آخرها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فقال أبوه عوف ورب الكعبة فقالت أمه واسوأتاه وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد فاستبقا الباب والخادم فإذا عوف قد ملا الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الابل فقال أبوه قفا حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الابل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " اصنع بها ما أحببت وما كنت صانعا بمالك " ونزل " ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب " رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم ثنا علي بن الحسين ثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان ثنا إبراهيم بن الاشعث ثنا الفضيل بن عياض عن هشام بن الحسن عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها ". وقوله تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " قال الامام أحمد حدثنا يونس ثنا ليث ثنا قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن عبد الله بن عباس أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الامة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشئ كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف " وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد وابن لهيعة به وقال حسن صحيح وقال الامام أحمد حدثنا وكيع حدثنا بشير بن سلمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل " ثم رواه عن عبد الرزاق عن سفيان عن بشير عن سيار أبي حمزة ثم قال وهو الصواب وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق وقوله تعالى " إن الله بالغ أمره " أي منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه " قد جعل الله لكل شئ قدرا " كقوله تعالى " وكل شئ عنده بمقدار ". واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا (4) ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا (5) يقول تعالى مبينا لعدة الآيسة وهى التي قد انقطع عنها المحيض لكبرها أنها ثلاثة أشهر عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض كما دلت على ذلك آية البقرة وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ولهذا قال تعالى " واللائي لم يحضن " وقوله تعالى " إن ارتبتم " فيه قولان " أحدهما " وهو قول
[ 407 ]
طائفة من السلف كمجاهد والزهري وابن زيد أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضا أو استحاضه ورتبتم فيه " والقول الثاني " أن ارتبتم في حكم عدتهم ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهر وهذا مروي عن سعيد بن جبير وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في المعنى واحتج علم بما رواه عن أبي كريب وأبي السائب قالا ثنا ابن إدريس أنا مطرف عن عمرو بن سالم قال: قال أبي بن كعب يارسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب: الصغار والكبار وأولات الاحمال قال فأنزل الله عز وجل " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ". ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال: ثنا أبي ثنا يحيى بن المغيرة أنا جرير عن مطرف عن عمر بن سالم عن أبي بن كعب قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء ولم يذكرن في القرآن: الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهن الحيض وذوات الحمل قال فأنزلت التي في النساء القصرى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن " وقوله تعالى " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " يقول تعالى ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف كما هو نص هذه الآية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية وقد روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الاجلين من الوضع والاشهر عملا بهذه الآية والتي في سورة البقرة وقال البخاري ثنا سعيد بن حفص ثنا شيبان عن يحيى قال أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس فقال أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس آخر الاجلين قلت أنا " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " قال أبو هريرة أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها قالت: قتل زوج سبيعة الاسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو السنابل فيمن خطبها هكذا أورد البخاري هذا الحديث ههنا مختصرا وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر وقال الامام أحمد: ثنا حماد بن أسامة أنا هشام عن أبيه عن المسور بن مخرمة أن سبيعة الاسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت فلما تعلت من نفاسها خطبت فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح فأذن لها أن تنكح فنكحت. ورواه البخاري في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق عنها كما قال مسلم بن الحجاج حدثني أبو الطاهر أنا ابن وهب حدثني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني عبيدالله بن عبد الله بن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الارقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الاسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استفتته ؟ فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وكان ممن شهد بدرا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها مالي أراك متجملة ؟ لعلك ترجين النكاح إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي هذا لفظ مسلم ورواه البخاري مختصرا ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الاول عند هذه الآية: وقال أبو سليمان بن حرب وأبو النعمان ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد هو ابن سيرين قال كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الاجلين فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال فضمر لي بعض أصحابه وقال محمد ففطنت له فقلت له إني لجرئ أن كذب على عبد الله وهو في ناحية الكوفة قال فاستحيا وقال لكن عمه لم يقل ذلك فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته فذهب يحدثني بحديث سبيعة فقلت هل سمعت عن عبد الله فيها
[ 408 ]
شيئا ؟ فقال كنا عند عبد الله فقال أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ فنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ورواه ابن جرير من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية عن أيوب به مختصرا ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الاعلى عن خالد بن الحارث عن ابن عون عن محمد بن سيرين فذكره وقال ابن جرير: حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر حدثني ابن شبرمة الكوفي عن إبراهيم عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قال: من شاء لاعنته ما نزلت " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها قال: وإذا وضعت المتوفي عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفي عنها " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم به ثم قال ابن جرير: ثنا أحمد بن منيع ثنا محمد بن عبيد ثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: ذكر عند ابن مسعود آخر الاجلين فقال من شاء قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نزلت بعد الاربعة الاشهر والعشر ثم قال: أجل الحامل أن تضع ما في بطنها. وقال ابن أبي حاتم ثنا أحمد بن سنان الواسطي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الاعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال بلغ ابن مسعود أن عليا رضي الله عنه يقول آخر الاجلين فقال من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث أبي معاوية عن الاعمش. وقال عبد الله ابن الامام أحمد حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي أنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا المثنى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن أبي بن كعب قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " المطلقة ثلاث أو المتوفى عنها زوجها ؟ فقال: هي للمطلقة ثلاث وللمتوفى عنها. هذا حديث غريب جدا بل منكر لان في إسناده المثنى بن الصباح وهو متروك الحديث بمرة ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر فقال حدثنا محمد بن داود السماني ثنا عمرو بن خالد يعني الحراني ثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب أنه لما نزلت هذه الآية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدري أمشتركة أم مبهمة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أية آية " قال " أجلهن أن يضعن حملهن " المتوفى عنها والمطلقة ؟ قال: نعم وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن موسى بن داود عن ابن لهيعة به ثم رواه عن أبي كريب أيضا عن مالك بن إسماعيل عن ابن عيينة عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " قال: أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها عبد الكريم هذا ضعيف ولم يدرك أبيا وقوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا " أي يسهل له أمره وييسره عليه ويجعل له فرجا قريبا ومخرجا عاجلا ثم قال تعالى " ذلك أمر الله أنزله إليكم " أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " أي يذهب عنه المحذور ويجزل له الثواب على العمل اليسير. أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى (6) لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7) يقول تعالى آمرا عباده إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل حتى تنقضي عدتها فقال " أسكنوهن من حيث سكنتم " أي عندكم " من وجدكم " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني سعتكم حتى قال قتادة إن لم تجد
[ 409 ]
إلا جنب بيتك فأسكنها فيه وقوله تعالى " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " قال مقاتل بن حيان يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " قال يطلقها فإذا بقي يومان راجعها وقوله تعالى " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " قال كثير من العلماء منهم ابن عباس وطائفة من السلف وجماعات من الخلف هذه في البائن إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها قالوا بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملا أو حائلا وقال آخرون بل السياق كله في الرجعيات وإنما نص على الانفاق على الحامل وإن كانت رجعية لان الحمل تطول مدته غالبا فاحتيج إلى النص على وجوب الانفاق إلى الوضع لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة ثم اختلف العلماء هل النفقة لها بواسطة الحمل أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ويتفرع عليها مسائل كثيرة مذكورة في علم الفروع. وقوله تعالى " فإن أرضعن لكم " أي إذا وضعن حملهن وهن طوالق فقد بن بانقضاء عدتهن ولها حينئذ أن ترضع الولد ولها أن تمتنع منه ولكن بعد أن تغذيه باللبأ وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للمولود غالبا إلا به فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما ينفقان عليه من أجرة ولهذا قال تعالى " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " وقوله تعالى " وائتمروا بينكم بمعروف " أي ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف من غير إضرار ولا مضارة كما قال تعالى في سورة البقرة " لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده " وقوله تعالى " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " أي وإن اختلف الرجل والمرأة فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيرا ولم يجبها الرجل إلى ذلك أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه فليسترضع له غيرها فلو رضيت الام بما استؤجرت به الاجنبية فهي أحق بولدها وقوله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته " أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته " ومن قدر عليه رزقه فلينقق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " كقوله تعالى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " روى ابن جرير ثنا ابن حميد ثنا حكام عن أبي سنان قال سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة فقيل إنه يلبس الغليظ من الثياب ويأكل أخشن الطعام فبعث إليه بألف دينار وقال للرسول انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها ؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب وأكل أطيب الطعام فجاءه الرسول فأخبره فقال رحمه الله تعالى تأول هذه الآية " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ". وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ثنا هاشم بن يزيد الطبراني ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش أخبرني أبي أخبرني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد بن أبي مالك الاشعري واسمه الحارث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة نفر كان لاحدهم عشرة دنانير فتصدق منها بدينار وكان لآخر عشر أواق فتصدق منها بأوقية وكان لآخر مائة أوقية فتصدق منها بعشر أواق - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هم في الاجر سواء كل قد تصدق بعشر ماله " قال الله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته " هذا حديث غريب من هذا الوجه. وقوله تعالى " سيجعل الله بعد عسر يسرا " وعد منه تعالى ووعده حق لا يخلفه وهذه كقوله تعالى " فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا " وقد روى الامام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ههنا فقال حدثنا هاشم بن القاسم ثنا عبد الحميد بن بهرام ثنا شهر بن حوشب قال: قال أبو هريرة بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شئ فجاء الرجل من سفره فدخل على امرأته جائعا قد أصابته مسغبة شديدة فقال لامرأته عندك شئ ؟ قالت نعم أبشر أتانا رزق الله فاستحثها فقال ويحك ابتغي إن كان عندك شئ قالت نعم هنيهة ترجو رحمة الله حتى إذا طال عليه الطول قال ويحك قومي فابتغي إن كان عندك شئ فأتيني به فإني قد بلغت وجهدت فقالت نعم الآن نفتح التنور فلا تعجل فلما أن سكت عنها ساعة وتحينت أن يقول لها قالت من عند نفسها لو قمت فنظرت إلى تنوري فقامت فنظرت إلى تنورها ملآن من جنوب الغنم ورحييها تطحنان فقامت إلى الرحى فنفضتها واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم قال أبو هريرة فوالذي نفس أبي القاسم
[ 410 ]
بيده هو قول محمد صلى الله عليه وسلم " لو أخذت ما في رحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة " وقال في موضع آخر حدثنا أبو عامر حدثنا أبو بكر عن هشام عن محمد وهو ابن سيرين عن أبي هريرة قال دخل رجل على أهله فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته ثم قالت اللهم ارزقنا فنظرت فإذا الجفنة قد امتلات قال وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئا قال فرجع الزوج فقال أصبتم بعدي شيئا قالت امرأته نعم من ربنا فأم إلى الرحى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة ". وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا (9) أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يأولي الالباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا (10) رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا (11) يقول تعالى متوعدا لمن خالف أمره وكذب رسله وسلك غير ما شرعه ومخبرا عما حل بالامم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى " وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله " أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله " فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا " أي منكرا فظيعا " فذاقت وبال امرها " أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم " وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا " أي في الدار الآخرة مع ما عجل لهم من العذاب في الدنيا ثم قال تعالى بعدما قص من خبر هؤلاء " فاتقوا الله يا أولي الالباب " أي الافهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الالباب " الذين آمنوا " أي صدقوا بالله ورسوله " قد أنزل الله إليكم ذكرا " يعني القرآن كقوله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وقوله تعالى " رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات " قال بعضهم رسولا منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة لان الرسول هو الذي بلغ الذكر. وقال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسير له ولهذا قال تعالى " رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات " أي في حال كونها بينة واضحة جلية " ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور " كقوله تعالى " كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " وقال تعالى " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الايمان والعلم وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله نورا لما يحصل به من الهدى كما سماه روحا لما يحصل به من حياة القلوب فقال تعالى " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " وقوله تعالى " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا " قد تقدم تفسير مثل هذا غير مرة بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة. الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما (12) يقول تعالى مخبرا عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ليكون ذلك باعثا على تعظيم ما شرع من الدين القويم " الله الذي خلق سبع سموات " كقوله تعالى إخبارا عن نوح أنه قال لقومه " ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات
[ 411 ]
طباقا " وقوله تعالى " تسبح له السموات السبع والارض ومن فيهن ". وقوله تعالى " ومن الارض مثلهن " أي سبعا أيضا كما ثبت في الصحيحين " من ظلم قيد شبر من الارض طوقه من سبع أرضين " وفي صحيح البخاري " خسف به إلى سبع أرضين " وقد ذكرت طرقه وألفاظه وعزوه في أول البداية والنهاية عند ذكر خلق الارض ولله الحمد والمنة. ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع وخالف القرآن والحديث بلا مستند وقد تقدم في سورة الحديد عند قوله تعالى " هو الاول والآخر والظاهر والباطن " ذكر الارضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام وهكذا قال ابن مسعود وغيره وكذا في الحديث الآخر " ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والارضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ". وقال ابن جرير ثنا عمرو بن علي ثنا وكيع ثنا الاعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " سبع سموات ومن الارض مثلهن " قال لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها وحدثنا ابن حميد ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القمي الاشعري عن جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي عن سعيد بن جبير قال: قال رجل لابن عباس " الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن " الآية فقال ابن عباس ما يؤمنك إن أخبرتك بها فتكفر. وقال ابن جرير ثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في هذه الآية " الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن " قال عمرو قال في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الارض من الخلق. وقال ابن المثنى في حديثه في كل سماء إبراهيم وروى البيهقي في كتاب الاسماء والصفات هذا الاثر عن ابن عباس بأبسط من هذا فقال أنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أحمد بن يعقوب ثنا عبيد بن غنام النخعي أنا علي بن حكيم ثنا شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس قال " الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن " قال سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى. ثم رواه البيهقي من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي الضحى عن ابن عباس في قول الله عز وجل " الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن " قال في كل أرض نحو إبراهيم عليه السلام ثم قال البيهقي إسناد هذا عن ابن عباس صحيح وهو شاذ بمرة لا أعلم لابي الضحى عليه متابعا والله أعلم قال الامام أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتابه التفكر والاعتبار حدثني إسحاق بن حاتم المدائني ثنا يحيى بن سليمان عن عثمان بن أبي دهرس قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى أصحابه وهم سكوت لا يتكلمون فقال " مالكم لا تتكلمون ؟ " فقالوا نتفكر في خلق الله عز وجل قال " فكذلك فافعلوا تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها بياضها - أو قال بياضها نورها - مسيرة الشمس أربعين يوما بها خلق من خلق الله تعالى لم يعصوا الله طرفة عين قط " قالوا فأين الشيطان عنهم ؟ قال " ما يدرون خلق الشيطان أم لم يخلق ؟ " قالوا أمن ولد آدم ؟ قال " لا يدرون خلق آدم أم لم يخلق ؟ " وهذا حديث مرسل وهو منكر جدا وعثمان بن آبي دهرس ذكره ابن أبي حاتم في كتابه فقال روى عن رجل من آل الحكم بن أبي العاص وعنه سفيان بن عيينة ويحيى بن سليم الطائفي وابن المبارك سمعت أبي يقول ذلك. آخر تفسير سورة الطلاق ولله الحمد والمنة. سورة التحريم بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم (1) قد فرض الله لكم تحلة
[ 412 ]
إيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم (2) وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير (3) إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير (4) عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا (5) اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة فقيل نزلت في شأن مارية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها فنزل قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك " الآية قال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا إبراهيم بن يونس بن محمد حدثنا أبي حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " إلى آخر الآية. وقال ابن جرير حدثني ابن عبد الرحيم البرقي حدثنا ابن أبي مريم ثنا أبو غسان حدثني زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه فقالت أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي ؟ فجعلها عليه حراما قالت أي رسول الله كيف يحرم عليك الحلال ؟ فحلف لها بالله لا يصيبها فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " قال زيد بن أسلم فقوله أنت علي حرام لغو وهكذا روى عبد الرحمن بن زيد عن أبيه وقال ابن جرير أيضا حدثنا يونس ثنا ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم قال: قال لها " أنت علي حرام والله لا أطؤك " وقال سفيان الثوري بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق قال آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم فعوتب في التحريم وأمر بالكفارة في اليمين رواه ابن جرير وكذا روي عن قتادة وغيره عن الشعبي نفسه وكذا قال غير واحد من السلف منهم الضحاك والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان وروى العوفي عن ابن عباس قال: قلت لعمر بن الخطاب من المرأتان ؟ قال عائشة وحفصة وكان بدء الحديث في شأن أم إبراهيم مارية أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها فوجدت حفصة فقالت يا نبي الله لقد جئت إلي شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال " ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها " قالت بلى فحرمها وقال لها " لا تذكري ذلك لاحد " فذكرته لعائشة فأظهره الله عليه فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك " الآيات كلها فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه وأصاب جاريته وقال الهيثم بن كليب في مسنده ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا جرير بن حازم عن أيوب عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة " لا تخبري أحدا وإن أم إبراهيم علي حرام " فقالت أتحرم ما أحل الله لك ؟ قال " فوالله لا أقربها " قال فلم يقربها حتى أخبرت عائشة قال فأنزل الله تعالى " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " وهذا إسناد صحيح ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج. وقال ابن جرير أيضا حدثني يعقوب بن إبراهيم ثنا ابن عليه ثنا هشام الدستوائي قال كتب إلي يحيى يحدث عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها وقال ابن عباس " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فقال الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله - قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " فكفر يمينه فصير الحرام يمينا. ورواه البخاري عن معاذ بن فضالة عن هشام هو الدستوائي عن يحيى هو ابن أبي
[ 413 ]
كثير عن ابن حكيم وهو يعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الحرام يمين تكفر وقال ابن عباس " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ورواه مسلم من حديث هشام الدستوائي به وقال النسائي أنا عبد الله بن عبد الصمد بن علي ثنا مخلد بن يزيد ثنا سفيان عن سالم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أتاه رجل فقال إني جعلت امرأتي علي حراما قال كذبت ليس عليك بحرام ثم تلا هذه الآية " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة تفرد به النسائي من هذا الوجه بهذا اللفظ وقال الطبراني ثنا محمد بن زكريا ثنا عبد الله بن رجاء ثنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " قال حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريته ومن ههنا ذهب من ذهب من الفقهاء ممن قال بوجوب الكفارة على من حرم جاريته أو زوجته أو طعاما أو شرابا أو ملبسا أو شيئا من المباحات وهو مذهب الامام أحمد وطائفة وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما أو أطلق التحريم فيهما في قول فأما إذا نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الامة نفذ فيهما وقال ابن أبي حاتم حدثني أبو عبد الله الطهراني أنا حفص بن عمر العدني أنا الحكم بن أبان أنا عكرمة عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا قول غريب. والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل كما قال البخاري عند هذه الآية ثنا إبراهيم بن موسى أنا هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير إني أجد منك ريح مغافير. قال " لا ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا " " تبتغي مرضاة أزواجك " هكذا أورد هذا الحديث ههنا بهذا اللفظ. وقال في كتاب الايمان والنذور ثنا الحسن بن محمد ثنا الحجاج عن ابن جريج قال زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول سمعت عائشة تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواطأت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير فدخل على إحداهما النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ذلك له فقال: " لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له " فنزلت " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك - إلى قوله تعالى - إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " لعائشة وحفصة " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " لقوله " بل شربت عسلا " وقال إبراهيم بن موسى عن هشام " ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدا " وهكذا رواه في كتاب الطلاق بهذا الاسناد ولفظه قريب منه. ثم قال المغافير شبيه بالصمغ يكون في الرمث فيه حلاوة أغفر الرمث إذا ظهر فيه واحدها مغفور ويقال مغافير وهكذا قال الجوهري قال وقد يكون المغفور أيضا للعشر والثمام والسلم والطلح قال والرمث بالكسر مرعى من مراعي الابل وهو من الحمض قال والعرفط شجر من العظاة ينضح المغفور. وقد روى مسلم هذا الحديث في كتاب الطلاق من صحيحه عن محمد بن حاتم عن حجاج عن ابن جريج أخبرني عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة به ولفظه كما أورده البخاري في الايمان والنذور ثم قال البخاري في كتاب الطلاق ثنا فروة بن أبي المغراء ثنا علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنو من إحداهن فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس فغرت فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة فقلت أما والله لنحتالن له فقلت لسودة بنت زمعة إنه سيدنو منك فإذا دنا منك فقولي أكلت مغافير فإنه سيقول لك لا فقولي له ما هذه الريح التي أجد فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل فقولي جرست نحله العرفط وسأقول ذلك وقولي له أنت يا صفية ذلك قالت تقول سودة فوالله ما هو إلا أن قام على الباب فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقا منك فلما دنا منها قالت له سودة يا رسول الله أكلت مغافير ؟ قال " لا " قالت فما هذه الريح التي أجد
[ 414 ]
منك ؟ قال " سقتني حفصة شربة عسل " قالت جرست نحله العرفط فلما دار إلي قلت نحو ذلك فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك فلما دار إلى حفصة قالت له يا رسول الله ألا أسقيك منه ؟ قال " لا حاجة لي فيه " قالت تقول سودة والله لقد حرمناه قلت لها اسكتي هذا لفظ البخاري. وقد رواه مسلم عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر به وعن أبي كريب وهارون بن عبد الله والحسن بن بشر ثلاثتهم عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام بن عروة به وعنده: قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أن يوجد منه الريح يعني الريح الخبيثة ولهذا قلن له أكلت مغافير لان ريحها فيه شئ فلما قال " بل شربت عسلا " قلن جرست نحله العرفط أي رعت نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته قال الجوهري جرست النحل العرفط تجرس إذا أكلته ومنه قيل للنحل جوارس قال الشاعر * تظل على الثمراء منها جوارس * وقال الجرس والجرس الصوت الخفي ويقال سمعت جرس الطير إذا سمعت صوت مناقيرها على شئ تأكله وفي الحديث " فيسمعون جرس طير الجنة " قال الاصمعي كنت في مجلس شعبة قال فيسمعون جرش طير الجنة بالشين فقلت جرس فنظر إلي فقال: خذوها عنه فإنه أعلم بهذا منا. والغرض أن هذا السياق فيه أن حفصة هي الساقية للعسل وهو من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن خالته عن عائشة وفي طريق ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فالله أعلم. وقد يقال أنهما واقعتان ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سببا لنزول هذه الآية فيه نظر والله أعلم. ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الامام أحمد في مسنده حيث قال ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالاداوة فتبرز ثم أتاني فسكبت على يديه فتوضأ فقلت يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس قال الزهري: كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه قال هي عائشة وحفصة قال ثم أخذ يسوق الحديث قال: كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم: قال وكان منزلي في دار أمية بن زيد بالعوالي قال فغضبت يوما على امرأتي فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل قال فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم. قلت: وتهجره إحد اليوم إلى الليل ؟ قالت نعم قلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسأليه شيئا وسليني من مالي ما بدالك ولا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم - أي أجمل - وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك يريد عائشة قال - وكان لي جار من الانصار وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك وقال وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا فنزل صاحبي يوما ثم أتى عشاء فضرب بابي ثم ناداني فخرجت إليه فقال حدث أمر عظيم فقلت وما ذاك أجاءت غسان ؟ قال لا بل أعظم من ذلك وأطول طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فقلت قد خابت حفصة وخسرت قد كنت أظن هذا كائنا حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت لا أدري هو هذا معتزل في هذه المشربة فأتيت غلاما له أسود فقلت استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إلي فقال له فصمت فانطلقت حتى أتيت المنبر فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم فجلست عنده قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال قد ذكرتك له فصمت فخرجت فجلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد
[ 415 ]
فأتيت الغلام فقلت استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي فقال: قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل قد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير - قال الامام أحمد: وحدثناه يعقوب في حديث صالح قال رمال حصير - وقد أثر في جنبه فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك ؟ فرفع رأسه إلي وقال " لا " فقلت الله أكبر ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فغضبت علي امرأتي يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل فقلت قد خاب من فعل ذلك منكن وخسرت أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت لا يغرنك إن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فتبسم أخرى فقلت أستأنس يا رسول الله ؟ قال " نعم " فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا أهب مقامة فقلت أدع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله فاستوى جالسا وقال " أفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا " فقلت استغفر لي يا رسول الله وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري به وأخرجه الشيخان من حديث يحيى بن سعيد الانصاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الاراك لحاجة له قال فوقفت حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ هذا لفظ البخاري ولمسلم من المرأتان اللتان قال الله تعالى " وإن تظاهرا عليه " قال عائشة وحفصة ثم ساق الحديث بطوله ومنهم من اختصره. وقال مسلم أيضا حدثني زهير بن حرب حدثنا عمر بن يونس الحنفي ثنا عكرمة بن عمار عن سماك بن الوليد أبي زميل حدثني عبد الله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى ويقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وذلك قبل أن يؤمر بالحجاب فقلت لاعلمن ذلك اليوم فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما إلى أن قال فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكفة المشربة فناديت فقلت يا رباح استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم - إلى أن قال - فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكال وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت - وأحمد الله - بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي فنزلت هذه الآية آية التخيير " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن - وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " فقلت أطلقتهن ؟ قال " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق نساءه ونزلت هذه الآية " وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " فكنت أنا استنبطت ذلك الامر وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك وغيرهم " وصالح المؤمنين " أبو بكر وعمر زاد الحسن البصري وعثمان قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد " وصالح المؤمنين " قال علي بن أبي طالب وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين ثنا محمد بن أبي عمر ثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين قال أخبرني رجل ثقة يرفعه إلى علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وصالح المؤمنين " قال " هو علي بن أبي طالب " إسناده ضعيف وهو منكر جدا وقال البخاري ثنا عمرو بن عون ثنا هشيم عن حميد عن أنس قال: قال عمر اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن " فنزلت
[ 416 ]
هذه الآية وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب ومنها في أسارى بدر ومنها قوله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي حدثنا الانصاري ثنا حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب بلغني شئ كان بين أمهات المؤمنين وبين النبي صلى الله عليه وسلم فاستقريتهن أقول لتكفن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجا خيرا منكن حتى أتيت على آخر أمهات المؤمنين فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن ؟. فأمسكت فأنزل الله عز وجل " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا " وهذه المرأة التي ردته عما كان فيه من وعظ النساء هي أم سلمة كما ثبت ذلك في صحيح البخاري وقال الطبراني ثنا إبراهيم بن نائلة الاصبهاني ثنا إسماعيل البجلي ثنا أبو عوانة عن أبي سنان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا " قال دخلت حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهو يطأ مارية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة إن أباك يلي الامر من بعد أبي بكر إذا أنا مت " فذهبت حفصة فأخبرت عائشة فقالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أنبأك هذا ؟ قال " نبأني العليم الخبير " فقالت عائشة لا أنظر إليك حتى تحرم مارية فحرمها فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم " إسناده فيه نظر وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات ومعنى قوله " مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات " ظاهر وقوله تعالى " سائحات " أي صائمات قاله أبو هريرة وعائشة وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب القرظي وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو مالك وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وغيرهم. وتقدم فيه حديث مرفوع عند قوله " السائحون " في سورة براءة ولفظه " سياحة هذه الامة الصيام " وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن " سائحات " أي مهاجرات وتلا عبد الرحمن " السائحون " أي المهاجرون والقول الاول أولى والله أعلم. وقوله تعالى " ثيبات وأبكارا " أي منهن ثيبات ومنهن أبكارا ليكون ذلك أشهى إلى النفس فإن التنوع يبسط النفس ولهذا قال " ثيبات وأبكارا " وقال أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير ثنا أبو بكر بن صدقة ثنا محمد بن محمد بن مرزوق ثنا عبد الله بن أبي أمية ثنا عبد القدوس عن صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه " ثيبات وأبكارا " قال وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه فالثيب آسية امرأة فرعون وبالابكار مريم بنت عمران. وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة مريم عليها السلام من طريق سويد بن سعيد ثنا محمد بن صالح بن عمر عن الضحاك ومجاهد عن ابن عمر قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال إن الله يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم. ومن حديث أبي بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة وهي في الموت فقال " يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام " فقالت يارسول الله وهل تزوجت قبلي ؟ قال " لا ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وكلثم أخت موسى " ضعيف أيضا وقال أبو يعلى ثنا إبراهيم بن عرعرة ثنا عبدالنور بن عبد الله ثنا يوسف بن شعيب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعلمت أن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ؟ " فقلت هنيئا لك يا رسول الله وهذا أيضا ضعيف وروى مرسلا عن ابن أبي داود. يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (6) يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون (7) يا أيها الذين
[ 417 ]
آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير (8) قال سفيان الثوري عن منصور عن رجل عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " يقول أدبوهم وعلموهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " يقول اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار. وقال مجاهد " قوا أنفسكم وأهليكم نارا " قال اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله وقال قتادة تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها وهكذا قال الضحاك ومقاتل حق المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه. وفي معنى هذه الآية الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها " هذا لفظ أبي داود وقال الترمذي هذا حديث حسن وروى أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك قال الفقهاء وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمرينا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر علي العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر والله الموفق. وقوله تعالى " وقودها الناس والحجارة " وقودها أي حطبها الذي يلقي فيه جثث بني آدم " والحجارة " قيل المراد بها الاصنام التي تعبد لقوله تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " وقال ابن مسعود ومجاهد وأبو جعفر الباقر والسدي هي حجارة من كبريت زاد مجاهد: أنتن من الجيفة وروى ذلك ابن أبي حاتم رحمه الله قال ثنا أبي ثنا عبد الرحمن بن سنان المنقري ثنا عبد العزيز - يعني ابن أبي داود - قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة " وعنده بعض أصحابه وفيهم شيخ فقال الشيخ يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها " قال فوقع الشيخ مغشيا عليه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي فناداه قال " يا شيخ قل لا إله إلا الله " فقالها فبشره بالجنة قال: فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا ؟ قال " نعم يقول الله تعالى " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " هذا حديث مرسل غريب وقوله تعالى " عليها ملائكة غلاظ شداد " أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله " شداد " أي تركيبهم في غاية الشدة والكثافة والمنظر المزعج كما قال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا سلمة بن شبيب ثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ثنا أبي عن عكرمة أنه قال إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم كالحة أنيابهم قد نزع الله من قلوبهم الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر ثم يجدون على الباب التسعة عشر عرض صدر أحدهم سبعون خريفا ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الاول حتى ينتهوا إلى آخرها وقوله " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه. وهؤلاء هم الزبانية - عياذا بالله منهم - وقوله " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " أي يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون وإنما تجزون اليوم بأعمالكم ثم قال تعالى " يا أيها
[ 418 ]
الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا " أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات. قال ابن جرير ثنا ابن مثنى ثنا محمد ثنا شعبة عن سماك بن حرب سمعت النعمان بن بشير يخطب سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا " قال يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه وقال الثوري عن سماك عن النعمان عن عمر قال التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه وقال أبو الاحوص وغيره عن سماك عن النعمان سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: أن يتوب الرجل من العمل السئ ثم لا يعود إليه أبدا. وقال الاعمش عن أبي إسحاق عن أبي الاحوص عن عبد الله " توبة نصوحا " قال يتوب ثم لا يعود. وقد روي هذا مرفوعا فقال الامام أحمد ثنا علي بن عاصم عن إبراهيم الهجري عن أبي الاحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التوبة من الذنب أن يتوب منه ثم لا يعود فيه " تفرد به أحمد من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف والموقوف أصح والله أعلم. ولهذا قال العلماء: التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ويندم على ما سلف منه في الماضي ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه. قال الامام أحمد ثنا سفيان عن عبد الكريم أخبرني زياد بن أبي مريم عن عبد الله بن مغفل قال دخلت مع أبي على عبد الله بن مسعود فقال أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " الندم توبة ؟ " قال نعم وقال مرة نعم سمعته يقول " الندم توبة " ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم وهو ابن مالك الجزري به وقال ابن أبي حاتم ثنا الحسن بن عرفة حدثني الوليد بن بكير أبو جناب عن عبد الله بن محمد العبدي عن أبي سنان البصري عن أبي قلابة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الامة عند اقتراب الساعة. منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ومنها نكاح الرجل الرجل وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ومنها نكاح المرأة المرأة وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحا قال زر: فقلت لابي بن كعب فما التوبة النصوح ؟ فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبدا ". وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا عمرو بن علي ثنا عباد بن عمرو ثنا أبو عمرو بن العلاء سمعت الحسن يقول: التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته وتستغفر منه إذا ذكرته فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات كما ثبت في الصحيح: " الاسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها ". وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الاثر - ثم لا يعود فيه أبدا. أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو وقع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضارا في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام: " التوبة تجب ما قبلها " ؟ وللاول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضا " من أحسن في الاسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الاسلام اخذ بالاول والآخر " فإذا كان هذا في الاسلام الذي هو أقوى من التوبة فالتوبة بطريق الاولى والله أعلم. وقوله تعالى " عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار " وعسى من الله موجبة " يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه " أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة " نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم " كما تقدم في سورة الحديد " يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير " قال مجاهد والضحاك والحسن البصري وغيرهم هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد
[ 419 ]
طفئ. وقال الامام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن يحيى بن حسان عن رجل من بني كنانة قال: صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمتعه يقول " اللهم لا تخزني يوم القيامة " وقال محمد بن نصر المروزي حدثنا محمد بن مقاتل المروزي حدثنا ابن المبارك أنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن حبيب عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الامم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الامم وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الامم " فقال رجل يا رسول الله وكيف تعرف أمتك من بين الامم ؟ قال " غر محجلون من آثار الطهور ولا يكون أحد من الامم كذلك غيرهم وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم ". يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (9) ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين (10) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين هؤلاء بالسلاح والقتال وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم " واغلظ عليهم " أي في الدنيا " ومأواهم جهنم وبئس المصير " أي في الآخرة ثم قال تعالى " ضرب الله مثلا للذين كفروا " أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئا ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن الايمان حاصلا في قلوبهم ثم ذكر المثل فقال " امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين " أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشرة والاختلاط " فخانتاهما " أي في الايمان لم يوافقاهما على الايمان ولا صدقاهما في الرسالة فلم يجد ذلك كله شيئا ولا دفع عنهما محذورا ولهذا قال تعالى " فلم يغنيا عنهما من الله شيئا " أي لكفرهما " وقيل " للمرأتين " ادخلا النار مع الداخلين " وليس المراد بقوله " فخانتاهما " في فاحشة بل في الدين فإن نساء الانبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الانبياء كما قدمنا في سورة النور قال سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قرم سمعت ابن عباس يقول في هذه الآية " فخانتاهما " قال ما زنتا أما خيانة أمرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه وقال العوفي عن ابن عباس قال كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما فكانت امرأة نوح تطلع على سر نوح فإذا آمن مع نوح أحدا أخبرت الجبابرة من قوم نوح به وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحد أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء وقال الضحاك عن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم وقد استدل بهذه الآية الكريمة بعض العلماء على ضعف الحديث الذي يأثره كثير من الناس: من أكل مع مغفور له غفر له. وهذا الحديث لا أصل له وإنما يروى هذا عن بعض الصالحين انه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال يا رسول الله أنت قلت من أكل مع مغفور له غفر له ؟ قال: لا ولكني الآن أقوله. وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين (11) ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها
[ 420 ]
وكتبه وكانت من القانتين (12) وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين أنهم لا تضرهم مخالطة الكافرين إذا كانوا محتاجين إليهم كما قال تعالى " لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة " قال قتادة كان فرعون أعتى أهل الارض وأكفرهم فو الله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها ليعلموا أن الله تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه. وقال ابن جرير ثنا إسماعيل بن حفص الايلي ثنا محمد بن جعفر عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سليمان قال كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها وكانت ترى بيتها في الجنة ثم رواه عن عبيد بن محمد المحاربي عن أسباط بن محمد عن سليمان التيمي به. ثم قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم ثنا ابن علية عن هشام الدستوائي ثنا القاسم بن أبي بزة قال: كانت امرأة فرعون تسأل من غلب ؟ فيقال غلب موسى وهارون فتقول آمنت برب موسى وهارون فأرسل إليها فرعون فقال انظروا أعظم صخرة تجدونها فإن مضت على قولها فألقوها عليها وإن رجعت عن قولها فهي امرأتي فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأبصرت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها وألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح فقولها " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة " قالت العلماء اختارت الجار قبل الدار وقد ورد شئ من ذلك في حديث مرفوع " ونجني من فرعون وعمله " أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله " ونجني من القوم الظالمين " وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم رضي الله عنها وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان إيمان امرأة فرعون من قبل إيمان امرأة خازن فرعون وذلك أنها جلست تمشط ابنة فرعون فوقع المشط من يدها فقالت تعس من كفر بالله فقالت لها بنت فرعون ولك رب غير أبي ؟ قالت: ربي ورب أبيك ورب كل شئ الله فلطمتها بنت فرعون وضربتها وأخبرت أباها فأرسل إليها فرعون فقال تعبدين ربا غيري قالت نعم ربي وربك ورب كل شئ وإياه أعبد فعذبها فرعون وأوتد لها أوتادا فشد يديها ورجليها وأرسل عليها الحيات فكانت كذلك فأتى عليها يوما فقال لها ما أنت منتهية فقالت له ربي وربك ورب كل شئ الله فقال لها إني ذابح ابنك في فيك إن لم تفعلي فقالت له اقض ما أنت قاض فذبح ابنها في فيها وإن روح ابنها بشرها فقال لها أبشري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا فصبرت ثم أتى عليها فرعون يوما آخر فقال لها مثل ذلك فقالت له مثل ذلك فذبح ابنها الآخر في فيها فبشرها روحه أيضا وقال لها اصبري يا أمه فإن لك عند الله من الثواب كذا وكذا قال وسمعت امرأة فرعون كلام روح ابنها الاكبر ثم الاصغر فآمنت امرأة فرعون وقبض الله روح امرأة خازن فرعون وكشف الغطاء عن ثوابها ومنزلتها وكرامتها في الجنة لامرأة فرعون حتى رأت فازدادت إيمانا ويقينا وتصديقا فأطلع الله فرعون على إيمانها فقال للملا ما تعلمون من آسية بنت مزاحم ؟ فأثنوا عليها فقال لهم إنها تعبد غيري فقالوا له اقتلها فأوتد لها أوتادا فشد يديها ورجليها فدعت آسية ربها فقالت " رب ابن لي عندك بيتا في الجنة " فوافق ذلك أن حضرها فرعون فضحكت حين رأت بيتها في الجنة فقال فرعون ألا تعجبون من جنونها ؟ إنا نعذبها وهي تضحك فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها. وقوله تعالى " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها " أي حفظته وصانته والاحصان هو العفاف والحرية " فنفخنا فيه من روحنا " أي بواسطة الملك وهو جبريل فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي وأمره الله تعالى أن ينفخ بفيه في جيب درعها فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام ولهذا قال تعالى " فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه " أي بقدره وشرعه " وكانت من القانتين " قال الامام أحمد ثنا يونس ثنا داود بن أبي الفرات عن علباء عن عكرمة عن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم في الارض أربعة خطوط وقال " أتدرون ما هذا ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل نساء أهل
[ 421 ]
الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " وقد ثبت في الصحيحين من حديث شعبة عن عمرو بن مرة عن مرة الهمداني عن أبي موسى الاشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وقد ذكرنا طرق هذه الاحاديث وألفاظها والكلام عليها في قصة عيسى ابن مريم عليهما السلام في كتابنا " البداية والنهاية " ولله الحمد والمنة وذكرنا ما ورد من الحديث من أنها تكون هي وآسية بنت مزاحم من أزواجه عليه السلام في الجنة عند قوله تعالى " ثيبات وأبكارا ". آخر تفسير سورة التحريم ولله الحمد والمنة. سورة الملك قال الامام أحمد حدثنا حجاج بن محمد وابن جعفر قالا حدثنا شعبة عن قتادة عن عياش الجشمي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له: تبارك الذي بيده الملك " ورواه أهل السنن الاربعة من حديث شعبة به وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد روى الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة أحمد بن نصر بن زياد أبي عبد الله القرشي النيسابوري المقري الزاهد الفقيه أحد الثقات الذين روى عنهم البخاري ومسلم ولكن في غير الصحيحين وروى عنه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة وعليه تفقه في مذهب أبي عبيد بن حربوية وخلق سواهم ساق بسنده من حديثه عن فرات بن السائب عن الزهري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن رجلا ممن كان قبلكم مات وليس معه شئ من كتاب الله إلا تبارك فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه فقال لها إنك من كتاب الله وأنا أكره مساءتك وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضرا ولا نفعا فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الرب تبارك وتعالى فاشفعي له فتنطلق إلى الرب فتقول يا رب إن فلانا عمد إلي من بين كتابك فتعلمني وتلاني أفتحرقه أنت بالنار وتعذبه وأنا في جوفه ؟ فإن كنت فاعلا ذاك به فامحني من كتابك فيقول ألا أراك غضبت ؟ فتقول وحق لي أن أغضب فيقول اذهبي فقد وهبته لك وشفعتك فيه - قال - فتجئ فتزجر الملك فيخرج خاسف البال لم يحل منه بشئ - قال - فتجئ فتضع فاها على فيه فتقول مرحبا بهذا الفم فربما تلاني ومرحبا بهذا الصدر فربما وعاني ومرحبا بهاتين القدمين فربما قامتا بي وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه " قال فلما حدث بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد إلا تعلمها وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية. " قلت " وهذا حديث منكر جدا وفرات بن السائب هذا ضعفه الامام أحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو حاتم والدارقطني وغير واحد وقد ذكره ابن عساكر من وجه آخر عن الزهري من قوله مختصرا وروى البيهقي في كتاب إثبات عذاب القبر عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا ما يشهد لهذا وقد كتبناه في كتاب الجنائز " من الاحكام الكبرى " ولله الحمد والمنة وقد روى الطبراني والحافظ الضياء المقدسي من طريق سلام بن مسكين عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سورة في القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة: تبارك الذي بيده الملك " وقال الترمذي حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا إنسان يقرأ سورة الملك: تبارك حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر " ثم قال هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي الباب عن أبي هريرة
[ 422 ]
ثم روى الترمذي أيضا من طريق ليث بن أبي سليم عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل وتبارك الذي بيده الملك وقال ليث عن طاوس يفضلان كل سورة في القرآن بسبعين حسنة. وقال الطبراني حدثنا محمد بن الحسن بن عجلان الاصبهاني حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي " يعني تبارك الذي بيده الملك هذا حديث غريب وإبراهيم ضعيف وقد تقدم مثله في سورة يس وقد روى هذا الحديث عبد بن حميد في مسنده بأبسط من هذا فقال حدثنا إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال لرجل ألا أتحفك بحديث تفرح به ؟ قال بلى قال اقرأ تبارك الذي بيده الملك وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة تجادل أو تخاصم يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن ينجيه من عذاب النار وينجي بها صاحبها من عذاب القبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوددت أنها في قلب كل إنسان من أمتي ". بسم الله الرحمن الرحيم تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير (1) الذي خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور (2) الذي خلق سبع سموات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور (3) ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير (4) ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير (5) يمجد تعالى نفسه الكريمة ويخبر أنه بيده الملك أي هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله ولهذا قال تعالى " وهو على كل شئ قدير " ثم قال تعالى " الذي خلق الموت والحياة " واستدل بهذه الآية من قال إن الموت أمر وجودي لانه مخلوق ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم " ليبلوهم " أي يختبرهم " أيهم أحسن عملا " كما قال تعالى " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم " فسمى الحال الاول وهو العدم موتا وسمى هذه النشأة حياة ولهذا قال تعالى " ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا خليد عن قتادة في قوله تعالى " الذي خلق الموت والحياة " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء ".. ورواه معمر عن قتادة وقوله تعالى " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي خير عملا كما قال محمد بن عجلان ولم يقل أكثر عملا ثم قال تعالى " وهو العزيز الغفور " أي هو العزيز العظيم المنيع الجناب وهو مع ذلك غفور لمن تاب إليه وأناب بعدما عصاه وخالف أمره وإن كان تعالى عزيزا هو مع ذلك يغفر ويرحم ويصفح ويتجاوز ثم قال تعالى " الذي خلق سبع سموات طباقا " أي طبقة بعد طبقة وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض أو متفاصلات بينهن خلاء ؟ فيه قولان أصحهما الثاني كما دل ذلك حديث الاسراء وغيره وقوله تعالى " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " أي بل هو مصطحب مستو ليس فيه اختلاف ولا تنافر ولا مخافة ولا نقص ولا عيب ولا خلل ولهذا قال تعالى " فارجع البصر هل ترى من فطور " أي انظر إلى السماء هل ترى فيها عيبا أو نقصا أو خللا أو فطورا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والثوري وغيرهم في قوله تعالى " فارجع البصر هل ترى من فطور " أي شقوق وعن السدي
[ 423 ]
" هل ترى من فطور " أي من خروق وقال ابن عباس في رواية " من فطور " أي من وهاء وقال قتادة " هل ترى من فطور " أي هل ترى خللا يا ابن آدم ؟ وقوله تعالى " ثم ارجع البصر كرتين " قال قتاده مرتين " ينقلب