الكتاب : تفسير ابن عجيبة
المؤلف : ابن عجيبة
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا . . . }
يقول الحق جلّ جلاله : { وعَجِبُوا } أي : كفار قريش من { أن جاءهم مُّنذر منهم } ؛ رسول من أنفسهم ، استبعدوا أن يكون الرسل من البشر . قال القشيري : وعَجِبُوا أن جاءهم مُنذرٌ منهم ، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلهاً لهم ، وهذه مناقضة ظاهرة . ه . يعني : لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر ، لا وجود منذر من البشر ، وهم عكسوا القضية . { وقال الكافرون هذا ساحر كذَّابٌ } أي : ساحر فيما يُظهر من المعجزات ، كذَّاب فيما يدَّعيه من الرسالة . وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالكفر ، وغضباً عليهم ، وإشعاراً بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء .
ثم قالوا : { أجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً } بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد ، { إِنَّ هذا لشيءٌ عُجَابٌ } ؛ بليغ في العجب ، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم ، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم ، كابراً عن كابر ، فإنَّ مدار كل ما يأتون ويذورن ، من أمور دينهم ، هو التقليد والاعتياد ، فيَعُدون ما يخالف ما اعتادوه عجباً من العجاب ، بل محالاً ، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد ، وقدرته بالأشياء الكثيرة ، فلا وجه له؛ لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علماً وقدرة ومدخلاً في حدوق شيءٍ من الأشياء ، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر مؤثر ، قاله أبو السعود منتقداً على البيضاوي .
قال القشيري : لم تباشر خلاصةُ التوحيد قلوبَهم ، وبُعدوا عن ذلك تجويزاً ، فضلاً عن أن يكون إثباتاً وحكماً ، فلا عَرَفُوا أولاً معنى الإلهية؛ فإن الإلهية هي القدرة على الاختراع . وتقديرُ قادِرَيْن على ذلك غيرُ صحيح؛ لِمَا يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كامِلَي الوصفِ لم يكونا إِلَهيْن ، وكلُّ مَن جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل . ه .
رُوي أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون ، وشقّ على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفساً من صناديدهم ، ومشوا إلى أبي طالب ، وقالوا : أنت كبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء أي : الذين دخلوا في الإسلام وجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن أخي؛ هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تَمِلْ كل الميل على قومك ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ماذا يسألونني؟ " فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال عليه الصلاة والسلام :
(5/259)

" أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم " ، قالوا : نعم ، وعشراً . قال : " قولوا : لا إله إلا الله " فقاموا ، وقالوا : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عُجاب } . قيل : العجب : ما له مِثل ، والعجاب : لا مثل له .
{ وانطلق الملأُ منهم } أي : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبي طالب ، بعدما بكّتهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالجواب ، وشاهدوا تصلُّبه عليه الصلاة والسلام في الدين ، وعزيمته على إظهاره ، ويئسوا مما كانوا يرجونه ، بتوسُّط أبي طالب ، من المصالحة على الوجه المذكور ، قائلين { أنِ امْشُوا } و " أنْ " : تفسيرية؛ لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمناً معنى القول ، وقيل : ليس المراد بالانطلاق المشي ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف ، بل الاستمرار على المشي ، يعني أنه على هذا القول : عبارة عن تفرُّقهم في طُرق مكة ، وإشاعتهم للكفر . ه . أي : امشوا { واصبروا على آلهتكم } أي : اثبتوا على عبادتها ، متحمِّلين لِما تسمعون في حقها من القدح .
قال القشيري : إذا تواصى الكفارُ فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمؤمون أَوْلى بالصبر على عبادة معبودهم ، والاستقامة في دينهم . ه .
{ إِنَّ هذا لشيءٌ يُراد } أي : هذا الذي شاهدناه من محمد صلى الله عليه وسلم من أمر التوحيد ، وإبطال أمر آلهتنا ، لشيء يُراد إمضاؤه وتنفيذه ، من جهته عليه الصلاة والسلام لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يُقال من طرف اللسان ، وأمر تُرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه ، بواسطة أبي طالب وشفاعته ، وحسبكم ألا تُمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية ، فاصبروا عليها ، وتحمَّلوا ما تسمعون في حقها من القدح وسوء المقالة ، أو : إنَّ هذا الأمر لشيء يريده الله تعالى ، ويحكم بإمضائه ، فلا مرد له ، ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو : إنَّ هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر ، يُراد بنا ، فلا انفكاكَ لنا منه ، أو : إن دينكم لشيء يُراد ، أي : يُطلَبُ ليؤخذ منكم وتُغلَبوا عليه ، أو : إن هذا الذي يدَّعيه من التوحيد ، ويقصده من الرئاسة ، والترفُّع على العرب والعجم ، لشيء يُتمنى ، ويريده كلُّ أحد . فتأمّل هذه الأقاويل ، واختر منها ما يساعده النظم الجليل .
{ ما سَمِعْنَا بهذا } الذي يقوله من أمر التوحيد { في الملةِ الآخرة } أي : في ملة عيسى ، التي هي آخر الملل؛ لأن النصارى مثلثة غير موحدة ، أو : في ملّة قريش التي أدركنا عليها آباءنا ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالاً من " هذا " ، أي : ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهّان كائناً في الملة المترقبة .
(5/260)

ولقد كذّبوا في ذلك أقبح كذب؛ فإن حديث البعثة والتوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام ، كان أشهر الأمور قبل الظهور . { إِنْ هذا } أي : ما هذا { إِلا اختلاقٌ } أي : كذب ، اختلقه من تلقاء نفسه .
{ أأُنزل عليه الذكرُ } أي : القرآن { من بيننا } ونحن رؤساء الناس وأشرافهم . أنكروا أن يُختص بالشرف من بين أشرافهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، حسداً من عند أنفسهم ، كقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد ، وقصر النظر على الحطام الدنيوية ، والعياذ بالله .
قال الورتجبي : كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته ، وسنا جلاله وجماله ، لم يروا إلا الصورة الإنسانية ، التي هي ميراث آدم من ظاهر الخلقة . وهذا كقوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ الأعراف : 198 ] ، استبعدوا اصطفائيته بالوحي ، ولم يعرفوا أنه أثرُ اللهِ في العالم ، ومشكاةُ تجلِّيه ، حتى قالوا مثل ما قالوا : { وعَجبوا أن جاءهم مُّنذر منهم } ، رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلى الله عليه وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفسَ النفوس ، وروحَ الأرواح ، وأصل الخليقة ، وباكورةً من بساتين الربوبية . يا ليتهم لو رأوه في مشاهدة الملكوت ، ومناصب الجبروت ، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقتُ الأفلاك . ه .
الإشارة : هذه عادة الله تعالى في خلقه ، كل مَن يأمر الناس بالتجريد ، وخرق العوائد ، وصريح التوحيد ، وترك ما عليه الناس من جمع الدنيا ، وحب الرئاسة ، والجاه ، أنكروه ، وسفَّهوا رأيه ، وقالوا فيه : ساحر كذَّاب . ويقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على ما أنتم عليه ، من جمع الدنيا ، والخدمة على العيال ، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم ، من الوقوف مع العوائد ، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى الله في هذا الزمان ، إن هذا إلا اختلاق ، أأُنزلت عليه الخصوصية من بيننا ، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته مَن يشاء ، ويبعث في كل زمان مَن يُجدد الدين بتربية مخصوصة . والله تعالى أعلم .
ثم رَدّ عليهم بقوله :
{ . . . بْل هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب } .
يقول الحق جلّ جلاله : { بل هم } أي : كفار قريش { في شكٍّ من ذكري } ؛ من القرآن ، أو الوحي ، لميلهم إلى التقليد ، وإعراضهم عن النظر في الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته ، { بل لمَّا يذوقوا عذاب } أي : بل لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ، ولذلك شكُّوا فيه ، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، أي : إنهم لا يُصدِّقون به إلا أن يمسّهم العذاب ، فحينئذ يُصدّقون ، ولات حين تصديق .
(5/261)

{ أم عندهم خزائنُ رحمةِ ربك العزيزِ الوهَّاب } أي : ما هم بمالكي خزائن الرحمة حتى يُصيبوا بها مَن شاؤوا ، ويصرفوها عمَّن شاؤوا ، ويختاروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفَّعوا بها عن محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيزُ القاهر على خلقه ، الوهّاب الكثير المواهب ، المصيب بها مَن يشاء . والمعنى : أن النبوة عطية من الله تعالى ، يتفضّل بها على مَن يشاء من عباده المصطفين ، لا مانع له ، فإنه الغالب ، الذي له أن يهب كل ما يشاء لكل مَن يشاء .
وفي إضافة اسم الرب المنبىء عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تشريفه واللطف به ما لا يخفى .
{ أم لهم مُلكُ السماواتِ والأرضِ وما بينهما } أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ، ويتحكّموا في التدابير الإلهية ، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكُّم فقال : { فليرتقوا في الأسباب } ، وهو جواب عن شرط مقدَّر ، أي : إن كان لهم ما ذكر من الملك ، ويملكون التصرُّف في قسمة الرحمة ، فليصعَدوا في المعارج والطُرق التي يتوصّل بها إلى السماء ، حتى يُدبروا أمر العالم وملكوت الله ، فيُنزلون الوحي إلى مَن يختارون ويستصوبون . والسبب ، في الأصل : ما يتوصل به إلى المطلوب .
ثم وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بالنصر عليهم بقوله : { جندٌ مَّا هنالك مهزومٌ من الأحزاب } أي : هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل { مهزومٌ } ؛ مكسور عما قريب ، فلا تُبالِ بما يقولون ، ولا تكترث بما يَهْذُون . و " جُند " : خبر ، أو مبتدأ ، و " مهزوم " : خبره و " مَّا " : صلة مقوّية للنكرة . أو : للتقليل والتحقير . و " من الأحزاب " : متعلق بجند ، أو : بمهزوم ، و " هنالك " : إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو : إلى حيث وضعوا في أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمَن ينتدب لأمر وليس من أهله : لست هنالك .
الإشارة : يُقال في جانب أهل الغفلة : بل في شك من حلاوة ذكري ومعرفتي ، حيث لم يذوقوا . قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه : ( خرج الناس من الدنيا ولم يذوقوا شيئاً ، قيل : وما فاتهم؟ قال : حلاوة المعرفة ) . بل لَمَّا يذوقوا عذابي ، هو وبال القطيعة والبُعد ، والانحطاط عن درجات المقرَّبين ، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق ، حيث لا ينفع مال ولا بنون ، إلا مَن أتى الله بقلب سليم . وقال في جانب من حسد أهل الخصوصية : { أم عندهم خزائنُ رحمة ربك العزيزِ الوهاب . . . } الآية .
(5/262)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذَّبت قبلهم } أي : قبل أهل مكة { قومُ نوح } نوحاً ، { وعادٌ } هوداً { وفرعونُ } موسى ، { ذو الأوتاد } ، قيل : كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه ، وقيل : كان يوتّد مَن يعذب بأربعة أوتاد في يديه ورجليه ، ويتركه حتى يموت . وقيل : كان يرسل عليه عقارب وحيّات . وقيل : معناه : ذو المُلك الثابت ، من : ثبات البيت المُطَنَّب بأوتاده ، فاستعير لرسوخ السلطنة ، واستقامة الأمر ، كقول الشاعر :
ولقد غَنَوا فيها بأَنْعَمِ عيشةٍ ... في ظلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الأَوْتَادِ
{ وثمودُ } وهم قوم صالح ، { وقومُ لوط } كذَّبوا لوطاً ، { وأصحابُ الأيكةِ } ؛ أصحاب الغيضة كذَّبوا شُعيباً عليه السلام ، { أولئك الأحزابُ } : بدلٌ من الطوائف المذكورة . وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه ، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولذلك قال :
{ إِن كلٌّ إِلا كذَّب الرسلَ } أي : ما كل أحد من آحاد أولئك الأحزاب ، أو : ما كل حزب منهم إلا كذّب الرسل؛ لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم؛ لاتفاق الكل على الحق ، أو : ما كل حزب إلا كذَّب رسوله ، على نهج مقابل الجمع بالجمع . وأيًّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [ العلل ] في خبر المبتدأ ، أي : ما كل أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرسل ، { فحقَّ عقاب } أي : فوجب لذلك أن أُعاقبهم حق العقاب ، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات .
{ وما ينظر هؤلاء } أي : وما ينتظر أهل مكة . وفي الإشارة إليهم بهؤلاء؛ تحقير لشأنهم ، وتهوين لأمرهم ، أي : وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب ، { إِلا صيحةً واحدة } وهي النفخة الثانية؛ لما فيها من الشدة والهول ، فإنها داهية ، يعم هولها جميع الأمم ، برَّها وفاجرها . والمعنى : أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعدّ الله لهم من العقاب إلا نفخة البعث ، أُخرت عقوبتهم إلى الآخرة؛ لأن حلولها بهم في الدنيا يوجب الاستئصال ، وقد قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فأخرت ليوم القيامة . وأما ما قيل من أنها النفخة الأولى فمما لا وجه له؛ لأنه لا يشاهد هولَها ، ولا يصعَق بها إلا مَن كان حيًّا عند وقوعها . قاله أبو السعود .
{ ما لها من فَوَاقٍ } أي : مِن توقُّف مقدار فواق ، هو ما بين حلبتي الحالب ، أي : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان . وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض؛ إذا رجع إلى الصحّة ، وفواق الناقة : ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها . يريد : أنها نفخة واحدة ، لا تثنى ، ولا تردد . والفواق بمعنى التأخر ، فيه لغتان : الفتح والضم ، وأما ما بين حلبتي الناقة ، فبالضم فقط .
الإشارة : ما جرى على مكذبي الرسل يجري في مكذِّبي الأولياء ، إلاَّ أن عذابهم البُعد والطرد ، وحرمان معرفة العيان . وبالله التوفيق .
(5/263)

وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقالوا } أي : كفار مكة لَمَّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة : { ربنا عَجِّل لنا قِطَّنَا } أي : حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به ، { قبل يوم الحساب } ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة . وفي القاموس : القِط بالكسر النصيب ، والصَّك ، وكتاب المحاسبة . ه . أو : عَجِّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها ، أو : حظنا من الجنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عَجِّل لنا نصيبنا منها . وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء ، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة .
{ اصْبِرْ على ما يقولون } من أمثال هذه المقالات الباطلة . ثم سلاّه بما يقص عليه من خبر الأنبياء عليهم السلام الذين كانت بدايتهم أيام المحن ، ثم جاءتهم أيام المنن ، وبدأ بنبيه داود عليه السلام ، فقال : { واذكر عبدَنا داودَ } ، فإنه كان في أول أمره ضعيفاً ، يرعى الغنم ، ثم صار نبيّاً مَلِكاً ، ذا الأيادي العظام . وقوله : { ذَا الأيدِ } أي : ذا القوة في الدين ، والملكَ ، والنبوة . يقال : فلان ذو يد وأيد وأياد ، بمعنى القوة ، وأياد كل شيء : ما يتقوّى به . { إِنه أوَّابٌ } : رجّاع إلى الله في كل شيء ، أو : إلى مرضاة الله تعالى . وهو يوماً ، وهو أشدُّ الصوم ، ويقومُ نصفَ الليل ، مع مكابدة سياسة النبوة والمُلك والشهود ، فقد أعطى القوة في الجهتين .
{ إِنا سخَّرنا الجبالَ معه } أي : ذللناها له ، تسير معه حيث يريد . ولم يقل " له "؛ لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق التفويض الكلي ، كتسخير الرياح وغيرها لابنه ، بل بطريق التبعية ، والاقتداء به في عبادة الله تعالى . وقيل : { معه } متعلق ب { يُسَبّحْن } ، أي : سخرناها تُسبِّح معه ، إما بلسان المقال ، يخلق الله لها صوتاً ، أو : بلسان الحال ، أي : يقدس الله تعالى ويُنزهه عما لا يليق به . والجملة : حال ، أي : مسبِّحات ، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال ، وتجدُّده شيئاً بعد شيء ، وحالاً بعد حال ، { بالعَشِيّ } في طرفي النهار ، والعشيّ : وقت العصر إلى الليل { والإِشراقِ } ، وهو حين تُشرق الشمس ، أي : تضيء ، وهو وقت الضحى ، وأما شروقها الثلاثي؛ فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تَشرق ، أي : طلعت ولم تضيء . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية . وعنه عليه الصلاة والسلام أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى ، وقال : " هذه صلاة الإشراق " .
{ والطيرَ محشورةً } أي : وسخّرنا الطير مجموعة من كل ناحية . عن ابن عباس رضي الله عنه : كان إذا سبّح ، جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير ، فسبَّحت ، فذلك حشرها . { كلٌّ له أواب } أي : كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود .
(5/264)

ووضع الأوّاب موضع المسبّح؛ لأن الأوّاب : الكثير الرجوع إلى الله تعالى ، من عادته أن يكثر ذكر الله ، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه . وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير أوّاب ، أي : مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح ، وقيل : لداود ، أي : يرجع لأمره .
{ وشَدَدْنا مُلْكَه } أي : قوّيناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود . قيل : كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل . قال القشيري : ويقال : وشددنا ملكه بالعدل في القضية ، وحسن السيرة في الرعية ، أو : بدعاء المستضعفين ، أو : بقوم مناصحين ، كانوا يَدُلونه على ما فيه صلاح ملكه ، أو : بقبوله الحق من كل أحد ، أو : برجوعه إلينا في عموم الأوقات . ه . وقال ابن عباس : أن رجلاً من بني إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود ، فقال المستعدي : إن هذا غصبني بقرتي ، فجحد الآخر ، ولم تكن له بينة ، فقال داود : قُوما حتى أنظر في أمركما ، فأوحى الله تعالى إلى داود في منامه : أن اقْتُل الرجل الذي استعدِيَ عليه ، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثاً أن يقتله ، أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : أن الله قد أوحى إليَّ أن أقتلك ، فقال : تقتلني بغير بينة؟ فقال : نعم ، والله لأنفذنَّ أمرَ الله فيك ، فلما عرف الرجلُ أنه قاتله ، فقال : لا تعجل عليَّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذني بهذا الذنب ، الذي هو السرقة ، ولكني كنتُ قتلتُ أبا هذا غِيلة ، وأخذتُ البقرة ، فقتله داود ، فقال الناس : إذا أذنب أحد ذنباً أظهره الله عليه؛ فقتله ، فهابوه ، وعظمت هيبته في القلوب ه .
{ وآتيناه الحكمة } ؛ النبوة ، وكمال العلم ، وإتقان العمل ، والإصابة في الأمور ، أو : الزبور وعلم الشرائع . وكل كلام وافق الحق فهو حكمة . { وفَصْلَ الخطاب } ؛ علم القضاء وقطع الخصام ، فكان لا يتتعتع في القضاء بين الناس ، أو : الفصل بين الحق والباطل . والفصل : هو التمييز بين الشيئين ، وقيل : الكلام البيِّن ، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس ، فصْل بمعنى مفصول ، أو : الكلام البيِّن الذي يبين المراد بسرعة ، فيكون بمعنى فاصل ، والمراد : ما أعطاه الله من فصاحة الكلام ، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، في قضاياه وحكوماته ، وتدابير الملك ، والمشورات . وعن عليّ رضي الله عنه : " هو الْبَيِّنَةُ على المُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " وعن الشعبي : " هو : أما بعد " فهو أول مَن تكلم بها ، فإنَّ مَن تكلم في الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد .
الإشارة : فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك ، وتسلّ بمَن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى ، ففيهم أُسوة حسنة لمَن يرجو الوصول إلى الله تعالى . وقوله تعالى : { إِنَّا سخَّرنا الجبالَ معه . . . } الخ . قال القشيري : كل مَن تحقق بحالة ساعده كل شيء . ه . قلت : وفي الحِكَم : " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوِّن ، فإذا شهدت المكوِّن كانت الأكوان معك " وبالله التوفيق .
(5/265)

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { وهل أتاك نبأ الخصم } ؛ استفهام ، معناه التعجُّب والتشويق إلى استماع ما في حيزه؛ لأنه من الأنباء البديعة ، والأخبار العجيبة . والخصم في الأصل : مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجمع ، كالضيف والزوْر . وأريد هنا اثنان ، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان . { إذ تسوَّروا المحراب } أي : تصعّدوا سوره ونزلوا إليه . والسور : الحائط المرتفع ، ونظيره : تسنمه : إذا علا سنمه . والمحراب : الغرفة ، أو : المسجد ، سمي محراباً لتحارب الشيطان فيه والخواطر الردية . و " إذ " : متعلق بمحذوف ، أي : نبأ تحاكم الخصمين ، أو بالخصم؛ لِمَا فيه من معنى الخصومة ، { إِذ دخلوا على داودَ } : بدل مما قبله ، أو : ظرف لتَسوروا ، { فَفَزِعَ منهم } : تروَّع منهم .
رُويَ أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين ، قيل : جبريل وميكائيل ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه في عبادته ، فمنعهما الحرس ، فتسوّروا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه ، جالسان ، ففزع منهم؛ لأنهم دخلوا عليه في غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا من فوق ، وفي يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون مَن يدخل عليه . قال الحسن : جزأ داود عليه السلام الدهر أربعة أجزاء؛ يوماً لنسائه ، ويوماً للعبادة ، ويوماً للقضاء ، ويوماً للمذاكرة مع بني إسرائيل . فدخلوا عليه يوم عبادته .
فلما فزع { قالوا لا تخفْ } ، نحن { خصمانِ بَغَى بعْضُنا على بعض } أي : ظلم وتطاول عليه ، { فاحكمْ بيننا بالحق ولا تشْطِطْ } ؛ لا تَجُرْ ، من : الشطط ، وهو مجاوزةُ الحدّ وتخطي الحق ، { واهدنا إِلى سواء الصراط } ؛ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته ، والمراد : عين الحق وصريحه .
رُوي : أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسألُ بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة في المواساة بذلك . وكان في أول الإسلام شيء من ذلك بين المهاجرين والأنصار ، فاتفق أنَّ عَيْنَ داودَ عليه السلام وقعت على امرأة أورِيا ، وكانت جميلة ، فأحبّها ، فسأله النزولَ له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوجها ، وهي أم سليمان؛ فعُوتب في ذلك ، وقيل له : إنك مع عظيم منزلتك ، وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحدة ، كان الواجب عليك مغالبةُ هواك ، وقهر نفسك ، واصبر على ما امتحِنْتَ به . وقيل : خطبها أوريا ، وخطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه . ه . ولعلم لم يكن محرماً في شرعهم ، وإنما كان خلاف الأَولى .
وقال شيخ شيوخنا في حاشيته : لا يصح هذا في حق الأنبياء ، وما يُحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة ، وأحبّ أن يُقتل ليتزوجها ، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء الناس ، فضلاً عن بعض أعلام الأنبياء .
(5/266)

وقال عليّ كرّم الله وجهه : مَن حدّثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصَّاص جلدتْه مائةً وستين ، وهو حدّ الفرية على الأنبياء يعني الحدّ مرتين . ورُويَ : أن رجلاً حدّث بها عند عُمر بن عبد العزيز ، وعند رجلٌ من أهل الحق ، فكذَّب المحدِّث ، وقال : إن كانت القصة على ما في كتاب الله ، فما ينبغي أن يُلتمَس خلافُها ، ولا أن يُقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرتَ ، وقد سترها الله على نبيه ، فما ينبغي إظهارَها عليه ، فقال عمر : لَسَماعي لهذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس .
والذي يدلُّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب ، فتزوجها ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض ، دون التصريح؛ لكونها أبلغ في التوبيخ ، من قِبَل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرِّض به كان أوقع في نفسه ، وأَشَدّ تمكُّناً من قلبه ، وأعظم أثراً فيه ، مع مراعاة حسن الأدب ، بترك المجاهرة بالعتاب . قاله النفسي .
ثم ذكر التعريض بقوله : { إِن هذا أَخي } في الدين ، أو : في الصداقة ، أو : الشركة . والتعبير به لبيان كمال قُبح ما فعل به صاحبه ، { له تِسعٌ وتسعونَ نَعْجَةً } ؛ النعجة : الأنثى من الضأن ، وقد يُكنى بها عن المرأة ، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح . { وَلِيَ نَعْجةٌ واحدة } لا أملك غيرها ، { فَقال اكْفِلنيهَا } أي : ملِّكنيها ، واجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي ، { وعَزَّني } ؛ غلبني { في الخطاب } ؛ في الخصومة ، أي : كان أقدر مني على الاحتجاج والمجادلة ، أو : غلبني في الخِطبة ، حيث خطبتُ وخطبَ ، فأخذها ، وهذا منهما تعريض وتمثيل ، كأنهما قالا : نحن كخصمين هذه حالهما ، فمثّلت قصة أورِيا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ، وخليطه له تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع في نعجة خليطه ، وحاجّه في أخذها ، محاججة حريص على بلوغ مراده . وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ، ليحكم بما حكم به من قوله :
{ قال لقد ظَلَمَكَ بسؤال نعجَتِكَ إلى نِعَاجِه } ، حتى يكون محجوباً بحكمه . وهو جوابُ عن قسم محذوف ، قصد به عليه السلام المبالغة في إنكار فعل صاحبه به ، وتهجين طمعه في نعجة مَن ليس له غيرها ، مع أنَّ له قطيعاً منها . ولعله عليه السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادّعاه عليه ، أو : بناه على تقدير صدق المدعي ، أي : إن كنت صدقت فقد ظلمك ، والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم
{ وإِنَّ كثيراً من الخُلَطاءِ } ؛ الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، { لَيبغي بعضُهم على بعضٍ } ؛ غير مراع لحق الصحبة والشركة ، { إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } منهم ، فإنهم يتحامَوْن عن البغي والعدوان ، { وقليلٌ ماهم } أي : وهم قليل .
(5/267)

و " ما " : مزيدة للإبهام ، والتعجُّب من قِلتهم . والجملة : اعتراض . { وظنَّ داودُ أَنما فتناه } ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي؛ لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، أي : علم بما جرى في مجلس الحكومة؛ وقيل : لمّا قضى بينهما نظر أحدُهما إلى الآخر ، فضحك ، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه السلام أنه تعالى ابتلاه . والقصر مُنصَّب على الفتنة ، أي : علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان .
واختلف في سبب امتحانه ، قيل : لأنه تمنّى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وقال : يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي ، فأوحى إليه : إني ابتليتهم ، فصبروا ، فابتلي إبراهيم بنمروذ وبذبح ولده ، وإسحاق بالذبح . ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، وأنت لم تُبتل بشيءٍ ، فقال : يا رب ابتلني بمثل ما ابتليتهم به ، فابتلي بالمرأة . وقيل : إنه ادعى القوة ، وقال : إنه لا يخاف من نفسه قط ، فامتُحن ، { فاستغفر ربَّه } إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب؛ { وخَرَّ راكعاً } أي : ساجداً ، على تسمية السجود ركوعاً ، أو : خرَّ راكعاً مصلياً صلاة التوبة ، { وأنابَ } أي : رجع إلى الله بالتوبة ، رُوي : أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي ، حتى نبت البقل من دموعه ، ولم يشرب ماءً إلا وثلثاه دموع ، واشتغل بذلك عن المُلك ، حتى وثب ابن له ، يقال له : " إيشا " على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه . ه .
وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك ، خلافاً للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك؛ هل سجد عند قوله : { وأناب } أو عند قوله : { وحُسنَ مآبٍ } . وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري : أنه رأى في المنام شجرة تقرأ سورة " ص " ، فلما بلغت : " وأناب " سَجَدَت ، وقالت : اللهم اكتب لي بها أجراً ، وحطّ عني بها وزراف ، وارزقني بها شكراً ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " وسجدتً أنت يا أبا سعيد؟ " قلت : لا . قال : " كنتَ أحق بالسجود من الشجرة " ، ثم تلى نبي الله الآيات ، حتى بلغ : { وأناب } فسجد ، وقال كما قالت الشجرة .
{ فغفرنا له ذلك } أي : ما استغفر منه . قال القشيري : ولمّا أوحى الله بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم؟ أي : الرجل الذي ظلمته فقال : قد استوهبتك منه . ه . وفي رواية : إني أعطيه يوم القيامة ما لم ترَ عيناه ، فأستوهِبك منه فيهبك لي ، قال : يا رب الآن قد عرفتُ أنك غفرت لي . ه . قال تعالى : { وإِن له عندنا لزُلْفَى } ؛ لقُربى وكرامة بعد المغفرة ، { وحُسْنَ مَآبٍ } ؛ مرجع في الجنة .
الإشارة : إنما عُوتب داود عليه السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسي الفرقي ، دون الجمال المعنوي الجمعي ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقي ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : عدَّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصُور إلى المقيد بهما ، وهي مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعاً ، عن شهود فعله فرقاً ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم .
(5/268)

ه . قال القشيري : قال داود عليه السلام : يا رب إني أجد في التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرتب العالية ، فأعطينها؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعاً في مثل تلك الرتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يُمكنه غلق باب السماء . وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن في كف الطالب يتقلّب . ثم إنه كان في البيت كوة ، يدخل منها النور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمَّ أن يقبضه لابنه ، فما زال يحاول ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفي ذلك لأولي الأبصار عبرة . ه .
وقال عند قوله : { فغفرنا له ذلك } : التجأ داود عليه السلام في أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرُّع ، والاستكانة ، فوجد المغفرةَ والتجاوز . وهكذا مَن رَجع في أوائل الشدائد إلى الله ، فالله يكفيه ويتوب عليه ، وكذلك مَن صَبَرَ إلى حينِ طالت عليه المحنة . ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يُقصيك عن ربك . ه . وفي الحِكَم : " معصية أورثت ذُلاًّ وافتقاراً ، خير من طاعة أورثت عزًّا واستكباراً " وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كل سوء أدب يُثمر لك حُسن أدب؛ فهو أدب . ه .
(5/269)

يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا داودُ إِنا جعلناك خليفةً في الأرض } أي : استخلفناك على المُلك فيها ، والحُكم فيما بين أهلها ، أو : جعلناك عمَّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله عليه السلام بعد التوبة ، كما كان قبلها ، لم يتغير قط ، خلاف ما نقله الثعلبي من تغيُّر حاله وصوته ، ومنع الطيور من إجابته ، فانظره .
{ فاحكمْ بين الناس بالحق } ؛ بحكم الله تعالى ، إذ كنت خليفته ، أو : بالعدل ، { ولا تتبع الهوى } أي : هوى النفس في الحكومات ، وغيرها من أمور الدين والدنيا ، بل قِفْ عند ما حدّ لك . وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعةُ هواه ، { فيُضلك عن سبيل الله } أي : فيكون الهوى ، أو اتباعه ، سبباً لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق ، تكويناً وتشريعاً . و " يُضلك " : منصوب في جواب النهي ، أو : مجزوم ، فُتح؛ لالتقاء الساكنين . { إِن الذين يَضِلُّون عن سبيل الله } ؛ عن طريقه الموصلة إليه . وأظهر " سبيلَ الله " في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، { لهم عذاب شديد بما نَسُوا } ؛ بسبب نسيانهم { يوم الحساب } ؛ فإنَّ تذكره وترداده على القلب يقتضي ملازمة الحق ومباعدة الهوى .
{ وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما } من المخلوقات على هذا النظام البديع { باطلاً } أي : خلقاً باطلاً ، عارياً عن الحكمة ، أو : مبطلين عابثين ، بل لحِكَم بالغة ، وأسرارٍ باهرة ، حيث خلقنا من بيْنها نفوساً ، أودعناها العقل؛ لتميز بين الحق والباطل ، والنافع والضار ، ومكنَّاها من التصرفات العلمية والعملية ، في استجلاب منافعها ، واستدفاع مضارها ، ونصبنا لها للحق دلائل آفاقية ، ونفسية ، ومنحناها القدرة على الاستشهاد بها ، ثم لم نقتصر على ذلك المقدار من الألطاف ، بل أرسلنا إليها رسلاً ، وأنزلنا عليها كتباً ، بيَّنَّا فيها كيفية الأدب معنا ، وهيئة السير إلى حضرة قدسنا ، وقيَّضنا لها جهابذة ، غاصوا على جواهر معانيها ، فاستخرجوا منها كيفية المعاملة معنا ، ظاهراً وباطناً ، وأوعدنا فيها بالعِقَاب لمَن أعرض عنها ، ووعدنا بالثواب الجزيل لمَن تمسّك بها ، ولم نخلق شيئاً باطلاً .
{ ذلك ظنُّ الذين كفروا } ، الإشارة إلى خلق العبث ، والظن بمعنى المظنون ، أي : خَلْقُها عبثاً هو مظنون الذين كفروا ، وإنما جُعلوا ظانين أنه خلقها للعبث ، وإن لم يصرحوا بذلك؛ لأنه لمّا كان إنكارهم للبعث ، والثواب ، والحساب ، والعقاب ، التي عليها يدور فلك تكوين العالم ، مؤدياً إلى خلقها عبثاً ، جُعِلوا كأنهم يظنون ذلك ويقولونه؛ لأن الجزاء هو الذي سيقت إليه الحكمة في خلق العالم ، فمَن جحده فقد جحد الحكمة في خَلْق العالم .
{ فويل للذين كفروا من النار } . الفاء سببية؛ لإفادة ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل ، وأظهر في موضع الإضمار للإشعار بأن الكفر علة ثبوت الويل لهم ، و " من النار " : تعليلية ، كما في قوله :
(5/270)

{ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 79 ] أي : فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم .
{ أم نجعلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض } ، " أم " : منقطعة ، والاستفهام فيها للإنكار ، والمراد أنه لو بطل الجزاء كما تقول الكفَرة لاستوت أحوال أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة ، ومَن سوّى بينهما كان سفيهاً ، ولم يكن حكيماً ، أي : بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في أقطار الأرض ، كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء؛ لاستواء الفريقين في التمتُّع في الحياة الدينا ، بل الكفرة أوفر حظًّا فيها من المؤمنين ، مع صبر المؤمنين ، وتعبهم في مشاق الطاعات ، لكن ذلك الجعل محال ، فتعيّن البعث والجزاء؛ لرفع الأولين إلى أعلى عليين ، وخفض الآخرين إلى أسفل سافلين .
{ أم نجعلُ المتقين كالفجارِ } ؛ إنكار للتسوية بين الفريقين المذكورين ، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يُساعده المقام ، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ، ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين ، هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين . وقيل : قالت قريش للمؤمنين : إنا نُعْطَى من الخير يوم القيامة ميل ما تُعْطَونَ ، فنزلت .
الإشارة : قال الورتجبي : ولَمَّا خرج داودُ من امتحان الحق وبلائه ، كساه خلعة الربوبية ، وألبسه لباسَ العزة والسلطنة ، كآدم خرج من البلاء ، وجلس في الأرض على بساط فلك الخلافة ، وذلك بعد كونهما متخلقين بخلق الرحمن ، مصوّرين بصورة الروح الأعظم ، فإذا تمكن داود في العشق ، والمحبة ، والنبوة ، والرسالة ، والتخلٌّق ، صار أمرُه أمرَ الحق ، ونهيُه نهيَ الحق . ه . وقال ابن عطية : لا يُطلق خليفة الله إلا لنبي ، وإطلاقه في غير الأنبياء تجوُّز وغلوٌّ . ه . قلت : يُطلق عند الأولياء على مَن تحققت حريته ، ورسخت ولايته ، وظهر تصرفه في الوجود بالهمة ، حتى يكون أمره بأمر الله ، غالباً ، وهو مقام القطبانية ، فالمراتب ثلاث : صلاح ، وولاية ، وخلافة ، فالصلاح لِمن صلح ظاهره بالتقوى ، والولاية لِمن تحقق شهوده ، مع بقية من نفسه ، بحيث تقل عثراته جدًّا ، والخلافة لِمن تحققت حريته ، وظهرت عصمته ، بجذب العناية ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { ولا تتبع الهوى } ، الهوى : ما تهواه النفس ، وتميل إليه ، من الحظوظ الفانية ، قلبية كانت ، كحب الجاه ، والمال ، وكالميل في الحُكم عن صريح الحق ، أو : نفسانية ، كالتأنُّق في المآكل ، والمشارب ، والمناكح . واتباعُ الهوى : طلبُه ، والسعي في تحصيله ، فإن كان حراماً قدح في الإيمان ، وإن كان مباحاً قدح في نور مقام الإحسان ، فإن تَيسَّرَ من غير طلب وتشوُّف ، وكان موافقاً للسان الشرع ، جاز تناول الكفاية منه ، مع الشكر وشهود المنَّة . قال عمر بن عبد العزيز : إذا وافق الحقُّ الهوى ، كان كالزبد بالبرسَام ، أي : السكر . وفي الحِكَم : " لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، إنما يخاف من غلبة الهوى عليك " وغلبة الهوى : قهره وسلطنته ، بحيث لا يملك نفسه عند هيجان شهوتها .
وقوله تعالى : { وما خلقنا السماء والأرضَ وما بينهما باطلاً } أي : بل خلقناهما لنُعرف بهما ، فما نُصبت الكائنات لتراها ، بل لترى فيها مولاها . وقد تقدّم هذا مراراً .
(5/271)

كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قلت : " كتابٌ " : خبر عن مضمر ، أي : هذا ، و " أنزلناه " : صفة له ، و " مبارك " : خبر ثان ، أو : صفة الكتاب ، و " لِّيدبروا " : متعلق بأنزلناه .
قيل : لمَّا نفى التسوية بين الصالح المتقِّي ، والمفسد الفاجر ، بيَّن ما تحصل به لمتبعيه السعادة الأبدية ، ويحصل به الصلاح التام ، والتقوى الكاملة . وهو كتاب الله فقال جلّ جلاله : { كتابٌ } ؛ وهو القرآن { أَنزلناه إليك مباركٌ } ؛ كثير المنافع الدينية والدنيوية ، أنزلناه { ليدَّبّروا آياته } أي : ليتفكروا في آياته ، التي من جملتها هذه الآيات المعربة عن أسرار التكوين والتشريع ، فيعرفوا ما في ظاهرها من المعاني الفائقة ، والتأويلات اللائقة . وقرى : { لتدبروا } على الخطاب ، أي : أنت وعلماء أمتك ، بحذف إحدى التاءين . { وليتذكَّر أولوا الألباب } أي : وليتّعِظ به ذوو العقول الصافية ، السليمة من الهوى ، فيقفوا على ما فيه ، ويعملوا به ، فإنَّ الكتب الإلهية ما نزلت إلا ليُتدبر ما فيها ، ويُعمَل به . وعن الحسن : قد قرأ هذا القرآن عبيدٌ وصبيان ، لا علم لهم بتأويله ، حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده . ه .
الإشارة : كتاب الله العزيز بطاقة من عند الملك ، والمراد من البطاقة فَهْمُ ما فيها ، والعمل به ، لا قراءة حروفها ورسومها فقط ، فمَن فعل ذلك فهو مقصّر .
وذكر في الإحياء أن آداب القراءة عشرة ، أي : الآداب الباطنية :
الأول : فَهْمُ عظمة الكلام وعُلوّه ، وفضل الله سبحانه بخلقه ، في نزوله عن عرش جلاله ، إلى درجة أفهام خلقه ، فلولا استتار كُنه جلال كلام الله تعالى ، بكسوة الحروف ، لما ثبت لكلام الله عرش ولا ثرى ، ولَتَلاشى ما بينهما من عظمة سلطانه ، ولولا تثبيت الله موسى عليه السلام ما أطاق سماع كلامه ، كما لم يطق الجبل مبادر نوره .
الثاني : تعظيم المتكلم به ، وهو الله سبحانه ، فيخطر في قلبه عظمة المتكلم ، ويعلم أن ما يقرأه ليس من كلام البشر ، وأن في تلاوة كتابه غاية الخطر ، ولهذا كان عكرمة إذا نشر المصحف غشي عليه .
الثالث : حضور القلب ، وترك حديث النفس ، فإذا قرأ آية غافلاً أعادها .
الرابع : التدبُّر ، وهو وراء الحضور ، فإنه قد لا يتفكّر في غير القرآن ، ولكنه مقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبّره . قال عليٌّ رضي الله عنه : لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ولا خير في قراءة لا تدبُّر فيها .
الخامس : التفهُّم ، وهو أن يستوضح كل آية ما يليق بها؛ إذ القرآن مشتمل على ذكر صفات الله تعالى ، وذكر أفعاله ، وذكر أحوال أنبيائه عليهم السلام ، وذكر أحوال المكذّبين ، وكيف أُهلكوا ، وذكر أوامره وزواجره ، وذكر الجنة والنار ، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " مَن أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن " أي : فإنه مشتمل على فعل الله ، وصفاته ، وكشف أسرار ذاته ، لمَن تأمّله حق تأمله .
(5/272)

السادس : التخلي عن موانع الفهم ، ومعظمها أربعة : أولها : صرف الهمة إلى إخراج الحروف من مخارجها ، وهذا تولى حفظه شيطان وُكل بالقراء . وكذلك الاشتغال بضبط رواياته ، فأنى تنكشف لهذا أسرار المعاني . ثانيها : أن يكون مقيَّداً بمذهب ، أخذه بالتقليد ، وجمد عليه ، فهذا شخص قيَّده معتقدُه ، فلا يمكن أن يخْطر بباله غير معتقده ، فلا يتبجّر في معاني القرآن؛ لأنه مقيّد بما جمد عليه . ثالثها : أن يكون مصرًّا على ذنب ، أو متصفاً بكبر ، أو : مبتلى بهوى في الدنيا ، وبهذا ابتلى كثير من الناس ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فى الأَرْضِ } [ الأعراف : 146 ] أي : عن فهم آياتي . رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما يتناوله النقل عن ابن عباس وغيره ، وأمَّا ما وراء ذلك تفسير بالرأي ، فهذا أيضاً من أعظم الحُجب؛ فإن القرآن العظيم له ظاهر وباطن ، وحدّ ومُطلع ، فالفهم فيه لا ينقطع إلى الأبد ، فهو بحر مبذول ، يغرف منه كل واحد على قدر وسعه ، إلى يوم القيامة .
السابع : التخصيص ، وهو أن يعتقد أن المقصود بكل خطاب في القرآن ، فإن سمع أمراً أو نهياً ، قدر أنه المأمور والمنهي ، وكذلك إن سمع وعداً ووعيداً ، وإن سمع قصص الأولين عَلِمَ أن المقصود به الاعتبار ، ليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه ، ويتقوّى إيمانه ، قال تعالى : { وَكُّلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بشهِ فُؤَادَكَ } [ هود : 120 ] فالقرآن لم ينزل خاصّاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو شفاء ورحمة ونور للعالمين ، فيثبت فؤاد كل مَن يسمعه .
الثامن : التأثير ، وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة ، بحسب اختلاف الآيات ، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد ، يتصف به قلبه؛ من الخوف ، والرجاء ، والقبض ، والبسط ، وغير ذلك .
التاسع : الترقي وهو أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله سبحانه ، لا من نفسه ، ولا من غيره . فدرجات القرآن ثلاث : أدناها : أن يُقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى ، واقفاً بين يديه ، فيكون حاله السؤال والتملُّق . ثانيها : أن يشهد بقلبه كأن الله تعالى يُخاطبه بألفاظه ، ويُناجيه بإنعامه وإحسانه ، فمقامه الحياء والتعظيم . الثالثة : أن يرى في الكلام المتكلِّم ، فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، بل يكون مقصور الهم على المتكلم ، مستغرقاً في شهوده ، وهذه درجة المقرَّبين ، وما قبلها درجة أصحاب اليمين ، وما خرج عن هذا فهو درجة الغافلين . وعن الدرجة العليا أخبر جعفر الصادق رضي الله عنه بقوله : والله لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يُبصرون . ه . وقال بعض الحكماء : كنتُ أقرأ القرآن ولا أجد حلاوة ، حتى تلوته كأنه أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه ، ثم رُفعت إلى مقام ، كأني أسمعه من جبريل ، يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به ، فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه .
العاشر : التبري ، وهو أن يتبرأ من حوله ، وقوته ، والالتفات إلى نفسه بعين الرضا . انظر بقية كلامه فقد اختصرناه غاية .
(5/273)

وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
يقول الحق جلّ جلاله : { ووهبنا لداودَ سليمانَ نِعْمَ العبدُ } أي : سليمان ، فهو المخصوص ، { إِنه أوابٌ } أي : رجَّاع إلى الله تعالى في السرّاء والضراء ، وفي كل أموره ، { إِذ عُرِضَ عليه } أي : واذكر ما صدر عنه حين عُرض عليه { بالعشِيّ } ؛ وهو ما بين الظهر إلى آخر النهار ، { الصافناتُ الجياد } أي : الخيل الصافنات ، وهي التي تقوم على طرف سنبك يدٍ أو رِجل . وهي من الصفات المحمودة ، لا تكاد توجد إلا في الخيل العِراب ، الخُلَّص . وقيل : هو الذي يجمع يديه ويستبق بهما ، والجياد : جمع جواد ، أو : جود ، وهو الذي يسرع في جريه ، أو : الذي يجود عند الركض ، وقيل : وصفت بالصفون والجودة؛ لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين ، واقفة وجارية ، أي : إذا وقفت كانت ساكنة ، وإذا جرت كانت سِراعاً خفافاً في جريها .
رُوي أنه عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين ، وأصاب ألف فرس ، وقيل : أصابها أبوه من العمالقة ، وورثها منه ، وفيه نظر؛ فإن الأنبياء لا يورثون ، إلا أن يكون تركها حبساً ، فورث النظر فيها . ويكون عقرها بنية إبدالها . وقيل : خرجت من البحر لها أجنحة ، فقعد يوماً بعدما صلّى الظهر على كرسيه ، فاستعرضها ، فلم تزل تُعرض عليه حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر ، أو : عن الوِرد ، كان له من الذكْر وقتئذ ، وهو أليق بالعصمة ، فاغتم لِما فاته ، فاستردها ، فعقرها ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، وبقي مائة ، فما في أيدي الناس اليوم مِن الجياد فمِن نسلها .
وقيل : لَمَّا عقرها أبدل الله تعالى له خيراً منها ، وهي الريح تجري بأمره ، { فقال إِني أحببتُ حُبَّ الخيرِ عن ذكر ربي } ، قاله عليه السلام عند غروب الشمس ، اعترافاً بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة أو الذكر ، وغايته حينئذ : أن الأَوْلى استغراق الأوقات في ذكر الله من الاشتغال بالدنيا . فترَكَ الأَوْلى ، وتحسّر لذلك ، وأمر بالقطع . وأما حمله على الصلاة والاشتغال بها حتى يفوت الوقت ، فذنب عظيم ، تأباه العصمة . قاله شيخ شيوخنا الفاسي . وقد يُجاب بأنَّ تركه كان نسياناُ وذهولاً ، لا عمداً ، فلا معصية .
وعدّى " أحببتُ " ب " عن " دون " على "؛ لتضمنه معنى النيابة ، أي : أَنَبْتُ حبَّ الخير ، وهو المال الكثير ، والمراد : الخيل التي شغلته عن ذكر ربه ، { حتى توارتْ } أي : استترت { بالحجابِ } أي : غربت واحتجبت عن العيون ، و " عن " : متعلق بأحببت ، باعتبار استمرار المحبة ودوامها . حسب استمرار العَرض ، أي : أنبتُ حب الخير عن ذكر ربي ، واستمر ذلك حتى غربت الشمس . وإضمارها من غير تقدُّم ذكر لدلالة " العَشي " عليها .
{ رُدُّوها عليَّ } ، هو من مقالة سليمان ، { فطَفِقَ مسْحاً } ، الفاء فصيحة ، مفصحة عن جملة حُذفت ، لدلالة الكلام عليها ، إيذاناً بسرعة الامتثال ، أي : فَردُّوها عليه ، فأخذ بمسح السيف مسحاً { بالسُّوقِ والأعناقِ } أي : بسوقها وأعناقها يقطعها ، من قولهم : مسح عنقه بالسيف ، وقيل : جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها ، حبّاً لها ، وإعجاباً بها ، وهو يُنافي سياق الكلام .
(5/274)

الإشارة : لم يذكر الحق تعالى لسليمان ترجمة مخصوصة ، كما ذكر لغيره بقوله : { واذكر عبدنا داود } ، { واذكر عبدنا أيوب } ، بل خرطه في سلك ترجمة أبيه ، وجعله هبة له؛ تنبيهاً على أن مقام أهل الجمال الدنيوي ، لا يبلغ مقام أهل الجلال؛ ففيه تنبيه على أن الفقير الصابر أعظم من الغني الشاكر . قاله في القوت .
وقوله تعالى : { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُوق } ، فيه : أن مَن ترك شيئاً عوَّضه الله خيراً منه ، فمَن كان في الله تلفه ، كان على الله خلفه ، وفيه حجة للصوفية على إتلاف كل ما شغل القلب عن الله ، كما فعل الشبلي من تمزيق الثياب الرفهة . والله تعالى أعلم .
(5/275)

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد فتنَّا سليمانَ } أي : ابتليناه ، { وألقينا على كرسيه } ؛ سرير ملكه ، { جسداً } ؛ شق ولد ، أو جِنياً ، { ثم أنابَ } ؛ رجع إلى الله تعالى ، وأظهر ما قيل في فتنته عليه السلام ما رُوي مرفوعاً : أنه قال : لأطُوفَنَّ الليلةَ على سبعين أو تسع وتسعين امرأةً ، تأتي كل واحدة منهن بفارس ، يُجاهد في سبيل الله ، ولم يقل " إن شاء الله " فطاف عليهنَّ ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشقّ رجل . قال نبينا عليه الصلاة والسلام : " والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء اللهُ ، لجاهدوا في سبيل الله فُرساناً أجمعون " فالفتنة على هذا : كونه لم يقل : " إن شاء الله " والجسد هو شق الإنسان الذي وُلد له . وقيل : إنه ولد له ابن ، فأجْمعَت الشياطين على قتله ، وقالوا : إن عاش له ولد لم ننفك من خدمته ، فلمَّا عَلِمَ ذلك ، حمله في السحاب ، فما شعر حتى ألقي على كرسيه جسداً ميتاً ، فتنبّه لخطئه ، حيث لم يتوكل على الله .
وقيل : إنه غزا صيدون من الجزائر ، فقتل مَلِكها ، وأخذ بنتاً له تُسمى جرادة ، من أحسن الناس ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت على جفاء ، وأحبها ، وكان لا يرقأ دَمْعها ، جزعاً على أبيها ، فأمر الشياطين فمثَّلوا لها صورته ، فكانت تغدو عليها وتروح مع ولائدها ، فيسجدْنَ لها ، كعادتهن في ملكه ، فأخبره صاحبه آصف بذلك ، فكسر الصورة ، وعاقب المرأة ، ثم خرج إلى فلاة ، وفُرش له الرماد ، وجلس عليه تائباً إلى الله متضرعاً . وكانت له أم ولد ، يقال لها : " أمينة " إذا دخل للطهارة ، أو لإصابة امرأة ، يعطيها خاتمه ، وكان فيها مُلكه ، فأعطاها يوماً ، فتمثّل لها بصورته شيطان ، اسمه " صخر " وأخذ الخاتم ، فتختّم به ، وجلس على كرسيه ، فاجتمع عليه الخلق ، ونفذ حكمه في كل شيء ، إلا في نسائه ، على المشهور ، وغُيرَ سليمان عن هيئته ، فأتى " أمينة " لطلب الخاتم ، فأنكرته وطردته ، فعلم أن الخطيئة قد أدركته ، فكان يطوف على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان ، حثوا التراب عليه ، وسبُّوه ، ثم عمد إلى السمَّاكين ينقل لهم السمك ، فيُعطونه كل يوم سمكتين ، فمكث على ذلك أربعين صباحاً ، عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماءُ بني إسرائيل حُكمَ الشيطان ، حتى دخلوا على نسائه ، فقالوا : قد أنكرنا حُكمه ، فذهبوا حتى جلسوا بين يديه ، فنشروا التوراة ، فقرؤوها ، فطار من بين أيديهم ، والخاتم معه ، ثم قذفه في البحر ، فابتلعته سمكة ، فوقعت في يد سليمان ، فبَقَر بطنها ، فإذا هو بالخاتم ، فتختّم به ، وخرّ ساجداً لله ، وعاد إليه مُلكه ، وقبض الجني " صخر " فجعله في وسط صخرة ، وشدّ عليه بأخرى ، ثم أوثقهما بالحديد والرصاص ، وقذفه في البحر ، فهو باق فيه .
(5/276)

فالجسد على هذا عبارة عن " صخر " سمي به ، وهو جسم لا روح فيه؛ لأنه تمثيل بما لم يكن كذلك ، والخطيئة : تغافُلُه عليه السلام عن حال أهله؛ لأن اتخاذ التماثيل لم يكن محظوراً حينئذ ، والسجود للصورة بغير علم منه لا يضره . وأنكر بعض المحققين هذه القصة . وقال : لا يصح ما نقله الإخباريون وأهل التفسير في هذا الموضع ، من تشبُّه الشيطان بنبيه ، وتسلُّطه على ملكه ، وتصرُّفه في أمته والجور في حكمه .
قال القاضي عياض : الشياطين لا يتسلطون على مثل هذا ، وقد عصم الله الأنبياء عن مثله . ومثله لابن العربي أيضاً . وحكى إنكاره عن السمرقندي . وقال الطيبي : أشبه الأقاويل في إلقاء الجسد هو شق الولد ، كما تقدّم . وخالفه ابن حجر ، فقال : قال غير واحد من المفسرين : أن المراد بالجسد المذكور شيطان ، وهو المعتمد ، فالله أعلم ، غير أن التنزيه أسلم .
قال شيخُ شيوخنا الفاسي في حاشيته ، وليس هذه كقصة أيوب ، فيما يذكر أنه تسلّط الشيطان على إتلاف ماله وولده ، وضرره في جسده؛ لأن ذلك إنما فيه تسلُّط على محض ضرر دنيوي لا ديني . وقد قال عليه الصلاة والسلام : " تفلت عليّ البارحة عفريتٌ . . . " الحديث . وكذا سُحر ، وسُمّ ، وشُجّ . والتسلُّط المذكور في حق سليمان ، فيه تلبيس في الدين فلا يصح ، إلا أن يقال : إنه لم يقر ، بل رُفع اللبس بعد ذلك ، كما في آية : { فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ } [ الحج : 52 ] ، والله أعلم ه .
{ قال ربِّ اغفر لي } ، هو بدل من " أناب " ، أي : اغفر لي ما صدر عني من الزلة ، { وهب لي مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } ، ليكون معجزةً لي ، مناسبة لحالي ، فإنه عليه السلام لمَّا نشأ في بيت الملك والنبوة ، وورثهما معاً ، استدعى من ربه معجزة جامعة لحكمهما . أو : لا ينبغي لأحد يسلبه مني بعد هذه السلبة ، أو : لا يصح لأحد من بعدي؛ لعظمته وشدته .
قال القشيري : ويُقال : لا ينبغي لأحد من بعدي أن يسأل المُلْك ، بل يجب أن يَكِلَ أمرَه إلى الله ومثله للجنيد ، وزاد : فإن المُلْكَ شُغل عن المالك أو يقال : لا ينبغي لأحدٍ من بعدي من الملوك ، لا من الأنبياء ، وإنما سأل المُلكَ لسياسة الناس ، وإنصافِ بعضهم من بعض ، والقيام بحقِّ الله ، ولم يسأله لأجل مَيْلِه إلى الدنيا . وهو كما قال يوسف عليه السلام : { اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ . . . } [ يوسف : 55 ] . ثم قال : عَلِمَ أن نبينا عليه الصلاة والسلام لا يلاحِظَ الدنيا ، ولا يملكها ، تحقيراً لها فقال : { لا ينبغي لأحد من بعدي } لا لأنه بَخِلَ به عليه ، ولكن لِعِلْمِه أنه لا ينظر إلى ذلك . ه . هذا ، وقد يُقال : إن قوله : { وهب لي مُلْكاً } قد جرى على لسانه ، كما هو حال النطق بالله من أهل الله ، ولذلك كان الأمر كذلك ، ولم يزاحمه أحد ، كقول الخليل :
(5/277)

{ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً } [ البقرة : 129 ] ، لما جرى به القضاء أنطقه الله بما سيكون . وتقديم الاستغفار على الاستيهاب؛ لمزيد اهتمامه بأمر الدين ، جرياً على سنَن الأنبياء والصالحين ، وكون ذلك أدخل في الإجابة .
{ إِنك أنت الوهابُ } ؛ تعليل للدعاء بالهبة والمغفرة معاً ، فإن المغفرة من أحكام وصف الوهَّابية قطعاً ، { فسخَّرنا له الريحَ } ؛ فذللناها لطاعته ، إجابة لدعوته ، فعاد أمره عليه السلام إلى ما كان عليه قبل الفتنة ، قيل : فتن سليمان بعدما ملك عشرين ، وملك بعد الفتنة عشرين ، فسخرت له الريح { تجري بأمره } ؛ بيان لتسخيرها ، { رُخَاءً } أي : لينة ، من الرخاوة ، أو : طيبة لا تزعج ، وهذا بعد أن تُقِلّ السرير من الأرض الإعصارُ ، فإذا صار في الهواء حملته الرخاء الطيبة ، { حيث أصابَ } أي : قصد وشاء ، بلغة حمير . تقول العرب : أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب فأخطأ . قال الشاعر :
أصَابَ الْكَلاَمَ فَلَمْ يَستَطِعْ ... فأَخْطَا الجَوابَ لَدَى المِفْصَلِ
{ و } سخرنا له { الشياطينَ كلَّ بناءٍ وغَوَّاصٍ } : بدل من " الشياطين " . فكانوا يبنون له ما يشاء ، ويغوصون له في البحر؛ لاستخراج الآلىء ، وهو أول مَن استخرج اللؤلؤ من البحر ، وسخّرنا له كلَّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، { وآخرين مقرَّنِينَ في الأصفاد } ؛ فكان يقرن مردة الشياطين ، بعضهم مع بعض ، في القيود والسلاسل ، للتأديب والكف عن العباد .
والصفد : القيد ، وقد يسمى العطاء بالصفد؛ لأنه ارتباط للمنعَّم عليه في يد المنعِم . ومنه قول عليّ رضي الله عنه : ( مَن برَّك فقد أسرك ، ومَن جفاك فقد أطلقك ) ، ومن هذا كانت الصوفية يهربون من خير الناس ، أكثر مما يهربون من شرهم . قال الشيخ عبد السلام بن مشيش لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنهما : يا أبا الحسن اهرب من خير الناس ، أكثر ما تهرب من شرهم ، فإنَّ خيرهم يُصيبك في قلبك ، وشرهم يُصيبك في بدنك ، ولئن تُصاب في بدنك خير من أن تصاب في قلبك ، ولعدو تصل به إلى ربك خير من حبيب يقطعك عن ربك . ه .
{ هذا عطاؤنا } ، هو حكاية لما خُوطب به سليمان من قِبَل الحق تعالى ، أي : وقلنا له هذا الذي أعطيناك من المُلك العظيم ، والسلطنة ، والتسلُّط على ما لم يُسلط عليه غيرُك ، هو عطاؤنا الخاص بك ، { فامْنُنْ أو أَمْسِكْ } أي : أعطِ مَن شئت ، وامنع مَن شئت ، { بغير حسابٍ } أي : غير محاسَب على منِّه ومنعه لتفويض التصرُّف فيه إليك ، فكان إذا أعطى أُجر ، وإذا منع لم يأثم ، بخلاف غيره . قال الحسن : إن الله لم يعطِ أحداً عطية إلا جعل فيها حساباً ، إلا سليمان ، فإن الله أعطاه عطاءً هيناً . وهذا مما خُصّ به سليمان عليه السلام ، وأما غيره ، فيؤخر على بذله ، ويُعاقب على منعه من حقه ، و { بغير حساب } : قيل : متعلق بعطاؤنا ، وقيل : حال من المستكن في الأمر ، أي : هذا عطاؤنا جمّاً كثيراً ، لا يكاد يقدر على حصره ، أو : هذا التسخير عطاؤنا فامنن على مَن شئت من الشياطين بالإطلاق ، أو : أمسك مَن شئت منهم في الوثاق ، لا حساب عليك في ذلك .
(5/278)

{ وإِنَّ له عندنا لزُلفى } ؛ لقُربى في الآخرة ، مع ما له في الدنيا من الملك العظيم ، { وحُسنَ مآب } ؛ مرجع ، وهي الجنة . وزُلفى : اسم إن ، و " له " : خبر ، و " عند " : متعلق بالاستقرار .
رُوي أن سليمان عليه السلام لما ورث مُلك أبيه ، سار من الشام إلى العراق ، فبلغ خبره كسرى ، فهرب إلى خراسان ، فلم يلبث حتى هلك . ثم سار سليمان عليه السلام إلى مرو ، ثم إلى بلاد الترك ، فأوغل فيها ، ثم جاز بلاد الصين ، ثم عطف إلى أن وافى بلد فارس ، فنزلها أياماً ، ثم عاد إلى الشام ، فأمر ببناء بيت المقدس ، فلما فرغ منه سار إلى تهامة ، ثم إلى صنعاء ، وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكر الله ، وغزا بلاد المغرب؛ الأندلس وطنجة وغيرهما . انظر أبا السعود . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما أعطى اللهُ عبداً مُكنةً إلا بعد محنة ، ولا رفع مقاماً إلا بعد ابتلاء ، وإما في البدن والمال ، إما في الدين ، إنْ صَحِبه رجوع وانكسار . كأنّ الله تعالى إذا أراد أن يرفع عبداً أهبطه إلى الأرض قهرية العبودية ، ثم يرفعه إلى مشاهدة عظمة الربوبية ، ثم يملكه الوجود بأسره ، يتصرف فيه بهمّته كيف شاء . ولذلك قيل في معصية آدم : نعمت المعصية أورثت الخلافة . وشاهده حديث : " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " ومَن كان الله عنده ، ماذا يفوته؟
وقوله تعالى : { وهَبْ لي مُلكاً . . . } الخ ، قال القشيري : لم يطلب المُلكَ الظَاهر ، وإنما أراد به أن يَمْلِكَ نَفْسَه ، فإن المَلِكَ على الحقيقة مَن ملَك نفسَه ، فمَن مَلِكَها لم يَتَّبعْ هواه ، أي : فيكون حرّاً ، فيملكه الله التصرُّف في الوجود . ثم قال : ويُقال أراد به كمالَ حاله في شهود ربه ، حتى لا يَرى معه غيرَه ، ويقال : سأل القناعةَ التي لا يبقى معها اختيار . ه .
وقوله تعالى : { هذا عطاؤنا فامنُنْ أو أَمسك بغير حساب } ، هو عند الأولياء ليس خاصّاً بسليمان ، فكل مَن تمكَّن مع الله التمكُّن الكبير يُفوض إليه الأمر ، ويقال : افعل ما شئت ، وشاهده : حديث أهل بدر . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : يبلغ الوليّ مبلغاً يُقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت . ثم استشهد بالآية في حق سليمان ، هذا ، وإن كان للنبي من أجل العصمة ، فلِمن كان من الأولياء في مقام الإمامة قسط منه ، من أجل الحفظة .
(5/279)

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
يقول الحق جلّ جلاله : { واذكر عبدنَا أيوبَ } ، وهو ابن عيصو بن إسحاق عليه السلام ، أي : من ذريته؛ لأنه بعد يوسف ، وامرأته : رحمة بنت إفراثيم بن يوسف . { إِذ نادى ربَّه } ، وهو بدل اشتمال من " عبدنا " . و " أيوب " : عطف له ، { أَنِّي } أي : بأني { مسني الشيطان بنُصْبٍ } أي : تعب ، وفيه قراءات بفتحتين ، وبضمتين ، وبضم وسكون ، وبنصب وسكون . { وعذابٍ } أي : ألم ، يريد ما كان يقاسيه من فنون الشدائد ، وهو الضر في قوله : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } [ الأنبياء : 83 ] ، وهو حكاية لكلامه الذي ناداه به ، وإلا لقيل : إنه مسّه . وإسناده إلى الشيطان على طريق الأدب في إسناد ما كان فيه كمال إلى الله تعالى ، وما كان فيه نقص إلى الشيطان أو غيره ، كقول الخليل : { وَإِذَا مَرِضْتُ } [ الشعراء : 80 ] ولم يقل : أمرضني . وكقول يوشع عليه السلام : { وَمَآ أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } [ الكهف : 63 ] . وفي الحقيقة : كلٌّ من عند الله . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه ، من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله في أن يكفيه ذلك ، بكشف البلاء ، أو بدفعه وردّه بالصبر الجميل .
ورُوي : أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتدّ أحدهم ، فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان : أن الله لا يبتلي الأنبياء والصالحين ، فشكا ذلك إلى ربه . وذكر في سبب بلائه؛ أنه ذبح شاة فأكلها ، وجاره جائع ، أو : رأى منكراً فسكت عنه ، أو : استغاثه مظلوم فلم يغثه ، أو : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر ، فداهنه ، فلم يغزه ، أو : سؤاله امتحاناً لصبره ، أي : هل يصبر أم لا ، أو : ابتلاه لرفع درجاته بلا سبب ، وهو أولى .
{ اركُضْ برِجْلِكَ } ، حكاية ما أجيب به أيوب عليه السلام ، أي : أرسلنا له جبريل عليه السلام بعد انتهاء مدة مرضة ، فقال له : اركض ، أي : اضرب برجلك الأرض ، وهي أرض موضع بالجابية ، فضربها ، فنبعت عين ، فقيل : { هذا مُغتَسَل باردٌ وشَرابٌ } أي : هذا ما تغتسل منه ، وتشرب منه ، فيبرأ ظاهرك وباطنك ، وقيل : نبعت له عينان؛ حارة للاغتسال ، وباردة للشرب ، فاغتسل من إحداهما ، فبرىء ما في ظاهره ، وشرب من الأخرى ، فبرىء ما في باطنه ، بإذن الله تعالى . ومدة مرضه قيل : ثمان عشرة سنة ، وقيل : أربعين ، وقيل : سبع سنين ، وسبعة أشهر ، وسبعة أيام ، وسبع ساعات .
{ ووهبنا له أهلَه ومثلَهم معهم } ، قيل : أحياهم الله بأعيانهم ، وزاد مثلهم ، وقيل : جمعهم بعد تفرُّقهم ، وقيل : أعطاه أمثالهم وزاده ضِعفهم . قال القشيري : وكان له سبع بنات . وثلاثة بنين ، في مكتب واحد ، فحرّك الشيطانُ الأسطوانةَ ، فانهدم البيت عليهم . ه . ولم يذكر كم كان له من الزوجات ، فقد سلمت منهن " رحمة " ، وهلك الباقي .
أعطيناه ذلك { رحمةً منا } أي : رحمة عظيمة علية من قِبلنا .
(5/280)

{ وذِكْرى لأُولي الألبابِ } أي : ولنذكرهم بذلك ليصبروا على الشدائد ، ويلتجئوا إلى الله فيما ينزل بهم؛ لأنهم إذا سمعوا بما أنعمنا به عليه ، لِصبره ، رغَّبهم في الصبر على البلاء .
ولمّا حلف : لَيَضْربنَّ امرأته مائةَ ضربة ، حيث أبطأت عليه في حاجتها . وقيل : باعت ذوائبها واشترت به رغيفين ، وكانت متعلق أيوب . وقيل : طمع الشيطان فيها أن يسجد زوجُها له فيشفيه ، أمره الله تعالى ببر يمينه ، فقال : { وخُذْ بيدك ضِغْثاً } ؛ حُزمة صغيرة من حشيش أو رَيحان ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : قبضة من الشجر ، { فاضرِبْ به ولا تَحْنَثْ } ، وهذه الرخصة باقية عند الشافعي وأبي حنيفة ، خلافاً لمالك؛ لأن الأَيْمَان عنده مبنية على الأعراف . قال تعالى : { إِنَّا وجدناه } ؛ علمناه { صابراً } على البلاء ، وأما شكواه فليست جزعاً ، بل رجوعاً إلى مولاه ، على أنه عليه السلام إنما طلب الشفاء خيفة على قومه ، حيث كان الشيطانُ يوسوس إليهم : لو كان نبيّاً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به ، وإرادة القوة على الطاعة ، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبقَ منه إلا القلب واللسان . قلت : طلب الشفاء لا ينافي الرضا؛ لأن العبد ضعيف ، لا قوة له على قهرية الحق . ثم قال تعالى : { نِعْمَ العبدُ إِنه أوَّابٌ } ؛ رجَّاع إلى الله تعالى . قال القشيري : لم يشغله البلاء عن المُبْلِي . وهو تعليل لمرضه .
الإشارة : كثير من الصوفية اختاروا البلاء على العافية ، وبعضهم اختار العافية ، قال عليّ رضي الله عنه : لأَن أُعطَى فأَشكر أحبُّ إِليَّ من أن أُبتلى فأَصبرِ ، أي : لأنه طريق السلامة ، وبه وردت الأحاديث ، والأولى للعبد ألا يختار مع سيده شيئاً ، بل يكون مفوضاً مستسلماً ، يتلقى ما يرد عليه بالترحيب ، أيّ شيء كان . وبالله التوفيق .
(5/281)

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
يقول الحق جلّ جلاله : { واذكر عبادنا } ، وقرأ المكي : " عبدنا " ، إما على إرادة الخبر ، وإما أن يريد " إبراهيم " وحده لشرفه ، ثم عطف عليه من بعده ، ثم بيَّنهم بقوله : { إِبراهيمَ وإِسحاقَ ويعقوبَ أُولي الأيدي والأبصارِ } أي : أُولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين ، أو : أُولي الأعمال الجليلة ، والعلوم الشريفة . فعبَّر بالأيدي عن الأعمال؛ لأن أكثرها تُباشر بها ، وبالأبصار عن المعارف؛ لأنها أقوى مبادئها . وفيه تعريض بالجهلة الباطلين ، كأنهم كالزّمنى والعماة ، وتوبيخ على ترك المجاهدة والفكرة مع تمكنهم منهما .
{ إِنا أخلصناهم بخالصةٍ } أي : جعلناهم خالصين لنا بخصلة عظيمة الشأن ، لا شوب فيها ، هي { ذِكْرَى الدَّارِ } أي : تذكر للدار الآخرة على الدوام ، فإنَّ خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم لها ، وذلك لأن مطمح أنظارهم ، ومسرح أفكارهم ، في كل ما يأتون وما يذرون ، جوار الله عزّ وجل ، والفوز بلقائه ، ولا يتأتى ذلك على الدوام إلا في الآخرة ، فمطلبهم إنما هو الجوار والرؤية . لا مجرد الحضور في تلك الدار ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
ليسَ سُؤلي من الجِنَان نَعيماً ... غيرَ أَنِّي أريدُها لأراكَ
قال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية : { إِنا أخلصناهم } بأن خلص لهم التذكير بالدار الآخرة ، ودعاء الناس إليها ، أي : وتزهيدهم في الدنيا ، كما هو دَيدن الأنبياء والرسل . وهذا قول قتادة ، أو : إنا أخلصناهم بأن خلص لهم ذكرهم للدار الآخرة وخوفهم والعمل بحسب ذلك . وهذا قول مجاهد . ه . قلت : مرتبة الرسل تنافي العمل لحرف ، فإنَّ أولياء هذه الأمة تحرّروا من العمل للحرف ، بل عبدوا الله شكراً ومحبة وعبودية ، لا طمعاً في شيء ، فكيف بأكابر الرسل . وإطلاق الدار للإشعار بأنها الدار في الحقيقة ، وإنما الدنيا معبر إليها .
ومَن قرأ بالإضافة ، فمن إضافة الشيء إلى ما بيَّنَهُ؛ لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى ، و " ذكرى " : مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بإخلاصهم ذكرى الدار . وقيل : خالصة بمعنى خلوص ، وهي مضافة إلى الفاعل ، أي : بأن خلصت لهم ذكرى الدار ، على أنهم لا يشوبون ذكرى الدار بشيء آخر ، إنما همّهم ذكرى الدار الآخرة لجوار الحبيب .
{ وإِنهم عندنا لمن المصْطَفَيْنَ } المختارين من بين أبناء جنسهم { الأخْيارِ } : جمع خيّر ، أو : خيْر ، على التخفيف ، كأموات جمع ميّت ، أو : ميْت .
الإشارة : أولياء هذه الأمة أي : العارفون بالله يزاحمون الأنبياء والرسل في جلّ المراتب ، قال صلى الله عليه وسلم : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " أي : العلماء بالله؛ فإنهم لم يقفوا مع دنيا ولا مع آخرة ، بل حطُّوا هممهم على الله ، ولم يقصدوا شيئاً سواه ، خلعوا النعلين عن الكونين ، وركضوا إلى المكوِّن ، وكانت لهم اليد الطولى في عمل الطاعات عبوديةً ، والبصيرة النافذة في مشاهدة الربوبية ، هذه طريقهم ، وهذا مذهبهم ، ومَن حاد منهم عن هذا لم يعدّوه منهم . جعلنا الله ممن خرط في سلكهم .
(5/282)

وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
يقول الحق جلّ جلاله : { واذكر إِسماعيلَ } ، فصل ترجمته عن أبيه وأخيه؛ للإشعار بعلو شأنه ، واستقلاله بالشرف والذكر ، ولعراقته في الصبر ، الذي هو المقصود بالتذكير ، وهو أكبر بنيه . { و } اذكر { الْيَسَعَ } بن خطوب بن العجوز ، استعمله إلياس على بني إسرائيل ، ثم استنبىء . و " ال " فيه ، قيل : للتعريف ، وأصله : يسع ، وقيل : زائدة؛ لأنه عجمي علَم ، وقيل : هو يوشع ، { وذا الكفلِ } وهو ابن عم اليسع ، أو : بشر بن أيوب . واختلف في نبوته وسبب لقبه ، فقيل : فرّ إليه مائة نبي من بني إسرائيل ، خوفاً من القتل ، فآواهم وكفلهم ، وقيل : تكفل بعبادة رجل صالح كان في وقته . { وكلٌّ } أي : وكلهم { مِّنَ الأخيارِ } المشهورين بالخيرة .
الإشارة : إنما كان هؤلاء مصطفين أخياراً بالوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والصبر على طاعة الملك المعبود ، وتحمُّل ما يقرب إلى حضرة الشهود . فكل مَن اتصف بهذه الخصال كان من المُصْطَفَين الأخيار .
(5/283)

هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قلت : { جناتِ } : عطف بيان لحُسن مآب ، أو : بدل . و { مفتَّحة } : حال من { جنات عدن } . والعامل فيها : الاستقرار في { للمتقين } . و { الأبواب } : نائب الفاعل لمُفتَّحة . والرابط بين الحال وصاحبها : إما ضمير مقدّر ، كما هو رأي البصريين ، أي : الأبواب منها ، أو : الألف واللام القائم مقامه ، كما هو رأي الكوفيين ، أي : أبوابها . و { متكئين } : حال من ضمير { لهم } ، والعامل فيه : { مفتحة } . و { يَدْعُون } : إما استئناف ، أو : حال مما ذكر ، أو : من ضمير { متكئين } .
يقول الحق جلّ جلاله : { هذا } أي : هذا الذي ذكر من الآيات الناطقة بمحاسن الأنبياء والرسل ، { ذِكْرٌ } أي : شَرَفٌ لهم ، وذِكْر جميل يُذكرون به أبداً ، أو : نوع من الذكر ، أي : القرآن . وآيٌ منه مشتمل على أنباء الأنبياء ، أو : تذكير ووعظ؛ لأنه يذكر أحوال الأكابر ليقتدي بهم ، أو : ذكر مَن مضى الأنبياء ، أو : شرف لك؛ لأنه معجزة لك يدلّ على صدقك ، { وإِنَّ للمتقين } أي : جنس المتقين ، أو : مَن ذكر مِن الرسل ، عبّر عنهم بالمتقين مدحاً لهم بالتقوى؛ إذ هي غاية الكمال . { لَحسنْ مآبٍ } ؛ مرجع .
ثم بيَّنه بقوله : { جنات عدنٍ } ؛ إقامة { مفتحةً لهم الأبوابُ } فإذا جاؤوها لا يلحقهم ذلّ الحجاب ، ولا كلفة الاستئذان ، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب ، { متكئينَ فيها } على أرائكهم في حِجالهم ، { يَدْعُون فيها بفاكهةٍ كثيرة } مما يشتهون { وشرابٍ } كثير كذلك ، حذف اكتفاء بالأول ، والاقتصار على دُعاء الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكُّه والتلذُّذ ، دون التغذي والحاجة ، فإنه لا تَحلُل في الأبدان ولا حاجة .
{ وعندهم } حور { قاصِراتُ الطَّرْفِ } على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم ، { أترابٌ } ؛ لِداتٌ ، أسنانُهنّ كأسنانهم . قيل : ثلاث وثلاثون سنة لكل واحد ، أو : مستويات في الحُسن والجمال والشكل؛ لأن التحابّ بين الأقران أبلغ وأثبت ، وقيل : أتراب بعضهن لبعض ، لا عجوز فيهن ولا صبية . واشتقاقه من التراب ، فإنه يمسَّهن في وقت واحد .
{ هذا ما تُوعدون ليوم الحساب } ، قال ابن عرفة : اللام للتوقيت ، أي : عنده ، أو : للتعليل ، فإن الحساب علَّة للوصول إلى الجزاء . وقرأ المكي والبصري بياء الغيب ، ليُوافق ما قبله ، والالتفات أليق بمقام الامتنان والتكريم . { إِنَّ هذا } الذي ذكر من ألوان النعيم والكرامات { لَرِزْقُنا } أعطيناكموه ، { ما له من نفاذٍ } ؛ من انقطاع وتمام أبداً .
الإشارة : كل مَن توجه إلى الله بكليته ، واتصف بمحاسن الأخلاق ، كان له ذكر وشرف في الدنيا ، وكرامة في العُقبى ، بما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
(5/284)

هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قلت : ( هذا ) خبر ، أي : الأمر هذا ، أو : مبتدأ؛ أي : هذا كما ذكر ، وهو من الاقتضاب الذي يقرب من التخلص ، كقوله بعد الحمد : أما بعد . قال السعد : هو من فصل الخطاب ، الذي هو أحسن موقعاً من التخلُّص . قال : وقد يكون الخبر مذكوراً كقوله : { هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ . . . } [ ص : 49 ] ه . قال الطيبي : هو من فصل الخطاب ، على التقدير الأول ، لا الثاني . ه . أي : إذا كان خبراً عن مضمر ، لا ما إذا ذكر الخبر .
يقول الحق جلّ جلاله : { هذا } أي : الأمر هذا ، { وإِنَّ للطاغين لشرَّ مآبٍ } ؛ مرجع { جهنَّمَ يصلونها } ؛ يدخلونها ، حال من جهنم ، { فبئس المِهادُ } : الفراش ، شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفرش للنائم ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنم .
{ هذا فليذوقوه } أي : ليذوقوا هذا فليذوقوه ، كقوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [ البقرة : 40 ] أو : العذاب هذا فليذوقوه ، وهو { حميمٌ وغسَّاق } . . . الخ ، أو : { هذا } : مبتدأ ، و { حميم وغساق } : خبر ، وما بينهما اعتراض ، والغساق : ما يَغسَق ، أي : يسيل من صديد أهل النار ، يقال : غَسَقت العين؛ إذا سال دمعها . وقيل : الحميم يحرق بحرّه ، والغساق يحرق ببرده . قيل : " لو قطرت منه قطرة بالمشرق لأنتنت أهل المغرب ، ولو قطرت بالمغرب لأنتنت أهل المشرق " وقيل : الغساق : عذاب لا يعلمه إلا الله . وهو بالتخفيف والتشديد ، قرىء بهما .
{ وآخَرُ } أي : وعذاب آخر ، أو : مذوق آخر ، { من شَكْلِه } ؛ من مثل العذاب المذكور . وقرأ البصري : " أُخَرُ " بالجمع ، أي : ومذوقات أُخَرُ من شكل هذا العذاب في الشدّة والفظاظة ، { أزواجٌ } أي : أصناف ، وهو خبر لأخر ، أو : صفة له ، أو : للثلاثة .
{ هذا فوج مُّقْتَحِمٌ معكم } ، حكاية لِمَا يقوله الخزنة للطاغين إذا دخلوا النار ، واقتحمها معهم فوج كانوا يتبعونهم في الكفر والضلالة . والاقتحام : الدخول في الشيء بشدة ، أو : من كلام الطاغين بعضهم من بعض . { لا مرحباً بهم } ، هو من تمام كلام الخزنة ، على الأول ، أو : من كلام الطاغين ، دعاء منهم على أتباعهم . يُقال لمَن يدعو له أو يفرح به . مرحباً ، أي : وجدت مكاناً رَحْباً ، لا ضيقاً ، ثم تدخل عليه النفي في دعاء السوء ، فتقول : لا مرحباً . و " بهم " : بيان للمدعو عليهم ، { إِنهم صالُوا النارِ } أي : داخلوها . وهو تعليل لاستحقاقهم الدعاء عليهم . وقيل : { هذا فوج . . . } إلخ ، من كلام الخزنة لرؤساء الكفرة . و { لا مرحباً بهم . . . } الخ ، من كلام الرؤساء .
{ قالوا } أي : الأتباع ، { بل أنتم لا مرحباً بكم } أي : الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحقّ به ، وعلّلوا ذلك بقوله : { أنتم قدمتموه لنا } أي : إنكم دعوتمونا للكفر ، فتبعناكم ، فقدمتمونا به للعذاب ، { فبئس القرارُ } أي : بئس المقر جهنم ، قصدوا بذمها تغليظ جناية الرؤساء عليهم . { قالوا } أي : الأتباع ، معرَّضين عن خصومتهم ، متوجهين إلى الله : { ربَّنا مَن قدَّم لنا هذا فزِدْهُ عذاباً ضعفاً } أي : مضاعفاً .
(5/285)

{ في النار } أو : ذا ضعف ، ومثله قوله : { رَبَّنَا هَؤُلآَءِ أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً } [ الأعراف : 38 ] ، وهو أن يزيد على عذابه مثله .
{ وقالوا } أي : الرؤساء : { ما لنا لا نرى رجالاً } ، يعنون : فقراء المسلمين ، { كنا نَعُدُّهُم } في الدنيا { من الأشرار } ؛ من الأرذال الذين لا خير فيهم ولا جدوى ، حيث كانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم ، { أتَّخذناهم سِخْرِيّاً } ، بهمزة الاستفهام ، سقطت لأجلها همزة الوصل . والجملة : استئنافية ، ومَن قرأ بالوصل فقط فالجملة : صفة ثانية لرجال ، { أم زاغتْ } ؛ مالت { عنهم الأبصارُ } ، والمعنى على الاستفهام : أتخذناهم سخرياً وليسوا كذلك ، فلم يدخلوا معنا النار فهم في الجنة ، أم دخلوها معنا ، ولكن مالت عنهم أبصارنا ، فلا نراهم معنا؟ وعلى الاستخبار : ما لنا لا نرى رجالاً معنا في النار ، كانوا عندنا أشراراً ، قد اتخذناهم سخرياً نسخر بهم ، ثم أضربوا وقالوا : بل زاغت عنهم الأبصار ، فلا نراهم فيها ، وإن كانوا معنا ، أو : زاغت أبصارنا ، وكلَّت أفهامنا عنهم ، حتى خفي علينا مقامهم ، وأنهم على الحق ونحن على الباطل ، وما تبعناهم . ومَن قرأ " سُخريا " بالضم؛ فمن : التسخير والاستخدام . ومَن قرأ بالكسر ، فمن : السخر ، الذي هو الهزء . وجَوز في القاموس الضم والكسر فيهما معاً ، فراجعه .
{ إِن ذلك } الذي حكى من أحوالهم { لَحَقٌّ } لا بد من وقوعه ألْبتة ، وهو { تخاصمُ أهلِ النار } فيها على ما تقدّم .
ولمّا شبَّه تفاوضهم ، وما يجري بينهم من السؤال والجواب ، بما يجري بين المتخاصمين ، سمَّاه تخاصماً ، وبأنَّ قول الرؤساء : { لا مرحباً } وقول الأتباع : { بل أنتم لا مرحباً بكم } من باب الخصومة لا محالة ، فسمي التقاول كله تخاصماً؛ لاشتماله على ذلك .
الإشارة : كل مَن تعدى وطغى ، ولم يتب ، من المؤمنين ، يرى شيئاً من أهوال الكفرة ، فلا يدخل الجنة حتى يتخلص ، وكل مَن سخر بالفقراء يسقط في الحضيض الأسفل ، ويكون سكناه في أسفل الجنة ، فيقول : ما لنا لا نرى معنا رجالاً كنا نَعُدُّهم من المبتدعة الأشرار ، أتخذناهم سخرياً ، وهم كُبراء عند الله ، رُفعوا عنه ، أم هم معنا ولكن زاغت عنهم الأبصار؟ فيُجابون : بأنهم رُفعوا مع المقربين ، كانوا مشتغلين بنا ، وكنتم منهم تضحكون . إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون بالقُرب ومشاهدة طلعتنا ، في كل حين ، وبالله التوفيق .
(5/286)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
يقول الحق جلّ جلاله : { قُلْ } يا محمد للمشركين : { إِنما أنا مُنذِر } من جهته تعالى ، أُنذركم عذابه ، { وما من إِلهٍ } في الوجود { إِلا اللهُ الواحدُ } الذي لا يقبل الشركة أصلاً ، { القهَّارُ } لكل شيء سواه ، { ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما } من المخلوقات ، فكيف يتوهم أن يكون له شريك منها ، { العزيزُ } ؛ الذي لا يغلب { الغفارُ } ؛ المبالغ في المغفرة لمَن يشاء . وفي هذه النعوت من تقرير التوحيد ، والوعد للموحِّدين ، والوعيد للمشركين ، ما لا يخفى . وتثنية ما يُشعر بالوعيد من وصف القهر والعزة وتقديمهما على وصف المغفرة؛ لتقوية الإنذار .
{ قل هو } أي : ما نبأتكم به من كوني رسولاً ، وأنَّ الله واحد لا شريك له ، { نبأٌ عظيمٌ } ؛ وارد من جهته تعالى ، لا يُعرِض عن مثله إلا غافل منهمك . { أنتم عنه معرضون } ؛ غافلون ، وعن ابن عباس : النبأ العظيم : القرآن . وعن الحسن : يوم القيامة . وتكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمرٌ جليل ، له شأن خطير ، لا بد من الاعتناء به ، أمراً وائتماراً .
{ ما كان لِيَ من عِلْم بالملأِ الأعلى إِذْ يختصمون } ، احتجاج على صحة نبوته ، بأن ما ينبىء به عن الملأ الأعلى ، واختصامهم ، أمر غيبي ، لم يكن له به علم قطّ ، ثم علمه وأخبر به ، ولم يسلك الطريق الذي سلكه الناس في علم ما لم يعلموا ، وهو الأخذ عن أهل العلم ، ودراسة الكتب ، فتحقق أن ذلك لم يحصل له إلا بالوحي من الله تعالى . والملأ الأعلى هم الملائكة ، وآدم ، وإبليس؛ لأنهم كانوا في السماء ، وكان اختصامهم : التقاول بينهم ، كقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا . . . } [ البقرة : 30 ] الخ ، وكقول إبليس : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ . . . } [ الأعراف : 12 و ص : 76 ] الخ ، ويدل عليه ما يأتي من الآيات . وقيل : اختصامهم في الكفارات وغفران الذنوب ، فإن العبد إذا فعل حسنة اختلفت الملائكة في قدر ثوابه ، حتى يقضي الله ما شاء .
ورُوي في هذا حديث ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال له ربه عزّ وجل في النوم : " أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا ، قال : اختصموا في الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأما الدرجات؛ فإفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والناس نيام " رواه الترمذي .
و { إِذ يختصمون } : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام؛ إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم ، والتقدير : ما كان لِيَ فيما سبق علم بما يوحيه في شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم . وانظر أبا السعود .
{ إِن يُوحَى إِليَّ أَنَّما أنا نذير مبينٌ } أي : ما يُوحى إليَّ ما يوحى من الأمور الغيبية ، التي من جملتها حال الملأ الأعلى ، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى ، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل ، أي : ما يوحى إليّ إلا هذا ، وهو أن أُنذر وأُبلّغ ، ولا أُفرط في ذلك ، أي : ما أومرَ إلا بهذا الأمر وحده ، وليس إليَّ غير ذلك .
(5/287)

وقرىء بكسر " إنما " على الحكاية ، أي : إلا هذا القول ، وهو : أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ، ولا أدّعي شيئاً آخر .
الإشارة : تربية اليقين تُطلب في ثلاثة أمور؛ في توحيد الألوهية ، بالتبري من الشرك الجلي والخفي . وهو مفاد قوله : { وما من إِله إِلا الله . . . } الخ . وفي تصديق الواسطة ، وهو النذير المبين ، بتعظيمه واتباع سُنَّته ومنهاجه القويم ، وفي التصديق بما جاء به ، وهو النبأ العظيم ، على أيّ تفسير كان ، إما القرآن ، باتباعه ، والتدبُّر في معانيه ، أو : يوم القيامة ، بالتأهُّب له ، وجعله نُصب العين . وبالله التوفيق .
(5/288)

إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قلت : { إذ قال } : متعلق بيختصمون ، أو : بدل من { إذ } قبله ، أو : باذكر . و " الحق " : فمن نصبه ، فعلى حذف فعل القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، أي : أقسم بالحق ، فحذفت الباء ووصل الفعل به ، ومن رفعه؛ فمبتدأ ، أي : الحقُّ مني ، أو : خبر ، أي : أنا الحق . والحق الثاني : مفعول " أقول " ، والجملة : معترضة بين القسم وجوابه ، وهو : { لأملأن } .
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور : { إِذ قال ربُّكَ للملائكة } حين أراد خلق آدم ، { إِني خالق بشراً من طينٍ } ، وقال : { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [ البقرة : 30 ] . والتعرُّض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم ، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له . والكاف وارد باعتبار حال الآمر ، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى ، كما في قوله تعالى : { . . . يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ . . . } [ الزمر : 54 ] الخ ، دون حال المأمور ، وإلاَّ لقال : ربي؛ لأنه داخل في حيز الأمر . { فإِذا سوَّيتُه } أي : صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية ، أو : سويت أجزاء بدنه ، بتعديل أعضائه ، { ونَفَخْتُ فيه من روحي } الذي خلقته قبلُ ، وأضافه إليه تخصيصاً ، كبيت الله ، وناقة الله . والروح سر من أسرار الله ، لطيفة ربانية ، سارية في كثيفة ظلمانية ، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله ، أي : فإذا أحييته { فَقَعُوا } أي : اسقطوا { له } ، وهو أمر ، مِن وقع ، { ساجدين } قيل : كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل : كان سجوداً لله ، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له .
{ فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون } ، " كلّ " للإحاطة ، و " أجمعون " للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً ، في قوت واحد ، غير متفرقين في أوقات . وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 29 ، 30 ] أن الأمر بالسجود كان تعليقاً ، لا تنجيزياً ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقي ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفح الروح فيه : " اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردُّوا عليه وسجدوا له " والله تعالى أعلم بغيبه .
{ إِلا إِبليسَ استكْبَرَ } أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنياً ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، { وكان من الكافرين } أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم في علم الله .
(5/289)

{ قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ } أي : عن السجود { لِما خلقتُ بيديَّ } ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالاً لأمري ، وإعظاماً لخطابي ، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد ، أطلقت على القدرة . والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام ، المستدعي لإجلاله وإعظامه ، قصداً إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ ، وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية . قال له تعالى : { أَسْتَكْبَرْتَ } ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي : أتكبرت من غير استحقاق ، { أم كنت من العالين } المستحقين للتفوُّق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟
{ قال أنا خير منه } ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 30 ] ، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله : { خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ } ، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له؛ لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمَن هو دوني؛ لأنه طين ، والنار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : { لِما خلقتُ بيدي } ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أُمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره .
{ قال فاخرجْ منها } ؛ من الجنة ، أو : من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط ، أو : من السموات ، أو : من الخِلقة التي أنت فيها ، وانسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر الله خلقته ، فاسودّ بعدما كان أبيض ، وقبح بعدما كان حسناً ، وأظلم بعدما كان نورانياً . { فإِنك رجيم } أي : مرجوم ، مطرود ، من كل خير وكرامة . أو : شيطان يُرجم بالشُهب .
{ وإِن عليك لعنتي } ؛ إبعادي من الرحمة ، وتقييدها هنا ، وإطلاقها في قوله : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ } [ الحجر : 35 ] ؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة ، { إِلى يوم الدين } ؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة ، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، بل في الدنيا اللعنة وحدها ، ويوم القيامة يقترن بها العذاب ، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب ، وأفانين العقاب ، ما ينسى به اللعنة ، وتصير عنده كالزائد . أو : لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة ، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها ، وكيف ينقطع ، وقد قال تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } [ الأعراف : 44 ] وهو إمامُهم؟
{ قال } إبليسُ : { رَبِّ فأَنظِرْنِي } ؛ أمهلني وأخِّرني ، أي : إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني ، { إِلى يوم يبعثون } أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم .
(5/290)

وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم ، وليأخذ منهم ثأره ، وينجو من الموت بالكلية؛ إذ لا موت بعد البعث ، { قال } تعالى : { فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم } ، وهو وقت النفخة الأولى ، ومعنى " معلوم " أنه معلوم عند الله ، لا يتقدم ولا يتأخر ، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين ، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك ، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً ، لا إنشاء لإنظار خاص به ، قد وقع إجابة لدعائه ، أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً ، حسبما تقتضيه حكمة التكوين .
{ قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين } ، أقسم بعزّة الله ، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم ، بتزيين المعاصي والكفر ، { إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين } ، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته ، وعصمهم من الغواية ، أو : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر .
{ قال } تعالى : { فالحقّ والحقَّ أقولُ } أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسَمي وأقول الحق : { لأملأَنَّ جهنمَ منك } ؛ من جنسك ، وهم الشياطين ، { وممن تَبِعَكَ منهم } ؛ من ذرية آدم { أجمعين } أي : لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحداً .
الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران؛ الظلمة والنور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة . ولذلك قال تعالى فيه : { لِما خلقت بيدي } ، ولم يقله في غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة . فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقِّيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] .
وقال القشيري بعد كلام : فسبحان الله! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه . ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية . ه .
(5/291)

قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل ما أسألُكُم } على تبليغ الوحي أو على القرآن { من أجْرٍ } دنيوي ، حتى يثقل عليكم ، { وما أنا من المتكلِّفين } أي : المتصنِّعين بما ليسوا من أهله ، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة ، أو أتقوّل القرآن ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم " .
{ إِن هو } : ما هو { إِلا ذِكْرٌ } : وعظ من الله عزّ وجل { للعالَمين } ؛ الثقلين كافة ، { ولتعلمُنَّ نبأَهُ } ؛ نبأ القرآن ، وصحة خبره ، وما فيه من الوعد والوعيد ، وذكر البعث والنشور ، { بعد حين } ؛ بعد الموت ، أو : يوم بدر ، أو القيامة ، أو : بعد ظهور الإسلام وفشوه . وفيه من التهديد ما لا يخفى . ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر .
الإشارة : تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم ، أو الوعظ والتذكير ، اقتداء بالرسل عليهم السلام . وفي الآية أيضاً : النهي عن التكلُّف والتصنُّع ، وهو نوع من النفاق ، وضرب من الرياء . وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اغفر للذين لا يدعون ، ولا يتكلفون ، ألا إني بريء من التكلُّف ، وصالحوا أمتي " وقال سلمان : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا! " . وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة ، والحشف البالي أي : الرديء من التمر ويقولون : لا ندري أيهما أعظم وزراً ، الذي يحتقر ما قدم إليه ، أو : الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه . ه . وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه .
(5/292)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص . . . } .
قلت : { تنزيل } خبر ، أي : هذا تنزيل ، و { من الله } : صلة لتنزيل ، أو : خبر ثان ، أو : حال من التنزيل ، عاملها : معنى الإشارة .
يقول الحق جلّ جلاله : هذا الذي تتلوه هو { تنزيلُ الكتاب } ، نزل { من } عند { الله العزيزِ } في سلطانه { الحكيم } في تدبيره . وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما في الكتاب ، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه . { إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق } : ليس بتكرُّر؛ لأن الأول كالعنوان للكتاب ، والثاني لبيان ما في الكتاب . قال أبو السعود : والمراد بالكتاب : القرآن ، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول؛ لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه . والباء إما متعلقة بالإنزال ، أي : بسبب الحق وإظهاره ، أو : بداعيته واقتضائه ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ، أو : من الكتاب ، أي : أنزلناه إليه محقين في ذلك ، أو : ملتبساً بالحق والصواب ، أي : ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتماً . قال القشيري : بالحق ، أي : بالدين الحق والشرع الحق ، وأنا مُحِق في إنزاله .
{ فاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً له الدينَ } أي : فاعبده تعالى مخلصاً دينه من شوائب الشرك والرياء ، حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أنزل إليه . { ألاَ للهِ الدينُ الخالِصُ } أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية ، التي من جملتها : الاطلاع على السرائر والضمائر .
الإشارة : قال القشيري : كتابٌ عزيزٌ ، نزل من ربٍّ عزيز ، على عبدٍ عزيز ، بلسان مَلَكٍ عزيز ، في شأنِ أمةٍ عزيزة ، بأمرٍ عزيز . وأنشدوا :
ورَدَ الرسولُ من الحبيب الأوَّلِ ... بعد البلاء ، وبعد طُول الأمل
تنزيل تنزّهت قلوب الأحباب بعد ذُبولِ عصن سرورها ، في كتاب الأحباب ، عند قراءة فصولها . والعجب منها كيف لا تزهو سروراً بوصولها ، وارتياحاً بحصولها ، وكتابُ موسى في الألواح ، ومنها كان يقرأ موسى ، وكتابُ نبينا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروح ، الأمين ، على قلبك ، وفَصْلٌ بين مَن يكون خطابُ ربه مكتوباً في ألواحه ، وبين مَن يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه ، وكذلك أمته ، { بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } [ العنكبوت : 49 ] . ه .
وقوله تعالى : { فاعْبُد اللهَ مخلصاً له الدينَ } ، قال القشيري : العبادة : معانقة الطاعات على نعت الخضوع ، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح ، فالتي بالنفس أي : بالجوارح الإخلاص فيها : التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب ، أي : كالفكرة والنظرة ، الإخلاص فيها : التباعد عن رؤية الأشخاص أي : الحس من حيث هو والتي بالروح ، الإخلاص فيها : التنقِّي عن رؤية طلب الاختصاص .
قوله تعالى : { ألا لله الدينُ الخالصُ } هو ما يكون جملته لله ، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد ، اللهم إلا أن يكون بأمره ، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته ، فأطاعه ، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به ، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ ، يعني : أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر ، إلا الفرد النادر ، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله ، شكراً ، وإظهاراً للأدب ، فإن قصد الاحتساب ، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص ، فلا يضر ، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم :
(5/293)

" مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " وهذا في أصل القصد ، والعوارض غير مضرة ، كما هو صريح حديث آخر . والله تعالى أعلم .
ثمّ ردّ على المشركين ، فقال :
{ . . . والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } .
قلت : { والذين } : مبتدأ ، و { ما نعبدهم } : محكي بقول محذوف ، حال من واو " اتخذوا " وجملة " إن الله " : خبر ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، و " زلفى " : مصدر .
يقول الحق جلّ جلاله : { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي : لم يخلصوا في عبادتهم ، بل شاوبُوها بعبادة غيره ، كالأصنام ، والملائكة ، وعيسى ، قائلين : { ما نعبدهم } لشيء من الأشياء { إِلا لِيُقَربُونا إِلى الله زُلفى } أي : تقريباً ، { إِن الله يحكم بينهم } وبين خصمائهم ، الذين هم المخلصون للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه ، كقوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] على أحد الوجهين ، أي : بين أحد منهم وبين غيره . قيل : كان المسلمون إذا قالوا للمشركين : مَن خلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى .
{ إِن الله يحكُم } يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين { فيما هم فيه يَختلِفُون } من التوحيد والإشراك ، وادعاء كل واحد صحة ما انتحله . وحكمُه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار . وقيل : الموصول واقع على الأصنام ، والعائد محذوف ، أي : والذين اتخذوهم من دونه أولياء ، قائلين : ما نعبدهم . . . الخ ، إن الله يحكم بينهم ، أي : بين العبَدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون ، حيث يرجون منها شفاعتها وهي تلعنهم ، وهذا بعيد .
{ إِن الله لا يهدي } : لا يُوفِّق للاهتداء { مَن هو كاذب كفَّار } أي : راسخ في الكذب ، مبالغ في الكفر ، كما يُعرب عنه قراءة من قرأ : " كذاب " أو : " كذوب " ، أي : لا يهديهما اليوم لدينه؛ لسابق الشقاء ، ولا في الآخرة لثوابه؛ لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة ، غير قابلين للاهتداء؛ لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرُّن في الضلالة والتمادي في الغي .
(5/294)

{ لو أراد اللهُ أن يتخذ ولداً } كما يزعم مَن يقول : الملائكة بنات الله ، والمسيح وعزير ابن الله ، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً ، { لاصْطَفى مما يَخْلُقُ ما يشاء } أي : لاختار مِن خلقه ما يشاء ، ممن له مناسبة صمدانية ، كالملائكة ، فإنهم منزَّهون عن نقائض البشرية ، كالأكل والشرب والنكاح ، لكن لم يُرد ذلك؛ لاستحالته في حقه تعالى .
قال القشيري : خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم ، فقال : لو أراد الله أن يتخذ ولداً بالتبنِّي والكرامة لاختار من الملائكة ، الذين هم مبرَّؤون من الأكل والشرب وأوصافِ الخلق ، ثم أخبر عن تَقَدُّسه عن ذلك ، فقال : { سبحانه } أي : تنزيهاً له عن اتخاذ الولد على الحقيقة؛ لاستحالة معناه في نَعْتِه ، ولا بالتبني ، لتقدُّسه عن الجنسية ، والمحالات تدل على وجه الإبعاد . ه .
والحاصل : أن الولد في حقه تعالى؛ إن كان عن طريق التولُّد فهو محال ، عقلاً ونقلاً ، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمُحال سمعاً ، وقيل : وعقلاً . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : قوله ، أي : القشيري : لتقدُّسه عن الجنسية ، يعني لوحدته وقهره ، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين ، أي : الواحد القهّار ، وهما عاملان في كل مخلوق ، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضي للجنسية ، المباينة للوحدانية والقهر ، فلا يمكن إلا العبودية ، عقلاً ، ونقلاً ، وحقيقة ، وهذا أشد من كلام ابن عطية ، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلاً ، وإن امتنع شرعاً ، لعموم آية : { وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] ؛ لاتخاذ النسل المستحيل عقلاً ونقلاً ، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعاً . وهو أيضاً أشدُّ من كلام الزمخشري ، حيث قال : معنى الآية : لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك ، ولكنه يصطفي مَن يشاء من عباده ، على وجه الاختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولداً . ه . فأجمل في الامتناع ، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين ، وكذا قرر جواب " لو " ، أي : لامتنع ، وجعل قوله : { لاصطفى } الذي هو ظاهر في كونه جواباً غير جواب " بل " على معنى الاستئناف ، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جري الكلام . والله أعلم .
وما ذكره الزمخشري أيضاً من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلُّق الإرادة بالممتنع ، وهي إنما تتعلق بالجائز ، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد في إرادة بعض ما لم يقع ، وهو شنيع مذهبه ، بل ويلزمه عود القهر عليه تعالى عن ذلك ، وهو الله الواحد القهّار ، فكيف يريد ويمتنع ما يريده؟! هل ذلك إلا عين القهر؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً . ه .
قال تعالى : { سبحانه } أي : تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد ، تنزهه الخاص به ، على أن { سبحان } مصدر ، من : سبّح : إذا بعّد . { هو اللهُ الواحدُ القهّارُ } : استئناف مبينٌ لتنزهه بحسب الصفات ، إثر بيان تنزُّهه عنه بحسب الذات ، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال ، النافية لسمات النقصان ، والوحدة الذاتية ، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق ، مما يقتضي تنزهه تعالى عما قالوه ، قضاء متيقناً ، وكذا وصف القهارية؛ لأن اتخاذ الولد شأنُ مَن يكون تحت ملكوت الغير ، عرضة للفناء ، ليقوم الولد مقامه عند فنائه ، ومَن هو مستحيل الفناء ، قهّار لكل الكائنات ، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية مَن يقوم مقامه؟ قاله أبو السعود .
(5/295)

الإشارة : الحق سبحانه غيور ، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره ، كان على وجه الواسطة والتقريب ، أو : على وجه الاستقلال . لذلك حَرُم السجود لغير الله ، وأما الخضوع للأولياء ، العارفين بالله ، على غير وجه العبادة ، فهو عين الخضوع لله؛ لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل ، الدالين على الله ، وهم ورثتهم في الدلالة ، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود ، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم ، كما قال الشاعر :
يا مَن يلوم خمرة المحبه ... فخذوا عني هي حلال
ومَن يرد يسقي منها عبهْ ... خَدّ يضع لأقدام الرجال
رأسي حططت بكل شيبه ... هم الموالي سقوني زلال
وجعل القشيري مناطَ الرد على الكفرة حيث فعلوا ذلك ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، بغير إذن الله ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم . فردَّ الله عليهم . قال : وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القُرَبِ ، بنشاط نَفْسِه ، من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت ، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقودٍ لا يفي بها ، وكان ذلك اتباعُ هوىً . قال الله تعالى : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [ الحديد : 27 ] . قلت : ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت ، ذا بصيرة بدسائس النفس ، فيأمره في كل وقت ، وفي كل زمان ، بما يناسبه؛ ليُخرجه من هوى نفسه ، وأسر طبعه ، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله ، يعبد الله على حرف ، كلما زاد عبادة وقرباً في زعمه زاد بُعداً من ربه ، وهو لا يشعر ، فالنفس إن لم تتصل بمَن يرفع عنها الحجاب ، كانت كدود القزِّ ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها ، حتى تموت في وسطه . وفي ذلك يقول الششتري في نونيته رضي الله عنه :
ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي ... صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا
وبالله التوفيق .
(5/296)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
يقول الحق جلّ جلاله : { خلق السماواتِ والأرضَ } أي : وما بينهما من الموجودات ، ملتبسة { بالحق } ؛ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية { يُكوِّر الليلَ على النهار ويُكوِّر النهارَ على الليل } ، التكوير : اللّف والليّ ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها . والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، ويلفه لف اللباس باللابس ، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو : يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً ، تتابع أكوار العمامة ، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما ، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد .
{ وسخَّر الشمسَ والقمرَ } : جعلهما منقادين لأمره . { كُلٌّ يجري لأَجَلٍ مُسمًّى } ، وهو يوم القيامة ، أو : كل منهما يجري لمنتهى دورته ، { أَلاَ هو العزيزُ } ؛ الغالب القادر على كل شيء ، ومن جملتها : عقاب العصاة ، { الغفارُ } : المبالغ في المغفرة ، ولذلك لا يُعاجل بالعقوبة ، ولا يمنع ما في هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته . وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها .
{ خَلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ } ، لَمَّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي ، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلي ، وترك العاطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على الوحدانية ، وبدأ بالإنسان؛ لأنه المقصود الأهم من هذا العالم ، ولعَرَاقته في الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته؛ لما فيه من تعاجيب آثار القدرة ، وأسرار الحكمة ، وأصالته في المعرفة؛ فإن الإنسان بحال نفسه أعرف ، والمراد بالنفس : نفس آدم عليه السلام .
{ ثم جعل منها زوجَهَا } : عطف على محذوف ، صفة لنفس ، أي : من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو : على معنى : واحدة ، أي : نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء ، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، مع التراخي في الزمان . وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر ، ثم أخرج منه حوّاء ، ففيه ثلاث آيات؛ خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما .
{ وأنزل لكم من الأنعامِ } أي : قضى وجعل ، أو : خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ، ثم أنزلها ، أو : أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار ، وأشعة الكواكب ، كما تقول الفلاسفة . { ثمانيةَ أزواج } ذكراً وأنثى ، وهي : الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . فالزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ، ووتر .
{ يخلقُكم في بطونِ أمهاتِكم } : استئناف؛ لبيان كيفية خلقهم ، وأطوارهم المختلفة ، الدالة على القدرة القاهرة . وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد . { خلقاً من بعد خلق } : مصدر مؤكد ، أي : يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق ، أي : خلقاً مُدرَّجاً ، حيواناً سويّاً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغة مخلَّقة ، من بعد مضغة غير مخلَّقة ، من بعد علقة ، من بعد نطفة ، { في ظلمات ثلاث } : ظلم البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، أو : ظلمة الصلب ، والبطن ، والرحم .
(5/297)

{ ذلكم } : إشارة إلى الحق تعالى ، باعتبار أفعاله المذكورة ، وهو مبتدأ ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء ، أي : ذلكم العظيم الشأن ، الذي عددت أفعاله هو { اللهُ ربكُم } أي : مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة ، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه . { له الملكُ } : التصرف التام على الإطلاق في الدارين . { لا إله إِلا هو } : لا متصرف غيره . { فأنى تُصْرَفُون } : فكيف تصرفون عن عادته تعالى ، مع وفور دواعيها ، وانتفاء الصارف عنها بالكلية ، إلى عبادة غيره ، من غير داع إليها ، مع كثرة الصوارف عنها؟ والله تعالى أعلم .
الإشارة : خلق سماوات الأرواح ، وأرض النفوس ، بالحق ، أي : لسبب معرفته ، وعبادته ، فالمعرفة للأرواح ، والعبادة للنفوس ، يُكوّر نهار البسط على ليل القبض ، وبالعكس ، وسخَّر شمس العيان ، وقمر البرهان ، كُلٌّ يجري إلى أَجل مسمى ، إلا أن قمر البرهان ينتهي بطلوع شمس العيان ، وشمس العيان لا انتهاء لها . { لا إله إلا هو العزيز } فيمنع بعزته من الوصول إليه مَن أراد احتجابه ، { الغفار } فيغطي بفضله مساوىء مَن أراد وصلتَه . { خلقكم من نفس واحدة } ؛ من روح واحدة ، هي الروح الأعظم ، ثم تفرّعت منها الأشياء كلها . وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه ، وتتقربون به إلى ربكم ، ثم ذكَّرهم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، بقوله : { يخلقكم في بطون أمهاتكم . . . } إلخ ، فنعمة الإيجاد ظاهرة ، ونعمة الإمداد : ما يتغذّى به الجنين في بطن أمه من دم الحيض .
(5/298)

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِن تكفروا } به تعالى ، بعد مشاهدة هذه النعم الجسيمة ، وشؤونه العظيمة ، الموجبة للإيمان والشكر ، { فإِن الله غَنِيٌّ عنكم } أي : فاعلموا أنه تعالى غَنِي عن إيمانكم وشكركم ، { ولا يرضى لعبادِهِ الكُفْرَ } ؛ لأن الكفر ليس برضا الله ، وإن كان بإرادته ، وعدمُ رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم ، ودفع مضرتهم ، رحمة بهم ، لا لتضرره تعالى به . { وإِن تشكروا } وتؤمنوا { يرضَهُ لكم } أي : يرضى الشكر لأجلكم ومنفعتكم؛ لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين .
وإنما قال : { لعباده } ولم يقل " لكم " ، لتعميم الحكم ، وتعليله بكونهم عباده تعالى ، والحاصل : أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى ، وإرادته ورضاه ، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته ، ولم يرضها من عبده شرعاً ، وإن رضيها تكويناً؛ لتقوم الحجة على العبد ، ويظهر صورة العدل ، ولا يظلم ربك أحداً ، وإن كان الكل منه وإليه .
{ ولا تزر وازرةٌ وِزْرَ أُخرى } : بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره ، أي : ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى ، { ثم إِلى ربكم مرجِعُكُم } بالبعث بعد الموت ، { فَيُنَبِّئُكُم } ؛ يُخبركم { بما كنتم تعملون } في الدنيا من الإيمان والكفر ، فيجازيكم بها ثواباً وعقاباً . { إِنه عليم بذاتِ الصدور } : أي بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وهو تعليل ل " ينبئكم " .
الإشارة : قد تقدّم الكلام على الشكر في سورة سبأ قال القشيري : قوله تعالى : { وإِن تشكروا يرضه لكم } إن أطعتني شكرتُك ، وإن ذكرتني ذكرتُك ، وإن خطوت لأجلي خطوةً ملأتُ السموات والأرض من شكرك ، وأنشدوا :
لم عَلِمْنا أن الزيارةَ حقٌ ... لَفَرَشْنَا الخدودَ أرضاً لِتَرْضَى
(5/299)

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذا مَسَّ الإِنسانَ } أي : جنس الإنسان { ضُرٌّ } من مرض وغيره { دَعَا رَبَّه مُنِيباً } إليه؛ راجعاً إليه مما كان يدعوه في حالة الرخاء؛ لعِلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره ، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده ، كقوله تعالى : { إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إِبراهيم : 34 ] وقيل : المراد أبو جهل ، أو : كل كافر . { ثم إِذا خَوَّلهُ نعمةً منه } أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه ، من التخوُّل ، وهو التعهُّد ، يقال : فلان خائل مال ، إذا كان متعهّداً إليه حسن القيام به . وفي الصحاح : خَوَّله اللهُ الشيء : ملَّكه إياه . وفي القاموس : وخوَّله اللهُ المالَ : أعطاه إياه .
قال ابن عطية : خوَّله ، أي : ملَّكه ، وحكمه فيها ابتداء من الله ، لا مجازاة ، ولا يقال في الجزاء : خوّل . ه . أو : من الخوَل ، وهو الافتخار ، أي : جعله يخول ، أي : يختال ويفتخر بنعمه . { نَسِيَ ما كان يدعو إِليه من قَبْلُ } أي : نسيَ الضر الذي كان يدعو الله تعالى كشفه من قبل التخويل ، أو : نسي ربه الذي كان يدعو ويتضرّع إليه ، على أن { ما } بمعنى { من } ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } [ الليل : 3 ] ، أو : إيذاناً بأن نِسْيانَه بلغ به إلى حيث لا يعرف ما يدعوه ، وهو كقوله تعالى : { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } [ الحج : 2 ] .
{ وجعل لله أنداداً } : شركاء في العبادة؛ { ليُضل } بذلك { عن سبيله } الذي هو التوحيد ، أي : ليُضل غيره ، أو : ليزاد ضلالاً ، أو : يثبت عليه ، على القراءتين ، وإلا؛ فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور . واللام للعاقبة ، كما في قوله : { فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] غير أن هذا أقرب للحقيقة؛ لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال ، وإن لم يعرف؛ لجهله أنهما إضلال وضلال ، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلاً . قاله أبو السعود .
{ قُلْ تَمتعْ بكفرك قليلاً } أي : تمتعاً قليلاً ، أو : زماناً قليلاً في الدنيا ، وهو تهديد لذلك الضال المضل ، وبيان لحاله ومآله . { إِنك من أصحاب النار } أي : من ملازميها ، والمعذَّبين فيها على الدوام ، وهو تعليل لقلة التمتُّع . وفيه من الإقناط من النجاة ما لا يخفى ، كأنه قيل : إذا أبيتَ قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمَر بتركه لتذوق عقوبته .
الإشارة : الصفة الممدوحة في الإنسان : أن يكون إذا مسَّه الضر التجأ إلى سيده ، مع الرضا والتسليم ، فإذا كشف عنه شكر الله وحمده ، ودام على شكره ، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل ، وهو صريح الآية . وبالله التوفيق .
(5/300)

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
يقول الحق جلّ جلاله : { أمنْ هو قانتٌ } أي : مطيع ، قائم بواجب الطاعات ، دائم على أداء وظائف العبادات ، { آناء الليل } أي : في ساعات الليل ، حالتي السراء والضراء ، كمَن ليس كذلك ، بل إنما يفزع إلى الله في الضراء فقط ، فإذا كشف عنه نسي ما كان يدعو إليه من قبلُ ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه . ومَن قرأ بالتشديد ، ف " أم " إما متصلة ، حُذف مقابلها ، أي : أنت خير حالاً ومآلاً أم مَن هو قائم بوظائف العبادات ، أو : منقطعة ، والإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بالجواب الملجىء إلى الاعتراف بما بينهما ، كأنه قيل : أم مَن هو قانت أفضل ، أم مَن هو كافر مثلك؟
حال كون القانت { ساجداً وقائماً } أي : جامعاً بين الوصفين المحمودين . وتقديم السجود على القيام؛ لكونه أدخل في معنى العبادة . { يحْذَرُ الآخرةَ } أي : عذاب الآخرة ، حال أخرى ، أو : استئناف ، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود ، كأنه قيل : فما باله يفعل ذلك؟ فقيل : يحذر الآخرة ، { ويرجو رحمةَ ربه } أي : الجنة ، فينجو بذلك مما يحذره ، ويفوز بما يرجوه ، كما ينبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، مع الإضافة إلى ضمير الراجي .
ودلّت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرجاء ، يرجو رحمته ، لا عمله ، ويحذر عقابه؛ لتقصيره في عمله ، ثم الرجاء إذا جاوز حدّه يكون أمناً . والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياساً ، وقد قال تعالى : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] ، و { لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] فيجب ألا يجاوز أحدهما حدَّه؛ بل يكون كالطائر بين جناحيه ، إلا في حالة المرض ، فيغلب الرجاء ، ليحسن ظنه بالله . ومذهب محققي الصوفية : تغليب الرجاء مطلقاً ، لهم ولعباد الله؛ لغلبة حسن ظنهم بربهم .
والآية ، قيل : نزلت في عثمان رضي الله عنه كان يحيي الليل ، وقيل : في عمار وأبي حذيفة ، وهي عامة لمَن سواهم .
{ قُلْ هل يستوي الذين يعلمون } حقائق الأحوال ، فيعملون بموجب علمهم ، كالقانت المذكور ، { والذين لا يعلمون } شيئاً؛ فيعملون بمقتضى جهلهم ، كدأب الكافر المتقدم . والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير ، وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور ، بحيث لا يكاد يخفى على أحد .
قال النسفي : أي : يعلمون ويعملون به ، كأنه جعل مَن لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراءٌ عظيمٌ بالذين يقْتَنون أي : يدخرون العلوم ، ثم لا يَقْنُتون ، ويَتفننون فيها ، ثم يُفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء . أو : يريد به التشبيه ، أي : كما لا يستوي العالم والجاهل ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . ه .
الإشارة : القنوت هو القيام بآداب الخدمة ، ظاهراً وباطناً ، من غير فتور ولا تقصير ، قاله القشيري .
(5/301)

وهو على قسمين ، قنوت العارفين ، وهي عبادة القلوب ، كالفكرة والنظرة ، ساعة منها أفضل من عبادة سبعين سنة ، وثمرتها : التمكُّن من شهود الذات الأقدس ، عاجلاً وآجلاً ، وقنوت الصالحين ، وهي عبادة الجوارح ، كالركوع والسجود والتلاوة ، وغيرها من أعمال الجوارح ، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان ، مع الرضا والرضوان ، ورؤية وجه الرحمن .
رُوي عن قبيصة بن سفيان ، قال : رأيت سفيان الثوري في المنام بعد موته ، فقلت له : ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول :
نظرتُ إِلَى ربِّي عِياناً فقال لي ... هنيئاً رضائي عنك يا ابنَ سعيدِ
لقد كنتَ قوَّاماً إذا الليلُ قد دَجا ... بِعَبْرة محزونٍ وقلب عميدِ
فدونك فاختر أيّ قصر تريدُه ... وزرني فإني منك غيرُ بعيدِ
وكان شعبةُ ومِسْعَر رجلين صالحين ، وكانا من ثقة المحدِّثين ، فماتا ، قال أبو أحمد اليزيدي : فرأيتهما في المنام ، وكنتُ إلى شعبة أميل مني إلى مسعر ، فقلت لشعبة : يا أبا بسطام؛ ما فعل الله بك؟ فقال : يا بني احفظ ما أقول لك :
حَباني إلهي في الجِنان بقُبة ... لها ألفُ باب من لجَيْن وجوهرا
وقال لي الجبارُ : يا شعبة الذي ... تبحَّر في جمع العلوم وأكثرا
تمتعْ بقربي ، إنني عنك ذو رضا ... وعن عبديَ القوَّام في الليل مِسعرا
كفى مسعراً عزّاً بأنْ سيزورُني ... وأكشفُ عن وجهي ويدنو لينظرا
وهذا فَعالي بالذين تنسَّكوا ... ولم يألفوا في سالف الدهر منكرا
وقوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أي : لا يستوي العالم بالله مع الجاهل به ، العالم يعبده على العيان ، والجاهل به في مقام الاستدلال والبرهان . العالم بالله يستدل بالله على غيره ، والجاهل به يستدل بالأشياء على الله ، وشتّان بين مَن يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، كما في الحِكَم . العالم بالله من السابقين المقربين ، والجاهل به من عامة أهل اليمين ، ولو تبحّر في العلو الرسمية غاية التبحُّر . قال الورتجبي : وصف تعالى أحوال أهل الوجود والكشوفات ، المستأنسين به ، وبلذائذ خطابه ومناجاته ، وتحمّلوا من لطائف خطابه مكنونَ أسرار غيبه ، من العلوم الغريبة ، والأنباء العجيبة ، لذلك وصفهم بالعلم الإلهي ، الذي استفادوا من قُربه ووصاله ، وكشف جماله بقوله : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } كيف يستوي الشاهد والغائب ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ . ه .
قال القشيري : العلم المخلوق على ضربين : علم مجلوبٌ بكسب العبد ، وموهوبٌ من قِبَلِ الربِّ . . انظر تمامه .
(5/302)

قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قلت : { في هذه } : متعلق بأحسنوا ، أو : بحسنة ، على أنه بيان لمكانها ، أو : حال من ضميرها في الظرف .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربَّكم } بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويُذكِّرهم بها ، بعد تخصيص التذكير بأولي الألباب ، إيذاناً بأن أُولي الألباب هم أهل التقوى ، وفي إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله : { يا عبادي } تشريف لهم ، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، وهو التقوى .
ثم حرَّض على الامتثال بقوله : { للذين أحسنوا } أي : اتقوا الله وأطاعوه { في هذه الدنيا } الفانية ، التي هي مزرعة الآخرة . { حسنةٌ } أي : حسنةٌ عظيمة ، لا يُكتنه كُنهها ، وهي الجنة ونعيمها ، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا ، وهي الصحة والعافية ، والحياة الطيبة ، أو : للذين أحسنوا ، أي : حصلوا مقام الإحسان الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه " حسنة كبيرة ، وهي لذة الشهود ، والأنس بالملك الودود في الدارين .
ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع ، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ ، فقال : { وأرضُ الله واسعةً } ، فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى ، والإحسان وعمل القلوب ، في وطنه ، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً .
ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس ، يحتاج إلى صبر كبير؛ ورغَّب في الصبر بقوله : { إِنما يُوفى الصابرون } على مفارقة الأوطان ، وتحمُّل مشاق الطاعات ، وتحقيق الإحسان ، { أجْرَهم } في مقابلة ما كابدوه من الصبر ، { بغير حسابٍ } بحيث لا يحصى ولا يحصر؛ بل يصب عليهم الأجر صبّاً ، فلهم ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( لا يهدي إليه حساب الحسّاب ، ولا يُعرف ) ، وفي الحديث : " أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج ، فيوفّون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء؛ بل يُصب عليهم الأجر صبّاً ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب ، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب ، ويتصفّى من الرذائل ، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ } [ النساء : 100 ] فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه ، وحفظه في دنياه وأخراه .
فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه ، فليهاجر منه إلى غيره ، والهجرة سُنَّة نبوية ، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان ، ومهاجرة العشائر والإخوان ، لينخرط في سلك أهل الإحسان ، قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] الآية .
قال القشيري : الصبر : حَبْسُ النفس على ما تكره ، ويقال : تجرُّعُ كاسات التقدير ، من غير استكراهٍ ولا تعبيس ، ويقال : التهدُّف لسهام البلاء . ه .
(5/303)

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
يقول الحق جلّ جلاله : { قُل } لهم : { إِني أُمرتُ أن أعبدَ اللهَ } حال كوني { مخلصاً له الدينَ } من كل ما ينافيه من الشرك والرياء ، وما أمر به صلى الله عليه وسلم يُؤمر به أمته؛ بل هم المقصودون . ثم قال : { وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين } أي : وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة؛ لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه ، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص ، والتقدير : أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها ، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين .
أو : تكون اللام زائدة ، وهو أظهر ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنَ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] أي : من قومي ، أو : من أهل زماني ، أو : أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه ، وهو الإسلام ، وحاصله : أُمرت بإخلاص الدين ، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة؛ لأنه داع إلى الإسلام ، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، لا الملوك والمتجبرين .
{ قل إِني أخافُ إِن عَصَيْتُ ربي } بترك الإخلاص ، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك { عذابَ يومٍ عظيم } هو يوم القيامة . وُصف بالعظمة؛ لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال .
{ قُلِ اللهَ أعبدُ } لا غيره ، لا استقلالاً ولا اشتراكاً . وليس بتكرار؛ لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين ، وبالسبق إليه ، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر ، وفعل ما أُمر به . وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة : أعْبُدْ ما نعبد ، لنعبُد ما تعبد ، فهو كقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] أي : لا أعبد إلا الله { مخلصاً له ديني } من كل ما يشوبه من العلل ، فأمر صلى الله عليه وسلم أولاً ببيان كونه مأموراً بعبادة الله وإخلاص الدين له ، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ، ثم بالإخبار بامتثالهِ لِمَا أمر به على أبلغ وجه؛ إظهاراً لتصلُّبه في الدين ، وحسماً لمادة أطماعهم الفارغة ، وتمهيداً لتهديدهم بقوله : { فاعبدوا ما شئتم } أن تعبدوه { من دونه } تعالى . وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى ، كأنهم لَمَّا لَمْ ينتهوا عما نُهوا عنه أُمِرُوا به ، كي يحيق بهم العذاب .
{ قلْ إِن الخاسرين } ؛ الكاملين في الخسران ، الذي هو عبارة عن : إضاعة ما يهمه ، وإتلاف ما لا بد منه ، هم { الذين خسروا أنفُسَهم } بتعريضها للعطب ، { وأهلِيِهِم } بتعريضهم للتفرُّق عنهم ، فرقاً لا جمع بعده؛ إما في عذاب الأبد ، إن ماتوا على الكفر معهم ، أو : في الجنة ، إن آمنوا ، فلا يرونهم أبداً . وقيل : خسروا أهلهم؛ لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة ، أو : خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم ، لو آمنوا . { ألا ذلك هو الخسرانُ المبينُ } الذي لا خسران أظهر منه .
(5/304)

وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر . وتوسيط ضمير الفصل ، وتعريف الخسران ، ووصفه بالمبين؛ من الدلالة على كمال هوله وفظاعته ، وأنه لا خسران وراءه ، ما لا يخفى .
{ لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار } أي : لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض ، كائنة من النار ، { ومن تحتهم } أيضاً { ظُلَلٌ } أي : أطباق كثيرة ، بعضها تحت بعض ، هي ظلل لآخرين . { ذلك } العذاب الفظيع هو الذي { يُخوِّف اللهُ به عبادَه } ويُحذِّرهم إياه؛ ليجتنبوا ما يوقعهم فيه . { يا عبادِ فاتقون } ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي . وهذه موعظة من الله بالغة ، منطوية على غاية اللطف والرحمة ، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه .
الإشارة : الإخلاص سر بين الله وبين عبده ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، وهو الغيبة عما سوى الله ، فلا يرى في الدارين إلا الله ، ولا يعتمد إلا عليه ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يرجو إلا إياه . والإسلام هو : الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية ، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية ، فالإسلام صورة ، والاستسلام روحها ، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح .
وقوله تعالى : { فاعبدوا ما شئتم } هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه ، وهو الخسران المبين . ويقال : الخاسر : مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير ، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير ، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى مشاهدة حضرة العلي الكبير ، وهي حضرة الذات ، فمَن خسر هذا الخسران ، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان . { ذلك يُخوِّف اللهُ بهِ عباده } قال القشيري : إن خفتَ اليوم كُفيت خوف ذلك اليوم ، وإلا فبين يديك عقبة كُؤُود .
(5/305)

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قلت : { أن يعبدوها } : بدل اشتمال من " الطاغوت " ، والطاغوت : فعلوت ، من الطغيان ، بتقديم اللام على العين ، وأصله : طغيوت ، ثم طيغوت ، ثم طاغوت .
يقول الحق جلّ جلاله : { والذين اجتنبوا الطاغوتَ } أي : البالغ أقصى غاية الطغيان ، وهو الشيطان { أن يعبدُوها } أي : اجتنبوا عبادة الطاغوت ، الذي هو الشيطان ، أو : كل ما عُبد من دون الله ، وكل مَن عَبَد غيرَ الله فإنما عَبَد الشيطان؛ لأنه هو المزيّن لها ، والحامل عليها . { وأنابوا إِلى الله } أي : وأقبلوا إليه ، معرضين عما سواه ، إقبالاً كليّاً ، { لهم البُشرى } بالنعيم المقيم ، على ألسنة الرسل والملائكة ، عند حضور الموت ، وحين يُحشرون ، وبعد ذلك .
{ فبشِّرْ عبادِ الذين يستمعون القولَ } أي : ما نزل من الوحي { فيتبعون أحسَنَه } ؛ أرجحه وأكثره ثواباً ، أو : أبْينه ، الذي هو ضد المتشابه . وهؤلاء هم الموصوفون باجتناب الطاغوت ، والإنابة إلى ربهم ، لكن وضع موضع ضميرهم الظاهر؛ تشريفاً لهم بالإضافة ، ودلالةً على أن مدار اتصافهم بالوصفين الجليلين كونهم نُقاداً في الدين ، يُميِّزون الحق من الباطل ، ويُؤثرون الأفضل .
{ أولئك } المنعوتون بتلك المحاسن الجميلة؛ هم { الذين هداهُمُ الله } لدينه ، والإشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجليلة ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو رتبهم ، وبُعد منزلتهم في الفضل . { وأولئك هم أولوا الألبابِ } أي : هم أصحاب العقول الصافية ، السليمة من معارضة الوهم ومنازعة الهوى ، المستحقون للهداية ، لا غيرهم .
وفيه دليل على أن الهداية تحصل بفضل الله تعالى ، لقوله : { هداهم الله } ، وقبول النفس لها؛ لقوله : { هم أولوا الألباب } .
الإشارة : مذهب الصوفية : الأخذ بالعزائم ، والأرجح من كل شيء ، عقداً ، وقولاً ، وعملاً ، فأخذوا من العقائد مقام العيان ، ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الأقوال ألينها وأطيبها ، ويجمع ذلك : حسن الخلق مع كل مخلوق ، فآثروا العفو على القصاص ، والصفح على العتاب ، وغير ذلك من عزائم الشريعة على رخصها ، ومن الأذكار : أرجحها وأجمعها ، وهو الاسم المفرد ، الذي هو سلطان الأسماء ، ومن الأعمال : أعظمها وأرجحها ، وهو عمل القلوب ، الذي هو الذرة منه تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، كعبادة الفكرة والنظرة ، وفي الحديث : " تفكُّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " ، فأوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكالتخلُّق بمكارم الأخلاق ، كالرضا ، والتسليم ، والحلم ، والسخاء ، والكرم ، وغير ذلك من محاسن الخِلل ، الذي هو من عمل القلوب ، فهم الذين تحققت فيهم البشارة بقوله : { فبشِّر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } .
وقال الورتجبي بعد كلام : ويَتبع الكلام الأزلي الذي هو الخطاب بالفهم العجيب ، والعلم الغريب ، والإدراك الصافي ، وانفراد الحق عن المخلوق ، في المحبة ، والشوق ، والمعرفة ، والتوحيد ، والإخلاص ، والعبودية ، والربوبية ، والحرية ، فهذا أفضل وِرد بالبديهة ، من حيث ظهور الأنباء العجيبة ، والروح القدسية ، والإلهامات الربانية . . انظر بقية كلامه . وقال القشيري : الاستماع يكون لكل شيء ، والاتباع يكون للأحسن . ثم قال : مَن عرف الله لا يسمع إلا بالله . ه . { أولئك الذين هداهم الله } إلى صريح معرفته العيانية . { وأولئك هم أولوا الألباب } ، ولب الشيء : قلبه وخصاله ، فقلوبهم خالصة لمولاهم ، وأرواحهم متنعمة بشهود حبيبها ، وأسرارهم متنزهة في رياض ملكوت سيدها . وبالله التوفيق .
(5/306)

أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
قلت : { مَن } : شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة؛ ليتعلق الإنكار والنفي بمضمونها معاً ، أي : أنت مالك أمر الناس ، فمَنْ حَقَّ علية كلمة العذاب أفأنت تُنقذه ، ثم كررت الهمزة في الجزاء؛ لتأكيد الإنكار ، وتكريره ، لَمّا طال الكلام ، ثم وضع موضع الضمير " مَن في النار "؛ لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد ، والتنبيه على أن المحكوم عليه بالعذاب بمنزلة الواقع في النار ، ويجوز أن يكون الجزاء محذوفاً ، دلّ عليه : { أفأنت تُنقذ } . . . الخ ، أي : أفمن حقَّ عليه العذاب تنقذه أنت .
يقول الحق جلّ جلاله : { أفمن حقّ عليه كلمةُ العذاب } . وهم عبَدَة الطاغوت ومتبعو خطواتها ، كما يلُوح إليه التعبير عنهم ب " مَن حق عليه كلمة العذاب " ، فإن المراد بها قوله تعالى لإبليس : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] ، وقوله تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] أي : أفمن حقّت عليه كلمة الشقاء ، تقدر أن تهديه وتُنقذه من الكفر ، الذي هو سبب النار؟ أو : تقول : المحكوم عليه بالنار بمنزلة الداخل فيها ، فاجتهاده صلى الله عليه وسلم في دعائهم إلى الإيمان سعي في إنقاذهم من النار بعد الدخول فيها ، وهو لا يفيد . فالمراد : تسكينه صلى الله عليه وسلم وتفريغه من الحرص عليهم .
الإشارة : مَن سبق له الإبعاد لا يفيده الكد والاجتهاد ، ومَن أسدل بينه وبينه الحجاب ، لا يفيده إلا الوقوف بالباب ، حتى يحنّ الكريمُ الوهاب ، فإنّ العواقب في هذه الدر مبهمة ، والأعمال بالخواتم . قال القشيري : والذين حقت عليهم كلمةُ العذاب ، فإنهم اليوم اليوم لا يخرجون من حجاب قلوبهم . ه . وبالله التوفيق .
ولمَّا كان المراد بقوله : { أفأنت تُنقذ مَن في النار } هم الذين قيل في حقهم : { لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] استدرك عنهم أهل التقى .
(5/307)

لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
يقول الحق جلّ جلاله : { لكِنِ الذين اتقوا ربَّهم } ، وهم الذين وصفوا بقوله تعالى : { يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ } [ الزمر : 16 ] ، ووُصفوا بالاجتناب والإنابة ، وحصل لهم البُشرى ، حيث استمعوا وتبعوا أحسن القول ، وهم المخاطبون أيضاً بقوله : { يَا عِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } [ الزمر : 10 ] . . . الآية .
فبيَّن هنا أن لهم درجات عالية في جنات النعيم ، في مقابلة ما للكفرة من دركات سافلة في الجحيم ، فهي في مقابلة قوله لهم : { من فوقهم ظُلل من النار ومن تحتهم ظُلل } في حق الكفار ، أي : لكن أهل التقى لهم عَلالِي ، بعضها فوق بعض { مبنيةٌ } بناء المنازل المؤسسة على الأرض في الرصانة والإحكام . { تجري من تحتها } أي : من تحت تلك الغرف { الأنهارُ } من غير تفاوت بين العلو والسفل . { وَعْدَ اللهِ } أي : وعد الله ذلك وعداً ، فهو مصدر مؤكد لقوله : { لهم غُرف } فإنه في قوة الوعد . { لا يُخلف الله الميعاد } لاستحالته عليه سبحانه .
الإشارة : مَن اتقى الله فيما أمر ونهى ، كانت له درجات حسية ، مبنية من الذهب والفضة ، يترقَّى فيها على قدر عمله وتقواه . ومَن اتقى ما يشغل عن الله من جنس الكائنات ، كانت له درجات ومقامات معنوية ، قُربية اصطفائية ، يرتقي فيها بقدر تقواه وسعيه إلى مولاه ، وعد الله لا يُخلف الله الميعاد . قال القشيري : وَعَدَ المطيعين الجنة ولا محالة لا يُخلفه ، ووَعَدَ المذنبين المغفرة ، ولا محالة يغفر لهم ، ووَعَدَ المريدين القاصدين بالوصول ، فإذا لم تقع لهم فترة؛ فلا محالةَ يَصدقُ وَعْده . ه .
(5/308)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
يقول الحق جلّ جلاله : { ألم تَرَ } أيها السامع { أن الله أنزلَ من السماء ماءً } هو المطر ، وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ، ينزل منها إلى الصخرة ، فيقسمه الله تعالى بين البقاع . { فسَلَكَهُ } : أدخله ونظمه { ينابيعَ في الأرض } أي : عيوناً ومجاري في الأرض ، كجري الدماء في العروق في الأجساد : أو : مياهاً نابعة في ظهرها ، فإن الينبوع يطلق على المنبع والنابع . فنصب " ينابيع " على الحال ، على القول الثاني ، وعلى نزع الخافض ، على الأول .
{ ثم يُخرِجُ به زرعاً مختلفاً ألوانه } : أصنافه ، من بُر وشعير وغيرهما ، أو : كيفياته من الألوان ، كالصفرة والخضرة والحمرة ، والطعوم وغيرهما . و { ثم } : للتراخي في الرتبة والزمان ، وصيغة المضارع : لاستحضار الصورة البديعة ، { ثم يهيجُ } أي : يتم جفافه ، ويشرف على أن يثور من منابته ، ويستقل على وجه الأرض ، ساتراً لها ، { فتراه مُصفراً } من بعد خضرته ونَضرته . { ثم يجعله حطاماً } ، فُتاتاً متكسرة ، كأن لم يغنَ بالأمس ، فمَن قدر على هذا قدر على إنشاء الخلق بعد فنائهم ومجازاتهم .
وقيل : المراد من الآية : تمثيل الحياة الدنيا ، في سرعة الزوال ، وقُرب الاضمحلال ، بما ذكر من أحوال الزرع ، ترغيباً عن زخارفها وزينتها ، وتحذيراً من الاغترار بمَن سُرّ بها ، كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ } [ يونس : 24 ] . . . الآية ، وقيل : للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغُرف ، بما يشاهد من إنزال المياه من السماء ، وما يترتب عليه من آثار قدرته تعالى ، وإحكام حكمته ورحمته .
{ إِن في ذلك } أي : ما ذكر تفصيلاً من إنزال الماء وما نشأ عنه . { لذِكْرى } : لتذكيراً عظيماً { لأُولي الألباب } : لأصحاب العقول الخالصة من شوائب الهوى ، فيتذكرون بذلك أن الحياة الدنيا في سرعة التقضي والانصرام ، كما يشاهدونه من حال الحكام كل عام ، فلا يغترُّون ببهجتها ، ولا يُفتنون بفتنتها ، أو : يجزمون بأن مَن قدر على إنزال الماء من السماء ، وإجرائه في ينابيع الأرض ، قادر على إجراء الأنهار من تحت الغُرف . وأما ما قيل : من أنه استدلال على وجود الصانع؛ فلا يليق؛ لأن هذه الأفعال الجليلة ذُكرت مسندة إلى الله تعالى؛ وإنما يليق الاستدلال بها على وجود الصانع لو ذُكرت غير مسندة إلى مؤثر ، فتَعَيّن أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى وشؤون آثاره ، كما بيَّن ، لا وجوده تعالى . قاله أبو السعود .
الإشارة : قال القشيري : والإشارة في هذا أن الإنسان يكون طفلاً ، ثم شابًّا ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً ، ثم يصير إلى أرذل العمر ، ثم إلى آخره يُخترم ، ويقال : إن الزرع ما لم يأخذْ في الجفاف لا يُؤخذ منه الحَبُّ ، الذي هو المقصود منه ، كذلك الإنسان ما لم يخل من نفسه وحَوْلِه لا يكون له قَدْرٌ ولا قيمةٌ .
(5/309)

قلت : يعني أنه ما لم يمحص نفسه ، وينهكها في التقرُّب إلى مولاه ، لا قيمة له .
ثم قال : ويقال : إن المؤمن بقوة عقله يوجبُ استقلاله بعمله إلا أن يبرُز منه كمالٌ يُمكِّنه من وفارة بصيرته ، ثم إذا بدت لائحةٌ من سلطان المعارف تصير تلك الأبواب مغمورة ، فإذا بَدَتْ أنوارُ التوحيد استهلكت تلك الجملة كذلك ، وأنشدوا :
فلمَّا استبان الصبحُ أدرج ضوءُه ... بأنواره أنوارَ ضوء الكواكبِ
قلت : استقلال العبد بعمله هو مثل بروز الزرع من منبته ، ووفُورِ بصيرته هو إخراج حبه في سنبله ، وبدو لائحة من سلطان المعارف هو اصفراره ، وظهور أنوار التوحيد التي تفني وجوده وتغمره في وجود الحق هو صيرورتها حطاماً .
(5/310)

أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قلت : الهمزة للإنكار ، و { من } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : كمَن ليس كذلك .
يقول الحق جلّ جلاله : { أفمَنْ شرحَ الله صَدْرَه } أي : وسَّعه وهيَّأه { للإسلام } حتى قَبِله وفرح به ، واستضاء بنوره ، { فهو على نورٍ } عظيم { من ربه } ، وبصيرة في دينه ، وهذا النور : هو اللطف الإلهي الفائض عليه عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية ، والتوفيق للاهتداء بها ، أو : بمحض الإلهام من الجود والكرم ، فيقذف في قلبه نور اليقين ، بلا سبب ، أو : بصحبة أهل النور ، هل يكون هذا كمَن قسا قلبه ، وحرج صدره ، واستولى عليه ظلمة الغي والضلالة ، فأعرض عن تلك الآيات بالكلية؟!
ولما نزلت هذه الآية سئل صلى الله عليه وسلم عن الشرح المذكور ، فقال : " نور يقذفه الله في القلب ، فإذا دخل النور القلب انشرح وانفسح " قيل : وهل لذلك علامة؟ قال : " نعم التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل نزوله " .
{ فويلٌ للقاسيةِ قلوبهم } : أي الصلبة اليابسة { مِن ذكر الله } أي : من أجل ذكره ، الذي من حقه أن ينشرح له الصدر ، وتلين له النفس ، ويطمئن به القلب ، وهؤلاء إذا ذكر الله عندهم اشمأزوا من أجله ، وازدادت قلوبهم قساوة .
قال الفخر : اعلم أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية ، وزيادة الاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ، وقد يوجب القسوة والبُعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية ، فإذا عرفتَ هذا ، فنقول : رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورتبتها : هو ذكر الله ، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله سبباً لازدياد مرضها ، كان مرض تلك النفوس مرضاً لا يرجى زواله ، ولا يُتوقع علاجه ، وكانت في نهاية الشر والرداءة ، فلهذا المعنى قال تعالى : { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } وهذا كلام محقق . ه . وهو كما قيل في الجُعَل أنها تتضرر برياح الورد ، أي : وتنتعش بالشين . فكل مَن يفر من ذكر الله ، ويثقل عليه ، فقلبه جُعَل . ذكره في الحاشية .
{ أولئك في ضلال مبين } أي : أولئك ، البُعَداء الموصوفون بما ذكر من قساوة القلوب في ضلال بعيد من الحق ، ظاهر ضلاله لكل أحد . قيل : نزلت الآية في حمزة وعليّ رضي الله عنهما وأبي لهب وولده ، وقيل : في عمّار وأبي جهل . والحق : إنها عامة .
الإشارة : مَن أراد الله به السعادة شَرَح صدرَه للإسلام ، فقَبِله وعمل عمله ، ومَن أراد به جذب العناية وتحقيق الولاية ، شرح صدره لطريق أهل مقام الإحسان ، فدخل في طريقهم ، وهيّأ نفسه لصُحبتهم وخدمتهم ، فما زال يقطعون به مهامه النفوس حتى يقولون له : ها أنت وربك ، فتلوح له الأنوار ، وتُشرق عليه شموس المعارف والأسرار ، حتى يفنى ويبقى بالله .
قال القشيري : والنورُ الذي من قِبَله تعالى نورُ اللوائح بتحقق العلم ، ثم نورُ اللوامع بثبات الفهم ، ثم نورُ المحاضرة بزوائد اليقين ، ثم نور المكاشفة بتجلي الصفات ، ثم نور المشاهدة بظهور الذات ، ثم أنوار الصمدية بحقائق التوحيد ، وعند ذلك فلا وجد ولا فقد ، ولا بُعد ولا قُرب ، كلا ، بل هو الله الواحد القهّار . ه . فمَن لم يبلغ هذا لا يخلو قلبه من قساوة ، فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ، أولئك في ضلال مبين .
(5/311)

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قلت : { كتاباً } : بدل من { أحسن } ، أو : حال ، لوصفه بقوله : { متشابهاً } . و { مثاني } : صفة أخرى لكتابِ ، أو : حال أخرى منه ، أو : تمييز من " متشابهاً " ، كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائلَ ، أي : شمائله ، والمعنى : متشابهة مثانيه . و { تقشعر } : الأظهر أنه استئناف ، وقيل : صفة لكتاب ، أو : حال منه .
يقول الحق جلّ جلاله : { اللهُ نزَّل أحسنَ الحديثِ } وهو القرآن؛ إذ لا حديث أحسن منه ، لا تمله القلوب ، وتسأمه الأسماع؛ بل تِرداده يزيده تجمُّلاً وطراوة وتكثير حلاوة . رُوي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلُّوا ملةً ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حدثنا حديثاً ، فنزلت . والمعنى : أن فيه مندوحة عن سائر الأحاديث .
وفي إيقاع اسم الجلالة مبتدأ ، وبناءِ " نزّل " عليه ، من تفخيم أحسن الحديث ، ورفع محله ، والاستشهاد على حسنه ، وتأكيد إسناده إليه تعالى ، وأنه من عنده ، لا يمكن صدوره من غيره ، والتنبيه على أنه وحي معجز ، ما لا يخفى .
حال كونه { كتاباً مُتشابهاً } أي : يُشبه بعضُه بعضاً في الإعجاز والبلاغة ، أو : تشابهت معانيه بالصحة ، والإحكام ، والابتناء على الحق والصدق ، واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش ، وتناسب ألفاظه وجُمَلِه في الفصاحة والبلاغة ، وتجاوب نظمه في الإعجاز . { مَّثَانِيَ } : جمع مثنى ، أي : مكرر ، ومردد ، لما ثنى من قصصه ، وأنبائه ، وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، ووعظه . وقيل : لأنه يثنّى في التلاوة ، ويُكرر مرة بعد أخرى . قال القشيري : ويشتمل على نوعي الثناء عليه ، بذكر سلطانه وإحسانه ، وصفة الجنة والنار ، والوعد والوعيد . ه .
{ تَقْشَعِرُّ منه جُلودُ الذين يخشون ربهم } أي : ترتعد وتنقبض ، والاقشعرار : التقبُّض ، يقال : اقشعرّ الجلد : إذا انقبض ، ويقال : اقشعر جلده ووقف شعره : إذا عرض له خوف شديد ، من منكر هائل دهمه بغتة . والمعنى : أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارعه وزواجره ، أصابتهم هيبة وخشية تقشعر منه جلودهم ، وإذا ذكروا رحمة الله تعالى تبدلت خشيتهم رجاءً ، ورهبتهم رغبةً ، وذلك قوله تعالى : { ثم تَلينُ جُلودُهم وقلوبُهم إِلى ذكرِ الله } أي : ساكنة مطمئنة إلى ذكر الله .
{ ذلك } أي : الكتاب الذي شُرِح أحواله { هُدَى اللهِ يهدي به مَن يشاءُ } أن يهديه ، بصرف مجهوده إلى سبب الاهتداء به ، أو بتأمله فيما في تضاعيفه من شواهد الحقيقة ، ودلائل كونه من عند الله . { ومَن يُضللِ اللهُ } أي : يخلق فيه الضلالة ، بصرف قدرته إلى مبادئها ، وإعراضه عما يرشد إلى الحق بالكلية ، وعدم تأثُّره بوعده ووعيده ، أو : مَن يخذله { فما له من هَادٍ } يُخلصه من ورطة الضلال . أو : ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء هو أثر هدى الله ، يهدي لذلك الأثر مَن يشاء من عباده ، { ومَن يُضلل } أي : ومَن لم يؤثر فيه لطفه وهدايته؛ لقسوة قلبه ، وإصراره على فجوره { فما له من هادٍ } : من مؤثر فيه بشيء قط .
(5/312)

الإشارة : أول ما يظهر الفتح على قلب العبد في فَهْم كتاب الله ، والتمتُّع بحلاوة تلاوته ، ثم ينتقل إلى الاستغراق في ذكره باللسان ، ثم بالقلب ، ثم إلى الفكرة ، ثم العكوف في الحضرة ، إن وجد مَن يربيه وينقله عن هذه المقامات ، وإلا بقي في مقامه الأول .
وقال الطيبي : مَن أراد الله أن يهديه بالقرآن ، أوقع في قلبه الخشية ، كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ثم يتأثر منه ظاهراً ، بأن تأخذه في بدء الحال قشعريرة؛ لضعفه ، وقوة سطوة الوارد ، فإذا أدمن على سماعه ، وأَلِفَ أنواره ، يطمئن ويلين ويسكن . ه . قلت : وعن هذا عبّر الصدّيق بقوله حين رأى قوماً يبكون عند سماعه : ( كذلك كنا ثم قست القلوب ) أي : صلبت وقويت على حمل الواردات .
وقال الورتجبي : سماع المريدين بإظهار الحال عليهم ، وسماع العارفين بالطمأنينة والسكون . ه . وقال على قوله : { متشابهاً } : إنه أخبر عن كلية الذات والصفات ، التي منبعهما أصل القدم ، وصفاته كذاته ، وذاته كصفاته ، وكل صفة كصفة أخرى ، من حيث التنزيه والقدس والتقديس ، والكلام بنفسه متشابه المعاني . ه . يعني : إنما كان القرآن متشابهاً؛ لأنه أخبر عن كلية الذات والصفات القديمين ، والذات لها شبه بالصفات من حيث اللطافة ، والصفات تشبه بعضها بعضاً في الدلالة على التنزيه والكمال ، أي : كتاباً دالاًّ على كلية الذات المشابهة للصفات . وهذا حملٌ بعيد .
(5/313)

أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قلت : { وقيل } : عطف على " يتقي " ، أو : حال من ضمير " يتقي " ، بإضمار " قد " .
يقول الحق جلّ جلاله : { أفمَنْ يتقي بوجهِهِ } الذي هو أشرف أعضائه { سوء العذاب } أي : العذاب السيىء الشديد { يومَ القيامة } كمَن ليس كذلك ، بل هو آمن ، لا يعتريه مكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء ، بوجه من الوجوه ، وإنما كان يتقي النارَ بوجهه؛ لكون يده التي كان يتقي بها المكاره والمخاوف مغلولة إلى عنقه . قال القشيري : قيل : إن الكافر يُلقى في النار ، فيلقاها أولاً بوجهه؛ لأنه يُرمَى فيها منكوساً؛ فأما المؤمن المُوقَّى ذلك؛ فهو المُلقَّى بالكرامة ، فوجهُهُ ضاحكٌ مُسْتَبْشرٌ . ه .
{ وقيل للظالمين } : يقال لهم من جهة خزنة النار . وصيغة الماضي للدلالة على التحقُّق . ووضع المظهر في مقام المضمر للتسجيل عليهم بالظلم ، والإشعار بعلة الأمر في قوله : { ذُوقوا ما كنتم تكسبون } أي : وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا ، من الظلم بالكفر والمعاصي .
{ كذَّبَ الذين مِن قبلهم } من الأمم السالفة ، { فأتَاهمُ العذابُ } المقرر لكل أمة { من حيث لا يشعرون } من الجهة التي لا يحتسبون ، ولا يخطر ببالهم إتيان الشر منها . { فأذاقهم اللهُ الخزيَ } أي : الذل والصغار { في الحياة الدنيا } ، كالمسخ ، والخسف ، والقتل ، والأسر ، والإجلاء ، وغير ذلك من فنون النكال ، { ولعذابُ الآخرة } المعد لهم { أكبرُ } ؛ لشدته ودوامه { لو كانوا يعلمون } أي : لو كان من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به .
والآية ، يحتمل أن تكون تهديداً لقريش ، فالضمير في { قَبْلِهم } يعود إليهم؛ لأن قوله : { ومَن يُضلل الله } . . . إلخ تعرض بمَن أعرض عن كتابه من كفار قريش . وقال أبو السعود : هو استئناف ، مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب ، إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي . ه .
الإشارة : الوجه هو أشرفُ الأعضاء وإِمَامُها ، فإن كانت في الباطن بهجة المحبة ، أو سيما المعرفة ، ظهرت عليه ، فيتنورُ ويبتهج ، وإن كانت ظلمة المعاصي ، أو كآبة الحجاب ، ظهرت عليه ، وإن كانت غيبة في الحق أو سكرة ، كان هو أول ما يغيب من الإنسان ويغرق ، ثم تغيب البشرية في البحر المحيط ، وهو بحر الأحدية . وقوله تعالى : { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } ، قال القشيري : أشدُّ العذاب ما يكون بغتةً ، كما أن أتمَّ السرور ما يكون فلتةً . وفي الهجران والفراق والشدة ما يكون بغتةً غير متوقعة ، وهو أنكى للفؤاد ، وأشدُّ في التأثير ، وأوجعه للقلوب ، وفي معناه أنشدوا :
فَبِتَّ بخيرٍ والدُّنى مطمئنةٌ ... فأصبحتَ يوماً والزمانُ تقَلُّبَا
وأتمُّ السرور وأعظمه تأثيراً ما يكون فجأة ، حتى قال بعضهم : أشد السرور غفلة على غفلة ، وأنشدوا :
بينما خاطرُ المُنى بالتلاقي ... سابحٌ في فؤاده وفؤادي
جمَعَ اللهُ بيننا فالتقيْنا ... هكذا بغتةً بلا ميعاد
(5/314)

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قلت : قرآناً : حال مؤكدة من " هذا " ، على أن مدار التأكيد هو الوصف ، كقولك : جاءني زيد رجلاً صالحاً .
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد ضَرَبْنَا } أي : وضحنا { للناس في هذا القرآنِ من كل مَثَل } : يحتاج إليه الناظر في أمر دينه ، { لعلهم يتذكرون } أي : كي يتذكروا به ويتعظوا ، حال كونه { قرآناً عربياً } ؛ لتفهموا معانيه بسرعة ، { غيرَ ذي عوجٍ } : لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، فهو أبلغ من المستقيم ، وأخص بالمعاني : وقيل : المراد بالعوج : الشك . { لعلهم يتقون } ما يضرهم في معادهم ومعاشهم .
الإشارة : قد بيَّن الله في القرآن ما يحتاج إليه المريد في سلوكه وجذبه ، وسيره ووصوله ، من بيان الشرائع وإظهار الطرائق ، وتبيين الحقائق . قال تعالى : { مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شَىْءٍ } [ الأنعام : 38 ] لكن لا يغوص على هذا إلا الجهابذة من البحرية الذين غاصوا بأسرارهم في بحر الأحدية ، وتغلغلوا في العلوم اللدنية ، ومَن لم يبلغ هذا المقام يصحب مَن يبلغه ، حتى يوصله إلى ربه ، ولا يكون الوصول إلا بقلب مفردٍ ، غير مشترك .
(5/315)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
قلت : { مثلاً } : مفعول ثان لضرب ، و { رجلاً } : مفعول أول ، وأُخِّرَ للتشويق إليه ليصل بما وصف به ، وقيل : بدل من " مثلاً " ، و { فيه } : خبر ، و " شركاء " : مبتدأ ، والجملة : صفة لرجل ، و " مثلاً " : تمييز .
يقول الحق جلّ جلاله : { ضَرَبَ اللهُ مثلاً } للمشرك والموحد ، { رجلاً فيه شركاءُ مُتَشَاكِسُون } : مختلفون متخاصمون عسيرون ، وهو المشرك ، { ورجلاً سلماً } أي : خالصاً { لرجل } فرد ، ليس لغيره عليه سبيل . والمعنى : جعل الله مثلاً للمشرك حسبما يقوده إليه مذهبه ، من ادعاء كل من معبوديه عبوديتَه ، عبداً يتشارك فيه جماعة ، يتجاذبونه في مهماته المتباينة في تحيُّره وتعبه ، ومثلاً آخر للموحّد ، وهو عبد خالص لرجل واحد؛ فإنه يكون عند سيده أحظى ، وبه أرفق .
{ هل يستويان مثلاً } : إنكار واستبعاد لاستوائهما ، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور ، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوّه باستوائهما؛ ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين ، والآخر في أسفل سافلين .
وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون { سَلَماً } بفتحتين ، وهو مصدر ، من : سلم له كذا : إذا خلُص ، نُعت به للمبالغة ، فالقراءتان متفقتان معنى . والمراد من المثَل : تصوير استراحة الموحد وانجماعِه على معبوده ، وتعب المشرك وتشتيت باله ، وخصوصاً مع فرض التعاكس من الشركاء ، فيصير متحيراً ، وفي عنت كبير من الجمع بين أغراضهم ، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل؛ للتضاد في الأغراض والتناقض ، مع فرض التخالف والتنازع بينهم ، واعتبر ذلك بحال الوالدين ، إذا اختلفا على الولد ، فإنه يعسر إرضاؤهُما إلا بمشقة واحتيال ، وكذلك عابد الأوثان؛ فإنه معذَّب الفكر بها ، وبحراسة حاله منها ، ومتى توهم أنه أرضى واحداً في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر ، فهو أبداً في تعب وضلال ، وكذلك هو المصانع للناس ، الممتحن بخدمة الملوك . قاله ابن عطية .
والحاصل : أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة .
{ الحمد لله } على عدم استوائهما . قال الطيبي : ثم إذا لزمتهم الحجة قل : الحمد لله ، شكراً على ما أولاك من النصرة ، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة . وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية ، وعلو الرتبة ، بتوفيق الله تعالى ، وأنه مِنَّة جليلة ، موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته ، أو : حيث ضرب لهم المثل الأعلى ، وللمشركين المثال السوء ، فهذا صنع جميل ، ولُطف تام ، مستوجب لحمده وشكره؛ { بل أكثرُهُم } أي : المشركون { لا يعلمون } ذلك ، مع كمال ظهوره ، فيقعون في ورطة الشرك والضلال ، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور ، إلى بيان عدم علمهم ذلك ، مع غاية ظهوره .
ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عياناً ، وهو ما بعد الموت ، فقال : { إِنك مَيِّت وإِنهم ميتون } ، فتجتمعون عندنا ، فنحكم بينكم . وقيل : كانوا يتربّصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته ، أي : إنكم جميعاً بصدد الموت ، { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تَخْتصمون } .
(5/316)

فتحتجّ عليهم بأنك بلّغت الرسالة ، واجتهدت في الدعوة ، فتلزمهم الحجة؛ لأنهم قد لجُّوا في العناد ، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يُقبل عذرهم . وقيل : المراد : الاختصام فيما دار بينهم في الدنيا . والأول أنسب .
الإشارة : لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله ، القلب المشترك تفرّقت همومه ، وتشتت أنواره ، بتشتيت شواغِله وعلائقه ، وتفرّقت محبته ، بتفرُّق أهوائه وحظوظه ، والقلب المفرد اجتمعت محبته ، وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه . وفي الحِكَم : " كما لا يحب العمل المشترك ، لا يحب القلب المشترك ، العمل المشترك لا يقبله ، والقلب المشترك لا يُقبل عليه " . وقال أيضاً : " فرِّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار " .
وقيل : للجنيد : كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال : بتوبة تزيل الإصرار ، وخوف يقطع التسويف ، ورجاء يبعث على مسالك العمل ، وبإهانة النفس ، بقربها من الأجل ، وبُعدها من الأمل . قيل له : وبمَ يتوصل إلى هذا؟ فقال : بقلب مفرد ، فيه توحيد مجرد . ه .
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً أي : وهو الله كفاه اللهُ همَّ دنياه ، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أيِّ أوديةِ الدنيا هَلَكَ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن كانت الدنيا هَمَّهُ فرّق الله عليه أمره ، وجعل فقرَه بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له ، ومَن كانت الآخرة نيته ، جمع الله عليه أمره ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي صاغرة " ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه؛ جمع الله عليه سره ، وأغناه به عما سواه ، وخدمه الوجود بأسره ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شَهِدت المكون كانت الأكوانُ معك " . والله تعالى أعلم .
(5/317)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
يقول الحق جلّ جلاله : { فمَن أظلمُ ممن كَذَبَ على الله } بأن أضاف إليه الشريك والولد ، فإنه لا أحد أظلم منه؛ إذ هو أظلم من كل ظالم . { وكذَّب بالصِّدق } أي : الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق ، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله { إِذْ جاءه } أي : كذَّب في أول مجيئه ، من غير تأمُّل فيه ولا تدبُّر ، { أليس في جهنم مَثْوىً للكافرين } ؟ أي : لهؤلاء الذين افتروا على الله ، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق ، فأظهر موضع الإضمار تسجيلاً وإيذاناً بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم ، والجمع باعتبار معنى { مَن } . كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها ، أو : لجنس الكفرة ، وهم داخلون في الكفر دخولاً أولياً .
{ والذي جاء بالصدقِ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { وصدَّق به } : وهم المؤمنون ، أي : والفوج ، أو : الفريق الذي جاء بالصدق ، والفريق الذي صدّق به . { أولئك هم المتقون } : المنعوتون بالتقى ، التي هي أجلّ الرغائب .
وقرىء " صَدَقَ " بالتخفيف ، أي : صدق به الناس ، فأدَّاه إليهم كما أنزل عليه ، من غير تغيير ، وقيل : صار صادقاً بسببه؛ لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
{ لهم ما يشاؤون عند ربهم } : هو بيان لِما لهم في الآخرة من حسن المآب ، بعد بيان ما لهم في الدنيا من محاسن الأعمال ، أي : لهم ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار ، وتوالي المسار في الآخرة ، لا في الجنة فقط؛ لأن بعض ما يشاؤون يقع قبل دخول الجنة ، من تكفير السيئات ، والأمن من الفزع الأكبر ، وسائر أهوال القيامة . { ذلك } الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه { جزاءُ المحسنين } أي : الذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا .
{ لِيُكَفِّر الله عنهم أَسْوَأَ الذي عَمِلُوا } ، اللام متعلق بقوله : { لهم ما يشاؤون } ؛ لأنه في معنى الوعد ، كأنه قيل : وعد الله لهم جميع ما يشاؤونه من دفع المضار وحصول المسار؛ ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا ، أي : أقبحه وأعظمه ، وأولى أصغره . وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي : يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر . . . إلخ . { ويجْزِيَهم أجْرَهُم بأحسنِ الذي كانوا يعملون } فإذا كان في عملهم حسن وأحسنُ منه ، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع ، تكرُّماً منه وإحساناً .
والحاصل : أنه سبحانه لكرمه يُكفر السيىء والأسوأ بالأحروية ، ويجزي على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح ، كمَن أهدى لملك هديتين؛ صغيرة وكبيرة ، فكافأه على الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة . قال القشيري : وأحسن أعمال المؤمن : الإيمان والمعرفة ، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب ، وهو الرؤية . ه .
وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار ، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام ، والجمع بين الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني أي : الذي كانوا يعملون دون الأول؛ للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة ، بخلاف السيئة .
(5/318)

الإشارة : كل مَن ادعى حالاً مع الله ، وليست متحققة فيه ، فقد كذب على الله ، وكل مَن أنكرعلى أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه . { والذي جاء بالصدق } ، وهو مَن أَذِن له في التذكير أو التربية . { وصدّق به } ، وهو مَن سمع وتبع ، أولئك هم المتقون ، دون غيرهم ، لهم ما يتمنون عند ربهم في الدنيا والآخرة ، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان ، الذين يعبدونه على العيان ، يُغطي وصفهم بوصفه ، ونعتهم بنعته ، فيوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، ثم يكفيهم جميع الشرور .
(5/319)

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
يقول الحق جلّ جلاله : { أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَه } أي : نبيه صلى الله عليه وسلم . نزلت تقوية لقلبه عليه السلام ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه ، أو : جنس العبد ، فيشمل الأنبياء كلهم والمؤمنين ، وينتظم فيه النبي صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً ، ويُؤيده قراءة الأخويْن بالجمع . وهو إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده ، كأنَّ الكفاية بلغت من الظهور ما لا يقدر أحد على أن يتفوّه بعدمها ، أو يتلعثم في الجواب بوجودها ، وإذا علم العبدُ أن الحق تعالى قائم بكفايته ، سكن قلبه واطمأن ، وأسقط الأحمال والكُلَف عن ظهره ، فلا جرم أن الله يكفيه ما أهمّه ، ويؤمّنه مما يخافه ، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
{ ويُخوفونك بالذين من دُونه } أي : الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى ، وهي جوامد ، لا تضر ولا تنفع ، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت قريش : إنا نخاف أن تخبُلك آلهتنا ، وتُصيبك معرَّتها لعيبك إياها . وفي رواية : قالوا : لتكفنّ عن آلهتنا ، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون ، كما قال قوم هود : { إِن نَّقٌولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ } [ هود : 54 ] . وجملة : " ويخوفونك " : استئناف ، أو : حال . { ومَن يُضلِلِ اللهُ } حتى غفل عن كفايته وعصمته صلى الله عليه وسلم ، أو : اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع؛ { فما له من هادٍ } يهديه إلى ما يرشده .
{ ومَن يهدِ اللهُ } إلى توحيده وطاعته { فما له من مُضلٍّ } يصرفه عن رشده ، أو يصيبه سوء يخل بسلوكه؛ إذ لا راد لفعله ، ولا معارض لقضائه ، كما ينطقُ به قوله تعالى : { أليسَ اللهُ بعزيزٍ } : غالب لا يغالَب ، منيع لا يمانَع ولا ينازَع ، { ذي انتقامٍ } من أعدائه لأوليائه ، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه . وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام ، وتربية المهابة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا عَلِمَ العبدُ أن الله كاف جميع عباده ، وثق بضمانه ، فاستراح من تعبه ، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه ، فيدخل جنة الرضا والتسليم ، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم ، فيكتفي بالله ، ويقنع بعلم الله ، ويثق بضمانه .
قال في لطائف المنن : مبنى الوليّ على الاكتفاء بالله ، والقناعة بعلمه ، والاغتناء بشهوده . قال تعالى : { أليس الله بكافٍ عبده } وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] ه . وقال الشيخ أبو الحسن صلى الله عليه وسلم : يقول الله عزّ وجل : عبدي اجعلني مكان همك أكفك همك ، عبدي؛ ما كنت بك فأنت في محل البُعد ، وما كنت بي فأنت في محل القُرب ، فاختر لنفسك . ه . أي : ما دمت مهموماً بنفسك فأنت في محل البُعد ، وإذا خرجت عنها ، وطرحتها بين يدي خالقها ، أو غبت عن وجودها بالكلية ، فأنت في محل القُرب ، الأول : قُرب مراقبة ، والثاني : قُرب مشاهدة .
وقوله تعالى : { ويُخوفونك بالذين من دونه } : هو عام في كل ما يُخاف منه ، فالعارف لا يخاف من شيء؛ لعلمه بأن الله ليس معه شيء ، ولا يقع في الوجود إلا قدره وقضاؤه ، ومَن يعتقد غير هذا فهو ضال ، ومَن يُضلل الله فلا هادي له . وبالله التوفيق .
(5/320)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولئن سألْتَهُم } أي : مَن يخوفونك ممن سوى الله ، وقلت لهم : { مَن خلَقَ السماواتِ والأرض لَيقولُنَّ اللهُ } ؛ لوضوح الدلائل على انفراده بالاختراع . { قُلْ } تبكيتاً لهم : { أفرأيتم ما تدعون من دون الله } من الأصنام ، { إِن أرادنيَ اللهُ بضُرٍّ هل هن كاشفاتُ ضُره } أي : إذا تحققتم أن خالق العالم العلوي والسفلي هو الله وحده ، فأخبروني عن آلهتكم ، إن أرادني اللهُ بضُر هل يقدر أحد منهم على كشف ذلك الضر عني؟ { أو أرادنِي برحمةٍ } أي : بنفع { هل هن مُمسكاتُ رحمته } وصارفتها عني؟!
وقرأ البصري : " كاشفاتٌ " و " ممسكاتٌ " بالتنوين ، ونصب " ضره " و " رحمته " على المفعول . وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه صلى الله عليه وسلم ، للرد في نحورهم؛ حيث كانوا يُخوفونه من معرَّة الأوثان ، ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة . وإنما قال : " كاشفات " و " ممسكات " على التأنيث ، بعد قوله : { ويُخوفونك بالذين من دونه } ؛ لأنهن إناث ، وهن اللات ، والعزّى ، ومناة ، وفيه تهكّم بهم ، وبمعبودهم؛ حيث جعلهم يعبدون الإناث .
{ قُل حَسْبِيَ اللهُ } أي : كافيني في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا ، فنزلت : { قل حسبي الله عليه يتوكلُ المتوكلون } ، لا على غيره أصلاً؛ لعلمهم بأن كل ما سواه تحت قهر ملكوته .
الإشارة : الناس على قسمين : أعداء وأحباب ، فإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن ينفعوك بشيء إلا ما قدّر الله لك ، وإن نظرت إلى الأعداء وجدتهم لا يقدرون أن يضروك بشيء إلا ما قدّر الله عليك ، فارفض الجميع ، وتعلّق بالله بغنك عن غيره ، ويوصل إليك ما قسم لك بالعز والهناء .
(5/321)

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
يقول الحق جلّ جلاله : { قُلْ يا قوم اعملوا على مكانَتِكُمْ } أي : على حالتكم التي أنتم عليها ، وجهتكم من العداوة التي تمكنتم فيها ، فالمكانة بمعنى المكان ، فاستعيرت من العين للمعنى ، وهي الحال ، كما تستعار " هنا " . و " حيث " للزمان ، وإنما وضعا للمكان . وقرأ أبو بكر وحمَّادِ : " مكانات " بالجمع . { إِني عامل } على مكانتي ، فحذف للاختصار ، والمبالغةِ في الوعيد ، والإشعار بأن حاله لا تزال تزداد قوة بنصر الله تعالى له ، وتأييده ، ولذلك توعّدهم بقوله : { فسوف تعلمون مَن يأتيه عذاب يُخْزِيه } ؛ فإنَّ خزي أعدائه دليل غلبته صلى الله عليه وسلم ونصره في الدنيا والآخرة . وقد أخزاهم وعذّبهم يوم بدر ، { و } سوف تعلمون أيضاً مَن { يَحِلُّ عليه عذابٌ مقيمٌ } في الآخرة؛ لأنه مقيم على الدوام .
ثم ذكر الفاصل بين أهل العذاب المقيم ، والنعيم الدائم ، فقال : { إِنا أنزلنا عليك الكتابَ للناسِ } أي : لأجلهم ، فمَن أعرض عنه فقد استحقَّ العذاب الأليم ، ومَن تمسّك به استوجب النعيم المقيم ، حال كونه ملتبساً { بالحق } ناطقاً به ، أو : أنزلناه مُحِقين في إنزاله . { فمَن اهتدى فلنفسه } ، إنما ينفع به نفسه { ومَن ضلَّ } : بأن أعرض عنه ، أو عن العمل به . { فإِنما يَضِلُّ عليها } ؛ لأن وبال إضلاله مقصور عليها . { وما أنت عليهم بوكيلٍ } حتى تجبرهم على الهدى ، وما وظيفتك إلا التبليغ ، وقد بلغت أيّ بلاغ .
الإشارة : مَن ذَكَّر قوماً فأعرضوا عنه ، ولم يرفعوا له رأساً ، يقول لهم : يا قوم اعملوا على مكانتكم . . . الخ ، وأيّ عذاب أشد من الحجاب ، والبُعد عن حضرة الحبيب؟
(5/322)

اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
يقول الحق جلّ جلاله : { الله يتوفّى الأنفُسَ } أي : الأرواح { حين موتِها } فيقبضها إليه قبضاً ، { و } يتوفى الأنفس { التي لم تمت في منامها } فيقبضها ويترك شعاعها في البدن ، فالتي قضى عليها الموت يتوفاها ظاهراً وباطناً ، والتي لم يقضِ موتها يتوفاها ظاهراً فقط عند النوم ، { فيُمسك التي قَضَى عليها الموتَ } ، لا يردها إلى البدن ، { ويُرْسِلُ الأخرى } أي : النائمة إلى بدنها عند التيقُّظ { إِلى أجلٍ مُسمًّى } : هو الوقت المضروب لموتها ، فشبَّه النائمين بالموتى ، حيث لا يميزون ولا يتصرفون ، كما أن الموتى كذلك .
قال الإمام : النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني ، إذا تعلّق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء ، وهي الحياة ، ثم إنه في وقت النوم ينقطع تعلُّقه عن ظهر البدن ، دون باطنه ، وفي وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر البدن وباطنه ، فالموت والنوم من جنس واحد بهذا الاعتبار ، لكن الموت انقطاع كامل ، والنوم انقطاع ناقص ، فظهر أن القادر الحكيم دبَّر تعلُّق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه دبَّر أمرها بحيث يقع ضوء الروح على جميع أجزاء البدن ، ظاهره وباطنه ، وذلك هو اليقظة .
وثانيها : بحيث يقطع عن الظاهر والباطن ، وهو الموت .
وثالثها : بحيث يقطع عن ظاهر البدن دون الباطن ، وهو النوم ، فثبت أن النوم والموت يشتركان في كل واحد منهما بتوفي النفس ، ثم يمتاز أحدهما بخواص معينة . ومثل هذا التقدير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم . ه .
وقال سهل : إن الله إذا توفى الأنفس أخرج الروح النوري من لطيف نفس الطبيعي الكثيفي ، فالذي يتوفى في النوم من لطيف نفس الطبع ، لا لطيف نفس الروح . فالنائم يتنفس تنفُّساً لطيفاً ، وهو نَفَس الروح ، الذي إذا زال لم يكن للعبد حركة ، وكان ميتاً . وقال : حياة النفس الطبيعي بنور لطيف ، وحياة لطيف نفس الروح بذكر الله . وقال أيضاً : الروح تقوم بلطيفة في ذاتها بغير نفس الطبع ، ألا ترى أن الله تعالى خاطب الكل في الذر بنفس ، وروح ، وفهم ، وعقل ، وعلم لطيف ، بلا حضور طبع كثيف . ه . قلت : وبهذا الاعتبار يقع لها العذاب في البرزخ أو النعيم ، وتذهب وتجيء في عالم البرزخ .
وقال في القصد : النفس مع الروح كالجسد مع الظل ، والظل يميل ، والأصل لا يميل ، والروح سره ، والسر بربه ، وهو شعاع الحقيقة الصغرى ، والسر نور السر الأعلى ، وكل هذا مخلوق ، بقدرة الله موثوق ، فلا يستفزك غير هذا فتشقى ، وفي جهنم من نور البُعد تلقى . ه . قلت : السر الأعلى هو معاني أسرار الذات القائمة بالأشياء ، وهو قديم غير مخلوق .
وذكر الثعلبي عن ابن عباس أنه قال : في ابن آدم نفس وروح ، بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفسُ هي التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها التحرُّك والنَّفَس؛ فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه .
(5/323)

ه . هذا ، وفي الصحيح : إن الله قبض أرواحنا حيث شاء ، وردها حيث شاء . فأطلق القبض على الأرواح . والصواب : أن النفس والروح في هذا واحد؛ بدليل قوله : { اللهُ يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت } والحاصل : أن الموت : توفِّ كامل ، بإخراج الروح مع شعاعها من البدن ، فتذهب الحياة ، والنوم : توفٍّ ناقص ، بإخراج الروح مع بقاء شعاعها في البدن ، به الحياة والتنفُّس .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أيضاً أنه قال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام ، ويتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد الله رجوعها إلى الأجسام ، يُمسك الله عنده أرواح الأموات ، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها ، فذلك قوله عزّ وجل : { الله يتوفى الأنفس } . . . الآية .
وعبارة " عز الدين بن عبد السلام " : في كل جسد روحان؛ إحداهما : روح اليقظة ، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان متيقظاً ، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ، ورأت تلك الروح المنامات ، والأخرى : روح الحياة ، التي أجرى الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حيّاً؛ فإذا فارقته مات ، فإذا رجعت إليه حَيِيَ ، وهاتان الروحان في بطن الإنسان ، لا يعلم مقرَّهما إلا مَن أطلعه الله عليهما ، فهما كجنينين في بطن امرأة . ه .
والآية منبهة على كمال قدرته ، وفيها دلالة على البعث ، وأنه كاليقظة سواء ، وهذا معنى قوله : { إِن في ذلك لآياتٍ يتفكرون } في عجائب قدرته ، فيعلمون أن مَن قدر على إمساك الأرواح في النوم ، وردها ، قادر على إماتتها وإحيائها . وفي التوراة : كما تنام تموت ، وكما تستيقظ تُبعث .
الإشارة : الله يتوفى الأنفس المطهرة إلى حضرة قدسه ، حين موتها من الهوى ، ويقبض الأنفس التي لم تمت من حظوظها في سجن الأكوان ، وهيكل ذاتها ، في حال منام غفلتها ، فيمسك التي قضى عليها الموت في حضرة قدسه ، فلا يردها إلى شهود حضرة الأشباح ويرسل الأخرى تجول في حضرة الأشباح وأودية الدنيا ، إلى أجل مسمًّى ، إما موتها الحسي أو المعنوي ، إن سبقت لها سابقة عناية .
(5/324)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
يقول الحق جلّ جلاله : { أَمِ اتخذوا } أي : قريش { من دون الله شفعاء } ، فيزعمون أن أصنامهم تشفع لهم عند الله ، أي : إنهم اتخذوا على زعمهم من دون الله شفعاء بحكمهم ، لا بتعريف من قِبل الله وإخبار ، فإن الله لا يقبل الشفاعة من أحد إلا بإذن منه ، وإن الذين يقولون ذلك افتراء على الله . { قُل أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون } ، الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه ، والتوبيخ عليه ، أي : قل : أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلون شيئاً ، فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى .
{ قُل } تبكيتاً وتجهيلاً لهم : { للهِ الشفاعةُ جميعاً } أي : هو مالكها ، ولا يقدر أحد أن يتصدّى لها ، إلا أن يكون المشفوع له مرتضىً ، والشفيع مأذوناً ، وكلاهما مفقود في أصنامهم ، ثم قرر اختصاصه بالشفاعة بقوله : { له ملكُ السماوات والأرض } أي : له التصرف فيهما ، وفيما فيهما من المخلوقات ، لا يملك أحد أن يتكلم في أمر من أموره بدون إذنه ورضاه ، { ثم إليه تُرجعون } يوم القيامة ، لا إلى أحد سواه ، فيفعل يومئذ ما يريد .
قال النسفي : { له ملك السماوات والأرض } اليوم { ثم إليه تُرجعون } يوم القيامة ، فلا يكون المُلك في ذلك اليوم إِلاّ له ، فله المُلك في الدنيا والآخرة . ه .
الإشارة : الشفاعة إنما تكون لأهل الجاه عند الله ، والجاه يعظم بحسب التوجه ، والتوجه يعظم على قدر المحبة ، والمحبة على حسب العناية السابقة ، { يُحبهم ويُحبونه } فبقدر أنوار التوجه تعظم أنوار المواجهة ، وبقدر أنوار المواجهة تتسع المعرفة ، وبحسب المعرفة يكون الجاه ، وبقدر الجاه تتسع الشفاعة ، حتى إن الواحد من الأولياء يشفع في وجود بأسره من أهل زمانه ، إما عند موته ، أو عند الحساب . والله تعالى أعلم .
(5/325)

وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
قلت : " وحده " : منصوب عند سيبويه ، على المصدر ، وعند الفراء : على الحال ، والظاهر : أنه أطلق المصدر على اسمه .
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ } أي : إذا أُفرد الله بالذكر ، ولم تُذكر معه آلهتهم ، فمدار المعنى على قوله : { وحده } ، { اشْمَأَزَّتْ قلوبُ الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي : انقبضت ونفرت ، كقوله : { . . . وإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [ الإسراء : 46 ] ، { وإِذا ذُكر الذين مِن دونه } يعني : آلهتهم ، ذُكر اللهُ معهم ، أو لم يُذكر ، { إِذا هم يستبشرون } ؛ لفرط افتتانهم بها ، ونسيانهم ذكر الله ، أو : وإذا قيل لهم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، نفروا؛ لأن فيه نفياً لآلهتهم .
وقال الورتجبي : صورة الآية وقعت على الجاحدين والمتكبرين ، الذين ليس في محبتهم إلا متابعة الأشكال والأمثال ، من حيث التشبيه والخيال؛ لأن قلوبهم خلقت على مشاكلة الأضداد والأنداد ، ولم يكن في قلوبهم سجية أهل المعرفة بالله ، فإذا سَمِعُوا ذِكْر مَن لا يدخل في الخيال والمثال انقبضت قلوبهم وصدورهم ، ونفرت ، وإذا سمعوا ذكر غير الله من الصور والأشباح ، سكنت نفوسهم إليها من غاية غباوتهم ، وكمال جهالتهم ، فهم مثل الصبيان ، إذ هم يفرحون بالأفراس الطينية والأُسد الخشبية ، ولا يطيقون أن ينظروا إلى عَدْوِ العاديات ، وإلى الضراغم الباديات . . . ه . مختصراً .
ولقد بالغ في بيان حالتيهم المتقابلتين؛ حيث ذكر الغاية فيهما ، فإن الاستبشار : هو أن يمتلىء القلب سروراً ، حتى تنبسط له بشرة الوجه وتتهلل ، والاشمئزاز : أن يمتلىء القلب غيظاً وغمّاً ، حتى ينقبض منه أديم الوجه ، فتظهر عليه الكآبة والحزن . والعامل في { إِذا } الأولى : " اشمأزت " ، وفي الثانية : ما هو العامل في " إذا " الفجائية ، والتقدير : وقت ذكر الذين من دونه فاجأوا وقت الاستبشار .
ثم أمر نبيه بالالتجاء إليه حين إدبارهم ، فقال : { قُلِ اللهمَّ فاطِرَ السماواتِ والأرضِ } أي : يا فاطر ، وليس بوصف ، خلافاً للفراء والمبرّد ، أي : اللهم يا مظهر السماوات والأرض ، { عالِمَ الغيبِ والشهادةِ } أي : ما غاب من أسرار ذاتك وما ظهر ، أو : السر والعلانية ، أي : التجىء إليه تعالى إذا اغتممت من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد؛ فإنه القادر على الأشياء بجملتها ، والعالم بالأحوال برمتها . { أنت تَحْكُمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } أي : حُكماً يُسلمه كل مكابر ومعاند ، ويخضع له كلَّ عاتٍ ومارد ، فاحكم بيني وبين معاندي ، بالنصر عليهم في الدنيا والآخرة .
وعن ابن المسيّب : " ما أعرفُ آية قرئت فدعى عندها إلا أجيب سوى هذه " . يعني أنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحكم بينه وبين عدوه بالاستئصال ، فأمهل؛ لأنه رحمة . وعن الربيع بن خثيم وكان قليل الكلام : أنه أُخبر بقتل الحسين رضي الله عنه ، وقالوا : الآن يتكلم ، فما زاد على أن قال : أَوَقد فعلوا؟ وقرأ : { اللهم فاطر السماوات والأرض } .
(5/326)

. . الآية ، ثم قال على إثرها : قُتِل مَن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجلسه في حجره ، ويُقبِّل فاه . ه .
الإشارة : ينبغي للمؤمن أن يكون متعاكساً مع المشرك ، إذا سمع كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " فرح وانبسط ، وإذا ذكر اللغو واللعب اشمأز وانقبض ، والعابد أو الزاهد إذا سَمِعَ ما يدل على الطاعة والاستعداد للآخرة فرح ونشط ، وإذا سمع ما يدلّ على الدنيا والبطالة اشمأز وانقبض ، والمريد السائر ، إذا سمع ما يقرب إلى الله فرح وانبسط ، وإذا سمع ما يُبعد عند من ذكره السِّوى اشمأز وانقبض ، وأما الواصل الكامل فلا ينقبض من شيء؛ لزيادته إلى الله بكل شيء؛ لأنه عرف الله في كل شيء ، وسمع منه في كل شيء ، فلا يحجبه عن الله شيء ، قد فنيت دائرة حسه ، واتسعت دائرة معرفته ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا يأخذ النصيبَ منه شيء .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : في بعض كتب الله المنزلة على أنبيائه ، يقول الله تعالى : مَن أطاعني في كل شيء ، بهجرانه لكل شيء ، أطعته في كل شيء ، بأن أتجلى له دون كل شيء ، حتى يراني أقرب إليه من كل شيء . هذه طريق أُولى ، وهي طريق السالكين . وطريق أخرى كبرى : مَن أطاعني في كل شيء ، بإقباله علي كل شيء ، لحسن إرادة مولاه في كل شيء ، أطعته في كل شيء ، بأن أتجلّى له في كل شيء ، حتى يراني كأني كل شيء . ه .
(5/327)

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولو أنّ للذين ظلموا } بالشرك ، { ما في الأرض جميعاً } : من الأموال والذخائر ، { ومِثْلَهُ معه } زائد عليه ، { لافْتَدوا به من سوءِ العذاب } أي : شدته ، { يومَ القيامةِ } أي : لو أن لهم جميع ما في الدنيا لجعلوا ذلك فدية لأنفسهم من العذاب الشديد ، وهيهات هيهات ، ولات حين مناص . وهذا كما ترى وعيد شديد لأهل الشرك ، وإقناط كلي لهم . { وَبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } أي : ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في ظنهم وحسبانهم ، ولم يُحدِّثوا به نفوسهم . وهذا غاية من الوعيد ، لا غاية وراءها ، ونظيره في الوعد : قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] .
{ وبدا لهم سيئاتُ ما كسبوا } أي : ظهر لهم سيئات أعمالهم التي كسبوها ، أو سيئات كسبهم حين تُعرض عليهم صحائفُهم ، وكانت خافية عليهم ، أو : عقاب ذلك . { وحاقَ بهم } أي : نزل بهم وأحاط ، { ما كانوا به يستهزئون } أي : جزاء هزئهم بالإسلام ، ومَن جاء به ، ومَن تبعه .
الإشارة : الآية تجرّ ذيلها على كل ظالم لم يتب ، فيتمنى الفداء بجميع ما في الأرض ، فلا يُمكّن منه . وقوله تعالى : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } ، هذه الآية عامة ، لا يُفلت منها إلا الفرد النادر ، الذي وصل إلى غاية المعرفة العيانية ، ومَن لم يصل إلى هذا المقام فهو مقصِّر ، يظن أنه في عليين ، وهو في أسفل سافلين ، ولذلك عظم خوف السلف منها ، فقد جزع محمد بن المنكدر عند الموت ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخشى آيةً من كتاب الله : { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } فأنا أخشى أن يبدو لِي من الله ما لم أحتسب . وعن سفيان أنه قرأها ، فقال : ويلٌ لأهل الرياء ، ويلٌ لأهل الرياء . ه .
وفي الإحياء : مَن اعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق ، وخلاف ما هو عليه؛ إما برأيه أو معقوله ونظره ، الذي به يجادل ، وعليه يعول ، وبه يغتر ، وإما بالتقليد ، فمَن هذا حاله ربما ينكشف له حال الموت بطلان ما اعتقده جهلاً ، فيتطرّق له أن كل ما اعتقده لا أصل له ، فيكون ذلك سبباً في شكه عند خروج روحه ، فيختم له بسوء الخاتمة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { وبَدَا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } وبقوله : { هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . . . الآية . انظر عبارته في كتاب الخوف ، وقريباً منه في القوت ، عصمنا الله من سوء القضاء ، وختم لنا بالسعادة التامة بمنِّه وكرمه .
(5/328)

فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
يقول الحق جلّ جلاله : { فإِذا مَسَّ الإِنسانَ } أي : جنسه { ضُرٌّ } : فقر أو غيره { دعانا } معرضاً عما سوانا . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من ذكر حالتي أهل الشرك القبيحتين ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإنكار عليهم ، أي : إنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده ، ويستبشرون بذكر الآلهة ، فإذا مسّهم الضر دعوا مَن اشمأزوا عن ذكره ، دون مَن استبشروا بذكره ، فناقضوا فعلهم .
فإن قلت : حق الاعتراض أن يؤكّد المعترَض بينه وبينه؟ قلت : ما في الاعتراض من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه ، بأمر من الله ، وقوله : { أنت تحكم بين عبادك } ، ثم ما عقّبه من الوعد العظيم ، تأكيد لإنكار اشمئزازهم ، واستبشارهم ، ورجوعهم إلى الله في الشدائد ، دون آلهتهم ، كأنه قيل : قل : يا ربّ لا يحكم بيني وبين هؤلاء ، الذين يجترئون عليك مثل هذه الجراءة ، إلا أنت ، ثم هددهم بقوله : ولو أن لهؤلاء الظلمة ما في الأرض جميعاً لافتدوا به . انظر النسفي .
{ ثم إِذا خوَّلناه نعمةً منا } : أعطيناه إياها ، تفضُّلاً؛ فإن التخويل مختص به ، لا يطلق على ما أعطى جزاء ، فإذا أعطيناه ذلك { قال إِنما أُوتيته } أي : ذلك التخويل أو الإنعام { على عِلْم } مني بوجوه كسبه ، كما قال قارون : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِى } [ القصص : 78 ] أو : على علم مني بأني سأُعطاه ، لِما فيّ من فضل واستحقاق ، أو : على علم من الله تعالى باستحقاقي لذلك المال ، فتذكير الضمير إما لعوده على التخويل المأخوذ من { خولناه } ، أو : بتأويل النعمة بمعنى الإنعام ، أو : المراد بشيء من النعمة ، أو : يعود على " ما " إذا قلنا : موصولة ، لا كافة ، أي : إن الذي أوتيته على علم مني .
قال تعالى : { بل هي فتنةٌ } أي : ليس ما خوَّلناه نعمة؛ بل هي محنة وابتلاء له؛ ليظهر كفره أو شكره . ولما كان الخبر مؤنثاً ساغ تأنيث المبتدأ لأجله ، وقرىء : " بل هم فتنة " . { ولكنَّ أكْثَرَهُم لا يعلمون } أنَّ الأمر كذلك ، وأنَّ التخويل إنما كان فتنة ، وفيه دلالة على أن المراد بالإنسان الجنس .
{ قد قالها الذين مِن قبلهم } أي : قد قال هذه المقالة ، وهي : { إنما أوتيته على علم } من قبلهم ، كقارون وقومه ، قال قارون : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } [ القصص : 78 ] وقومه راضون بمقالته ، فكأنهم قالوها معه . ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها . { فما أَغنى عنهم ما كانوا يكسبون } من متاع الدنيا ، وما جمعوا منها شيئاً حتى ينزل بهم العذاب ، { فأصابهم سيئاتُ ما كَسَبُوا } أي : جزاء سيئات ما كسبوا ، وهو العذاب في الدنيا والآخرة ، أو : سمّي جزاء السيئة سيئة؛ للازدواج ، كقوله : { وَجَزآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] أي : فأصابهم وبال ما كسبوا ، { والذين ظلموا من هؤلاء } : المشركين ، يعني قريشاً ، { سيُصِيبهُم سيئاتُ ما كسبوا } من الكفر والمعاصي ، كما أصاب أولئك .
(5/329)

والسين للتأكيد . وقد أصابهم ذلك ، حيث قحطوا سبع سنين ، وقتل صناديدهم يوم بدر . { وما هم بمُعْجزين } : بفائتين من عذاب الله .
الإشارة : هذه الخصال الذميمة تُوجد في كثير من هذه الأمة ، إذا أصابت العبد شدة أو قهرية رجع إلى الله ، فإذا فرّج عنه بسب عادي كما هو دأب عالم الحكمة ، أسند الفرج إلى ذلك السبب ، فيقول : فلان فرّج عني ، أو الدواء الفلاني شفاني ، وهو شرك ، كاد أن يكون جليّاً . والواجب : النظر إلى فعل الله وقدرته ، وإسقاط الوسائط من نظره ، ولو وجدت حكمةً ، فالكمال فعلها وجوداً ، والغيبة عنها شهوداً . وبالله التوفيق .
(5/330)

أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
يقول الحق جلّ جلاله : { أَوَلَمْ يعلموا } أي : أقالوا ذلك ولم يعلموا ، أو أَغفلوا ولم يعلموا { أَنَّ الله يبسُطُ الرِّزقَ } أي : يوسعه { لمَن يشاءُ ويقدرُ } أي : يضيق لمَن يشاء بلا سبب ولا علة ، أو : يجعله على قدر القوت من غير زيادة ولا نقصان ، وهو من إتمام النعمة . وفي الحِكَم : " من تمام النعمة عليك أن يعطيك ما يكفيك ، ويمنعك ما يطغيك " { إِن في ذلك } : البسط والقبض { لآياتٍ } دالة على أن الحوادث كلها من الله بلا واسطة ، { لقوم يؤمنون } ، إذ هم المستدلُّون بها على أن القابض والباسط هو الله ، دون غيره .
الإشارة : قد يبسط الله الرزق لمَن لا خلاق له عنده ، ويقبضه عن أحب الخلق إليه ، وهو الغالب ، فرزق المتقين كفاف ، ورزق المترفين جزاف .
(5/331)

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد { يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم } أي : أفرطوا في الجناية عليها ، بالإسراف في المعاصي ، والغلو فيها ، { لا تقنطوا من رحمة الله } : لا تيأسوا من مغفرته أولاً ، وتفضُّله بالرحمة ثانياً ، { إِن الله يغفرُ الذنوبَ جميعاً } ، بالعفو عنها ، إلا الشرك . وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : " يغفر الذنوب جميعاً ولا يُبالي " لكنها لم تتواتر عنه .
والمغفرة تصدق بعد التعذيب وقبله ، وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر ، كيف ، وقوله تعالى : { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ظاهر في الإطلاق مما عدا الشرك؟ وَلِمَا يدل عليه التعليل بقوله : { إِنه هو الغفور الرحيم } على المبالغة ، وإفادة الحصر ، والوعد بالرحمة بعد المغفرة . وما في { عبادي } من الدلالة على الذلة والاختصاص ، المقتضييْن للترحُّم . { إِنه هو الغفورُ } ؛ يستر عظام الذنوب { الرحيمُ } يكشف فظائع الكروب . والآية ، وإن نزلت في " وحشي " ، قاتل " حمزة " ، أو في غيره ، لا تقتضي التخصيص بهم ، فإن أسباب النزول لا تخصص . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية " .
ولما نزلت في شأن وحشي ، وأسلم ، قال المسلمون : هذه له خاصة ، أو للمسلمين عامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بل هي للمسلمين عامة " وقال قتادة إن ناساً أصابوا ذنوباً عظاماً ، فلما جاء الإسلام أشفقوا ألا يتاب عليهم ، فدعاهم الله تعالى بهذه الآية . وقال ابن عمر : نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر كانوا قد أسلموا ثم فُتنوا ، فكنا نقول : لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً ، فنزلت الآية ، وكان عمر بن الخطاب كاتباً ، فكتبها بيده ، ثم بعث بها إلى عياش بن أبي ربيعة والوليد ، وإلى أولئك النفر ، فأسلموا ، وهاجروا .
قال علي رضي الله عنه : " ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية " . فما يُقنط الناس ويشدد عليهم بعد هذه الآية إلا جهول ، أو جامد ، قال زيد بن أسلم : إنَّ رجلاً كان في الأمم الماضية مجتهداً في العبادة ، فيشدد على نفسه ، ويقنط الناس من رحمة الله ، فمات ، فقال : أيّ ربّ؛ ما لي عندك؟ فقال : النار . فقال : يا رب؛ أين عبادتي؟ فقال : إنك كنت تُقنط الناس من رحمتي في الدنيا ، فاليوم أقنطك من رحمتي . وعن عليّ كرّم الله وجهه قال : الفقيه كل الفقيه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم من عذاب الله ، ولا يرخص لهم في معاصي الله . ه .
ثم حضَّ على التوبة لتتحقق المغفرة ، فقال : { وأَنِيبوا إِلى ربكم } أي : ارجعوا إليه بالتوبة والإخلاص .
(5/332)

فالإنابة أخص من التوبة؛ لأن التوبة : مطلق الندم على الزلة ، والإنابة : تحقيق التوبة والنهوض إلى الله بإخلاص التوجه . قال صلى الله عليه وسلم : " من السعادة أن يطول عمر الرجل ويرزقه الله الإنابة " قال القشيري : وقيل الفرق بين الإنابة والتوبة : أن التائب يرجع خوفاً من العقوبة ، والمنيب يرجع حياءً منه تعالى . ه .
والأمر بالتوبة لا يدل على تقييد المغفرة في الآية بها ، كما تقدّم؛ إذ ليس المدعَى : أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبْق تعذيب ، حتى يغني عن الأمر بها ، وإنما المراد : الإخبار بسعة غفرانه ، سواء كان مع التوبة أم لا . قال ابن عرفة : واعلم أن التوبة من الكفر مقطوع بها ، ومن المعاصي ، قيل : مظنونة ، وقيل : مقطوع بها ، هذا في الجملة ، وأما في التعيين ، كتوبة زيد بن عَمْرو ، فلا خلاف أنها مظنونة . ه . قلت : قد اقترن بتوبة زيد من الأخبار ما يقطع بصحتها .
ثم قال : وأما العاصي إذا لم يتب فهو في المشيئة ، مع تغليب جانب الخوف والعقوبة ، واعتقاد أن العذاب أرجح ، وأما العصيان بالقتل ، ففيه خلاف بين أهل السُّنة ، فقيل : يخلد في النار ، وقيل : في المشيئة . ه . وقال أبو الحجاج الضرير رحمه الله :
وتوبةُ الكافرِ تمحُو اِثْمَه ... لا خلافَ فيه بين الأُمَّهْ
وتوبةُ العاصي على الإِرجاءِ ... وقيلَ كالأول بالسواءِ
إذ لا يكونُ دونه في الحالِ ... وَهُوَ عندي أحسنُ الأقوالِ
دليلُه : تتابعُ الظواهِرْ ... شاملةٌ مسلمٌ وكافرْ
{ وأَسْلِمُوا له } أي : اخضعوا له ، وانقادوا لأمره . قال القشيري : أي : أَخلصوا في طاعتكم ، والإسلامُ الذي هو الإخلاص بعد الإنابة : هو أن يعلم نجاته بفضلِه ، لا بإنابته؛ فبفضله يصل إلى إثابته ، لا بإنابته يصل إلى فضله . ه . { من قبل أن يأتيكم العذابُ } في الدنيا ، أو في الآخرة ، إن لم تتوبوا قبل نزول العقاب . قال القشيري : العذاب هنا ، قيل : الفراق ، وقيل : هو أن يفوتَه وقت الرجوعِ بسوء الإياس . ه . { ثم لا تُنصرون } : لا تُمنعون منه أبداً .
الإشارة : لا يعظم عندك الذنب عظمة تصدك عن حسن الظن بالله ، فإن مَن استحضر عظمة ربه صغر في عينه كل شيء . وتذكر قضية الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم سأل راهباً : هل له توبة؟ فقال : لا ، فكمل به المائة ، ثم سأل عارفاً ، فقال له : ومَن يحول بينك وبينها؟ لكن اخرج من القرية التي كنت تعصي فيها ، واذهب إلى قوم يعبدون الله في مكان ، فذهب ، فأدركه الموت في الطريق ، فلما أحسّ بالموت انحاز بصدره إلى القرية التي قصدها ، ثم مات ، فاختصمت فيه ملائكة العذاب وملائكة الرحمة فقال لهم الحق تعالى : قيسوا من القرية التي خرج منها ، إلى القرية التي قصدها ، فإلى أيهما هو أقرب هو منها؟ فوجدوه أقرب إلى القرية التي قصدها بشبر ، فأخذته ملائكة الرحمة .
(5/333)

إلى غير ذلك من الحكايات التي لا تحصى في هذا المعنى .
وتأمل قضية الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي ، فقال : " ما يبكيك؟ " قال : ذنوبي . فقال له عليه السلام : " إن الله يغفر ذنوبك ، ولو كانت مثل السماوات السبع ، والأرضين السبع ، والجبال الرواسي " ، فقال : يا رسول الله ، ذنب من ذنوبي أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع ، فقال له : " ذنوبك أعظم أو العرش؟ " قال : ذنوبي ، فقال له : " ذنوبك أعظم أو الكرسي؟ " قال : ذنوبي ، فقال : " ذنوبك أعظم أو إلهك؟ " فقال : الله أعظم ، فقال : " فأخبرني عن ذنبك " قال : إني أستحيي ، فقال : " فأخبرني " ، فقال : إني كنت نبّاشاً أنبش القبور منذ سبع سنين ، حتى ماتت جارية من بنات الأنصار ، فنبشتها ، وأخرجتها من كفنها ، فمضيت ، ثم غلبني الشيطان ، فرجعت ، فجامعتها ، فقامت الجارية ، وقالت : الويل لك يا شاب من دَيّان يوم الدين ، يوم يضع كرسيه للقضاء ، يأخذ من الظالم للمظلوم ، تركتني عريانة في عساكر الموتى ، وأوقفتني جُنباً بين يدي الله ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب في قفاه ، وهو يقول : " يا فاسق ، اخرج ، ما أقربك من النار " ، فخرج الشاب تائباً إلى الله تعالى ، حتى أتى عليه ما شاء الله ، ثم قال : يا إله محمد وآدم وحواء ، إن كنت غفرت لي فأَعْلِم محمداً وأصحابه ، وإلا فأرسل عليَّ ناراً من السماء فأحرقني بها ، ونجِّني من عذاب الآخرة ، فجاء جبريل : فقال : السلام يقرئك السلام ، فقال : " هو السلام وإليه يعود السلام " ، قال : يقول أأنت خلقت خلقي؟ قال : " بل هو الذي خلقهم " قال : يقول : ترزقهم؟ قال : " بل هو الذي يرزقهم " ، قال : يقول : أأنت تتوب عليهم؟ قال : " بل هو الذي يتوب عليهم " قال : فتب على عبدي ، فإني تبتُ عليه ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الشاب ، وتاب عليه ، وقال : " إن الله هو التوّاب الرحيم " ه . ذكره السمرقندي والثعلبي .
(5/334)

وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
يقول الحق جلّ جلاله : { واتَّبِعُوا أحسنَ ما أُنزل إليكم من ربكم } أي : القرآن ، فإنه أحسن الحديث ، ولا أحسن منه لفظاً ومعنى ، أو : المأمور به دون المنهي ، أو : العزائم دون الرُخص ، كقوله : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزمر : 18 ] ، أو : الناسخ دون المنسوخ ، ولعله ما هو أعم ، فيصدق بكل ما يقرب إلى الله ، كالإنابة ، والطاعة ، ونحوهما ، { من قبل أن يأتيكم العذابُ بغتةً } : فجأة ، { وأنتم لا تشعرون } بمجيئه؛ لتداركوا وتتأهبوا .
أمرتكم بذلك كراهة { أن تقول نفس } ، والتنكير للتكثير ، كما في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] ، أو : يراد به بعض الأنفس ، وهي نفس الكافر ، أو : يُراد نفس متميزة إما بلجاج في الكفر شديد أو بعقاب عظيم : { يا حسرتا } ، بألف بدل من ياء الإضافة؛ لأن العرب تقلب ياء المتكلم ألفاً في الاستغاثة ، فيقولون : يا ويلتا ، يا ندامتا ، فيخرجون ذلك على لفظ الدعاء ، وربما ألحَقوا بها الهاء ، فيقال : يا رباهُ ، يا مولاهُ ، وربما ألحقوا ياء المتكلم ، جمعاً بين العوض والمعوض ، وبذلك قرأ أبو جعفر : " يا حسرتاي " أي : يا ندامتاه ويا حزناه . { على ما فَرَّطتُ } : قصَّرت . و " ما " : مصدرية ، أي : على تقصيري وتفريطي { في جَنبِ اللهِ } أي : جانبه وحقه وطاعته ، أو : في ذاته ، أي : معرفة ذاته ، أو في قربه ، من قوله : { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } [ النساء : 36 ] ، أو : في سبيل الله ودينه ، والعرب تسمي السبب الموصل إلى الشيء جنباً ، تقول : تجرّعت في جنبك غُصَصاً ، أي : لأجلك ، أو : في الجانب الذي يؤدي إلى رضوانه ، وهو توحيده والإقرار بنبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقرىء " في ذكر الله " . { وإِن كُنتُ لمن الساخرين } أي : المستهزئين بدين الله . قال قتادة : لم يكفهِ أن ضيّع طاعة الله حتى سخر بأهلها . و " إن " : مخففة ، والجملة : حالية ، أي : فرطت وأنا ساخر .
{ أَوْ تقولَ لو أنَّ الله هداني } : أعطاني الهداية ، { لكنتُ من المتقين } : من الذين يتقون الشرك . قال الإمام أبو منصور : هذا الكافر أعرفُ بهداية الله من المعتزلة . وكذلك أولئك الكفرة ، الذين قالوا لأتباعهم : { لَّوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ } [ إبراهيم : 21 ] يقولون : لو وفقنا الله للهداية ، وأعطانا الهدى لدعوناكم إليه ، ولكن عَلِمَ منا اختيار الضلالة والغواية فخذلنا ولم يوفقنا . والمعتزلة يقولون : بل هداهم وأعطاهم التوفيق؛ لكنهم لم يهتدوا . انظر النسفي .
{ أو تقولَ حين ترى العذابَ لو أن لي كرةً } أي : رجعة للدنيا ، { فأكونَ من المحسنين } : الموحِّدين الطائعين . و " أو " للدلالة على أنها لا تخلو من هذه الأقوال ، تحيُّراً وتحسُّراً ، وتعليلاً بما لا طائل تحته .
فردَّ الله عليهم بقوله : { بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبتَ بها واستكبرتَ وكنتَ من الكافرين } أي : قد جاءتك آياتي ، وبيّنت لك الهدايةَ من الغواية ، وسبيلَ الحق من الباطل ، فتركت ذلك ، وضيعت ، واستكبرت عن قبوله ، وآثرت الضلالة على الهدى ، واشتغلت بضد ما أمرت به ، وإنما جاء التضييع من قِبلك ، فلا عذر لك .
(5/335)

و " بلى " : جواب لنفي مقدر ، وهو نتيجة القياس الاستثنائي ، أي : لو أن الله هداني لاهتديتُ وكنت متقياً ، لكنه لم يهدني ، وإنما أخّره؛ لأنه لا بد من حكاية أقوال النفس عى ترتيبها ، ثم يذكر الجواب في الجملة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : واتبعوا أحسن ما أُنزل إليكم ، أي : خذوا في الجد والاجتهاد في اتباع الأحسن والأرجح ، في الأفعال ، والأقوال ، والعقائد ، من قبل أن ينزل بكم العذاب . ولا عذاب أشد من الحجاب ، والتخلُّف عن مقامات الأحباب ، في وقت لا ينفع التأسُّف ولا التحسُّر . قال القشيري : هذا في أقوامٍ يَرَوْن أمثالَهم وأشكالهم ، تقدّموا عليهم في أحوالهم ، فشكوا ما سَلَفَ من تقصيرهم ، ويَرَوْن ما وُفِّقَ أولئك إليه من أعالي الرتب ، فيعضُّون بنواجذ الحسرة على أنامل الخيبة . ه . وفي ذلك قيل وأنشد :
السِّباق السِّبَاقَ قَوْلاً وفِعلاً ... حَذِرِ النفسَ حَسْرَةَ المسْبُوقِ
وهو معنى قوله : { أن تقول نفس } كانت مُقصِّرة في الدنيا : { يا حسرتا على ما فرطتُ في جنب الله } أي : في السير إلى معرفة ذاته ، { وإِن كنت لمن الساخرين } ممن يتعاطى ذلك ، ويخرب ظاهره لتعمير باطنه ، فكنت أسخر منه وأضحك عليه ، أو تحتج بالقدر ، فتقول : لو أن الله هداني لسلوك طريقه لكنت من المتقين الكاملين في التقوى . ولا ينفع الاحتجاج بالقدر في دار التكليف مع بيان الطريق . أو تقول حين ترى العذاب ، وهو فراق الأحباب والتخلُّف عنهم : لو أن لي كرة إلى الدنيا ، فأجهد نفسي حتى أكون من أهل الإحسان ، الذين يعبدون الله على العيان ، بلى قد جاءتك آياتي ، وهم الدعاة إليَّ في كل زمان { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } ، فكذَّبتَ بها ، واستكبرتَ عن الخضوع لهم ، وكنت من الجاحدين لطريق التربية .
(5/336)

وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
يقول الحق جلّ جلاله : { ويومَ القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله } ، بأن وصفوه بما لا يليق بشأنه ، كاتخاذ الولد والشريك ونفي الصفات عنه ، { وجُوهُهُم مسودةٌ } بما ينالهم من الشدة والكآبة . والجملة : حال ، على أن الرؤية بصرية ، أو : مفعول ثان لها ، إن كانت علمية . { أليس في جهنم مَثْوىً } أي : مقام { للمتكبرين } عن الإيمان والطاعة ، وهو إشارة إلى قوله : { واستكبرت } ، ولا ينافي إشعاره بأن تكبرهم علة لاستحقاقهم النار أن يكون دخولهم فيها؛ لأجل أن كلمة العذاب حقَّتْ عليهم؛ لأن كبرهم مسبب عنها .
{ ويُنجِّي اللهُ الذين اتَّقَوا } الشرك والمعاصي ، أي : من جهنم . { بمفازتهم } : بفوزهم ، مصدر ميمي ، يقال : فاز بالمطلوب : ظفر به ، والباء متعلقة بمحذوف ، حال من الموصول ، مفيدة لمقارنة نجاتهم من العذاب بنيل الثواب ، أي : ينجيهم الله من مثوى المتكبرين ملتبسين بفوزهم بمطلوبهم أو : بسبب فوزهم بالإيمان والأعمال الحسنة في الدنيا ، ولذا قرأ ابن عباس رضي الله عنه : " بمفازتهم بالأعمال الحسنة " . قال القشيري : كما وَقَاهم اليومَ من المخالفات ، وحماهم ، فكذلك غداً عن العقوبة وقاهم ، فالمتقون فازوا بسعادة الدارين ، اليومَ عصمة ، وغداً نعمة ، واليومَ عناية ، وغداً كفاية . ه .
{ لا يمسُّهُم السوءُ ولا هم يحزنون } : إما حال أخرى من الموصول ، أو : من مفازتهم وقيل : تفسير للمفازة ، كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : لا يمسهم السوء ، أي : ينجيهم بنفي السوء والحُزن عنهم ، فلا يمس أبدانَهم سوء ، ولا قلوبَهم حزن .
الإشارة : ويوم القيامة ترى الذين كَذَبوا على الله ، بالدعاوى الباطلة ، من القلوب الخاوية ، فكل مَن ادعى حالاً ليست فيه ، أو : مرتبة لم يتحققها ، فالآية تجر ذيلها عليه ، واسوداد وجوههم بافتضاحهم .
قال القشيري : هؤلاء الذين ادَّعوا أحوالاً ، ولم يَصْدُقُوا فيها ، وأظهروا المحبةَ لله ، ولم يتحققوا بها ، وكفى بهم ذلك افتضاحاً ، وأنشدوا :
ولما ادَّعَيْتُ الحُبَّ قالت : كَذَبْتَني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا؟
فما الحُبُّ حتى تنزفَ العينُ بالبكا ... وتخرسَ حتى لا تجيب المناديا
وينجي الله الذين اتقوا شهود السِّوى من كل مكروه ، بسبب مفازتهم بمعرفة الله في الدنيا ، لا يمسهم السوء ، أي : غم الحجاب ، لرفعه عنهم على الدوام ، ولا هم يحزنون على فوات شيء؛ إذ لم يفتهم شيء؛ حيث فازوا بالله ، " ماذا فَقَد من وجدك "؟
قال الورتجبي : بمفازتهم : ما كان لهم في الله في أزل أزله ، من محبتهم ، وقبولهم بمعرفته ، وحسن وصاله ، ودوام شهود كماله . لا يمسهم السوء : لا يلحقهم ، فلا يلحق بهم في منازل الامتحان ، تفرقة عن مقام الوصلة ، وحجاب عن جمال المشاهدة ، انظر تمامه . وحاصله : فازوا بإدراك السعادة الأزلية . وعن جعفر الصادق : بمفازتهم : بسعادتهم القديمة ، يعني لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى } [ الأنبياء : 101 ] . . . . الآية . قاله المحشي الفاسي .
(5/337)

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
يقول الحق جلّ جلاله : { اللهُ خالقُ كُلّ شيءٍ } : جامد أو حي ، خير أو شر ، إيمان أو كفر ، لا بالجبر ، بل بمباشرة الكاسب في عالَم الحكمة ، وفيه إثبات القدرة والعلم ، وهما مصححان للبعث والجزاء بالخير والشر ، لمحسن أو مسيء . قال القشيري : ويدخل تحت قوله : { كل شيء } كسبُ العباد ، ولا يدخل كلامُه؛ لأن المخاطِبَ لا يدخل تحت خطابه ولا صفاته . ه . والمراد بالكلام : المعاني القديمة ، وأما الألفاظ والحروف فهي مخلوقة ، كما هو مقرر في محله . { وهو على كل شيءٍ وكيل } أي : حافظ يتولى التصرُّف فيه كيف يشاء .
{ له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ } أي : مفاتح خزائنها ، واحدها " مِقْليد " ، أو : إقليد ، أو : لا واحد لها ، وأصلها فارسية ، والمراد : أنه مالكها وحافظها ، وهو من باب الكناية؛ لأن حافظ الخزائن ومدبّر أمرها هو الذي يملك مقاليدها ، ومنه قولهم : فلان ألقيتْ إليه مقاليد الملك ، أي : مفاتح التصرف قد سُلّمت إليه ، وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد؛ لأن الخزائن لا يدخلها ولا يتصرف فيها إلا مَن بيده مفاتحها .
وعن عثمان : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاليد ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هي لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، هو الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، بيده الخير ، يُحيي ويُميت وهو على كل شيء قدير " ومعناه : أن لله هذه الكلمات ، يُوحّد بها ويُمجّد ، وهي مفاتحُ خير السماوات والأرض ، ومَن تكلّم بها أدرك ذلك في الدنيا أو في الآخرة ، ومرجعها إلى التحقق بالعبودية في الظاهر ، ومعرفة الذات في الباطن ، وهما السبب في كل خير ، وبهما يدرك العبد التصرُّف في الوجود بأسره ، فتأمله .
{ والذين كفروا بآيات الله } أي : كفروا به بعد كونه خالق كل شيء ، ومتصرفاً في ملكه كيف يشاء ، بيده مقاليد العالم العلوي والسفلي ، فكفروا بعد هذا بآياته التكوينية ، المنصوبة في الآفاق وفي الأنفس ، والتنزيلية ، التي من جملتها هذه الآيات الناطقة بذلك ، { أولئك هم الخاسرون } خسراناً لا خسرَ وراءه ، وقيل : هو متصل بقوله : { ويُنجي الله الذين اتقوا } ، وما بينهما اعتراض .
{ قُلْ أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون } به ، وكانوا يقولون له : أسلِم لبعض آلهتنا نؤمن بإلهك؛ لفرط جهالتهم . { وغير } : منصوب ب " أعبد " ، و { تأمروني } : اعتراض ، أي : أتأمروني أعبد غير الله بعد هذا البيان التام؟ وحذفُ نون الوقاية وإثباتها مدغمة وغير مدغمة ، كُلٌّ قُرىء به .
{ ولقد أُوحيَ إِليك وإِلى الذين من قبِلكَ } : من الأنبياء عليهم السلام : { لئن أشركتَ لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ ولَتكُونَنَّ من الخاسرين } ، كلام وراد على طريق الفرض ، لتهييج الرسل ، وإقناط الكفرة ، والإيذان بغاية بشاعة الإشراك وقُبحه ، وكونه بحيث يُنهي عنه مَن لا يكاد يمكن أن يباشره بمَن عداه أو : الخطاب له ، والمراد غيره .
(5/338)

وإفراد الخطاب مع كون الموحَى إليهم جماعة ، باعتبار خطاب كل واحد في عصره ، واللام موطئة لقسم محذوف ، والثانية لام الجواب ، وهو سادّ مسدّ جواب الشرط ، وإطلاق الإحباط لاحتمال أن يكون من خصائصهم؛ لأن الإشراك منهم أشد ، وأن يكون مقيداً بالموت ، كما صرح به في آية البقرة ، وهو مذهب الشافعي ، وذهب مالك إلى أن الشرك يُحبط العمل قبل الردة ، مات عليها ، أو رجع إلى الإسلام ، فينتقض وضوؤه وصومُه . وما قاله الشافعي أظهر .
{ بل اللهَ فاعبُدْ } ، رد لما أمروه به من عبادة آلهتهم ، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته؛ بل إذا عبدت فاعبد الله ، فحذف الشرط ، وأقيم تقديم المفعول مقامه . { وكن من الشاكرين } على ما أنعم به عليك؛ حيث جعلك رأس الموحدين وسيد المرسلين .
الإشارة : الله مُظهر كل شيء؛ حيث تجلّى بها ، وهو قائم بكل شيء . له مفاتيح غيوب السماوات والأرض ، لا يطلعَ عليها إلا مَن خضع لأوليائه ، الذين هم آيات من آياته . والذين كفروا بآيات الله ، الدالة على الله ، وهم أولياء الله ، أولئك هم الخاسرون ، فلا خسران أعظم من خيبة الوصول؛ إذ لا يخلو المفروق عن الله من الشرك الخفي ، فإذا أُمر المريد بإظهار شيء من سره ، أو مداهنة غيره ، قال : { أفغير الله تأمروني أعبدُ أيها الجاهلون } . { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت } بأن طالعت غيري في سرك ، أو تشوّفت أن يعلم الناس بخصوصيتك { ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد } واكتفِ به ، واقنع بعلمه ، واغتنِ بشهوده . { وكن من الشاكرين } على ما أولاك من سر خصوصيته .
(5/339)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
يقول الحق جلّ جلاله : { وما قَدرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِه } أي : ما عظَّموه حق تعظيمه؛ حيث جعلوا له شريكاً ، أو وصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة ، أو : حيث دعوك إلى عبادة غيره تعالى ، أو : ما عرفوه حق معرفته ، حيث لم يؤمنوا بقدرة الله تعالى . قال ابن عباس : فمَن آمن أن الله على كل شيء قدير ، فقد قدر الله حق قدره . يقال : قدرت الشيء : إذا حزرته لتعرف مبْلغه ، والقدر : المقدار . والضمير ، إما لقريش ، المحدث عنهم ، وقيل : لليهود ، حيث تكلّموا في صفات الله تعالى ، فألحدوا وجسّموا .
ثم بيَّن لهم شيئاً من عظمته تعالى ، فقال : { والأرضُ جميعاً قبضَتُه يومَ القيامةِ والسماواتُ مطويات بيمينهِ } : ف " جميعاً " : حال من الأرض؛ لأنه بمعنى الأرضين ، أي : والأرضون جميعاً مقبوضة له بقدرته يوم القيامة . { والسماوات مطويات بيمينه } أي : بقدرته . والقبضة : المرة من القبض ، والقُبْضة : المقدار المقبوض بالكف ، والمراد من الكلام : تصوير عظمته تعالى ، والتوقيف على كنه جلاله ، وأن تخريب هذا العالم هو عليه شيء هين ، على طريقة التمثيل والتخييل ، من غير اعتبار القبضة واليمين حقيقة ، ولا مجازاً ، هكذا قال جمهور المفسرين .
قلت : لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها ، فإن الله تعالى يُبدل الأرض ويجمعها بأجمعها ، فتكون كخبزة النقي ، ويطوي السماء كطي الكتاب ، حتى يبرز العرش ، كما في الحديث ، ففي حديث البخاري ، عن أبي سعيد الخدري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تكون الأرضُ يومَ القيامة خبزةً واحدةً ، يتكفؤُها الجبارُ بيده ، كما يتكفؤُ أحدُكم خُبْزَته في السفر ، نُزُلاً لأهل الجنة " وفي حديث أبي هريرة : " إن الله يقبض الأرض ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض " .
وقال ابن عمر : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ، وهو يحكي عن ربه تعالى ، فقال : " إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ، جمع السماوات والأرضين السبع في قبضته ، ثم قال هكذا ، وشدّ قبضته ، ثم بسطها ، ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن . . . " الحديث . وفي لفظ آخر : " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا لملك ، أين الجبارون أين المتكبرون؟ " وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : " كل ذلك في يمينه ، وليس في يده الأخرى شيء ، وإنما يستعين بشماله المشغولُ بيمينه ، وما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، في يد الله تعالى ، إلا كخردلة في يد أحدكم ، ولهذا قال : { مطويات بيَمينِهِ } : يعني السماوات والأرضين كلها بيمينه " قلت : من كَحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لا تصعب عليه هذه الأمور؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشاكل الآدمي في الأعضاء كلها ، فيكون له ذات لها يدان وقدمان ، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النار ، فتقول : قط قط ، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف ، ويتقدمهم للجنة ، إلى غير ذلك مما ورد في الحديث .
(5/340)

ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم ، إنما هي تجليات للذات الكلية المطلقة ، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين ، فسلِّم تسلَم .
{ سبحانه وتعالى عما يشركون } أي : تنزيهاً عظيماً لمَن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء ، أي : ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!
الإشارة : ما عرف لله حق معرفته مَن أثبت الكائنات معه ، وهي ممحوة بأحدية ذاته ، لا وجود لها معه على التحقيق ، فالأرض قبضة أسرار ذاته ، والسماوات محيطاتُ أفلاك أنواره ، وبحر الذات مطبق على الجميع ، ماحٍ للكل ، وأنشدوا :
فالكلُّ دونَ اللهِ إِنْ حققتَه ... عدمٌ على التفصيل والإجمالِ
واعلمْ بأنك والعوالِمَ كلَّها ... لولاه في محوٍ وفي اضمحلالِ
مَن لا وجودَ لذاتِه من ذاتِه ... فوجودُه لولاه عينُ مُحالِ
وقال آخر :
مَن أَبْصَرَ الخلقَ كالسَّراب ... فقد تَرَقَّى عن الحِجَابِ
إِلى وُجودٍ تراه رَتْقاً ... بلا ابتعادٍ ولا اقْترابِ
(5/341)

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
يقول الحق جلّ جلاله : { ونُفخ في الصُّورِ } النفخة الأولى { فصَعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرض } أي : خرّ ميتاً ، أو مغشياً عليه ، { إِلا مَن شاء اللهُ } قيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم يُميتهم الله بعد ذلك ، وقيل : حمَلَة العرش ، وقيل : خزَنة النار والجنة .
{ ثم نُفخ فيه أُخرى } هي النفخة الثانية . و " أخرى " : في محل الرفع صفة لمحذوف ، أي : نفخ نفخة أخرى ، { فإِذا هم قيام } من قبورهم ، حال كونهم إذا فاجأهم خطب { ينظرون } ؛ يُقلبون أبصارهم في الجوانب الأربعة ، كالمبهوتين ، أو : ينظرون ما يفعل بهم ، ودلت الآية على أن النفخة اثنتان؛ للموت ، والبعث ، وقيل : ثلاث؛ للفزع ، والموت ، والبعث .
{ وأشرقت الأرضُ } ؛ أضاءت { بنور ربها } حين يتجلّى لفصل عباده ، فتُشرق الأرض أي : عرَصَات القيامة بنور وجهه ، ويقال : إن الله يخلق في القيامة نوراً يلبسه وجهَ الأرض ، فتشرق به . قال في الحاشية الفاسية : وهذا القول هو الذي اختاره محيي السنة ، وانتصر له الطيبي ، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته في عرصات القيامة ، قال : وما تعسف الزمخشري ، من حمل النور على العدل ، إلا فراراً من ذلك . ه . قال القشيري : هو نور يخلقه في القيامة ، عند تكوير الشمس ، وانكدار النجوم ، ويستضيء به قومٌ دون قوم ، والكفارُ يَبْقَون في الظلمة ، والمؤمنون : { يَسْعَى نُورُهُم } [ الحديد : 12 ] الآية . ويقال : غداً إشراق الأرض ، واليوم إشراق القلب ، غداً أنوار التولي ، واليوم أنوار التجلي . ه .
وقال السدي : بعدله ، على الاستعارة ، يقال للملك العادل : أشرقت الأرض بعدله ، كما استعيرت الظلمة للظُلم . وفي الحديث : " الظلم ظلمات يوم القيامة " .
{ ووُضِع الكتابُ } أي : صحائف الأعمال . اكتفى باسم الجنس ، أو : كتاب المحاسبة والجزاء . { وجيء بالنبيين } ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، { والشهداء } أي : الحفظة ، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل ، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة إذا جحدتهم أممهم ، أو : الذين استُشهدوا في سبيل الله . { وقُضِيَ بينهم } : بين العباد { بالحق وهم لا يُظلَمُون } بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب ، قال ابن عطية : الضمير في { بينهم } عائد على العالم بأجمعه . ه . فيقتضي دخول الملائكة ، ويتصور القضاء في حقهم ، من حيث جعلوا حفظة على العباد ، وأمناء على الوحي والتبليغ ، وغير ذلك من ترتيبهم في مقاماتهم ، وترقيهم في علومهم ، وتفاوتهم في ذلك . وفي وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم في التبليغ ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور ، مع علمه تعالى خلافه ، مما لا اطلاعَ لهم عليه . قاله في الحاشية .
{ ووُفِّيت كلُّ نفسٍ } جزاء { ما عملَتْ وهو أعلم بما يفعلون } فلا يفوته شيء من أفعالهم . ومضمون الآية : تصوير التعرُّض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك ، من إحضار الشهود وخواص حضرته ، حين يبرز لذلك ، ويشهده الظالم والمظلوم ، وإن كان كنه معرفته موكولاً إليه ، ثم من لوازم ذلك العدل .
(5/342)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : في الآية إشارة للفناء والبقاء ، فيصعق العبد عن رؤية وجوده ، ثم يبقى بربه ، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق ، ثم يشرق العالم كله . قال الورتجبي : نفخة الصعق قهرية جلالية ، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله في أنوار جلاله ، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله : { وأشرقت الأرضُ بنور ربها } فيتجلّى للخواص ، ثم تستضيء بأنوارهم أرض المحشر ، للعموم والخصوص ، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن ، أو أن يكون محلاًّ للحدثان ، يا عاقل ، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهي مستغرقة في أنوار إشراق آزاله وآباده . ثم قال عن بعضهم : ( إلا مَن شاء الله ) هم أهل التمكين ، مكّن الله أسرارهم من تحمُّل الواردات .
(5/343)

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
يقول الحق جلّ جلاله : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمراً } أي : تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة ، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان ، إذا سيقوا للقتل أو السجن ، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجاً متفرقة ، بعضها إثر بعض ، حسب ترتُّب طبقاتهم في الضلالة والشرارة ، والزمر : جمع زمرة ، أي : الجماعة ، واشتقاقها من الزمر ، أي : الصوت . والجماعة لا تخلو عنه .
{ حتى إذا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها } ليدخلوها ، وهي سبعة ، { وقال لهم خزنتُها } تقريعاً وتوبيخاً : { ألم يأتكم رسلٌ منكم } ؛ من جنسكم . وقرىء : " نُذُر منكم " ، { يتلون عليكم آياتِ ربكم ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا } أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النار . وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع ، من حيث إنهم علّلوا توبيخهم بإتيان الرسل وتبليغ الكتب . { قالوا بلى } قد أتونا وأنذرونا ، { ولكن حقتْ كلمةُ العذاب على الكافرين } أي : ولكن وجبت علينا كلمة الله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } [ هود : 119 ] بسوء أعمالنا حيث كذَّبنا ، وقلنا ما نزّل الله من شيء ، إن أنتم إلا تكذبون . { قيل ادخلوا أبوابَ جهنمَ خالدين فيها } أي : مقدرين الخلود ، { فبئس مثوى المتكبرين } ، اللام للجنس ، والمخصوص محذوف ، أي : بئس مثوى المتكبرين جهنم ، وتكبرهم مسبب عن استحقاق كلمة العذاب عليهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل مَن تكبَّر عن أولياء زمانه أهل التربية حتى مات محجوباً عن شهود الحق ، يلحقه التوبيخ بلسان الحال ، فيقال له : ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم ، يعرفون بنا في كل زمان؟ فيقولون : بلى ، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب ، فيخلدون في القطيعة والحجاب ، إلا في وقت مخصوص ، وبالله التوفيق .
(5/344)

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
يقول الحق جلّ جلاله : { وسيقَ الذين اتقوا ربهم } مساق إعزاز وتشريف ، بلا إسراع ولا تكليف ، إلى دار الكرامة والتعريف . قيل : يُساقون راكبين مبجَّلين ، كما يجيء الوافدون إلى دار الملوك ، يساقون { إِلى الجنة زُمراً } ؛ جماعة متفاوتين ، بحسب تفاوت مراتبهم في الفضل ، وعلو الطبقة ، { حتى إِذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابها } الثمانية . وقرىء بالتخفيف والتشديد . وجواب " إذا " محذوف؛ للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تُحيط به العبارة ، كأنه قيل : حتى إذا جاؤوها ، وقد فتحت أبوابها ، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان . { وقال لهم خزنتُها سلامٌ عليكم طبتم } ؛ ظفرتم ، وتقدّستم في دار التقديس من كل دنس ، وطبتم نفساً ، بما أتيح لكم من النعيم والأمن ، { فادْخُلوها خالدين } ، وحذف الواو في وصف أهل النار؛ لأن أبواب جهنم لا تفتح لهم حتى لهم حتى يصلوا إليها ، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، كما هي حال السجون ، بخلاف أهل الجنة ، فإنهم يجدونها مفتوحة ، قال تعالى : { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } [ ص : 50 ] كما هي حال منازل الأفراح والسرور .
{ وقالوا الحمدُ لله الذي صَدَقَنا وَعْدَهُ } أي : أنجزنا ما وعدنا في الدنيا من نعيم العقبى ، { وأورثنا الأرضَ } ؛ أرض الجنة ، أي : المكان الذي استقرُّوا فيه ، وقد أُورثوها وملكوها . وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون تشبيهاً بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه ، واتساعه فيها ، { نتبوَّأُ من الجنة حيث نشاءُ } أي : يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف ، سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ أيَّ مكان أراده من جنته الواسعة ، { فَنِعمَ أجرُ العاملين } في الدنيا الجنة .
{ وترى الملائكةَ } حال كونهم { حافِّينَ من حول العرشِ } أي : محدقين به . و " من " لابتداء الغاية ، أي : ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله ، أو : زائدة ، { يُسبِّحون بحمدِ ربهم } أي : يقولون سبحان الله ، والحمد لله ، سُبوح قُدوس ، رب الملائكة والروح . أو : ينزهونه تعالى عما لا يليق به ، ملتبسين بحمده . والمعنى : ذاكرين الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه ، تلذُّذاً ، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين في لذائذهم هو الاستغراق في شهوده عزّ وجل .
{ وقيل الحمدُ لله رب العالمين } يقوله أهل الجنة شكراً لله حين دخلوها ، وتمّ وعد الله لهم : { الحمد لله رب العالمين } كما قال : { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] .
الإشارة : وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف ، زُمراً ، متفاوتين في السير ، على قدر تفاوتهم في القريحة ، والاعتناء ، والتفرُّغ من الشواغل والعلائق . حتى إذا جاؤوها وفُتحت أبوابها ، بذهاب حجاب الكائنات ، حتى بقي المكوّن وحده ، كما كان وحده ، وجدوا من الأسرار والأنوار ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تحيط به الإشارة . وقال لهم خزنتها ، وهم شيوخ التربية ، العارفون الله : سلام عليكم طِبتم ، أي : تقدّستم من العيوب والأكدار ، فادخلوها خالدين؛ لأن مَن وصل لا يرجع أبداً ، وما رجع مَن رجع إلا من الطريق .
(5/345)

وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول ، على ألسنة المشايخ . قال في الحِكَم : " سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه " .
وأورَثَنا أرضَ الوجود بأسره ، نتبوأ من جنة المعارف ، في أقطار الوجود ، بفكرتنا وهمتنا ، حيث نشاء ، فنِعم أجر العاملين . وترى الملائكة حافين من حول العرش ، أي : قلب العارف؛ لأن بيت الرب ، ومحل قرار نوره ، فيحفُّونه بالحفظ والرعاية من دخول الأغيار ، ويُنزهون الله عن الحلول والاستقرار . وقُضي بينهم بالحق ، فعزلت الشياطين عن قلوب الذاكرين ، وتسلّطت على قلوب الغافلين ، والحمد لله رب العالمين ، حيث لم يظلم أحداً من العالمين .
(5/346)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } أي : يا محمد . فاقتصر على بعض الحروف ، ستراً عن الوشاة ، كعادة العُشاق في ذكر محبوبهم ، يرمزون إليه ببعض حروفه . وقال ابن عطية : سأل أعرابي النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن " حم " ما هو؟ فقال : " بدء أسماء وفواتح سور " وفي حديث : " إذا بُيتّم فقولوا : حم لا يُنصرون " قال أبو عبيد : كأن المعنى : اللهم لا ينصرون . قلت : لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء . وعن ابن عباس : ( أنه اسم الله الأعظم ) . ه . وكأنه مختصر من " حي قيوم " .
{ تنزيلُ الكتاب } أي : هذا تنزيل القرآن { من الله العزيزِ العليم } أي : العزيز بسلطانه ، الغالب على أمره ، العليم بمَن صدّق به وكذّب . وهو تهديد للمشركين ، وبشارة للمؤمنين . والتعرُّض لوصفي العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب؛ لظهوره عزِه وعز مَن تمسّك به ، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين .
{ غافر الذنبِ } أي : ساتر ذنب المؤمنين؛ { وقابلِ التَّوْبِ } وقابل توبةَ الراجعين { شديدِ العقاب } للمخالفين ، { ذي الطَّوْلِ } على العارفين ، أي : الفضل التام على العارفين ، أو : ذي الغنى عن الكل . وعن ابن عباس : ( غافر الذنب ، وقابل التوب ، لمَن قال : " لا إله إلا الله " شديد العقاب لمَن لم يقل لا إله إلا الله ) .
والتَّوب : مصدر ، كالتوبة . ويقال : تاب وثاب وآب ، أي : رجع ، فإن قلتَ : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة ، وهو الله؟ قلتُ : أما { غافر الذنب وقابل التَّوب } فمعرفتان؛ لأنه لم يُرِدْ بهما حدوث الفعلين حتّى يكون في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أُريد ثُبوت ذلك ودوامه . وأما { شديد العقاب } فهو في تقدير : شديد عقابُه ، فيكون نكرة ، فقيل : هو بدل ، وقيل : كلّها أبدال غير أوصاف . وإدخال الواو في { قابل التوب } لنكتة ، وهي : إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين قبول توبته ، فتُكتب له طاعة ، وبين جعلها ماحية للذنوب ، كأن لم يُذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها ، " إن رحمتي سبقت غضبي " .
قال القشيري : سُنَّةُ اللهِ تعالى : إذا خَوَّف العبادَ باسْمٍ ، أو لفظٍ ، تدارَكَ قلوبَهم بأن يُبشِّرهم باسْمَين أو وَصْفيْن . ه . رُوي : أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد ، من أهل الشام ، فقيل له : تابَع هذا الشراب ، فقال لكاتبه : اكتب : من عمر إلى فلان ، سلام الله عليك ، وأنا أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، بسم الله الرحمن الرحيم { حم . . . } إلى قوله : { إِليه المصير } وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحباً ، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة ، جعل يقرؤها ، ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذّرني من عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى .
(5/347)

ثمّ نزع ، فأحسن النزوع ، وحسنت توبته . فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمرُه ، قال : " هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلَّ فسدّدوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه " أي : بالدعاء عليه . ه .
{ لا إِله إلا هو } أي : فيجب الإقبال الكلي عليه ، وهو : إما استئناف ، أو : صفة لذي الطَّوْل ، { إِليه المصيرُ } أي : المرجع ، فيُجازي كُلاًّ من العاصي والمطيع . قال القشيري : إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير .
{ ما يُجادل في آيات الله } أي : ما يُخاصم فيها بالطعن فيها ، واستعمال المقدمات الباطلة؛ لإدحاض الحق المشتملة عليه ، { إِلا الذين كفروا } ، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شُبهة منها ، فضلاً عن الطعن فيها ، وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمِن أعظم الجهاد في سبيل الله .
قال الطيبي : وأما اتصال قوله : { ما يُجادل في آيات الله . . . } الآية بما قبله ، فهو أنه لَمَّا قال تعالى : { حم تنزيل الكتاب } من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرّد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : { ما يُجادل في آيات الله } أي : ما يجادل في مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، { فلا يَغْرُرْكَ نَقَلُبُهم في البلاد } فإنه استدراج ، فلا يَغْرُر مثلك في منصب الرسالة تقلُبُ أولئك تقلبَ الأنعام ، المنعَّمين في هذا الحطم . وآيات الله : مُظْهَر أقيم المُضمر؛ للتعظيم والتفخيم . ه .
والفاء لترتيب النهي عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شيء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنَّ مَن تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أُخذ من قبلهم . ولذلك ذكرهم بقوله : { كذبت . . . } الخ .
الإشارة : " حم " أي : بحلمي ومجدي تجليت في كلامي ، المنزل على حبي ، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز ، المُعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه عِلمُه عما سَلَفَ من قضائه . غافرُ الذنب لمَن أَصَرَّ واجْتَرَم ، وقابلُ التوب لمَن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمَن جَحَدَ وكفر ، ذي الطول لمَن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التَّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذي الطول للعارفين الواصلين . لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير في ميادين النفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس . ما يُجادل في آيات الله ، وهم أولياء الله ، الدالون على الله ، إلا أهلُ الكفر بوجود الخصوصية . قال القشيري : إذا ظهر البرهانُ ، واتَّضح البيانُ استسلمَت الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان . وأمَّا أهلُ الكفر فلهم على الجحود إصرارٌ ، وشُؤْمُ شِرْكهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك مَن لا يحترم أولياء الله ، يُصرُّون على إنكارهم تخصيصَ الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيُجادلون في جَحْدِ الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يُميزون بين رجحانهم ونقصانهم . ه .
(5/348)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذَّبتْ قبلهم قومُ نوحٍ } نوحاً ، { والأحزابُ } أي : الذين تحزّبوا على الرسل ، وناصبوهم العداوة ، { من بعدِهم } أي : من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأضرابهم ، { وهَمَّتْ كلُّ أُمَّةٍ } من تلك الأمم الماضية { برسولهم ليأخذوه } ؛ ليتمكنوا منه ، فيُصيبوا ما أرادوا من تعذيب أو قتل . والأخذ : الأسر . { وجادلوا بالباطل } الذي لا أصل له ، ولا حقيقة لوجوده ، { ليُدْحِضُوا بِه الحقَّ } ؛ ليُبطلوا به الحق الذي جاءت به من الإيمان وغيره ، { فأخَذتهُم } بسبب ذل أخذاً وبيلاً ، { فكيف كان عقابِ } الذي عاقبتم به ، فإنَّ آثار ديارهم عرضة للناظرين ، وسآخذ هؤلاء أيضاً؛ لاتحادهم في السرة ، واشتراكهم في الجريرة ، كما ينبىء عنه قوله :
{ وكذلك حقَّتْ كلمتُ ربك } أي : كما وجب حُكم الله تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذِّبة ، المجترئة على رسلهم ، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق ، وجب أيضاً { على الذين كفروا } بك ، وتحزّبوا عليك ، وهَمُّوا بما لم ينالوا ، كما يُنبىء عنه إضافة اسم الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ذلك للإشعار بأنَّ وجوب كلمة العذاب من أحكام التربية ، التي من جملتها : نصرته صلى الله عليه وسلم ، وتعذيب أعدائه ، وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه ، لا عن الأمم المهلكة .
وقوله تعالى : { أنهم أصحاب النار } في حيز النصب ، بحذف لام التعليل ، أي لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها ، الذي هو عذاب النار ، وملازمتها أبداً ، لكونهم كفاراً معاندين ، متحزِّبين على الرسول صلى الله عليه وسلم ، كدأب مَن قبلهم مِن الأمم المهلَكة ، وقيل : إنه في محل رفع ، على أنه بدل من " كلمة ربك " ، والمعنى : ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النار ، أي : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال؛ وجب تعذيبهم في الآخرة بعذاب النار ، ومحل الكاف من ( كذلك ) على التقديرين : النصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف .
الإشارة : الأولياء على قَدم الرسل ، فكل ما لحق الرسل من الإيذاء يلحق الأولياء ، فقد كُذِّبت ، وتحزَّب عليهم أهلُ عصرهم ، وهمُّوا بأخذهم ، وجادلوا بالباطل ليُدحضوا نورَ الله بأفواههم ، والله مُتمُّ نوره ، فأخذهم الله بالخذلان والبُعد ، والخلود في نار القطيعة والحجاب ، والعياذ بالله .
(5/349)

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قلت : { الذين } : مبتدأ ، و { يُسبّحون } : خبره ، والجملة : استئناف مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان أن أشراف الملائكة عليهم السلام مثابرون على ولاية مَن معه من المؤمنين ، ونصرتهم ، واستدعاء ما يُسعدهم في الدارين .
يقول الحق جلّ جلاله : { الذين يحملون العرش } على عواتقهم وهم محمولون أيضاً بلطائف القدرة ، { ومَن حَوْله } أي : الحافِّين حوله ، وهم الكروبيّون ، سادات الملائكة ، وأعلى طبقاتهم . قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وقيل : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم خرقت العرش ، وهم خشوعٌ ، لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة .
وقال أيضاً : لمَّا خلق الله حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشي؛ فلم يطيقوا ، فخلق الله مع كل ملك من أعوانهم مثل جنود مَن في السموات ومَن في الأرض مِن الخلق ، فقال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سموات وسبع أرضين ، وما في الأرض من عدد الحصى والثرى ، فقال : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالوها ، فاستقلوا عرش ربنا ، أي : لَمَّا حملوه بالله أطاقوه ، فلم يحمل عرشه إلا قدرته ، وفي الحديث : " إن الله أمر جميع الملائكة أن يَغدُوا ، ويَرُوحوا بالسلام على حملة العرش ، تفضيلاً لهم على سائر الملائكة " .
وقال وهب بن منبه : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف ، يدورون حول العرش ، يطوفون به ، يُقبل هؤلاء ، ويُدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً ، هلّل هؤلاء ، وكبَّر هؤلاء ، ومِن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم ، قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم ، رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلَّك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلقُ كلهم راجون رحمتك ، ومِن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يُسبح الله تعالى بتسبيح لا يُسبحه الآخر ، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، واحتجب الله عزّ وجل بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجاباً من ظُلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من دُرٍّ أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوتٍ أحمر ، وسبعين حجاباً من زمُردٍ أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلجٍ ، وسبعين حجاباً من ماءٍ ، إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى . ه .
قلت : لمّا أظهر الله العرشَ تجلّى بنورٍ جبروتي رحموتي ، استوى به على العرش ، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء ، ثم ضرب الحُجُب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافِّين ، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم؛ إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر ، وليست هذه الحُجُب بين الذات الكلية وبين الخلق؛ إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم .
(5/350)

واخْتُلف في هيئة العرش ، فقيل : إنه مستدير ، والكون كله في جوفه كخردلة في الهواء ، حتى قيل : هو الفلك التاسع ، وقيل : هو منبسط كهيئة السرير ، وله سواري وأعمدة ، وهو ظاهر الأخبار النبوية . رَوى جعفرُ الصادق عن أبيه عن جده ، أنه قال : إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام ، وإن ملَكاً يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، فأوحى الله إليه : أن طِرْ ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأسُه قائمةً من قوائم العرش ، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها ، فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشي . ه . مختصراً .
وفي حديث آخر : " إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء ، في كل صحراء ستون ألف عالم ، في كل عالم قدر الثقلين " ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون في زاوية منه؛ لأنه محدود ، وعظمة الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلّت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : " لن تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " أي : الكامل .
ثم أخبر تعالى عن حَمَلة العرش ومَن حوله بقوله : { يُسَبِّحُونَ بحمد ربهم } أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، { ويُؤمنون به } إيماناً يناسب حالهم . وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومَنْ حوله الذي يُسبِّحون بحمد ربهم مؤمنون؛ إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في بعض المواضع بالصلاح . وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وًصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان .
ثم قال تعالى : { ويستغفرون للذين آمنوا } أي : ويستغفرون لمَن شاركهم في حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى موقع القبول .
{ ربَّنا } أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، { وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً } أي : وسعت رحمتُك وعلمك كلَّ شيء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، ونُصبا على التمييز ، مبالغةً في وصفه تعالى بالرحمة والعلم ، وفي عمومهما ، وتقديم الرحمة؛ لأنها السابقة والمقصودة هنا ، { فاغفرْ للذين تابوا } أي : للذين علمتَ منهم التوبة ، ليُناسب ذكر الرحمة ، { واتَّبعُوا سبيلَك } أي : طريق الهُدى التي دعوت إليها .
(5/351)

والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم ، { وَقِهِم عذاب الجحيم } أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار؛ للتأكيد .
{ ربنا وأَدْخِلهم جناتِ عدنٍ التي وعدتَّهم } إياها ، { ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي : صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و ( مَن ) : عُطف على ضمير ( وعدتهم ) ، أي : وأَدْخل معهم هؤلاء؛ ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم . قال سعيد بن جبير : ( يدخل الرجل الجنة ، فيقول : أين أبي؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنتُ أعمل لي ولهم ، فيقال : أَدخلوهم الجنة ) . وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعي حصول الموعود بلا توسُّط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول مَن قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب . انظر أبا السعود .
{ إِنك أنت العزيزُ الحكيم } أي : الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، وأنت مع مُلكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً عن حكمة ، وموجب حكمتك أن تفي بوعدك .
{ وقِهمْ السيئاتِ } أي : جزاء السيئات ، وهو العذاب ، أو المعاصي في الدنيا ، { ومَن تقِ السيئاتِ يومئذ فقد رَحِمْتَه } أي : ومَن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته ، أو : ومَن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة ، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعدما طلبوا المسبّب ، { وذلك هو الفوزُ العظيم } ؛ الإشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته ، أو : إليها وإلى الوقاية ، أي : ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع .
الإشارة : العرش وحملته ، والحافُّون به محمولون بلطائف القدرة؛ لا حاملون في الحقيقة ، بل لا وجود لهم مع الحق ، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلِّ من تجلياتها .
وقوله تعالى : { يُسبحون بحمد ربهم } ، قال الورتجبي : يُسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه ، حمداً لأفضالِه ، وبأنه منزّه عن النظير والشبيه ، ويؤمنون به في كل لحظة ، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات ، وأنوار حقائق الذات ، التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يُقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده ، ثم بيّن أنهم أهل الرأفة ، والرحمة ، والشفقة على أوليائه ، لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة . انظر تمامه .
والحاصل : أنهم مع تجلّي أنوار ذاته ، قاصرون عن كنهه ، وحقيقة ذاته ، وغايتهم الإيمان به ، قاله في الحاشية . قلت : والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية ، والرؤية للذات في مظاهر التجليات ، كما تحصل لخواص الأولياء في الدنيا ، ولكن معرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال حقيقته وشريعته ، لمَّا اعتدل فيه الضدان ، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان؛ للطاقة أجسامهم ، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها ، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار : أن جبريل لم يرَ الله قط قبل يوم القيامة ، فلا يصح؛ إلا أن يُحمل على أنه لم يره من غير مظهر ، وهذا لا يمكن له ولا لغيره ، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين ، يرونه على قدر تفاوتهم في المراتب والقُرب .
(5/352)

قال إمام أهل السنة ، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه ، في كتاب " الإبانة في أصول الديانة " : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى ، ثم رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسَلين ، وملائكته المقرّبين ، وجماعة المؤمنين ، والصدّيقين النظرَ إلى وجهه تعالى . ه . وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ، والاستغفار لهم ، وهو من شأن الأبدال ، أهل الحرمة لعباد الله ، اقتداءً بالملأ الأعلى .
(5/353)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِن الذين كفروا يُنَادَوْنَ } يوم القيامة ، من قِبل الخزنة وهم في النار : { لَمقْتُ الله } إياكم اليوم ، وإهانته لكم ، { أكْبرُ من مقتكم أنفسَكُم } في الدنيا ، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان ، { إِذْ تُدْعَون إلى الإِيمان } من قِبَل الرسل { فتكفرون } ، والحاصل : أنهم مقتوا أنفسهم في الدنيا ، وأهانوها ، حيث لم يؤمنوا ، فإذا دخلوا النار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك ، ف " إذا " : ظرف للمقت الثاني ، لا الأول ، على المشهور .
{ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } أي : إماتتين وإحياءتين ، أو : موتتين وحياتين . قال ابن عباس : كانوا أمواتاً في الأصلاب ، ثم أحياهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بُد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، وهذا كقوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ . . . } [ البقرة : 28 ] الآية . قال السدي : أُميتوا في الدنيا ، ثم أُحْيوا في قبورهم للسؤال ، ثم أُميتوا في قبورهم ، ثم أُحيوا في الآخرة .
والحاصل : أنهم أجابوا : بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية : ألاَّ حياة بعد بالموت ، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم ، وداموا على الإنكار ، فلمّا رأوا الأمر عياناً ، اعترفوا . ووجه مطابقة قوله : { قالوا ربنا . . . } الخ لما قبله : الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث ، الذي أوجب لهم المقت والعذاب؛ طمعاً في الإرضاء له بذلك؛ ليتخلصوا من العذاب ، ولذلك قالوا : { فاعترفنا بذنوبنا } ، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرّر عليهم ، عَلِموا أن الله قادر على الإعادة ، كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما يتبعه من جرائمهم . ومقصدهم بهذا الإقرار : التوسل بذلك إلى ما علَّقوا به أطماعهم الفارغة من الرجوع إلى الدينا ، كما صرّحوا به في قولهم : { فهل إلى خُروج } أي : نوع من الخروج ، سريع أو بطيء ، { من سبيلٍ } أو : لا سبيل إليه قط . وهذا كلامُ مَن غلب عليه اليأس ، وإنما يقولون ذلك تحيُّراً ، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه ، ولذلك أُجيبوا بقوله :
{ ذلِكُم } أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وألاَّ سبيل إلى الخروج ، { بأنه } أي : بسبب أن الشأن { إِذا دُعِيَ الله } في الدنيا ، أي : عُبد { وَحْدَه } منفرداً { كفرتم } بتوحيده ، { وإِن يُشْرَكْ به تؤمنوا } بالإشراك وتُسارعوا فيه ، أي : كنتم في الدنيا تكفرون بالإيمان ، وتُسارعون إلى الشرك . قيل : والتعبير بالاستقبال ، إشارة إِلى أنهم لو رُدوا لعادوا ، وحيث كان حالكم كذلك ، { فالحُكم لله } الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضي إلا بما تقتضيه حكمته ، { العَلِيّ } شأنه ، فلا يُردّ قضاؤه ، أو : فالحكم بعذابكم وتخليدكم في النار لله؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه ، { الكبير } : العظيم سلطانه ، فلا يُحدّ جزاؤه . وقيل : إنَّ الحرورية أَخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذه الآية .
(5/354)

قال عليّ رضي الله عنه لَمَّا سمع مقالتهم : كلمة حق أُريد بها باطل . ه .
الإشارة : إِنَّ الذين كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروا وجود التربية ، حتى ماتوا محجوبين عن الله ، وبُعثوا كذلك ، يُنادون يوم القيامة بلسان الحال : لمقتُ الله لكم اليوم حيث سقطتم عن درجات المقربين أكبرُ من مقتكم أنفسكم حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان ، حين كنتم تُدْعون إلى تربية الإيمان ، وتحقيق الإيقان ، على ألسنة شيوخ التربية ، فتكفرون وتقولون : انقطعت التربية منذ زمان ، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا ، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم ، فيقال لهم : هيهات ، قد فات الإبّان ، " الصيفَ ضيعتِ اللبن " . فامكثوا في حجابكم ، ذلك بأنه إذا دُعي الله وحده ، وأن لا موجود سواه ، كفرتم بإنكاركم سبيله ، وهي طريق التجريد والتربية ، وإن يُشرك به بالتعمُّق في الأسباب ، والمكث فيها ، تؤمنوا . والحاصل : أنهم كانوا يُنكرون طريق التجريد ، ويؤمنون بطريق الأسباب ، فالحُكم لله العلي الكبير ، فيرفع مَن يشاء ، ويضع مَن يشاء بعلوه وكبير شأنه .
(5/355)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي يُريكم آياته } الدالة على كبريائه ، وكمال قدرته ، من الرياح ، والسحاب ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، وغير ذلك ، لتستدلوا على ذلك ، وتعملوا بموجبها ، فتُوحدوه تعالى ، وتخصُّوه بالعبادة ، { ويُنزّل لكم من السماء رزقاً } ؛ مطراً؛ لأنه سبب الرزق . وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات؛ لتفرُّده بكونه من آثار رحمته ، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر؛ إذ به قوام الحيوانات بأسرها . وصيغة المضارع في الفعلين؛ للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل ، واستمرارهما . { وما يتذكَّرُ إِلا مَن يُنيب } أي : وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة ، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى ، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ، ونِعَمه الشاملة . وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر؛ لسفح الران على قلبه .
وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، من اختصاص التذكير بمَن ينيب ، { فادْعُوا الله } ، أو : تقول : لَمَّا ذكر أحوال المشركين ، وأراد أن يشفع بأضدادهم ، جعل قوله : { هو الذي يُريكم آياته . . . } الخ ، توطئة لقوله : { فادعوا الله } أي : اعبدوه { مخلِصين له الدين } من الشرك الجلي والخفي ، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم ، { ولو كَرِه الكافرون } ؛ وإن غاظ ذلك أعداءكم ، ممن لم يتب مثلكم ، فإن الله يُكرم مثواكم ، ويرفع درجاتكم ، فإنه { رفيعُ الدرجات } أي : رافع درجات أوليائه المؤمنين ، الداعين إليه ، المخلصين في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالعز والنصر ، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص ، أو : رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة ، ومهابطها ، للسفارة بين المرسِل والمرسَل إليه ، وهو كالمقدمة لقوله : { يُلقي الروح . . . } الخ . هذا على أنه اسم فاعل ، مبالغة ، وقيل : هو صفة مشبهة أُضيفت إلى فاعلها ، أي : رفيعٌ درجاتُه بالعلو والقهرية .
{ ذو العرش } أي : مالكه ، وهما خبران آخران عن { هو الذي . . . } الخ ، إيذاناً بعلو شأنه ، وعِظم سلطانه ، الموجبين لتخصيص العبادة به ، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما؛ فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي ، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه في غاية لا غاية ورائها . قاله أبو السعود .
ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله : { يُلقي الروح } أي : ينزل الوحي ، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام ، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح ، الذي هو العلم بالله ، وطريقُه الوحي . والتعبير بالمضارع ، قال الطيبي : يفيد استمرار الحي من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي ، بإقامة مَن يقوم بالدعوة ، على ما روى أبو داود ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها "
(5/356)

ومعنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة ، والأمر بمقتضاهما . ه .
قلت : وقد رزتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه مرة ، فلما وقع بصره عليّ ، قال : واللهِ ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي . وكتب لي شيخ الجماعة ، وقطب دائرة التربية ، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ، فقال في آخر كتابه : وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله ، تُذكّر أهل المشرق والمغرب . أو ما هذا معناه ، وقد وقع ذلك ، والحمد لله .
وقوله : { مِنْ أَمره } أي : من قضائه ، أو : بأمره ، فيجوز أن يكون حالاً من الروح ، أو متعلقاً ب ( يُلقِي ) أي : يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً ، أو : مبتدئاً من أمره ، أو : يُلقي الوحي بسبب أمره { على مَن يشاءُ من عباده } هو الذي اصطفاه لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى عباده ، { ليُنذر } أي : الله ، أو : المُلْقَى عليه ، وهو النبي عليه السلام ، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب ، أي : لتخوُّف { يومَ التلاقِ } ؛ يوم القيامة؛ لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض ، والأولون والآخرون ، و ( يوم ) : ظرف للمفعول الثاني ، أي : ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق ، أو : مفعول ثان ليُنذر ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار .
{ يوم هم بارزون } : بدل من " يوم التلاق " أي : خارجون من قبورهم ، أو : ظاهرون ، لا يستترون بشيء من جبل أو أكمة أو بناء؛ لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفاً ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم حفاةٌ عراةٌ ، كما في الحديث . أو : بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان ، أو : بارزة أعمالهم وسرائرهم ، { لا يخفى على الله منهم شيءٌ } من أعمالهم وأحوالهم ، الجلية والخفية ، السابقة واللاحقة ، وهو استئناف لبيان بُروزهم ، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً ، فإذا برزوا وحُشروا ، نادى الحق جلّ جلاله : { لمَن الملكُ اليومَ } ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يعود ثلاثاً ، فيجيب نفسه بنفسه بقوله : { لله الواحدِ القهارِ } أي : الذي قهر العباد بالموت .
رُوي أن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد ، في أرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة ، لم يُعصَ الله عليها قط ، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد : لِمن المُلكُ اليوم؟ فيجيب نفسه : " لله الوحد القهّار " . وقيل : المجيب أهلُ المحشر ، ورُوي أيضاً : أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث ، ولعله يقال مرتين .
قال تعالى : { اليوم تُجزَى كلُّ نَفْس } من النفوس البرّة والفاجرة ، { بما كسبتْ } من خير أو شر ، وهذا من تتمة الجواب ، أو : حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب ، { لا ظُلمَ اليومَ } بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، { إِن الله سريعُ الحساب } ؛ لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فكما أنه يرزقهم دفعة ، يُحاسبهم دفعة ، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان ، كما نُقل عن ابن عباس : أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ أهلُ الجنة إلا فيها ، وأهل النار إلا فهيا .
(5/357)

ه .
قلت : المراد بالحساب : إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب ، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار؛ فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده ، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً ، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم ، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل ، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب ، ويصحب أهل الإنابة . فادعوا الله ، أي : اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل ، ولو كره الجاحدون ، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين ، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد . قال القشيري : يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا ، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين ، والمساكنة إليهما ، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم . ه .
يُلْقِي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده ، هو وحي أحكام للأنبياء ، ووحي إلهام للأولياء ، فيحيي الله بهم الدين في كل زمان ، وقال القشيري : بعد كلام : ويقال : روح النبوة ، وروح الرسالة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة . ه . والمراد بالروح : مطلق الوحي ، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي ، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين ، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين ، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله ، لا دعوى لأحد يومئذ ، فيقول الحق تعالى : { لمَن الملك اليوم لله الواحِد القهَّار } .
قال القشيري : لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ ، ولا يختصُّ بوقتٍ ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ اليوم لا أصلَ لها ، ترتفع غداً ، وتنقطع تلك الأوهام . ه . ومثله في الإحياء ، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك ، كما كان كل يوم ، لا في خصوص ذلك اليوم . فإذا حصل للعبد مقام الفناء ، لم يرَ في الدارين إلا الله ، فيقول : لمَن المُلكُ اليوم؟ فيجيب : لله الواحدِ القهّار . اليوم تُجزَى كُلُّ نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد . قال القشيري : يجازيهم على أعمالهم الجنانَ ، وعلى أحوالهم الرضوان ، وعلى أنفاسهم أي : على حفظ أنفاسهم القُرب ، وعلى محبتهم الرؤية ، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران ، وعلى بكائهم الضياء والشفاء . ه . لا ظُلم اليوم ، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله سريعُ الحساب } قال القشيري : وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال ، يُطالبهم بالنقير والقطمير . ه . قلت : يدقق عليهم الحساب في الحال ، ويرفع مقدارهم في المآل . وبالله التوفيق .
(5/358)

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يقول الحق جلّ جلاله : { وأنذِرْهُم يوم الأَزفةِ } أي : القيامة ، سُميت بها لأزوفها ، أي : قُربها . فالأُزوف والازدلاف هو القرب ، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت ، أو الخطة الأزفة ، وهي مشارفة أهل النار لدخولها ، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله : { إِذِ القلوبُ لدى الحناجر } أي : التراقي ، يعني : ترتفع قلوبُهم عن مقارّها ، فتلتصق بحناجرهم من الرعب ، فلا هي تخرج فيموتوا فيستريحوا ، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا . حال كونهم { كاظمين } ؛ ممسكين الغيظ بحناجرهم ، أو : ممسكين قلوبهم بحناجرهم ، يرومون ردها لئلا تخرج ، فهو حال من القلوب ، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم ، وهو من أوصاف العقلاء ، أو : من أصحاب القلوب؛ إذ الأصل : قلوبهم ، أو : من ضميرها في الظرف ، { ما للظالمين من حميمٍ } أي : قريب مشفق { ولا شفيعٍ يُطاع } أي : ولا شفيع تُقبل شفاعته ، فالمراد : نفي الشفاعة والطاعة ، كقول الشاعر :
وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ ... يريد به : نفي الضب وانجحاره . وكقول الآخر :
عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه ... وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة . فعن الحسن البصري : " والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة " . ووضع " الظالمين " موضع الضمير؛ للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به .
{ يعلم خائنةَ الأعين } أي : النظرة الخائنة ، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ . قيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : الأعين الخائنة ، وقيل : مصدر ، كالعافية ، أي : خيانة الأعين . قال ابن عباس رضي الله عنه : هو الرجل يكون جالساً مع القوم ، فتمر المرأة ، فيسارقهم النظر إليها . ه . وقال ابن عطية : متصل بقوله : { سريع الحساب } ، فيحاسب على خيانة الأعين ، وقالت فرقة : متصل بقوله : { لا يَخفى على الله منهم شيء } ، وهذا حسن ، يُقويه تناسب المعنيَيْن ، ويُبعده بعدُ الآية من الآية ، وكثرة الحائل . والحاصل : أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله : { ليُنذر يوم التلاق } الآية . قاله المحشي . { و } يعلم { ما تُخفي الصدورُ } أي : ما تُكنّه من خيانة وأمانة . وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة ، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه ، والله يعلم ذلك كله .
{ والله يقضي بالحق } أي : ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل ، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه؛ إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ ، { والذين يَدْعُون } ؛ يعبدونهم { من دونه } من الآلهة { لا يقضون بشيء } ، وهذا تهكُّم بهم؛ لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه : يقضي ولا يقضي ، وقرأ نافع بالخطاب؛ أو : على إضمار " قل " ، { إِن الله هو السميعُ البصير } ؛ تقرير لقوله : { يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور } ووعيد لهم؛ لأنه يسمع ما يقولون ، ويُبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دون الله ، بأنها لا تسمع ولا تُبصر .
(5/359)

الإشارة : قال القشيري : قيامةُ الكل مؤجَّلة ، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة ، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب ، والبعَاد والاقتراب ، ما لم يكن في حساب ، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد ، وخفَقَانُ القلب ينطق ، والنحولُ يُخْبِرُ ، واللونُ يفضح ، والعبد يستر ، ولكن البلاء يُظهر ، قال :
يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا ... لِجَمِيعِ ما ظَنوا بِنَا تَحْقِيقُ
وقوله تعالى : { إِذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين } ، هو في حق مَن فاته التأهُّب والترقِّي في هذه الدار ، فتحسَّر حين يُعاين مقامات الرجال ، وليس له شفيع يُرقيه ، ولا حميم يُصافيه . وقوله تعالى : { يعلم خائنة الأعين } هو في حق العارفين : النظر إلى السِّوى بعين الاستحسان . قال القشيري : خائنة الأعين هي من المحبين استحسانهم شيئاً أي : من السِّوى وأنشدوا :
يَا قُرَّةَ العَيْن : سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ ... بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي؟
وأنشد أيضاً :
وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ ... أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها
قلت : ومثله قول الشاعر :
وناظرٌ في سِوى مَعْناكَ حُقَّ لَهُ ... يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِه بالدَّمْع وهُو دَمُ
والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحدِّثُه ... سوَى حَدِيثكِ ، أَمْسى وَقْرُه الصَّمَمُ
ثم قال : ومن خائنة الأعين : أن تأخذهم السِّنَةُ والسِّنات في أوقات المناجاة ، وفي قصص داود عليه السلام : " كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي ، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني ، ومن خائنة أعين العارفين : أن يكون لهم خير ، أي : استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم ، ينظرون ولكن لا يُبصرون أي : ينظرون إلى المستحسنات ، ولكن لا يقفون معها ومن خائنة أعين الموحِّدين أي : السائرين للتوحيد أن يخرج منها قطرة دمعٍ ، تأسفاً على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة ، ومن خائنة الأعين : النظرُ إلى غير المحبوب بأَي وجهٍ كان ، ففي الخبر : " حُبَّكَ الشيء يُعْمِي ويُصمُّ " أي : يُغَيبك عن غيره ، فلا ترى إلا محاسن الحبيب ، وجماله في مظاهر تجلياته ، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي الله عنه :
عَيْنِي لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظر ... وَسِوَاكُم في خَاطِري لاَ يَخْطُر
وقوله تعالى : { والله يقضي بالحق } قال القشيري : يقضي للأجانب بالبعاد ، ولأهل الوداد بالوصال ، ويقضي يومَ القدوم بعدل عُمال الصدود . ه . أي : يعدل في أهل الصدود عن حضرته ، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط . ثم قال : وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح ، فلا غَرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب ، في صورة شخص ، ويُصلب على جذوع الغيرة ، لينظر إليه أهل الحضرة . ه .
(5/360)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
قلت : { هم أشد } : ضمير فصل ، وحقه أن يقع بين معرفتين ، إلا أنَّ ( أشد ) لَمَّا ضارع المعرفة في كونه لا يدخله الألف واللام أجرى مجراها .
يقول الحق جلّ جلاله : { أَوَلَمْ يسيروا في } أقطار { الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا من قبلهم } أي : مآل مَن قبلهم من الأمم المكذِّبة لرسلهم ، كعاد ، وثمود ، وأضرابهم ، { كانوا هم أشدَّ منهم قوةً } أي : قدرة وتمكُّناً من التصرف ، { وآثاراً في الأرض } ؛ وأشتد تأثيراً في الأرض ، ببناء القلاع الحصينة ، والمدائن المتينة . وقيل : المعنى : وأكثر آثاراً ، أي : ترك آثار في الأرض ، كالحصون وغيرها . { فأخَذَهم الله بذنوبهم } أخذاً وبيلاً ، { وما كان لهم من الله من واقٍ } أي : لم يكن لهم شيء يقيهم من عذاب الله .
{ ذلك } الأخذ { بأنهم } ؛ بسبب أنهم { كانت تأتيهم رُسُلُهم بالبينات } ؛ بالمعجزات الدالة على صدقهم ، أو : بالأحكام الظاهرة الجلية ، { فكفروا فأخذهم الله إِنه قويٌّ } ، متمكن مما يريد غاية التمكُّن ، قادر على كل شيء ، { شديدُ العقاب } لا يُؤبَه عند عقابه بعقاب .
الإشارة : قال القشيري : أَوَلَمْ يسيروا بنفوسهم في أقطار الأرض ، ويطوفوا مشارقَها ومغاربَها ، فيعتبروا بها ، فيزهدوا فيها؟ ويسيروا بقلوبهم في الملكوت بجَوَلان الفكر ، فيشهدوا أنوار التجلي ، فيستبصروا بها؟ ويسيروا بأسرارهم في ساحات الصمدية ، فيُستهلكوا في سلطان الحقائق ، ويتخلَّصُوا من جميع المخلوقات؛ قاصيها ودانيها؟ ثم قال : قوله تعالى : { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } ، إِنْ بغى من أهل السلوك ، قاصدٌ لهم يصل إلى مقصوده ، فَلْيَعلم أنَّ موجِبَ حجبته اعتراضٌ خَامَرَ قلبَه على بعض شيوخه ، في بعض أوقاته ، فإِنَّ الشيوخَ بمحلِّ السفير للمريدين ، وفي الخبر : " الشيخ في أهله كالنبيِّ في أمته " . ه .
(5/361)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } ؛ معجزاته التسع { وسلطانٍ مبين } أي : حجة قاهرة ، وهي : إما عين الآيات ، والعطف لتغاير العنوانين ، فكونها آيات من جهة خرق العادة ، وكونها حجة من حيث الدلالة على صدق صاحبها ، وإما أن يريد بالسلطان ، بعض مشاهيرها ، كالعصا ، أُفردت بالذكر مع اندراجها تحت الآيات؛ لعِظمها . وقال ابن عرفة : الآيات : المعجزات ، والسلطان المبين ، راجع إلى التحدي بها ، فهو من قبيل الإدعاج ، أو : يكون السلطان راجعاً إلى ظهورها؛ إذ ليس من شرطها الظهور ، أو : يرجع إلى نتيجتها ، هو الغلبة والنصر . ه .
أرسل { إِلى فرعونَ وهامانَ وقارونَ فقالوا } فيما أظهره ، أو : فيما ادّعاه من الرسالة : هو { ساحر كذَّابٌ فلمَّا جاءهم بالحقِ مِن عندنا } وهو الوحي والرسالة ، { قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } أي : صبيانهم الذكور ، { واستحيُوا نساءَهم } للخدمة ، أي : أَعيدوا عليهم القتل الذي كنتم تفعلونه أولاً ، وكان فرعون قد كفَّ عن قتل الولدان؛ لئلا تعطل خدمته ، فلما بُعث عليه السلام ، وأحسَّ بأنه قد وقع ما توقع ، أعاده عليهم غيظاً ، وحُمقاً ، وزعماً منه أن يصدهم بذلك عن مظاهرته . { وما كيدُ الكافرين إِلا في ضلالٍ } ؛ في ضياع وبطلان ، فإنهم باشروا قتلهم أولاً ، فما أغنى عنهم ، ونفذ قضاء الله بإظهار مَن خافوه ، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني ، فلم يعلم أن كيده ضائع في الكَرّتين ، واللام : إما للعهد المتقدم ، والإظهار في موضع الإضمار؛ لذمهم بالكفر ، والإشعار بعلة الحكم ، أو : للجنس وهم داخلون فيه دخولاً أوليّاً . والجملة : اعتراض جيء بها في تضاعيف ما حكى عنهم من الأباطيل؛ للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد الذي لا طائل تحته .
{ وقال فرعونُ } لملئه : { ذروني أقتلْ موسى } ، وكان ملَؤه إذا همَّ بقتله كفّوه ، وقالوا : ليس بالذي تخافه ، وهو أقل من ذلك ، وما هو إلا ساحر ، وإذا قتلتَه أدخلتَ شبهة على الناس ، واعتقدوا أنك عجزت عن معارضته بالحجة ، والظاهر من دهاء اللعين ونكارته أنه قد استيقن أنه نبيّ ، وأن ما جاء به آيات باهرة ، وما هو بسحر ، ولكن كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجَل بالهلاك ، وكان قوله تمويهاً على قومه ، وإيهاماً أنهم هم الكافُّون عن قتله ، ولولاهم لقتله ، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من الفزع الهائل . وقوله : { وليَدْعُ رَبَّه } تجلُّد منه وإظهار لعدم المبالاة بدعائه ، ولكنه أخوف ما يخافه .
ثم قال : { إِني أخافُ } إن لم أقتله { أن يُبدِّلَ دينَكُم } أي : بغير ما أنتم عليه من الدين ، وهو عبادتهم له وللأصنام؛ لتقربهم إليه ، { أو أن يُظْهِر في الأرض الفسادَ } أي : ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر على تبديل دينكم بالكلية . والحاصل : أنه قال : أخاف أن يُفسد عليكم دينكم ، بدعوته إلى دينه ، أو : يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من التقاتل والتهارج ، الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش .
(5/362)

{ وقال موسى } لَمَّا سَمِعَ ما أجراه من الحديث في قتله لقومه : { إِني عُذْتُ بربي وربِّكُم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب } ، صدّر عليه السلام كلامَه بإنَّ؛ تأكيداً له ، وإظهاراً لمزية الاعتناء بمضمونه ، وفرط الرغبة ، وخصّ اسم الرب المنبىء عن الحفظ والتربية؛ إذ بهما يقع الحفظ .
وفي قوله : { وربكم } حث لهم على أن يقتدوا به ، فيعوذوا بالله عياذتَه ، ويعتصموا بالتوكل اعتصامَه ، ولم يُسمّ فرعون ، بل ذكره بوصف يعمه وغيره من الجبابرة؛ لتعميم الاستعاذة ، والإشعار بعلة القساوة والجرأة على الله تعالى ، وهو التكبُّر . قال ابن عرفة : أشار إلى أن كفره لم يكن لأجل أن موسى لم يأتِ بدليل ولا معجزة ، ولم يكن أيضاً لخفاء تلك المعجزة ، وعدم ظهورها ، بل كان لجحود التعنُّت والتكبُّر ، والإباية عن الانحطاط من سلطنة الملك إلى رتبة الاتِّباع . ه . وقال : { لا يؤمن بيوم الحساب } ؛ لأنه إذا اجتمع في الرجل التجبُّر والتكذيب بالجزاء ، وقلة المبالاة بالعاقبة ، فقد استكمل أسباب القوة والجرأة على الله وعباده ، والعياذ بالله .
الإشارة : قال القشيري : كان موسى عليه السلام أكرم خَلْقِه في وقته ، وكان فرعون أخَسّ خَلْقِه في وقته؛ إذ لم يقل أحد : ما علمتُ لكم من إله غيري ، فأرسل أخصَّ عباده إلى أخسّ عباده . ثم إن فرعون سعى في قتل موسى ، واستعان على ذلك بخَيْله ورَجْله ، ولكن كما قال تعالى : { وما كيد الكافرين إلا في ضلال } ، وإذا حَفَرَ أحدٌ لِوَليِّ الله حُفرةً ، ما وقع فيها غيرُ حافِرها ، كذلك أجرى الحقُّ سُنَّتَه . ه .
(5/363)

وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال رجلٌ مؤمن } ، قيل : كان قبطياً ، ابن عَم لفرعون ، آمن بموسى سرّاً ، وقيل : كان إسرائيليّاً موحّداً ، وهو المراد بقوله : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى } [ يس : 20 ] ، قال ابن عباس : اسمه حزقيل . وقال ابن إسحاق : جَبرل ، وقيل : سمعان . وقيل : حبيب . و { مِن آلِ فرعونَ } : صفة ثانية لرجل ، أو : صلة ليكتم ، أي : { يكتم إيمانه } من فرعون وملائه : { أتقتلون رجلاً } أي : أتقصدون قلته كراهةَ { أن يقولَ ربي الله } وحده ، من غير روية ولا تأمُّل في أمره؟ وهذا إنكار منه عليهم ، كأنه قال : أترتكبون هذه الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة من غير حجة ، غير قوله الحق ، وإقراره بالتوحيد؟ { وقد جاءكم بالبيناتِ } أي : والحال أنه جاءكم بالمعجزات الظاهرة ، التي شاهدتموها وعاهدتموها من ربكم ، يعني أنه لم يكتفِ ببينة واحدة ، بل جاء ببينات كثيرة { من } عند { ربكم } ، أضافه إليهم ، استنزالاً لهم عن رتبة المكابرة ، واستدراجاً للاعتراف .
ثم أخذهم بالاحتجاج فقال : { وإِن يَكُ كاذباً فعليه كذبهُ } ، لا يتخطى وبال كذبه إلى غيره ، فيحتاج في دفعه إلى قتله ، { وإِن يك صادقاً يُصبكم بعضُ الذي يَعِدُكُم } من العذاب ، احتج عليهم بطريق التقسيم؛ لأنه لا يخلو ، إما أن يكون كاذباً أو صادقاً ، فإن كان كاذباً فوبال كذبه عليه ، وإن كان صادقاً يُصبكم قطعاً بعضُ ما يعدكم من العذاب ، ولم يقل : كل الذي يعدكم ، مع أنه وعد من نبيٍّ صادق ، مداراة لهم وسلوكاً لطريق الإنصاف ، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم له ، فكأنه قال : إن لم يصبكم الجميعُ يصبكم البعض ، وليس فيه نفي لإصابة الكل ، فكأنه قال : أقلّ ما فيه أن يصيبكم بعض ما يعدكم ، وهو العذاب العاجل ، وفي ذلك هلاككم ، وكان وعَدَهم عذاب الدنيا والآخرة . وتفسير البضع بالكلّ مزيّف . { إِن الله لا يهدي مَن هو مُسْرِفٌ كذّاب } ، هذا احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما : أنه لو كان مُسرفاً كذاباً لَمَا هداه الله إلى النبوة ، ولما عضده بتلك البينات ، وثانيهما : إن كان كذلك خذله الله وأهلكه ، فلا حاجة إلى قتله . وقيل : أوهم أنه يريد بالمُسرف موسى ، وهو يعني به فرعون ، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى اعتراضاً بين أجزاء وعظه ، إخباراً بما سبق لهم من الشقاء ، فلا ينفع فيهم الوعظ .
ثم قال : { يا قوم لكم الملكُ اليومَ } حال كونكم { ظاهرين } ؛ غالبين عالين على بني إسرائيل { في الأرض } ؛ أرض مصر ، لا يقاومكم أحد في هذا الوقت ، { فمَن ينصُرنا من بأس الله إِن جاءنا } يعني : إن لكم اليوم مُلك مصر ، وقد علوتم الناس ، وقهرتموهم ، فلا تُسرفوا على أنفسكم ، ولا تتعرّضوا لبأس الله ، أي : عذابه؛ فإنه لا طاقة لكم به إن جاءكم ، ولا يمنعكم منه أحد .
(5/364)

وإنما نسب ما يُسرهم من المُلك والظهور في الأرض إليهم خاصة ، ونظم نفسه فيما يسوؤهم ، من مجيء بأس الله تعالى ، إمحاضاً للنصح ، وإيذاناً بأن الذي ينصحهم به هو مساهم لهم فيه .
{ قال فرعونُ } بعدما سمع نصحه لقومه : { ما أُرِيكُم } أي : ما أُشير عليكم { إِلا ما أرى } وأستصوبه من قتل موسى ، يعني : لا أستصوب إلا قتله ، وهذا الذي تقولونه غير صواب ، { وما أَهديكم } بهذا الرأي { إِلا سبيل الرشاد } أي : الصواب ، ولا أعلنكم إلا ما أعلم ، ولا أُسِرُّ عنكم شيئاً خلاف ما أُظهِر ، يعني : أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول ، وقد كذب اللعين ، فقد كان مضمراً للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام ، ولكنه كان يتجلَّد ، ولولا استشعاره للخوف لم يستشر أحداً في قتله ، وقد كان سفَّاكاً جبّاراً ، فما منعه إلا خوف الهلاك إن مدّ يده إليه ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال القشيري : قد نصح وأبلغ مؤمنٌ آل فرعون ، واحتجَّ عليهم ، فلم ينجعْ فيهم قوله ، وأعاد عليهم نصحه فلم يسمعوا ، وكان كما قيل :
وَكَمْ سُقْتُ في آثارِكُم مِن نَصيحةٍ ... وَقَدْ يَستفيدُ البغْضَةَ الْمُسْتَنْصِحُ
(5/365)

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال الذي آمن } مخاطباً قومه : { يا قوم إِني أخافُ عليكم } في تكذيب موسى ، والتعرُّض له بسوء ، { مثلَ يومِ الأحزاب } أي : مثل أيام الأمم الماضية المتحزبة على رسلها ، يعني وقائعهم . وجمْعُ الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم ، أي : بالإضافة ، وفسره بقوله :
{ مثلَ دأبِ قومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ والذين من بعدهم } ؛ كقوم لوط وشعيب ، لم يُلْبَسْ أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دَمَار ، فاقتصر على الواحد من الجمع . ودأب هؤلاء : دؤوبهم في عملهم من الكفر ، والتكذيب ، وسائر المعاصي ، حتى دمَّرهم الله . ولا بد من حذف مضاف ، أي : مثل جزاء دأبهم وهو الهلاك . و ( مثل ) الثاني : عطف بيان لمثل الأولى . { وما الله يريد ظلماً للعباد } ؛ فلا يُعاقبهم بغير ذنب ، أو : يزيد على ما يستحقونه من العذاب ، يعني أن تدميرهم كان عدلاً؛ لأنهم استحقوه بأعمالهم ، وهو أبلغ من قوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ؛ حيث جعل المنفي إرادة الظلم مُنْكَراً ، وإذا بعُد عن إرادة ظُلم مَا لعباده؛ كان عن الظلم مُنْكَراً ، وإذا بعُد عن إرادة ظُلمٍ مَا لعباده؛ كان عن الظلم أبعد وأبعد . وتفسير المعتزلة : بأنه لا يريدُ لهم أن يظلموا ، بعيد؛ لأن أهل اللغة قالوا : إذا قال الرجل لآخر : لا أريد ظلماً لك ، معناه : لا أريد أن أظلمك ، وهذا تخويفٌ بعذاب الدنيا . ثم خوَّفهم من عذاب الآخرة بقوله :
{ ويا قومِ إِني أخاف عليكم يوم التَّنَادِ } أي : يوم القيامة؛ لأنه ينادي فيه بعضُهم بعضاً للاستغاثة ، ويتصايحون بالويل والثبور ، وينادي أصحابُ النار أصحابَ الجنة ، وأصحابُ الأعراف رجالاً يعرفونهم ، وعن الضحاك : إذا سمعوا زفير النار نَدُّوا هرباً ، فلا يأتون قُطراً من الأقطار ، إلا وجدوا ملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى مكانهم ، فبينما هم يموج بعضهم في بعض ، إذ سمعوا منادياً : أقبلوا إلى الحسابِ . أو : ينادي مناد عند الميزان : ألا إن فلاناً بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، ألاَ إِن فلان بن فلان شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبداً . قال ابن عطية : المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، وذلك كثير . ه .
ثم أبدل من يوم التناد : قوله : { يوم تُولُّون مدْبرين } أي : منصرفين عن القوم إلى النار ، أو : فارِّين منها غير معاجزين ، { ما لكم من الله من عاصم } يعصمكم من عذابه ، ولمَّا أيس من قبولهم قال : { ومَن يُضلل الله فما له من هادٍ } يهديه إلى طريق النجاة .
الإشارة : ينبغي للواعظ والمُذكِّر إذا ذكَّر العصاة أن يُخوفهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما فعل مؤمن آل فرعون ، أما عذاب الدنيا فما يلحق العاصي من الذُل والهوان عند الله ، وعند عباده ، وما يلحقه إن طال عمره من المسخ وأرذل العمر ، فإِنَّ المعاصي في زمن الشباب تجر الوبال إلى زمن الهرم ، كما أن الطاعة في حال الشباب تجر الحفظ والرعاية إلى حال الكِبَر ، وأما عذاب الآخرة فمعلوم ، ثم يحضّ على التوبة والإقلاع ، فإنَّ التائب الناصح مُلحَق بالطائع ، فلا يلحقه شيء من ذلك . وبالله التوفيق .
(5/366)

وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قلت : { الذين يُجادلون } : بدل مِن { مَن هو } وإنما جمع؛ لأنه لم يرد مسرفاً واحداً ، بل كل مسرف .
يقول الحق جلّ جلاله : حاكياً لقول المؤمن : { ولقد جاءكم يوسُف } ، هو ابن يعقوب ، وقيل : يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب ، أقام فيهم نبيّاً عشرين سنة ، وقال وهب : فرعون موسى هو فرعون يوسف ، عمَّر إلى زمنه ، وقيل : هو فرعون آخر؛ لأن كل مَن ملك مصر يُقال له فرعون ، وهذا أظهر . وقول الجلال المحلي : هو يوسف بن يعقوب في قولٍ ، عمّر إلى زمنه ، سهو . وإنما قيل ذلك في فرعون لا في يوسف .
قلت : والتحقيق : أنه وبّخهم بما فعل أسلافهم؛ لأنهم على مِنوالهم ، راضون بما فعلوا ، فالمراد بيوسف ، هو الصِّدِّيق ، فما زالوا مترددين في رسالته حتى مات ، واستمر خلفهم على ذلك إلى زمن موسى ، وقوله تعالى : { من قبلُ } أي : من قبل موسى ، أي : جاءكم يوسف { بالبينات } ؛ بالمعجزات الواضحة ، كتعبير الرؤيا ، ودلائل التوحيد ، كقوله : { ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ . . . } [ يوسف : 39 ] الآية ، وملكه أموالهم ورقابهم في زمن المسبغة ، وغير ذلك مما دلّ على رسالته . { فما زلتم في شكٍّ مما جاءكم به } من الدين { حتى إِذا هَلَكَ } بالموت { قُلْتم لن يبعثَ الله من بعده رسولاً } ، حكماً من عند أنفسكم ، من غير برهان ، أي : أقمتم على كفركم ، وظننتم أن لا يجدّد عليكم إيجاب الحجة .
قال القشيري : يقال : إن تكذيبهم وتكذيب سلفهم للأنبياء عليهم السلام كان قديماً حتى أهلكهم ، كذلك يفعل بهؤلاء . ه .
{ كذلك يُضِلُّ الله مَن هو مُسْرِفٌ مرتابٌ } أي : مثل ذلك الإضلل الفظيع يُضل الله مَن هو مسرف في عصيانه ، شاكّ في دينه ، لم يتفكّر فيما شهدت البينات بصحته؛ لِغلبة الوهم ، والانهماك في التقليد .
ثم فسّره فقال : { الذين يُجادِلون في آيات الله } بالرد والإبطال { بغير سلطانٍ } ؛ بغير حجة واضحة ، تصلح للتمسُّك بها في الجملة ، { أتاهم } : صفة لسلطان ، أي : بغير برهان جاءهم بصحة ذلك ، { كَبُرَ مقتاً } أي : عَظُمَ بُغضاً { عند الله وعند الذين آمنوا } ، وفيه ضرب من التعجُّب والاستعظام . وفي " كبُر " ضمير يعود على " مَنْ " وتذكيره باعتبار اللفظ . { كذلك } أي : مثل ذلك الطبع الفظيع { يَطْبَعُ الله على كل قلب متكبر جبَّار } فيصدر منه أمثال ما ذكر من الإسراف ، والارتياب ، والمجادلة بالباطل . ومَن قرأ بالتنوين فوصف لقلب ، وإنما وصف بالتكبُّر والتجبُّر؛ لأنه منبعهما ، كما تقول : سَمِعَتِ الأذنُ ، كقوله : { فَإِنَّهُ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وإن كان الإثم للجملة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يُقال لأهل كل عصر : ولقد جاءكم فلان لوليِّ تقدم قبلهم بالآيات الدالة على صحة ولايته ، فما زلتم ، أي : ما زال أسلافكم من أهل عصره في شك منه ، حتى إذا مات ظهرت ولايته ، وأقررتم بها ، وقلتم : لن يبعث الله من بعده وليّاً ، وهذه عادة العامة ، يُقرون الأموات من الأولياء ، ويُنكرون الأحياء . وهي نزعة أهل الكفر والضلال كذلك يُضل الله مَن هو مسرف مرتاب ، كالذين يُخاصمون في ثبوت الخصوصية عند أربابها ، من غير برهان ، وهو شأن المنكرين ، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار .
(5/367)

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال فرعونُ } تمويهاً على قومه ، وجهلاً منه : { يا هامانِ } وزيره { ابنِ لي صَرْحاً } أي : قصراً عالياً ، وقيل : الصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر وإن بَعُد منه . يقال : صَرِح الشيءُ : إذا ظهر . { لعلِّي أبلُغُ الأسبابَ } أي : الطرق . ثم أبدل منها تفخيماً لشأنها ، وإظهاراً أنه يقصد أمراً عظيماً :
{ أسبابَ السماوات } أي : طرُقها وأبوابها ، وما يُؤدّي إليها ، وكل ما أدّاك إلى الشيء فهو سبب إليه ، { فأَطَّلِعَ إِلى إِله موسى } أي : فأنظر إليه وأتحقق وجوده ، قرأه حفص بالنصب ، جواب التمني ، والباقي بالرفع ، عطفاً على " أبلغ " . قال البيضاوي : ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال ، يرصد منه أحوال الكواكب ، التي هي أسباب سماوية ، تدلّ على الحوادث الأرضية ، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال الله تعالى إياه ، أو أن يرى فساد قوله عليه السلام؛ فإنّ إخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه ، وذلك لا يتأتى إلا بالصعود للسماء ، وهو مما لا يقوى عليه الإنسان ، وما ذلك إلا لجهله بالله وكيفية استنبائه . ه .
قلت : والظاهر أنه كان مجسّماً ، يعتقد أن الله في السماء ، وأن اطلاعه إليه إنما كان ليرى هل ثَم إله ، وإن قوله : { وإِني لأظنه كاذباً } أي : في ادّعاء إله غيري ، بدليل قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى } [ القصص : 38 ] مع أنَّ هذا كله إنما هو تمويه منه على قومه ، وجرأة على الله ، لا حقيقة له .
قال تعالى : { وكذلك } أي : ومثل ذلك التزيين المفرط ، والصدّ البليغ ، { زُيِّنَ لفرعونَ سوءُ علمه } فانهمك فيه انهماكاً لا يرعوي عنه بحال ، { وصدَّ عن السبيل } أي : سبيل الرشاد ، وقرأ الكوفون ويعقوب " وصُدّ " بالبناء للمفعول ، فالفاعل في الحقيقة فيهما هو الله ، بتوسط الشيطان في عالم الحكمة ، ومَن قرأ " صَدّ " بالبناء للفاعل ، فالفاعل : فرعون ، إما صدّ الناس عن طريق الحق بأمثال هذه التمويهات ، أو : اتصف بالصدّ . { وما كيدُ فرعون إِلا في تَبابٍ } أي : خسران وهلاك .
الإشارة : ما ظهر على فرعون هو من طغيان النفس وعتوها ، فإنَّ النفس إذا اتصلت بها العوافي ، وساعدتها أقدار الجمال في الظاهر ، ادَّعت الربوبية ، فإنَّ فرعون قيل : إنه عاش أربعمائة سنة ، لم يتوجع فيها قط ، فادّعى الربوبية ، ولذا قال بعض الصوفية : في النفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حين قال : أنا ربكم الأعلى ، فكان نزول الأقدار القهرية والبلايا على العبد ، رحمة عظيمة ، تتحقق بها العبودية ، التي هي شرف العبد ورفعته . وبالله التوفيق .
(5/368)

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال الذي آمن } أي : مؤمن آل فرعون : { يا قوم اتبعون } فيما دللتكم عليه ، { أَهدِكُم سبيلَ الرشادِ } أي : طريقاً يُوصل صاحبَه إلى المقصود . والرشاد : ضد الغيّ ، وفيه تعريضٌ بأن ما يسلكه فرعون وقومه سبيل الغيّ والضلال .
{ يا قوم إنما هذه الحياةُ الدنيا متاعٌ } أي : تمتُّع يسير؛ لسرعة زوالها ، فالإخلاد إليها أصل الشر ، ومنبع الفتن ، ومنه يتشعّب فنون ما يؤدي إلى سخط الله . أَجْمل له أولاً ، ثم فَسَّر ، فاستفتح بذم الدنيا ، وتصغير شأنها ، ثم ثنَّى بتعظيم الآخرة ، وبيَّن أنها هي الموطن والمستقر بقوله : { وإِنَّ الآخرةَ هي دارُ القرارِ } ؛ لخلودها ، ودوامها ، ودوام ما فيها . قال ابن عرفة : التمتُّع بالدنيا مانع من الزهد ، وكون الآخرة دار مستقر يقتضي وجود الحرص على أسباب الحصول فيها . ه .
ثم ذكر الأعمال التي تُبعد عنها أو تُقرب إليها ، فقال : { مَن عَمِلَ سيئةً } في الدنيا { فلا يُجزَى } في الآخرة { إِلا مثلَها } عدلاً من الله تعالى . قال القشيري : له مثلها في المقدار ، لا في الصفة؛ لأن الأولى سيئة ، والمكافأة حسنة ليست بسيئة . ه . وقال ابن عرفة : في توفيه مماثلة العذاب الأبدي على كفر ساعة تتصور المماثلة ، إما باعتبار نيته الكفر دواماً ، وإما بأن يقال : ليس المراد المماثلة عقلاً ، بل المماثلة شرعاً . وفي الإحياء : قال الحسن : إنما خُلِّد أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار ، في النار ، بالنية ، وهو والله أعلم مقتبس من قوله تعالى : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] . ه . قاله المحشي .
{ ومَن عَمِلَ صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك } الذين عملوا ذلك { يدخلون الجنةَ يُرزقون فيها بغير حسابٍ } أي : بغير تقدير ، وموازنة بالعمل ، بل بأضعافٍ مضاعفة ، فضلاً من الله عزّ وجل ورحمة . قال القشيري : أي : مؤبداً مخلَّداً ، لا يخرجون من الجنة ، ولا مما هم عليه من الحال . ه . وجعل العمل عمدة ، والإيمان حالاً؛ للإيذان بأنه لا عبرة بالعمل بدونه . وأنَّ ثوابه أعلى من ذلك .
الإشارة : قال الورتجبي : سبيل الرشاد : طريق المعرفة ، ومعرفة الله تعالى : موافقته ومتابعة أنبيائه وأوليائه ، ولا تحصل الموافقة إلا بترك مراد النفس ، ولذلك قال : { يا قوم إنما هذه الحياة الدينا متاع } . قال محمد بن علي الترمذي : لم تزل الدنيا مذمومة في الأمم السابقة ، عند العقلاء منهم ، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية ، وما قام داع في أمة إلا حذَّر متابعةَ الدنيا وجمعها والحب لها ، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال : { اتبعون أهدكم سبيلَ الرشاد } ، كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد؟ قال : { إِنما هذه الحياة الدنيا متاع } أي : لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبة الدنيا وطلب لها . ه .
(5/369)

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
يقول الحق جلّ جلاله ، حاكياً عن المؤمن : { ويا قوم ما لي أدعوكم إِلى النجاةِ } ؛ إلى السلامة من النار ، { وتدعونني إِلى النار } بسلوك أسبابها . كرر نداءهم؛ إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة ، واعتناءً بالمنادَى به ، ومبالغة في توبيخهم ، وفيه أنهم قومه ، وأنه من آل فرعون ، وجيء بالواو في النداء الثالث ، دون الثاني؛ لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، بخلاف الثالث . ومدار التعجُّب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النار ، لا دعوته إياهم إلى النجاة ، كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال؛ أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر؟
{ تدعونني لأكفرَ بالله } هو بدل من ( تدعونني ) الأول ، وفيه تعليل ، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى ، كالهداية ، { وأُشركَ به } ؛ وتدعونني لأُشرك به { ما ليسَ لي به عِلٍْمٌ } أي : بربوبيته ، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم ، كأنه قال : وأُشرك به شيئاً ليس بإله ، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً؟ { وأنا أدعوكم إِلى العزيز الغفار } أي : إلى الله الجامع لصفات الألوهية ، من كمال القدرة والغلبة ، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة؛ إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب ، أو الإحسان بالغفران .
{ لا جَرَمَ } ؛ لا شك ، أو : حقاً ، وقال البصريون : " لا " : نفي رد لِما دعوه إليه ، و " جرم " : فعل ، بمعنى : حقّ ، و " أن " مع " ما " في حيزه؛ فاعل ، أي : حق ووجب { أنّما تدعونني إِليه ليس له دعوةٌ في الدنيا ولا في الآخرة } أي : وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها ، والظاهر : أن " جَرَمَ " من الجرم ، وأراد به هنا الكذب ، أي : لا كذب في أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة . . . الخ ، فقد يضمن الفعل معنى المصدر ، وتدخل " لا " النافية للجنس عليه ، والمعنى : أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة إلى نفسه قط ، ومن حق المعبود بالحق أن يدعوَ العباد إلى طاعته ، وما تدعونني إليه لا يدعو هو إلى عبادته ، ولا يدّعي الربوبية ، أو : معناه : ليس له استجابة دعوة في الدنيا والآخرة ، أو : دعوة مستجابة . جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ، ولا منفعة ، كلا دعوة . { وأنَّ مردَّنا إِلى الله } أي : رجوعنا إليه بالموت ، { وأنَّ المسرفين } في الضلال والطغيان ، كالإشراك وسفك الدماء ، { هم أصحابُ النار } أي : ملازموها .
{ فستذكُرون ما أقولُ لكم } من النصائح عند نزول العذاب ، { وأُفوِّضُ } ؛ أُسلّم { أمري إِلى الله } ، قال لَمّا توعّدوه . { إِنَّ الله بصير بالعبادِ } فيَحْرُسُ مَن يلوذ به من المكاره .
{ فوقاه اللهُ سيئاتِ ما مكروا } ؛ شدائد مكرهم ، وما هَمُّوا به من إلحاق أنواع العذاب لِمَن خالفه ، وقيل : إنه خرج من عندهم هارباً إلى جبل ، فبعث قريباً من ألفٍ في طلبه ، فمنهم مَن أكلته السباع ، ومَنْ رجع منهم صَلَبه فرعونُ .
(5/370)

وقيل : لَمَّا وصلوا إليه ليأخذوه ، وجدوه يُصلّي ، والوحوش حوله ، فرجعوا رُعباً ، فقتلهم . وقال مقاتل : لمّا قال المؤمن هذه الكلمات ، قصدوا قتله ، فوقاه الله من مكرهم ، أي : بعد تفويض أمره إلى الله ، فقيل : إنه نجا مع موسى في البحر . ه . { وحاقَ } ؛ نزل { بآلِ فرعونَ } أي : بفرعون وقومه . وعدم التصريح به ، للاستغناء بذكرهم عن ذكره ، ضرورة أنه أولى منهم بذلك ، و { سوءُ العذاب } ؛ الغرق والقتل والنار .
وقوله تعالى : { النارُ يُعرضون عليها غُدوّاً وعَشِيّاً } : جملة مستأنفة ، مسوقة لبيان سوء العذاب ، والنار : خبر عن محذوف ، كأن قائلاً قال : ما سوء العذاب؟ فقيل : هو النار ، أو : بدل من " سوء " ، و " النار " : مبتدأ ، و " يُعرضون " : خبر ، وعَرْضهم عليها : إحراقهم ، يقال : عرض الإِمَام الأسارى على السيف : إذا قتلهم به . وذلك لأرواحهم ، كما روى ابنُ مسعود : أن أرواحهم في أجواف طير سُود ، تُعرض على النار أي : تحرق بها بكرة وعشياً ، إلى يوم القيامة ، وتخصيص الوقتين إما لأنهم يُعذّبون في غيرهما بجنسٍ آخر ، أو : يخفف عنهم ، أو : يكون غدوّاً وعشياً عبارة عن الدوام .
هذا في الدنيا في عالم البرزخ ، { ويومَ تقومُ الساعةُ } يُقال للخزنة : { أَدْخِلوا آلَ فرعونَ } ، من الإدخال الرباعي ، ومَن قرأ : ادخُلوا ، ثلاثيّاً ، فعلى حذف النداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون { أشدَّ العذابِ } أي : عذاب جهنم ، فإنه أشدّ مما كانوا فيه . أو : أشد عذاب النار؛ فإنّ عذابها ألوان ، بعضه أشد من بعض ، وهذه الآية دليل على عذاب القبر في البرزخ ، وهو ثابت في الأحاديث الصحاح .
الإشارة : النجاة التي دعاهم إليها : هي الزهد في الدنيا ، وفي التمتُّع بها مع الاشتغال بالله ، والنار التي دعوه إليها : هي الاشتغال بمتعة الدنيا مع الغفلة عن الله . لا جَرَمَ أنَّ ما دعوه إليه لا منفعة له في الدارين ، بل ضرره أقرب من نفعه . وقوله تعالى : { وأنَّ مَردّنا إلى الله } قال الورتجبي : مرد المحبين إلى مشاهدته ، ومرد العارفين إلى الوصلة ، ومرد الكل إلى قضيات الأزلية .
قال حمدون القصّار : لا أعلم في القرآن أرجى من قوله : { وأنَّ مَردَّنا إِلى الله } ، فقد حكي عن بعض السلف أنه قال : الكريمُ إذا قدر عفا ، وإنما يكون مرد العبد إلى ربه إذا أتاه على أمد الإفلاس والفقر ، لا أن يرى لنفسه مقاماً في إحدى الدارين ، وهو أن يكون في الدنيا خاشعاً لمَن يذله ، ولا يلتفت إليه ، هارباً ممن يكرمه ويبره ، ويكون في الآخرة طالباً لفضل الله ، مشفقاً من حسناته أكثر من إشفاق الكفار من كفرهم . ه . قلت : هذا مقام العباد والزهّاد ، وأما العارفون فلا يرون إلا الله ، فيلقون الله بالله ، غائبون عن إحسانهم وإساءتهم .
(5/371)

وقوله تعالى : { فستذكرون ما أقولُ لكم } هكذا يقول الواعظ إن لم ينفع وعظه ، ويُفوض أمره وأمرهم إلى الله؛ فإنَّ الله بصيرٌ بهم . وقال بعضهم : وأُفوضُ أمري في الدنيا والآخرة إلى الله ، فهو بصير بعجزي وضعفي عن رد القضاء والقدر ، والتفويض : ألا يرى لنفسه ، ولا للخلق جميعاً ، قدرةً على النفع والضر ، فيرى الله بإيجاد الموجود في جميع الأنفاس ، بنعت المشاهدة والحال ، لا بنعت العلم والعقل . وقال بعضهم : التفويض : قبل نزول القضاء ، والتسليم : بعد نزول القضاء . وقال ذو النون حين سُئل عنه : متى يكون العبد مفوضاً؛ قال : إذا أيس من فعله ونفسه ، والتجأ إلى الله في جميع أحواله ، ولم تكن له علاقة سوى ربه . ه . أي : لم يكن له تعلُّق إلا بالله . فالمقامات ثلاث : التفويض قبل النزول ، والرضا بعده بالمجاهدة ، والتسليم بلا مجاهدة .
وقوله تعالى : { فوقاه الله سيئاتِ ما مكروا } هذه نتيجة التفويض ، فكُلّ من فوّض أمره إلى الله فيما ينزل به ، وقاه الله جميع المكاره ، وكُلَّ ما يخشى؛ إن قطع عن قلبه التعلُّق بغير الله ، كما هو حقيقة التفويض . قال القشيري : أشدُّ العذاب على الكفار : يأسُهم عن الخروج ، وأما العصاة من المؤمنين فأشدُّ عذابهم : إذا علموا أن هذا يومُ لقاءِ المؤمنين . ه . أي : وهم قد حُرموا ذلك .
(5/372)

وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذ يتحاجُّونَ في النار } أي : واذكر لقومك وقت تخاصم الكفار في النار ، { فيقول الضعفاءُ } منهم { للذين استكبروا } وهم رؤساؤهم : { إِنا كنا لكم تَبَعاً } ، وهو جمع تابع ، كخادم وخدَم ، أو : ذوي تَبَع ، على أنه مصدر ، أو : وصف به للمبالغة ، { فهل أنتم مُغنونَ عنا نصيباً من النار } أي : فهل أنتم دافعون ، أو : حاملون عنا جزءاً من النار؟ { قال الذين استكبروا إِنَّا كلٌّ فيها } ، التنوين عوض عن المضاف ، أي : كلنا فيها ، لا يُغني أحد عن أحد . وقرىء ( كُلاًّ ) بالنصب على التأكيد ، وهو ضعيف لخلوه من الضمير . { إِنَّ الله قد حَكَمَ بين العباد } ؛ قضى بينهم ، بأن أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، لا مرد له ، ولا مُعقب لحُكمه ، فلا يُغني أحد عن أحد شيئاً .
قال ابن عرفة : في الآية لف ونشر ، فقوله تعالى : { إِنَّ كلٌّ فيها } راجع لقوله : { إِنا كنا لكم تبعاً } أي : إنا قد حصلنا جميعاً في النار ، فَجُوزي كلٌّ على قدر عمله ، أنتم على ضلالكم ، ونحن على إضلالنا إياكم . وقوله : { إِن الله قد حكم بين العباد } راجع لقوله : { فهل أنتم مُغنون عنا } وبهذا المعنى يتقرر الجواب . ه .
{ وقال الذين في النار لخزنةِ جهنَّمَ } ؛ للقُوّام بتعذيب أهلها ، وإنما لم يقل : لخزنتها؛ لأن في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً ، ويحتمل أنّ جهنم هي أبعدُ النار قعراً ، من قوله : بئر جَهنام ، أي : بعيدة القعر ، وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم ، أو : لكون الملائكة الموكّلين بعذاب أهلها أقدر على الشفاعة؛ لمزيد قربهم من الله ، فلهذا تعمّدوهم بطلب الدعوة ، فقالوا لهم : { ادعوا ربكم يُخفّفْ عنا يوماً } أي : مقدارَ يوم من الدنيا { من العذابِ } ، واقتصارهم في الاستدعاء على ما ذكر في تخفيف قدر يسير من العذاب في مقدار قصير من الزمان ، دون رفعه رأساً ، أو : تخفيف منه في زمان مديد؛ لأن ذلك عندهم ليس في حيز الإمكان ، أو لا يكاد يدخل تحت أمانيهم .
{ قالوا } أي : الخزنة ، توبيخاً لهم ، بعد مدة طويلة : { أَوَلَمْ تَكُ } أي : القصة { تأتيكم رُسلُكم بالبينات } ؛ بالمعجزات ، يَتْلُون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ أرادوا بذلك إلزامهم الحجة ، وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء ، وتعطيل أسباب الإجابة ، { قالوا } أي : الكفار : { بلى } أتونا بها ، فكذبناهم وقلنا : ما نزَّل اللهُ من شيء . { قالوا } أي : الخزنة تهكُّماً بهم : { فادْعُوا } أي : إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم ، فإنَّ الدعاء لمَن يفعل ذلك مما يستحيل صدوره . منا . زاد البيضاوي : إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم ، وبحث معه أبو السعود بأنه يُوهم أن المانع هو عدم الإذن ، وأنَّ الإذن في حيز الإمكان ، ولا تجوز الشفاعة في كافر . انظره . قال تعالى : { وما دعاءُ الكافرين إِلا في ضلالٍ } ؛ في ضياع وبطلان ، لا يُجابون فيه؛ لأنهم دعوا في غير وقته ، ويحتمل أن يكون من كلام الخزنة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الآية تجر ذيلها على كلّ مَن له جاه ، فدعا إلى سوء ، بمقاله أو حاله ، فتبعه العامة على ذلك ، فيتحاجُّون يوم القيامة فيقول المستضعفون : إنا كنا لكم تبعاً . فكل مَن أمر بسوء ، وفُعِل ، عُوقب الآمر والمأمور ، وكل مَن فعل فعلاً خارجاً عن السُنَّة ، كالرغبة في الدنيا ، والتكاثر منها ، فتبعه العامة على ذلك ، عُوتب الجميع ، وبالله التوفيق .
(5/373)

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا لَننصرُ رُسُلَنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } بالحجّة والظفر ، والانتقام لهم من الكفرة ، بالاستئصال ، والقتل ، والسبي ، وغير ذلك من العقوبات . ولا يقدح في ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة ، امتحاناً؛ إذ الحكم للغالب ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا . . . } [ الصافات : 171 ] الآية ، وقوله : { كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . والنصر في الدنيا إما بالسيف ، في حق مَن أمر بالجهاد ، أو : بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤثر به ، وبذلك يندفع قول مَن زعم تخصيص الآية أو تعميمها ، وإخراجَ زكريا ويحيى من الرسالة ، وإنْ ثبت لهما النبوة لقتلهما ، وأن الآية ، إنما تضمنت نصر الرسل دون الأنبياء ، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى ، ففي كلام ابن جزي هنا نظر . قاله المحشي .
{ ويومَ يقومُ الأشهادُ } أي : وننصرهم يوم القيامة ، عبَّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة ، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون ، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم ، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب . قال النسفي : الأشهاد جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ، والحفظة يشهدون على بني آدم . ه .
{ يوم لا ينفعُ الظالمين معذرتُهم } : هو بدل من { يوم يقوم } أي : لا يقبل عذرهم ، ومَن قرأ بالتأنيث فباعتبار لفظ المعذرة ، { ولهم اللعنةُ } أي : البُعد من الرحمة ، { ولهم سوءُ الدار } أي : سوء دار الآخرة ، وهو عذابها .
الأشارة : كما نُصرت الرسل بعد الامتحان ، نُصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان . قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذُل ّ حتى عزوا . . إلخ . وهم داخلون في قوله : { والذين آمنوا في الحياة الدنيا } ، ونصرتهم تكون أولاً بالظفر بنفوسهم ، ثم بالغيبة عن حس الكائنات ، باتساع دائرة المعاني ، ثم بالتصرف في الوجود بأسره بهمته . قال القشيري : ويقال : ينصرهم على أعدائهم بلطف خفيّ ، وكيد غير مرئيّ ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، كما ينصرهم في الدنيا على تحقيق المعرفة ، واليقين بأنَّ الكائنات من الله . ثم قال : غاية النصرة أن يَقتُلَ الناصرُ عدوَّ مَنْ ينصره ، فإذا رآه حقق له أنه لا عَدُو له في الحقيقة ، وأنَّ الخلق أشباحٌ ، وتجري عليهم أحكام القدرة ، فالولِيُّ لا عدوَّ له ولا صديق ، ليس له إلا الله . قال الله تعالى : { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } [ البقرة : 257 ] ه . والنصر في الحقيقة هو التأييد عند التعرفات ، فإذا ابتلي الرسول أو الولي أيّده الله باليقين ، ونصره بالمعرفة ، فيلقي ما ينزل عليه بالرضا والتسليم ، وتذكَّر ما لقي به الشاذلي حين دعا بالسلامة مما ابتلي به الرسل ، متعللاً بأنهم أقوى ، فقيل له : قل : وما أردتَ من شيء فأيِّدنا كما أيدتهم . ه .
(5/374)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد آتينا موسى الهدى } ؛ ما يهتدي به من المعجزات ، أو الشرائع والصُحف . { وأورثنا بني إِسرائيل الكتابَ } أي : تركنا فيهم التوراة ، يرثه بعضهم من بعض ، أو : جنس الكتاب ، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور؛ لأنَّ المنزَّل عليه منهم . قال الطيبي : فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي ، الناطق بالحكمة والموعظة . ه . حال كون الكتاب { هُدًى وذكرى } أي : هادياً ومُذكِّراً ، أو : إرشاداً وتذكرة { لأولي الألبابِ } ؛ لأولي العقول الصافية ، العالِمين بما فيه ، العاملين به .
{ فاصبرْ إِنَّ وَعْدَ الله حقٌّ } أي : فاصبر على ما يُجرّعك قومك من الغُصَص { إِنَّ وعد الله } بنصرك وإعلاء دينك ، على ما نطق به قوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 173 ] ، { حقٌّ } لا يحتمل الاختلاف بحال . قال الطيبي : الآية تشير إلى نصره على أعدائه ، كموسى ، وأنه يظهر دينه على الدين كله ، ويورث كتابه؛ ليعتصموا به ، فيكون لهم هُدًى وذكرى ، وعزّاً وشرفاً . ه . أي : ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر؛ ليتم التشبيه .
{ واستغفر لذنبك } ، تشريعاً لأمتك؛ فإِنَّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النصر ، أو : تداركاً لِمَا فرط منك من ترك الأَوْلَى في بعض الأحايين ، فإِنَّ حسنات الأبرار سيئات المقربين . والحاصل : أن كل مقام له ذنب يليق به ، وهو التقصير في القيام به على ما يليق به ، فالنبي صلى الله عليه وسلم كُلف بدوام الشهود ولو في حال التعليم ، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم ، كان في حقه نقصاً يُوجب الاستغفار . ثم قال : { وسبّحْ بحمد ربك بالعشيّ والإِبكار } أي : دُم على التسبيح ملتبساً بحمده ، أي : قل : سبحان الله وبحمده ، أو : صَلّ في هذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيّاً ، وقيل : هما صلاة العصر والفجر ، خصصهما لشرفهما .
{ إِنَّ الذين يُجادلون في آياتِ الله } ويجحدونها { بغير سُلطانٍ } ؛ برهان { أتاهُم } من جهته تعالى ، بل عناداً وحسداً . وتعليق المجادلة بذلك ، مع استحالة إتيانه؛ للإيذان بأن التكلم في أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان ، وهذا عام لكل مجادل ، محق أو مبطل ، وإن نزل في مشركي مكة . وقوله : { إِن في صُدورِهم إِلا كِبْرٌ } : خبر " إِنْ " ، أي : ما في قلوبهم إلا تكبُّر عن الحق ، وتعاظم عنه ، وهو إرادةُ التقدم والرئاسة ، وألا يكون أحدٌ فوقهم ، فلذلك عادوك ، ودفعوا آياتك ، خيفة أن تتقدمهم ، ويكونوا تحت قهرك؛ لأن النبوة تحتها كُل ملك ورئاسة ، أو : إرادة أن تكون لهم النبوة دونك ، حسداً وبغياً ، كقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ }
(5/375)

[ الأحقاف : 11 ] .
ثم وصف كِبْرَهم بقوله : { ما هم ببالغِيه } أي : ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه ، وهو ما أرادوه من التقدُّم والرئاسة ، وقيل : نزلت في اليهود ، وهم المجادلون ، كانوا يقولون : لست صاحبنا المذكور في التوراة ، بل هو المسيح ابن داود ، يعنون الدجال ، يخرج في آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من آيات الله ، فيرجع إلينا المُلك فسمى الله تمنيهم بذلك كِبْراً ، ونفى أن يبلغوا متمناهم . { فاستعذ بالله } ؛ فالتجىء إليه من كبد مَن يحسدك ، ويبغي عليك ، { إِنه هو السميعُ } لِمَا تقول ويقولون ، { البصير } بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم ، وعاصمك من شرهم .
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله ، إنَّ وعد الله بالفتح حق إن صبرت ، وكابدت ولم تملّ ، واستغفر لذنبك ، وتطهرْ من عيبك ، لتدخل حضرة ربك . قال الورتجبي : " واستغفر لذنبك " أي : لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية ، وأيضاً : استغفر لرؤية وجودك في وجود الحق ، فإنَّ كون الحادث في وجود القديم ذنب في إفراد القدم من الحدوث . انظر تمامه .
وقوله تعالى : { وسبّح . . . } الخ ، فيه الحث على التوجُّه إلى الله في هذين الوقتين ، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام ، فمَن فتح يومه بخير ، وختمه بخير ، حكم على بينهما . وقال في أهل الإنكار : { إِن الذين يُجادلون في آيات الله . . . } الآية ، فاستعذ بالله منهم ، وغِبْ عنهم بإقبالك على مولاك . وبالله التوفيق .
(5/376)

لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
يقول الحق جلّ جلاله : { لَخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلقِ الناسِ } ، فمَن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته؛ وبعثه مع مهانته؛ أقدر ، { ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون } ذلك؛ لأنهم لا يتفكرون؛ لغلبة الغفلة عليهم ، وعمى بصيرتهم .
{ وما يستوي الأعمى والبصيرُ } أي : الغافل والمستبصر ، { ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيءُ } ؛ ولا يستوي المحسن والمسيء ، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى ، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت ، وهي فيما بعد البعث ، فيرتفع المستبصر المحسن في أعلى عليين ، ويسقط الغافل المسيء في أسفل سافلين . وزيادة " لا " في المسيء؛ لتأكيد النفي؛ لطول الكلام بالصلة . { قليلاً ما يتذكرون } أي : تذكراً قليلاً يتذكرون . وقرىء بالغيبة ، والخطاب ، على الالتفات . { إِنَّ الساعة لآتيةٌ لا ريبَ فيها } ؛ لا شك في مجيئها؛ لوضوح دلائلها ، وإجماع الرسل على الوعد بوقوعها ، { ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يؤمنون } ؛ لا يُصدقون بوقوعها؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسُّون .
الإشارة : التفكُّر في العوالم العلوية والسُفلية ، يُوجب في القلب عظمة الحق جلّ جلاله ، وباهر قدرته وحكمته ، وإتيان البعث لا محالة؛ لنفوذ القدرة في الجميع . وكونُ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان ، إنما هو باعتبار الجرم الحسي ، وأما باعتبار المعنى؛ فالإنسان أعظم؛ لاشتماله على العوالم كلها ، كما قال في المباحث :
اعْقِلْ فأَنْتَ نُسخةُ الوُجُود ... ِلله ما أعلاكَ مِن مَوجُود
أَليس فِيكَ العرْشُ والكرسِيُّ ... والعَالَمُ العلويُّ والسُّفليُّ؟
(5/377)

وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال ربُّكُم ادعوني } أي : اعبدوني { أَستجبْ لكم } أي : أثبكم ، ويدل على هذا قوله : { إِن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين } ؛ صاغرين أذلاء ، أو : اسألوني أعطكم ، على ما أريد ، في الوقت الذي أريد . قال القشيري : والحكمة في أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة ، وبالاستغفار قبل المغفرة ، أنه حكم في اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل ، ولكن أمر بالسؤال ، حتى إذا وجدته تظن أنك وجدته بدعائك ، فتفرح به .
قلت : السؤال سبب ، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى . ثم قال : ويقال : إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما مِن مؤمنٍ يدعو الله ، ويسأله شيئاً ، إلا أعطاه إياه ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة . حيث يقال له : هذا ما طلَبْتَه في الدنيا ، وقد ادخرتُه لك إلى هذا اليوم ، حتى يَتَمنى العبدُ أنه لم يُعطَ شيئاً في الدنيا . ه .
قلت : فالدعاء كله إذاً مستجاب ، بوعد القرآن ، لكن منه ما يُعجّل ، ومنه ما يُؤجّل ، ومنه ما يصرف عنه به البلاء ، كما في الأثر ، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلاً منزلة الاستكبار عن العبادة؛ للمبالغة في الحث عليه . قال صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " وقرأ الآية ، وفي رواية : " مخ العبادة " ، وعن ابن عباس : " وحَدوني أغفر لكم " ، فسَّر الدعاء بالعبادة ، والعبادة بالتوحيد .
الإشارة : اختلف الصوفية أيّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء والابتهال ، أو السكوت والرضا؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلّى فيه قلبه ، فإن انشرح للدعاء فهو في حقه أفضل ، وإن انقبض عنه ، فالسكوت أولى ، والغالب على أهل التحقيق من العارفين ، الغنى بالله ، والاكتفاء بعلمه ، كحال الخليل عليه السلام ، فإنهم إبراهيميون .
قال الورتجبي : أي : ادعوني في زمن الدعاء الذي جعلته خاصّاً لإجابة الدعوة ، فادعوني في تلك الأوقات ، أستجب لكم؛ فإنَّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومَن لم يعرف أوقات الدعاء ، فدعاؤه ترك أدب؛ فإن الدعاء في وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يُسأل منه ، وإذا كان مستبشراً فيكون زمانه زمن العطاء والكرم .
قلت : هذا في حق الخصوص ، الفاهمين عن الله ، وأما العموم ، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء في الرخاء والشدة : قال تعالى : { فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } [ الأنعام : 43 ] ثم قال عن الورّاق : ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء ، حيث لا يكون لكم مرجع إلى سواي ، أستجب لكم . ه .
(5/378)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
يقول الحق جلّ جلاله : { الله الذي جعلَ لكم الليلَ لتسكنوا فيه } بأن خلقه مظلماً بارداً ، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح ، { و } جعل { النهارَ مبصراً } أي : مبصَراً فيه . فأسند الإبصار إلى النهار ، مجازاً ، والأصل في الحقيقة لأهل النهار . وقرن الليل بالمفعول له ، والنهار بالحال ، ولم يكونا حالين أو مفعولاً لهما؛ رعايةً لحق المقابلة ، لأنهما متقابلان معنىً؛ لأن الليل مقابل النهار ، فلما تقابلا معنىً تقابلا لفظاً ، مع أن كل واحد منهما يؤدي مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل : لتُبصروا فيه؛ فاتت الفصاحة التي في الإسناد مجازي ، ولو قيل : " ساكناً " لم تتميز الحقيقة من المجاز ، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، أي : ساكن لا ريحَ فيه .
{ إِنَّ الله لذو فضلٍ } عظيم { على الناس } ، حيث تفضَّل عليهم بهذه النعم الجسيمة ، وإنما لم يقل : المتفضل؛ لأن المراد تكثير الفضل ، وأنه فضله لا يوازيه فضل ، فالتنكير للتعظيم . { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يشكرون } ؛ لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواضع النعم . وتكرير الناس ، ولم يقل : أكثرهم؛ لتخصيص الكفران بهم ، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران ، كقوله : { إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ } [ الحج : 66 ] .
{ ذلكمُ الله } أي : ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية ، من خلق الليل والنهار؛ هو الله { ربكُم } لا ربّاً غيره ، { خالقُ كل شيء لا إِله إِلا هو } أخبار مترادفة ، أي : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية ، وإيجاد الأشياء ، والوحدانية ، { فأنَّى تُؤفكون } أي : فكيف ، ومِن أيّ وجه تُصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! { كذلك يُؤفك الذين كانوا بآياتِ الله يجحدون } أي : مثل ذلك الإفك العجيب ، الذي لا وجه له ، ولا مصحح له أصلاً ، يُؤفك كلُّ مَن جحد بآياته تعالى من غير تروٍّ ولا تأمُّل .
ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان ، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان ، فقال : { الله الذي جعل لكم الأرضَ قراراً } ؛ مستقراً تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم ، { والسماء بناءً } ؛ سقفاً فوقكم ، كالدنيا بيت سقفه السماء ، مزيّناً بالمصابيح ، وبساطه الأرض ، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت . { وصوَّركم فأحسنَ صُورَكم } ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام ، أي : صوّركم أحسن تصوير ، حيث جعلكم مُنتصِبَ القامة ، باديَ البشرة ، متناسب الأعضاء والتخطيطات ، متهيئاً لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات . قيل : لمْ يخلق الله حيواناً أحسن صورة من الإنسان . { ورزقكم من الطيبات } أي : اللذائذ ، { ذلكم الله ربكم } أي : ذلكم المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، هو المستحق للربوبية ، { فتبارك الله } أي : تعالى بذاته وصفاته { ربُّ العالمين } أي : مالكهم ومربيهم ، والكل تحت قدرته مفتقر إليه في إيجاده وإمداده؛ إذ لو انقطع إمداده لانْهَدَ الوجود .
{ هو الحيُّ } ؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ، { لا إِله إِلا هو } ؛ إذْ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله ، { فادعوه } ؛ فاعبدوه { مخلِصين له الدينَ } أي : الطاعة من الشرك والرياء ، وقولوا : { الحمد لله ربِّ العالمين } .
(5/379)

عن ابن عباس رضي الله عنه : مَن قال " لا إله إلا الله " فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين .
الإشارة : الله هو الذي جعل ليل القبض لتسْكنوا فيه عند الله ، ونهار البسط لتُبصروا نعم الله ، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله ، وجعل أرض النفوس قراراً لقيام وظائف العبودية ، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الربوبية . قال القشيري : سكونُ الناس بالليل أي : الحسي على أقسام : فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم ، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم ، فشتّان بين سكون غفلةٍ ، وسكونِ وصلة ، وقومٌ يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقومٌ إلى حلاوة أعمالهم ، وبسطهم ، واستقبالهم ، وقومٌ يعدِمون القرار في ليلهم ونهارهم أي : لا يسكنون إلى شيء أولئك أصحابُ الاشتياق ، أبداً في الإحراق ه .
وقوله تعالى : { وصَوَّرَكُم } أي : صَوَّر أشباحكم ، فأحسن صورتها ، حيث بهَّجها بأنوار معرفته . قال الورتجبي : فأحْسن صُوَرَكم بأن ألبستكم أنوار جلالي وجمالي ، واتخاذِكم بنفسي ، ونفخت من روحي فيكم ، الذي أحسن الهياكل مِن حسنه ، ومِن عكْس جماله ، فإنه مرآة نوري الجلي للأشباح . ه . قال القشيري : خَلَقَ العرشَ والكرسي والسمواتِ والأرض ، وجميع المخلوقات ، ولم يقل في شيء منها : فأحسن صورها ، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان ، وليس الحَسَنَ ما يستحسنه الناسُ ، ولكن الحسنُ ما يستحسنه الحبيبُ ، وأنشدوا :
مَا حَطَّكَ الْوَاشُونَ عَن رُتبةٍ ... عنْدِي ، ولاَ ضَرَّكَ مُغْتَابُ
كأَنَّهم أَثْنَوْا ولَمْ يَعْلَمُوا ... عَلَيْكَ عِنْدِيَ بِالَّذِي عَابوا
لم يَقُلْ للشمس في عُلاها ، ولا للأقمار في ضيائها : ( فأَحسنَ صُوَرَكم ) ولما انتهى إلينا قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . ثم قال : وكما أحسن صُوركم محى من ديوانكم الزلاّت ، وأثبت الحسنات ، قال الله تعالى : { يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ وُيُثْبِتُ } [ الرعد : 39 ] ه .
قوله تعالى : { ورزقكم من الطيبات } لذيذ المشاهدة ، وأنس الوصلة . وقوله تعالى : { هو الحي } الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشيء ، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معاني ذاته ، ومَن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله ، بحيث كان له نور يمشي به في الناس ، كان كل مَن لقيه حييت روحه بمعرفة الله ، ولذلك يضم الشيخُ المريدَ إليه ، إن رآه لم ينهض حاله ، ليسري حاله فيه ، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبي عليهما السلام . وبالله التوفيق .
(5/380)

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
يقول الحق جلّ جلاله : { قُل إِني نُهيتُ أن أعبدَ الذين تدعونَ } أي : تعبدون { من دون الله } ولم يكن عَبَدَها قط ، { لَمَّا جاءنيَ البيناتُ من ربي } ؛ من الحُجَج العقلية ، والآيات التنزيلية .
قال الطيبي : معرفة الله تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل ، وقد ترد الأدلة العقلية في مضمون السمعية ، أما وجوب عبادة الله ، وتحريم عبادة الأصنام ، فحُكْمٌ شرعي؛ لقوله : { قل إني نُهيت } أي : حَرُم عليّ ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة ، خلافاً للمعتزلة في الإيجاب قبل الشرع ، للتحسين والتقبيح ، والمعنى : أن قضية التقليد تُوجب ما أنتم عليه ، ولكني خُصصت بأمر دونكم ، كما قال إبراهيم : { يَآ أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ . . . } [ مريم : 43 ] إلخ كلامه ، { وأُمرت أن أُسْلِمَ } ، أن أنقاد وأُخلص ديني { لربِّ العالمين } .
{ هو الذي خلقكم من ترابٍ } أي : أصلكم ، وأنتم في ضمنه ، { ثم من نطفةٍ } أي : ثم خلقكم خلقاً تفصيليّاً من نطفة تُمنى ، { ثم من علقةٍ ، ثم يُخرجكم طفلاً } أي : أطفالاً ، واقتصر على الواحدة؛ لأن المرادَ الجنس ، { ثم لتبلغوا أشُدَّكم } : متعلق بمحذوف ، أي : ثم يُبقيكم لتبلغوا أشدَّكم ، وكذلك { ثم لتكونوا شُيوخاً } ، وقيل : عطف على محذوف ، عِلة ليُخرجكم ، ف " يخرجكم " من عطف علة على أخرى ، كأنه قيل : ثم يخرجكم طفلاً لتكبروا شيئاً فشيئاً ، ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل ، ثم لتكونوا شيوخاً ، بكسر الشين وضمها جمع شيخ ، وقرىء " شيخاً " كقوله : " طفلاً " .
{ ومنكم مَن يُتوفى من قبلُ } عبارة تجري في الأدراج المذكورة ، فمِن الناس مَن يموت قبل أن يُخرج طفلاً ، وآخرون قبل الأشدّ ، وآخرون قبل الشيخوخة . { ولتبلغوا أجلاً مسمى } أي : وفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مُسمى ، أي : ليبلغ كل واحد منكم أجلاً مسمى لا يتعداه ، وهو أجل موته ، { ولعلكم تعقلون } ؛ ولكي تعقلوا ما في ذلك من العِبَر ، والحجج ، وفنون الحِكَم؛ فإنَّ ذلك التدريج البديع يقضي بالقدر السابق ، ونفوذ القدرة القاهرة؛ لبُعد ذلك التفاوت ، والاختلاف العظيم ، عن الطبيعة والعلة ، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية ، ولذلك عقّبه بقوله :
{ هو الذي يُحيي ويُميتُ } دفعاً لما قد يُتوهم من كونه لم يذكر الفاعل في قوله { ومنكم مَن يُتوفى من قبل } أن ذلك من فساد مزاجه ، أو قتل غيره قبل أجله ، فرفع ذلك الإبهام بقوله : { هو الذي يُحيي ويُميت } لا غيره ، أي : يحيي الأموات ، ويميت الأحياء ، أو : يفعل الإحياء والإماتة ، { فإِذا قَضَى أمراً } أي : أراد أمراً من الأمور ، { فإِنما يقولُ له كن فيكون } من غير توقُّف على شيء من الأشياء أصلاً ، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى في الأشياء عند تعلُّق إرادته بها ، وتصوير سرعة ترتُّب المكونات على تكوينه ، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور .
(5/381)

الإشارة : إذا دخل المريد مقامَ التجريد ، طالباً لأسرار التوحيد والتفريد ، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين ، يقول : { إِني نُهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله . . . } الآية . والبينات التي جاءته من ربه ، هو اليقين الكبير بأن الله يرزق أهلَ التقوى بغير أسباب ، لقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 - 3 ] وفي هذا المعنى قال الغزالي رضي الله عنه :
تَرَكْتُ لِلنَّاسِ دِينَهُم ودُنْيَاهُم ... شُغْلاً بِذِكْرِكَ يَا دِيني وَدُنْيَاي
قال القشيري : قل يا محمد : إِني نُهيت وأُمرتُ بالتبرِّي مما عبَدتم ، والإعراضِ عما به اشتغلتم ، والاستسلام للذي خَلَقني ، وبالنبوة خصّني . ه . وكما تتربى النطفة الإنسانية في الرحم ، تتربى نطفة الإرادة وهي المعرفة العيانية في القلب ، فإذا عقد المريد نكاح الصُحبة مع الشيخ ، قذف في قلبه نطفة الإرادة ، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان ، فهي ولادته طفلاً ، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده ، وهو كماله ، ثم يكون شيخاً مريباً؛ إن أَذِنَ له . والله تعالى أعلم .
(5/382)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
قلت : { الذين يُجادلون } : بدل من الموصول قبله المجرور ، أو : رفع ، أو : نصب على الذم .
يقول الحق جلّ جلاله : { أَلَمْ تَرَ إِلى الذين يُجادلون في آيات الله } ، كرر الحق تعالى الجدال في هذه السورة ثلاث مرات ، فإما أن يكون في ثلاث طوائف : الأول في قوم فرعون ، والثاني في اليهود ، والثالث في المشركين ، وإما للتأكيد ، أي : انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آيات الله الواضحة ، الموجبة للإيمان بها ، الزاجرة عن الجدال فيها ، { أَنَّى يُصْرَفُون } أي : كيف يُصرفون عنها ، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية .
وهذا تعجيب من أحوالهم الركيكة ، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن ، أو بسائر الكتب والشرائع ، كما أبانه بقوله : { الذي كذَّبوا بالكتاب } أي : بالقرآن ، أو : بجنس الكتب السماوية ، { وبما أرسلنا به رسلنا } من سائر الكتب ، أو : الوحي ، أو : الشرائع ، { فسوف يعلمون } عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب ، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات .
{ إِذِ الأغلالُ في أعناقهم } أي : سوف يعلمون حين تكون الأغلال في أعناقهم . و " إذ " : ظرف للماضي ، والمراد به هنا : الاستقبال؛ لأن الأمور المستقبلة لَمّا كانت محققة الوقوع ، مقطوعاً بها ، عبّر بما كان ووُجد . { و } في أعناقهم أيضاً { السلاسلُ } . وفي تفسير ابن عرفة : ولا يجوز مثل ذلك في العقوبات الدنيوية ، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ ، وفاعله مخطىء غاية الخطأ ، ولم يذكر الأئمة في اعتقال المحبوس للقتل؛ إلا أنه يجعل القيد من الحديد في رِجْلِه ، خيفة أن يهرب ، وأما عنقه فلا يُجعل فيه شيء . ه . { يُسْحَبون في الحميم } أي : يُجرّون في الماء الحارّ ، وهو استئناف بياني ، كأن قائلاً قال : فماذا يكون حالهم بعد ذلك؟ فقال : يُسحبون في الحميم ، { ثم في النار يُسْجَرُون } ويُحرقون ، من سَجَر التنّور : إذا ملأه بالوقود ، والمراد : أنهم يُعذبون بأنواع العذاب ، ويُنقلون من لون إلى لون .
{ ثم قيلَ لهم أين ما كنتم تُشركون من دون الله قالوا ضَلُّوا عنا } أي : غابوا ، وهذا قبل أن يُقرن بهم آلهتهم ، أو : ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم ، { بل لم نكن ندعو من قبلُ شيئاً } أي : تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئاً . أو : يكون إنكاراً منهم ، كقولهم : { واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي لتحققه . { كذلك } أي : مثل ذلك الضلال الفظيع { يُضل الله الكافرين } حيث لا يهتدون إلى شيء ينفعهم في الآخرة ، أو : كما ضلّ عنهم آلهتهم يُضلهم الله عن آلهتهم ، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا .
{ ذلكم } الإضلال { بما كنتم تفرحون في الأرض } أي : تبطرون وتتكبرون { بغير الحق } ، بل بالشرك والطغيان ، { وبما كنتم تمرحون } ؛ تفخرون وتختالون ، أو : تتكبرون وتعجبون .
(5/383)

والالتفات إلى الخطاب؛ للمبالغة في التوبيخ . فيقال لهم : { ادْخُلوا أبوابَ جهنَّم } أي : أبوابها السبعة المقسومة عليكم { خالدين فيها } مقدّراً خلودكم فيها ، { فبئسَ مثوى المتكبرين } عن الحق ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنّم .
الإشارة : الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة ، آية من آيات الله في كل زمان ، فيقال في حق مَن يُخاصم في وجوههم ، ويتنكّب عن صحبتهم : الذين يُجادلون في آيات الله أنَّى يُصرفون؟ وهم الذين كذَّبوا بأسرار الكتاب ، وعلوم باطنه ، وبما أرسل به خلفاء الرسل ، ممن يغوص على تلك الأسرار ، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر ، وسلاسل العلائق والشواغل ، فيقبضهم عن النهوض إلى قضاء الشهود والعيان ، وجولان الفكرة في أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، يُسحبون في حرّ التدبير والاختيار ، ثم في نار القطيعة يُسْجَرون ، ثم قيل لهم إذا ماتوا : أين ما كنتم تُشركون في المحبة والميل من دون الله؟ قالوا : ضلُّوا عنا ، وغاب عنهم كل ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات ، فيقال لهم : ذلكم بما كنتم تنبسطون في الدنيا في أنواع المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، وبما كنتم تفتخرون على الناس ، فيخلدون في الحجاب ، إلا في وقت مخصوص . وبالله التوفيق .
(5/384)

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
يقول الحق جلّ جلاله : { فاصبرْ } يا محمد على أذى قومك ، وانتظر ما يلاقوا مما أُعِد لهم . { إِنَّ وعدَ الله } بإهلاكهم وتعذيبهم { حقٌّ } ؛ كائن لا محالة ، { فإِما نُريَنَّكَ بعضَ الذي نَعِدُهُم } من الهلاك ، كالقتل والأسر في حياتك ، { أوْ نتوفينّك } قبل هلاكهم بعدك ، { فإِلينا يُرجعون } لا محالة ، ف " ما " : صلة بعد " أن " ، لتأكيد الشرطية ، والجواب : محذوف ، أي : فإن نُرينك بعض ما نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يُرجعون يوم القيامة ، فلننتقم منهم أشد الانتقام .
ثم سلاّه بمَن قبله ، فقال : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك } فأُوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا ، { منهم مَن قَصصْنا عليك } في القرآن ، { ومنهم مَن لم نقصصْ عليك } ، قيل : عدد الأنبياء عليهم السلام مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفاً ، والمذكور قصصهم في القرآن أفراد معدودة . قال الطيبي : والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل ، عن أبي ذر ، قلت : يا رسول الله ، كم عدد الأنبياء؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّاً غفيراً " ه . وقد تكلم في الحديث بالضعف والصحة والوضع ، وقيل : عدتهم ثمانية آلاف ، أربعة آلاف نبيّ من بني إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر الناس . وعن عليّ كرّم الله وجهه : " إنه الله تعالى بعث نبيّاً أسود ، فهو ممن لم تُذكر قصته في القرآن " . فقوله تعالى : { ومنهم مَن لم نقصص عليك } أي : في القرآن ، فلا ينافي إخباره بمطلق العدد على ما في حديث أبي ذر .
{ وما كان } أي : ما صحّ ، ولما استقام { لرسولٍ } منهم { أن يأتيَ بآيةٍ } مما اقترح عليه قومه ، { إِلا بإذن الله } . فإنَّ المعجزات على تشعُّب فنونها ، عطايا من الله تعالى ، قسمها بينهم على حسب المشيئة ، المبنية على الحِكَم البالغة ، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات؛ عناداً ، يعني إنَّا قد أرسلنا كثيراً من الرسل ، وما استقام لأحد منهم أن يأتي بآية { إِلا بإذن الله } ومشيئته ، فمَن لي بأن آتي بآية مما تقترحونه إِلاَّ أن يشاء الله ، ويأذن في الإتيان بها؟ { فإذا جاء أمرُ الله } بهلاكهم ، أو : بقيام الساعة ، { قُضي بالحقِ } أي : بإنجاء المُحق وإثابته ، وإهلاك المبطل وتعذيبه ، { وخَسِرَ هنالك المبطلون } أي : المعاندون المقترحون للآيات ، أو : المتمسكون بالباطل ، فيدخل المقترحون المعاندون دخولاً أولياً .
الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله على الأذى وحمل الجفاء ، فإما أن ترى ما وُعد أهلُ الإنكار على الأولياء ، من التدمير ، وقطع الدابر ، في حياتك ، أو يلحقهم بعد موتك . ولقد أُوذي من قبلك ، منهم مَن عرفت ومنهم مَن لم تعرف ، وما صحّ لأحد منهم أن يُظهر كرامةً إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، قُضي بالحق ، فيرتفع أهل الصبر من المقربين ، في أعلى عليين ، وينخفض أهل الإذاية في أسفل سافلين .
(5/385)

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
يقول الحق جلّ جلاله : { الله الذي جعل } ؛ خلق { لكم الأنعامَ } ؛ الإبل { لتركبوا منها ومنها تأكلون } أي : لتركبوا بعضها ، وتأكلوا بعضها ، وليس المراد : أن الركوب والأكل مختص ببعض معين منها ، بحيث لا يجوز تعلُّقه بالآخر ، بل على أن بعضاً منها صالح لكل منهما . { ولكم فيها منافعُ } أُخر غير الركوب ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، { ولِتبلُغوا عليها حاجةً } أي : ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، { في صُدورِكمْ } ؛ في قلوبكم ، { وعليها وعلى الفلك تُحملون } أي : وعليها في البر ، وعلى الفلك في البحر تُحملون ، ولعل المراد به : حمل النساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر في فصله عن الركوب . والجمع بينها وبين الفلك في الحمل؛ لِمَا بينهما من المناسبة ، حتى سُميت الإبل : سفائن البر .
وقيل : المراد بالأنعام : الأزواج الثمانية ، على أن المعنى : لتركبوا بعضها ، وهي الإبل ، وتأكلوا بعضها ، وهي الغنم والبقر ، فذكر ما هُوَ الأهم من كلٍّ ، والمنافع تعم الكل ، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر . وقال الثعلبي : التقدير : لتركبوا منها بعضاً ، ومنها تأكلون ، فحذف " بعضاً " للعلم به .
{ ويُريكم آياته } ؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته ، { فأيَّ آياتِ الله } أي : فأيّ آية من تلك الآيات الباهرة { تُنكرون } ؟ فإن كُلاًّ منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها ، و " آيات " نصب بتنكرون ، وتذكير " أيّ " مع تأنيث المضاف إليه ، هو الشائع المستفيض ، والتأنيث قليل؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات ، نحو : حمار وحمارة غريب ، وهي في " أيّ " أغرب؛ لإبهامه .
الإشارة : ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله ، وعرفت نعمه ، فقد سلّطك على ما في الكون بأسره ، الحيوانات تخدمك ، وتنتفع بها ، أكْلاً ، وركوباً ، وملبساً ، وحملاً ، والبحر يحملك ، والأرض تُقلك ، والسماء تُظلك ، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة ، التي هي دار الدوام ، فإن شكرت هذه النعم فأنت أعز ما في الوجود ، وإن كفرتها فأنت أهون ما في الوجود . وبالله التوفيق .
(5/386)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
يقول الحق جلّ جلاله : { أَفَلَمْ يسيروا } أي : أَقعدوا فلم يسيروا { في الأرض } { فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من الأمم المهْلَكة ، { كانوا أكثرَ منهم } عدداً { وأشدَّ قوةً } في الأبدان والأموال ، { و } أشد { آثاراً في الأرض } أي : تركوا آثاراً كثيرة بعدهم ، من الأبنية ، والقبور ، والمصانع ، فكانوا أشدّ منهم ، وقيل : هي آثار أقدامهم في الأرض؛ لِعظم أجرامهم ، { فما أَغْنى عنهم ما كانوا يَكْسِبون } أي : لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب ، أو : أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم؟ على أنَّ " ما " استفهام .
{ فلما جاءتهم رُسلهم بالبيناتِ } ؛ بالمعجزات الواضحة ، { فرحوا بما عندهم من العلم } يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانة ، والتأهُّب ليوم القيامة ، وهي أبعد شيء من علمهم؛ لبعثِها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به . أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحي دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام ولما سمع بقراط بموسى عليه السلام قيل له : لو هاجرت إليه! فقال : نحن قوم مهذَّبون ، فلا حاجة إلى مَن يُهذّبنا .
ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : " إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة ، فانقطع عن الله " وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء في توحيد الربوبية ، والتخلُّص من لَوَث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة دُرة الوجود ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي ، فافهم . قاله شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي .
قال تعالى : { وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون } أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل . { فلما رأوا بأسَنا } ؛ شدة عذابنا ، ومنه : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] ، { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } يعنون الأصنام .
{ فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا } أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب؛ لأن النافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، { سُنَّتَ اللهِ التي قد خلتْ في عباده } أي : سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده ، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب . وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد الله ، ونحوه . { وخَسِرَ هُنالك الكافرون } أي : وقت رؤيتهم البأس .
(5/387)

فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون في كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب .
وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات : أن { فما أغنى عنهم } نيتجة قوله : { كانوا أكثر منهم } و { فلما جاءتهم رسلهم } كالبيان والتفسير لقوله : { فما أغنى عنهم } ، كقولك : رُزِق زيد المال ، فمَنَع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء ، و { فلما رأوا بأسنا } تابع لقوله : { فلما جاءتهم } ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا . وكذلك { فلم يك ينفعهم إيمانهم } تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر . وقوله تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم . . . } الآية ، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد ، ويتكلم في أسرار التوحيد ، سَخِرَ منه أهل زمانه ، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة ، وهو علم لا يُغني ولا يُفني؛ لأن جله يتعلق بمنافع الناس ، لا بمنافع القلب ، فلا يُغني القلب ، ولا يُفني الحِس ، إنما ينفع لطالب الأجور ، لا لطالب الحضور ورفع الستور ، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب وهو أسرار التوحيد الخاص إلا كمَن عنده كنز من الفلوس ، ثم ظفر بالذهب الإبريز ، او الإكسير ، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير؟! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم ، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم .
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(5/388)

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قلت : { تنزيل } : خبر عن مضمر ، أي : هذا تنزيل . و { كتاب } . بدل من { تنزيل } ، أو : خبر بعد خبر ، و { تنزيل } : مبتدأ . و { من الرحمن } : صفة ، و { كتاب } . خبره ، و { قرآناً } : منصوب على الاختصاص والمدح ، أو : حال ، أي : فُصِّلت آياته في حال كونه قرآناً . و { لقوم } : متعلق بفُصِّلت ، أو : صفة ، مثل ما قبله وما بعده ، أي : قرآناً عربياً كائناً لقوم يعلمون . و { بشيراً ونذيراً } : صفتان ل " قرآناً " .
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } ؛ يا محمد هذا { تنزيلٌ } ، قاله القشيري : أي : بحقي وحياتي ومجدي في ذاتي وصفاتي ، هذا تنزيلٌ { من الرحمن الرحيم } . ونسبة التنزيل إلى الرحمن الرحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرحمة الربانية ، حسبما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، { كتاب فُصّلت آياتُه } ؛ مُيزت وجُعلت تفاصيل في أساليب مختلفة ، ومعانٍ متغايرة؛ من أحكام ، وتوحيد ، وقصص ، ومواعظ ، ووعد ، ووعيد وغير ذلك ، { قرآناً عربياً } أي : أعني قرآناً بلسان العرب كائناً { لقوم يعلمون } معانيه ، ويتدبّرون في آياته؛ لكونه على لسانهم ، أو : لأهل العلم والنظر؛ لأنهم المنتفعون به .
{ بشيراً ونذيراً } ؛ بشيراً لأهل الطاعة ، ونذيراً لأهل المعصية ، { فأعْرَض أكثرُهم } عن الإيمان به والتدبُّر في معانيه مع كونه على لغتهم ، { فهم لا يسمعون } سماع تفكُّر وتأمُّل ، حتى يفهموا جلالة قدره؛ فيؤمنوا به .
{ وقالوا } للرسول عليه الصلاة والسلام عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما في القرآن : { قلوبنا في أَكِنَّةٍ } أي : أغطية متكاثفة ، { وفي آذاننا وَقْر } ؛ صمم وثِقَل يمنعنا من استماع قولك ، { ومن بيننا وبينك حجاب } غليظ ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك . و ( من ) للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ، ولم يبق ثمَّ فراغ أصلاً . وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ، ومج أسماعهم له ، كأنَّ بها صمماً وثِقلاً منعهم من موافقتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالوا : { فاعمل } على دينك وإبطال ديننا ، { إِننا عاملون } على ديننا ، لا نفارقه أبداً .
{ قُلْ إِنما أنا بشر مثلُكم يُوحَى إِليَّ أَنَّما إِلهكُم إِله واحد } ، هذا تلقين للجواب عنه ، أي : لستُ من جنسٍ مباينٍ لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان ، كما ينبىء عنه قوله : { فاعلم إننا عاملون } ، بل إنما أنا بشر مثلكم ، مأمور بما أُمرتم به من التوحيد ، حيث أخبرنا جميعاً بأن إلهنا واحد ، فالخطاب في " إلهكم " محكي منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة . وقيل : لمّا دعاهم إلى الإيمان ، قالوا : إنا نراك مثلنا ، تأكل وتشرب ، فلو كنتَ رسولاً لاستغنيت عن ذلك ، فأنزل : { قل إنما أنا بشر .
(5/389)

. . } الآية .
{ فاستقيموا إِليه } بالتوحيد وإخلاص العبادة ، غير ذاهبين يميناً وشمالاً ، ولا ملتفتين إلى ما يُسوّل لكم الشيطانُ من عبادة الأصنام . . . قال تعالى : { واستغفروه } مما كنتم عليه من سوء العقيدة . والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة ، { وويل للمشركين } ، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم في التوحيد .
ووصفهم بقوله : { الذين لا يؤتون الزكاة } أي : لا يؤمنون بوجوب الزكاة ولا يُعطونها ، وهو إخبار بما سيقع ، إذ لم تكن الزكاة حينئذ مفروضة ، أو : لا يفعلون ما يكونون به أزكياء ، وهو الإيمان . وفيه تحذير من منع الزكاة ، حيث جعله من أوصاف المشركين . { وهم بالآخرة هم كافرون } أي : وهم بالبعث والثواب والعقاب كافرون . والجملة : عطف على ( يؤتون ) داخل في الصلة . وإنما جعل منع الزكاة مقروناً بالكفر بالآخرة لأن أحب شيء إلى الإنسان ماله ، وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل الله فذلك أقوى دليل على استقامته ، وصدق نيته ، وخلوص طويته ، وما ارتدت العرب إلا بمنعها .
{ إِن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ } ؛ غير مقطوع ، من : مننت الحبل : قطعته ، أو : غير ممنون به عليهم . وقيل : نزلت في المرضى والهَرْمَى ، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون .
الإشارة : كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الإيمان بالقرآن والعمل به ، وخلفاؤه من مشايخ التربية يدعون إلى تصفية البواطن ، لتتهيأ لفهمه والغوص عن أسراره ، وحضور القلب عند تلاوته ، فأعرض أكثرُ الناس عن صُحبتهم ، { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه . . . } إلى تمام الآية . فبقيت قلوبهم مغلفة بسبب الهوى ، ألسنتهم تتلو وقلوبهم تجول في أودية الدينا ، فلا حضور ولا تدبُّر ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، فإذا طلَبوا من المشايخ الذين هم أطبّة القلوب الكرامة ، يقولون ما قالت الرسل : إنما نحن بشر يُوحى إلينا وحي إلهام بوحدانية الحق ، وانفراده بالوجود ، فاستقيموا إليه بتصفية بواطنكم ، واستغفروه من سالف زلاتكم ، فإن بقيتم على ما أنتم عليه من الشرك ورؤية السِّوى ، فويل للمشركين الذين لا يُزكُّون أنفسهم ، وهم بالآخرة حيث لم يتأهّبوا لها كلَّ التأهُّب هم الكافرون . إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، بصحبة الخصوص ، لهم أجر غير ممنون ، وهو شهود الحق على الدوام . والله تعالى أعلم .
(5/390)

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قلت : { وتجعلون } : عطف على { تكفرون } . و { جَعَلَ } : عطف على { خَلَقَ } داخل في حيز الصلة ، و { سواء } : مَن نَصَبَه فمصدر أي : استوت سواء . ومَن جَرَّه فصفة لأيام ، ومَن رفعه فخبر هي سواء . و { للسائلين } : متعلق بقدّر ، أو : بمحذوف ، أي : هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل أَئِنَّكم لتكفرون بالذي خلقَ الأرضَ في يومين } وهما الأحد والاثنين ، تعليماً للتأني ، ولو أراد أن يخلقها في لحظة لفعل . { وتجعلون له أنداداً } ؛ شركاء وأشباهاً . والحال أنه لا يمكن أن يكون له ند واحد ، فضلاً عن التعدُّد ، وكيف يكون الحادث المعدوم ندّاً للقديم؟! { ذلك } الذي خلق ما سبق . وما في الإشارة من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه لبُعد منزلته في العظمة ، أي : ذلك العظيم الشأن هو { ربُّ العالمين } أي : خالق جميع الموجودات ومُربِّيها ، فكيف يتصور أن يكون أخس الخلق نِدّاً له؟!
{ وجعل فيها رواسي } ؛ جبالاً ثوابت كائنة { من فوقها } ، وإنما اختار إرساءها من فوق الأرض لتكون منافع الجبال مُعرَضة لأهلها ، ويظهر للناظرين ما فيها من مراصد الاعبتار ، ومطارح الأفكار ، فإن الأرض والجبال أثقال على أثقال ، كلها ممسَكة بقدرة الله عزّ وجل . { وباركَ فيها } أي : قدّر بأن يكثر خيرها بما يخلق فيها من منافع ، ويجعل فيها من المصالح ، وما ينبت فيها من الطيبات والأطعمة وأصناف النعم . { وقدّر فيها أقواتَها } أي : حكم أن يوجد فيها لأهلها ما يحتاجون إليه من الأقوات المختلفة المناسبة لهم على مقدار مُعين ، تقتضيه الحكمة والمشيئة ، وما يصلح بمعايشهم من الثمار والأنهار والأشجار ، وجعل الأقوات مختلفة في الطعم والصورة والمقدار ، وقيل : خصابها التي قسمها في البلاد . جعل ذلك { في أربعةِ أيام } أي : تتمة أربعة أيام ، يومين للخلق ، ويومين لتقدير الأقوات ، كما تقول : سِرت إلى البصرة في عشرة ، وإلى الكوفة في خمسة عشر ، أي : في تتمة خمسة عشر ، ولو أجري الكلام على ظاهرة لكانت ثمانية أيام؛ يومين للخلق؛ وأربعة للتقدير ، ويومين لخلق السماء ، وهو مناقض لقوله : { فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الأعراف : 54 ] .
وقوله : { سواء } راجع للأربعة ، أي : في أربعة أيام مستويات تامات ، أو : استوت سواء { للسائلين } أي : قدَّر فيها الأقوات للطالبين لها والمحتاجين إليها ، لأن كلاًّ يطلب القوت ويسأله ، أو هذا الحصر في هذه الأيام لأجل مَن سأل : في كم خلقت الأرض وما فيها؟
{ ثم استوى إِلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طَوعاً أو كَرهاً قالتا أتينا طائعين } ، الاستواء مجاز عن إيجاد الله تعالى السماء على ما أراد ، تقول العرب : فعل فلان كذا ثم استوى إلى عمل كذا ، يريدون أنه أكمل الأول وابتدأ الثاني ، أو قصد وانتهى . فالاستواء إذا عدي ب " إلى " فهو بمعنى الانتهاء إليه بالذات أو بالتدبير ، وإذا عدّي ب " على " فبمعنى الاستعلاء ، ويفهم منه أن خلق السماء بعد الأرض ، وهو كذلك ، وأما دحو الأرض وتقدير أقواتها فمؤخر عن السماء ، كما صرح في قوله :
(5/391)

{ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ } [ النازعات : 30 ] ، والترتيب في الخارج : أنه خلق الأرض ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض في يومين ، ف " ثم " للتفاوت بين الخلقين لا للترتيب ، أو : للتفاوت في المرتبة ، ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، كقول القائل :
إِنْ مَنْ ساد ثم ساد أبوه ... ثم [ قد ] ساد بعد ذلك جَدُّه
وفي بعض الأحاديث : " إن الله خلق الأرض يوم الأحد والاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعُمران والخراب ، فتلك أربعة أيام ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة ، وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة من يوم الجمعة " وهي الساعة التي تقوم فيها الساعة . قاله النسفي ، وفي حديث مسلم ما يخالفه .
قال ابن عباس رضي الله عنه : أول ما خلق الله أي : بعد العرش جوهرة طُولها وعرضها ألف سنة ، فنظر إليها بالهيبة ، فذابت وصارت ماء ، فكان العرش على الماء ، فاضطرب الماء ، فثار منه دخان ، فارتفع إلى الجو ، واجتمع زيد ، فقام فوق الماء ، فجعل الزبد أرضاً ، ثم فتقها سبعاً ، والدخان سماء ، فسوّاهن سبع سموات .
ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان طوعاً أو كرهاً وامتثالهما؛ أنه أراد أن يُكوّنهما ، فلم يمتنعا عليه ، ووجدتَا كما أراد ، وكانتا في ذلك كالمأمور والمطيع ، وإنما ذكر الأرض مع السماء في الأمر بالإتيان ، مع أن الأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؛ لأن المعنى : ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف ، أي : ائتي يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك ، وائتي يا سماء مبنية سقفاً لهم ، ومعنى الإتيان : الحصول والوقوع .
وقوله : { طوعاً أو كَرهاً } لبيان تأثير قدرته فيهما ، وأن امتناعهما عن قدرته مُحال؛ كما تقول لمَن تحت يدك : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، طوعاً أو كرهاً . وقال ابن عطية : الأمر بالإتيان بعد اختراعهما ، قال : وهنا حذف ، أي : ثم استوى إلى السماء فأوجدها ، وأتقنها ، وأكمل أمرها ، وحينئذ قال لها وللأرض : ائتيا لأمري وإرادتي فيكما ، والمراد : تنجيزهما لما أراده منهما ، وما قدر من أعمالهما . ه . حُكي أن بعض الأنبياء قال : يا رب لو أن السماوات والأرض حين قلت لهما : ائتيا طوعاً أو كرهاً عصتاك ، ما كنت صانعاً بهما؟ قال : كنتُ آمر دابة من دوابي فتبتلعهما ، قال : وأين تلك الدابة؟ قال : في مرج من مروجي ، قال : وأين ذلك المرج؟ قال : في علم من علومي .
وانتصاب { طوعاً أو كرهاً } على الحال ، أي : طائعين أو مكرهين . ولم يقل " طائعتين "؛ لأن المراد الجنس ، أي : السموات والأرضين ، وجمع جمع العقلاء لوصفهما بالطوع والكره ، اللذين من وصف العقلاء ، وقال : طائعين في موضع طائعات؛ تغليباً للتذكير؛ لشرفه ، كقوله :
(5/392)

{ سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] .
{ فقضاهنّ سبعَ سماواتٍ } أي : فأحكم خلقهن ، وأتقن أمرهن سبعاً ، حسبما تقتضيه الحكمة ، فالضمير راجع إلى السماء ، لأنه جنس ، يجوز أن يكون الضمير مبهماً مفسراً بقوله : { سبع سماوات } ، فينتصب سبع على الأول حالاً ، وعلى الثاني تمييزاً . حصل ذلك القضاء { في يومين } ؛ الخميس والجمعة ، أي : في وقتين قدر يومين ، فكان المجموع ستة أيام ، { وأَوحى في كلِّ سماءٍ أمرها } أي : أوحى إلى ساكنها وعُمّارها من الملائكة في كل سماء ما شاء الله من الأمور ، التي تليق بهم ، كالخدمة وأنواع العبادة ، وإلى السماء في نفسها ما شاء الله من الأمور التي بها قوامها وصلاحها .
{ وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح } ؛ كالشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة السماء الدنيا ، سواء كانت فيها أو فيما فوقها؛ لأنها تُرى متلألأة عليها كأنها فيها ، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية بأمرها ، { وحفظاً } أي : حفظناها حفظاً من المسترقة ، أو من الآفات ، فهو مصدر لمحذوف ، وقيل : مفعول لأجله على المعنى ، أي : وجعلنا المصابيح للزينة والحفظ . { ذلك تقديرُ العزيز العليم } أي : ذلك الذي ذكر تفصيله تقدير البالغ في القدرة والعلم ، أو : الغالب العليم بمواقع الأمور .
الإشارة : خلق الحق تعالى أرض النفوس محلاًّ للعبودية ، وأرساها بجبال العقل ، لئلا تميل إلى بحر الهوى ، وبارك فيها ، بأن جعل فيها صالحين وأبراراً ، وعباداً وزهاداً ، وعُلماء أتقياء ، وقدّر لها أقواتها الحسية والمعنوية ، فجعل الحسية سواء للسائلين ، أي : مستوية لا يزيد بالطلب ولا بالتعب ، ولا ينقص ، ففيه تأديب لمَن لم يرضَ بقسمته ، والأرزاق المعنوية : أرزاق القلوب من اليقين والمعرفة ، يزيد بالطلب والتعب ، وينقص بنقصانه ، حكمة من الحكيم العليم ، ثم استوى إلى سماء الأرواح ، أي : قصدها بالدعاء إليه ، وهي لطائف ، فقال لها ولأرض النفوس : ائتيا إلى حضرتي ، طوعاً أو كرهاً ، قالتا : أتينا طائعين ، فقضاهن سبع طبقات ، وهي دوائر الأولياء ، دائرة الغوث ، ثم دائرة الأقطاب ، ثم الأوتاد ، ثم النقباء ، ثم النجباء ، ثم الأبرار ، ثم الصالحين . وأوحى في كل سماء ، أي : في كل دائرة ما يليق بها من العبادة ، فمنهم مَن عبادته الشهود والعيان ، ومنهم مَن عبادته الفكرة ، ومنهم الركوع والسجود ، ومنهم التلاوة والذكر . . . إلى غير ذلك من أنواع الأعمال .
قال القشيري : وجعل نفوسَ العابدين ، أرضاً لطاعته وعبادته ، وجعل قلوبهم فَلَكاً لنجوم علمه ، وشموس معرفته ، فأوتاد النفوس الخوفُ والرجاءُ ، والرغبةُ والرهبة ، وفي القلوب ضياءُ العرفان ، وشموس التوحيد ، ونجوم العلوم والعقول ، والنفوس والقلوب ، بيده يُصَرِّفُها على ما أراد من أحكامه . وقال في قوله : { وجعل فيها رواسي من فوقها } : الجبالُ أوتادُ الأرض ، في الصورة ، والأولياءُ رواسي الأرض في الحقيقة ، بهم تنزل البركة والأمطار ، وبهم يُدفع البلاء . ثم قال : قوله تعالى : { وزيَّنا السماء الدنيا بمصابيح } وزيَّن وجه الأرض بمصابيح ، وهي قلوب الأحباب ، فأهلُ السماء إذا نظروا إلى قلوب أولياء الله بالليل ، فذلك متنزهُهُم ، كما أن أهل الأرض إذا نظروا إلى السماء تأنّسوا برؤية الكواكب . ه .
(5/393)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
قلت : { وأما ثمود } ، قراءة الجماعة بالرفع ، غير مصروف ، إرادة القبيلة ، وقراءة الأعمش ويحيى بن وثاب مصروفاً ، إرادة الحي ، وقراءة ابن أبي إسحاق : بالنصب ، من باب الاشتغال ، وأصل الكلام : مهما يكن من شيء فثمود هديناهم ، فحُذف الملزوم الذي هو الشرط ، وأُقيم مقامه لازمه ، وهو الجزاء ، وأبقيت الفاء المؤذنه بأن ما بعدها لازم لما قبلها ، وإلا فليس هذا موضع الفاء؛ لأن موضعه صدر الجزاء . انظر المُطوّل .
يقول الحق جلّ جلاله : { فإِن أعرضُوا } عن الإيمان بعد هذا البيان؛ { فقلْ } لهم : { أنذرتُكمْ } ؛ خوَّفتكم . وعبّر بالماضي للدلالة على تحقُّق الإنذار المنبىء عن تحقُّق الوقوع ، { صاعقةً } أي : عذاباً شديداً لو وقع كان كأنه صاعقة ، وأصلها : رعد معه نار تحرق . تكون { مثلَ صاعقةِ عادٍ وثمودَ } وقد تقدّم عذابهما .
{ إِذ جاءتْهُمُ } : ظرف لمحذوف ، أي : أنزلناها بهم حين جاءتهم { الرسلُ من بين أيديهم ومن خلفِهِم } أي : أتوهم من كل جانب ، وعملوا فيهم كل حيلة ، فلم يروا منهم إلا الإعراض ، أو : جاءتهم الرسل قبلهم لآبائهم ، وبعدَهم لِمَن خلفهم ، أي : تواردت عليهم الرسل قديماً وحديثاً ، والمعهود إنما هو هود وصالح عليهما السلام وعن الحسن : أنذروهم من وقائع الله بمَنْ قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة ، { ألاَّ تعبدوا إِلا اللهَ } أي : بأن لا تعبدوا إلا الله ، على أنها مصدرية ، أو : لا تعبدوا ، على أنها مفسرة ، وقيل : مخففة ، أي : أنه لا تعبدوا إلا الله . { قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً } أي : لو شاء إرسال الرسل لأرسل ملائكة ، ولَمَّا كان إرسالهم بطريق الإنزال عبَّر به ، { فإِنا بما أُرسلتُم به كافرون } أي : فحيث كنتم بشراً مثلنا ، ولم تكونوا ملائكة ، ولم يكن لكم فضل علينا ، فإنا لا نؤمن بكم ، ولا بما جئتم به ، وقولهم : { أُرسلتم به } ليس بإقرار بالإرسال ، وإنما هو على كلام الرسل ، وفيه تهكُّم ، كما قاله فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] وقولهم : { بما أرسلتم به كافرون } خطاب منهم لهود وصالح ولسائر الأنبياء ، الذين دعوا للإيمان .
رُوي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة ، فكَلَّمه ، ثم أتانا بالبيان من أمره ، فقال عُتبة بن ربيعة : والله لقد سمعتُ الشعر والكهانة والسحر ، وعلمتُ من ذلك علماً ما يخفى عليَّ ، فأتاه ، فقال : أنت يا محمد خير أم هاشم؟ أنت يا محمد خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبمَ تشتم آلهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء ، فكنت رئيسنا ما بقيت ، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوةٍ من أيّ بنات قريش شئتَ ، وإن كان بك المال ، جمعنا لك ما تستغني به أنت وعقبك .
(5/394)

والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت ، فلما فرغ عتبةُ ، قال صلى الله عليه وسلم : " { بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم . . . } إلى قوله تعالى : { مثل صاعقة عاد وثمود } " ، فأمسك عتبة على فِيه النبيّ صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم ، فرجع عبتةُ إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم ، قالوا : ما نرى عتبة إلا صبأ ، فانطلقوا ، وقالوا : يا عتبة؛ ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد ، أم أنك أعجبك طعامه؟ فغضب ، ثم قال لهم : لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو شعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ثم تلى عليهم ما سمع منه إلى قوله : { مثل صاعقة عاد وثمود } فأمسكتُ بفيه ، وناشدته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخفتُ أن ينزل بكم العذاب . ه .
ثم بيَّن ما ذكره من صاعقة عاد وثمود ، فقال : { فأما عاد فاستبكروا في الأرض بغير الحق } أي : تعاظموا فيها على أهلها بما لا يستحقون به التعظيم ، وهو القوة ، وعظم الأجرام ، واستولوا على الأرض بغير استحقاق للولاية ، { وقالوا مَن أشدُّ منا قوةً } ، كانوا ذوي أجسام طوال ، وخلْق عظيم ، بلغ من قوتهم أن الرجل كان يقلع الصخرة من الجبل بيده ، ويلوي الحديد بيده ، { أوَلَمْ يَرَوا } أي : أَوَلَم يعلموا علم عيان { أن الله الذي خلقهم هو أشَدُّ منهم قوةً } ؟ أوسعُ منهم قدرة؛ لأنه قادر على كل شيء ، وهم قادرون على بعض الأشياء بإقداره ، { وكانوا بآياتنا } المنزلة على رسلهم { يجحدون } أي : ينكرونها وهم يعرفون حقِيتها ، كما يجحد المودَعُ الوديعة . و ( هم ) : عطف على ( فاستكبروا ) ، وما بينها اعتراض ، للرد على كلمتهم الشنعاء .
{ فأرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً } أي : بارداً تهلك وتُحرق؛ لشدة بردها ، من : الصر ، وهو البرد ، الذي يجمع ويقبض ، أو : عاصفة تصوّت في هبوبها ، من الصرير ، فضوعف ، كما يقال : نهنهت وكفكفت . { في أيام نَّحِساتٍ } ؛ مشؤومات عليهم ، من : نَحِس نحساً ، نقيض : سعد سعداً ، وكانت من الأربعاء آخر شوال إلى الأربعاء ، وما عُذِّب قوم إلا في الأربعاء . قيل : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت الرياح عليهم من غير مطر . قيل : إذا أراد الله بقوم خيراً ، أرسل عليهم المطر ، وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، حبس عنهم المطر ، وأرسل عليهم كثرة الرياح . ه .
{ لنُذيقَهُمْ عذابَ الخزي في الحياة الدنيا } ، أضاف العذاب إلى الخزي ، وهو الذل ، على أنه وصف للعذاب ، كأنه قال : عذاب خزي ، ويدل عليه قوله : { ولعذابُ الآخرة أخزى } أي : أذل لصاحبه ، وهو في الحقيقة وصف للمعذَّب ، وُصف به العذاب للمبالغة ، كقولك : له شعر شاعر . { وهم لا يُنصَرُون } برفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه .
{ وأما ثمودُ فهديناهمْ } ؛ دللناهم على الرشد ، بنصب الآيات التكوينية ، وإرسال الرسل ، وإنزال الآيات التشريعية ، { فاستحبُّوا العَمَى على الهُدى } أي : اختاروا الضلالة على الهداية ، { فأخذتهم صاعقةُ العذابِ الهُون } أي : داهية العذاب الذي يهين صاحبه ويخزيه ، وهي الصيحة والرجفة ، والهُون : الهوان ، وصف به للمبالغة ، { بما كانوا يكسبون } أي : بكسبهم الخبيث من الشرك والمعاصي .
(5/395)

قال الشيخ أبو منصور : يحتمل قوله : { فهديناهم } : بيَّنا لهم ، كما تقدّم ، ويحتمل : خلق الهداية في قلوبهم ، فصاروا مهتدين ، ثم كفروا بعد ذلك ، وعقروا الناقة ، لأن الهدي المضاف إلى الخالق يكون بمعنى البيان ، ويكون بخلق فعل الاهتداء ، وأما الهدي المضاف إلى الخلق فيكون بمعنى البيان ، لا غير . ه .
وقال الطيبي : قوله تعالى : { فهديناهم } هو كقوله تعالى : { إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ } [ فصلت : 14 ] . وقوله : { فاستحبوا العمى على الهدى } هو كقوله : { قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا . . . } [ فصلت : 14 ] الآية . وكذا في قوله : { فأما عاد فاستكبروا في الأرض } ، فإن الفاء في " فاستكبروا " فصيحة ، تُفصح عن محذوف ، أي : فهديناهم فاستكبروا بدلالة ما قيل في ثمود . ه .
{ ونجينا الذين آمنوا } أي : اختاروا الهدى على العمى ، من تلك الصاعقة ، { وكانوا يتقون } الضلالة والتقليد .
الإشارة : كل مَن أعرض عن الوعظ والتذكار ، ونأى عن صُحبة الأبرار؛ فالصعقة لاحقة به ، إما في الدنيا أو في الآخرة . وقوله تعالى : { فأما عاد فاستكبروا . . . } الآية : أوصاف العبودية أربعة : الضعف ، والذل ، والفقر ، والعجز ، فمَن خرج عن واحد منها ، فقد تعدّى طوره ، واستحقّ الهلاك والهوان ، ورمته رياح الأقدار في مهاوي النيران .
وقوله : { وأما ثمود فهديناهم } أي : بيَّنا لهم طريق السير إلينا ، على ألسنة الوسائط ، فحادُوا عنها ، واستحبُّوا العمى على الهدى؛ حيث لم يسبق لهم الهداية في الأزل ، فالسوابق تُؤثر في العواقب ، والعواقب لا تؤثر في السوابق ، فكأن جبلة القوم الضلالة ، فمالوا إلى ما جبلوا عليه من قبول الضلالة .
وقوله تعالى : { ونجينا الذين آمنوا } أي : في الدنيا من الصاعقة ، وفي الآخرة من السقوط في الهاوية . قال القشيري : منهم مَن نجَّاهم من غير أن رأوا النار ، عَبَروا القنطرةَ ولم يعلموا ، وقومٌ كالبرق الخاطف ، وهم أعلاهم قلت : بل أعلاهم كالطرف ثم قال : وقوم كالرواكض ، وهم أيضاً الأكابر ، وقوم على الصراط يسقطون وتردُّهم الملائكة على الصراط ، فبَعُدوا . ثم قال : وقومٌ بعدما دخلوا النار ، فمنهم مَن تأخذه إلى كعبيه ، ثم إلى ركبتيه ، ثم إلى حَقْوَيْه ، فإذا بلغ القلب قال الحقُّ للنار : لا تحرقي قلبه ، فإنه محترقُ بي . وقوم يخرجون من النار بعدما أمْتُحِشُوا فصاروا حُمَماً . ه منه
(5/396)

وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
يقول الحق جلَ جلاله : { و } اذكر { يوم نَحْشُرُ أعداء الله } من كفار المتقدمين والمتأخرين { إِلى النارِ فهم يُوزَعون } ؛ يُضمون ويُساقون إلى النار ، ويُحبس أولهم على أخرهم ، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم ، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار ، وأصله : من وزَعته ، أي : كففته . { حتى إِذا ما جاؤوها } أي : حضروها ، و " حتى " : غاية للحشر ، أو : ليوزعون ، و " ما " : مزيدة؛ لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، فبمجرد حضورهم { شَهِدَ عليهم سمعُهُم وأبصارُهم وجلودُهم } أي : بَشَراتهم { بما كانوا يعملون } في الدنيا ، من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها الله تعالى ، ويظهرعليها آثار ما اقترفوا بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بشهادة الجلود : شهادة الفروج ، كقول الشاعر :
أوَ سالم مَنْ قد تث ... نَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه
فكنَّى بجلده عن فرحه ، وهو الأنسب؛ لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى : { وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا } ، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً ، وأجلب للحزن والعقوبة ، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها . روي : أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب ، أليس قد وعدتني ألا تظلمني؟ فيقول تعالى : فإن لك ذلك ، قال : فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي ، قال تعالى : أوَ ليس كفى بي شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟ قال : فيُختم على فِيهِ ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل ، فيقول لهن : بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً ، عنكُنَّ كنتُ أُجادل " .
{ قالوا } في جوابهم : { وأنطقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ } من الحيوانات ، وأقدرنا على بيان الواقع ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وما كتمناها . أو : ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله الذي انطق كل شيء . وقيل : سألوها سؤال تعجُّب ، فالمعنى حينئذ : وليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء ، { وهو خلقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجعون } ؛ فإنَّ مَن قدر على خلقكم أول مرة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم . ولعل صيغة المضارع ، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع ، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالعبث ، بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد الترقب عند التخاطب ، على تغليب المتوقع على الواقع ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود ، وقيل : هو من كلام الحق تعالى لهم ، فيُوقف على " شيء " وهو ضعيف . وكذا قوله :
{ وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم } ، يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، أو : من كلام الله عزّ وجل وهو الظاهر ، أي : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم ، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها ، { ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعملون } من القبائح الخفية ، فلا يظهرها في الآخرة .
(5/397)

وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر؛ وثقفيان وقرشي ، أو : قرشيان وثَقَفي ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون . . . } الآية ، فالحُكم المحكي حينئذ يكون خاصّاً بمَن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ، انظر أبا السعود .
{ وذلكم ظنُّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } ؛ أهلككم ، ف " ذلك " : مبتدأ ، و " ظنكم " : خبر ، و " الذي ظننتم بربكم " : صفة ، و " أرداكم " : خبر ثان ، أو : ظنكم : بدل من " ذلك " و " أرداكم " : خبر ، { فأصبحتم } بسبب الظن السوء { من الخاسرين } إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سبباً لشقاء النشأتين .
{ فإِن يصبروا فالنارُ مثوىً } ؛ مقام { لهم } أي : فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثوى في النار ، { وإِن يستعينوا } أي : يسألُوا العتبى؛ وهو الاسترضاء { فما هم من المُعتَبين } ؛ المجابين إليها ، أي : وإن يطلبوا الاسترضاء من الله تعالى ليرضى عنهم ، فما هم من المرضين؛ لما تحتّم عليهم واستوجبوه من السخط ، قال الجوهري : أعتبني فلان : إذا عاد إلى مسرتي ، راجعاً عن الإساءة ، والاسم منه : العتبى ، يقال؛ استعتبته فأعتبني ، أي : استرضيته فأرضاني . وقال الهروي : إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، أي : لم يردهم إلى الدنيا ، أو : إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته ، كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
الإشارة : أعداء الله هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله ، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم ، وأما المؤمن فلا ، نعم إن مات عاصياً شهدت عليه البقع أو الحفظة ، فإن تاب أنسى الله حفظته ومعالمه في الأرض ذنوبه . قال في التذكرة : إن العبد إذا صدق في توبته أنسى اللهُ ذنوبه لحافظيه ، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه : أن اكتموا مساوىء عبدي ، ولا تظهروها ، فإنه تاب إليَّ توبة صادقة ، بنية مخلصة ، فقبلته وتبتُ عليه ، وأنا التوّاب الرحيم .
وفي الآية حث على حسن الظن بالله ، وفي الحديث : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزّ وجل " وقال أيضاً : " يقول الله عزّ وجل : أنا عندَ ظنِّ عبدي بي . . . " الحديث فمَن ظنَّ خيراً لقي خيراً ، ومَن ظنّ شرّاً لقي شرّاً . وبالله التوفيق .
(5/398)

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقيّضنا } أي : سيَرنا ، أو : قدّرنا ، { لهم } أي : كفار مكة في الدنيا { قُرَناء } سواء من الجن والإنس ، أو : سلطنا عليهم نظراء لهم من الشياطين يستولون عليهم ، كقوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، { فَزَيَّنوا لهم ما بين أيديهم } من أمور الدنيا ، واتباع الشهوات ، والتقليد لأسلافهم ، حتى حادوا عن الحق ، { وما خَلْفَهم } من أمور الآخرة ، حيث ألقوا إليهم : ألا بعث ولا حساب . أو : ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها ، { وحقّ عليهم القولُ } أي : ثبت وتقرّر عليهم كلمة العذاب ، أو : تحقق موجبها ومصداقها ، وهي قوله تعالى لإبليس : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] ، حال كونهم { في } جملة { أمم قد خلت مِن قبلهم } أي : قبل أهل مكة { من الجن والإِنس } كانوا مُصرّين على الكفر والعصيان ، { إِنهم كانوا خاسرين } حيث آثروا الباطل على الحق ، وهو تعليل لاستحقاقهم العذاب . والضمير لهم وللأمم .
الإشارة : قال القشيري : إذا أراد الله بعبده سوء ، قيّض له إخوان سوء وقرناء شر ، هم الأضداد له فيما راموا ، وإذا أراد الله بعبد خيراً قيّض له قرناء خير ، يُعِينونه على الطاعة ، ويَحْمِلونه عليها ، ويدعونه إليها ، وإذا كانوا إخوانَ سوءٍ يحملونه على المخالفات ، ويدعونه إليها ، ومن ذلك الشيطانُ . ثم قال : وشرُّ قرين للمرء نفسُه ، ثم الشيطان ، ثم شياطين الإنسِ ، فزيّنوا لهم ما بين أيديهم من طول الأمل ، وما خلفهم من نسيان الزَّلَلِ ، والتسويف في التوبة ، والتقصير في الطاعة . ه .
قلت : والله ما رأينا الفلاح والخسران إلا من الخلطة . قال بعضهم : والله ما أفلح مَن أفلح إلا بصحبة مَن أفلح ، ولا سيما صبحة العارفين؛ فساعة معهم تعدل عبادة سنين بالصيام والقيام وأنواع المجاهدة ، ولله در الجيلاني رضي الله عنه حيث قال :
فَشمرْ ولذْ بالأَولياءِ فإِنّهم ... لَهُمْ مِنْ كِتَاب الله تلْكَ الوَقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ للْملهوف والكَنزُ للرَّجا ... ومنهم يَنَالُ الصَّبُّ مَا هو طامِعُ
بهم يُهتدى للْعَيْنِ مَنْ ضَلَّ في العَمَى ... بهمْ يُجْذب العُشَّاقُ والرَّبْع شَاسِعُ
هُمُ النّاسُ فالزَمْ إِنْ عَرفْت جَنَابَهم ... ففيهم لِضُرّ العالمين مَنَافِعُ
(5/399)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال الذين كفروا } من رؤساء المشركين لأتباعهم ، أو : بعضهم لبعض : { لا تسمعوا لهذا القرآنِ } إذا قُرىء ، أي : لا تنصتوا له؛ لأنه يقلب القلوب ، ويسبي العقول ، وكل مَن استمع إليه صبا إليه ، { والْغَوْا فيه لعلكم تَغْلِبون } أي : عارضوه بكلام غير مفهوم ، أو : بالخرافات؛ من الرّجَز والشعر والتصدية ، وارفعوا أصواتكم بها { لعلكم تغلبون } أي : تغلبونه على قراءته ، وشوِّشوا عليه فيقع في الغلط ، أو : لا يسمعه منه أحد . واللغو : الساقط من الكلام الذي لا طائلَ تحته .
{ فلنذيقنَّ الذين كفروا } أي فوالله لنذيقن هؤلاء اللاغين والقائلين ، أو : جميع الكفار ، وهم داخلون فيهم دخولاً أولياً . { عذاباً شديداً } لا يُقادر قدره ، { ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } أي : أعظم عقوبة على أسوأ أعمالهم ، وهو الكفر ، وقيل : إنه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم ، كإغاثة الملهوفين ، وصلة الأرحام ، وقِرى الضيف؛ لأنها محبطة بالكفر ، وإنما يجازيهم على أسوئها . عن ابن عباس : { عذاباً شديداً } : يوم بدر ، و { أسوأ الذي كانوا يعملون } : ما يُجزون في الآخرة .
{ ذلك جزاءُ أعداء الله النارُ } أي : ذلك الأسوأ من الجزاء هو جزاء أعداء الله ، وهو النار . فالنار : خبر عن مضمر ، أو : عطف بيان للجزاء ، والنار : مبتدأ . و { لهم فيها دارُ الخلد } : خبر ، أي : النار في نفسها دار الخلد ، كما تقول : لك في هذه الدار السرور ، وأنت تعني الدار بعينها ، ويسمى في علم البلاغة : التجريد ، وهو أن ينتزع من ذي صفة أمراً آخر مثله ، مبالغةً ، لكمالٍ فيه . تقول : لقيت من زيد أسداً . وقيل : هي على معناها ، والمراد : أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة ، هم فيها خالدون ، { جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } أي : جُوزوا بذلك جزاء بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا ويلغون فيها .
الإشارة : الآية تنسحب على مَن يرفع صوته بمحضر مجلس الوعظ والذكر ، أو العلم النافع ، أو صفوف الصلاة ، فهذه المجالس يجب صونها من اللغو والصخب ، ويجب الاستماع لها ، والإنصات ، والتوقير ، والتعظيم ، لأنها موروثة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهَمْ لِلتَّقْوَى } [ الحجرات : 3 ] ، ومَن فعل شيئاً من ذلك فالوعيد بقوله تعالى : { فلنذيقن الذين كفروا . . . } الآية منه بالمرصاد . والله تعالى أعلم .
(5/400)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال الذين كفروا } وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب : { ربنا أَرِنَا اللذَيْنِ أَضَلاَّنا من الجن والإنس } ، يعنون الفريقين الحاملين على الضلال ، من شياطين الجن والإنس ، بالتسويل والتزيين ، وقيل : هما إبليس وقابيل ، فإنهما سنّا الكفر والقتل ، وقرىء بسكون الراء تخفيفاً ، كفَخِذ وفخْذ ، وبالاختلاس ، أي : أبصرناهما ، { نَجْعَلْهُما تحت أقدامنا } أي : ندسهما تحت أرجلنا ، انتقاماً منهما ، أو : نجعلهما في الدرك الأسفل { ليكونا من الأسفلين } ذلاًّ ومهانةً ، أو : مكاناً ، جزاء إضلالهم إيانا .
الإشارة : كل مَن سقط عن درجة المقربين العارفين ، وتعوّق عن صحبتهم ، بسبب تعويق أحد ، تمنى يوم القيامة أن يكون تحت قدمه ، ليكون أسفل منه ، غيظاً وندماً ، ولا ينفع التمني والندم في ذلك اليوم . وبالله التوفيق .
(5/401)

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِن الذين قالوا ربُّنا الله } أي : نطقوا بالتوحيد واعتقدوا ، { ثم استقاموا } أي : ثبتوا على الإقرار ومقتضياته من حسن الأعمال ، وعن الصدّيق رضي الله عنه : استقاموا فعلاً ، كما استقاموا قولاً . وعنه : أنه تلاها ثم قال : ما تقولون فيها؟ قالوا : لم يذنبوا ، قال : حملتم الأمر على أشده ، قالوا : فما تقول؟ قال : لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . وعن عمر رضي الله عنه : لم يَرُوغوا رَوَغان الثعالب ، أي : لم ينافقوا . وعن عثمان رضي الله عنه : أحكموا العمل ، وعن عليّ رضي الله عنه : أدُّوا الفرائض . وعن الفُضيل : زهدوا في الفانية ، ورغبوا في الباقية . قلت : ويجمعها الإقرار بالربوبية ، والقيام بوصائف العبودية .
{ تَتَنزَّلُ عليهم الملائكةُ } عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث ، أو : في الدنيا بإلهام الخير وشرح الصدر ، وإعانتهم على الأمور الدينية ، كما أن الكفرة تقويهم ما قُيض لهم في قرناء السوء . والأظهر : العموم . { ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا } ف " أن " مخففة ، أو : تفسيرية ، أي : لا تخافوا ما تٌقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلفتم ، فالخوف : غم يلحق لتوقع مكروه ، والحزن : غم يلحق لفوات نافع ، أو حضور ضارٍّ . والمعنى : أن الله تعالى كتب لكم الأمنَ من كل غم ، فلن تذوقوه أبداً . { وأبْشِروا بالجنة التي كنتم تُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل . وقال محمد بن علي الترمذي : تتنزل عليهم ملائكة الرحمة ، عند مفارقة الأرواح الأبدان ، ألا تخافوا سلب الإيمان ، ولا تحزنوا على ما كان من العصيان ، وأبشروا بدخول الجنان ، التي تُوعدون في سالف الأزمان .
{ نحن أولياؤُكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } ، كما أن الشياطين قرناء العصاة وإخوانهم ، فكذلك الملائكة أولياء المتقين وأحباؤهم في الدارين . { ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكم } من فنون الطيبات ، { ولكم فيها ما تَدَّعون } ؛ ما تتمنون ، افتعال من الدعاء ، بمعنى الطلب ، { نُزُلا } : حال من مفعلو " تَدّعون " المحذوف ، أو : من " ما " ، والنُزُل : ما يقدم للنزيل ، وفيه تنبيه على أن ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم النعيم كالنُزُل للضيف . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إن الذين أقرُّوا بقهرية الربوبية ، وقاموا بوظائف العبودية ، تتنزل عليهم الملائكة بالبشارة الأبدية . قال القشيري : فأما الاستقامة فهي الثباتُ على شرائط الإيمان بجملتها ، من غير إخلالٍ بشيء من أقسامها .
ثم قال : مَن كان له أصل الاستقامة ، وهي التوحيد ، أَمِنَ من الخلود في النار ، ومَن كان له كمال الاستقامة أَمِنَ من الوعيد ، من غير أن يلحقه سوء بحالٍ . ويقال : استقاموا على دوام الشهود ، وانفراد القلب بالمعبود ، أو : استقاموا في تصفية العقد ، ثم في توفية العهد ، ثم في صحة القصد ، بدوام الوجد ، أو : استقاموا بأقوالهم ، ثم بأعمالهم ، ثم بصفاء أحوالهم ، في وقتهم وفي مآلهم ، أو : داموا على طاعته ، واستقاموا في معرفته ، وهاموا في محبته ، وقاموا بشرائط خدمته .
(5/402)

واستقامة العابد : ألا يعود إلى الفترة واتباع الشهوة ، ولا يدخله رياء ولا تصنُّع ، واستقامةُ العارف : ألا يشوب معرفته حظ في الدارين ، فيحجب به عن مولاه ، واستقامةُ المحبين : ألا يكون لهم أرب من غير محبوبهم؛ يكتفون من عطائه ببقائه ، ومن مقتضى جوده بدوام عِزِّه ووجوده . ه .
وقوله تعالى : { تتنزل عليهم الملائكة } أي : تمدهم بالاهتداء والأنوار ، وتلهمهم العلوم والأسرار ، في مقابلة تقييض الغافل بالقرناء الأشرار ، فكما أن الغافل يخذل بتسليط الغواة في الدارين ، كذلك العارف يُمد ويُنصر من قِبل الملائكة في الدارين .
وقوله تعالى : { ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا } أي : حيث وجدتم الله لا تخافوا من شيء ، ولا تحزنوا على فوات شيء ، إذ لم يفتكم شيء ، وماذا فقط من وجده؟
قال القشيري : لا تخافوا من عزلة الولاية ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الجناية ، وأبشروا بحسن العناية ، أو : لا تخافوا مما أسلفتم ، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم ، وأبشروا بالجنة التي وعدتم . أو : لا تخافوا المذلَّة ، ولا تحزنوا على ما أسلفتم من الزلَّة ، وأبشروا بدوام الوصلة . ه .
ثم قال في قوله تعالى : { نحن أولياؤكم } : الولاية من الله تعالى بمعنى المحبة ، وتكون بمعنى النصرة ، وهذا الخطاب بقوله : { نحن أولياؤكم } ، يحتمل أن يكون من قِبَلِ الملائكة ، الذين يتنزلون عليهم ، ويحتمل أن يكون ابتداء خطابٍ من الله تعالى ، والنصرة تصدر من المحبة ، ولو لم تكن المحبة الأزلية لم تكن تحصل النصرة في الحال . ه . وكونه من الملائكة أظهر ، كما تقدّم . والله تعالى أعلم .
(5/403)

وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
يقول الحق جلّ جلاله : { ومَن أحسنُ قولاً ممن دعا إِلى اللهِ } أي : إلى الإقرار بربوبيته ، والاستقامة على عبوديته ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من أمته ، الدعاة إلى الله في كل عصر ، أي : لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى معرفة الله ، { وعَمِل صالحاً } فيما بينه وبين ربه ، بأن عمل أولاً بما دعا إليه ، { وقال إِنني من المسلمين } تفاخراً بالإسلام ، وابتهاجاً بأنه منهم ، واتخاذ الإسلام ديناً ، من قولهم : هذا قول فلان ، أي : مذهبه؛ لأنه يتكلم بذلك ، أو : يقوله تواضعاً ، أي : من جملة عامة المسلمين .
{ ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ } ، هذا بيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد ، إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد وبين الرب عزّ وجل ترغيباً للدعاة إلى الله في الصبر على إذاية الخلق ، لأن كل مَن يأمر بالحق يُؤذَى ، فأُمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان ، أي : لا تستوي الخصلة الحسنة والخصلة السيئة ، و ( لا ) : مزيدة ، لتأكيد النفي ، { ادفع بالتي هي أحسنُ } أي : ادفع السيئة التي اعترضتك من بعض أعدائك بالتي هي أحسن منها ، وهي : أن تُحسن إليه في مقابلة إساءته ، فالحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما ، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها ، وادفع بها السيئة ، كما لو أساء إليك رجل ، فالحسنة : أن تعفو عنه ، والتي هي أحسن : أن تُحسن إليه مكان إساءته ، مثل أن يذمك فتمدحه ، ويحرمك فتعطيه ، ويقطعك فتصله . وعن ابن عباس رضي الله عنه : التي هي أحسن : الصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة . ه .
{ فإِذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌّ حميم } أي : فإنك إن فعلت ذلك انقلب عدوك المشاقق مثل وليك الحميم الشفيق ، مصافاة لك ، وهذا صعب على النفوس ، ولذلك قال :
{ وما يُلقاها إلا الذين صبروا } أي : ما يلقى هذه الخصلة التي في مقابلة الإساءة بالإحسان إلا أهل الصبر ، { وما يُلقاها إِلا ذو حظ عظيم } من الله تعالى وسبق عنايته بكمال النفس وتهذيبها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحظ العظيم : الثواب ، وعن الحسن : والله ما عظم حظ دون الجنة . وقيل : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، كان عدوّاً مؤذياً للنبي صلى الله عليه وسلم فصار وليّاً مصافياً له ، وبقيت عامة .
{ وإِما يَنزغنَّك من الشياطن نزغٌ } ، النزغ : شِبه النخس ، والشيطان ينزغ الإنسان ، كأنه ينخسه ، يبعثه على ما لا ينبغي ، وجعل النزغ نازغاً مجاز ، كجدّ جدّه ، والمعنى : وإن طرقك الشيطان على ترك ما وُصِّيْتَ به من الدفع بالتي هي أحسن ، { فاستعِذْ بالله } من شرِّه ، وامضِ على حلمك ولا تُطعه ، { إِنه هو السميعُ } لاستعاذتك ، { العليمُ } بنيتك وتعلقك به ، أو : بنزغ الشيطان ووسوسته . وهو تعليم لأمته صلى الله عليه وسلم إذ كان شيطانه أسلم على يده .
(5/404)

الإشارة : قال القشيري : قيل : الداعي إلى الله هو الذي يدعو الناس إلى الاكتفاء بالله ، وتَرْكِ طلب العِوَض من الله ، بل يَكِلُ أمره إلى الله ، ويرضى من الله بقسمة الله . ثم قال : { وعَمِلَ صالحاً } كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه ، ويقال : هم الذين عرفوا طريقَ الله ، ثم دعوا بعدما عرفوا الطريقَ إلى الله الخلقَ إلى الله ، { وقال إِنني من المسلمين } لحكمه ، الراضين بقضائه وتدبيره . ه .
وقال الشاذلي رضي الله عنه : عليك برفض الناس جملة ، إلا مَن يدلك على الله ، بإشارةٍ صادقة ، وأعمال ثابتة ، لا ينقضها كتاب ولا سُنَّة . ه . وشروط الداعي إلى الله على طريق المشيخة أربعة : علم صحيح ، وذوق صريح ، وهمّة عالية ، وحالة مرضية ، كما قال زروق رضي الله عنه . وقال الشريشي في رائيته :
وللشيخ آياتٌ إذا لَن تَكنّ له ... فما هُو إلا في ليالي الْهَوَى يَسْرِي
إذا لَمْ يكن عِلْم لَديْهِ بِظَاهرٍ ... ولاَ باطنٍ فاضْرِبْ بِهِ لُجَجَ الْبَحْرِ
أما العلم الظاهر فإنما يشترط منه ما يحتاج إليه في خاصة نفسه ، ويحتاج إليه المريد في حال سفره إلى ربه ، وهو القَدْر الذي لا بُد منه ، من أحكام الطهارة والصلاة ونحو ذلك ، ولا يشترط التبحُّر في علم الشريعة . قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه : صحبت أبا علي المسندي ، فكنت أُلقنه ما يُقيم به فرضه ، وكان يعلمني التوحيد والحقائق صِرفاً . ه . ومن المعلوم أن الشيخ ابن عباد لم يُفتح عليه إلا على يد رجل عامي ، وقد تحققت تربية كثير من الأولياء ، كانوا أميين في علم الظاهر . وأما علم الباطن فالمطلوب فيه التبحُّر التام؛ إذ المقصود بالذات في الشيخ المصطلح عليه عند القوم هو هذا العلم؛ لأن المريد إنما يطلب الشيخَ ليسلكه ويعلمه علم الطريقة والحقيقة؛ فيكون عنده علم تام بالله وصفاته وأسمائه ، ذوقاً وكشفاً ، وعلم بآفات الطريق ، ومكائد النفس ، والشيطان ، وطرق المواجيد ، وتحقيق المقامات ، كما هو مقرر في فنه ، وهذا الداعي لا تخلو الأرض منه على الكمال ، خلافاً لمَن حكم بانقطاعه . والله تعالى أعلم .
وفي الإحياء : المقتدى به هو الذي استقام في نفسه ، واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره ، لا مَن يُظهر خلاف ما هو عليه ليُقتدى به ، فإنه مُلَبِّس ، لم ينصح لنفسه ، فكيف بغيره؟ . ه .
قال الورتجبي : ومَن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ، أي : ممن عرف الله بعد أن رآه وأحبّه واشتاق إليه ، ودعا الخلق إليه ، من حيث هو فيه وصَدقه في حاله ، يدعو الخلق إلى الله بلسان الأفعال ، وصدق المقال ، وحلاوة الأحوال ، ويذكر لهم شمائل القِدَم وحق الربوبية ، ويُعرفهم صفات الحق وجلال ذاته ، ويُحبب اللهَ في قلوبهم ، وهذا عمله الصالح ، ثم يقول بعد كماله وتمكنه : إنني واحد من المسلمين ، مِن تواضعه ولطفِ حاله خلقاً وظرافةً ، وإن كان إسلامه من قُصارى أي : غاية أحوال المستقيمين .
(5/405)

قال سهل : أي ممن دلّ على الله ، وعلى عبادة الله وسُنَّة رسوله ، واجتناب المناهي ، وإدامة الاستقامة مع الله ، ثم قال : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } بيَّن اللهُ هنا أن الخُلق الحسن ليس كالخُلق السيء ، وأمر بتبديل الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة ، وأحسن الأخلاق : الحلم؛ إذ يكون به العدو صديقاً ، والبعيد قريباً ، حين دفع غضبه بحلمه ، وظلمَه بعفوه ، وسوءَ جانبه بكرمه ، وفي مظنة الخطاب : أن مَن كان متخلقاً بخلقه ، متصفاً بصفاته ، مستقيماً في خدمته ، صادقاً في محبته ، عارفاً بذاته وصفاته ، ليس كالمدعي الذي ليس في دعواه معنى .
ثم قال : { وما يُلقاها إِلا الذين صبروا } ، بيَّن الله سبحانه ألا يبلغ أحد درجة الخلق الحسن ، وحسنات الأعمال وسُنِيَّات الأفعال ، إلا مَن تصبّر في بلاء الله ، وامتحانه ، بالوسائط وغير الوسائط ، ولا يتحمّل هذه البليات إلا ذو حظ عظيم من مشاهدته ، وذو نصيب من قربه ووصاله ، صاحب معرفة كاملة ، ومحبة شاملة : وكمال هذا الصبر الاتصاف بصبر الله ، ثم الصبر في مشاهدة الأزل ، فبالصبر الاتصافي ومشاهدة الأبدي ، والحظ الجمالي ، يوازي طوارق صدمات الألوهية ، وغلبات القهّارية . ثم قال : عن الجنيد : ما يوفق لهذا المقام إلا ذو حظ عظيم من عناية الحق فيه . ه .
(5/406)

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
يقول الحق جلّ جلاله : { ومن آياته } الدالة على وحدانيته : { الليلُ والنهارُ } في تعاقبهما على حدِّ معلوم ، وتناوبهما على قدرٍ مقسوم ، { والشمسُ والقمرُ } في اختصاصهما بسير مقدّر ، ونورٍ مقرّر؛ إذ لا يصدر ذلك إلا من واحد قهّار . { لا تسجدوا للشمسِ ولا للقمر } ؛ فإنها مخلوقان مثلكم ، وإن كثرت منافعهما ، { واسجُدُوا لله الذي خلقهنَّ } أي : الليل والنهار والشمس والقمر . وحكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث في الضمير ، تقول : الأقلام بريتها وبريتهنّ . ولعلّ ناساً من المشركين كانوا يسجدون للشمس والقمر ، تبعاً للصّابئين من المجوس في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لها السجود لله تعالى فنُهوا عن هذه الواسطة ، وأُمِرُوا أن يقصدوا بسجودهم وَجْهَ الله وحده ، إن كانوا موحدين ، ولذلك قال : { إِن كنتم إِياه تعبدون } فإن السجود أقصى مراتب العبادة ، فلا بد من تخصيصه به سبحانه ، وهذا موضع السجدة عند مالك والشافعي ، وعند أبي حنيفة : ( لا يسأمون ) .
{ فإِن استكبروا } عن الامتثال ، { فالذين عند ربك } من الملائكة { يُسبّحون له بالليل والنهار } أي : دائماً ، { وهم لا يسأمون } ؛ لا يملُّون ولا يَفْتُرون ، والمعنى : فإن استكبر هؤلاء وأَبوا إلا الواسطة ، فدعْهم وشأنَهم ، فإن الله غني عنهم ، وقد عمّر سماواته بمَن يعبده ، وينزهه بالليل والنهار عن الأنداد . والعندية عبارة عن الزلفى والكرامة .
{ ومن آياته } أيضاً { أنك ترى الأرضَ خاشعةً } ؛ يابسةً مغبرة . والخشوع : التذلُّل ، فاستعير للأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها ، { فإِذا أنزلنا عليها الماء } ؛ المطر { اهتزّتْ } أي : تحركت { ورَبَتْ } ؛ انتفخت؛ لأن النبات إذا دنا أن يظهر ارتفعت به وانتفخت ، ثم تصدّعت عن النبات ، وقيل : تزخرفت وارتفعت بارتفاع نباتها ، { إِنَّ الذي أحياها لمحيي الموتَى } بالبعث ، { إِنه على كل شيءٍ قديرٌ } ، ومن جملة الأشياء : البعث والحساب .
الإشارة : الليل والنهار والشمس والقمر خَلَقَهن من أجلك ، فعارٌ عليك أن تخضع لِمَا خُلق لك ، وتترك المنعِّم بها عليك . قال القشيري : الحق سبحانه يأمرك بصيانة وجهك عن الشمس والقمر مع علوهما ، وأنت لأجلِ حظِّ خِسِيسٍ تنقل قَدَمك إلى كلّ أحدٍ ، وتذل وجهك لكل أحد . ه . وأما الخضوع لمَن أمر الله بالخضوع له من الدعاة إلى الله فهو من الخضوع لله ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع له من الدعاة إلى الله فهو من الخضوع لله ، كأمر الملائكة بالسجود لآدم ، وكأمره بالخضوع للأنبياء والأولياء ، فكان مآل مَن سجد وخضع التقريب ، ومآل مَن استكبر وأنف الطرد والبُعد ، والله تعالى غني عن الكل ، ولذلك قال : { فإن استكبروا . . . } الآية .
قوله تعالى : { ومن آياته أنك ترى الأرضَ خاشعةً . . . } الآية ، وكذلك أرض النفوس تراها يابسة بالغفلة والقسوة والجهل ، فإذا أنزل عليها ماء الحياة ، وهي خمرة المحبة ، هاجت وارتفعت ، وحييت بذكر الله ومعرفته ، إن الذي أحيا الأرض الحسية قادر على إحياء النفوس الميتة بالغفلة ، وانظر القشيري .
(5/407)

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِن الذين يُلحدون في آياتنا } أي : يميلون عن الحق في أدلتنا التكوينية ، الدالة على وحدانيتنا ، فلا ينظرون فيها ، أو : يُلحدون في آياتنا التنزيلية ، بالطعن فيها ، وتحريفها ، بحملها على المحامل الباطلة ، { لا يَخْفَونَ علينا } ، بل نجازيهم على ذلك . يقال : ألحد الكافر ولحدَ : إذا مال عن الاستقامة عن الحق .
ثم ذكر جزاءهم فقال : { أفمن يُلقى في النار خيرٌ أم من يأتي آمناً يومَ القيامةِ } قيل : نزلت في أبي جهل وعثمان ، وهي عامة ، { اعملوا ما شئتم } من الأعمال المؤدية إلى ما ذكر من الإبقاء في النار ، والإتيان آمناً ، وفيه تهديد وتنديد . { إِنه بما تعملون بصيرٌ } فيجازيكم بحسب أعمالكم .
{ إِن الذين كفروا بالذِكْرِ } ؛ القرآن { لمَّا } حين { جاءهم } مخلَّدون في النار ، أو : هالكون ، أو : معاندون ، فخبر " إن " محذوف ، دلَّ عليه ما قبله . وقيل : بدل من قوله : { إِن الذين يُلحدون في آياتنا } فخبر " إن " هو الخبر السابق ، وقال عمرو بن العلاء : الخبر : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ } [ فصلت : 44 ] ، ورُدّ بكثرة الفصل .
ثم فسّر الذكر المذكور بقوله : { وإِنه لكتابٌ عزيز } ، منيع ، محميّ بحماية الله ، لا تتأتى معارضته بحال ، أو : كثير المنافع ، عديم النظير ، { لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه } أي : لا يتطرقه الباطل من جهة من الجهات ، أو : لا يأتيه التبديل والتحريف ، أو : التناقض بوجه من الوجوه ، وأما النسخ فليس بمبطل للمنسوخ ، بل هو : انتهاء حكم إلى مدة وابتداء حكم آخر ، خلافاً لمَن احتجّ بالآية على عدم النسخ في القرآن ، انظر ابن عرفة . { تنزيلٌ من حكيم حميدٍ } أي : تنزيل من حكيم محمود ، ف " تنزيل " : خبر عن مضمر ، أو : صفة أخرى لكتاب ، مفيدة لفخامته الإضافية ، كما أن الصلتين السابقتين ، مفيدتان لفخامته الذاتية ، كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر به وبشاعة قُبحه .
الإشارة : إن الذين يُلحدون في آياتنا ، فيطعنون في أوليائنا ، الدالين علينا ، لا يخفون علينا ، وسيُلقون في نار القطيعة والبُعد مع عموم الخوف من هول المطَّلع ، أفمن يُلقى في النار خير أم مَن يأتي آمناً يوم القيامة؟ اعملوا ما شئتم من التسليم أو الانتقاد ، وكل مَن لا يصحب الرجال لا يخلو خاطره من شك أو وَهْم في مواعيد القرآن ، كالرزق وغيره ، ينسحب عليه قوله : { إِن الذين كفروا بالذكر . . . } الآية ، من طريق الإشارة . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وإِنه لكتابٌ عزيز } قال الشيخ عبد الرحمن اللجاي في كتاب " قطب العارفين " : الكتاب عزيز ، وعلم الكتاب أعز ، والعلم عزيز ، والعمل به أعز ، والعمل عزيز ، والذوق أعز ، والذوق عزيز ، والمشاهدة في الذوق أعز ، والمشاهدة عزيزة ، والموافقة في المشاهدة أعز ، والموافقة عزيزة ، والأنفس في الموافقة أعز ، والأنس عزيز ، وآداب الأنس أعز . ثم قال : لكن لا يستنشق رائحة هذه المقامات مَن غلب جهلُه على علمه ، وهواه على عقله ، وسفهُه على حلمه . ه .
(5/408)

مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
يقول الحق جلّ جلاله : { ما يُقال لك } أي : ما يقول لك كفار قومك { إِلا ما قدْ قيلَ للرسل مِن قبلك } ؛ إلا مثل ما قال للرسل كفارُ قومهم ، من الكلمات المؤذية ، والمطاعن في الكتب المنزلة ، فاصبر كما صبروا ، { إِن ربك لذو مغفرةٍ } ورحمة لأنبيائه { وذو عقابٍ أليمٍ } لأعدائهم ، وقد نصر مَن قبلك مِن الرسل ، وانتقم مِن أعدائهم ، وسيفعل مثل ذلك بك وبأعدائك ، و : { ما يُقال لك } من الوحي وتخاطب به من جهته تعالى ، { إِلا ما قد قيل للرسل } وأوحي إليهم ، فلست ببدع منهم { إِن ربك لذو مغفرة } لمَن صدق وحيه ، { وذو عقاب أليم } لمَن كذب .
{ ولو جعلناه } أي : الذكر { قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فُصِّلتْ آياتهُ } أي : هلاَّ بُيّنت بلسان العرب حتى نفهمها ، كانوا يقولون : لتعنتِهم : هلاّ نزل القرآن بلغة العجم! فقيل لهم : لو كان كما تقترحون لقلتم : هلاّ بُيّنت آياته بلغتنا لنفهمه ، { أأعجميٌّ وعربيٌّ } ، بهمزتين الأولى للإنكار ، يعني : لو نزل بلغة العجم لأنكروا وقالوا : أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ والأعجمي : الذي لا يفصح ولا يُفهم كلامه ، سواء كان من العجم أو من العرب ، والعجمي : منسوب إلى أمة العجم ، فصيحاً كان أو غير فصيح ، ومَن قرأ بهمزة واحدة ، فالمعنى : هلاَّ فُصّلت آياته فيجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم ، وبعضها عربيّاً لإفهام العرب ، فيكون معنى " فُصِّلت " : نُوِّعَت .
وقُرىء " أعجمي " بفح العين ، ويتجه على كونهم طعنوا فيه من أجل ما فيه من الكلمة العجمية ، ك { سِجِّينٍ } [ المطفِفين : 7 ] و { إِسْتَبْرَقٍ } [ الكهف : 31 ] ، فقالوا : فيه أعجمي وعربي ، مخلط من كلام العرب وكلام العجم ، وأيّاً ما كان فالمقصود : أن آيات الله عزّ وجل على أيِّ طريق جاءتهم وجدوا متعنتاً يتعلّلون به؛ لأنهم غير طالبين للحقِّ ، وإنما يتعبون أهواءهم . { قل هو للذين آمنوا هُدًى } يهديهم إلى الحق ، { وشفاءٌ } لما في الصدور من شك وشبهة؛ إذ الشك مرض .
{ والذين لا يؤمنون } به { في آذانهم وَقْرٌ } أي : صمم ، فالموصول : مبتدأ ، والجار : خبره ، وقيل : في موضع الجر ، بدل من ( الذين آمنوا ) أي : هو للذين آمنوا هُدىً وللذين لا يؤمنون في آذانهم وقر ، إلا أن فيه عطفاً على عاملين ، وهو جائز عند الأخفش . { وهو } أي : القرآن { عليهم عَمىً } ظلمة وشبهة ، { أولئك } البعداء الموصوفون بما ذكر من التعامي عن الحق الذي يسمعونه ، والتعامي عن الآيات الظاهرة التي يشاهدونها ، { يُنادَوْنَ من مكان بعيدٍ } يعني : أنهم لعدم قبولهم وانتفاعهم ، كأنهم يُنادون إلى الإيمان بالقرآن من حيث لا يسمعون ، لبُعد المسافة ، وهو تمثيل لحالهم بحال مَن يُنادي من مسافة بعيدة؛ لا يكاد يسمع من مسافتها الأصوات ، وقيل : ينادون في القيامة من مكان بعيد بأقبح الأسماء .
الإشارة : ما يُقال لك أيها المتوجه أو الوليّ ، إلا ما قد قيل لِمن قبلك من المنتسبين ، فقد أُوذِي مَن قبلك من أهل النسبة بأنواع الإذايات؛ من ضربٍ وقتلٍ وسجنٍ ، وغير ذلك ، ففيهم أُسوة لمن بَعدهم ، { إِن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } .
(5/409)

ومما جرت عادة الله في خلقه ألا يُسَلِّموا لأحياء عصرهم ما نطقوا به من حِكَم ، وأَتَوا به من علوم ، ولو بلغت من البلاغة ما بلغت ، كما وقع مِن طعن الكفرة في القرآن ، على أيّ وجه جاء ، وهي نزعة جاهلية .
وقوله تعالى : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } ، قال الورتجبي : هُدىً ، لقلوب العارفين إلى معدنه ، وهو الذات القديم ، وشفاء لقلوب العاشقين ، وأرواح مرضى المحبة وسُقمى الصبابة ، فلأنه خطاب حبيبهم ، وكتاب مشوقهم ، يستلذُّونه من حيث العبارات ، ويعرفونه من حيث الإشارات . ه . وقوله تعالى : { في آذانهم وقر } قال ذو النون : من وُقِر سمعُه وأصم عن نداء الحق في الأزل ، لا يسمع نداءه عند الإيجاد ، وإن سمعه كان ذلك عليه عمىً ، ويكون عن دقائقه بعيداً ، وذلك أنهم نُودوا عن بُعد ، ولم يكونوا بالقرب . ه . فكل مَن قرأه ذاهلاً عن تدبُّره بوساوس نفسه ، فهو ممن نُودي في الأزل عن بُعد . وبالله التوفيق .
(5/410)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد آتينا موسى الكتابَ } ؛ التوراة { فاختُلف فيه } فقال بعضهم : حق ، وقال بعضهم : كتبه بيده في الجبل ، كما اختلف قومك في كتابك القرآن ، فمِن مؤمن به وكافر ، { ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك } في حق أمتك بتأخير العذاب ، { لقُضِيَ بينهم } ؛ لأهلكهم إهلاك استئصال . وقيل : الكلمة السابقة هو العدة بالقيامة لقوله : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ } [ القمر : 46 ] ، وأن الخصومات تُفصل في ذلك اليوم ، ولولا ذلك لقُضي بينهم في الدنيا . { وإِنهم } أي : كفار قومك { لفي شكٍّ منه } من أجل القرآن { مُرِيبٍ } ؛ موقع للريبة ، وقيل : الضمير في ( بينهم ) و ( إنهم ) لليهود ، وفي ( منه ) لموسى ، أو : لكتابه ، وهو ضعيف .
{ مَن عَمِلَ صالحاً } بأن آمن بالكُتب وعمل بوحيها ، { فلنفسه } نفع ، لا غيره ، { ومَن أساء فعليها } ضرره ، لا على غيره ، { وما ربك بظلاّمٍ للعبيد } ، فيعذب غير المسيء ، أو يُنقص من إحسان المحسن .
الإشارة : الاختلاف على أهل الخصوصية سُنَّة ماضية ، { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } ، فمَن رام الاتفاق على خصوصيته ، فهو كاذب في دعوى الخصوصية ، وفي الحِكَم : " استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك " .
(5/411)

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِليه يُرَدُّ عِلْمُ الساعةِ } أي : إذا سُئل عنها يجب أن يقال : الله أعلم بوقت مجيئها ، أو : لا يعلمها إلا الله ، { وما تَخْرُجُ من ثمراتٍ من أكمامها } ؛ من أوعيتها ، جمع " كِمَ " بكسر الكاف؛ وهو وعاء الثمرة قبل أن تنشق ، أي : لا يعلم كيفية خروجها ومآلها إلا الله . { وما تحمل من أُنثى } أي : تعلقُ النطفة في رحمها ، وما ينشأ عنها من ذكورة وأنوثة وأوصاف الخلقة؛ تامة أو ناقصة ، { ولا تضع } حَملها { إِلا بعلمه } ؛ استثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : ما يحدث شيء من خروج ثمرة ، ولا حمل حامل ، ولا وضع واضع ، ملابساً بشيء من الأشياء إلا ملابساً بعلمه المحيط .
{ و } اذكر { يومَ يُناديهم } فيقولُ : { أين شركائي } بزعمكم ، أضافهم إليه على زعمهم ، وفيه تهكم بهم وتقريع ، { قالوا آذَنَّاك ما مِنَّا من شهيدٍ } أي : من أحد يشهد لهم بالشركة ، إذ تبرأنا منهم ، لما عاينا حقيقة الحال ، وتفسير " آذن " هنا بالإخبار ، أحسن من تفسيره بالإعلام؛ لأن الله تعالى كان عالماً بذلك ، وإعلام العالم محال؛ أما الإخبار للعالم بالشيء ليتحقق بما علم به فجائز ، إلا أن يكون المعنى : إنك علمت من قلوبنا الآن : أنَّا لا نشهد تلك الشهادة الباطلة؛ لأنه إذا علمه من نفوسهم ، فكأنهم أعلموه ، أي : أخبرناك بأنَّا ما منا أحد اليوم يشهد بأنّ لك شريكاً ، وما منا إلا مَن هو مُوَحَّد . أو : ( ما منا من ) أحد يشاهدهم ، لأنهم ضلُّوا عنهم في ساعة التوبيخ ، وقيل : هو من كلام الشركاء ، أي : ما منا شهيد يشهد بما أضافوا لنا من الشركة .
{ وضلّ عنهم ما كانوا يَدْعُون } ؛ يعبدون { من قَبْلُ } في الدنيا { وظنوا } ؛ وأيقنوا { ما لهم من محيصٍ } ؛ من مهرب ، والظن معلق عنهم بحرف النفي عن المفعولين .
الإشارة : إليه تعالى يُرَدُّ علمُ الساعة ، التي يقع الفتح فيها على المتوجه ، بكشف الحجاب بينه وبين حبيبه ، وما تخرج من ثمرات العلوم والحِكَم من أكمام قلبه ، وما تحمل نفس من اليقين والمعرفة ، إلا بعلمه . ثم ذمَّ مَن مال إلى غيره بالركون والمحبة ، وذكر أنه يتبرأ منه في حال ضيقه ، فلا ينبغي التعلُّق إلا به ، ولا ميل القصد والمحبة إلا له سبحانه وبالله التوفيق .
(5/412)

لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
يقول الحق جلّ جلاله : { لا يسأمُ الإِنسانُ } أي : جنسه ، أو : الكافر ، بدليل قوله : { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً } [ الكهف : 36 ] ، أي : لا يملّ { من دعاءِ الخيرِ } ؛ من طلب السعة في المال والنعمة ، ولا يملّ عن إرادة النفع والسلامة ، والتقدير : من دعائه الخير ، فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول ، { وإِن مسَّه الشرُّ } ؛ الفقر والضيق ، { فَيَؤُوسٌ } من الخير { قنوطٌ } من الرحمة ، أي : لا يرجو زواله؛ لعدم علمه بربه ، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى ربه ، بُولغ فيه من طريقين : من طريق بناء فَعول ، ومن طريق التكرير؛ لأن اليأس هو القنط ، والقنوط : أن يظهر أثر اليأس فيتضاءل وينكسر ، ويظهرَ الجزع ، وهذا صفة الكافر لقوله : { إِنَّه لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } [ يوسف : 87 ] . وقال الإمام الفخر : اليأس على أمر الدنيا من صفة القلب ، والقنوط : إظهار آثاره على الظاهر . ه .
{ ولئن أذقناه رحمةً من بعد ضراء مَسَّتْهُ ليقولَنَّ هذا لِي } أي : وإذا فرجنا عنه بصحّة بعد مرض ، أو : سعة بعد ضيق ، قال : { هذا لي } أي : هذا قد وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير ، وفضل ، وأعمال برّ ، أو : هذا لي لا يزول عني أبداً ، { وما أظنُّ الساعةَ قائمةً } أي : ما أظنها تقوم فيما سيأتي ، { ولئن رُّجِعْتُ إِلى ربي } كما يقول المسلمون ، { إِنَّ لي عنده لَلْحُسْنَى } أي : الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة ، أو : الجنة . قاس أمر الآخرة على أمر الدينا؛ لأن ما أصابه من نِعَمِ الدنيا ، زعم أنه لاستحقاقه إياها ، وأن نِعَم الآخرة كذلك . وهذا غرور وحمق ، الرجاء ما قارنه عمل ، وإلا فهو أُمنية ، " الجاهل مَن أَتْبَعَ نَفْسه هواها ، وتمنّى على الله ، والكيِّسُ مَن دَانَ نفسه ، وعَمِلَ لما بعد الموتِ " .
{ فلننبئَنَّ الذين كفروا بما عَمِلُوا } أي : فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب ، { ولَنُذِيقَنَّهم من عذابٍ غليظٍ } ؛ شديد ، لا يفتر عنهم .
{ وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعْرَضَ } ، هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان؛ إذا أصابه الله بنعمته ، أبطرته النعمة ، وأعجب بنفسه ، فنسي المنعِّم ، وأعرض عن شكره ، { ونأى بجانبهِ } ؛ وتباعد عن ذكر الله ودعائه وطاعته ، أو : ذهب بنفسه وتكبّر وتعاظم ، والتحقيق : أن المراد بالجانب النفس ، فكأنه قال : وتباعد بنفسه عن شكر ربه ، { وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ } ؛ الفقر والضر ، { فذو دعاءٍ عريضٍ } أي : تضرُّع كثير ، أي : أقبل على دوام الدعاء والابتهال . ولا منافاة بين قوله : { فَيؤوس قنوط } وبين قوله : { فذو دعاء عريض } ؛ لأن الأول في قوم ، والثاني في قوم ، أو : قَنوط في البَر ، وذو دعاء عريض في البحر ، أو : قَنُوط بالقلب ، وذو دعاء باللسان ، أو : قَنُوط من الصنم ، وذو دعاء لله تعالى .
الإشارة : اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعياً بلسانه ، راضياً بقلبه ، إن أجابه شكر ، وإن منعه انتظر وصبر ، ولا ييأس ولا يقنط ، فإنه ضَمِنَ الإجابة فيما يريد ، لا فيما تريد ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد ، وإن فرّج عنك نسبتَ النعمةَ إليه ، دون شيء من الوسائط العادية ، هذا ما يُفهم من الآية ، وتقدّم الكلام عليها في سورة هود . وبالله التوفيق .
(5/413)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل أرأيتم } ؛ أخبروني { إِن كان } القرآن { من عندِ اللهِ ثم كفرتُمْ به } ؛ جحدتم أنه من عند الله ، مع تعاضد موجبات الإيمان به ، { مَنْ أَضلُّ } منكم؟ فوضع قوله : { ممن هو في شقاق بعيد } موضعه ، شرحاً لحالهم ، وتعليلاً لمزيد ضلالهم .
{ سَنُريهِمْ آياتنا } الادلة على حقيَّتِه وكونه من عند الله ، { في الآفاق } من فتح البلاد ، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية ، وآثار النوازل الماضية ، وما يسَّر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوحات ، والظهور على آفاق الدنيا ، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب ، على وجه خرق العادة ، { و } نريهم { في أنفسهم } ؛ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم .
وقال ابن عباس : في الآفاق : منازل الأمم الخالية وآثارهم ، وفي أنفسهم : يوم بدر . وقال مجاهد وغيره : في الآفاق : ما يفتح الله من القرى على نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وفي أنفسهم : فتح مكة . وقيل : الآفاق : في أقطار السموات والأرض ، من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، وما يترتب عليها من الليل ، والنهار ، والأضواء ، والظلال ، والظلمات ، ومن النبات ، والأشجار ، والأنهار ، { وفي أنفسهم } : من لطيف الصنعة وبديع الحكمة ، من تكوين النطفة في ظلمات الأرحام ، وحدوث الأعضاء العجيبة ، والتركيبات الغريبة ، كقوله تعالى : { وَفِى أَنفُسِكُمْ . . . } [ الذاريات : 21 ] .
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك ، بمعنى أن الله تعالى سيُطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً ، ويَزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً ، { حتى يتبين لهم } بذلك { أنه الحقُّ } أي : القرآن ، أو : الإسلام ، أو : التوحيد ، { أوَلَمْ يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيدٌ } ، توبيخ على تردُّدهم في شأن القرآن ، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات ، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى . والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام ، أي : أَلَمْ يُغن ولم يكف ربك . والباء : مزيدة للتأكيد ، ولا تكاد تزاد إلا مع " كفى " .
و ( أنه . . . ) الخ : بدل منه ، أي : ألم يُغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على كل شيء ، وقد أخبر أنه من عنده . وقيل : معناه : إن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب؛ الذي هو على كل شيء شهيدٌ .
{ أَلا إِنهم في مِريةٍ } ؛ شك عظيم { من لقاءِ ربهم } فلذلك أنكروا القرآن ، { ألا إِنه بكل شيءٍ محيط } ؛ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها ، وظواهرها ، وبواطنها ، فلا يخفى عليه خافية منهم ، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم ، لا محالة .
الإشارة : قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال في مقام الإيمان ، وعلى مقام العيان في مقام الإحسان ، أي : سنُريهم آياتنا الدالة على وجودنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، أي : في العوالم المنفصلة والمتصلة ، حتى يتبين لهم أنه الحق ، أي : وجوده حق ، لأن الصنعة قطعاً تحتاج إلى صانع ، ثم رقَّاهم إلى مقام المراقبة بقوله : { أوَلم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } ، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله : { ألا إِنهم } أي : أهل الجهل بالله ، { في مرية من لقاء ربهم } في الدنيا ، بحصول الفناء ، فيفنى وجود العبد في وجود الحق ، ألا إنه بكل شيء محيط ، فبحر العظمة أحاط بكل شيء ، وأفنى كل شيء ، ولم يبقَ مع وجوده شيء .
(5/414)

وفي الحِكَم : " ما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهُّم موجود معه " وقال أيضاً : " الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فأحدية الذات محت وجودَ الأشياء كلها ، ولم يبقَ إلا القديم الأزلي .
وقال القطب ابن مشيش لأبي الحسن رضي الله عنه : يا أبا الحسن ، حدّد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء ، وعند كل شيء ، ومع كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، وفوق كل شيء ، وتحت كل شيء ، وقريباً من كل شيء ، ومحيطاً بكل شيء ، بقُرب هو وصفه ، وبحيطة هي نعته ، وعَد عن الظرفية والحدود ، وعن الأماكن والجهات ، وعن الصحبة والقرب في المسافات ، وعن الدور بالمخلوقات ، وأمحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو هو هو ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان . ه .
وقوله : وعد عن الحجهات ، جاوز عن اعتقادها؛ إذ لا ظرف ، ولا حد ، ولا مكان ، ولا جهة ، إذ الكل عظمة ذاته ، وأنوار صفاته ، والحد إنما يتصور في المحدود ، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية ، ولا يحصرها مكان ، ولا جهة؛ إذ الكل منه وإليه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، عين بحر التحقيق ، وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليماً .
(5/415)

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
يقول الحق جلّ جلاله : { حم . عسق } يُشير والله أعلم بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى الله عليه وسلم ، فالحاء : أحبَبْنَاك ، أو : حبيْناك ، أي : أَعطيناك الملك والملكوت ، والميم : ملَّكناك ، والعين : عَلَّمناك ما لم تكن تعلم ، أو : عيّناك للرسالة ، والسين : سيّدناك ، والقاف : قرّبناك . { كذلك يُوحِي إِليك } أي : كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك { وإِلى الذين مِن قبلك } ، فقد خصصناهم ببعض ذلك ، وأوحينا إليهم ، وفي ابن عطية : عن ابن عباس : أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله ، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب ، ولذلك قال تعالى : { كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك } . وقال القشيري : الحاء : مفتاح اسمه حكيم وحفيظ ، والميم : مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن ، والعين : مفتاح اسمه عليم وعليّ ، والسين : مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب ، والقاف : مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس ، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد . ه .
وقال ابن عطية : وإنما فصلت " حم عسق " ، ولم يفعل ذلك ب " كهيعص "؛ لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها . ه . زاد النسفي : وأيضاً : هذه آيتان ، و " كهيعص " آية واحدة . ه . فانظره .
{ اللهُ } أي : يوحي الله { العزيزُ الحكيمُ } : فاعل " يُوحي " ، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول . و " الله " : فاعل بمحذوف ، كأن قائلاً قال : مَن المُوحِي؟ فقال : { الله العزيز الحكيم } أي : الغالب بقهره ، الحكيم في صنعه وتدبيره .
{ له ما في السماوات وما في الأرض } مُلكاً وملِكاً ، { وهو العليُّ } شأنه { العظيمُ } سلطانه وبرهانه .
ثم بيّن عظمته ، فقال : { يكادُ السماواتُ يتفطَّرْنَ من فوقهن } ؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه ، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله : { وهو العلي العظيم } . وقيلَ : من دعائهم له ولداً ، كقوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ } [ مريم : 90 ] إلخ ، ويؤيده : مجيء قوله : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } [ الشورى : 6 ] . وقرأ البصريّ وشبعة : " ينفطرن " ، والأول أبلغ . ومعنى : { من فوقهن } أي : يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية . وتخصيصها على التفسير الأول؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة ، وأيضاً : استقرار الملائكة إنما هو من فوق ، فكادت تنشق من كثرة الثِقل ، كما في الحديث : " أطَّت السماء ، وحُقّ لها أن تَئطَّ ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد " .
وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء ، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى . وقيل : " من فوقهن " : من فوق الأرض ، فالكناية راجعة إلى الأرض ، من قوله : { له ما في السماوات وما في الأرض } لأنه بمعنى الأرضين .
(5/416)

{ والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربهم } خضوعاً؛ لِمَا يرون من عظمته ، { ويستغفرون لمَن في الأرض } أي : للمؤمنين منهم ، خوفاً عليهم من سطواته ، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات ، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه ، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى . ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض ، الذين تبرؤوا من تلك الكلمات ، { ألا إِنَّ اللهَ هو الغفورُ الرحيمُ } حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه .
الإشارة : حم عسق ، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه ، وتنويهه بقدرهم ، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك ، وأسرار الملكوت ، والعين إلى علو رتبتهم ، أو إلى علومهم اللدنية ، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم ، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم ، فيمتحي القرب من شدة القرب ، وبذلك صاروا مقربين . والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام؛ وحي أحكام ، ووحي منام ، ووحي إلهام ، ووحي إعلام ، فاختصت الأنبياء بالأول ، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة . ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات .
وقوله تعالى : { يكاد السماوات يَتَفَطَّرن } أي : يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه . وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات ، وكذلك الأرواح؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله ، وإذا كثفت بشريتها ، بمباشرة الحس واتباع الهوى ، غلظ حجابها ، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها . وقوله تعالى : { ويستغفرون لمَن في الأرض } ، انظر جلالة قدر هذا الآدمي ، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له ، ويسعون في مصالحه ، فاستحِي من الله أيها العبد ، إن كان لك عقل وتمييز .
(5/417)

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قلت : { وكذلك } : الكاف في محل النصب على المصدر ، و { قرآناً } : مفعول " أوحينا " .
يقول الحق جلّ جلاله : { والذين اتخذوا من دونه أولياء } ؛ شركاء ، يُوالونهم بالعبادة والمحبة { اللهُ حفيظ عليهم } : رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، فيجازيهم بها ، { وما أنت عليهم بوكيلٍ } ؛ بموكّل عليهم ، تجبرهم على الإيمان ، ثم نسخ بالجهاد . أو : ما أنت بموكول إليك أمرهم ، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك .
{ وكذلك أوحينا إِليك قرآناً عربيّاً } أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً ، لا لبس فيه عليك ولا على قومك ، { لِتُنذِر أُمَّ الْقُرَى } أي : أهلها ، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها ، أو : لأنها أشرف البقع ، { و } تُنذر { مَنْ حولها } من العرب أو من سائر البلاد . قال القشيري : وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة؛ لأنها سُرَّةُ الأرضِ . ه .
{ وتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } ؛ يوم القيامة؛ لأنه تجمع فيه الخلائق ، وفيه تجمع الأرواح والأشباح . وحذف المفعول الثاني من " تُنذر " الأول للتهويل ، أي : لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة ، { لا ريبَ فيه } ؛ لا شك في وقوع ذلك اليوم ، { فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير } أي : بعد جمعهم في الموقف يفترقون ، فريق يُصرف إلى الجنة ، وفريق إلى السعير بعد الحساب ، والتقدير : فريق منهم في الجنة . والجملة : حال ، أي : وتنذر يوم الجمع متفرقين .
{ ولو شاء اللهُ لجعلهم } في الدنيا { أمة واحدة } إما مهتدين كلّهم ، أو ضالين ، { ولكن يُدْخِلُ مَن يشاء في رحمته } أي : ويُدخل مَن يشاء في عذابه ، يدلّ عليه ما بعده ، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب : اختلاف الداخلين فيهما ، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة ، بل جعلهم فريقين ، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له . { والظالمون ما لهم من وَليٍّ ولا نصير } ؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع .
قال أبو السعود : والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله : { أمة واحدة } الاتحاد في الكفر ، كما في قوله تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً . . . } [ البقرة : 213 ] الآية ، على أحد الوجهين ، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس ، أو فترة نوح . ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر ، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع ، وما فيه من ألوان الأهوال ، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته إن شاء ذلك ، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم ، فيتأثر بعضهم بالإنذار؛ فيعرفون الحق؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة ، ويُدخلهم في رحمته ، ولا يتأثر به الآخرون ، ويتمادى في غيهم ، وهم الظالمون ، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه ، ويصيرون في الآخرة إلى السعير ، من غير وليٍّ يلي أمرهم ، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب .
(5/418)

ه .
{ أَم اتخذوا من دونه أولياءَ } ، هذه جملة مقررة لِما قبلها ، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير . و " أم " : منقطعة ، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها . والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه ، أي : ليس المتخَذون أولياء ، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه . وقوله : { فالله هو الوليُّ } : جواب عن شرط مقدّر ، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام : إن إرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ ، لا وليّ سواه . { وهو يُحيي الموتى } أي : ومن شأنه إحياء الأموات ، { وهو على كل شيءٍ قديرٌ } فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً ، فليخصُّوه بالاتخاذ ، دون مَن لا يقدر على شيء . وبالله التوفيق .
الإشارة : قال القشيري : كلُّ مَن تبع هواه ، وترك لله حدّاً ، أو نقض له عهداً؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً ، فالله يَعلمه ، لا يخفى عليه أمره ، وعلى الله حسابه ، ثم إن شاء عَذَّبه ، وإن شاء غَفَرَ له . ه . فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله : لا تأسَ عليهم إن أدبروا ، الله حفيظ عليهم ، وما أنت عليهم بوكيل . وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله ، يُنذر الناس بالقرآن ، فمَن تبعه كان من أهل الجنة ، ومَن خالفه كان من أهل السعير ، وبقي خلفاؤه من بعده ، العلماء بالله ، الذين يُذكِّرون الناس ، ويدلونهم على الله ، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة؛ جنة المعارف ، أو الزخارف ، أو هما ، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير ، نار القطيعة أو الهاوية .
قال القشيري : كما أنهم اليومَ فريقان؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات ، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد ، فكذلك غداً ، فريقٌ هم أهل اللقاء ، وفريق هم أهل الشقاء . { ولو شاء الله } أي : أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع . ه .
وقوله تعالى : { فاللهُ هو الوليُّ } تحويش إلى التوجُّه إلى الله ، ورفض كل ما سواه ، كما قال بعضهم : اتخذ الله صاحباً ، ودع الناس جانباً ، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله ، ومن حُبه أبعده .
(5/419)

وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
يقول الحق جلّ جلاله : { وما اختلفتمْ فيه من شيءٍ فحُكمه إِلى الله } ، حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين ، بدليل قوله : { ذلكم اللهُ ربي } أي : ما خالفكم الكفار فيه من أهل الكتاب والمشركين ، من أمور الدين ، واختلفتم أنتم وهم ، فحُكم ذلك المختلف فيه راجع إلى الله ، ومُفوض إليه ، وهو إثابةُ المحقّين فيه ، ومعاقبة المبطلين . والمختار العموم ، أي : وما اختلفتم فيه أيها الناس من أمور الدين ، سواء رجع ذلك الاختلاف إلى الأصول أو الفروع ، فحُكم ذلك إلى الله ، وقد قال في آية أخرى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] .
فكل ما اختلف فيه يُردّ إلى كتاب الله ، ثم إلى سنّة رسول الله ، ثم إلى الإجماع ، ثم القياس ، فهذه هي قواعد الشريعة ، وعليها بُنيت الأحكام ، فمَن خرج عنها فهو مبطل ، ففي كتاب الله ، وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم من علم الأصول والفروع ما فيه غُنية ، فإن لم يوجد نص فالإجماع أو القياس .
وقيل : ما اختلفتم فيه من العلوم ، التي لا تتصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى علمه ، فقولوا : الله أعلم .
ثم قال : { ذلكم اللهُ ربي } أي : ذلكم العظيم الشأن؛ الله مالكي ومدبر أمري ، { عليه توكلتُ } في جميع أموري ، لا على غيره ، { وإِليه أُنيبُ } ؛ أرجع في كل ما يعرض لي ، لا إلى أحد سواه . وحيث كان التوكُّل أمراً واحداً مستمراً ، والإنابة متعددة ، متجددة بحسب تجدُّد مؤداها ، أُوثر في الأول صيغة الماضي ، والثاني صيغة المضارع .
{ فاطرُ السماواتِ والأرضِ } ؛ خالقهما ومظهرهما ، وهو خبر ثان لذلكم ، أو عن مضمر ، { جعل لكم من أنفسكم } ؛ من جنسكم { أزواجاً } ؛ نساء { ومن الأنعام أزواجاً } أي : وجعل للأنعام من جنسها أزواجاً ، أو : خلق لكم من الأنعام أصنافاً؛ ذكوراً وإناثاً ، { يذرؤكم فيه } أي : يكثّركم فيما ذكر من التدبير البديع ، من : الذرء ، وهو البث ، فجعل الناس والأنعام أزواجاً ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، واختير لفظ " فيه " على " به "؛ لأنه جَعَل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير . والضمير في " يذرؤكم " يرجع إلى المخاطَبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على غيرهم .
وقال الهروي : { يذرؤكم فيه } أي : يكثّركم بالتزويج ، كأنه قال : يذرؤكم به . ه . وقال ابن عطية : لفظة " ذرأ " تزيد على لفظة " خلق " معنى آخر ، ليس في خلق ، وهو توالي طبقاته على مرّ الزمان ، وقوله : " فيه " الضمير عائد على الجعل . وقال القتبي : الضمير للتزويج . ه .
{ ليس كمثله شيءٌ } أي : ليس مثله شيء في شأن من الشؤون ، التي من جملتها هذا التدبير البديع . قيل : إن كلمة التشبيه كررت لتأكيد نفي التماثل؛ لأن زيادة الحرف بمنزلة إعادة الجملة .
(5/420)

قال ابن عطية : الكاف مؤكدة للتشبيه ، فنفي التشبيه أوكد ما يكون ، وذلك أنك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمر ، فإذا أردت المبالغة التامة قلت : زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعلى هذا المعنى شواهد كثيرة . ه .
قال النسفي : وقيل : المثل زائد ، والتقدير : ليس كهو شيء ، كقوله تعالى : { فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِ } [ البقرة : 137 ] ، وهذا لأن المراد نفي المثليّة ، وإذا لم نجعل الكاف أو المثل زيادة كان إثبات المثل . ه . والجواب ما تقدّم لابن عطية .
وقيل : الآية جرت على طريق الكناية ، كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود ، أي : أنت لا تبخل؛ لأنه إذا نفي البخل عمن هو مثله كان نفيه عنه أولى .
ثم قال تعالى : { وهو السميعُ البصيرُ } ؛ سميع لجميع المسموعات بلا آذان ، بصير بجميع المبصرات بلا أجفان . وذكرهما لئلا يتوهم أنه لا صفة له ، كما لا مثل له ، وقدّم تنزيهه عن المماثلة على وصفه بالسمع والبصر ليعلمنا أن سمعه وبصره ليس كسمعنا وبصرنا .
{ له مقاليدُ السماواتِ والأرضِ } مفاتيح خزائنها ، { يبسطُ الرزقَ لمَن يشاءُ } أي : يوسعه { ويَقْدرُ } أي : يُضيق على ما تقتضيه المناسبة المبنية على الحِكَم البالغة . { إِنه بكل شيءٍ عليمٌ } لا يخفى عليه شيء ، فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل ، على ما تقتضيه مشيئته وحكمته البالغة .
قال ابن عرفة : تضمنت هذه الآية وصفه تعالى بجميع صفات الكمال ، فالقدرة في قوله : { فاطر السماوات والأرض } والوحدانية في قوله : { ليس كمثله شيء } والإرادة في قوله : { يبسط الرزق لمَن يشاء } ؛ لأن تخصيص البعض بالبسط إنما هو بالإرادة . والعلم في قوله : { إنه بكل شيء عليم } ، والكلام في قوله : { شرع لكم من الدين } ؛ لأن المراد به الحكم الشرعي ، وهو خطاب الله تعالى المعلّق بأفعال المكلفين ، وخطابه كلامه . ه . زاد في الحاشية الفاسية : يعني وكل وصف من هذه الأوصاف يستلزم الحياة ، مع أنه قال : { يُحيي الموتى } والإحياء إنما يكون من الحي . ه .
الإشارة : قوله تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء } قال القشيري : ويُقال إذا لم تهتدوا إلى شيء وتعرضت منهم الخواطر؛ فَدَعُوا تدبيركم والتجئوا إلى ظلِّ شهود تقديره ، وانتظروا ما الذي ينبغي لكم أن تفعلوا بحُكم تيسيره . ويقال : إذا اشتغلت قلوبكم بحديث أنفسكم ، فلا تدرون أبالسعادة جَرَى حُكْمُكم ، أو بالشقاوة جرى اسمُكم ، فَكِلوا الأمرَ فيه إلى الله ، واشتغلوا في الوقت بأمر الله ، دون التفكُّر فيما ليس له سبيل إلى عِلْمِه من عواقبكم . ه .
وقوله : { فاطرُ السماوات والأرض } أي : شققهما من أسرار الغيب ، ومتجلٍّ بهما وسائر الكائنات . جعل لكم في عالم الحكمة من أنفسكم أزواجاً ليقع التناسل ، بعضكم من بعض ، ومن الأنعام أزواجاً ليقع التناسل فيها؛ وأما بحر الجبروت فليس كمثله شيء .
(5/421)

وقال بعض العارفين : ليت شعري هل معه شيء حتى يشبهه أو لا يشبهه ، كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان . فقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } أي : ليس معه شيء حتى يشبهه .
وقال الورتجبي عن الواسطي : أمور التوحيد كلها خرجت من هذه الآية؛ لأنه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة ، والعبارة منقوضة؛ لأن الحق لا يُنعت على أقداره؛ لأن كل ناعت مُشرف على المنعوت ، وجلّ أن يشرف عليه مخلوق . وقال الشبلي : كل ما ميزتموه بأوهامكم ، وأدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم ، فهو مصروف إليكم ، ومردود عليكم ، محدث مصنوع مثلكم؛ لأن حقيقته عالية عن أن تلحقها عبارة ، أو يدركها وهم ، أو يحيط بها علم ، كلا ، كيف يحيط به علم ، وقد اتفق فيه الأضداد ، بقوله : { هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] ؟ أيّ عبارة تخبر عن حقيقة هذه الألفاظ؟ كلاّ ، قصرت عنه العبارة ، وخرست الألسن لقوله : { ليس كمثله شيء } . ه .
(5/422)

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
يقول الحق جلّ جلاله : { شَرَعَ } أي : بيَّن وأظهر { لكم من الذين ما وَصَّى به نوحاً } ومَن بعده مِن أرباب الشرائع ، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام ، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً . وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً ، أجمع عليه الرسل ، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم ، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه؛ لاتفاق الكل على نبوة جُلهم . قيل : خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية ، ونبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالوحي؛ لأن متعلق الوصية غير الموصي ، بل الموصى إليه به ، ومتعلق الوحي : الموحى إليه بذاته ، ولمَّا كان صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً ، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له ، ومنذِرين بشريعته ، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه " محمد " ، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به . انظر ابن عرفة .
قلت : والظاهر أنه تفنُّن ، وفرار من تكرار لفظ الوحي؛ إذ الموحى به هو قوله : { أنْ أقيموا الدِّين } وهو الذي أوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام . وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته صلى الله عليه وسلم ب " الذي " لتفخيم شأنه من تلك الحيثية ، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة يعني في صدر السورة من قوله : { كذلك يُوحي إليك . . . } وفي آخرها من قوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } ، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته صلى الله عليه وسلم القامع لإنكار الكفرة . والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه ، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً . وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً أي : فلا ينبغي إنكاره وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين؛ للتشريف ، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام . ه .
ثم فسَّر ما وصاهم به فقال : { أنْ أقيموا الدينَ } أي : دين الإسلام ، الذي هو توحيد الله تعالى ، وطاعته ، والإيمان بكتبه ورسله ، وبيوم الجزاء ، وسائر أركان الإيمان . والمراد بإقامته : تعليل أركانه ، وحفظه من أن يقع فيه زيغ ، والمواظبة عليه ، والتشمير في القيام به . وموضع " أن أقيموا " إما : نصب ، بدل من مفعول " شرع " ، أو : رفع ، خبر جواب عن سؤال مقدَّر ، كأن قائلاً قال : وما ذاك؟ فقال : هو إقامة الدين . { ولا تتفرقوا فيه } ؛ ولا تختلفوا في الدين ، فالجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ، والمراد : الاختلاف في الأصول ، دون الفروع المختلفة حسب اختلاف الأمم باختلاف الأعصار ، كما ينطق به قوله تعالى :
(5/423)

{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] .
{ كَبُرَ على المشركين } أي : عظم وشقّ عليهم { ما تدعوهم إِليه } من التوحيد ، ورفض عبادة الأصنام ، الذي هو إقامة الدين ، { اللهُ يجتبي } أي : يجلب ويجمع { إِليه مَن يشاء } بالتوفيق والتسديد ، { ويهدي إِليه مَن يُنيبُ } ؛ يُقبل على طاعته . فالاجتباء يرجع إلى تصديق القلب ، والإنابة إلى توفيق الطاعة في الظاهر .
{ وما تَفرقوا } أي : أهل الكتاب من بعد أنبيائهم { إِلا مِن بعد ما جاءهم العلمُ } ؛ إلا بعد أن علموا أن الفُرقة ضلال ، وأمر متوعّد عليه على ألسنة الرسل ، { بغياً بينهم } حسداً ، وطلباً للرئاسة ، والاستطالة بغير حق ، أو : ما تفرّقوا في الدين الذي دُعوا إليه ، وهو الإسلام ، ولم يؤمنوا كما آمن بعضهم إلا مِن بعد ما جاءهم العلم بحقيقته؛ لما يشهدونه في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقيّة ، حسبما وجدوه في كتبهم ، أو : العلم بمبعثه صلى الله عليه وسلم .
{ ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك } ، وهي العِدَة بتأخير العقوبة { إِلى أجلٍ مسمى } هو يوم القيامة { لقُضي بينهم } أي : لوقع القضاء بينهم ، وأهلكوا حين افترقوا لعظم ما اقترنوا . { وإِن الذين أُورثوا الكتاب مِن بعدهم } وهم المشركون { لفي شك منه } أي : القرآن { مُريبٍ } ؛ مُوقع في الريبة . وهو بيان لكيفية كفر المشركين ، بعد بيان كيفية كفر أهل الكتاب ، أي : وإن المشركين الذي أُوتوا القرآن من بعدهم ، أي : من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، لفي شك من القرآن مريب . والظاهر : أن التفرُّق المذكور هنا إنما هو في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سياق النظم إنما هو لبيان أحوال هذه الأمة ، وإنما ذكر مَن ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم ، أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيداً لوجوب إقامته ، وتشديداً للزجر عن التفرُّق والاختلاف . فالتعرُّض لبيان تفرُّق أممهم عنه ربما يُوهم الإخلال بذلك المرام . قاله أبو السعود .
الإشارة : الذي شرع الله من الدين لأقوياء عباده ، ووصّى به خواص أنبيائه : أن يشاهدوه وحده في الباطن ، ويقوموا برسم العبودية في الظاهر ، وهذا هو إقامة الدين ، الذي يجب الاتفاق عليه ، لكن لا ينال هذا إلا بعد موت النفوس ، وحط الرؤوس ، وبذل الفلوس . ولذلك كَبُرَ على أهل الفَرْق ، قال تعالى : { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } ، فإذا وفق العبد لفعل ما تقدم ، وسلك طريقه؛ اجتباه ربه لحضرته ، بعد أن هداه لسلوك طريقته . قال تعالى؛ { الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب } فالاجتباء جذب ، والإنابة سلوك ، الاجتباء للحقيقة ، والإنابة للشريعة والطريقة . وقدّم الاجتباء على الاهتداء اهتماماً بأمره؛ لأن الجذب عناية يختص به أهل الولاية ، والإنابة هداية ينالها كل مَن تمسّك بالشريعة . وحقيقة الجذب : شهود الخلق بلا خلق ، وحقيقة السلوك المحض : شهود الخلق بلا حق ، وحقيقة الجذب في السلوك : شهود الحق في قوالب الخلق ، أو : شهود الخلق في مظهر الحق .
فالناس ثلاثة : مجذوبون فقط ، سالكون فقط ، مجذبون سالكون ، فالأولان لا يصلحان للتربية ، والثالث هو الذي يصلح للتربية ، وهو الذي يتقدمه السلوك ، ثم يختطف إلى الحضرة في مقام الفناء ، ثم يرجع إلى السلوك في مقام البقاء . وما وقع من التفرُّق والاختلاف في جانب النبوة ، يقع في جانب الولاية ، سُنَّة ماضية ، فيجب على الداعي إلى الله أن يجهد نفسه في الدعاء إليه ، ولا يبالي باختلافهم
(5/424)

فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
يقول الحق جلّ جلاله : { فلذلك فادْعُ } أي : فلأجل ذلك التفرُّق ، ولما حدث بسببه من تشعُّب الكفر شعباً ، فادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملّة الحنيفيّة القيّمة ، { واستقِمْ } عليها ، وعلى الدعوة إليها { كما أُمرتَ } ؛ كما أمرك الله . أو : لأجل ما شرع لكم من الدين القويم القديم ، الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون ، فادع الناس كافة إلى إقامته ، والعمل بموجبه؛ فإن كلاًّ من تفرقهم وشكِّهم ، سبب للدعوة إليه والأمر بها ، أو : فإلى ذلك الدين المشروع فادع ، واستقم عليه ، وعلى الدعوة إليه ، كما أُمرت وأوحي إليك .
{ ولا تتبع أهواءهم } الباطلة ، وعقائدهم الزائغة ، { وقل آمنتُ بما أنزلَ اللهُ من كتاب } أيّ كتاب كان من الكتب المنزلة ، لا كالذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، وهم أهل الكتاب ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً } [ النساء : 151 ] ، وفيه تحقيق للحق ، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول ، وتأليف لقلوب أهل الكتابين ، وتعريض بهم . { وأُمرتُ لأعْدِلَ بينكم } في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ ، أو : في تبليغ الشرائع والأحكام ، لا أخص بعضاً دون بعض ، أو : لأُسوِّي بيني وبينكم ، ولا آمركم بما لا أعملُ به ، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه . أو : لا أفرق بين أكابركم وأصاغركم . واللام : إما على حقيقتها ، أي : أمرت بذلك لأعدل ، أو : زائدة ، أي : أمرت أن أعدل بينكم .
{ اللهُ ربُّنا وربُّكم } خالقنا جميعاً ، ومتولي أمورنا ، كلنا عبيده ، { لنا أعمالنا } لا يتخطانا ثوابها أو عقابها ، { ولكم أعمالكم } لا يجاوزكم وبالها إلى غيركم ، أو : لنا ديننا التوحيد ، ولكم دينكم الشرك . { لا حُجةَ بيننا وبينكم } أي : لا خصومة؛ لأن الحق قد وضح ، ولم يبق للمحاجّاة حاجة ، ولا للفصاحة محل ، سوى المكابرة . { اللهُ يجمع بيننا } يوم القيامة { وإِليه المصيرُ } ؛ المرجع ، فيظهر هناك حالنا وحالكم . وهذه محاججة ، لا متاركة ، فلا نسخ فيها .
{ والذين يُحاجُّون في الله } ؛ يُخاصمون في دينه { من بعد ما اسْتُجيبَ له } ؛ من بعد ما استجاب له الناس ، ودخلوا فيه ، ليردّوهم إلى دين الجاهلية ، كقوله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً . . . } [ البقرة : 109 ] ، والتعبير عن ذلك بالاستجابة؛ باعتبار دعوتهم إليه ، أو : من بعد ما استجاب الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وأيّده بنصره ، كيوم بدر ، أو : من بعد ما استجاب له أهل الكتاب ، بأن أقرُّوا بنعوته صلى الله عليه وسلم ، واستفتحوا به قبل مبعثه . وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون للمؤمنين : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن خيرٌ منكم ، فنزلت : { والذين يُحاجون . . . } الآية . { حُجتُهم داحضةٌ } ؛ باطلة ، { عند ربهم } ، وإذا كانت داحضة من حيث كونه ربّاً رؤوفاً فأحرى من حيث كونه قاهراً منتقماً . وسمّاها حُجة ، وإن كانت شُبهة؛ لزعمهم أنها حُجة . { وعليهم غَضَبٌ } عظيم ، لمكابرتهم الحق بعد ظهوره { ولهم عذاب شديدٌ } لا يُقادر قدره .
(5/425)

الإشارة : إذا استولت الغفلة على الناس ، وتفرّقت القلوب ، يجب على أهل البصيرة النافذة أن يتحركوا لوعظ الناس وتذكيرهم ، ولا يلتفتون إلى أهوائهم ، وما هو مشغوفون به من حظوظهم . قال تعالى : { فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم } فتدعون الناس إلى التوحيد ، وإقامة الشرائع ، بامتثال الأوامر ، واجتناب المناكر ، ثم يدسونهم إلى حضرة الحق ، إن رأوا منهم مَن هو أهله ، فمَن فعل هذا كان قدره عند الله عظيماً ، وجاهه كبيراً . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده؛ إن شئتم لأُقسمنّ لكم : إِنَّ أحب عبادِ الله إلى الله الذين يُحببون الله إلى عباده ، ويُحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " .
ومن وظيفته أن يقول : آمنتُ بما أنزل الله من كتاب ، وما بعث من نبي ووليّ ، وأمُرتُ لأعدل بينكم في الوعظ ، والنصيحة ، وإمداد المدد ، لكن يأخذ كل واحد على قدر صدقه وتعظيمه ، ثم يقول : { الله ربنا وربكم } ، يخص برحمته مَن يشاء ، لنا أعمالنا : ما يليق بنا من عبادة القلوب ، ولكم أعمالكم : ما تطيقونه من عبادة الجوارح ، لا خصومة بيننا وبينكم؛ لأن قلوبنا سالمة لكم . الله يجمعُ بيننا وبينكم في الدنيا بجمع متصل ، وإليه مصير الكل بالموت والفناء . والذين يُحاجون في الله ، أي : يخاصمون في طريق الله ، ويقولون : انقطعت التربية ، حُجتهم داحضة ، وعليهم غضب البُعد ، ولهم عذاب الكدّ والتعب .
(5/426)

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
يقول الحق جلّ جلاله : { اللهُ الذي أنزل الكتابَ } ؛ القرآن ، أو : جنس الكتاب ، { بالحق } ؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره ، أو : بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام ، { والميزانَ } ؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس ، أي : أنزله في كتبه المنزلة ، وأمر به ، أو : الشرع الذي يُوزن به الحقوق ، ويساوي بين الناس . وقيل : هو عين الميزان ، أي : الآلة ، أنزله في زمن نوح عليه السلام . { وما يُدريكَ } أيَّ شيء يجعلك عالماً { لعلَّ الساعةَ } التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق { قريبٌ } مجيئها . وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر ، وقيل : وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب : أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية ، والعمل بالشرائع ، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم ، ووزن أعمالكم .
{ يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها } استعجال إنكار واستهزاء ، { والذين آمنوا مُشْفِقُون } ؛ خائفون { منها } وجلون؛ لهولها ، { ويعلمون أنها الحقُّ } الكائن لا محالة ، { أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة } ؛ يجادلون فيها ، من : المرية ، أو : المماراة والملاحاة ، أو : من : مريت الناقة : إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة . { لفي ضلالٍ بعيدٍ } عن الحق؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر ، وقد تواترت الشرائع على وقوعها ، والعقول تشهد أنه لا بد من دار الجزاء ، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً .
{ اللهُ لطيف بعباده } أي : برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار ، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون . وقيل : هو مَن لطُف بالغوامض علمه ، وعظُم عن الجرائم حلمه ، أو : مَن ينشر المناقب ويستر المثالب ، أو : يعفو عمَّن يهفو ، أو : مَن يعطي العبد فوق الكفاية ، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه ، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف ، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق ، ومن ذلك : حمايتهم من الدنيا ، ومما يطغى من الرزق ، وعليه ينزل قوله : { يرزق مَن يشاء } . ه . أي : يرزق على حسب مشيئته ، المبنية على الحِكَم البالغة . وفي الحديث : " إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسده ذلك " .
وأما قوله تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] فهو وعد لجميع الخلق ، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا ، فلا منافاة بينهما ، خلافاً لابن جزي؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد ، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها . انظر الحاشية .
{ وهو القويُّ } ؛ الباهر القدرة ، الغالب على كل شيء ، { العزيزُ } المنيع؛ الذي لا يُغْلَب .
(5/427)

الإشارة : الميزان هو العقل؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها ، نافعها وضارها . فالعقول متفاوتة كالموازين ، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع ، كالذهب ، والإكسير ، والفضة ، والطيب الرفيع ، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة ، دون الخشينة ، كميزان العطار وشبهه ، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة ، كميزان الغزالين والحاكة ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين ، كالفحم وشبه ، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير ، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين ، فالأول عقول العارفين ، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، لا يصلح لغيرها ، والثاني للعباد ، والزهّاد ، والعلماء الصالحين ، والثالث للمتجمدين من العلماء ، والرابع لعامة المؤمنين ، والخامس للفجار والكفار ، وفيهم نزل : { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها . . . } الآية ، وما قبله هو قوله : { والذين آمنوا مشفقون منها } .
وقوله تعالى : { اللهُ لطيف بعباده } ، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق ، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره ، فمِن لطفه سبحانه بخلقه : أنه أعطاهم فوق الكفاية ، وكلَّفهم دون الطاقة . ومِن لطفه سبحانه : تسهيله الأرزاق ، وتيسير الارتفاق ، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه ، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية؛ لتحقق بغاية عجزه ، وتيقن بوجود لطفه ، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب ، وملبوس ، ومطعوم . ومن لطفه سبحانه : توفيق الطاعات ، وتسهيل العبادات ، وتيسير الموافقات . ومن لطفه سبحانه : حفظ التوحيد في القلوب ، واطلاعها على مكاشفة الغيوب ، وصيانة العقائد عن الارتياب ، وسلامة القلوب عن الاضطراب . ومن لطفه سبحانه : إيهام العاقبة؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا . ومن لطفه سبحانه بالعبد : إخفاء أجله عليه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله . ومن لطفه سبحانه بخواصه : ستر عيوبهم ، ومحو ذنوبهم ، حتى وصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه ، فكشف لهم عن أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، فشاهدوه جهراً ، وعبدوه شكراً .
(5/428)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
يقول الحق جلّ جلاله : { مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ } ، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً ، مجازاً؛ لأن الحرث : إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه ، فأطلقه على العمل ، لجامع حصول النتاج ، أي : مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة { نَزِدْ له في حَرْثِه } ؛ نضاعف له ثوابه ، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها ، أو : نَزِدْ له في توفيقه وإعانته ، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه . { ومَن كان يريد } بأعماله { حَرْثَ الدنيا } وهو متاعها وطيباتها { نُؤْتِهِ منها } أي : شيئاً منها ، حسبما قسمناه له ، لا ما يريده ويبتغيه ، { وما لهُ في الآخرة من نصيبٍ } إذا كانت همته مقصورة على الدنيا . ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه ، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده ، من زكاء أعماله ، وفوزه في المآب؛ لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا .
الإشارة : قد مرّ مِراراً ذم الدينا وصرف الهمة إليها ، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض خطبه : " أيها الناس ، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم ، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر دنياكم ، ولا تشغلوا جوارحكم جوارح غذيت بنعمته في التعرُّض لخطأ بمعصيته ، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته ، واصرفوا هممكم إلى التقرُّب بطاعته ، إنه مَن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبُه من الآخرة ، ولم يدرك منها ما يريد ، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد " .
قال الورتجبي : حرث الآخرة : مشاهدته ووصاله وقربه ، وهذا للعارفين ، وحرث الدنيا : كرامات الظاهر ، ومَن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق . ثم قال : عن بعضهم : مَن عَمِل لله محبة له ، لا طلباً للجزاء ، صغر عنده كل شيء دون الله ، فلا يطلب حرث الدنيا ، ولا حرث الآخرة ، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة . ثم قال : حرث الدنيا : قضاء الوطر منها ، والجمع منها ، والافتخار بها ، ومَن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب . ه . وقال بعض الشعراء في هذا المعنى :
يا مؤثرَ الدنيا على دينه ... ومشترٍ دنياه بالآخره
بعتَ الذي يبقى بما ينقضي ... تبّاً لها من صفقة خاسره
(5/429)

أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . }
يقول الحق جلّ جلاله : { أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين } ، " أم " : منقطعة ، أي : بل ألهم شركاء ، أو : معادلة لمحذوف ، تقديره : أقبلوا ما شرعت لهم من الدين ، أم لهم آلهة شرعوا من الدين { ما لم يأذن به اللهُ } أي : لم يأمر به ، { ولولا كلمةُ الفصل } أي : القضاء السابق بتأخير الجزاء ، أي : ولولا العِدة بأن الفصل يكون يوم القيامة { لقُضِيَ بينهم } ؛ بين الكفار والمؤمنين . أو : لعجلت لهم العقوبة . { وإِنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ } ؛ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة ، وإن أخّر عنهم في دار الدنيا .
{ ترى الظالمينَ } ؛ المشركين في الآخرة { مُشفقينَ } ؛ خائفين { مما كسبوا } ؛ من جزاء كفرهم ، { وهو واقع } ؛ نازل { بهم } لا محالة ، أشفقوا أم لم يُشفقوا . { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجناتِ } كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها ، فالروضات : المواضع المونقة النضرة ، فهم مستقرون في أطيب بقعها وأنزهها . { لهم ما يشاؤون عند ربهم } أي : ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم ، { ذلك هو الفضلُ الكبير } الذي لا يُقادر قدره ، ولا يبلغ غايته على العمل القليل ، فضلاً من الكبير الجليل .
{ ذلك الذي يُبَشِّرُ اللهُ } تعالى ، { عبادَه } فحذف عائد الموصول . ويقال : بشَّر وبشر ، بالتشديد والتخفيف ، وقرىء بهما . ثم وصف المبشرين بقوله : { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } دون غيرهم .
الإشارة : كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين ، ما لم يأذن به الله ، فينسحب عليه الوعيد ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة " .
وقوله تعالى : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات } قال القشيري : في الدنيا جنة الوصلة ، ولذاذة الطاعة والعبادة ، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة ، وفي الآخرة في روضات الجنات ، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم ، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم . ه .
ولمَّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر ، نزّه نبيه عن ذلك ، فقال :
{ . . . قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد { لا أسألكم عليه } ؛ على التبليغ { أجراً } . رُوي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم ، فقال بعضهم لبعض : أترون أن محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت .
(5/430)

أي : لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجراً ، أي : نفعاً { إِلا المودَة في القربى } ؛ إلا أن تودوا أهل قرابتي ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً ، أي : لا أسألكم أجراً قط ، ولكن أسألُكم أن تودُّوا قرابتي التي هم قرابتكم ، ولا تؤذوهم . ولم يقل : إلا مودّة القربى ، أو : المودة للقربى؛ لأنهم جُعلوا مكاناً للمودة ، ومقرّاً لها ، مبالغة ، كقولك : لي في مال فلان مودة ، ولي فيهم حبّ شديد ، تريد : أحبهم ، وهم مكان حبي ومحله . وليست " في " بصلة للمودة كاللام ، إذا قلت : إلا المودة للقربى ، وإنما هي متعلقة بمحذوف ، تعلُّق الظرف . به والتقدير : إلا المودة ثابتة في القربى ، ومتمكنة فيها . والقربى : مصدر ، كالزلفى والبشرى ، بمعنى القرابة . والمراد : في أهل القربى .
رُوي أنه لما نزلت قيل : يا رسول الله! مَن أهل قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال : " عليّ وفاطمة وابناهما " وقيل : معناه : إلا أن تودّوني لقرابتي فيكم ، ولا تؤذوني ، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة . وقيل : القربى : التقرُّب إلى الله تعالى ، أي : إلا أن تحبُّوا الله ورسوله في تقرُّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح .
{ ومن يقترفْ } أي : يكتسب { حسنةً } أيّ حسنة كانت ، فيتناول مودة ذي القربى تناولاً أولياً . وعن السدي : أنها المرادة ، قيل : نزلت في الصدّيق رضي الله عنه ومودته فيهم ، والظاهر : العموم ، { نزدْ له فيها حُسْناً } أي : نضاعفها له في الجنة . { إِن الله غفور } لمَن أذنب بِطَوْلِه { شَكورٌ } لمَن أطاع بفضله ، بتوفية الثواب والزيادة ، أو : غفور : قابل التوبة ، شكور : حامل عليها .
الإشارة : محبة أهل البيت واجبة على البشر ، حرمةً وتعظيماً لسيد البشر ، وقد قال : " مَن أَحبهم فبحبي أُحبهم ، ومَن أبغضهم فببغضي أبغضهم " فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان ، وعقد من عقوده ، لا يتم الإيمان إلا بها ، وكذلك محبة أهل بيته . وفي الحديث صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحبني ، ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي ، أنا حرْب لمَن حاربهم . وسلْم لمَن سالمهم ، وعدوٌّ لمَن عاداهم ، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذى الله تعالى " وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : " إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا ، كتابُ الله تعالى وعترتي " ، فانظر كيف قرنهم بالقرآن في كون التمسُّك بهم يمنع الضلال .
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً ، ألا ومَن مات على حب آل محمد بدّل الله له زوار قبره ملائكة الرحمة ، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية : آيس من رحة الله "
(5/431)

انظر الثعلبي . زاد بعضهم : ولو عصوا وغيّروا في المذهب؛ فنكره فعلَهم ونحب ذاتهم . قال الشيخ زروق في نصيحته : وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل . ه .
وفي همزية البوصيري رحمه الله :
آلَ بيتِ النبيِّ إِنَّ فؤادِي ... ليسَ يُسْلِيهِ عَنكم التَّأسَاء
وقال آخر :
آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبَّكُمُ ... فَرْضٌ من الله في القرآنِ أَنْزَلَهُ
يَكْفِيكُمُ من عظيمِ المجدِ أَنَّكُم ... مَنْ لَم يُصَلِّ عليكم لا صَلاَةَ لَهُ
وقوله تعالى : { ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً } ، الزيادة في الدنيا بالهداية والتوفيق ، وفي الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرفيق . قال القشيري : إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة . ويقال : مَن يقترفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له حُسْنَ اللطائف . ويقال : الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة ، مما لا يدخل تحت طَوْقِ البشر . ه .
(5/432)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
يقول الحق جلّ جلاله : { أم يقولون } أي : بل أيقولون { افْتَرى } محمد { على اللهِ كذباً } في دعوة النبوة ، أو القرآن؟ والهمزة للإنكار التوبيخي ، كأنه قيل : أيمكن أن ينسبوا مثله عليه الصلاة والسلام للافتراء ، لا سيما لعظم الافتراء ، وهو الافتراء على الله ، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله ، ومَن هو عرضة للختم والطبع ، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله .
{ فإِن يشإِ يختمْ على قلبك } ، هذا استبعاد للافتراء على مثله؛ لأنه إنما يجترىء على الله مَن كان مختوماً على قلبه ، جاهلاً بربه ، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه ، فلا ، وكأنه قال : إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك ، لتجترىء بالافتراء عليه ، لكنه لم يفعل فلم تفتر . أو : فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك ، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه ، وحيث لم يكن كذلك ، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً؛ تبين أنه من عند الله تعالى . وهذا أظهر .
وقال مجاهد : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم ، وعلى قولهم : افترى على الله كذباً؛ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم . ه .
{ ويَمْحُ اللهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته } ، استئناف مقرر لنفي الافتراء ، غير معطوف على " يختم " كما ينبىء عنه إظهار الاسم الجليل ، وإنما سقطت الواو كما في بعض المصاحف لاتباع اللفظ ، كقوله تعالى : { وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ . . . } [ الإسراء : 11 ] مع أنها ثابتة في مصحف نافع . قاله النسفي . أي : ومن شأنه تعالى أن يمحق الباطل ، ويثبت الحق بوحيه ، أو بقضائه ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } [ الأنبياء : 18 ] ، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه . أو : يكون عِدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه ، ويثبت الحق الذي هو عليه صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم ، وقد فعل ذلك ، فمحا باطلهم ، وأظهر الإسلام . { إِنه عليم بذاتِ الصدور } أي : عليم بما في صدرك وصدورهم ، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات .
{ وهو الذي يقبل التوبةَ عن عباده } . يقال : قبلت الشيء منه : إذا أخذته منه ، وجعلته مبدأ قبولك ، وقبلتَه عنه ، أي : عزلته وأبنته عنه . والتوبة : الرجوع عن القبيح بالندم ، والعزم ألا يعود ، ورد المظالم واجب غير شرط .
قال ابن عباس : لما نزل . { قل لا اسألكم عليه أجراً . . . } الآية . قال قوم في نفوسهم : ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده ، فأخبر جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد اتهموه ، وأنزل : { أم يقولون افترى على الله كذباً . . . } الآية ، فقال القوم : يا رسول الله؛ فإنا نشهد أنك صادق .
(5/433)

فنزل : { وهو الذي يقبل التوبة . . . } ه .
قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الظمآن الوارد ، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه ، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه " .
واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها ، فقال جابر بن عبد الله : دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك ، سريعاً ، وكبّر ، فلما فرغ من صلاته ، قال له عليّ : ما هذا؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى توبة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، وما التوبة؟ قال : أسم يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة ، كما أذبتها في المعصية ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة ، كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته .
وعن السدي : هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب ، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب . وعن سهل : هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة . وعن الجنيد : هي الإعراض عما سوى الله .
قال الله تعالى : { ويعفو عن السيئاتِ } وهو ما دون الشرك ، يعفو لمَن يشاء بلا توبة ، { ويعلم ما تفعلون } كائناً ما كان ، من خير أو شر ، حسبما تقتضيه مشيئته .
{ ويستجيبُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي : يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي : يجيب دعوتهم ، ويثيبهم على طاعتهم ، أو : يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها . قيل لإبراهيم بن أدهم : ما لنا ندعو فلا نُجاب؟ قال : " لأنه دعاكم فلم تُجيبوا " . { ويَزِيدُهُمْ من فضله } على ما سألوه ، واستحقوه بموجب الوعد . { والكافرون لهم عذابٌ شديد } بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد .
الإشارة : قال الورتجبي : { أم يقولون افترى على الله كذباً } فيه تقديس كلامه ، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء ، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه؟ وقال أيضاً : عن الواسطي : إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء ، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته ، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه ، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة .
قلت : في الآية تهديد لأهل الدعوى؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق ، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق ، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته .
وقوله تعالى : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده . . . } الخ ، لكل مقام توبة ، ولكل رجال سيئات ، فتَوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من العيوب ، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب .
(5/434)

وقوله تعالى : { ويعلم ما تفعلون } يشير إلى الحلم بعد العلم .
وقوله تعالى : { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي : في كل ما يتمنون ، { ويزيدهم من فضله } النظر إلى وجهه ، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم ، ومعرفتهم في الدنيا . وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : { ويزيدهم من فضله } قال : " يُشفعهم في إخوانهم ، فيدخلهم الجنة " ه . قال القشيري : ويقال : لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم ، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته ، والمطيع يدخله الجنة ، فلعله خطر ببال أحد : فهذه النار لمَن هي؟ فقال { والكافرون لهم عذاب شديد } ، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم ، فقال : ( شديد ) بدليل الخطاب أنه ليس بشديد ه .
(5/435)

وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعباده } أي : لو أغناهم جميعاً { لَبَغوا في الأرض } أي : لتَكَبروا وأفسدوا فيها ، بطراً ، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء ، لأن الغِنى مبطرة مفسدة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة . وأصل البغي : تجاوز الاقتصاد عما يجزي من حيث الكمية أو الكيفية . { ولكن يُنَزِّل بِقَدرِ } أي : بتقدير { ما يشاء } أن ينزله ، مما تقضيه مشيئته . يقال : قدره وقدّره قدراً وتقديراً { إِنه بعباده خبير بصير } ؛ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها ، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه ، فيُفقر ويُغني ، ويُعطى ويَمنع ، ويقبض ويبسط ، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض ، ولو أفقرهم لهلكوا ، وما ترى من البسط على مَن يبغي ، ومِن البغي بدون البسط ، فهو قليل ، ولكن البغي مع الفقر أقلّ ، ومع البسط أكثر وأغلب ، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر ، بخلاف بغي الجميع . { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ . . . } [ الحج : 40 ] الآية .
وقال شفيق بن إبراهيم : { لو بسط الله الرزق لعباده } أي : لو رزق الله العباد من غير كسب { لبغوا } ؛ طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد ، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش ، رحمة منه . ه . أي : لئلا يتفرّغوا للفساد ، ومثله في التنوير . وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف : والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين ، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق؛ لئلا يبغوا . ه .
وقال قتادة : كان يقال : خير الرزق : ما لا يطغيك ، ولا يلهيك ، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها " ه .
رُوي أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى ، فنزلت . وقيل : نزلت في العرب ، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا ، وإذا جدبوا انتجعوا . ه .
{ وهو الذي يُنَزِّل الغيث } أي : المطر الذي يُغيثهم من الجدب ، ولذا خصّ بالنافع منه ، فلا يقال للمطر الكثير : غيث ، { من بعد ما قنطوا } : يئسوا منه . وتقييد تنزيله بذلك ، مع نزوله بدونه أيضاً؛ لمزيد تذكُّر كمال النعمة . { وينشُرُ رحمتَه } أي : بركات الغيث ومنافعه ، وما يحصل به من الخصب في كل مكان ، من السهل ، والجبل ، والنبات ، والحيوان . أو : رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره . { وهو الوليُّ } الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة ، { الحميدُ } ؛ المستحق للحمد على ذلك ، لا غيره .
الإشارة : عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار ، ويمنعهم منه فوق الكفاية؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته ، وفي الحديث : " إن الله يحمي عبده المؤمن أي : مما يضره الدنيا وغيرها كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة " وفي حديث آخر : " إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء "
(5/436)

ورَوى ابن المبارك ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة؟ فقال : " هم الخائفون ، الخاضعون ، المتواضعون ، الذاكرون كثيراُ " فقال : يا رسول الله؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال : " لا " قال : فمَن أول الناس دخولاً الجنة؟ قال : " الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة ، فيخرج إليهم ملائكة ، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب ، فيقولون : علام نحاسب؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها ، وما كنا أمراء نعدل ونجور ، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين " ه .
قوله : { وهو الذي يُنزل الغيث . . . } الآية ، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة ، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة ، فتحيا بالذكر والمعرفة ، بعد أن أيست من الخصوصية .
قال القشيري : بعد كلام : وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته ، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه؛ وكسفت شمس أُنسِه ، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه ، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة ، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة ، ويعود عودُه طريّاً ، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً ، وأنشدوا في المعنى :
إنْ راعني منك الصُدود ... فلعلَّ أيامي تعود
ولعل عهدك باللِّوى ... يحيا فقد تحيا العهود
والغُصن ييبس تارةً ... وتراه مُخْضرّاً يميد
وقوله تعالى : { وهو الوليّ } قال القشيري في شرح الأسماء : الولي هو المتولي لأحوال عباده ، وقيل معناه : المناصر ، فأولياء الله أنصار دينه ، وأشياع طاعته ، والوليّ في صفة العبد : هو مَن يواظب على طاعة ربه ، ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه : أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال ، ويؤمنه ، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع ، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس ، فيحقق آماله عند إشارته ، ويجعل مآربه عند خطراته . ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه ، حتى لو أراد سوءاً ، أو قصد محظوراً ، عصمه من ارتكابه . ثم قال : ومن أمارات ولايته : أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه . ه . قلت : " جعل مآربه عند خطراته : ليس شرطاً؛ لأن هذا من باب الكرامة ، ولا يشترط ظهورها عند المحققين . ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل ، عن ربه عزّ وجل قال : " مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة ، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي ، وإني لأغضب لهم ، كما يغضب الليث الحَرِد " انظر بقية الحديث في الثعلبي .
(5/437)

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
يقول الحق جلّ جلاله : { ومن آياته } الدالة على باهر قدرته ووحدانيته { خلقُ السماواتِ والأرض } على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة ، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة ، { وما بثَّ } أي : فرّق { فيهما من دابةٍ } ؛ من حي على الإطلاق ، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان ، ليدخل الملائكة . أو : ما يدب على الأرض ، فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وإنما يخرج المرجان من الملح ، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض ، أو : يكون للملائكة مشي مع الطيران ، فوصفوا بالدَّبيب لذلك . { وهو على جَمْعِهم } أي : حشرهم بعد البعث للحساب { إِذا يشاء } أي : في الوقت الذي يشاء { قديرٌ } لا يعجزه شيء .
الإشارة : مِن تعرفاته : إظهار السموات والأرض ، وهذه رسوم المعاني ، وما بثّ فيهما من دابة ، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني ، فإذا قبضت المعاني محيت الرسول والأشكال . وقوله تعالى : { وهو على جمعهم إذا يشاء قدير } ، قال القشيري : الإشارة في هذا : أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض ، فأبداً يُبَدّدُ شملهم ، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً ، وذلك أيضاً مدة يسيرة ، كما أنشدوا :
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم ... بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ
وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر ، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم ، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم ، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير . ه .
قلت : مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه : أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر ، ويفقد نظامهما ، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان ، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر ، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص ، وذلك وقت النفحات . كما تقدّم للقشيري .
(5/438)

وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
يقول الحق جلّ جلاله : { وما أصابكم من مصيبةٍ } غمّ ، أو ألم ، أو مكروه { بما كسبتْ أيديكم } أي : بجنايةٍ كسبتموها ، عقوبةً لكم . ومَن قرأ بالفاء؛ ف " ما " شرطية . ومَن قرأ بغيرها فموصلة . وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ ، ومعناه عندهم : أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر ، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح؛ وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث ، وهو باطل وكفر . ووجه التعلُّق : أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا . ويجاب : بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا ، أو في درجاتهم إن ماتوا؛ لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة ، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم . والله أعلم .
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق وهو قوله : { ويعفو عن كثير } أي : من الذنوب فلا يُعاقب عليها ، أو : عن كثير من الناس ، فلا يعاجلُهم بالعقوبة . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه " وقال ابن عطاء : مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه ، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر ، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه . وقال محمد بن حامد : العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان ، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه؛ لأن جناية المعصية من وجه ، وجناية الطاعة من وجوه ، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة ، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة .
وعن عليّ كرّم الله وجهه : هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن؛ لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً ، وإذا عفا لا يعود . ه . وقد تقدّم حديثاً . قال في الحاشية الفاسية : قلت : وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء ، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة ، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة . ثم الآية إما خاصة بالحدود ، أو بالمجرم المذنب ، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء ، وتخصيص ، لا تمحيص . ه .
قلت : لكل مقام ذنب ، حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فالتمحيص جار في كل مقام ، وراجع ما تقدم عند قوله : { لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِىِّ . . . } [ التوبة : 117 ] وسيأتي عند قوله : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ . . . } [ محمد : 19 ] ما يبين هذا . والله أعلم .
{ وما أنتم بمعجزين في الأرض } أي : ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب ، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب ، { وما لكم من دون الله من وليّ } متولِّ يحميكم منها { ولا نصيرٍ } يدفعها عنكم ، أو يدفع عذابه إن حلّ .
(5/439)

الإشارة : إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا ، ويبقى في حال قربه ، وإذا كان عنده في عين الإهمال؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء ، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته ، والعياذ بالله من مكره . وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص؛ لم يستوحش منها ، بل يفرح بها؛ إذ هي علامة العناية ، وإذا كانت على أيدي الناس ، لم يقابلهم بالانتصار ، بل يعفو ويصفح؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية . وقوله تعالى : { ويعفو عن كثير } هذا والله أعلم في حق العامة ، وأما الخاصة؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب؛ ليرفع مقامهم ، ويُكرم مثواهم .
(5/440)

وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
يقول الحق جلّ جلاله : { ومن آياته } للدلالة على قدرته ووحدانيته { الجواري } السفن الجارية { في البحر كالأعلام } ؛ كالجبال { إِن يشاء يسكن الرياح } التي تجريها . وقرىء بالإفراد . { فيَظْلَلن رواكدَ على ظهره } ؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر ، أي : غير جاريات لا غير متحركات أصلاً ، { إِن في ذلك لآيات } عظيمة في أنفسها ، كثيرة في العدد ، دلالة على باهر قدرته { لكل صَبَّارٍ شكورٍ } ؛ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى ، وصرف همته إلى النظر في آلائه ، أو : لكل صبّار على بلائه ، شكور لنعمائه ، أي : لكل مؤمن كامل؛ فإن الإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه ، أو نفع يناله ، فآداب الضر : الصبر ، وآداب النفع : الشكر ، وأيضاً : راكب السفن ملزوم ، إما للمشقة أو السلامة ، فالصبر والشكر لا زمان له . ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لأنهما لموصوف واحد .
{ أو يُوبِقْهُنَّ } أي : يهلكهن ، عطف على قوله : { يُسكنِ } أي : إن يشأ يُسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها { بما كسبوا } من الذنوب . وإيقاع الإيباق عليهم مع أنه حال أهلهن؛ للمبالغة والتهويل ، { ويعفُ عن كثيرٍ } منها ، فلا يُجازي عليها ، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق ، حيث جُزم جزمَه؛ لأن المعنى : أو إن يشأ يُهلك ويُنج ناساً ، على طريق العفو عنهم . وقرىء : " ويعفو " عن الاستئناف . { ويَعلَمَ الذين يجادلونَ في آياتنا } أي : في إبطالها وردها { ما لهم من محيصٍ } ؛ من مهرب من العذاب . والجملة معلقة بالنفي ، ومن نصب " يعلم " عطفه على عِلة محذوفة ، أي : لينتقم منهم وليعلم ، كما في قوله : { وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ } [ مريم : 21 ] . وقيل غير ذلك . ومَن رفعه فعلى الاستئناف . وقرىء بالجزم ، عطفاً على : " يعف " ، فيكون المعنى : أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم .
الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد ، كالأعلام ، أي : أصحابها كالجبال الرواسي ، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها ، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم ، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية ، مستغرقين في شهود الذات العلية ، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب ، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد ، ويعفُ عن كثير ، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب .
(5/441)

فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
يقول الحق جلّ جلاله : { فما أُوتيتم من شيءٍ } مما ترجون وتتنافسون فيه { فمتاعُ الحياةِ الدنيا } أي : فهو متاعها ، تتمتعون به مدة حياتكم ، ثم يفنى ، { وما عند الله } من ثواب الآخرة { خيرٌ } ذاتاً؛ لخلوص نفعه ، { وأبقى } زماناً؛ لدوام بقائه . { للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } ، و " ما " الأولى ضُمّنت معنى الشرط ، فدخلت في جوابها الفاء ، بخلاف الثانية . وعن عليّ رضي الله عنه : أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله ، فلامه الناس ، فنزلت الآية .
ثم قال تعالى : { والذين يجتنبون كبائر الإثم } أي : الكبائر من هذا الجنس . وقرأ الأخوان : " كبير الإثم " . قال ابن عباس : هو الشرك ، { و } يجتنبون { الفواحِشَ } وهي ما عظم قُبحها ، كالزنى ونحوه ، { وإِذا ما غَضِبوا } من أمر دنياهم { هم يغفرون } أي : هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب ، فيحملون ، ويتجاوزون . وفي الحديث : " مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة " .
{ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة } ؛ أتقنوا الصلوات الخمس ، { وأمرُهُم شُورى بينهم } أي : ذو شورى ، يعني : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه . وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم . والشورى : مصدر ، كالفتيا ، بمعنى التشاور . { ومما رزقناهم يُنفقون } ؛ يتصدقون .
{ والذين إذا أصابهم البغيُ } ؛ الظلم { هم ينتصرون } ؛ ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترىء عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وإنما حُمدوا على الانتصار؛ لأن من انتصر ، وأخذ حقه ، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله ، فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، فهو مطيع لله . وقال ابن العربي : قوله : { والذين إذا أصابهم البغي . . . } الآية ذكر الانتصار في معرض المدح ، ثم ذكر العفو في معرض المدح ، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين ، أحَدُهُما : أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور ، ومؤذياً للصغير والكبير ، فيكون الانتقامُ منه أفضل ، وفي مثله قال إبراهيم النخعي : يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم ، فيجترىء عليهم الفُسّاق . وإما أن تكون الفَلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ، ويسأل المغفرة ، فالعفو ها هنا أفضل ، وفي مثله نزل : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ البقرة : 277 ] ، { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } [ النور : 22 ] الآية . ه .
ثم بيّن حدّ الانتصار ، فقال : { وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها } ؛ فالأولى سيئة حقيقة ، والثانية مجازاً للمشاكلة ، وفي تسميتها سيئة نكتة ، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى ، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو ، ولذلك عقبه بقوله : { فمَن عَفَا وأصلحَ } بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء { فأجره على الله } ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها ، { إِنه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظلم ، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار .
(5/442)

وفي الحديث : " ينادي منادٍ يوم القيامة : مَن كان له أجر على الله فليقم ، فلا يقوم إلا مَن عفا " .
{ ولمَن انتصرَ بعد ظلمه } أي : أخذ حقه بعدما ظُلم على إضافة المصدر إلى المفعول { فأولئك } جمع الإشارة مراعاة لمعنى " مَن " { ما عليهم من سبيلٍ } للمعاقب ولا للمعاتب { إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ } ؛ يبتدئونهم بالظلم ، { ويبغون في الأرض } ؛ يتكبّرون فيها ، ويعْلون ، ويفسدون { بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ } بسبب بغيهم وظلمهم . وفسّر السبيل بالتبعة والحجة .
{ ولَمَن صَبَرَ } على الظلم والأذى ، { وغَفَرَ } ولم ينتصر ، أو : وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى ، وغفر بالتجاوز عن الخصم ، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى ، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا ، والعقبى ، { إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور } أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ندب إليها ، وعزم على فعلها ، أو : مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه ، ولا يترخّص في تركه . وحذف الراجع أي : منه كما حذف في قولهم : السمن مَنْوَانِ بدرهم . وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمَن صبر على مكروه أصابه ، ولم يجزع ، أورثه الله تعالى حال الرضا ، وهو أصل الأحوال؛ ومَن جزع من المصيبات ، وشَكى ، وكَلَه إلى نفسه ، ثم لم تنفعه شكواه . ه . وانظر تحصيل الآية في الإشارة ، إن شاء الله .
قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق ، ثم صفات عُمَر ، ثم صفات عثمان ، ثم صفات عليّ بن أبي طالب ، فأما صفات أبي بكر ، فقوله : { الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر ، وإن كان جميعهم متصفاً بها ، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة الإيمان ، وأبو بكر بابها " وقال أبو بكر : " لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً " . والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان .
وأما صفات عمر : فقوله : { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } ؛ لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها " ، وقوله : { وإذا ما غَضبوا هم يغفرون } ، وقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله } نزلت في عمر . وأما صفات عثمان؛ فقوله : { والذين استجابوا لربهم } ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً . . . } [ الزمر : 9 ] الآية .
(5/443)

ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة ، يقرأ فيها القرآن كله . وقوله : { وأمرهم شورى بينهم } ؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى ، وقوله : { ومما رزقناهم يُنفقون } ؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة .
وأما صفات عليّ؛ فقوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها ، انتصاراً للحق ، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية ، حسبما ورد في الحديث الصحيح ، أنه قال لعمّار : " ويْحَ عمّارٍ ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ " وذلك هو البغي الذي أصابه ، وقوله : { فمَن عفا وأصلح فأجره على الله } إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ ، حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ، ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن : " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وقوله : { ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه ، وطلبه للخلافة ، وانتصاره من بني أمية . وقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس ، كما في الحديث : " إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً ، ومال الله دُولاً " ، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم ، وقوله : { ولمَن صبر وغفر } إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية . ه .
الإشارة : قوله تعالى : { فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا } أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به ، كما في الخبر ، ولذلك زهَّد فيه بقوله : { وما عند الله خيرٌ وأبقى . . . } الآية ، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود . { والذين يجتنبون كبائر الإثم } هي أمراض القلوب ، كالحسد والكبر والرياء وغيرها ، { والفواحش } هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره . وقوله تعالى : { وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون } لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا؛ لأن الغضب وصف بشري ، لا ينفك عنه مخلوق ، فالمطلوب المجاهدة في دفعه ، وردّ ما ينشأ عنه ، لا زواله من أصله ، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : " مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره ، لا زواله بالكلية .
وقوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه ، ولا يبقى لهم منه بقية ، { وأمرهم شورى بينهم } أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي ، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه ، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله . ه .
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات :
الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً ، قدروا أو عجزوا ، لا يتحركون في الانتصار قط ، وهو قوله تعالى : { وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون } .
(5/444)

والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب ، فتحركوا في الانتصار ، ثم عفوا بعد الاقتدار ، وهذا قوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، ثم قال : { فمَن عفا وأصلح فأجره على الله } .
والثالث : قوم قدروا وانتصروا ، وأخذوا حقهم ، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم ، وهو قوله : { ولمَن انتصر بعد ظلمه . . . } الآية .
والرابع : قوم ظُلِموا ، فعفوا ، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم ، والدعاء له بالمغفرة ، حتى يصير مرحوماً بهم ، وهي رتبة الصدّيقية ، أن ينتفع بهم أعداؤهم ، وهو قوله تعالى : { ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } ، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور .
وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون ، والخاصة لا ينتصرون ، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم ، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم ، كما تقدّم . وقال القشيري : { والذين إذا أصابهم البغي } وهو الظلم ، ينتصرون؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم ، فينتصرون من الظالم ، وهو النفس ، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة . ثم قال : قوله : { ولمَن انتصر . . . } الآية ، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس ، ولا يستمكن من محاسن الخُلق ، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط ، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو . ه .
(5/445)

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
يقول الحق جلّ جلاله : { ومَن يُضْلِل اللهُ فَما له من وليٍّ من بعده } أي : فما له من أحد يلي هدايته من بعد إضلال الله إياه ، ويمنعه من عذابه . { وترى الظالمين } يوم القيامة ، وهم الذين أضلّهم الله ، { لَمَّا رَأَوا العذاب } ؛ حين يرون العذاب ، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع ، { يقولون هل إِلى مَرَدٍّ } ؛ رجعة إلى الدنيا { من سبيل } حتى نُؤمن ونعمل صالحاً .
{ وتراهم يُعرضون عليها } ؛ على النار ، يدلّ عليها ذكر العذاب . والخطاب لكل مَن يتأتى منه الرؤية { خاشعين من الذل } ؛ متذللين متضائلين مما دهاهم ، فالخشوع : خفض البصر وإظهار الذل ، { ينظرون } إلى النار { من طَرْفٍ خَفِيٍّ } ضعيف بمسارقة ، كما ترى المصْبُور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله . { وقال الذين آمنوا إِن الخاسرين الذين خسروا أنفسَهم وأهليهم } بالتعرُّض للعذاب الخالد { يومَ القيامة } ، و " يوم " : متعلق بخسروا . وقول المؤمنين واقع في الدنيا . ويقال ، أي : يقولونه يوم القيامة ، إذا رأوهم على تلك الصفة : { ألا إِن الظالمين في عذابٍ مقيم } ؛ دائم ، { وما كان لهم من أولياء ينصرونهم } برفع العذاب عنهم { من دون الله } حسبما كانوا يرجون ذلك في الدنيا ، { ومَن يُضلل اللهُ فما له من سبيلٍ } إلى النجاة .
{ استجيبوا لربكم } إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه ، { من قبل أن يأتيَ يومٌ } أي : يوم القيامة { لا مردَّ له من اللهِ } أي : لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه ، ف " من " متعلق ب " لا مرد " ، أو : ب " يأتي " أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده ، { ما لكم من ملجأ يومئذٍ } أي : مفر تلتجئون إليه ، { وما لكم من نكيرٍ } أي : وليس لكم إنكار لما اقترفتموه؛ لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم ، وتشهد عليكم جوارحكم .
{ فإِنْ أعرضوا } عن الإيمان { فما أرسلناك عليهم حفيظاً } ؛ رقيباً ، تحفظ أعمالهم ، وتحاسبهم ، { إِنْ عليك إِلا البلاغُ } ؛ ما عليك إلا تبليغ الرسالة ، وقد بلغت ، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ ، وإنما المانع : الطغيان وبطر النعمة ، كما قال تعالى : { وإِنَّا إِذا أَذقنا الإِنسانَ منا رحمةً } أي : نعمة من الصحة ، والغنى ، والأمن ، { فرح بها } وقابلها بالبطر ، وتوصّل بها إلى المخالفة والعصيان . وأريد بالإنسان الجنس ، لقوله تعالى : { وإِن تُصبهم سيئة } ، بلاء ، من مرض ، وفقر ، وخوف ، { بما قدمتْ أيديهمْ فإِنَّ الإِنسانَ كفورٌ } ؛ بليغ الكفر ، ينسى النعمة رأساً ، ويذكر البلية ، ويستعظمها ، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق .
وأفرد الضمير في ( فرح ) مراعاة للفظ ، وجمعه في " تُصبهم " مراعاة للمعنى . وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس ، لغلبتها فيهم . وتصدير الشرطية الأُولى بإذا ، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة؛ للتنبيه على أن إيصال الرحمة محقق الوجود ، كثير الوقوع ، وأنه مراد بالذات ، كما أن تصدير الثانية بأن ، وإسناد الإصابة إلى السيئة ، وتعليلها بأعمالهم؛ للإيذان بندرة وقوعها ، وأنها غير مرادة بالذات ، " إن رحمتي سبقت غضبي " .
(5/446)

ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم . قاله أبو السعود .
الإشارة : من تنكبتْه العناية السابقة ، وأدركته الغواية اللاحقة ، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير ، وليس له من عذاب الله وليّ ولا نصير ، فإذا تحققت الحقائق ، وطلب الرجوع ، لم يجد له سبيلاً ، وبَقِيَ في الهوان خاشعاً ذليلاً ، فيُعيرهم مَن سبقتْ لهم العناية ، من أهل الجد والتشمير ، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، حيث لم يُتعبوها في مرضاة الله ، وأهليهم ، حيث لم يذكِّروهم الله .
قال القشيري : قوله تعالى : { استجيبوا لربكم } بالوفاء بعهده ، والقيام بحقِّه ، والرجوع من مخالفته إلى موافقته ، والاستسلام في كل وقت لحُكمِه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوحٌ ، وعن قريبٍ سيُغْلَقُ البابُ على القلب بغتة ، ويُؤخذ فلتةً . ه . ويقال لكل واعظ وداع : { فإِن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً . . . } الآية .
(5/447)

لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
يقول الحق جلّ جلاله : { لله مُلك السماوات والأرض } أي : يملك التصرُّف فيهما ، وفي كل ما فيهما ، كيف يشاء ، ومن جملته : أن يقسم النعمة والبلية ، حسبما يريده . { يخلق ما يشاء } مما يعلمه الخلقُ ومما لا يعلمونه ، { يهَبْ لمَن يشاء إِناثاً } من الأولاد { ويهبُ لمن يشاء الذكورَ } منهم ، من غير أن يكون لأحد في ذلك مدخل ، { أو يُزوجهم } أي : يقرن بين الصنفين ، ويهبهما جميعاً { ذكراناً وإِناثاً } ، بأن تلد غلاماً ثم جارية ، أو تلدهما معاً . { ويجعلُ مَن يشاءُ عقيماً } لا نسل له . والعقيم : الذي لا يُولد له ، رجل أو امرأة .
وقدّم الإناث أولاً على الذكور؛ لأن سياقَ الكلام أنه فاعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذِكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ ، أو : لأن الكلام في البلاء ، والعرب تعدهن عظيم البلايا ، أو : تطييب القلوب آبائهم ، ولمَّا أخَّر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفهم؛ لأن التعريف تنويه وتشريف ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير ، فقال : { ذكراناً وإناثاً } . وقيل المراد : أحوال الأنبياء عليهم السلام حيث وهب لشعيب ولوط إناثاً ، ولإبراهيم ذكوراً ، وللنبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين . { إِنه عليم قدير } مبالغ في العلم والقدرة ، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة .
الإشارة : يهب لمَن يشاء إناثاً ، علوماً وحسنات ، ويهب لمَن يشاء الذكور ، أذواقاً وواردات ، ويجعل مَن يشاء عقيماً ، لا علم ولا ذوق ، وانظر لطائف المنن . أو تقول : يهب لمَن يشاء إناثاً؛ مَن ورّث علم الرسوم الظاهر ، وأقيمت بعده ، ويهب لمَن يشاء الذكور؛ مَن ورّث علم الأذواق والوجدان ، وعمّر رجالاً ، أو يزوجهم؛ مَن ورثهما ، ويجعل مَن يشاءُ عقيماً لم يترك وارثاً ، لا من الظاهر ، ولا من الباطن ، وقد يكون كاملاً وهو عقيم ، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة ، لكن الغالب على مَن له أولاد أن يتسع بهم ، بخلاف العقيم . والله تعالى أعلم .
(5/448)

وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
يقول الحق جلّ جلاله : { وما كان لبشرٍ } أي : ما صحّ لأحد من البشر { أن يُكلمه اللهُ } بوجه من الوجوه { إِلا وَحْياً } إلهاماً ، كقوله عليه الصلاة السلام : " ألقي في رُوعي " أو : رؤيا في المنام لقوله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا الأنبياء وحي " كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد ، وكما أوحي إلى أم موسى ، رُوي عن مجاهد : " أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام في صدره " . { أو من وراءِ حجابٍ } بأن يسمع كلاماً من الله ، من غير رؤية السامع مَن يكلمه ، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة ، ومن الفضاء في جبل الطور ، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً؛ إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً ، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات بلا واسطة .
{ أو يُرسلَ رسولاً } أو : بأن يرسل مَلَكاً { فيُوحيَ } الملَكُ { بإِذنه } ؛ بإذن الله تعالى وتيسيره { ما يشاءُ } من الوحي . وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات . روي : أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله ، وتنظر إليه إن كنت نبياً ، كما كلمة موسى ، ونظر إليه؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لم ينظر موسى إلى الله تعالى " فنزلت . والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلة المعراج ، وكلّمه مشافهة ، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى : { إِلا وحياً } ؛ لأن الوحي هو : الكلام الخفي ، المدرك بسرعة ، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها .
قال الطيبي : وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي ، وأنه المشافهة ، المعنى بقوله : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } [ النجم : 10 ] اتجه ترتيب الآية ، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة ، بل مشافهة ، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر ما كان بغير واسطة ، ولكن لا بمشافهة ، بل من وراء الغيب ، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال . ه . بالمعنى .
{ إِنه عَلِيٌّ } ؛ متعال عن صفات المخلوقين ، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة ، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية ، { حيكمٌ } يُجري أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بدونها ، مكافحة ، أو غيرها .
{ وكذلك } أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع كما وصفنا { أوحينا إِليك روحاً من أمرنا } وهو القرآن ، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان ، فحييت الحياة الأبدية . { ما كنت تدري } قبل الوحي { ما الكتابُ } أيّ شيء هو ، { ولا الإِيمانُ } بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول ، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر ، فإنَّ دِرايتَه صلى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً . قال القشيري : ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع .
(5/449)

وقال الشيخ البكري : أي الإيمان على الوجه الأخص ، المرتب على تنزلات الآيات ، وتلاوة البينات ، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه . ه .
وقال ابن المنير : الإيمان برسالة نفسه ، وهو المنفي عنه قبل الوحي؛ لأن حقيقة الإيمان : التصديق بالله وبرسوله . ه .
{ ولكن جعلناه } أي : الروح الذي أوحيناه إليك { نوراً نهدي به مَن نشاء } هدايته { من عبادنا } ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به . { وإِنك لتهدي } بذلك النور مَن نشاء هدايته ، أو : وإنك لتدعو { إِلى صراط مستقيم } هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام ، { صراطِ الله } ؛ بدل من الأول ، وإضافته إلى الاسم الجليل ، ثم وصفه بقوله تعالى : { الذي له ما في السماوات وما في الأرض } لتفخيم شأنه ، وتقرير استقامته ، وتأكيد وجوب سلوكه؛ فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى ، خلقاً ، وملكاً ، وتصرفاً ، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب . { ألا إِلى الله تصير الأمورُ } أي : الأمور قاطبة راجعة إليه ، لا إلى غيره ، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته .
الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته ، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر ، أو بلا واسطة ، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء ، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله : " وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة " ، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء . وأما مكالمة الحق من النور الأقدس ، بلا واسطة ، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية ، ومحوها ، والبقاء بصفات الربوبية ، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة . وكان بالأرض يُكلم بالواسطة ، وموسى كُلّم بغير واسطة ، ولكن بغير مشافهة ، ولذلك كان كلامه بالأرض ، ولم يعط الرؤية؛ لأنها لا تكون في الأرض ، أي في أرض البشرية ، بل لا بد من الغيبة عنها . وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية ، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب ، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى ، ومدّ سمعه بقوة الربوبية ، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً . ونقل مثل ذلك عن الواسطي ، فراجع بسطه فيه . والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية ، وعندنا داخلة في قوله : { إِلا وحياً } ؛ لأنه أعم من المشافهة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم } أي : طريق الوصول والترقي أبداً ، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية ، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم ، وكما أن الترقي لا ينقطع؛ فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع . والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
(5/450)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } ؛ يا محمد ، { و } حق { الكتابِ المبين } أي : المبين لِما أنزل عليهم ، لكونه بلغتهم ، وعلى أساليبهم ، أو : الموضّح لطريق الهدى من الضلالة ، أو : المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة . وجواب القسم : { إِنا جعلناه قرآناً عربياً } بلغتكم { لعلكم تعقلون } أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه ، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق ، والمعنى الفائق ، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر ، وتعرفوا حق النعمة في ذلك ، فتنقطع أعذاركم بالكلية .
{ وإِنه في أُمّ الكتاب لدْينَا } أي : وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، دليله قوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ } [ البروج : 21 ، 22 ] . وسُمِّي أمّ الكتاب؛ لأنه أصل الكتب السماوية ، منه تُنقل وتُنسخ . وقوله تعالى : { لَعَلِيٌّ } خبر { إن } أي : إنه رفيع القدر بين الكتب ، شريف المنزلة؛ لكونه معجزاً من بينها . أو : في أعلى طبقات البلاغة . { حيكمٌ } ؛ ذو حكمة بالغة . أو : محكم ، لا ينسخه كتاب .
وبعدما بيَّن علو شأنه ، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم؛ ليعلموه ، ويؤمنوا به ، ويعملوا بما فيه ، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقال : { أفَنَضرِِبُ عنكم الذِكرَ } أي : ننحيه ونُبعده . والضرب : مجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض . وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم ، وملازمته لهم ، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم . والفاء : للعطف على محذوف؛ أي : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر { صَفْحاً } أي : إعراضاً ، مصدر ، من : صفَح عنه : إذا أعرض ، منصوب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن ، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم . ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه " نضرب "؛ لأنه في معنى الصفح ، كأنه قيل : أفنفصح صفحاً { أن كنتم قوماً مسرفين } ، أي : لأن كنتم منهمكين في الإسراف ، مصرّين عليه؛ لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم ، حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، فتبقوا في العذاب الخالد ، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق ، بإرسال الرسول الأمين ، وإنزال الكتاب المبين .
ومَن قرأ بالكسر فشرط حُذف جوابه؛ لدلالة ما قبله عليه ، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر ، كما يقول الأجير : إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي ، وهو عالم بذلك . وعبّر ب " أن "؛ إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك؛ لاستهجالهم ، كأن الإسراف من حقه ألا يقع .
الإشارة : { حم } أي : حببناك ، ومجدناك ، وملكناك ، وحق الكتاب المبين . ثم استأنف فقال : { إنا جعلناه } أي : ما شرفناك به أنت وقومك { قرآناً عربياً } يفهمه مَن يسمعه { لعلكم تعقلون } عن الله ، فتشكروا نعمه . { وإنه في أُمّ الكتاب } أي : وإن الذي شرفناكم به في أُمّ الكتاب .
(5/451)

قال الرتجبي : أي : إنه صفتي ، كان في ذاته منزهاً عن النقائص والافتراق - أي : منزهاً عن الحروف والأصوات ، التي من شأنها التغيُّر ، وعن التقديم والتأخير ، وهو افتراق كلماته - إذ هما من صفات الحدث . وأُم الكتاب عبارة عن ذاته القديم ، لأنها أصل جميع الصفات ، { لَدَيْنَا } معناه : ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا { لعلِيّ } علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة ، ممتنع من انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، { حكيم } محكِم مبين . وقال جعفر : عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم ، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر . ه . فانظره ، فإنَّ هذه من صفات الحق ، والكلام في أوصاف القرآن .
وقوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِكْرَ صفحاً } الآية ، قال القشيري : وفي هذه إشارة لطيفة ، وهو : ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه ، وأسرف في أكثر شأنه ، فأحرى أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه ، أو تَلَطَّخَ بعصيانه ، ولم يَدْخُل خَلَلٌ في عرفانه ، فإنه لا يَمْنَعَ عنه رؤية لطائف غفرانه . ه . يعني : أن الحق جلّ جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى في ضلاله ، فكيف يقطع إحسانه عمّن تمسك بإيمانه ، ولو أكثر من عصيانه . وكذلك أهل النسبة التصوفية ، إذا اعوجّ أخوهم ، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم ، بل يلاطفونه ، حتى يرجع ، وهذا مذهب الجمهور .
(5/452)

وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
يقول الحق جلّ جلاله : { وكم أرسلنا } أي : كثيراً أرسلنا قبلك { من نبيٍّ في الأولين } ؛ في الأمم الماضية ، فكذَّبوهم واستهزؤوا بهم . { وما يأتيهم من نبيٍّ إلا كانوا به يستهزئون } ، فاصبر كما صبروا . ويحتمل أن يكون تقريراً لِمَا قبله؛ لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرسل إليهم ، وكونها تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أظهر . { فأهلكنا أشدَّ منهم بَطْشاً } أي : فأهلكنا مِن الأمم السالفة مَن كان أكثر منهم طغياناً وإسرافاً ، { ومضى مَثَلُ الأولين } أي : سلف في القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين ، وهي عِدةٌ له صلى الله عليه وسلم ، ووعيد لقومه ، بطريق الأولوية . فمثل ما جرى على الأولين يجري على هؤلاء؛ لاشتراكهم في الوصف . وظاهر الآية : أن النبي والرسول واحد ، والمشهور : أن النبي أعم ، فكل رسول نبي ، ولا عكس ، فالنبي مقصور في الحُكم على نفسه ، والرسول نبيّ مكلّف بالتبليغ .
الإشارة : ما سُليت به الأنبياء والسل يُسلَى به الأولياء؛ لأنهم خلفاؤهم ، فكل مَن أُوذي واستُهزئ به يتذكر ما جرى على مَن كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء ، فيخف عليه الأذى . وبالله التوفيق .
(5/453)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولئن سألتهم } أي : المشركين { مَنْ خلق السماواتِ والأرضَ ليقولُنَّ خلقهن العزيزُ العليمُ } أي : ينسبون خلقها إلى مَن هذا وصفه في نفس الأمر؛ لا أنهم يُعبِّرون عنه بهذا العنوان . واختار هذن الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير؛ لأن العزة تُؤذن بالغلبة والاقتدار ، والعلم يؤذن بالتدبُّر والاختيار ، وليُرتب عليه ما ينسابه من الأوصاف ، وهو قوله : { الذي جعل لكم الأرض مهاداً } أي : موضع قرار كالمهد المعلق في الهواء ، { وجعل لكم فيها سُبُلاً } تسلكونها في أسفاركم { لعلكم تهتدون } أي : لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ، أو : بالتدبُّر فيها إلى توحيد ربكم ، الذي هو المقصد الأصلي .
{ والذي نَزَّلَ من السماء ماء بِقَدَرِ } ؛ بمقدار يسلم معه العباد ، وتحتاج إليه البلاد ، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح ، { فأنشرنا به } أي : أحيينا بذلك الماء { بلدةً ميْتاً } خالياً عنه الماء والنبات . وقُرئ : " ميِّتاً " بالتشديد . وتذكيره؛ لأن البلدة بمعنى البلد . والالتفات إلى نون العظمة؛ لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره ، { كذلك تُخرجون } أي : مثل ذلك الإحياء ، الذي هو في الحقيقة : إخراج النبات من الأرض ، تُخرجون من قبوركم أحياء . وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشاء ، الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج؛ تفخيم لإن لشأن الإنبات ، وتهوين لأمر البعث ، لتقويم سَنَنِ الاستدلال ، وتوضيح منهاج القياس .
وهذه الجُمل ، من قوله { الذي جعل . . . } استئناف منه تعالى ، وليست من مقول الكفار؛ لأنهم يُنكرون الإخراج من القبول ، بل الآية حجة عليهم في إنكار البعث ، وكذا قوله : { والذي خلق الأزواجَ كلها } ، أي : أصناف المخلوقات بحذافيرها ، على اختلاف أنواعها وألوانها . وقيل : الأزواج : ما كان مزدوجاً ، كالذكر والأنثى ، والفوق والتحت ، والأبيض والأسود ، والحلو والحامض ، وقيل : كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج . والفرد هو الله . { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } أي : ما تركبونه ، يقال : ركبوا في الفلك ، وركبوا الأنعام ، فَغُلِّبَ المتعدّي بغير واسطة؛ لقوته على المتعدي بواسطة ، فقيل : تركبونه .
{ لتستووا على ظهوره } : ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفُلك والأنعام ، { ثم تذكروا نعمةَ ربكم إِذا استويتم عليه } ؛ تذكروها بقلوبكم ، معترفين بها بألسنتكم ، مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم ، { وتقولوا سبحانَ الذي سَخَّرَ لنا هذا } أي : ذلَّل لنا هذا المركوب ، متعجبين من ذلك { وما كُنا له مُقْرِنينَ } ؛ مطيقين . يقال : أقرن الشي : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه؛ لأن الصعب لا يكون قريناً للضعيف إلا إذا ذلّله الله وسهّله ، { وإِنَّا إِلى ربنا لمنقلبون } أي : راجعون . وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا ، آخر مركبه منها ، وهو : الجنازة؛ فيبني أموره في مسيره على تلك الملاحظة ، حتى لا يخطر بباله شيء من زينة الدنيا ، وملاهيها وأشغالها .
(5/454)

وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان إذا وضع رجله في الركاب ، قال : " بسم الله " فإذا استوى على الدابة قال : { الحمد لله الذي خسر لنا هذا . . . } إلى : { منقلبون } ، ثم كبّر " ثلاثاً " وهلّل ثلاثاً ، ثم قال : " اللهم اغفر لي . . " ، وحُكي أن قوماً ركبوا ، وقالوا : { سبحان الذي سخّر لنا هذا . . . } الآية ، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هُزالاً ، فقال : إني مقرن لهذه - أي مطيق - فسقط منها لوثبتها ، واندقّت عنقه . وينبغي ألا يكون ركوبُ العاقل للشهرة والتلذُّذ ، بل للاعتبار ، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه ، وسخَّر له من أنعامه .
الإشارة : قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع ، إلا مَن عِبْرة به من الفلاسفة ، وإنما كفر مَن كفر بالإشراك ، أو : بوصف الحق على غير ما هو عليه ، أو : بجحد الرسول . وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره ، بظهور آثار قدرته ، والصفة لا تُفارق الموصوف ، فدلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه ، على وجود أوصافه ، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته . فأهل السلوك يكشف لهم أولاً عن وجود آثاره ، ثم عن أسمائه ، ثم صفاته ، ثم عن شهود ذاته . وأهل الجذب يكشف لهم أولاً عن ذاته ، ثم عن أوصافه ، ثم عن أسمائه ، ثم عن آثاره ، فربما التقيا في الطريق ، هذا في ترقيه ، وهذا في تدليه ، كما في الحِكَم .
وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهاداً . . . } الخ ، قال القشيري : كما جَعلها قَراراً لأشباحهم ، جَعَلَ الأشباحَ قراراً لأرواحهم؛ فهي سُكَّانُ النفوس ، كما أن الخَلْق سُكَّانُ الأرضِ ، فإذا انتهت مدةُ كَوْنِ النفوسِ ، حَكَمَ اللّهُ بخرابها . . . كذلك إذا فارقت الأرواحُ الأشباحَ بالكُلِّية ، قضى الله بخرابها .
ثم قال في قوله : { فأنشرنا به بلدة ميتاً } ؛ وكما يُحْيي الأرضَ بالمطَر يُحْيي القلوبَ بحُسن النَّظَر . والذي خلق من الأزواج أصنافَ الخَلْق ، كذلك حبس عليكم الأحوالَ كلها ، فمِنْ رغبةٍ في الخيرات ، وخوفٍ يحملكم على تَرْكِ الزلاّت ، ورجاءٍ يبعثكم على فعل الطاعات ، طمعاً في المثوبات ، وغير ذلك من فنون الصِّفات ، وكما سَخَّرَ الأنعام ، وأعظمَ المنَّة بذلك ، سَخَّر للمؤمنين مركب التوفيق ، بحْملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهَّل للمريدين مركبّ الإرادة ، وحَمَلَهم عليه إلى عَرَصَات الجود ، وفضاء الشهود ، وسَهَّل للعارفين مركبَ الهِمّة ، فأناخوا بالحضرة القدسية ، وعند ذلك مَحَطُّ الكافة؛ ثم لا تخرق سرادقاتِ العزةِ هِمَّةُ مخلوقٍ ، سواء كان ملَكاً مُقّرَّباً ، أو نبيّاً مُرْسلاً ، أو ولياً مُكَرَّماً . فعند سطواتِ العِزِّ يتلاشى كلُّ مخلوقٍ ، ويقف وراءها كل مُحْدَثٍ مسبوق . ه . ببعض المعنى . وسرادقات العز : حجاب الكبرياء ، فلا تحصل الإحاطة بكُنه الربوبية لأحدٍ من الخلق . ولهذا يبقى الترقي أبداً للعارفين ، في هذه الدار ، وفي تلك الدار ، ولا يحصل على غاية أسرار الربوبية أحد ، ولو بقي يترقى أبداً سرمداً . والله تعالى أعلم .
(5/455)

وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وجعلوا } أي : المشركين { له من عباده جُزْءاً } حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءاً له ، وبعضاً منه ، كما يكون الولد لوالده جزءاً . وهذا متصل بقوله { ولئن سألتهم . . . } الخ ، أي : ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض لَيَعترفن به ، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم ، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف ، من عباده جُزءاً ، وعبَّر بالجزء لمزيد استحالته في حق الواحد الأحد ، من جميع الجهات . وقرأ أبو بكر وحماد بضمتين . { إنَّ الإِنسانَ لكفور مبين } ؛ لَجَحود للنعمة ، ظاهر الكفران ، مبالغ فيه؛ لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر . والكفر أصل الكفران كله .
ثم ردّ عليهم بقوله : { أمِ اتخذَ مما يخلُق بناتٍ وأصْفَاكم بالبنينَ } ، الهمزة للإنكار ، تجهيلاً وتعجيباً من شأنهم ، حيث ادَعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء ، ولهم الأعلى ، أي : بل اتخذ لنفسه أخس الصنفين ، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى : هَبُوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه ، مع استحالته وامتناعه ، أمَا كان لكم شيء من العقل ، ونبذة من الحياء ، حتى اجترأتم على التفوُّه بهذه العظيمة ، الخارقة للمعقول ، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما ، وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير " بنات " ، وتعريف " البنين " لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة .
وجملة : { وأصفاكم } : إما عطف على { اتخذ } ، داخل في حكم التعجيب والإنكار ، أو : حال من فاعله ، بإضمار قد ، أو : بدونه ، على الخلاف . والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ .
ثم قرّره بقوله : { وإِذا بُشِّر أحدُهُم بما ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } أي : وإذا أُخبر أحدُهم بولاده ما جُعل مثلاً له سبحانه ، وهي الأنثى ، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله ، وجزءاً منه؛ إذ الولد لا بد أن يُجانس الوالِد ويشابهه . { ظَلَّ وجهُهُ مُسوداً وهو كظيمٌ } يعني : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومِن حالهم : أن أحدهم إذا قيل له : قد وُلدت لك بنت ، اغتمّ ، واربدّ وجهه غيظاً وتأسُّفاً ، وهو مملوءٌ من الكرب . والظلول : بمعنى الصيرورة ، أي : صار أسود في الغاية من سوء ما بُشر به .
{ أوَ مَن ينشأ في الحِلْيةِ وهو في الخصام غير مُبينٍ } أي : أو يَجْعَلُ للرحمن من الولد مَن هذه الصفة المذمومة صفته ، وهو أنه ينشأ في الحلية ، أي : يتربّى في الزينة والتخنُّث ، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ، ومجاراة الرجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتي ببرهان؛ لضعف عقولهن . قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتي بالحجة عليها - أي : في الغالب - وفيه : أنه جعل النشأة في الزينة من المعايب . فعلى الرجل أن يجتنبَ ذلك ، له ولأولاده ، ويتزين بلباس التقوى . و " مَنْ " منصوب المحل ، أي : أوَ جعلوا مَن يربى في الحلية - يعني البنات - لله عزّ وجل .
(5/456)

وقرأ الأخَوان وحفص؛ " يُنشَّأُ " أي : يُربّى .
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إِناثاً } أي : اعتقدوا الملائكة وسموهم إناثاً . وهو بيان لتضمُّن كفرهم كفراً آخر ، وتقريع لهم بذلك؛ وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله - عزّ وجل - أنقصهم رأياً . والعندية عندية منزلة ومكانة ، لا مكان . ومَن قرأ " عبِاد " فجمع " عبد " ، وهو ألزم في الاحتجاج مع أهل العناد لتضاد العبودية والولادة . { أَشَهِدوا خلقَهم } أي : أَحضروا خلقهم ، فشاهدوا الله حين خلقهم إناثاً حتى يحكموا بأنوثتهم ، فإنّ ذلك لا يُعلم إلا بالمشاهدة ، وهو تجهيل لهم ، وتهكُّم بهم . وقرأ نافع بهمزتين ، أي : أاحضروا خلقهم . { ستُكتبُ شهادتُهم } التي شهدوا بها على الملائكة من أنهم إناث ، في ديوان أعمالهم . { ويسألونَ } عنها يوم القيامة ، وقرئ : شهاداتهم وهي قولهم : إن لله جزءاً من خلقه ، وإن لله بنات ، وأنها الملائكة .
الإشارة : وجعلوا له من عباده جزءاً ، أشركوا في المحبة معه غيره ، والمطلوب : إفراد المحبة للمحبوب ، فلا يُجب معه شيئاً . إن الإنسان لكفور مبين ، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد ، وأنه غيور ، لا يرضى لعبده أن يُحب معه غيره .
قال القشيري : جعلوا الملائكة جزءاً على التخصيص من جملة مخلوقاته . ه . أي : جعلوا له جزءاً من عين الفرق ، ولو نظرا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت . وفي الآية تحذير من كراهية البنات ، حيث جعله من نعت أهل الكفر .
(5/457)

وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقالوا لو شاء الرحمنُ } عدم عبادتنا للملائكة { ما عبدناهم } ، أرادوا بذلك بيان أن ما فعلوه مَرْضِي عنده تعالى ، ولولا ذلك ما خلّى بينهم وبينها ، ويُجاب : بأنه تعالى قد يخلي بين العبد ومعصيته ، لينفذ فيه ما سبق من درك الوعيد . وتعلقت المعتزلة بظاهر الآية في أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكفار ، وإنما شاء الإيمان ، فإنّ الكفار ادّعوا أن الله شاء منهم الكفر ، وما شاء منهم ترك عبادة الأصنام ، حيث قالوا : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } أي : لو شاء بنا أن نترك عبادة الأصنام لمَنَعَنَا عن عبادتها ، لكنه لم يشأ ذلك . والله تعالى ردّ عليهم قولهم ، واعتقادهم ، بقوله : { ما لهم بذلك } القول { من علم إِن هم إِلا يَخْرُصُون } : يكذبون ، ومعنى الآية عندنا : أنهم أرادوا بالمشيئة : الرضا ، وقالوا : لو لم يرضَ بذلك لعجّل عقوبتنا ، ولمَنعنا من عبادتها مع قهر واضطرار ، وإذ لم يفعل ذلك فقد رضي بذلك ، فردَّ الله عليهم بقوله : { ما لهم بذلك من علم . . . } الآية . أو : قالوا هذا القول استهزاء ، لا جدّاً واعتقاداً ، فأكذبهم وجهّلهم حيث لم يقولوه اعتقاداً ، كما قالوا : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] . وهذا كلام حق أرادوا به باطلاً : انظر النسفي .
قلت : ما تمسّكوا به من قوله : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } من الاحتجاج بالقدر ، وهو لا ينفع هذه الدار ، لأنه من التمسُّك بالحقيقة الخالية عن الشريعة ، وهي بطالة وزندقة ، ولذلك ردّهم الله تعالى إلى التمسُّك بالشريعة بقوله : { أم آتيناهم كتاباً مِن قبله } ؛ من قبل القرآن ، أو : من قبل ادعائهم ذلك ، ينطق بصحة ما يدّعونه ، { فهم به مسْتَمْسِكون } ؛ آخذون .
{ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ } ؛ على دين وقلّدناهم . والأمّة في الأصل : الطريقة التي تؤمّ وتُقصد { وإِنا على آثارهم مُقتدون } أي : لم يأتوا بحجة نقلية ولا عقلية ، ولا سند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم . والظرف : صلة لمهتدون ، أو : هما خبران .
{ وكذلك ما أرسنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ } ؛ من نبيّ { إِلا قال مُترفوها } أي : منغّموها ، وهم الذين أترفتهم النعمة ، أي : أبطرتهم ، فلا يُحبون إلا الشهوات والملاهي ، ويعافون مشاقَّ الدين وتكاليفه ، قالوا : { إِنا وجدنا آباءنا على أُمةٍ وإِنا على آثارهم مقتدون } ، وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن التقليد فيهم ضلالٌ قديم . وتخصيص المترفين بتلك المقالة؛ للإذيان بأن التنعُّم بالشهوات ، وحب البطالة ، هو الذي صرفهم عن النظر إلى التقليد .
{ قُلْ } ، هو حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم ، عند تعللهم بتقليد آبائهم ، أي : قيل لكل نذير وأوحي إليه : أن قُلْ ، وليس خطاباً لنبينا - عليه الصلاة والسلام - بدليل ما بعده من قوله : { قالوا .
(5/458)

. . } الخ . وقيل : خطاب له عليه الصلاة والسلام ، فتكون الجملة معترضة بين قصة المتقدمين؛ لأن قوله : " قالوا " راجع للمتقدمين ، وقرأ الشامي وحفص : { قال } أي : النذير : { أوَ لَو جئتُكُم } أي : أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم { بأهدى } ؛ بدين أهدى { مما وجدتم عليه آباءكم } من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء؟ { قالوا إِنا بما أُرسلتم به كافرون } أي : قالت كل أمة لنذيرها : إنا ثابتون على ديننا ، وإن جئتمونا بما هو أهدى وأهدى . وقد أجمل عند الحكاية؛ للإيجاز ، كقوله : { يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } [ المؤمنون : 51 ] .
{ فانتقمنا منهم } ؛ فعاقبناهم بما استحقوه على إصرارهم ، { فانظر كيف كان عاقبةُ المكذِّبين } من الأمم المذكورين ، فلا تكترث قومك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وقالوا : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، تمسّكوا بالحقيقة الظلمانية ، الخالية عن التشريع ، وهو كفر وزندقة ، ولذلك ردّ الله عليهم بقوله : { أم آتيناهم كتاباً . . . } الخ ، وترى كثيراً ممن خذله الله يقول : لو أراد الله هدايتي لهداني ، ولا ينفع ذلك في هذه الدار ، التي هي التكليف ، بل يجب عليه النهوض ، والقصد إلى أمر الله به ، من حقوق العبودية ، فإن منعته الأقدار فلينظر إلى الواحد القهّار ، وإلا فالشقاء لازم له . وقد قالوا : مَن تحقق ولم يتشرّع فقد تزنذق ، ومَن تشرَع ولم يتحقق فقد تفسّق ، ومَن جمع بينهما فقد تحقّق . فالواجب : النظر إلى تصريف الحقيقة في الباطن ، والتمسُّك بالشريعة في الظاهر . وبالله التوفيق .
وقوله تعالى : { بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة . . . } الآية ، فيه توبيخ لمَن تجمّد على تقليد أسلافه ، وقد ظهر مَن هو أهدى منهم ، ففيه نزعة جاهلية ، وحمية من حميتهم .
(5/459)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذ قال إبراهيمُ } أي : واذكر وقت قوله عليه السلام { ولأبيه وقومه } المُنكّبين على التقليد ، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : { إِنني بَرَاء } أي : بريء { مما تعبدون } ، وتمسك بالبرهان . وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال ، أو : ليقلدوه ، إن لم يكن لهم بُد من التقليد؛ فإنه أشرف آبائهم . و " برَاء " : مصدر ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كرجل عدل ، وامرأة عدل ، وقوم عدل . و " ما " : إما مصدرية ، أو : موصولة ، أي : بريء من عبادتكم ومن معبودكم { إِلا الذين فَطَرَني } ؛ استثناء متصل ، أو : منقطع ، على أن " ما " تعم أُولي العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام ، او : صفة ، على أن " ما " موصوفة ، أي : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي { فطرني } ؛ خلقني { فإِنه سيَهدين } ؛ يثبتني على الهداية ، أو : سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن . والأوجه : أن السين للتأكيد دون التسويف ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار .
{ وجعلها } أي : وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها ، وهي قوله : { إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } ، { كلمة باقية في عَقِبهِ } أي : في ذريته ، حيث وصَّاهم بها ، كما نطق به قوله تعالى : { وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ . . . } [ البقرة : 132 ] ، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى ، ويدعوهم إلى توحيده . { لعلهم يرجعون } أي : جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد .
{ بل متعتُ هؤلاء } ، ضراب عن محذوف ، ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم ، فلم يحصل ما رجاه ، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة . { وآباءهم } بالمد في العمر ، والنعمة ، والمهلة ، فاغترُّوا بالمهلة ، وانهمكوا في الشهوات ، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد ، { حتى جاءَهم الحقُّ } ؛ القرآن { ورسولٌ مبينٌ } ؛ ظاهر الرسالة ، واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو : مبين التوحيد . بالآيات والحجج القاطعة .
وفي الآية توبيخ لهم ، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر ، والثبات على التوحيد والإيمان ، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال .
وحاصل معنى الآية : أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك ، نسلاً بعد نسل ، فيرجع المشرك عن شركه ، فلم يرجعوا ، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به ، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق ، فكفروا وأصرُّوا ، { ولمَّا جاءهم الحقُّ } أي : القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة ، ويُرشدهم إلى التوحيد ، ازدادوا كفراً وعُتواً ، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به ، حيث { قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون } فسَمّوا القرآنَ سحراً ، وجحدوه ومَن جاء به .
(5/460)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد ، لقوله تعالى : { إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] ، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلى يوم القيامة ، وهو على قسمين : توحيد البرهان ، وتوحيد العيان . وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معاً ، وقام بها خلقاؤهم بعدهم ، فقام بالأول العلماء ، وقام بالثاني خواص الأولياء ، أهل التربية الحقيقية ، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية ، والحظوظ الفانية ، كما قال الششتري رضي الله عنه :
ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا ... مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى
وكل مَن تمتع بذلك ، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين؛ إذ يمنعه ذلك من حط رأسه ، ودفع فلسه ، فينخرط في سلك قوله تعالى : { بل متعتُ هؤلاء وآباءهم . . . } الآية . وكل زمان له رسول ، خليفةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته . وبالله التوفيق .
(5/461)

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقالوا لولا نُزِّل هذا القرآنُ على رَجُل من القريتين عظيم } أي : من إحدى القريتين؛ مكة والطائف ، على نهج قوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وعنوا بعظيم مكة : الوليد بن المغيرة ، وبعظيم الطائف : عروة بن مسعود الثقفي . وعن مجاهد : عظيم مكة : عتبة بن ربيعة ، وعظيم الطائف : ابن عبد ياليل . ولم يتفوّهوا بهذه العظيمة حسداً ، بل استدلالاً على عدم نزوله ، بمعنى : لو كان قرآناً لأُنزل على أحد هؤلاء ، بناء على ما زعموا من أن الرسالة منصب جليل ، لا يليق له إلا مَن له جلالة من جهة المال والجاه ، ولم يدْروا أنها رتبة روحانية ، لا يرتقى إليها إلا همم الخواص ، المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيّدين بالقوة القدسية ، المتحلّين بالفضائل الإنسية ، وأما المتزخرفون بالزخارف الدنيوية ، المتمتعون بالحظوظ الدنية ، فهم من استحقاق تلك الرتبة بألف معزل .
قال ابن عطية : وإنما قصدوا إلى مَن عظم ذكره بالسن ، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعظم هؤلاء؛ إذ كان المسمى عندهم الأمين . ه . ومرادهم : الشرف الدنيوي ، بحيث يتعرض للأمور؛ ليُذكَر ويُشار إليه ، ورسوله الله صلى الله عليه وسلم كان منزَّهاً عن ذلك من أول النشأة ، كما هو حال أهل الآخرة ، والنفوس في مهماتها إليهم أميلُ ، وعليهم تعول ، ولذلك كان أميناً عندهم ، ولا ترضى جل النفوس أهل الفضول؛ لأماناتها ، ولا تسكن إليها وتطمئن بها ، وإنما تعظمها ظاهراً ، لا حقيقة . وهذا كافٍ في الرد عليهم في أنهم لا يرضونهم لأماناتهم ، لكيف يُرضون لأمانات الوحي . { وَاللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه } [ الأنعام : 124 ] . قاله في الحاشية .
وقوله تعالى : { أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ ربك } ، إنكار عليهم ، وفيه تجهيل لهم وتعجيب من تحكمِهم في اختيار مَن يصلح للنبوة . والمراد بالرحمة : النبوة .
{ نَحنُ قَسَمْنَا بينهم معيشتَهم } ؛ ما يعيشون به ، وهو أرزاقهم الحسية { في الحياة الدنيا } أي : لم نجعل قسمة الأدون إليهم ، وهو رزق الأشباح ، فكيف بالنبوة ، والعلم ، الذي هو رزق الأرواح؟ { ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجات } أي : جعلنا البعض أقوياء وأغنياء وموالي ، والبعض ضعفاء وفقراء وخدماء ، { ليتخذ بعضُهُم بعضاً سُخْرياً } أي : ليصرف بعضهم بعضاً في حوائجهم ، ويستخدموهم في مهماتهم ، ويُسخروهم في أشغالهم ، حتى يتعايشوا ، ويصلوا إلى أعمالهم ، هذا بماله ، وهذا ببدنه ، ولو استووا في الغنى والفقر لبطل جُل المصالح ، فسبحان المدبّر الحكيم .
قال القشيري : لو كانت المقاديرُ متساويةٌ لَتَعَطلَت المعايشُ ، ولَبَقي كلٌّ عند حاله ، فجعل بعضَهُم مخصوصاً بالترفُّه والمال ، وآخرين بالفقر ورقّة الحال ، حتى احتاج الفقيرُ في حين حاجته أن يعمل للغنيِّ ، ليترفّق من جهته بأجرته ، فيصلُح بذلك أمر الفقير والغنيّ معاً . ه . ولو فوّضنا ذلك إلى تدبيرهم لهلكوا . وإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم ، وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية ، في غاية العجز ، فما ظنهم في تدبير أمر الدين والنبوة؟! .
(5/462)

وقيل : " سخريا " أي : يسخر بعضهم من بعض .
{ ورحمتُ ربك } أي : النبوة ، أو : الدين وما يتبعه من الفوز في المآب ، { خيرٌ مما يجمعون } أي : مما يجمعُ هؤلاء من حُطام الدنيا الدنية الفانية .
الإشارة : مما جرى في طبع الناس أنهم لا يُقرون الولاية إلا فيمن عَظُمَ جاهُه ، وكثر طعامه ، أو كثرت صلاته ، أو كان مجذوباً مصطلماً ، أو : سبقت في أسلافه ، وهذا خطأ ، فإن الولاية سر من أسرار الله ، أودعها قلوب أصفيائه ، لا تظهر على جوارحهم ، ولا تكون في الغالب إلا في أهل التجريد ، وأهل الخمول ، أخفاها الله في عابده ، فمَن ادعاها من غير تجريد ولا تخريب ، فهو مدّعٍ ، ولذلك قال أبو المواهب رضي الله عنه : مَا ادّعى شهود الجمال ، قبل تأدُّبه بالجلال ، فارفضه فإنه دجال .
ويقال لمَن أنكر على أهلها من أهل التجريد : { أهُم يقسمون رحمت ربك . . . } الآية ، ورحمة ربك - هي سر الخصوصية - خير مما يجمعون .
وقال القشيري على قوله تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم . . . } الخ ، بعد كلام : ثم إنه تعالى قَسَمَ لبعض عباده النعمةَ والغنى ، ولقوم الفقر والقلّة ، وجعل لكلّ واحدٍ منهم مسكناً يسكنون إليه ، ويستقلُّون به ، فللأغنياء وجود الأنعام ، وجزيل الأقسام ، فشكروا واستبشروا ، وللفقراء شهودُ القَسَّام ، فحَمدوا وافتخروا ، فالأغنياء وجدوا النعمة فاستغنوا وانشغلوا ، والفقراء سمعوا قوله : " نحن " فاشتغلوا ، وفي الخبر : أنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : " أما تَرضَون أن يرجع الناس بالشاء والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى أهليكم؟ والله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون " ه .
قوله تعالى : { نحن قسمنا بينهم . . . } الخ ، قد سبقت أقسام الرزق قبل ظهور الخلق ، فالواجب انتظار القسمة ، والرضا بما قسم ، كما قال الشاعر :
اقنعْ بما قسم الرزّاق من قِسَم ... وسلّم الأمرَ فالرزاق مختارُ
لا تجزعن ولا تبطَر على مِحَنٍ ... أو مِنَح ، فإنما هي أحكام وأقدارُ
واقنع بكل الذي يجري الزمانُ به ... ولا يكن منك للمغرور انكسارُ
(5/463)

وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولولا أن يكون الناسُ أمةً واحدةٌ } أي : ولولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ، ويُطبقوا عليه ، { لجعلنا } لأجل حقارة الدنيا عندنا { لِمَن يكفُر بالرحمن لبيوتهم } : بدل " مَن " { سُقُفاً من فضةٍ } أي : متخذة منها ، { ومعارجَ } أي : ولجعلنا لهم مصاعد ، أي : سلالم من فضة أيضاً ، يصعدون عليها إلى السطوح ، { عليها يظهرون } أي : يَعلون السطوح والعلالي عليها ، { ولِبيوتهم } أي : وجعلنا لبيوتهم { أبواباً وسُرُراً } من فضة أيضاً ، { عليها } أي : السرر { يتكئون } ، ولعل تكرير " بيوتهم " لزيادة التقرير . { وزُخرفاً } أي : وجعلنا لهم زخرفاً ، أي : زينةً من كل شيء . والزخرف : الذهب والزينة . ويجوز أن يكونَ الأصلُ : سقفاً من فضة وزخرف ، أي : بعضها من فضة ، وبعضها مِن ذهب ، فنُصب عطفاً على محل " مِن فضة " .
{ وإِن كُلُّ ذلك لَمَّا متاعُ الحياةِ الدنيا } أي : وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بما ذكر من الزخارف الغرارة ، إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا ، ثم يفنى وتبقى تبعته . { والآخرةُ } أي : ونعيم الآخرة الذي يقصر عنه البيان : خير { عند ربك للمتقين } الكفر والمعاصي . وبهذا يتبين أن العظيم إنما هو العظيم في الآخرة ، لا في الدنيا ، ولذلك لم يجعل للمؤمنين فيها حظاً وافراً؛ لأنه تمتع قليل بالنسبة إلى ما لهم في الآخرة ، ولأنه ربما يشغلهم عن ذكر الرحمن ، كما أشار إليه بقوله : { ومَن يَعْشُ . . . } الخ .
الإشارة : في الآية ذم للدنيا ولمَن اشتغل بها . وفي الحديث : " لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي كافراً منها شربة ماء " وعن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصيرٍ ، فأثَّرَ الحصيرُ في جَنْبِه ، فلما استيقظ ، جعلتُ أمسح عنه ، وأقول : يا رسول الله؛ ألا آذنتني قبل أن تنام على هذه الحصيرة ، فأبسط عليه شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لي وللدنيا ، وما للدنيا وما لي ، ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ في فيء ، أو ظل شجرةٍ ، ثم راح وتركها " ورُوي أن عيسى عليه السلام أخذ لبنة من طوب ، فجعلها تحت رأسه ، فجاءه جبريل عليه السلام ، فوكز الطوية من تحت رأسه ، ونزعها ، وقال : " اترك هذه مع ما تركتَ " وأنشدوا في هذا المعنى :
رضيتُ من الدنيا بقُوتٍ وخرقةٍ ... وأشربُ من كوز حوافيه تُكْسَرُ
فقل لبني الدنيا : اعزلوا مَن أردتُم ... وولُّوا ، وخلوني على البعد أنظرُ
وقال صلى الله عليه وسلم : " الدنيا خراب ، وأخرب منها قلب مشتغل بها " ومَن اشتغل بها غَفَلَ عن ذكر الرحمن ، وسُلط عليه الشيطان .
(5/464)

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
قلت : " مَن يعش " : شرط وجواب . وحكي أن أبا عبد الله بن مرزوق دخل على ابن عرفة ، فحضر مجلسه ، ولم يعرفه أحد ، فوجده يُفسر هذه الآية : { ومَن يعش عن ذكر الرحمن } ، فكان أول ما افتتح به - يعني ابن مرزوق - أن قال : وهل يصح أن تكون " مَن " هنا موصولة؟ فقال ابن عرفة : وكيف ، وقد جزمت؟ فقال ابن مرزوق : جزمت تشبيهاً بالشرطية ، فقال ابن عرفة : إنما يقدم على هذا بنص من إمام ، أو شاهد من كلام العرب ، فقال : أما النص؛ فقال ابن مالك في التسهيل : وقد يحزم مسبب عن صلة الذي ، تشبيهاً بجواب الشرط ، وأما الشاهد فقوله :
فلا تَحْفِرَنْ بِئراً تُريدُ أخاً بها ... فإنك فيها أنتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ
كذاك الذي يَبْغِي عَلَى ظالماً ... تُصِبْهُ على رَغْمِ عَوَاقِبُ ما صَنَعْ
فقال ابن عرفة : فأنت إذاً أبو عبد الله بن مرزوق؟ فقال : نعم ، فحرّب به . وقال . والله ما ظلمناك . ه .
وقرأ ابن عباس : " يعشَ " - بفتح الشين ، أي : يَعْم ، من : عشى يعشى . وقُرئ : " يعشو " على أن " من " موصولة غير مضمنة معنى الشرط ، وإلا جزمت كما تقدم . قلتُ : والذي يظهر من كلام التسهيل أن الموصول المضمَن معنى الشرط إنما يجزم الجواب لا الشرط ، فتأمله ، مع كلام ابن مرزوق . والشاهد الذي أتى به إنما فيه جزم الجواب لا الشرط ، فلا يصح ما قاله ابن مرزوق باعتبار جزم لفظ الشرط . والله تعالى أعلم .
يقول الحق جلّ جلاله : { ومَن يَعْشُ } أي : يتعَامَ ، أو : يعْم . والفرق بين القراءتين أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل : عشى يعشَى ، وإذا ضعف بصره بلا آفة قيل : عشَى يعشو . والمعنى : ومَن يعرض { عن ذكر الرحمن } وهو القرآن ، لفرط اشتغاله بزهرة الدنيا ، وانهماكه في الحظوظ الفانية ، فلم يلتفت إليه ، ولم يعرف أنه حق - على قراءة الفتح - أو : عرف أنه حق وتعامى عنه ، تجاهلاً ، على قراءة الضم ، { نُقَيّضْ له شيطاناً فهو له قرينُ } ، قال ابن عباس : نسلطه عليه فهو معه في الدنيا والآخرة ، لا يفارقه ، ولا يزال يوسوسه ويغويه . وفيه إشارة إلى أن مَن دام عليه لم يغوه الشيطان . وإضافته إلى " الرحمن " للإيذان بأن نزوله رحمة للعالمين ، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : ما ذكره الرحمن وأوحى به في كتابه ، وقال ابن عطية : ما ذكّر الله به عباده من المواعظ . ويحتمل أن يريد مطلق الذكر ، أي : ومَن يغفل عن ذكر الله نُسلط عليه شيطاناً ، عقوبة على الغفلة ، فإذا ذكر الله تباعد عنه .
{ وإِنهم } أي : الشياطين ، الذي قيّض كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو ، { ليصدُّونهم } ؛ ليمنعون العاشين { عن السبيل } ؛ عن سبيل الهدى الذي جاء به القرآن ، { ويحسبون أنهم مهتدون } أي : أنفسهم مهتدون ، أو : ويحسب العاشُون أن الشياطين مهتدون ، فلذلك قلَّدوهم ، فمدار جمع الضمير اعتبار معنى " مَن " كما أن مدار إفراده فيما سبق اعتبار لفظها .
(5/465)

وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجديدي ، لقوله : { حتى إِذا جاءنا } فإن " حتى " تقتضي أن تكون غاية لأمر ممتد ، أي : يستمر العاشون على ما ذكر من مقارنة الشياطين والصد والحسبان الباطل ، حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة . ومَن قرأ بالتثنية ، فالمراد العاشي وقرينه . قال مخاطباً لقرينه : { يا ليتَ بيني وبينك } في الدنيا { بُعد المشرقين } أي : بُعد المشرق والمغرب ، أي : تباعد كل منهما من صاحبه ، فغلب المشرق على المغرب ، كما قيل : القَمَران والعُمرَان ، وأضيف البُعد إليهما ، { فبئس القرينُ } أنت .
قال تعالى : { ولن ينفعكم اليومَ } أي : يوم القيامة { إِذ ظلمتمْ } أي : حين صحّ وتبيّن ظلمكم وكفركم ، ولم تبقَ لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين . و " إذ " : بدل من اليوم . وقوله : { أنكم في العذاب مشتركون } : فاعل ينفع ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة اشتراككم في العذاب ، كما كان في الدنيا يُهون عليكم المصيبة اشتراككم فيها ، لتعاونكم في تحمُّل أعبائها وتقسيمكم لعنائها ، ولذلك قيل : المصيبة إذا عمّت هانت ، وإذا خصت هالت ، وفي ذلك تقول الخنساء :
ولولا كثرةُ الباكين حَوْلي ... على إخوانهم لقتلتُ نفسي
ولا يبكون مثلَ أخي ولكنْ ... أُعزّي النفسَ عنه بالتأسِّي
أما هؤلاء فلا يؤسّيهم اشتراكهم ، ولا يُروّحهم ، لأن بكلٍّ منهم ما لا تبلغه طاقة ، وقد ورد أنهم يكونون في توابيت من نار ، لا يرى أحد صاحبَه ، بل يظن أنه وحده فيها . وقيل : الفاعر مضمر ، أي : ولن ينفعكم هذا التمني ، أو هذا الاعتذار؛ لأنكم في العذاب مشتركون؛ لاشتراككم في سببه ، وهو الكفر ، ويؤيده : قراءة مَن قرأ : " إنكم " بالكسر .
وكان صلى الله عليه وسلم يُبالغ في المجاهدة في دعاء قومه ، وهم لا يزيدون إلا غيّاً وتعامياً عما يشهدونه من شواهد النبوة ، وتصامماً عما يسمعونه من القرآن ، فأنزل الله تعالى : { أفأنت تُسْمِعُ الصمَّ أو تهدي العُمْيَ } ، وهو إنكار وتعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم ، وقد تمرّنوا في الكفر ، واستغرقوا في الضلال ، حيث صار ما بهم من العشي عَماً مقروناً بالصمم ، أي : أفأنت تقدر أن تُسمع مَن فقد سمع القبول ، أو تهدي مَن فقد بصر الاستبصار . { ومَن كان في ضلالٍ مبين } أي : ومَن كان في علم الله أنه يموت على الضلال . ومدار الإنكار هو التمكُّن والاستقرار في الضلال المفرط ، بحيث لا ارعواء له منه ، لا توهم القصور من قبل الهَادي ، ففيه رمز في أنه لا يقدر على ذلك إلا الله .
(5/466)

{ فإما نَذْهَبَنَّ بك } أي : فإن قبضناك قبل أن ننصرك على أعدائك ، ونشفي صدور المؤمنين منهم ، { فإنا منهم منتقمون } أشد الانتقام في الآخرة . { أو نُرِيَنَّكَ } العذاب { الذي وعدناهم } قبل أن نتوفينك ، كما وقع بهم يوم بدر ، { فإِنا عليهم مقتدرون } العذاب { الذي وعدناهم } قبل أن نتوفينك ، كما وقع بهم يوم بدر ، { فإِنا عليهم مقتدرون } بحيث لا ناصر لهم من حلول نقمتنا وقهرنا . و " إما " : شرط دخلت " ما " على " إن " توكيداً للشرط ، وزاد التوكيد نون الثقيلة .
الإشارة : كل مَن غفل عن ذكر الله تسلّط الشيطان على قلبه بالوسوسة والخواطر الردية ، وقد ورد في الحديث : " إن قلب ابن آدم ملك وشيطان ، فإذا ذكر الله قرب الملك منه وانخنس الشيطان ، وإذا غفل عن ذكر الشيطان قرب منه ، فلا يزال يوسوسه ويمنيه حتى يغفله عن الله " ولا شك أن الذكر الذي يصرف الشيطان عن القلب إنما هو الذكر القلبي لا اللساني ، فكم من ذاكر بلسانه وقلبه مشغول بهواه ، فذكر اللسان نتائجة الأجور ، وذكر القلوب نتائجة الحضور ورفع الستور ، وشتان بين مَن همّه الحور والقصور ، ومَن همّه الحضور ورفع الستور ، هذا من عامة أهل اليمين ، وهذا من خاصة المقربين ، فإذا أردت يا أخي ذكر القلوب ، ولمعان أسرار الغيوب ، فاصحب الرجالَ ، حتى ينقلوك من عالم الطبيعة إلى عالم الروحانية ، وإلا بقيت في عالم الأشباح .
قال القشيري : مَن لم يعرف قَدْرَ الخلوة مع اللّهِ ، فحادَ عن ذكره وأخلدَ إلى الخواطر الرديَّة ، قيَّض اللّهُ له مَن يشغله عن الله - وهذا جزاء مَن تَرك الأدب في الخلوة . وإذا اشتغل العبدُ في خلوته مع ربَّه ، وتعرَّض له مَن يشغله عن ربه ، صَرَفه الحق عنه بأي وجْهٍ كان . . ويقال : أصعبُ الشياطين نَفْسُكَ ، والعبدُ إذا لم يَعرفْ قدر فراغ قلبه ، واتَّبَعَ شهوته ، وفتح ذلك البابَ علَى نَفْسه ، بقي في يد هواه أسيراً ، لا يكاد يتخلصُ منه إلا بعد مُدة . ه .
وقال في الإحياء : للشيطان جندان؛ ند يطير ، وجند يسير ، والوسواس عبارة عن حركة جنده الطيار ، والشهوة عبارة عن حركة جنده السيار . ثم قال : فتحقق أن الشيطان من المنظَرين ، فلا يتواضع لك بالكف عن الوسواس إلى يوم الدين؛ إلا أن تصبح وهمومك هم واحد ، وهو الله ، فيشتغل قلبك بالله وحده ، فلا يجد الملعون مجالاً فيك ، فعند ذلك تكون من عباد الله المخلّصين ، الداخلين في الاستثناء من سلطنته . ولا تظن أن يفرغ منه قلب فارغ من ذكر الله ، بل هو سيّال يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وسيلانه مثل الهواء في القدح ، إن أردت أن يخلو عن الهواء من غير أن تشغله بالماء أو غيره ، فقد طمعت في غير مطمع ، بل بقدر ما يخلو من الماء يدخل فيه من الهواء لا محالة ، فكذلك القلب المشغول بتفكُّر مهم في الدين ، يخلو عن جولان الشيطان ، وإلا فمَن غفر عن الله ، ولو لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، وإلا فمَن غفل عن الله ، ولو لحظة ، فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان ، ولذلك سبحانه : { ومَن يعش عن ذكر الرحمن نُقيض له شيطاناً فهو له قرين } .
(5/467)

ه . المراد منه .
وكل مَن عوّق الناس عن طريق الحق يصدق عليه قوله : { وإِنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون } ، فإذا تحققت الحقائق ، وارتفع الغطاء ، وظهر الصواب من الخطأ ، قال للذي صدّه عن طريق القوم : يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين ، فيقول الحق جلّ جلاله : { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنفسكم } حيث حرمتموها من الوصول إليّ أنكم من عذاب الحجاب مشتركون . ويُقال لمَن وعظ ودعا إلى الله ، فلم يُقبل منه : { أفأنت تُسمع الصُّم . . . } الآية . فإما نذهبنَّ بك بالموت ، فيقع الندم عليك ، أو نُرينك الذي وعدناهم من العز لك والنصر ، والانتقام ممن آذى أولياء الله ، فإنا عليهم مقتدرون .
(5/468)

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
يقول الحق جّل جلاله : { فاستمسكْ } أي : تمسّك { بالذي أُوحِيَ إِليك } من الآيات والشرائع ، واعمل بذلك ، سواء عجلنا لك الموعد أو أخرناه ، { إِنك على صراطٍ مستقيم } ؛ على دين قَيم لا عوجَ فيه ، وهو تعليل للأمر بالاستمساك . { وإِنه } أي : ما أُوحي إليك { لَذِكرّ } ؛ لشرف عظيم { لك ولقومك } ؛ ولأمتك ، أو : لقومك من قريش ، فما زال العز فيهم ، والشرف لهم ، من زمانه صلى الله عليه وسلم إلى قرب الساعة . قال صلى الله عليه وسلم : " لا يزال هذا الشأن في قريش ما بقيّ منه اثنان " وفي رواية : " لا يزال هذا الأمر في قريش ، لا يُعاديهم أحد إلا كُبّ على وجهه بمكة ، ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا : لِمن الملك بعدك؟ أسمك فلم يجبهم ، حتى نزلت : { وإنه لذكر لك ولقومك } فكان بعد ذلك إذا سئل قال : " لقريش " فلا يُجيبونه ، فقبلته الأنصار على ذلك .
أو : وإنه لموعظة لك ولأمتك بأجمعها . { وسوف تسألون } يوم القيامة عن شكركم هذه النعمة ، أو : عما أوحي إليه ، وعن قيامكم بحقوقه ، وعن تعظيمكم له .
{ واسْأَلْ من أرسلنا مِن قبلك مِن رسلنا أجعلنا من دون الله آلهةً يُعبدون } ، فليس المراد سؤال الرسل حقيقة ، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مِللهم ، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظراً وفحصاً نظره في كتاب الله المعجز ، المصدق لما بين يديه . وإخبارُ الله فيه بأنهم إنما يعبدون من دون الله ما لم يُنزل به سلطاناً . وهذه الآيةُ في نفسها كافية ، لا حاجة إلى غيرها .
وقيل إنه صلى الله عليه وسلم جُمع له الأنبياء - عليهم السلام - وقيل له : سلهم ، وهو ضعيف . وقيل معناه : سل أمم مَن أرسلنا ، وهم أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ، وإنما يخبرونه عن كتب الرسل ، فإذا سألهم فأكنما سأل الأنبياء ، ومعنى هذا السؤال : التنبيه على بطلان عبادة الأوثان ، والاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد ، وأنه ليس ببدع ابتدعه حتى ينكر ويعادي : وقيل : الخطاب له ، والمراد غيره ممن يرتاب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الاستمساك بالوحي كان حاصلاً له صلى الله عليه وسلم ، وإنما المراد الثبوت على ما هو حاصل ، والاسترشاد إلى ما ليس بحاصل ، فالمراد الترقي في زيادة العلم ، والكشف إلى غير نهاية ، كقوله : { اهدنا الصراط المستقيم } ، فالترقي لا ينقطع لمَن تمسك بالوحي التمسُّك الحقيقي ، بحيث كُشِف له عن غوامض أسرار القرآن ، وزال الحجاب بينه وبين الله تعالى ، فهو دائماً في زيادة العلم والكشف ، إلى ما لا نهاية له . وهذا هو الشرف العظيم في الدارين . فمَن لم يشكره سُئل عنه ، أو سُلب منه في الدنيا . ثم إن التوحيد في الذات والصفات والأفعال مما أجمعت عليه الملل ، وكل داعٍ إنما يدعو إليه ، وكل شيخ مربي إنما يُوصل إليه ، ومَن لم يُوصل إليه أصحابه فهو دجّال . وبالله التوفيق .
(5/469)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } أي : متلبساً بآياتنا { إِلى فرعون وملَئِه فقال إِني رسولُ رب العالمين } فأجابوه بقولهم : { فأتنا بآية إن كنت من الصادقين } كما صرّح به في آية أخرى . { فلما جاءهم بآياتنا إِذا هم منها يضحكون } ؛ يسخرون منها ، ويهزؤون ، ويسمُّونها سحراً . و " إذا " للمفاجأة ، وهو جواب " لمّا " ، لأن فعل المفاجأة معها مقدّر ، وهو العامل في " إذا " ، أي : لما جاءهم فاجؤوا وقت ضحكهم منها ، أي : استهزؤوا بها أول ما رأوها ، ولم يتأملوا فيها .
{ وما نُرِيهم من آيةٍ } من الآيات { إِلا هي أكْبرُ من أُختها } ؛ قرينتها ، وصاحبتها التي كانت قبلها ، أي : ما ظهر لهم آية إلا وهي بالغة أقصى مراتب الإعجاز ، بحيث يجزم كل مَن ينظر إليها أنها أكبر من كل ما يُقاس بها من الآيات . والمراد : وصف الكل بغاية الكِبرَ من غير ملاحظة قصور في شيء منها ، قال النسفي : وظاهر النظم يدلّ على أن اللاحقة أعظم من السابقة ، وليس كذلك ، بل المراد بهذا الكلام : أنهن موصوفات بالكبر ، كما يقال : هما أخوان ، كلّ منهما أكبر من الآخر . ه . وقال في الانتصاف : الظاهر : أن كل آية إذا أُفردت استغرقت الفكر وبهرته ، حتى يجزم أنها النهاية ، وأنَّ كل آية دونها ، فإذا نقل الفكر إلى الأخرى كانت كذلك . وحاصله : أنه لا يقدر الفكر أن يجمع بين آيتين ، لتتميز الفاضلة من المفضولة . ه .
{ وأخذناهم بالعذاب } وهو ما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ } [ الأعراف : 130 ] ، { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ . . . } [ الأعراف : 133 ] الآية . { لعلهم يرجعون } ؛ لكي يرجعوا عما هم عليه من الضلال .
{ وقالوا يا أيُّه الساحِرُ } ، كانوا يقولون للعالِم : إنما هو ساحر؛ لتعظيمهم علم السحر ، أو : نادوه بذلك في مثل تلك الحالة لغاية عتوهم ونهاية حماقتهم وقرأ الشامي بضم الهاء ، لاتباع حركة ما قبلها حين سقطت الألف ، { ادْعُ لنا ربك } يكشف عنا العذاب { بما عَهِدَ عندك } أي : لعهده عندك بأن دعوتك مستجابة ، أو : بما عهد عندك من النبوة والجاه ، أو : بما عهد من كشف العذاب عمن اهتدى ، { إِننا لمهتدون } ؛ مؤمنون أن كشف عنا بدعوتك ، كقوله : { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } [ الأعراف : 134 ] ، { فلما كشفنا عنهم العذاب } بدعوته { إِذا هم يَنكُثُون } ؛ ينقضون العهد ، أي : فاجؤوا وقت نكث عهدهم بالاهتداء . وقد مرَّ تمامه في الأعراف .
الإشارة : قد ظهرت الآيات على الأنبياء والرسل ، فلم ينتفع بها إلا مَن سبقت له العناية ، وكذلك ظهرت الكرامات على أيدي الأولياء الداعين إلى الله ، فلم ينتفع بها إلا مَن سبق له التقريب والاصطفاء . على أن الصادق في الطلب لا يحتاج إلى ظهور كرامة ، بل إذا أراد الله أن يوصله إليه وصله إلى وَليّ من أوليائه ، فطوى عنه وجود بشريته ، وأشهده سر خصوصيته ، فخصع له من غير توقف على كرامة ولا آية . وأما مَن لم يسبق له التقريب؛ إذا رأى ألف آية ضحك منها واستهزأ ، ورماها بالسحر والشعوذة ، والعياذ بالله من البُعد والطرد .
(5/470)

وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
يقول الحق جلّ جلاله : { ونادى فرعونُ } ، إما بنفسه ، أو : أمر مَن ينادي ، كقولك : قطع الأميرُ اللصّ . والظاهر أنه نادى بنفسه ، { في قومه } ؛ في مجمعهم وفيما بينهم ، بعد أن كشف العذاب عنهم ، مخافة أن يؤمنوا ، { قال يا قوم أليس لي مُلكُ مِصرَ وهذه الأنهارُ } ؛ أنهار النيل ، ومعظمها أربعة : نهر الملك ، ونهر طولون ، ونهر دمياط ، ونهر تييس ، { تجري من تحتي } ؛ تحت سريري؛ لارتفاعه ، أو : بين يدي في جناتي وبساتيني .
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه : نيل مصر سيد الأنهار ، سخّر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها ، وفجّر له كل نهر عيوناً ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد الله سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره . قاله في الاكتفاء . ومهبطه من جبل القمر ، وقيل : أصله من الجنة ، والله تعالى أعلم . وحدُّ مصر : من بحر الإسكندرية إلى أسوان ، بطول النيل . والأنهار المذكورة هي الخلجان الكبار ، الخارجة من النيل .
وعن عبد الله بن طاهر : أنه لما ولي مصر خرج إليها ، فلما شارفها ، قال : أهي القرية التي افتخر بها فرعون ، حتى قال : { أليس لي ملك مصر } ؟ والله لهي أقلّ عندي من أن أدخلها ، فثنى عنانه . وعن هارون الرشيد : أنه لما قرأها ، قال : والله لأولينّها أخسَّ عبيدي ، فولاها الخُصَيْب ، وكان خادم وُضوئه .
{ وهذه الأنهارُ } : إما عطف على " ملك مصر " ، ف " تجري " : حال منها ، أو : واو الحال ، ف " هذه " مبتدأ ، و " الأنهار " : صفتها و " تجري " : خبر ، { أفلا تُبصرون } قوتي وسلطاني ، مع ضعف موسى وقلة أتباعه . أراد بذلك استعظام ملكه وترغيب الناس في اتباعه .
ثم قال : { أم أنا خير } مع هذه المملكة والبسْطة { مِن هذا الذي هو مَهينٌ } أي : ضعيف حقير ، من : المهانة ، وهي القلة . { ولا يكاد يُبينُ } الكلام لما به من اللثة . قاله افتراء عليه عليه السلام ، وتنقيصاً له في أعين الناس ، باعتبار ما كان في لسانه عليه السلام . وقد كانت ذهبت عنه ، لقوله تعالى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُوؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 36 ] . والهمزة للتقرير ، كأنه قال إثر ما عدّد من أسباب فضله ، ومبادئ خيريته : أثبت عندكم واستقر لديكم أني أنا خير ، وهذه حال ، مِن هذا . وإما متصلة ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون؟ فوضع قوله : { أما أنا خير } موضع " تُبصرون "؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خير؛ فهم عنده بُصَراء . وهذا من باب تنزيل السبب منزلة المسبب . انظر أبا المسعود .
{ فلولا أُلْقِيَ عليه أسَاوره من ذهب } أي : فهلاَّ أُلقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقاً ، لأنهم كانوا إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوار ، وطوّقوه بطوق من ذهب .
(5/471)

{ أو جاء معه الملائكةُ مقترنين } ؛ مقرونين يمشون معه ، مقترن بعضهم ببعض ، ليكونوا أعضاده وأنصاره ، أو : ليشهدوا له بالنبوة؟ { فاستخف قومَهُ } أي : فاستفزهم ، وطلب منهم الخفة والسرعة في مطاوعته . أو : فاستخف أحلامهم واستزلهم ، { فأطاعوه } فيما أمرهم به { إِنهم كانوا قوماً فاسقين } ، خارجين عن الدين ، فلذلك سارعوا إلى طاعته .
{ فلما آسَفُونا } ؛ أغضبونا أشد الغضب ، منقول من : أَسف : إذ اشتد غضبه ، { انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين } ، والمعنى : أنهم أفرطوا في المعاصي فاستوجبوا أن نُعجِّل لهم العذاب ، وألا نحلُم عليهم . { فجعلناهم سَلَفاً } ؛ قدوة لمَن بعدهم من الكفار ، يسلكون مسلكهم في استيجاب مثل ما حلّ بهم من العذاب ، فكل مَن تفرعن وتجبّر ففرعون إمامه وقدوته . أو : جعلناهم متقدمين في الهلاك ، ليتعظ بهم مَن بعدهم إلى يوم القيامة . والسلف : جمع سالف ، وهو الفارط المتقدم ، { ومثلاً للآخِرين } أي : عظةً لهم ، أو : قصة عجيبة ، تسير مسير الأمثال ، فيقال : مثلكم كقوم فرعون ، كما قال تعالى : { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } [ آل عمران : 11 ] . وهاهنا قراءات ، قد وجَهناها في كتاب مستقل .
الإشارة : عاقبة التكبُّر والافتخار الذُّل والهوان والدمار ، وعاقبة التواضع والانكسار العزُّ والنصرة ، انظر إلى فرعون لما تعزّز واستكبر هلك مع قومه في لُجة البحار . قال القشيري : ليعلم أن مَن تعزّز بشيء دون الله فهلاكه وحتْفه فيه ، وفرعون لمَّا استصغر موسى وحديثه ، وعابَه بالفقر ، سلَّطه الله عليه ، فكان هلاكه بيده ، وما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلط عليه . ثم قال في قوله تعالى : { فاستخف قومه فأطاعوه } : طاعةٌ الرهبة لا تكون مخلصةً ، وإنما تكون الطاعةُ صادقةً إذا صَدَرَتْ عن الرغبة ، { فلما آسفونا } ؛ أغضبونا ، وإنما أراد : أغضبوا أولياءنا ، وهذا أصل في باب الجمع ، أضاف إغضابهم أولياءه إلى نفسه . وفي الخبر أنه تعالى يقول : " مرضت فلم تعدني " وقال لإبراهيم عليه السلام : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم : { مَّن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } [ النساء : 80 ] . ه .
(5/472)

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولما ضُرب ابنُ مريمَ مثلا } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] الآية ، فغضبوا ، فقال ابن الزِّبَعْرى : يا محمد! أخاصة لنا ولآلهتنا ، أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم " ، فقالوا : ألست تزعم أن عيسى [ نبي ] ، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً ، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما؟ وعزيز يُعبد ، والملائكة يُعبدون ، فإن كان هؤلاء في النار ، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ، ففرحوا ، وضحكوا ، وسكت النبيُّ انتظاراً للوحي .
وفي رواية : فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك " وقال لابن الزبعرى : " ما أجهلك بلغة قومك ، أَمَا فهمت أن " ما " لِما لا يعقل ، فهي خاصة بالأصنام " ، فأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى . . . } [ الأنبياء : 101 ] الآية . ونزلت هذه الآية .
والمعنى : ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى { ابن مريم مثلاً } لآلهتهم ، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه { إِذا قومُك } قريش { منه } أي : من هذا المثل { يَصِدُّون } ترتفع لهم جلبة وضجيج ، فرحاً وضحكاً ، فهو من : الصديد ، وهو الجلبة ورفع الصوت ، ويؤيده : تعديته بمَن ، ولو كان من الصدود لقال : " عنه " ، وقرئ بالكسر والضم ، وقيل : هما لغتان ، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون ، وقيل : بالكسر معناه : الصديد ، أي : الضجيج والضحك ، وبالضم معناه : الإعراض ، فيكون من الصدود ، أي : فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق ، أي : يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض ، أو يزدادون .
{ وقالوا آلهتُنا خيرٌ أَمْ هو } يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً . أو : فإذا كان عيسى في النار ، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها . قال تعالى : { ما ضربوه لك إِلا جَدَلا } أي : ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام ، لا لطلب الحق حتى يذعونا له عند ظهوره ، { بل هم قوم خَصِمُونَ } أي : لُدّاً ، شِدَاد الخصومة ، مجبولون على اللجاج ، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام ، بدليل التعبير ب " ما " ، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم ، مع علمه بأن المراد به أصنامهم ، وجد للحيلة مساغاً ، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله ، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة ، وتوقَّح في ذلك ، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه .
وقيل : لما سمعوا قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ . . . } [ آل عمران : 59 ] الآية ، قالوا : نحن أهدى من النصارى ، لأنهم عبدوا آدمياً ، ونحن نعبد الملائكة ، فنزلت .
(5/473)

فقولهم : آلهتنا خير ، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام؛ لأن المراد بهم الملائكة . ومعنى : { ما ضربوه . . . } الخ : ما قالوا هذا القول إلا للجدال . وقيل : لما نزل : { إن مثل عيسى عند الله . . } الآية ، قالوا : ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح . ومعنى " يصدون " : يضجون ويسخرون ، والضمير على هذا في " أَم " هو لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم : الملائكة بنات الله ، ومن عبادتهم لهم ، كأنهم قالوا : ما قلنا بدعاً من القول ، ولا فعلنا منكراً من الفعل ، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله ، وعبدوه ، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً ، حيث نسبنا له الملائكة ، وهم نسبوا إليه الأناسي . فقوله تعالى : { إن هو إِلا عبدٌ أنعمنا عليه } أي : ما عيسى إلا عبد ، كسائر العبيد ، أنعمنا عليه بالنبوة ، { وجعلناه مثلاً لبني إِسرائيل } أي : أمراً عجيباً ، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة ، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية ، أي : قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة ، وخصصناه ببعض الخواص البديعة ، بأن خلقناه على وجهٍ بديع ، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه ، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله؟ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان .
ثم قال تعالى : { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض } بدلاً منكم ، كذا قال الزجاج ، ف " مِن " بمعنى البدل { يَخْلُفُون } أي : يخلفونكم في الأرض ، أي : لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض ، فيكونون أطوع منك لله تعالى ، وقيل : { ولو نشاء } لقدرتنا على عجائب الأمور { لجعلنا منكم } بطريق التوالد ، وأنتم رجال ، من شأنكم الولادة - { ملائكة } كما خلقناهم بطريق الإبداع { في الأرض } مستقرين فيهم ، كما جعلناهم مستقرين في السماء ، يخلفونكم مثل أولادكم ، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم ، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام ، متولدون عن أجسام ، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟!
{ وإِنه } أي : عيسى عليه السلام { لَعِلْمٌ للساعة } أي : مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله . وقرأ ابن عباس " لَعَلَمٌ " بفتح اللام ، أي : وإن نزوله لَعَلَم للساعة ، أو : وإن وجوده بغير أب ، وإحياءه للموتى ، دليل على صحة البعث ، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة .
وفي الحديث : إن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة ، يقال لها : أَفِيق ، وهي عقبة بيت المقدس ، وعليه مُمَصَّرتان ، وشعر رأسه دهين ، وبيده حربة يقتل بها الدجال ، فيأتي بيت المقدس ، والناس في صلاة العصر ، والإمام يؤم بهم ، فيتأخر الإمام ، فيقدمه عيسى ، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويخرب البيعَ والكنائس ، ويقتل النصارى إلا مَن آمن به وبمحمد صلى الله عليه وسلم .
(5/474)

وقيل : الضمير للقرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة ، { فلا تمْتَرُنَّ بها } ؛ فلا تشكنَّ فيها ، من المرْية ، وهو الشك ، { واتبعونِ } أي : اتبعوا هداي وشرائعي ، أو : رسولي : وقيل : هو قول نبينا صلى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى : { هذا } أي : الذي أدعوكم إليه { صراط مستقيم } ؛ موصل إلى الحق . { ولا يَصُدَّنكم الشيطانُ } عن اتباعي { إِنه لكم عدو مبينٌ } ؛ بيِّن العداوة ، حيث أخرج آباكم من الجنة ، وعرضكم للبلية .
الإشارة : الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق ، والسكوت والاستماع ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير ، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته ، ولم تسْر أنواره ، ولذلك قيل : مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق ، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش ، لكن مع الإنصار ، وخفض الصوت ، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب .
(5/475)

وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولما جاء عيسى بالبينات } ؛ بالمعجزات؛ أو : بآيات الإنجيل؛ أو : بالشرائع الواضحات { قال } لبني إسرائيل : { قد جئتكم بالحكمة } ؛ بالشريعة ، أو : بالإنجيل المشتمل عليها { ولأُبَينَ لكم بعضَ الذي تختلفون فيه } وهو ما يتعلق بأمور الدين ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء عليهم السلام كما قال صلى الله عليه وسلم : " أنتم أعلمُ بدُنياكم " ، وهو عطف على مقدّر ، ينبئ عنه المجيء بالحكمة ، كأنه قيل : جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ، ولأُبيّن لكم ما تختلفون فيه ، { فاتقوا الله } في مخالفتي { وأطيعونِ } فيم أُبلغكم عن الله تعالى :
{ إِن الله هو ربي وربُّكم فاعبدوه } بيان لما أمرهم به من الطاعة ، وهو اعتقاد التوحيد ، والتعبُّد بالشرائع ، { هذا صراطٌ مستقيمٌ } لا يضل سالكه؛ فهذا تمام كلام عيسى عليه السلام ، وقيل : قوله : { هذا . . . } الخ من كلام الله تعالى ، مُقرر لمقالة عيسى عليه السلام .
{ فاختلف الأحزابُ } أي : الفرق المتحزِّبة بعد عيسى ، وهم : اليعقوبية والنسطورية ، والملكانية ، والشمعونية ، { من بينهم } أي : من بين النصارى ، أو : من بين مَن بُعِثَ إليهم من اليهود والنصارى ، أي : اختلافاً ناشئاً من بينهم ، من غير حجة ولا برهان ، { فَويلٌ للذين ظلموا } من المختلفين ، حيث قالوا في عيسى ما كفروا به ، { من عذاب يومٍ أليم } وهو يوم القيامة { هل ينظرون } أي : ما ينتظر أولئك الكفرة ، أو قوم عيسى { إِلا الساعة أن تأتيهم } : بدل من " الساعة " أي : هل ينتظرون إلا إتيان الساعة { بغتةً } ؛ فجأة { وهم لا يشعرون } غافلون عن الاستعداد لها ، لاشتغالهم بأمر دنياهم ، أو : منكرون لها ، غير مترقبيبن وقوعها .
الإشارة : كانت الرسل - عليهم السلام - يُبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين ، سواء تعلّق ذلك بالظاهر أو بالباطن ، بما يوحى إليهم من إلهام ، أو بملَك مرسل ، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء ، فالعلماء يُبينون ما اختُلِف فيه من الشرائع والعقائد ، بما عندهم من القواعد والبراهين ، والأولياء يُبينون الحقائق ، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر ، وسائر الأمراض ، بما عندهم من الأذواق والكشوفات . فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم ، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم ، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا في مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيّاً أُميّاً فيسألونه ، ويجبرونه على الجواب ، فيجيبهم عن كل ما يسألونه ، كقصة أبي الحسن النوري مع القاضي ، وغيره ، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص - وهو أُمي - عن أمر معضلة ، فيجيب عنها ، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه رضي الله عنهم أجمعين .
(5/476)

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
يقول الحق جلّ جلاله : { الأخلاءُ يومئذ بعضُهُم لبعضٍ عدو } أي : المتحابون في الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة ، يبغض بعضهم بعضاً ، فتنقطع في ذلك اليوم كل خُلة كانت لغير الله ، وتنقلب عدواة ومقتاً؛ لانقطاع سببها ، وهو الاجتماع على الهوى ، { إِلا المتقين } أي : الأخلّة المصادقين في الله ، فإنها الخُلة الباقية؛ لأن خُلتهم في الدنيا لمَّا كانت لله ، وفي الله ، بقيت على حالها؛ لأن ما ان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، بل تزداد خُلتهم بمشاهدة كل واحد منهم بركة خُلتهم من الثواب ، ورفع الدرجات . وسُئل صلى الله عليه وسلم : مَن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال : " المتحابون في الله " ، وخرَّج البزار عن ابن عباس رضي الله عنه قيل : يا رسول الله! أَيُّ جُلَسَائِنا خيرٌ؟ قال : " مَن ذكَّرَكُم بالله رؤيتُه ، وزاد في عَمَلِكم مَنطِقُه؛ وذكَّركُمْ بالله عِلمُه " .
ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه : دليل تخليطك صحبتك للمخلطين ، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين . ه . في سماع العتبية : قال مالك : لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلَّم من فجور ، قال ابن رُشد : لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره؛ لأن قرين السوء يُردي ، قال الحكيم :
عَن المرْءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عن قَرِينه ... فَكُلُّ قَرِينِ بالمُقارِنِ مُقْتَد
وفي الحديث : " المَرْءُ على دينِ خَليله " وسيأتي ، في الإشارة بقية الكلام على المتحابين في الله .
ويقال لهم حينئذ ، تشريفاً لهم ، وتطييباً لقلوبهم : { يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } ، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله : { الذين آمنوا بآياتنا } ؛ صدّقوا بآياتنا التنزيلية ، { وكانوا مسلمين } ؛ منقادين لأحكامنا ، مخلصين وجوههم لنا ، وعن مقاتل : " إذا بعث الناس ، فزع كل أحد ، فينادي منادٍ : { يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } فيرجوها الناس كلهم ، فيتعبها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، فيُنكِّس أهل الأديان الباطلة رؤوسَهم " .
ثم يقول لهم : { ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم } ؛ نساؤكم المؤمنات { تُحْبرون } ؛ تُسرّون سروراً يظهر حُباره - أي : أثره - على وجوهكم أو : تُزَينون ، من : الحبرة وهو حسن الهيئة ، أو : تُكرَمون إكراماً بليغاً ، وتتنعمون بأنواع النعيم . والحبرة : المبالغة فيما وصف بجميل؛ وتقدّم في قوله : { فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [ الروم : 15 ] أنه السماع . { يُطاف عليهم بصِحَافٍ من ذهب } أي : بعد دخولهم الجنة حسبنا أمروا به { وأكوابٍ } من ذهب؛ حذف لدلالة ما قبله . والصِحَاف : جمع صحفة ، قيل : هي كالقصعة ، وقيل : أعظم القصاع ، فهي ثلاث : الجفنة ، ثم القصعة ، ثم الصحفة ، والأكواب : جمع كوب ، وهو كوز مستدير لا عروة له .
وفي حديث أبي هريرة ، عنه صلى الله عليه وسلم قال :
(5/477)

" أدنى أهْلُ الجنةِ مَن له سَبْعُ درجاتٍ ، هو على السادسة ، وفوقه السابعة ، وإنّ له ثَلاَثَمائةِ خادمٍ ، ويُغدى عليه ويُراح بثلاثمائة صَحفةٍ من ذَهبٍ ، في كلِّ صَحْفَةٍ لونٌ ليس في الأُخرى مِثْلُه ، وإنه لَيَلَدُّ آخِرُه كما يَلَدُّ أَوله ، ويقول : لَوْ أَذِنْتَ لي يا رب لأطْعَمْتُ أهلَ الجنةِ ، وأسقيتهم ، ولا ينقص مما عندي شيء ، وإنَّ لَه من الحور العِين لاثنين وسبعين زوجة ، سوى أزواجه في الدنيا ، وإن الواحدة منهن ليأخذَ مِقعدُها قَدرَ ميل " وفي حديث عكرمة : " إن أدنى أهل الجنة منزلةً مَن يُفسح له في بصره مسيرة مائة عام ، في قصور من ذهب ، وخيام من لؤلؤٍ ، وليس منها موضع شبر إلا معمور ، يُغدى عليه ويُراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ، ليس فيها صحفة إلا وفيها لون ليس في الأخرى مثله ، شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، ولو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطى ، ولا ينقص ذلك ما اُوتي شيئاً " ويجمع بينهما بتعدُّد اهل هذه المنزلة ، وتفاوتهم .
{ وفيها } أي : في الجنة { ما تشتهيه الأنفسُ } من فنون الملاذ . ومَن قرأ بحذف الهاء؛ فلطول الموصول بالفعل والفاعل . { وتلذُّ الأعينُ } أي : تستلذه ، وتقر بمشاهدته ، وهذا حصر لأنواع النعيم؛ لأنها إما مشتهيات في القلوب ، أو مستلذات في العيون ، ففي الجنة كل ما يشتهي العبد من الملابس والمناكح والمراكب .
رُوي أن رجلاً قال : يا رسول الله ، إني أُحبُّ الخيلَ ، فهل في الجنة خيلٌ؟ فقال : " إنْ يُدْخلك اللّهُ الجنةَ فلا تشاء أن تركبَ فرساً من ياقُوتَةٍ حمراء ، يَطيرُ بكَ في الجنة حيث شئت ، إلا فعلت ، قال أعرابي : يا رسول الله ، إني أحبُّ الإبلَ ، فهل في الجنة إبل؟ فقال : يا أعرابي ، إن يُدْخلك الله الجنة ففيها ما اشتهيت نفسك ولذَت عيناك " ه . وقال أبو طيبة السلمي : إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة ، فتقول : ما أُمْطِرْكُم؟ فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أَمطرَتْه ، حتى إن الرجل منهم يقول : أمطر علينا كواعب أتراباً . وقال أبو أُمامة : إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير ، فيقع نضيجاً في كفه كما أراد ، فيأكل منه حتى تشتهي نفسه ، ثم يطير كان أول مرة ، ويشتهي الشراب ، فيقع الإبريق في يده ، فيشرب منه ما يريد ، ثم يُرفع الإبريق إلى مكانه . ه . من الثعلبي .
قال القشيري : وفيها ما تشتهيه الأنفس للعُبَّاد؛ لأنهم قاسوا في الدنيا - بحكم المجاهدات - الجوعَ والعطشَ ، وتحمّلوا وجوهَ المشاقِّ ، فيجزون في الجنة وجوهاً من الثواب ، وأما أهل المعرفة والمحبُّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى الله ، لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم ، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم . ه . والحاصل : أن ما تشتهي الأنفس يرجع لنعيم الأشباح ، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النظر ، والقُرب ، والمناجاة والمكالمة ، والرضوان الأكبر ، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر .
(5/478)

{ وأنتم فيها خالدون } إتمام للنعمة ، وكمال للسرور؛ فإن كل نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة .
{ وتلك الجنة } ؛ مبتدأ وخبر ، و " التي أُورثتموها " : صفة الجنة ، أو : " الجنة " صفة المبتدأ ، الذي هو الإشارة ، و " التي أورثتموها " : خبره . أو : " التي أورثتموها " صفة المبتدأ ، و { بما كنتم تعملون } : خبر ، أي : حاصلة ، أو كائنة بما كنتم تعملون في الدنيا ، شبه جزاء العمل بالميراث؛ لبقائه على أهله دائماً ، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " لَن يُدخِل أحدَكُم الجنةَ عملُه " ؛ لأن نفس الدخول بالرحمة ، والتنعُّم والدرجات بقدر العمل ، أو : تقول : الحديث خرج مخرج الحقيقة ، والآية خرجت مخرج الشريعة ، فالحقيقة تنفي العمل عن العبد ، وتُثبته لله ، والشريعة تُثبته له باعتبار الكسب ، والدين كله وارد بين حقيقة وشريعة؛ فإذا شرع القرآن حققته السُّنة ، وإذا شرعت السنة حققه القرآن . والله تعالى أعلم .
{ لكم فيها فاكهةُ كثيرة } بحسب الأنواع والأصناف ، لا بحسب الأفراد فقط ، { منها تأكلون } أي : لا تأكلون إلا بعضها ، وأعقابها باقية في أشجارها على الدوام ، لا ترى فيها شجراً خلت عن ثمرها لحظة ، فهي مزيّنة بالثمار أبداً ، موقورة بها ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت في مكانها مثلاها " .
الإشارة : كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة ، إلاَّ خُلة المتحابين في الله ، وهم الذين ورد في الحديث : أنهم يكونون في ظل العرش ، والناس في حر الشمس ، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر ، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله . قيل : يا رسول الله ، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم ، قال : " رجالٌ من قبائلَ شتى ، يجتمعون على ذكر الله " .
وقد ورد فيهم أحاديث ، منها : حديث الموطأ ، عن معاذ ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله تعالى : " وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ ، والمُتَجالِسينَ فيّ ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ " ، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني : قال صلى الله عليه وسلم : " المتحابُّون في الله على مَنَابرَ من نورٍ ، في ظِلِّ العرشِ ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه " ، وفي حديث آخر : " ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً ، فيجلِسَانِ عليه حتى يَفْرغَ من الحساب " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي ، فيقال : مَن هؤلاء؟ فيقال : هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عزّ وجل " .
وفي رواية : " إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها ، وبَواطِنُها من ظَواهرها ، أعدَّها الله للمُتحابِّين في الله ، والمُتَزَاورِينَ فيه ، والمُتباذِلين فيه "
(5/479)

وفي لفظ آخر : " إنَّ في الجنة لعُمُداً من ياقوتٍ ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد ، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ؛ تُضيء كما يُضيء الكوكب الدُّرِّي ، قلنا : يا رسول الله ، مَن يَسْكُنُها؟ قال : المتحابُّون في الله ، والمتباذِلُون في الله ، والمتلاقون في الله ، مكتوب على وجوههم ، هؤلاء المتحابون في الله " وفي الأثر أيضاً : إذا كان يوم القيامة : نادى منادٍ : أين المتحابون في الله؟ فيقوم ناس - وهم يسير - فَيَنْطَلِقُون إلى الجَنَّ سِرَاعاً ، فَتَتَلقَّاهم الملائكة : فيقولون : رأيناكم سِراعاً إلى الجنة ، فمَن أنتم؟ فيقولون : نحن المتَحَابُّون في الله؛ فيقولون : وما كان تحابُّكُم؟ فيقولون : كنَّا نتحاب في الله؛ ونتزاورُ في الله ، ونتعاطف في الله ، ونتباذل في الله ، فيُقال لهم : ادخلوا الجنة ، فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين . ه . من البدور السافرة . والتباذل : المواساة بالبذل .
وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله ، فقال رضي الله عنه : اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين ، كعقد النكاح بين الزوجين ، ثم قال : فَلأخيك عليك حق في المال ، وفي النفس ، وفي اللسان ، وفي القلب . وبالعقو ، وبالدعاء ، وذلك تجمعه ثمانية حقوق .
الحق الأول : في المال بالمواساة ، وذلك على ثلاثة مراتب؛ أدناها : أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك ، فتقوم بحاجاته بفضله مالك ، فإذا سنحت له حاجة ، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً ، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير . الثانية : أن تنزله منزلة نفسك ، وترضى بمشاركته إياك في مالك ، فتسمح له في مشاركته . الثالثة - وهي العليا - : أن تؤثره على نفسك ، وتقدم حاجته على حاجتك ، وهي رتبة الصدّيقين ، ومنتهى درجات المتحابين .
الحق الثاني : الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات ، والقيام بها قبل السؤال ، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة ، فأدناها : القيام بالحاجة عند السؤال ، ولكن مع البشاشة والاستبشار ، وإظهار الفرح . وأوسطها : أن تجعل حاجته كحاجتك ، فتكون متفقداً لحاجته ، غير غافل عن أحواله ، كما لا تغفل عن أحوال نفسك ، وتغنيه عن السؤال . وأعلاها : أن تؤثره على نفسك ، وتقدم حاجته على حاجتك ، وتؤثره على نفسك ، وأقاربك ، وأولادك . كان الحسن يقول : إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلينا يذكروننا الدنيا ، وإخواننا يذكروننا في الآخرة .
الحق الثالث : على اللسان بالسكوت ، فيسكت عن التجسُّس ، والسؤال عن أحواله ، وإذا رآه في طرقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته ، فربما يثقل عليه ، أو يحتاج إلى أن يكذب ، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه ، فلا يبثها إلى غيره ، ولا إلى أخص أصدقائه ، ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة ، وليسكن عن مماراته ومدافعته في كلامه .
الحق الرابع : على اللسان بالنطق ، فيتودد إليه بلسانه ، ويتفقده في أحواله ، كالسؤال عن عارض عرض له ، وأظهر شغل القلب بسببه ، فينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها . والأحوال التي يُسِرُّ بها ، ينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها .
(5/480)

والأحوال التي يُسِرُّ بها ، ينبغي أن يظهر له بلسانه مشاركته في السرور بها . فمعنى الأخوة : المساهمة في السراء والضراء ، ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه ، ويُثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله ، عند مَن يريد هو الثناء عنده ، وكذا على أولاده وأهله ، حتى على عقله ، وخُلُقه ، وهيئته ، وخطه ، وشعره ، وتصنيفه ، وجميع ما يفرح به ، من غير كذب ولا إفراط ، ويذب عنه في غيبته مهما قُصد بسوء ، ويُعلمه مما علّمه الله وينصحه .
الحق الخامس : العفو عن الزلاّت والهفوات ، فإن كان زلته في الدين؛ بارتكاب معصية ، فليتلطّف في نصحه ، فإن بقي مُصرّاً ، فقد اختلف الصحابة في ذلك ، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته ، وقال : إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته . وذهب أبو الدرداء ، وجماعة ، إلى خلاف ذلك ، وقال أبو الدرداء : إذا تغيّر أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك؛ فإن أخاك يُعوجُّ مرة ، ويستقيم أخرى . وهذا ألطف وأفقه ، وذلك لما في هذه الطريق من الرفق ، والاستمالة ، والتعطُّف ، المفضي إلى الرجوع والتوبة . وأيضاً : للأخوة عقد ، ينزل منزلة القرابة ، فإذا انقعدت وجب الوفاء بها ، ومن الوفاء : ألا يهمله أيام حاجته وفقره ، وفقر الدين أشد من فقر المال . ثم قال : والفاجر إذا صَحِبَ تقيّاً وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب ، ويتخلّى من الإصرار ، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل ، فيحرص ، حياءً منه ، وإن كانت زلته في حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب . ه . قلت : ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه .
الحق السادس : الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يُحب لنفسه وأهله . قلت : ومن ذلك زيارة قبره ، وإيصال النفع له في ذلك الوقت .
الحق السابع : الوفاء والإخلاص . ومعنى الوفاء : الثبات على الحب ، وإدامته إلى الممات ، معه ومع أولاده وأصدقائه .
الحق الثامن : التخفيف وترك التكليف والتكلُّف ، فلا تُكلف أخاك ما يشق عليه؛ بل تُرَوح سره عن مهماتك وحاجاتك ، وترفهُه عن أن تحمّله شيئاً من أعبائك ، ولا تكلفه التواضع لك ، والتفقُّد والقيام بحقوقك ، بل ما تقصد بمحبته إلا الله تعالى . ه . باختصار .
وفي وصية القطب ابن مشيش ، لأبي الحسن رضي الله عنهما : لا تصحب مَن يُؤثر نفسه عليك ، فإنه لئيم؛ ولا مَن يُؤثرك على نفسه ، فإنه قلما يدوم؛ واصحب مَن إذا ذكر ذكر الله ، فالله يغني به إذا شهد ، وينوب عنه إذا فُقِدْ ، ذكره نور القلوب ، ومشاهدته مفاتح الغيوب . ومعنى كلام الشيخ : لا تصحب مَن يبخل عنك بما عنده من العلوم ، ولا مَن يتكلّف لك ، فإنه لا يدوم ، وهذه صحبة الشيخوخة .
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَثَلُ الأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ اليَدَيْنِ ، يَغْسِلُ إِحداهُما الأُخرى ، وكَمَثَلِ البُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بعضاً " وفي معناه قيل :
إِنَّ أخَاكَ الحقَّ مَن كَانَ مَعَك ... وَمَن يَضُرُّ نَفْسَه لِيَنْفَعَك
وَمَنْ إِذا رَأَى زَمَاناً صَدَّعَكَ ... شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك
وهذا في حق الإخوان ، والله تعالى أعلم .
(5/481)

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
قلت : { خالدون } : خبر " إن " ، و { في عذاب } : معمول الخبر ، أو : خبر ، و " خالدون " خبر بعد خبر .
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المجرمين } أي : الراسخين في الإجرام ، وهم الكفار ، كما ينبئ عنه إتيانه في مقابلة المؤمنين { في عذاب جهنم خالدون لا يُفَتَّرُ عنهم } ؛ لا يخفف عنهم ، من قولهم : فترت عنه الحمى : سكتت . قال القشيري : هم الكفار والمشركون ، أهل الخلود ، لا يُخفف عنهم ، وأما أهل التوحيد فقد يكون قومٌ منهم في النار ، ولكن لا يخلدون فيها؛ فيقتضي دليل الخطاب أنه يُفتَّرُ عنهم العذاب ، أي : يخفف ، وورد في الخبر الصحيح : " أن الحق يُميتهم إماتة إلى أن يخرجوا منها " والميت لا يحس ولا يألم ، وذكر في الآية أنهم { مبلسون } فيدلّ أن المؤمنين لا إبلاس لهم ، وإن كانوا في بلائهم فهُمْ عَلَى وصف رجائهم ، ويُعدون أيامهم . ه .
وحمل ابن عطية الموت على المقاربة ، لا الموت حقيقة؛ لأن الآخرة لا موت فيها ، قال : والحديث أراه على التشبيه ، لأنه كالسُبات والركود والهمود ، فجعله موتاً . انظره في { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى } [ الأعلى : 13 ] . وقال عياض في الإكمال : عن بعض المتكلمين : يحتمل الحقيقة ، ويحتمل الغيبة عن الإحساس ، كالنوم ، وقد سمي النوم وفاتاً؛ لإعاده الحس . ه .
{ وهم فيه } أي : في العذاب { مُبلِسُون } آيسون من الفرج ، متحيّرون ، { وما ظلمناهم } بذلك ، حيث أرسلناك الرسل { ولكن كانوا هم الظالمين } بتعريض أنفسهم للعذاب الخالد ، بمخالفة الرسل ، وإيثارهم التقليد على النظر .
{ ونادَوْا } وهم في النار لمَّا أيسوا من الفتور { يا مالكُ } وهو خازن النار . قيل لابن عباس : إن ابن مسعود يقرأ " يا مَالِ " - ورُويت عن النبي صلى الله عليه وسلم - فقال : " ما أشغلَ أهلَ النَّار عن الترخيم ، قيل : هو رمز إلى ضعفهم وعجزهم عن تمام اللفظ . { ليقض علينا ربُّك } أي : ليُمِتْنا حتى نستريح ، مِن : قضى عليه إذا أماته ، والمعنى : سل ربك أن يقضي علينا بالموت ، وهذا لا ينافي ماذكر من إبلاسهم؛ لأنه جُؤار ، وتمني الموت؛ لفرط الشدة . { قال إِنكم ماكثون } ؛ لابثون في العذاب ، لا تتخلصون منه بموت ولا فتور ، قال الأعمش : أُنبئت أن بين دعائهم وبين إجابتهم ألف عام ، وفي الحديث : " لو قِيلَ لأهل النار : إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا؛ ولو قيل لأهل الجنة ذلك لحزنوا ، ولكن جعل الله لهم الأبد " .
{ لقد جئناكم بالحقّ } في الدنيا بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وهو خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى ، مقرر لجواب مالك ، ومُبين لسبب مكثهم ، وقيل : الضمير في ( قال ) لله تعالى ، أي : لقد أعذرنا إليكم بإرسال الرسل بالحق { ولكن أكثرَهم للحقِّ } أيّ حق كان { كارهون } لا تسمعونه وتفرُّون منه؛ لأن مع الباطل الدَّعة ، ومع الحق التعب ، هذا في مطلق الحق ، وأما في الحق المعهود ، الذي هو التوحيد والقرآن ، فكلهم كارهون مشمئزون منه .
(5/482)

{ أم أبْرَموا أمراً } مبتدأ ، ناعٍ على المشركين ما فعلوا من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و " أم " منقطعة ، وما فيها من معنى " بل " للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء ، أي : أم أحكم مشركو مكة أمراً من كيدهم ومكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، { فإِنا مُبْرِمُون } كيدنا حقيقة ، كما أبرموا كيدهم صورة ، كقوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ } [ فاطر : 42 ] الآية . وكانوا يتناجون في أنديتهم . ويتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم .
{ أم يحسبون } بل يحسبون { أنا لا نسمعَ سِرَّهم } وهو ما حدَّثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال ، { ونجواهم } أي : ما تكلّموا به فيما بينهم بطريق التناجي ، { بلى } نحن نسمعها ونطَّلع عليها { ورسلُنا } الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم ، ويلازمونهم أينما كانوا { لديهم } أي : عندهم { يكتبون } كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال ، ومن جملتها : ما ذكر من سرهم ونجواهم ، والجملة : إما عطف على ما يترجم عنه " بلى " ، أي : نكتبها ورسلنا كذلك ، أو حال ، أي : نسمعها والحال أن رسلنا يكتبونه .
الإشارة : قوله تعالى : { إن المجرمين . . . } الخ . . أما أهل الشرك فقد اتفق المسلمون على خلودهم ، إلا ما انفرد به ابن العربي الحاتمي والجيلي ، فقد نقلاً خبراً مأثوراً : أن النار تخرب ، وينبت موضعها الجرجير ، وينتقل زبانيتها إلى خزنة الجنان ، فهذا من جهة الكرم وشمول الرحمة لا يمنع ، ومن جهة ظواهر النصوص معارض ، وباطن المشيئة مما اختص الله تعالى به . ونقل الجيلي أيضاً في كتابه ( الإنسان الكامل ) : أن بعض أهل النار أفضل عند الله من بعض أهل الجنة يتجلّى لهم الحق تعالى في دار الشقاء . ونقل أيضاً : أن بعض أهل النار تعرض عليهم الجنة فيأنفون فيها ، وان بعض أهل النار يتلذّذون بها كصاحب الجرب . وذكر بعضهم أن أهل النار يتطبعون بها ، كالسمندل ، فهذه مقالات غريبة ، الله أعلم بصحتها . وعلى تقدير وقوعها في غيب مشيئته تعالى ، فلعلها في قوم مخصوصين من المسلمين ختم لهم بالشقاء بعد مُقاساة شدائد الطاعة ، أو : في قوم من أهل الفترة لم يكن فيهم إذاية ، أو صدر منهم إحسان ، والله أعلم بأسرار غيبه ، وأما أهل التوحيد فحالهم في النار أرفق من هذا ، بل حالهم فيها أروح من حال الدنيا من وجه .
قال القشيري : ولقد قال الشيوخ : إن حالَ المؤمنين في النار - من وجه - أرْوَحُ لقلوبهم من حالهم اليوم في الدنيا؛ لأن اليوم خوف الهلاك؛ وغداً يقين النجاة ، وأنشدوا :
عَيبُ السلامة أَنَّ صاحبَها ... مُتَوَقِّعٌ لِقَوَاصِمِ الظَّهْرِ
وفَضِيلَةُ البَلْوَى تَرَقُّبُ أهلِها ... عُقْبَى الرَّجَاءِ ودَوْرَةُ الدَّهْرِ
(5/483)

ثم قال في قوله تعالى : { ونادوا يا مالك } لو قالوا : يا مَلِك بدل من يا مالك لكان أقربَ إلى الإجابة ، ولكنَّ الأجنبيةَ حالت بينهم وبين ذلك . ه . أي : تعلقهم بالمخلوق دون الخالق . وقوله تعالى : { أم أبرموا أمراً . . . } الخ ، هي عادته تعالى مع خواصه كيفما كانوا ، يرد كيد مَن كادهم في نحره . وقوله تعالى : { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم . . . } الخ ، قال القشيري : إنما خوَّفهم بسماع الملائكة ، وكتابتهم أعمالهم عليهم ، لغفلتهم عن الله ، ولو كان لهم خبر عن الله لما خوّفهم بغير الله ، ومَن عَلِمَ أن أعماله تُكتَبُ عليه ، ويُطالَب بمقتضاها ، قلَّ إلمامُه بما يخاف أن يُسأَلَ عنه . ه .
(5/484)

قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
يقول الحق جلّ جلاله : { قلْ } يا محمد { إن كان للرحمن ولدٌ } على زعمكم { فأنا أول العابدين } لله ، كان أو لم يكن ، ويسمى هذا إرخاء العنان ، أي : أنا أول مَن يخضع لله ، كان له ولد أو لم يكن ، وقد قام البرهان على نفيه . قال معناه السدي ، أو : وإن كان للرحمن ولد فأنا أول مَن يعظم ذلك الولد ، وأسبقكم إلى طاعته ، والانقياد إليه ، كما يعظم ولد الملِك ، لتعظيم أبيه؛ وهذا الكلام وارد على سبيل الفرض ، والمراد : نفي الولد ، وذلك أنه علَّق العبادة بكينونة الولد ، وهي محال في نفسها ، فكان الملعلق بها محالاً مثلها ، ونظيره ، قول سعيد بن جبير للحجاج - حين قال له : والله لأبدلنَّك بالدنيا ناراً تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلهاً غيرك . أو : إن كان للرحمن ولد في زعمكم { فأنا أول العابدين } أي : الموحِّدين لله ، المكذِّبين قولكم ، بإضافة الولد إليه؛ لأن مَن عَبَدَ الله ، واعترف بأنه إلهه فقد دفع أن يكون له ولد . أو : إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي : الجاحدين والآنفين من أن يكون له ولد ، مِن عبَدِ : بكسر الباء : إذا اشتد أنفسه فهو عبَد وعابد ، ومنه قول الشاعر :
متى ما يشاء ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خَليلَهُ ... ويَعْبَدْ عليه لا محالةَ ظالما
وقول الحريري :
قال ما يجب على عابد الحقّ ... قال يحلف بالإله الخلق
أي : على جاحد الحق . وقيل هي " إنْ " النافية ، أي : ما كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله ووحَّده ، فيوقف على " ولد " على هذا التأويل .
رُوي : أن النضر قال : إن الملائكة بنات الله ، فنزلت الآية ، فقال النضر : ألا ترون أنه صدّقني؛ فقال الوليد : ما صدّقك ، ولكن قال : ما كان للرحمن ولداً ، فأنا أوّل الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له . وسيأتي في الإشارة قول آخر .
قال القشيري : وفي الآية وأمثالها دليل على جواز حكاية قول المبتدعة فيما أخطأوا فيه في الاعتقاد ، على وجه الردّ عليهم . ه . قلت : ولا تجوز مطالقعة أقوالهم إلا لمَن رسختْ قدمه في المعرفة ، والإعراض عنها أسلم .
ثم نزَّه ذاته عن اتخاذ الولد ، فقال : { سبحان ربِّ السماوات والأرض ربِّ العرش عما يصفون } أي : تنزّه رب هذه العوالم العظام عن اتخاذ الولد؛ لأن اتخاذ الولد من صفة الأجسام ، ولو كان جسماً ما قدر على خلو هذه الأجرام ، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها ، تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت تحت ملوكت ربوبيته؛ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءاً منه . وفي تكرير اسم الرب تفخيم لشأن العرش .
{ فذرهم يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } في دنياهم أي : حيث لم يُذعنوا لك ، ولم يرجعوا عن غيهم ، أعرض عنهم واتركهم في لهوهم ولعبهم ، { حتى يُلاقوا يومهم الذي يُوعدون } وهو القيامة ، فإنهم يومئذ يعلمون ما فعلوا ، وما يفعل بهم ، أو : يوم بدر ، قاله عكرمة وغيره .
(5/485)

وهذا دليل على أن ما يقولونه إنما هو خوض ولعب لا حقيقة له .
ثم ذكر انفراده بالألوهية في العالم العلوي والسفلي ، فقال : { وهو الذي في السماء إِله وفي الأرض إله } أي : وهو الذي هو معبود في السماء وفي الأرض ، فضمَّن " إله " معنى مألوه ، أي : وهو الذي يستحق أن يُعبد فيهما . وقرأ عُمر ، وأُبَي ، وابن مسعود : " وهو الذي في السماء الله وفي الأرض " كقوله تعالى : { وَهُوا اللَّهُ فِى السَّمَاوَاتِ وَفِى الأَرْضِ } [ الأنعام : 3 ] ، وقد مرّ تحقيقه عبارةً وإشارةً . والراجع إلى الموصول : محذوف؛ لطول الصلة ، كقولهم : ما أنا بالذي قائل لك سوءاً ، والتقدير : وهو الذي هو في السماء إله ، و " إله " . خبر عن مضمر ، ولا يصح أن يكون " إله " مبتدأ ، و " في السماء " خبره؛ لخلو الصلة حينئذ عن العائد { وهو الحكيمُ } في أقواله وأفعاله { العليمُ } بما كان وما يكون ، أو : الحكيم في إمهال العصاة ، العليم بما يؤول أمرهم إليه ، وهو كالدليل على ما قبله من التنزيه ، وانفراده بالربوبية .
{ وتبارك الذي له ملكُ السماوات والأرض } أي : تقدّس وتعاظم الذي مَلَكَ ما استقر في السماوات والأرض { وما بينهما } إما على الدوام ، كالهواء ، أو في بعض الأوقات ، كالطير ، { وعنده علمُ الساعة } أي : العلم بالساعة التي فيها تقوم ، { وإِليه تُرجعون } للجزاء ، والالتفات للتهديد ، فيمن قرأ بالخطاب . { ولا يملك الذين يدعُونَ من دونه } أي : لا تملك آلهتهم التي يدعونها { من دونه } أي : من دون الله { الشفاعةَ } كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله { إِلا مَن شَهِدَ بالحق } الذي هو التوحيد ، { وهم يعلمون } بما يشهدون به عن بصيرة وإتقان وإخلاص ، وهم خواص المسلمين ، والملائكة . وجمع الضميرين باعتبار معنى ( مَن ) كما أن الإفراد أولاً باعتبار لفظها . والاستثناء : إما متصل ، والموصل عام لكل ما يعبد من دون الله ، أو : منقطع ، على أنه خاص بالأصنام .
الإشارة : قل يا محمد : إن كان للرحمن ولد ، على زعمكم في عيسى والملائكة ، فأنا أولى بهذه النسبة على تقدير صحتها؛ لأني أنا أول مَن عبد الله في سابق الوجود؛ لأن أول ما ظهر نوري ، فعَبَد اللّهَ سنين متطاولة؛ ثم تفرّعت منه الكائنات ، ومَن سبق إلى الطاعة كان أولى بالتقريب ، فلِمَ خصصتم الملائكة وعيسى بهذه النسبة ، وأنا قد سبقتهم في العبادة ، بل لا وجود لهم إلا من نوري ، لكن لا ولد له ، فأنا عبد الله ورسوله . قال جعفر الصادق : أول ما خلق الله نور محمد صلى الله عليه وسلم قبل كل شي ، وأول مَن وحّد الله عزّ وجل من خلقه ، دُرة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأول ما جرى به القلم " لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
(5/486)

ه . قاله الورتجبي . ففي الآية إشارة إلى سبقيته صلى الله عليه وسلم ، وأنه أول تجلٍّ من تجليات الحق ، فمِن نوره انشقت أسرار الذات ، وانفلقت أنوار الصفات ، وامتدت من نوره جميع الكائنات .
قوله تعالى : { فذهرم يخوضوا . . . } الخ ، كل مَن خاض في بحار التوحيد بغير برهان العيان ، تصدق عليه الآية ، وكذا كل مَن اشتغل بغير الله ، وبغير ما يُقرب إليه؛ فهو ممن يخوض ويلعب ، وفي الحديث : " الدنيا ملعونة ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله ، وما والاَه ، أو عالماً أو متعلماً "
وقوله تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة . . . } الخ . قال القشيري : وفي الآية دليل على أن جميع المسلمين تكون شفاعتهم غداً مقبولة . ه . أي : لأنهم في الدنيا شَهِدوا بالحق ، وهو التوحيد عن علم وبصيرة ، لكن في تعميمه نظر؛ لأن الاستثناء ، الأصل فيه الاتصال ، ولأن مَن شهد بالحق مستنثى من { الذين يدعون من دونه } - وهم الملائكة ، وعيسى ، وعزير ، فهم الذين شَهِدُوا بالحق ممن دعوا من دون الله ، وشفاعة مَن عداهم مأخذوة من أدلة أخرى .
(5/487)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قلت : { قِيلهِ } : مصدر مضاف لفاعله ، يقال : قال قولاً وقالاً وقيلاً ومقالاً . واختلف في نصبه ، فقيل : عطف على { سِرَّهُمْ } [ الزخرف : 80 ] أي : يعلم سرهم ونجواهم وقيلَه ، وقيل : عطف على محل " الساعة " ، أي : يعلم الساعة ويعلم قيلَه ، ويجوز أن يكون الجر والنصب على إضمار القسم ، وحذفه ، كقوله تعالى : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } [ ص : 84 ] وجوابه : { إن هؤلاء . . } الخ .
يقول الحق جلّ جلاله : { ولئن سألتَهُم } أي : المشركين ، أو : العابدين والمعبودين { مَنْ خلقهمْ ليقولُونَّ اللّهُ } لا الأصنام والملائكة { فأنَّى يُؤفكون } فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، مع كون الكل مخلوقاً له تعالى .
ولما شقّ عليه صلى الله عليه وسلم صرفهم عن الإيمان جعل يستغيث ربه في شأنهم ، حرصاً على إيمانهم ، ويقول : { يا رب إِن هؤلاء قوم لا يؤمنون } أي : قد عالجتهم فلم ينفع فيهم شيء ، فلم يبقَ إلا الرجوع إليك ، إما أن تهديهم ، أو تُهلكهم ، فأخبر تعالى أنه يسمع سرهم ونجواهم ، وقوله عليه السلام في شأنهم ، قال له تعالى : { فاصفحْ عنهم } أي : أعرض عنهم وأمهلهم ، { وقل سلامٌ } أي : أمري تسلّم منكم ومتاركة ، حتى نأمرك أعرض عنهم وأمهلهم ، { وقل سلامٌ } أي : أمري تسلّم منكم ومتاركة ، حتى نأمرك بجهادهم ، { فسوف يعلمون } حالهم قطعاً ، إن تأخر ذلك . وهو وعيد من الله تعالى ، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو : فسوف يعلمون حقيق ما أنكروا من رسالتك . ومَن قرأ بالخطاب ، فهو داخل في حيز " قل " ، من جملة ما يقال لهم .
الإشارة : العجب كل العجب أن يعلم العبد أنه لا خالق له سوى ربه ، ولا محسن له غيره ، وهو يميل بالمحبة أو الركون إلى غيره ، وفي الحِكَم : " والعجب كل العجب ممن يهرب مما لا انفكاك له عنه ، ويطلب ما لا بقاء له معه ، فإنها لا تعمى الأبصار ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " ويقال لمَن دعا إلى الله فلم ينجح دعاؤه : { فاصفح عنهم وقل سلام . . . } الآية .
وبالله التوفيق . . . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .
(5/488)

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } يا محمد { و } حق { الكتاب المبين } الواضح البيِّن ، وجواب القسم : { إِنا أَنزلناه } أي : الكتاب الذي هو القرآن { في ليلة مباركةٍ } ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ، والجمهور على الأول ، لقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } [ البقرة : 185 ] ، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان ، وسيأتي الجمع بينهما . ثم قيل : أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل نجوماً ، على حسب الوقائع ، في ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : معنى نزوله فيها : ابتداء نزوله .
والمباركة : الكثيرة الخير؛ لما ينزل فيها من الخير والبركة ، والمنافع الدينية والدنيوية ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة .
{ إِنا كنا منذِرينَ } استئناف مبين لما يقتضي الإنزال ، كأنه قيل : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، { فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم } استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال ، أي : إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة ، لأنها فيها يُفرق كل أمر حكيم ، أي : ذي حكمة بالغة ، ومعنى " يُفرق " : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة ، وقيل : الضمير في " فيها " يرجع لليلة النصف ، على الخلاف المتقدم .
وروى أبو الشيخ ، بسند صحيح ، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قال : " ليلة النصف من شعبان ، يُدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره؛ الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة " . قال السيوطي : سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه . ه . وروي عن ابن عباس : قال : إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر . وفي رواية : ليلة السابع والعشرين من رمضان ، قيل : وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان ، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان . والله أعلم .
وقوله تعالى : { حكيم } الحكيم : ذو الحكمة ، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل ، والسعادة والشقاوة ، في هذه الليلة ، يدلّ على حكمة بالغة؛ فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً ، إسناداً مجازياً . وقوله : { أمراً من عندنا } منصوب على الاختصاص ، أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخافمته الذاتية ، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر؛ لتخصيصه بالوصف ، { إِنا كنا مرسِلين } بدل من { إنا كنا منذرِين } .
و { رحمةً من ربك } مفعول له ، أي : أنزلنا القرآن؛ لأن من عادتنا إرسال الرسل باكتب؛ لأجل إفاضة رحمتنا . ووضع الرب موضع الضمير ، والأصل : رحمة منا؛ للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها ، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته .
(5/489)

وقال الطيبي : هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل؛ فكأنه لما قيل : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } قيل : فلِمَ أُنزل؟ فأجيب : لأن من شأننا التحذير والعقاب ، فقيل : لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة؟ فقيل : لأنه من الأمور المُحكَمة ، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم ، فقيل : لِمَ كان من الأمور المُحكَمة؟ فأجيب : لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين ، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً ، لكونه للعالمين نذيراً ، أو { داعياً إلى الله بإذنه . . . } الآية ، فقيل : لماذا رحمهم الرب بذلك؟ فأجيب : لأنه وحده سميع عليم ، يعلم جريان أحوال عباده ، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى . ه . وهذا معنى قوله : { إِنه هو السميع } لأقوالهم وحده ، { العليم } بأحوالهم .
{ ربِّ السماوات والأرض وما بينهما } مَن جرّه بدر من " ربك " ، ومَن رفعه خبر من ضمر ، أي : هو رب العوالم العلوية والسفلية ، وما بينها ، { إِن كنتم موقنين } أي : من أهل الإيقان ، ومعنى الشرط ، أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً ، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه ، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك .
{ لا إِله إِلا هو } مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ ، لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله تعالى ويشركون معه غيره ، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره ، { يُحيي ويُميت } ثم يبعث للجزاء ، { ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين } أي : هو رب الجميع ، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله : { بل هم في شك يلعبون } وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان ، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : { حم } ، قال الورتجبي : الحاء : الوحي الخاص إلى محمد ، والميم : محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر ، لا يطلع على ذلك - الذي بين المحب والمحبوب - أحد من خلق الله ، ألا ترى كيف قال سبحانه : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر ، وجملتها قسم ، أي بمعنى الوحي السري والمحبوب ، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار ، { إنا أنزلناه } ه . قال القشيري : الحاء تشير إلى حقِّه ، والميم إلى محبته ، ومعناه : بحقي ومحبتي لعبادي ، وكتابي العزيز إليهم ، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي . ه .
والليلة المباركة عند القوم ، هي ليلة الوصال والاتصال ، حين يُمْتَحى وجودُهم ، ويتحقق فناؤهم ، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم ، ويفقدون وجودهم؛ فهو مبارك ، وهو ليلة القدر عندهم ، فإذا دام اتصالهم ، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكلها مباركة . قال الورتجبي : قوله تعالى : { في ليلة مباركة } كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية ، والرحمة غالبة فيها ، ومن جملتها : إنزال القرآن فيها؛ فإنه افتتاح وصلة لأهل القرية .
(5/490)

ه .
قال القشيري : وسمّاها ليلة مباركة؛ لأنها ليلة افتتاح الوصلة ، وأشدُّ الليالي بركةً ، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه ، مشاهداً لربه ، يتنسّم بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة ، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة ، كما قالوا ، وأنشدوا :
لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي ... أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ
لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ ... طالَ ، وإن زار فلَيْلي قَصيرُ
ه .
أي : لَيْلِي كما شاء المحبوب ، فإن لم يزرني طال ليلِي ، وإن زارني قَصُر . والحاصل : أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة ، وأوقات الجلال كلها طويلة ، وقوله تعالى : { فيها يُفرق كل أمر حكيم } أي : في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية ، بلا واسطة ، بل أمراً من عندنا ، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها ، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب ، ويسمونها ليلة القدر .
وقوله تعالى : { إِنّا كنا مرسلين رحمةً من ربك } هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أنا الرحمة المهداة " ، فرحمة مفعول به ، { إِنه هو السميع العليم } قال القشيري : السميع لأنين المشتاقين ، العليم بحنين المحبين . ه . { لا إِله إلا هو } أي : لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو ، { يُحيي ويميت } يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته ، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد . ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله : { بل هم في شك يلعبون } وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون ، ومن روح وصاله يتنسّمون . قال القشيري : واللعب يجري على غير ترتيب ، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص ، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته . ه .
(5/491)

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يقول الحق جلّ جلاله : { فارتقبْ } فنتظر { يوم تأتي السماءُ بدُخان مبين } قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن رضي الله عنهم : هو دخان يجيء قبل يوم القيامة ، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام ، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين ، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة ، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار ، ليس فيه خِصاص ، ويؤيد هذا حديث حذيفة : " أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من عدن ، تسوق الناس إلى الحشر ، تقيل معهم إذا قالوا . . . " الحديث ، انظر الثعلبي .
وأنكر هذا ابن مسعود ، وقال : هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء . ويؤيده ما يأتي بعده . وقوله : { مبين } أي : ظاهر لا يشك أحد أنه دخان ، { يغشى الناسَ } أي : يحيط بهم ، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان ، أي : انتظر يوم شدة ومجاعة؛ فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره ، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار ، أو كثرة الغبار ، { هذا عذابٌ أليم } أي : قائلين هذا عذاب أليم .
ولما اشتد بهم القحط ، مشى أبو سفيان ، ونفر معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله تعالى والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم ، وكشف عنهم ، أن يؤمنوا ، وذلك قوله تعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب إِنا مؤمنون } أي : سنؤمن إن كُشف عنا العذاب ، قال تعالى : { أنَّى لهم الذكرَى } أي : كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، { وقد جاءهم رسول مبين } أي : والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ ، ما هو أعظم منه ، حيث جاءهم رسول عظيم لشأن ، بيِّن البرهان ، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ، ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صُمّ الجبال .
{ ثم تَولوا عنه } أي : عن ذلك الرسول ، بعدما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإبال عليه ، ولم يقنعوا بالتولِّي ، بل اقترفوا ما هو أشنع ، { وقالوا } في حقه عليه السلام : { مُعَلَّمٌ مجنون } أي : قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف ، وتارة مجنون ، أو : يقول بعضهم كذا ، وبعضهم كذا ، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى : { إِنا كاشفوا العذاب قليلاً } أي : زمناف قليلاً ، أو كشفاً قليلاً ، { إِنكم عائدون } إلى الكفر ، الذي أنتم فيه ، أو : إلى العذاب بعد صرف الدخان ، على القول الأول ، { يوم نبطشِ البطشةَ الكبرى } يوم بدر ، أو يوم القيامة ، { إِنا منتقمون } أي : ننتقم منهم في ذلك اليوم . وانتصاب { يوم نبطش } باذكر أو بما دلّ عليه { إنا منتقمون } ، وهو ننتقم ، لا بمنتقمون ، لأن ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبله .
(5/492)

الإشارة : { فارتقب } أيها العارف { يوم تأتي السماء بدخان مبين } أي : يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس ، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس ، فتحجبهم عن شمس العرفان ، هذا عذاب أليم موجع للقلوب ، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب . وأما العارف فشمسه ضاحية ، ونهاره مشرق على الدوام ، كما قال شاعرهم :
لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ ... وظلامُهُ في الناس سَارِ
الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ ... ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ
وقال آخر :
طَلَعتْ شَمْسُ مَن أُحبُّ بِليلٍ ... فَاسْتَنارَتْ فما تلاها غُروبُ
إِن شمسَ النَّهارِ تَغْربُ بِليلٍ ... وشَمسُ القُلوبِ لَيْسَت تغِيبُ
قال القَشيري : قيامة هؤلاء - أي الصوفية - مُعَجَّلة لهم ، يوم تأتي السماء فيه بدخان ، مبين ، وهو باب غيبة الأخبار ، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب . قلت : وأحسن من عبارته أن تقول : وهو باب غيبة الأنوار ، وانسداد نبع الأسرار . ثم قال : وفي معناه قالوا :
فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى ... بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياة بباردِ
ه .
وقوله تعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب } قال القشيري : وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق ، وفي ذلك أنشدوا :
وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها ... سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب
فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق ، وأنشدوا :
أَنْتَ البلاَءُ فكيف أرجوا كَشْفه ... إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي
ه .
قلت : وأصرح منه قول الشاعر :
يا مَنْ عَذَابي عذبٌ في مَحَبَّته ... لاَ أشْتكِي منك لا صَدّاً ولا مَلَلا
وقول الجيلاني رضي الله عنه :
تَلَذُّ ليَ الآلامُ إِذ كنتَ مُسقِمي ... وَإن تَخْتبِرني فهي عِنْدي صنَائِعُ
تَحكَّمْ بما تَهْواه فيَّ فإنني ... فَقِيرٌ لِسلطانِ المحبة طائِعُ
قوله تعالى : { أنَّى لهم الذكرى } أي : كيف يتّعظ مَن تنكَّب عن صحبة الرجال ، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم مَن يدعوهم إلى الكبير المتعال ، فأنكروه ، وقالوا : مُعَلَّمٌ مجنون ، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلاً ، حين يتوجهون إلينا ، ويفزعون إلى بابنا ، أو يسمعون مِن بعض أوليائنا ، ثم تكثر عيهم الخواطر ، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا ، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه ، { يوم نبطش البطشة الكبرى } هي خطفة الموت ، فلا ينفع يفها ندم ولا رجوع ، بل يورثهم حزناً طويلاً ، فلا يجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً ، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا .
(5/493)

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد فتنا قبلهم } قبل هؤلاء المشركين ، { قومَ فرعون } أي : امتحانهم بإرسال موسى عليه السلام ، أو : أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق ، أو فعلنا بهم فعل المختبِر؛ ليظهر ما كان باطناً ، { وجاءهم رسولٌ كريمٌ } موسى عليه السلام ، أي : كريم على الله ، أو على المؤمنين ، أو في نفسه حسيب نسيب ، لأن الله تعالى لم يبعث نبيّاً إلا من سادات قومه : { أنْ أدُّوا إِليَّ عبادَ الله } أي : بان أدُّوا إليّ ، أي : ادفعوا عبادَ الله ، وهم بنو إسرائيل ، بأن ترسلوهم معي ، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بني إسرائيل من يده ، أو : بأن أدُّوا إليّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان ، وقبول الدعوة ، فالعباد على هذا عام . ف " إن " مفسرة؛ لأن مجيء الرسل لا يكون إلا بدعوة ، وهي تتضمن القول ، أو مخففة ، أي : جاءهم بأن الشأن أدوا إليّ ، و " عبادُ الله " على الأول : مفعول به ، وعلى الثاني : منادى ، { إِني لكم رسولٌ أمين } تعليل للأمر ، أو لوجوب المأمور ، أي : رسول غير ظنين ، قد ائتمنني الله على وحيه ، وصدّقني بالمعجزات القاهرة .
{ وأن لا تعلوا على الله } أي : لا تتكبّروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو : لا تتكبروا على نبيّ الله ، { إِني آتيكم } من جهته تعالى { بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة ، لا سبيل إلى إنكارها ، تدل على نبوتي ، وفي إيراد الأداء مع الأمين ، والسلطان مع العلو ، من الجزالة ما لا يخفى ، { وإِني عُذْتُ بربي وربكم } أي : التجأت إليه ، وتوكلتُ عليه ، { أن ترجمون } من أن ترجمون ، أي : تؤذونني ضرباً وشتماً ، أو تقتلوني رجماً .
قيل : لما قال : { وأن لا تعلوا على الله } توعّدوه بالرجم ، فتوكّل على الله ، واعتصم به ، ولم يُبال بما توعّدوه .
{ وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلونِ } أي : وإن كابرتم ولم تُذعنوا لي ، فلا مولاة بيني وبين مَن لا يؤمن ، فتنحُّوا عني ، أو : فخلُّوني كفافاً لا لي ولا عليّ ، ولا تتعرضوا لي بشرِّكم وأذاكم ، فليس ذلك جزاء مَن دعاكم إلى ما فيه فلا حُكم ، قال أبو السعود : وحَمْلُه على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم ، يأباه المقام .
{ فدعا ربَّه } بعدما تمادوا على تكذيبه ، شاكياً إلى ربه : { أَنَّ هؤلاء } أي : بأن هؤلاء ، { قوم مجرمون } وهو تعريض بالدعاء عليهم ، بذكر ما استوجبوه ، ولذلك سمي دعاء ، وقيل : كان دعاؤه ، : اللهم عجِّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم ، وقيل : هو قوله : { أَنِّى مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } [ القمر : 10 ] وقيل : قوله : { لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ يونس : 85 ] وقُرئ بالكسر على إضمار القول . قال تعالى له بعدُ : { فأَسْرِ بعبادي ليلاً } والفاء تؤذن بشرط محذوف ، أي : إن كان الأمر كما تقول { فأسْرِ بعبادي } بني إسرائيل { ليلاً إِنكُم مُتَّبعون } أي : دبّر الله أن تتقدموا ، ويتبعكم فرعون وجنوده ، فننجّي المتقدمين ، ونغرف الباقين ، { واترك البحر رَهْواً } ساكناً على حالته بعدما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تُغيره عن حاله ليدخله القبط ، أراد موسى عليه السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق ، فأمره أن يتركه ساكناً على هيئته ، قاراً على حالته ، من انتصاب الماء كالطود العظيم ، وكون الطريق يبساً لا يُغير منه شيئاً ، ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم ، فالرهو في كلام العرب : السكون ، قال الشاعر :
(5/494)

طَيرٌ رَأَتْ بازياً نَضحَ الدُّعاءُ به ... وأُمَّةٌ خَرَجَتْ رَهْواً إلى عيدِ
أي : ساكنة ، وقيل : الرهو : الفرجة الواسعة ، أي : اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً ، { إنهم جند مُغْرَقون } بعد خروجكم من البحر . وقرئ بالفتح ، أي : لأنهم .
الإشارة : كل زمان له فراعين ، يحبسون الناسَ عن طريق الله ، وعن خدمته ، فيبعث الله إليهم مَن يُذكَّرهم ، ويأمرهم بتخلية سبيلهم ، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم ، فإذا كُذّب الداعي ، قال : وإن لم تؤمنوا فاعتزلون ، فإذا أيِس من إقبالهم دعا عليهم ، فيغرقون في بحر الهوى ، ويهلكون في أودية الخواطر . وبالله التوفيق .
(5/495)

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
يقول الحق جلّ جلاله : { كم تركوا من جناتٍ وعُيون } أي : كثيراً ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين . رُوي أنها كانت متصلة بضفتي النيل جميعاً ، من رشيد إلى أسوان ، { وعُيون } يحتمل أن يريد الخلجان ، شَبَّهها بالعيون ، أو كانت ثَمَّ عيون وانقضت ، { وزُروعٍ } أي : مزارع ، { ومَقام كريم } محافل مُزينة ، ومنازل مُحسَّنة ، وسمّاه كريماً؛ لأنه مجلس الملوك ، وقيل : المنابر ، { ونَعْمةٍ } أي : بسطة ولذاذة عيش وتنعُّم ، { كانوا فيها فاكِهين } أي : متنعّمين فرحين مسرورين .
وفي المشارق : النعمة - بالفتح التنعُّم ، وبالكسر : اسم ما أنعم الله به على عباده ، قال ابن عطية : النعمة - بالفتح : غضاوة العيش ، ولذاذة الحياة ، والنعمة - بالكسر : أعم من هذا كله ، وقد تكون الأمراض والمصائب نِعماً ، ولا يقال فيها نعمة بالفتح . ه فانظره .
{ كذلك } أي : الأمر كذلك ، فالكاف في محل الرفع ، على أنه خبر عن مضمر ، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه : { تركوا } أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، { وأورثناها قوماً آخرين } ليسوا منهم في شيء في قرابة ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل ، بأن تولُّوا أحكامها والتصرُّف فيها . وقال الحسن : رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، نظيره : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفَونَ . . . } [ الأعراف : 137 ] الآية ، ومثله عن القرطبي والبيضاوي ، وكذلك في نوادر الأصول ، وقد تقدّم الكلام عليه في الشعراء . وفي الآية اعتبار واستبصار ، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار ، وسيأتي في الإشارة ما فيه كفاية نظماً ونثراً .
{ فما بَكَتْ عليهم السماءُ والأرض } مجاز عن الاكتراث بهلاكهم ، والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكُّم بهم ، وبحالهم المنافية ، بحال مَن يعظم فقده ، فيقال : { بكت عليهم السماء والأرض } وكانت العرب إذا عظَّمت مهلك رجل قالوا : بكته الريحُ والبرقُ والسماء ، قال الشاعر :
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَها ... والبَرْقُ يَلْمعُ فِي الغمامَهْ
وقال جرير ، يرثي عمر بن عبد العزيز :
فالشَّمسُ طالِعةٌ ليستْ بكاسفةٍ ... تَبكي عليك نُجُومَ اللَّيل والْقَمَرَا
حُمّلْتَ أمراً عظيماً فاصطَبرَتْ له ... وقُمْتَ فينا بأمر اللّهِ يَا عُمَرا
وقيل : البكاء حقيقة ، وأن المؤمن تبكي عليه من الأرض مُصلاَّه ، ومحل عبادته ، ومن السماء مَصْعدُ عمله ، كما في الحديث ، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر ، ودوابه ، وهَوام البر وأنعامه ، والطير في الهواء ، وهؤلاء لمَّا ماتوا كُفاراً لم يعبأ الوجودُ بفقدهم ، بل يفرح بهلاكهم ، { وما كانوا } لّمَّا جاء وقت هلاكهم { مُنظّرين } ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخر ، بل عجّل لهم في الدنيا .
{ ولقد نجينا بني إِسرائيلَ } لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا { من العذاب المهين } من استعباد فرعون إياهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، { من فرعون } بدل من العذاب المهين بإعادة الجار ، كأنه في نفسه كان عذاباً مهيناً ، لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر عن مضمر ، أي : ذلك من فرعون ، وقُرئ " مَن فرعون " على معنى : هل تعرفونه مَن هو في عتوه وتفرعنه؟ وفي إبهام أمره أولاً ، وتبيينه بقوله تعالى : { إِنه كان عالياً من المسرفين } ثانياً ، من الإفصاح عن كُنه أمره في الشر والفساد مما لا مزيد عليه وقوله تعالى : { من المسرفين } إما خبر ثان ، أي : كان متكبراً مسرفاً ، أو حال من الضمير في " عالياً " أي : كان رفيع الطبقة من بين المسرفين ، فائقاً لهم ، بليغاً في الإسراف .
(5/496)

{ ولقد اخترناهم } أي : بني إسرائيل { على عِلْمٍ } أي : عالِمين بأنهم أحقاء بالاختيار ، أو عالِمين بأنهم يزيغون في بعض الأوقات ، ويكثر منهم الفرطات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات ، { على العالَمين } أي : عالمي زمانهم ، لما كثر فيهم من الأنبياء ، { وآتيناهم من الآيات } كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من عظائم الآيات ، { ما فيه بلاء مبين } نعمة ظاهرة ، أو : اختبار ظاهر ، لينظر كيف يعملون ، وقيل : البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرضا ، والصبر عند الكدر والعناء .
الإشارة : كم ترك أهلُ الغفلة والاغترار ، من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، من قصور وديار ، فارقوها ، أخصب ما كانوا فيها ، وأُزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها ، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور ، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخِّرق والأكفان ، فيا مَن ركن إلى الدنيا ، انظر كيف تفعل بأهلها ، فرحم الله عبداً أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزوّد للرحيل ، وتأهّب للمسير .
ذكر الطرطوسي في كتابه " سراج الملوك " : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنتُ مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوماً إلى رصافة " هشام بن عبد الملك " فنظر إلى قصورها خاوية ، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم ، حسن البناء ، بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به ، إذ بَصُر برقعة قد التصقت بصدره ، فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات .
أَيا مَنْزلاً بالدّيْرِ أَصْبَحَ خَالياً ... تَلاعَبَ فيه شمألُ ودِفُورُ
كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بيضٍ نَوَاعمٌ ... وَلَمْ يَتَبَخْتَر في قِبابِكَ حُورُ
وأَبْنَاءُ أَمْلاكِ غَواشِمُ سَاداتٍ ... صَغِيرهم عِندَ الأنَامِ كَبِيرُ
إذَا لَبسوا أَدْرَاعَهم ، فعَوَابسٌ ... وَإن لَبسوا تيجانَهمْ فَبُدورُ
علَى أنَّهم يَومَ اللِّقاء ضَرَاغِمٌ ... وأَنَّهم يوم النَّوالِ بُحورُ
ليالي هِشامٌ بالرّصاَفَةٍ قاطنٌ ... وفيك ابنه يا دَيْرَ وَهُوَ أَميرُ
إلى أن قال :
بلَى فسقاكِ الْقَيثُ صَوب سحائبٍ ... عَلَيْك بِها بَعد الرَّواحِ بُكْورُ
تَذَكَّرْتُ قَومي فيكما فَبَكيتهم ... بشَجْوٍ ومثْلِي بالبُكَاءِ جديرُ
فعَزيْتُ نَفْسِي وهْي نَفَسٌ إذا جَرى ... لَها ذِكْر قَومِي أَنَّةٌ وزفِيرُ
فلما قرأها المتوكل ارتاع ، ثم دعا صاحب الدير ، فسأله : مَن كتبها؟ فقال : لا علم لي ، وانصرف ه .
ومن هذا القبيل ما وجد مكتوباً على باب " كافور الإخشيدي " بمصر :
(5/497)

انْظر إلى عِبرِ الأيَّامِ مَا صنعتْ ... أَفْنَتْ أنَاساً بها كانوا ومَا فينتْ
دِيارهم ضَحِكَتْ أَيَّامَ دولتِهِمْ ... فإِذا خلَتْ مِنْهُم صاحتهم وبَكَتْ
ومن هذا أيضاً ما وُجد على قَصر " ذي يزن " مكتوباً :
بَاتوا على قُلَل الأجْبَال تَحْرسُهمْ ... غُلْبُ الرجال فلمْ تمنعْهم الْقُلَل
واستُنزلوا منْ أَعالِي عز معْقلهمْ ... فأُسْكِنوا حُفراً ، يا بِئْسَ ما نَزَالوا
أَيْنَ الْوجوه التي كانت محَجَّبةً ... من دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكلل؟
فأَفْصح القبرُ عَنْهم حين سائلهم ... تِلْك الوجوه عَلَيْهَا الدود تقتبلُ
قد طالَ ما أَكَلوا دهراً وما شَرِبُوا ... فَأصبحوا بَعدَ طُولِ الأكْلِ قد أُكلوا
وحاصل الدنيا ما قال الشاعر :
أَلاَ إِنَّما الدنيا كأَحْلامِ نَائِم ... وَمَا خَيْر عَيْشٍ لاَ يَكونُ بِدائم؟!
تَأمَّلْ إذَا ما نِلْت بالأمْسِ لَذَّةً ... فَأفنَيْتها هَلْ أَنْتَ إلا كَحَالِم؟!
هذه فكرة اعتبار ، وأما فكرة استبصار ، فما ثَمَّ إلا تصرفات الحق ، ومظاهر أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، ظهرت في عالم الحكمة بالأشكال والرسوم ، وأما في عالم القدرة فما ثَمَّ إلا الحي القيوم .
تَجلّى حَبِيبي فِي مرائي جَمَالهِ ... فَفِي كلِّ مَرئيٍّ لِلحَبِيبِ طَلاَئِعُ
فلَمَّا تَبَدَّى حُسْنهُ متنوِّعاً ... تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فهن مَطَالِعُ
وقوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض } يُفهم منه : أن من عظم قدره تبكي على فقده السموات والأرض ومَن فيهن ، في عالم الحس ، الذي هو عالم الأشباح وتفرح به أهل السموات السبع في عالم الأرواح؛ لتخلُّصه إليها ، فيستبشر بقدومه كل مَن هنالك ، وينظر اللّهُ إلى خلقه بعين الرحمة ، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره . والله ذو الفضل العظيم .
وقوله تعالى : { ولقد اخترناهم على علم } قال القشيري : ويُقال : على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا ، ويقال : على علم بما نُودع عندهم من أسرارنا ، ونكاشفهم به من حقائق حقنا .
وقال الورتجبي : { ولقد اخترناهم على علم } أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والربوبية ، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات في زمان المراقبات . ه .
وق الواسطي : اخترناهم على علم منا بجنايتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك في سوابق علمنا لهم ، ليُعلم أن الجنايات لا تؤثر في الرعايات . وقال الجرّار : علما ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا ، فاخترناهم بعلمنا على العالمين . ه . قلت : والمقصود بالذات : بيان أن اختياره - تعالى - مرتّب على سابق علمه الأزلي ، وعلمه - تعالى - لا تُغيره الحوادث ، وقد انقطعت دولة بني إسرائيل ، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية .
(5/498)

إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ هؤلاء } يعني كفار قريش؛ لأن الكلام معهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على مماثلتهم في الإصرار على الضلالة ، والتحذير من حلول مثل حلّ بهم ، { لَيقولون إِن هي إِلا موتَتنا الأُولى } أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى ، المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه لإثبات موته أخرى ، كقولك : حجّ زيد الحجة الأولى ومات ، أو : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، التي تقدّمت وجودنا ، كقوله : { وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] كأنهم لما قيل لهم : إنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم كذلك ، أنكروها ، وقالوا : ما هي إلا موتتنا الأولى ، وأما الثانية فلا حياة تعقبها ، أوْ : ليست الموتة إلا هذه الموتة ، دون الموتة التي تعقب حياة القبر كما تزعمون ، { وما نحن بمُنشَرِين } بمبعوثين ، { فأتوا بآبائنا } خطاب لمَن كان بعدهم النشر ، من الرسول والمؤمنين ، { إِن كنتم صادقين } أي : إن صدقتم فيما تقولون ، فعجِّلوا لنا إحياء مَن مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ، حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من البعث حق .
قيل : كانوا يطلبون أن ينشر لهم قُصيّ بن كلاب ، ليُشاوروه ، كان كبيرهم ومفزعهم في المهمات ، قال تعالى : { أَهُم خيرٌ أم قومُ تُبَّع } ردّ لقولهم وتهديد لهم ، أي : أهم خير في القوة والمنعة ، اللتين يدفع بهما أساب الهلاك ، أم قوم تُبع الحميري؟ وكان سار بالجيوش حتى حيّر الحيرة ، وبنى سمرقند ، وقيل : هدمها ، وكان مؤمناً وقومه كافرين ، ولذلك ذمّهم الله تعالى دونه ، وكان يكتب في عنوان كتابه : بسم الله الذي ملك برّاً وبحراً ومضحاً وريحاً .
قال القشيري : كان تُبَّع ملك اليمن ، وكان قومه فيهم كثرة ، وكان مسلماً ، فأهلك اللّهُ قومَه على كثرة عددهم وكمال قوتهم . ه . روي عنه عليه السلام أنه قال : لا تسبُّوا تُبعاً فإنه كان مؤمناً " ه وقيل : كان نبيّاً ، وفي حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا أدري تُبعاً كان نبيّاً أو غير نبي " .
وذكر السهيلي : أن الحديث يُؤذن بأنه واحد بعينه ، وهو - والله أعلم - أسعد أبو كرب ، الذي كسا الكعبة بعدما أراد غزوه ، وبعدما غزا المدينة ، وأراد خرابها ، ثم انصرف عنها ، لما أخبر أنها مهاجَر نبي اسمه " أحمد " وقال فيه شعراً ، وأودعه عند أهلها ، فكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر ، إلى أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فأدُّوه إليه . ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب الأنصاري : حتى نزل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه إليه ، وفي الكتاب الشعر ، وهو :
شَهِدتُ عَلَى أَحمَدٍ أَنه ... رَسولٌ مِنَ الله بارِي النَّسمْ
فَلَو مُدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرهِ ... لكنتُ وزيراً له وابن عَمْ
وأَلْزَمتُ طَاعَتَه كلَّ مَن ... عَلَى الأَرْضِ ، مِنْ عُرْبٍ وعَجمْ
ولَكِن قَوْلي له دَائماً ... سَلاَمٌ عَلَى أَحْمَدٍ في الأمَمْ
(5/499)

وذكر الزجاج وابن أبي الدنيا : أنه حُفر قبرٌ بصنعاء في الإسلام ، فوجد فيه امرأتان ، وعند رؤوسهما لوح من فضة ، مكتوب فيه بالذهب اسمهما ، وأنهما بنتا تُبع ، تشهدان ألا إله إلا الله ، ولا تُشركان به شيئاً ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما . ه . ويقال لملوك اليمن : التبابعة؛ لأنهم يُتبعون ، ويقال لهم : الأقيال لأنهم يتقيلون . ه .
{ والذين مِن قبلهم } عطف على " قوم تُبع " ، والمراد بهم عاد وثمود ، وأضرابهم من كل جبار عنيد ، أُولي بأس شديد ، { أهلكناهم } بأنواع من العذاب { إِنهم كانوا مجرمين } تعليل لإهلاكهم ، ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة ، فكان مهلكَ هؤلاء - وهم شركاؤهم في الإجرام ، مع كونهم أضعف منهم في الشدة والقوة - أولى .
قال الطيبي : لما أنكر المشركون الحشر ، بقولهم : { إن هي إلا موتتنا الأولى } وبَّخهم بقوله : { أهم خير أم قوم تبع } إيذاناً بأن هذا الإنكار ليس عن حجة قاطعة ودليل ظاهر ، بل عن مجرد حب العاجلة ، والتمتُّع بملاذ الدنيا ، والاغترار بالمال والمآل والقوة والمنعة ، أي : كما فعل بمَن سلك قبلَهم من الفراعنة والتبابعة حتى هلكوا ، كذلك يفعل بهؤلاء إن لم يرتدعوا .
ثم قرّر أن الحشر لا بُد منه بقوله : { وما خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما } أي : بين الجنسين ، { لاعبين } لاهين من غير أن يكون في خلقهما غرض صحيح ، وغاية حميدة ، جلّ جناب الجلال عن ذلك ، { ما خلقناهما إِلا بالحق } أي : ما خلقناهما ملتبساً بشيء من الأشياء إلا ملتبساً بالحق ، أو : ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، الذي هو الإيمان والطاعة في الدنيا ، والبعث والجزاء في العقبى .
قال الطيبي : وقد سبق مراراً : أنه ما خلقهما إلا ليوحَّد ويُعبَد ، ثم لا بد أن يجزي المطيع والعاصي ، وليست هذه دار الجزاء . وقال ابن عرفة : قوله : { إلا بالحق } أي : إلا مصاحبين للدلالة على النشأة الآخرة ، وهي حق . ه . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنهن خُلقن لذلك ، بل عبثاً ، تعالى الله عن ذلك .
الإشارة : كانت الجاهلية تُنكر البعث الحسي ، والجهلة اليوم ينكرون البعث المعنوي ، ويقولون : { إن هي إلا موتتنا الأولى } أي : موت قلوبنا وأرواحنا بالجهل والغفلة ، فكيف يكون الرجل منهمكاً في المعاصي ، يمت القلب ، ثم ينقذه الله ويُحييه بمعرفته ، حتى يصير وليّاً من أوليائه مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز قدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً " أهم خير أم قوم تُبع؟ وقد أخرج الله من قومه أنصار نبيه صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من خواص أحبابه ، حتى قال : " الناس دثار والأنصار شِعار ، لو سلك الناسُ وادياً أو شِعباً ، وسلكتْ الأنصارُ وادياً ، لسلكتُ واديَ الأنصار وشِعبهم " وما خلقنا الأجرام العظام إلا لتدل على كمال قدرتنا ، والسلام .
(5/500)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ يوم الفصل } : أي : فصل احق عن الباطل ، وتمييز المحق من المبطل ، أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبابه ، وهو يوم القيامة ، { ميقاتُهم أجمعين } أي : وقت موعدهم كلهم ، { يومَ لا يُغني مَوْلىً عن مَوْلىً شيئاً } لا يغني ناصر عن ناصر ، ولا حميم عن حميم ، ولا نسب عن نسيب ، شيئاً من الإغناء .
قال قتادة : انقطعت الأسباب يومئذ بابن آدم ، وصار الناس إلى أعمالهم ، فمَن أصاب يومئذ خيراً ، سعد به ، ومَن أصاب يومئذ شرّاً شقي به . ه . و { يوم } بدل من يوم الفصل ، أو : صفة لميقاتهم ، أو : ظرف لما دلّ عليه الفصل ، أي : يفصل في هذا اليوم ، { ولا هم يُنصرون } يُمنعون مما أراد الله ، والضمير ل " مولى " باعتبار المعنى ، لأنه عام ، وقوله : { إلا مَن رحم } بدل من الواو في " يُنصرون " ، أي : لا يمنع من العذاب إلا مَن رحم الله ، بالعفو عنه ، أو بقبول الشفاعة فيه ، أوك منصوب على الاستثناء المنقطع ، أو : مرفوع على الابتداء ، أي : لكن مَن رحم { اللّهُ } فيُغْنِي عنه { إِنه هو العزيزُ } الغالب ، الذي لا يُنصر مَن أراد تعذيبه ، { الرحيمُ } لمَن أراد أن يرحمه .
{ إِنَّ شجرةَ الزقوم } هي على صورة شجرة الدنيا ، لكنها من النار ، والزقوم تمرها؛ وهو كل طعام ثقيل . رُوي : أنها لما نزلت ، جمع أبو جهل عجوة وزبداً ، وقال لأصحابه : تزقَّموا ، فهذا هو الزقوم ، وهو طعامي الذي حدّث به محمد ، فقصد بذلك المغالطة والتلبيس على الجهلة . أي : إن ثمر شجرة الزقوم هو { طعامُ الأثيم } أي : الكثير الإثم ، وهو الكافر؛ لدلالة ما قبله وما بعده عليه . وقيل : نزلت في أبي جهل ، ثم تعم . وكان أبو الدرداء يُقرئ رجلاً ، فكان أبو الدرداء يقول : طعام الأثيم ، والرجل يقول : طعام اليتيم ، فكرّر عليه ، فلم يفهم منه؛ فقال : " طعام الفاجر يا هذا " . قال النسفي : وبهذا يستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز ، إذا كانت مؤدّية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية ، بشرط أن يؤدي القارئ المعاني كلها ، من غير أن يَخْرِمَ منها شيئاً . انظر بقيته .
{ كالمُهل } وهو دُردِّيُّ الزيت ، أو : ما يمهل في النار فيذوب ، من نحاس وغيره ، { يغلي في البطون } مَن قرأه بالغيب رده للمهل ، أو للطعام ، ومَن قرأه بالتاء رده للشجرة ، { كغلي الحميم } الماء الحار الذي انتهى غليانه ، أي : غليان كغلي الحميم ، فالكاف في محل نصب ، ثم يقال للزبانية : { خُذوه } أي : الأثيم { فاعتلوه } أي : جُروه ، فالعتل : الأخذ بمجامع الشيء والسَّوق بالعنف والقهر ، يقال : عتل يعتُلِ بالضم والكسر ، أي : جروه { إلى سوء الجحيم } وسطها ومعظمها .
{ ثم صُبوا فوقَ رأسه من عذاب الحميم } المصبوب هو الحميم ، لا عذابه ، إلا أنه إذا صب عليه الحميم ، فقد صب عليه عذابه وشدته : والأصل : ثم صُبوا فوق رأسه عذاباً هو الحميم ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم؛ للمبالغة ، وزيد " من " للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع ، ويقال له : { ذقْ إِنك أنت العزيزُ الكريمُ } على سبيل الهزؤ والتهكُّم ، رُوي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فوالله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً ، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ .
(6/1)

وقرأ الكسائي : " أنك " بالفتح ، أي : لأنك أنت العزيز في قومك ، الكريم في زعمك . { إِنَّ هذا ما كنتم به تمترون } تشكُّون ، وتُمارون فيه ، والجمع باعتبار المعنى؛ لأن المراد جنس الأثيم .
الإشارة : يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين ، ومقام عامة أهل اليمين ، فيرتفع المقربون ، ويسقط الغافلون ، فلا يُغنى صاحبٌ عن صاحب شيئاً ، ولا هم يُنصرون من السقوط عن مراتب الرجال ، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال ، إلا مَن رحم اللّهُ ، ممن تعلّق بالمشايخ الكبار ، من المريدين ، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم . وشجرة الزقوم هي شجرة المعصية؛ فإنها تغلي في البطون ، وتعوق عن الوصول ، فقد قالوا : مَن أكل الحرام عصى الله ، أحبَّ أم كرِه ، ومَن أكل الحلال أطاع الله ، أحبَّ أم كَرِه ، فيقال : خُذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم ، وهي نار القطيعة البُعد ، ثم صُبوا فوق رأسه من هموم الدنيا ، وشغب الخوض والخواطر ، ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم ، ولو كنت ذليلاً خاملاً لنلت العز والكرامة . وبالله التوفيق .
(6/2)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المتقين في مقامٍ } بضم الميم : مصدر ، أي : في إقامة حسنة ، وبالفتح : اسم مكان ، أي : في مكان كريم ، وأصل المقام ، بالفتح : موضع القيام ، ثم عمّم واستعمل في جميع الأمكنة ، حتى قيل لموضع القعود : مقام ، وإن لم يقم فيه أصلاً ، ويقال : كنا في مقام فلان ، أي : مجلسه ، فهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم ، وقوله : { أمين } وصف له ، أي : يأمن صاحبُه الآفات والانتقال عنه ، وهو من الأمن ضد الخيانة ، وصف به المكان مجازاً ، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره .
وقوله : { في جنات وعُيون } بدل من " مقام " جيء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب ، { يلبسون من سُندس } وهو ما رقَّ من الديباج ، { وإِستبرقِ } ما غلظ منه ، وهو مُعرّب ، والجملة إما حال ، أو استئناف ، حال كونهم { متقابلين } في مجالسهم ، يستأنس بعضهم ببعض ، { كذلك } أي : الأمر كذلك ، قيل : المعنى فيه أنه لم يستوفِ الوصف ، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف ، فكأنه قال : الأمر نحو ذلك وما أشبهه ، وليس بعين الوصف وتحققه .
{ وزوجناهم بحُور عِينٍ } أي : قرنّاهم وأصحبناهم ، ولذلك عُدي بالباء . قال القشيري : وليس في الجنة عقد نكاح ولا طلاق ، بل تمكن الوليّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف ه . والحور : جمع حَوْراء ، وهي الشديدة سواد العين ، والشديدة بياضها ، والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العَين ، واختلف في أنها نساء الدنيا أو غيرها .
{ يَدْعون فيها بكل فاكهةٍ } أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه ، لا يختص بزمان ولا مكان ، { آمنين } من زواله وانقطاعه ، ومن ضرره عند الإكثار منه ، أو : من كل ما يسوءهم ، { لا يذوقون فيها الموتَ } أصلاً ، بل يستمرون على الحياة الأبدية ، { إِلا الموتَة الأولى } سوى الموتة الأولى ، التي ذاقوها ، أو : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا ، فالاستثناء منقطع ، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ ، وهو محال ، على نمط قوله : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] .
{ ووقاهم } ربهم { عذابَ الجحيم فضلاً من ربك } أي : أعطوا ذلك كله عطاءً وتفضُّلا منه تعالى؛ إذ لا يجب عليه شيء ، فهو مفعول له ، أو مصدر مؤكد لِما قبله ، لأن قوله : { وقاهم } في معنى تفضل عليهم ، { ذلك هو الفوز العظيم } الذي لا فوز وراءه؛ إذ هو خلاص من جميع المكاره ، ونيل لكل المطالب .
{ فإِنما يسَّرناه } أي : الكتاب ، وقد جرى ذكره في أول السورة ، أي : سهَّلنا قراءته { بلسانك } بلغتك { لعلهم يتذكرون } أي : كي يفهموه ويتعظوا به ، ويعملوا بموجبه ، فلم يفعلوا ، { فارتقبْ } فانظر ما يحلّ بهم ، { إِنهم مرتَقِبون } ما يحلُّ بك .
(6/3)

قال القشيري : فارتقب العواقب ترى العجائب ، إنهم مرتَقِبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون . ه .
الإشارة : إن المتقين شهود ما سوانا في مقام العرفان ، وهو مقام المقربين ، وهو محل الأمن والأمان ، في جنات المعارف ، وعيون العلوم والحِكَم ، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة ، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم ، متقابلين في المقامات ، يجمعهم الفناء والبقاء ، ويتفاوتون في اتساع المقامات والأسرار ، تفاوت أهل غرف الجنان ، كذلك ، أي : الأمر فوق ما تصف ، وزوجانهم بعرائس المعرفة ، لا يذوقون في جنات المعارف - إذ دخلوها - الموت أبداً إلا الموتة الأولى ، وهي موت نفوسهم ، فَحييتْ أرواحهم حياة أبدية ، وأما الموت الحسي فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم ، ومن مقام إلى مقام ، ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم ، فضلاً منه وإحساناً ، خلقَ فيهم المجاهدة ، ومَنَّ عليهم بالمشاهدة .
وقال الورتجبي بعد كلام : إذ أحضرهم - تعالى - في ساحة كبريائه ، ويتجلّى لهم بالبديهة من غير الجبّارية القهّارية؛ يكونون في محل الفناء ، وفي فناء الفناء ، وغلبات سطوات ألوهيته ، فإذا صاروا فانين ، ألبسهم الله لباس بقائه ، فيبقون ببقائه أبد الآبدين ، فإذاً الاستثناء وقع على التحقيق ، لا على التأويل ، فيا رُبّ موتٍ هناك ، ويا رُبّ حياة هناك؛ لأن الحدَث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القِدم ، ألا ترى إلى إشارة النبي صلى الله عليه وسلم كيف قال : " حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " أي : فيتلاشى الخلق ويبقى الحق .
قيل للجنيد : أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال : لا ، ولكنهم مُبْقَوْن ببقاء الحق ، والباقي على الحقيقة من لم يزل ، ولا يزال بقاياً . ه .
والحاصل : أنه لا عدم بعد وجودهم بالله ، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة ، ووجود البشرية ، بالاندراج في وجود الحق ، ثم الحياة بحياته ، والبقاء ببقائه أبداً ، قاله في الحاشية الفاسية . والفرق بين الباقي والمبقى في كلام الجنيد : أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلاً ، بخلاف المبقَى ، لا وجود لبقائه ، بل مبقى ببقاء غيره .
وقال في قطب العارفين ، لمَّا تكلم على التقوى : التقوى مطرد في وجوه كثيرة ، تقوى الشرك ، ثم تقوى المعصية ، ثم تقوى فضل المباح ، ثم تقوي كل ما يسترق القلوب عن الله تعالى ، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى : { إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون . . . } الآية . ه . وعنه صلى الله عليه وسلم : " مَن قرأ سورة الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك " ذكره في الجامع ، وفي فضلها أحاديث ، تركتها .
(6/4)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قلت : { واختلاف الليل والنهار . . . } الآية؛ فيها العطف على عاملين ، سواء نصبت " آيات " أو رفعتها ، فالعاملان إذا نصبت " إن " و " في " أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر في { واختلاف } والنصب في { آيات } ، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء ، وحرف " في " عملت الواو الرفع في " آيات " والجرّ في " واختلاف " وهذا مذهب الأخفش ، فإنه يُجوِّز العطفَ على عاملين ، وأما سيبويه فلا يُجيزه ، وتخريج الآية عنده : أن يكونَ على إضمار " في " ، والذي حسّنه : تقديم ذكر " في " الآيتين قبله ، ويؤيده : قراءة ابن مسعود رضي الله عنه { وفي اختلاف الليل والنهار } وفيها أوجه أُخر .
يقول الحق جلّ جلاله : { حم} يا حبيب يا مجيد هذا { تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم } فكونه من الله عزّ وجل دلّ أنه حق وصدق وصواب ، وكونه من العزيز دلَّ أنه معجز ، ، يَغلِب ولا يُغلب ، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحِكَم البالغة ، وأنه محكَم في نفسه ، يَنسِخ ولا يُنْسَخ .
ثم برهن على عزته ، وباهر حكمته ، فقال : { إِنَّ في خلق السماوات والأرض } إِما في نفس السماوات والأرض؛ فإن في شكلهما من بدائع وفنون الحِكَم ما يقصر عنه البيان ، وإما في خلقهما وإظهارهما ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ آل عمران : 190 ] { لآياتٍ للمؤمنين } لدلالاتٍ على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان ، وهو الأوفق بقوله : { وفي خلقِكم } أي : من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق ، { وما يَبُتُّ من دابةٍ } عطف على المضاف دون المضاف إليه ، أي : وفي خلق ما يبث ، أي : ينشر ويُصرّف من دابة { آياتٌ } ظاهرة على باهر قدرته وحكمته ، { لقومٍ يُوقنون } أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه ، ويعرفوا فيها صانعها ، { وفي اختلاف الليل والنهار } أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو : تفاوتهما طولاً ، وقصراً ، { و } في { ما أنزل اللّهُ من السماءِ مِن رزقٍ } مطر؛ لأنه سبب الرزق ، فعبَّر عن السبب بالمسبب؛ لأنه نتيجته ، تنبيهاً على كونه آية من جهة القدرة والرحمة ، { فأحيا به الأرضَ } بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنبات { بعد موتها } أي : خلُوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها ، وخُلوا أشجارها عن الثمار والأزهار .
{ وتصريفِ الرياح } أي : هبوبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه في الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة ، ولو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة ، أو : لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع ، التي من جملتها : سوق السفن في البحار ، وإلقاح الأشجار ، { آياتٌ لقوم يعقلون } يتدبّرون بعقولهم ، فيصلون إلى صريح التوحيد .
(6/5)

وفي تقديم الإيمان على الإيقان ، وتأخير تدبُّر العقل؛ لأن العباد إذا نظروا في السموات والأرض نظراً صحيحاً؛ علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بُدَّ لها من صانع ، فآمنوا بالله ، وإذا نظروا في خلق أنفسهم ، وتنقلها من حالٍ إلى حال ، وفي خلق ما ظَهَرَ على ظَهْر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيماناً وأيقنوا ، فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدّد في كل وقت ، كتعاقب الليل والنهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح ، جنوباً وشمالاً ، ودَبوراً وصباً ، عقِلوا ، واستحكم في عقولهم ، وخلص يقينهم ، فكانوا من ذوي الألباب .
{ تلك آياتُ الله } مبتدأ وخبر ، و { نتلُوها عليك } حال ، العامل : معنى الإشارة ، أي : تلك الآيات المتقدمة هي آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال ، حال كونها متلوةً عليك ، ملتبسة { بالحق } أو : نتلوها محقين في ذلك : فالجار والمجرور : حال من المفعول أو الفاعل . { فبأيّ حديثٍ } من الأحاديث { بعد الله وآياتهِ } أي : بعد آيات الله ، كقولك : أعجبني زيد وكرمه ، أي : أعجبني كرم زيد ، أو : بعد حديث الله ، الذي هو القرآن ، وآياته العامة في كل شيء ، فيكون على حذف مضاف ، أو : يُراد بها القرآن أيضاً ، والعطف للتغاير العنواني ، فالأول من جهة كونه حديثاً حسناً ، والثاني باعتبار كونه معجزاً ، أي : فبأي حديثٍ بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات { يؤمنون } يُصدِّقون؟! ومَن قرأ بالخطاب يُقدر : قل يا محمد .
الإشارة : قال القشيري : الحاء تدل على حياته ، والميم تدل على مودته ، كأنه قال : بحق حياتي ومودتي لأوليائي ، لا شيء أعز على أحبائي من لقائي ، العزيزُ في جلاله ، الحكيم في فعاله ، العزيز في أزله ، الحكيم في لُطفه بالعبد بوصف إقباله .
قوله تعالى : { إِنَّ في السماوات والأرض . . . } الآية؛ شواهد الربوبية لائحةٌ ، وأدلة الإلهية واضحةٌ ، فَمَنْ صحا فكره عن سُكر الغفلة ، ووضعَ سِرَّه في محل العِبْرة ، حَظِيَ - لا محالة - بحقائق الوصلة . ه . قلت : إنما يحظى بالوصلة إذا نفذت بصيرته إلى شهود المكوِّن ، ولم يقف مع شيء من حس الكائنات ، بل نفذ إلى ما فيها من أسرار المعاني ، فعرف فيها مولاها ، وشاهد فيها المتجلي بها ، وإلا بَقِيَ مسجوناً محصوراً في ذاته .
قوله تعالى : { وفي خلقكم . . . } الآية ، قال القشيري : إذا أنعم العبدُ النظرَ في استواء قدِّه وقامته ، واستكمال خلقه ، وتمام تمييزه ، وما هو مخصوص به من جوارحه وحوائجه ، ثم فكّر فيما عداه من الدواب ، وأجزائها وأعضائها ، ووقف على اختصاصه ، وامتياز بني آدم من بين البريَّة من الحيوانات ، في الفهم والعقل والتمييز والعلم ، ثم في الإيمان والعرفان ، ووجوه خصائص أهل الصفوة من هذه الطائفة من فنون الإحسان؛ عَرَف تخصيصهم بمناقبهم ، وانفرادهم بفضلهم ، فاستيقن أن الله أكرمهم ، وعلى كثيرٍ من المخلوقات قَدَّمهم .
(6/6)

ثم قال في قوله : { واختلاف الليل والنهار . . . } الآية . جعل الله العلومَ الدينية كسبيةً مُصحَّحةً بالدلائل ، مُحتَفةً بالشواهد ، فمَن لم يستبصرْ لها زلَّتْ قَدَمُه عن الصراط المستقيم ، ووقع في عذاب الجحيم ، فاليومَ في ظلمة الحيرة والتقليد ، وفي الآخرة في التخليد في الوعيد . ه . قلت : النظر في دلائل الكائنات من غير تنوير ، ولا صحبة أهل التنوير ، لا تزيد إلا حيرة ، ولذلك قال بعضهم : إيمان أهل علم الكلام كالخيط في الهواء ، يميل مع كل ريح ، فالتقليد حينئذ أسلم ، والتمسك بظاهر الكتاب والسنة أتم ، ومَن سقط على العارفين بالله ، لم يحتج إلى دليل ولا شاهد ، وأغناه شهود الشهيد عن كل شاهد .
عجبت لمَن يبغي عليك شهادة ... وأنت الذي أشهدته كلَّ شاهد
كيف يُعرف بالمعارف مَن به عُرفت المعارف؟! تنزّه الحق تعالى أن يفتقر إلى دليل يدلّ عليه ، بل به يستدل على غيره ، فلا يجد غيره . تلك آيات شواهد نتلوها عليك لترانا فيها ، لا لتراها مفروقةً عنا ، ولذلك قال تعالى : { بالحق } أي : ملتبسة بنور الحق ، الله نور السموات والأرض .
قوله تعالى : { فبأي حديث . . . } الآية ، قال القشيري : فَمَنْ لا يؤمن بها فبأي حديث يؤمن؟ ومن أي أصل ينشأ بعده؟ ومن أي بحر في التحقيق يغترف؟ هيهات ما بقي للإشكال في هذا مجال . ه .
(6/7)

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
يقول الحق جلّ جلاله : { ويلٌ لكل أفَّاكٍ } كذَّاب { أثيم } كثير الآثام ، { يسمع آيات الله } التنزيلية { تُتلى عليه } وجملة " يسمع " صفة أخرى لأفَاك ، أو استئناف ، أو حال من ضمير " أثيم " ، " تتلى " : حال من " آيات الله " ، { ثم يُصِرُّ } أي : يُقيم على كفره ، حال كونه { مستكبراً } عن الإيمان بالآيات ، والإذعان لما تنطق به من الحق ، مُزْدرياً بها ، مُعجَباً بما عنده من الأباطيل . قيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان يشتري من أحاديث الأعاجم ، ويشغل بها الناس عن سماع القرآن ، والآية عامة في كل مَن كان مضاراً لدين الله وجيء بثمّ لأن الإصرارَ على الضلالة ، والاستكبار عن الإيمان عند سماع آيات القرآن ، مستبعدٌ في العقول . ثم قال : { كأن لم يسمعها } أي : كأنه لم يسمعها ، فأن مخففة ، ومحل الجملة النصب على الحال ، أي : يُصر شبيهاً بغير السامع ، { فبشِّره } على إصراره واستكباره { بعذابٍ أليم } أي : أخبره خبر يظهر أثره على البشرة ، تهكُّماً به .
{ وإِذا عَلِمَ من آياتنا شيئاً } أي : إذا بلغه من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبّث بها المعاند ، ويجد له محملاً فاسداً يتوسل به إلى الطعن والمغمزة ، { اتخذها } أي : مهزوءاً بها ، لا ما يسمعه فقط ، وإنما لم يقل : اتخذه؛ للإشعار بأنه إذا أحسّ بشيء من الكلام فيه شيء بزعمه الركيك؛ لم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه ، بل يستهزئ بالجميع ، ويجوز أن يرجع الضمير ( لشيء ) لأنه في معنى الآية . { أولئك لهم } بسبب جناياتهم المذكورة { عذابٌ مُهين } وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله تعالى ، وجمع الإشارة باعتبار ما في { كل أفَّاك أثيم } من الشمول ، كما في قوله تعالى : { كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] ، وأفرد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحدٍ واحد ، { مِن ورائهم جهنمُ } أي : من قدّامهم ، لأنهم متوجهون إلى ما أعدّ لهم ، أو : مِن خلقهم؛ لأنهم معرضون عن ذلك ، مقبلون على الدنيا ، فإن الوراء : اسم للجهة التي يواريها الشخص من قدّام وخلف ، { ولا يُغني عنهم } لا يدفع عنهم { ما كسبوا } من الأموال والأولاد { شيئاً } من عذاب الله تعالى ، { ولا ما اتخذوا من دون الله أولياءَ } أي : الأصنام ، و " ما " مصدرية ، أو موصولة ، وتوسيط حرف النفي بين المعطوفين ينبئ أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً ، مبني على زعمهم الفاسد ، حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم { ولهم عذاب عظيم } لا يقادر قدره .
{ هذا } أي : القرآن { هُدىً } في غاية الكمال من الهداية ، كأنه نفس الهدى ، { والذين كفروا بآيات ربهم } أي : القرآن ، وإنما وضع موضع ضميره الآيات لزيادة تشنيع كفرهم وتفظيع حالهم ، { لهم عذابٌ من رِجْزٍ } من أشد العذاب { أليم } مؤلم ، بالرفع صفة " عذاب " ، وبالجر صفة " رِجز " ، وتنوين عذاب في المواضع الثلاثة للتخيم .
(6/8)

الإشارة : مَن لم يضبط لسانه وجوارحه ، وتصاممت آذانُ قلبه عن تدبُّر القرآن ، فالويل حاصل له ، ويُبَشَّر بالخيبة والخسران من مراتب أهل العرفان ، ومن ضبط أمور ظاهره بالتقوى ، وفتحت آذان قلبه لسماع كلام المولى ، فقد فَاز بعز الدارين . قال القشيري : فمَن استمع بسمع الفهم ، واستبصر بنور التوحيد ، فاز بذُخْر الدارين ، وتصدَّى لعز المنزلتين ، ومَن تصامم بحكم الغفلة ، وقع في وهدة الجهل ، ووُسِم بكى الهَجْر . ه .
قوله تعالى : { إذا علم من آياتنا شيئاً اتخذوها هزواً } قال القشيري : وقد يُكاشَفُ العبدُ من مواطن القلب بتعريفاتٍ لا يداخله فيها ريبٌ ، ولا يتخلله فيها شكٌّ فيما هو فيه من حاله ، فإذا استهان بها وقع في ذُلِّ الحجْبة ، وحجاب الفرقة وهوانها . ه . فإذا صفا القلب صار مرسى لتجلي الواردات الإلهية ، وهي آية من آياته ، فإذا تجلّى فيه شيء بأمر أو نهي فاستهان به وخالفه أدّبه الحق على ذلك ، إما في ظاهره ، وهو أخف ، أو في باطنه بالحجبة أو الفرقة ، ولقد سمعت شيخ شيخنا ، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه يقول : لي ثلاثون سنة ما خالفت قلبي في شيء إلا أدّبني الحق تعالى عليه . ه . أي : في ظاهره ، وذلك لغاية صفائه .
قوله تعالى : { من ورائهم جهنم . . } الآية ، لا عذاب أشد من الحجب بعد الإظهار ، والفرقة بعد الوصال ، وأنشدوا :
فَخَلِّ سَبِيلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ لِلبُكَا ... فَلَيسَ لأيَّام الصَّفاء رجوعُ
انظر القشيري .
(6/9)

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
يقول الحق جلّ جلاله : { اللّهُ الذي سخَّر لكم البحر } أي : ذلّله ، بأن جعله أملس السطح ، يطفو عليه ما فوقه ، ولا يمنع الغوص فيه ، لمَيَعَانه ، { لتجري الفلكُ فيه بأمره } بإذنه ، وأنتم راكبوها ، { ولتبتغوا من فضله } بالتجارة ، والغوص لابتغاء الحلية ، كاللؤلؤ والمرجان ، وكالصيد وغيرها ، { ولعلكم تشكرون } ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك ، { وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض } من الموجودات . بأن جعلها مداراً لمنافعهم .
قال القشيري : إذ ما من شيء من الأعيان الظاهرة ، إلا وللإنسان به انتفاع من وجوه ، فالسماء لها بناء ، والأرض لهم مِهاد ، وليتأمل العبدُ في كل شيء لو لم يكن ، أيّ خلل يرجع إلى الخلق؟ لولا الشمس كيف كانوا يتصرفون بالنهار؟ ولولا الليل ، كيف كانوا يسكنون؟ ولولا القمر هل كانوا يهتدون للحساب والآجال؟ وكذلك جميع المخلوقات . ه . وقوله : { جميعاً منه } حال ، وليس من التوكيد لعدم الضمير ، ولو كان توكيداً لقال : جميعه ثم التوكيد بجميع قليل ، فلا يحمل التنزيل عليه ، قاله في المغني . والمنفي كونه توكيداً اصطلاحياً ، فلا ينافي كونه حالاً مؤكدة في المعنى . { إِنَّ في ذلك } أي : فيما ذكر من الأمور العظام { للآياتٍ } عظيمة الشأن ، كثيرة العدد ، { لقوم يتفكرون } في بدائع صنعه تعالى ، فإنهم يقفون بذلك على جلائل نعمه تعالى ودقائقها ، ويُوفَّقون لشكرها .
الإشارة : { الله الذي سخَّر لكم بحر } التوحيد الخاص ، وهو تجلِّي عظمة الذات ، لتجري فلكُ الأفكار في تيار بحر الذات ونور الصفات ، فتراها تعوم تارة في أسرار الجبروت الأعلى ، وتارة في أنوار الملكوت الأدنى ، ولتبتغوا من فضل معرفته ، وزيادة الترقي في كشف الأسرار ، وهذا لمَن اتسع عليه فضاء الشهود ، وزاحت عنه حُجب الكائنات ، وأما مَن بقي مسجوناً فيها ، السماء تُظله ، والأرض تُقله ، فلا يطمع أن تسرَحَ فكرته في هذه البحار ، وحسبه أن يكون حَمّاراً يسافر في البَر ، تعبه كثير ، وربحه قليل ، والغناء به بعيد ، وسبب بقائه في تعب البر عدم صحبته للرجال البحرية ، الذين هم رُيَّاس البحر ، وشيوخ ركْب البر . وبالله التوفيق .
قال القشيري : { الله الذي سخر لكم البحر } تركبونه ، فربما تسْلَم السفينةُ ، وربما تغرق ، كذلك العبد في فلك الاعتصام في بحار التقدير ، تمشي بهم رياح العناية ، وترفع لهم شراع التوكُّل ، تجري في البحر لتَجْر اليقين ، فإن هبّت رياحُ السلامة نجت السفينة ، وإن هبّت نكباء الفتنة لم يبقَ بيد الملاّح شيء ، فعند ذلك المقادير غالبة ، وبلغت قلوبُ أهل السفينة الحناجرَ . ه . قلت : مَن ركب مع رائس ماهر؛ الغالب عليه السلامة .
قوله تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } في بعض الأثر : يقول الله تعالى : " يا ابن آدم؛ خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك لأجله " أي : لا تنشغل بخدمة الكون عن خدمة المكوّن ، فما أفلح مَن انشغل بدنياه ، وآثر هواه على خدمة مولاه ، كان حرّاً والأشياء كلها عبيد له ، فصار عبداً لعبيده ، بحبه للأشياء وتعشُّقه لها ، كانت الأشياء تعشقه وتخدمه ، ثم صار يخدم الأشياء ويعشقها ، أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شَهِدت المكوّن كانت الأكوان معك ، فاعرف قدرك أيها الإنسان ، وارفع همتك عن الأكوان ، وعلِّق قلبك بالملك الديّان ، يُعطك الحق تعالى من العرش إلى الفرش ، تتصرف فيه بهمتك كيف شئت ، وما ذلك على الله بعزيز .
(6/10)

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قلت : { يغفِروا } قيل : جواب الأمر المذكور ، أي : إن تقل يغفروا ، وقيل لأمر محذوف ، أي : قل لهم اغفروا يغفروا ، وقيل : حذف لام الأمر ، أي : ليغفروا ، وقرأ أبو جعفر : ( ليُجزي قوماً ) بالبناء للمفعول ، ونصب ( قوماً ) إما على نيابة المصدر ، أي : ليجزي الجزاء قوماً ، أو ليجزي الخيرُ قوماً ، فأضمر الخير؛ لدلالة الكلام عليه ، أو ناب الجار مع وجود المفعول به ، وهو قليل .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل للذين آمنوا يغفِروا للذين لا يرجون أيامَ الله } أي : يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون نِقَمه ووقائعه بأعدائه ، من قولهم : " أيام العرب " لوقائعها ، أو : لا يأمّلون الأوقات التي وقّتها الله تعالى لثواب المؤمنين ، ووعدهم بالفوز فيها . قيل : نزلت قبل آية القتال ثم نُسخت ، قال ابن عطية : ينبغي أن يقال : إن الأمور العظام ، كالقتل والكفر مجاهدة ونحو ذلك ، قد نَسخ غفرانَه آيةُ السيف والجزية ، وإن الأمور الحقيرة ، كالجفاءِ في القول ونحو ذلك ، يحتمل أن تبقى مُحكمة ، وأن يكون العفو عنها أقرب للتقوى . ه .
قيل : نزلت في عمر رضي الله عنه حين شتمه رجل من غفار ، فهَمَّ أن يبطشَ به ، فنزلت . وقيل : نزلت في ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في أذّى شديد من المشركين ، قبل أن يُؤمروا بالقتال ، فشكَوْا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا تكون الآية مكية . وقال ابن عباس : لما نزل : { مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] قال فنحاص : افتقر رَبُّ محمد ، فلما بلغ ذلك عُمر ، طلبه بالسيف؛ ليقتله ، فنزلت ، فوضع السيف ، وقال : والذي بعثك بالحق لا يُرى الغضب في وجهي . وقيل : في شأن أُبيّ ابن سلول ، رأس المنافقين ، لَمّا قال في غزوة المريسيع : ما مثلُنا ومثل هؤلاء - يعني المهاجرين - إلا كما قيل : سَمِّنْ كلبَك يأكلك ، فبلغ ذلك عمر ، فاشتمل السيف ، يريد التوجه إليه ، فنزلت . وعلى هذا تكون مدنية .
{ لِيَجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون } أي : إنما أُمروا أن يغفروا ليوفيهم جزاء مغفرتهم يوم القيامة . وتنكير ( قوم ) مدح لهم ، كأنه قيل : لِيَجزي قوماً - أيَّما قوم ، أو قوماً مخصوصين - بالصبر بسبب ما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة ، التي من جملتها الصبر على إذاية الكفار ، والإغضاء عنهم ، بكظم الغيظ ، واحتمال المكروه ، ما يقصر عنه البيان من الثواب العظيم ، ويجوز أن يُراد بالقوم : الكفرة ، وبما كانوا يكسبون : سيئاتهم ، التي من جملتها ما كانوا يؤذون به المسلمين .
{ من عَمِلَ صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } أي : لها الثواب وعليها العقاب ، لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ، { ثم إِلى ربكم تُرجعون } فيجازيكم على أعمالكم ، خيراً كان أو شرّاً .
الإشارة : مذهب الصوفية : العفو عمن ظلمهم ، والإحسان إلى مَن أساء إليهم؛ لأنهم رحمة للعباد ، ومقصدهم بذلك رضا الله ، لأن الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله .
(6/11)

قال اللجائي رضي الله عنه في شمائل الخصوص : قصد السادات بالعفو عمن ظلمهم ، ابتغاء مرضاة الله ، لا ابتغاء الثواب ، فإنه تعالى يحب العفو ، وتسمَّى به . ومقصدهم بالعفو أيضاً : قطع العداوة الحِقد عن الظالم ، وترك الانتصار منه ، بيدٍ أو لسان ، استعداداً منهم لسلامة الصدور . ومقصدهم أيضاً : زوال الذِّلة عن الظالم في موقف الحساب ، من أجل ما يطالَبُ به من الحقوق ، وهو ضرب من الشفقة على العبيد ، وهو مقام محمود ، فشأنهم رضا الله عنهم إذا حلّ بالعباد في الموقف بلاء ، أرادوا أن يكونوا للخلق فداء ، فهذا أدنى مقام في العفو . ه .
وفي الحديث : " إذا جمع الله الخلائقَ يوم القيامة ، نادى مناد : أين أهل الفضل ، فيقوم ناس ، وهم يَسير ، فينطلقون إلى الجنة سِراعاً ، فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إنَّا نراكم سراعاً؟ فيقولون : نحن أهل الفضل ، فيقولون : ما فضلُكُم؟ فيقولون : كنا إذا ظُلِمنا صَبَرْنا ، وإذا جُهلَ عينا حَلُمنا ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة : فنعم أجر العاملين " .
قال القشيري بعد كلام : فمَن أراد أن يعرف كيف يحفظ أولياءَه ، وكيف يُدمِّر أعداءَه ، فليصبرْ على أيامٍ قلائل ، ليعلم كيف صارت عواقبُهم ، مَن عمل صالحاً فله مَهْناه ، ومَن ارتكب سيئة قاسى بلواه ، ثم مرجعه إلى مولاه . ه .
(6/12)

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكْمَ } أي : الفصل بين العباد ، لأن الملك لم يزل فيهم حتى غيّروا ، أو : الحكمة النظرية والعملية والفقه في الدين ، { والنبوة } حيث كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثر في غيرهم . { ورزقناهم من الطيبات } ما أحلّ الله لهم من اللذائذ ، كالمن والسلوى ، وغيره من الأرزاق ، { وفضلناهم على العالَمين } على عالمي زمانهم .
{ وآتيناهم بيناتٍ من الأمر } دلائل ظاهرة من أمر الدين ، ومعجزات قاهرة . قال ابن عباس : هو العلم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وما بُيّن لهم من أمره ، وأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب ، ويكون أنصاره أهل يثرب ، { فَما اختلفوا } في ذلك الأمر { إِلا من بعد ما جاءهم العلمُ } بحقيقته وحقيّته ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً له ، { بغياً بينهم } أي : عداوة وحسداً ، حديث بينهم ، لا شك وقع لهم فيه ، { إِن ربك يقضي بينهم يوم القيامة } بالمؤاخذة والجزاء { فيما كانوا فيه يختلفون } من أمر الدين .
الإشارة : كانت بنو إسرائيل في أول أمرها متمسكة بكتاب ربها ، عاملة بما شرعت لها أنبياؤها ، فرفع الله بذلك قدرها ، حتى تحاسدوا ، وتهاجروا على الدنيا والرئاسة ، فأعقبهم الله ذل الأبد ، فهذه سُنَّة الله تعالى في عباده ، مَن تمسّك بالكتاب والسنّة ، وزهد في الدنيا ، وتواضع لعباد الله ، رفعه الله وأعزّه ، فإذا خرج عن هذا الوصف انعكس حاله إلى أسفل ، والعياذ بالله .
(6/13)

ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
يقول الحق جلّ جلاله : { ثم جعلناك } يا محمد بعد اختلاف أهل الكتاب ، { على شريعةٍ } على طريقة عظيمة الشأن ، ومنهاج واضح { من الأمر } الدين ، وأصل الشريعة في اللغة : مورد الماء ، أي : الطريق الموصلة إليه ، ثم جعل للطريق الموصلة إلى حياة القلوب والأرواح؛ لأن الماء به حياة الأشباح ، { فاتّبِعْها } بإجراء أحكامها في نفسك وفي غيرك ، من غير إخلال بشيء منها . قال ابن عرفة : الخطاب له عليه السلام ، والمراد غيره؛ لأنه معلوم الاتباع التام ، أو : دم على اتباعها . ه .
{ ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } أي : لا تتبع آراء الجهلة واعتقاداتهم الزائغة التابعة للشهوات ، وهم رؤساء قريش ، كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم : ارجع إلى دين آبائك . { إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً } مما أراد بك إن اتبعتهم ، أي : لن ينفعونك بدفع ما ينزل بك بدلاً من الله شيئاً إن اتبعت أهواءهم ، { وإِنَّ الظالمين بعضُهم أولياءُ بعضٍ } فلا يُواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا مَن كان ظالماً مثلهم ، { والله وليّ المتقين } أي : ناصر المتقين ، الذين أنت قدوتهم ، فدمْ على ما أنت عليه من توليته خاصةً ، والإعراض عما سواه بالكلية .
{ هذا بصائرُ للناس } أي : هذا القرآن واتباع الشريعة بصائر لقلوب الناس ، كما جُعل روحاً وحياة لها ، فإنَّ مَن تمسك بالكتاب والسنّة ، وأمعن فيها النظر ، وعمل بمقتضاهما ، فُتحت بصيرته ، وحيي قلبُه ، { وهُدىً } من الضلالة { ورحمةٌ } من العذاب { لقوم يوقون } لمَن كَمُلَ إيمانه وإيقانه بالأمور الغيبية .
الإشارة : الشريعة لها ظاهر وباطن ، وهو لُبها وخالصها ، فالعامة أخذوا بظاهرها ، فأخذوا بكل ما يُبيحه ظاهرالشريعة من الرخص والسهولة ، ولا نظر عندهم لقلوبهم من النقص والزيادة ، والخاصة أخذوا بباطنها ، فأخذوا منها بالمُهم ، وتركوا كل ما يَفتنهم أو ينقص من نور إيقانهم ، فوصلوا بذلك إلى حضرة ربهم ، فيقال للمريد : ثم جعلناك على طريقة واضحة من أمر الخاصة ، فاتبعها ، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ما يزيد في قلوبهم وما ينقص . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً إن أبعدك بميلك إليهم واتباع أغراضهم .
قال القشيري : { إنهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً } إن أراد بك نعمة ، فلا يمنعُها أحد ، وإن أراد بك فتنة فلا يصرفها عنك أحد ، فلا تُعلِّقْ بمخلوقٍ فكرك ، ولا توجه ضميرك إلى شيء ، وثِقْ به ، وتوكلْ عليه . ه . وأهل الغفلة بعضهم أولياء بعض ، يتوالون على حظوظ الدنيا وشهواتها ، { والله وليُّ المتقين } الذي اتقوا كل ما يشغل عن الله ، { هذا بصائر للناس } أي : سبب فتح بصائرهم ، { وهُدى } أي : إشارة لطريق الوصول ، ورحمة للأرواح والقلوب ، لقوم يوقنون ، أي : لأهل اليقين الكبير .
قال القشيري : { هذا بصائرُ للناس } أنوار البصيرة إذا تلألأت انكشفت دونهما تهمةُ التجويز ، ونظرُ الناس على مراتب ، مَن نظر بنور نجومه ، فهو صاحب عقل ، ومَن نظر بنور فراسته فهو صاحب ظن ، يُقَوِّيه لوْحُ ، لكنه من وراء ستر ، ومَن نظر بيقين فهو على تحكُّم برهان ، ومَن نظر بعين إيمان فهو بوصف اتباع ، ومَن نظر بنور بصيرة ، فهو على نهار ، وشمسه طالعة ، وشمسه عن السحاب مصيحة . ه .
(6/14)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قلت : { أم } : منقطعة ، والهمزة لإنكار الحسبان ، مَن قرأ " سواء " بالرفع؛ فخبر مقدّم ، و { محياهم } : مبتدأ ، ومَن قرأ بالنصب؛ فحال من ضمير الظرف ، أي : كائنين كالذين آمنوا ، حال كونهم مستوياً محياهم ومماتهم ، و " محياهم " - حينئذ - فاعل بسواء ، وقرأ الأعمش : " ومماتهم " بالنصب على الظرفية .
يقول الحق جلّ جلاله : { أم حَسِبَ الذين اجْتَرحوا } اكتسبوا { السيئات } من الكفر والمعاصي ، وسميت الأعضاء جوارح؛ لاكتسابها الخير والشر ، ويقال : فلان جارحة أهله؛ أي : كاسبهم ، أي : أظنُّوا أن نصيِّرهم { كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهم فيما هم فيه من محاسن الأعمال ، ونعاملهم معاملتهم في رفع الدرجات ، أي : حتى يكونوا { سواءً } في { محياهم ومماتهم } كلاَّ ، بل نجعل أهل الإيمان في محياهم ومماتهم متنعمين بطاعة مولاهم ، مطمئنين به ، يَحيون حياة طيبة ، ويموتون موتة حسنة ، وفي مماتهم مكرمين بلقاء مولاهم ، في روح وريحان ، وجنات نعيم ، ونجعل أهل الكفر والعصيان في محياهم في ذُلّ المعصية ، وكد الحرص وكدر العيش ، وفي الممات في ضيق العذاب الخالد ، { ساء ما يحكمون } أي : ساء حكمهم هذا ، أو : بئس شيئاً حكموا به .
قال النسفي : والمعنى إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ومماتاً؛ لافتراق أحوالهم أحياء ، حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات ، وأولئك على اقتراف السيئات ، ومماتاً حيث مات هؤلاء على البشرى بالرحمة والكرامة ، وأولئك على اليأس من الرحمة والندامة . وقيل : معناه : إنكار أن يستووا في الممات ، كما استووا في الحياة في الرزق والصحة . ساء ما يحكمون ، فليس مَن أُقْعِدَ على بساط الموافقة ، كمَن أُبعد في مقام المخالفة ، بل تفرّق بينهم ، فنعلي المؤمنين ، ونخزي الكافرين . ه .
وسبب نزول الآية : افتخار وقع للكفار على المؤمنين ، قالوا : لئن كانت آخرة كما تزعمون لنفضلن فيها كما فضلنا في الدنيا ، فردّ الله عليهم ، وأبطل أمنيتهم .
{ وخلق اللّهُ السماوات والأرض بالحق } لتدل على قدرته على البعث وغيره ، قال البيضاوي : كأنه دليل على الحُكم السابق ، من حيث إن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل ، يقتضي انتصار المظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المحسن والمسيء ، إذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات . ه . { ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ } عطف على هذه العلة المحذوفة ، أي : لتدل ولتُجزى ، أو على " بالحق " لأن فيه معنى التعليل؛ إذ معناه : خلقها مقرونة بالحكمة والصواب ، دون العبث ولتُجزى . . . الخ ، أو : ليعدل وتُجزى كل نفس بما كسبت ، { وهم } أي : النفوس ، المدلول عليها بكل نفس { لا يُظلمون } بنقص الثواب أو زيادة عقاب .
الإشارة : أم حَسِبَ الذين ماتوا على دنس الإصرار ، أن نجعلهم كالمطهرين الأبرار أم حسب الذين عاشوا في البطالة والتقصير أن نجعلهم كالذين عاشوا في الجد والتشمير؟ " أم حَسِبَ الذين عاشوا في غم الحجاب ، وصاروا إلى سوء الحساب ، أن نجعلهم كالذين تهذّبوا حتى ارتفع عنهم الحجاب ، وصاروا إلى غاية الكرامة والاقتراب؟ لا استواء بينهم في المحيا ولا في الممات ، الأولون عاشوا معيشة ضنكاً ، وصاروا بعد الموت إلى الندامة والحسرة ، والآخرون عاشوا عيشة راضية ، وماتوا موتة طيبة ، وصاروا إلى كرامة أبدية ، ولهذا بكت الأكابرُ عند قراءتها ، فَرُويَ عن تميم الداري : أنه كان يُصلي ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويرددها إلى الصباح .
(6/15)

وعن الفُضيل : أنه بلغها ، فجعل يبكي ، ويقول : يا فضيل! ليت شعري من أيّ الفريقين أنت؟ وعن الربيع بن خيثم : أنه قام يصلي ليلة ، فمرّ بهذه الآية ، فمكث ليلةً حتى أصبح يبكي بكاءً شديداً ، وكانت تُسمى مَبْكاة العابدين .
(6/16)

أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتَ مَن اتخذ إِلهَهُ هواه } أي : أباح لنفسه كل ما تهواه ، سواء كان مباحاً أو غير مباح ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه ، وإليه أشار في المباحث بقوله :
ومَن أباح النفس ما تهواه ... فإنما معبوده هواه
فالآية وإن نزلت في هوى الكفر؛ فهي متناولة لكل هوى النفس الأمَّارة ، قال ابن جبير : نزلت في قريش والعرب ، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن أَلْقَوه وعبدوا غيره . ه . ومتابعة الهوى كلها مذمومة ، فإن كان ما هوته مُحرّماً أفضى بصاحبه إلى العقاب ، وإن كان مباحاً بقي صاحبه في غم الحجاب وسوء الحساب ، وأسْرِ نفسه وكدِّ طبعه . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " ما عُبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من هوى " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ مهلكات؛ شحٌّ مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجابُ المرء بنفسه " وقال أيضاً : " الكيِّسُ مَن دان نفسه ، وعَمِلَ لما بعد الموت ، والعاجز مَن أَتبع نفسَه هواها ، وتمنَّى على الله " ، وسيأتي في الإشارة تمامه .
ثم قال تعالى : { وأضلَّه اللّهُ على علم } أي : خذله على علم منه ، باختياره الضلالة ، أي : عالماً بضلاله ، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها . وقيل : نزلت في أمية بن أبي الصلت ، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة ، فكان ينتظر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما ظهر ، قال : ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف ، وأشعاره محشوة بالتوحيد ، ولكن سبق له الشقاء ، فلم يؤمن ، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه ، فلا يعتقد حقاً أي : لا يتأثر بالمواعظ ، ولا يتكفّر في الآيات والنُذر . { وجَعَلَ على بصره غشاوةً } أي : ظلمة مانعة نم الاعتبار والاستبصار ، { فمَن يهديه من بعدِ الله } من بعد إضلال الله إياه؟ { أفلا تَذَكَّرون } أفلا تتعظون ، فتُسلمون الأمور إلى مولاها ، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء .
الإشارة : حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس ، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة ، ويجري ذلك في المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، والجاه ، ورفع المنزلة ، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله ، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمنُ أحدكُم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به " فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه ، ولو كان طاعة ، كما قال البوصيري رضي الله عنه :
ورَاعِها وهي في الأعمالِ سائمة ... وإن هي استحْلت المرعى فلا تُسِمِ
فإنَّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة ، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة ، وكذلك الركون إلى الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها؛ من مقام العيان ، فلا يزل المريد يُجاهد نفسه ، ويرحلها عن هذه الحظوظ ، حتى تتمحّض محبتها في الحق تعالى ، فلا يشتهي إلا شهود ذاته الأقدس ، أو ما يقضيه عليه ، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبقَ له مجاهدة ولا رياضة ، وكان ملكاً حرّاً ، فيقال له حينئذ :
(6/17)

لك الدهر طوع ، والأنام عبيد ... فعش ، كل يوم من أيامك عيد
وطريق السير في هذا أن يُساس نفسه شيئاً فشيئاً ، يمنعها من المكروهات ، ثم من المباحات شيئاً فشيئاً ، حتى تستأنس ، يترك شهوة ثم أخرى ، وهكذا ، وأما لو منعها الكل دفعة واحدة فربما تمل وتسقط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا يكن أحدكم كالمُنبت ، لا أرضاً قَطَع ، ولا ظهراً أبقى " وإلى هذا أشار في المباحث ، حيث قال :
واحتلْ على النفس فرب حيلهْ ... أنفع في النصرة من قبيلهْ
وأعظم الحظوظ حُب الجاه والتقدُّم ، فلا يسامحها المريد في شيء من ذلك قط ، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات ، وأما شهوة البطن والفرج ، فما تشوّفت إليه النفس من ذلك فليمنعها منها كليّاً ، وما أتاها من غير حرص ولا تشوُّف فليأخذ منه قدر الحاجة ، مع الشكر عيله ، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله ، ويتمكن من معرفة الحق ، وحينئذ فلا كلام معه ، كما تقدّم ، ولا بد من صُحبة شيخ عارف كامل ، يلقيه زمام نفسه ، فيحمله بهمته ، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلاً ، وجَرَّب ففي التجريب علم الحقائق .
قال القشيري : مَن لم يَسْلك سبيلَ الاتباع ، ولم يستوفِ أحكام الرياضة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤدبَه إمامٌ مُقتدًى به ، فهو ينحرفُ في كل وَهْدةٍ ، ويهيمُ في كل ضلالة ، ويضلُّ في كل فجٍّ ، خسرانه أكثر من ربحه ، ونقصانه أوفر من رجحانه ، أولئك في ضلال بعيد ، زِمامُهم بيد هواهم ، أولئك أهل المكر ، استْتُدرِجُوا وما يشعرون . ه . وفي الحِكَم : " لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليك " . فمَن غَلَبَه الهوى غَلَبَه الوجود بأسره ، وتصرّف فيه ، أحبّ أم كَرِهَ ، ومَن غلب هواه غلب الوجودَ بأسره ، وتصرّف فيه بهمته كيف شاء .
حكي عن أبي عمران الواسطي ، قال : انكسرت بنا السفينة ، فبقيت أنا وامرأتي على ألواح ، وقد وَلَدَتْ في تلك الليلة صبية ، فصاحت بي ، وقالت : يقتلني العطش ، فقتل : هو ذا يرى حالنا ، فرفعتُ رأسي ، فإذا رجل جالس في يده سلسلة من ذهب ، فيها كوز من ياقوت أحمر ، فقال : هاك اشربا ، فأخذتُ الكوز ، فشربنا ، فإذا هو أطيب من المسك ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، فقلتُ : مَن أنتَ؟ فقال : أنا عبد لمولاك ، فقلت : بِمَ وصلتَ إلى هذا؟ فقال : تركت هواي لمرضاته ، فأجلسني في الهواء ، ثم غاب ولم أره . ه . وقال سهل رضي الله عنه : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وقال وهب : إذا عرض لك أمران وشككت في خيرهما ، فانظر أبعدهما من هواك فأته .
(6/18)

ه . ومثله في الحِكَم : " إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النفس ، فاتبعه ، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقاً " . فالعز كله في مخالفة الهوى والذل والهوان كله في متابعة الهوى ، فنُونُ الهوان سُرقت من الهوى ، كما قال الشاعر :
نونُ الهوانِ من الهوَى مسروقةٌ ... وأسيرُ كل هوى أسير هوان
وقال آخر :
إن الهوَى لهو الهوانُ بعينه ... فإذا هوَيْتَ فقد لَقِيتَ هَوانَا
وإذا هَوِيتَ فقد تعبَّدكَ الهوَى ... فاخضعْ لحِبّك كائناً مَنْ كانا
وقال ابن المبارك :
ومن البلاءِ للبلاءِ علامةٌ ... ألاّ يُرى لك عن هَوَاكَ نُزُوعُ
العبدُ أعنَى النفسَ في شهواتها ... والحرُّ يَشبَعُ تارةً ويجوعُ
ولابن دُريد :
إذا طالبتك النفسُ يوماً بشهوةٍ ... وكان إليها للخلافِ طريقُ
فدعْها وخالِفْ ما هويتَ فإنما ... هَواك عدوٌ والخلاف صديقُ
وقال أبو عُبيد الطوسي :
والنفسً إن أعطيتها مُنَاها ... فاغِرَةٌ نحوَ هواها فَاهَا
هذا ، وللآية إشارة أخرى ، رُويت عن بعض مشايخنا ، قال : يمكن أن تكون الآية مدحاً ، يقول تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه } وهو الله تعالى ، ومحبوبَه وهواه ، لا يهوى معه غيره ، وأضله الله ، في محبته ، على علم منه بالله ، وختم على سمعه وقلبه وبمحبته ، فلا يسمع إلا منه ، ولا يُحب غيره ، وجعل على بصره غشاوة ، فلا يرى سواه ، فمَن يهديه هذه الهداية العظمى من بعد الله ، وهذا يُسلّم في طريق الإشارة ، لأنها خارجة عن سياق العبارة ، وللقرآن أسرار باطنة ، يعرفها أهل الباطن فقط ، فسلِّم تَسْلَمْ .
(6/19)

وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقالوا } من غاية غيهم وضلالهم : { ما هيَ } أي : ما الحياة؛ لأنهم وُعِدُوا حياة ثانية ، { إِلا حياتُنا الدنيا } التي نحن فيها ، { نموت ونحيا } أي : يُصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، أو : نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا ، أو : يموت بعض ويحيا بعض ، أو : نكون مواتاً نطفاً في الأصلاب ، ونحيا بعد ذلك . وقيل : هذا كلام مَن يقول بالتناسخ ، فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان ، أي : يموت الرجل ، ثم تجعل روحه في شبح آخر ، فيحيا به ، وهو باطل عند أهل الإسلام ، ثم قالوا : { وما يُهكنا إِلا الدهرُ } إلا مرور الزمان وهو في الأصل : مدة بقاء العالم ، من : دهَرهُ : إذا غَلَبه ، وكانوا يزعمون أن مرور الزمان بالليالي والأيام هو المؤثِّر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت ، وقبضه الأرواحَ بأمر الله تعالى ، وكانوا يُضيفون كلَّ حادثة تحدثُ إلى الدهر والزمان ، كما قال شاعرهم :
أَشَابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ ... كَرُّ الغداة ومرُّ العشيِّ
ومنه قول تُبع الأكبر ، أو غيره :
منع البقاءَ تَغرُّبُ الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعُها بيضاءَ صافيةً ... وغروبُها صفراءَ كالورْسِ
تجري على كبِد السماء كما ... يجري حِمام الموت بالنفْسِ
اليومَ أعلم ما يجيء به ... ومضى بفصل قضائه أمسِ
فإن كان تُبَّعاً المتقدم؛ فنسبة الفعل إلى الدهر مجاز ، كما سيأتي ، وعقيدة الموحدين ألاَّ فاعل إلا الله ، فالدهر مُسخّر بأمر الله وقدرته ، بل هو من أسرار الله وأنوار صفاته ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لا تسبُّوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " وقال صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعال : يُؤذيني ابنُ آدم ، يَسُبُّ الدَّهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقلّب الليلَ والنهارَ " فالأمور كلها بيد الله ، والدهر إنما هو مظهر لعجائب القدرةن كما قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه :
يا عاتبَ الدهر إذا نابَه ... لا تَلُمِ الدهرَ على غَدْرِهِ
الدهرُ مأمورٌ له آمر ... قد انتهى الدهر إلى أمره
كم كافر أمواله جَمَّةٌ ... تزداد أضعافاً على كفرِهِ؟
ومؤمنٍ ليس له دِرهمٌ ... يزداد إيماناً على فقرهِ؟
وقد ينسب أهل التوحيد الفعلَ إلى الدهر مجازاً ، تغزُّلاً ، في أشعارهم ، كما قال عبد الملك بن مروان ، حين ضعف حالُه :
فاستأثر الدهر الغداة بهم ... والدهر يرميني وما أَرْمي
يا دهر قد أكثرت فَجعتنا ... بِسَراتنا وقرت في العَظْمِ
وتركتنا لحماً على وَضَمٍ ... لو كنت تستبقي من اللحم!!
وسلبتنا ما لستَ تُعقبنا ... يا دهرُ ما أنصفتَ في الحُكمِ!!
قال تعالى : { وما لهم بذلك من علم } أي : ليس لهم بما ذكر من اقتصار الحياة على ما في الدنيا ، وإسناد التأثير إلى الدهر ، { من علم } يستند إلى عقل ولا نقل ، { إِن هم إِلا يظنون } ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد ، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم .
(6/20)

{ وإِذا تُتلى عليهم آياتنا } الناطقة بالحق ، الذي من جملته البعث ، { بيناتٍ } واضحات الدلالة على ما نطقت به ، أو مبينات له ، { ما كان حُجَّتَهم } ما كان متمسكاً لهم شيء من الأشياء ، { إِلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين } في أنَّا نُبعث بعد الموت أي : لا شبهة لهم إلا هذا القول الباطل ، الذي يستحيل أن يكون من قبيل الحُجة ، أي : ليس لهم حُجة إلا العناد والاستبعاد . وتسميته حُجة إما لسوقهم إياه مساق الحُجة في زعمهم ، أو تهكماً بهم ، كقول القائل : " تحية بينهم ضرب وجيع " . قال ابن عرفة : { وإذا تتلى عليهم . . . } الآية ، أي : إنهم مع كونهم ظانين فَهُم بحيث لو استدل لهم لما ازدادوا إلا ضلالاً ، وقد تقرّر في علم الجدل أن المصمم على الشيء يصعب نقله عنه ، بخلاف الظان والشك ، فأتت هذه الآية نفياً لما يتوهم في هؤلاء أنهم حيث لا يقين عندهم يسهل رجوعهم ، حين تظهر الحجة . ه . ومَن نَصَبَ " حجتهم " فخبر كان ، ومَن رفعه فاسمها .
الإشارة : قال القشيري : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا . . . } الآية ، اغترُّوا بما وجدوا عليه خَلَفَهم ، وأَرْخوا في البهيمية عَنَانهم وعُمْرَهم ، وأغفوا عن ذكر الفكرة قلوبَهم ، فلا بالعلم استبصروا ، ولا من الحقائق استمدوا ، رأسُ مالهم الظن ، وهم غافلون ، وإذا تتلى عليهم الآيات طلبوا إحياء موتاهم ، وسوف يرون ما استبعدوا . ه .
(6/21)

قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
قلت : { ويوم } : منصوب بيَخْسَر ، و " يومئذٍ " بدل منه ، و " كل أُمةٍ تُدْعَى " : مبتدأ وخبر ، ومن نصب فبدل من " كل أمة " ، { والساعة لا ريب فيها } ؛ مَن رفعها فمبتدأ ، ومَن نصبها فعطف على { وعد الله } .
يقول الحق جلّ جلاله : { قل الله يُحييكم } في الدنيا { ثم يُميتكم } عند انقضاء أعماركم ، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر ، { ثم يجمعكم } بعد الموت { إِلى يوم القيامة } للجزاء ، { لا ريبَ فيه } أي : في جمعكم؛ فإنّ مَن قدر على البدء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة ، وتأخيره ليوم معلوم ، والردّ لآبائهم كما اقترحوا ، حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية ، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ ، { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون } قدرة الله على البعث ، وحكمة إمهاله ، لإعراضهم عن التفكُّر بالانهماك في الغفلة ، وهو استدراك من قوله : { لا ريب } إما من تمام الكلام المأمور به ، أو مستأنف من جهته تعالى ، تحقيقاً للحق ، وتنبيهاً على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم في التفكُّر والنظر ، لا لأن فيه شائبة ريبٍ ما .
{ ولله ملكُ السماوات والأرض } أي : له التصرُّف فيما وفيما بينهما ، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق بالله ، إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة ، والبعث والجمع والجزاء ، وكأنه دليل لِما قبله ، { ويوم تقوم الساعةُ يومئذ يَخْسَرُ المبطلون } الداخلون في الباطل ، وهو الكفر ، { وترى كُلَّ أمةٍ } من الأمم المجموعة { جاثيةً } باركة على الركب ، مستوفزة من هول ذلك اليوم ، يقال : جثا فلان يجثو : إذا جلس على ركبتيه ، قال سلمان رضي الله عنه : في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يخرّ الناسُ فيها جثاةً على ركبهم ، حتى إن إبراهيم ينادي : نفسي نفسي . ه . ورُوي : أن جهنم حين يؤمر بها أن تُساق إلى الموقف ، تنفلت من أيدي الزبانية ، حتى تهم أن تأتي على أهل الموقف جميعاً ، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان ، فيجثو الكل على الركب ، حتى المرسلين ، وكل واحد يقول : نفسي نفسي ، لا أسألك اليوم غيرها ، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : " أمتي أمتي " نقله الغزالي ، وعن ابن عباس : جاثية ، مجتمعة ، وقيل : جماعات ، من : الجثوة ، وهي الجماعة .
{ كُلُّ أمةٍ تُدْعَى إِلى كتابها } صحيفة أعمالها ، والمراد الجنس ، أي : صحائف أعمالها ، { اليوم تُجْزَون ما كنتم تعملون } في الدنيا ، ثم يُقال لهم : { هذا كِتَابُنا } أضيف الكتاب إليهم أولاً؛ لملابسته إياهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وإلى الله ثانياً؛ لأنه مالكه ، والآمِرُ للملائكة بكَتْبِه ، وأضيف لنون العظمة تفخيماً لشأنه ، وتهويلاً لأمره ، { ينطق عليكم بالحق } يشهد عليكم ملتبساً بالحق ، من غير زيادة ولا نقصان ، { إِنا كنا نَسْتنسخ } أي : نستكتب ونطلب نسخ { ما كنتم تعملون } في الدنيا ، من الأعمال ، حسنة أو سيئة ، وقال ابن عزيز : نستنسخ : نثبت ، ويقال : نستنسخ : نأخذ نسخته ، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان ، صغيره وكبيره ، فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللغو ، وروي عن ابن عباس وغيره حديثاً :
(6/22)

" أن الله يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس ، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة ، كل ما هو مُعَدّ أن يكون له ثواب وعقاب ، ويلقى الباقي " ، فهذا هو النسخ من أصل .
وقيل : المراد بكتابنا : اللوح المحفوظ . قال صلى الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله القلم من نور مسيرة خمسمائة عام ، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام ، فقال للقلم : اجر : فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ، برها وفاجرها ، ورطبها ويابسها " ثم قرأ : { هذا كتابنا ينطق . . } الآية ، فيُروى " أن الملائكة تصعد كل يوم إلى الملك الموكل باللوح ، فيقولون : أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم ، فينسخُ من اللوح عمله ذلك اليوم ، ويعطيه إياهم ، فإذا انقضى أجله ، قال لهم : لا نجد لصاحبكم عملاً بقي له ، فيعلمون أنه انقضى أجله " .
ثم فصّل أحوال أهل الموقف ، فقال : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيُدخلهم ربُّهم في رحمته } ، أي : جنته { ذلك هو الفوزُ المبين } الظاهر ، الذي لا فوز وراءه ، { وأما الذين كفروا } فيُقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم } أي : ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه ، ثقةً ، بقرينة الكلام ، { فاستكبرتم } عن الإيمان بها ، { وكنتم قوماً مجرمين } أي : قوماً عادتكم الإجرام .
{ وإِذا قيل إِنَّ وعد الله } أي : وكنتم إذا قيل لكم : إن وعد الله بالجزاء { حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها } أي : في وقوعها { قلتم ما ندري ما الساعةُ } أيّ شيء هي الساعة ، استهزاء بها ، { إِن نظنُّ إِلا ظناً } أصله : نظن ظناً ، ومعناه : إثبات الظن ، فحسب ، فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفس ما سواه . وقال المبرد : أصله : إن نحن إلا نَظُن ظناً ، وإنما أوَّله؛ لأنه لا يصح التفريع في المصدر المؤكد ، لعدم حصول الفائدة ، إذ لا معنى لقولك : لا نضرب إلا ضرباً ، وجوابه : إن المصدر نوعي لا مؤكد ، أي : ظناً حقيراً ضعيفاً . وفي الآية اللف والنشر المعكوس . فقوله : { قلتم ما ندري ما الساعة } راجع لقوله : { والساعة لا ريب فيها } ، وقوله : { إن نظن إلا ظناً } راجع لقوله : { إن وعد الله حق } ، وكذا قوله : { وما نحن بمستيقنين } أي : لا يقين عندنا ، وهو راجع لقوله { إن وعد الله حق } . قاله ابن عرفة . ولعل هؤلاء غير القائلين : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } والله أعلم .
الإشارة : قل الله يُحييكم الحياةَ الفانية ، ثم يُميتكم عن حظوظكم ، وعن شهود وجودكم ، ثم يجمعكم به إلى يوم القيامة ، لا يعزلكم عن رؤيته أبداً ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن هذا يقع في الدنيا ، مع أن المُلك لله يتصرف فيه كيف شاء ، يُوصِّل مَن أراد ، ويُبعد مَن شاء .
(6/23)

ويوم تقوم الساعة يخسر الباطلون والمبطلون ، ويفوز المجتهدون والواصلون . وترى كُلَّ أمة جاثية من هيبة المتجلِّي باسمه القهّار ، وهذذ القهرية - نعم - لا ينجو منها خاص ولا عام؛ لأن الطبع البشري يثبت عند صدمات الجلال . وقوله تعالى : { كل أمة تُدعى إلى كتابها } هو أيضاً عام ، فيستبشر المجتهدون ، ويحزن الباطلون ، ولا يظلم ربك أحداً ، فاليوم يوم عمل ، وغداً يوم جزاء ، فأهل الإيقان يفوزون بغاية النعيم والرضوان ، وأهل الشك يخلدون في الخسران ، فيظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون .
(6/24)

وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
يقول الحق جلّ جلاله : { وبدا لهم } أي : ظهر لهؤلاء الكفرة { سيئاتُ ما عملوا } قبائح أعمالهم على ما هي عليه من الصورة المنكرة الهائلة ، وعاينوا وخامة عاقبتها ، أو : جزاؤها ، فإن جزاء السيئة سيئة مثلها ، { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي : نزل بهم جزاء استهزائهم من العقاب العظيم ، { وقيل اليومَ ننساكم } نترككم ترك المنسي ، { كما نسيتم } في الدنيا { لقاءَ يومكم هذا } أي : كما تركتم الاستعداد له ، ولم تبالوا به . وإضافة اللقاء إلي اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه ، أي : لقاء الله في يومكم هذا ، أو لقاء جزائه ، { ومأواكم النارُ } أي : منزلكم ، { وما لكم من ناصرين } لا أحد يمنعكم أو يخلصكم منها .
{ ذلكم } العذاب { بأنكم } بسبب أنكم { اتخذتم آياتِ الله } المنزَّلة { هُزواً } مهزوّاً بها ، ولم ترفعوا لها رأساً ، { وغرتكم الحياةُ الدنيا } وأَلْهتكم زخارفُ الدنيا ، فحسبتم ألاّ حياة بعدها ، { فاليومَ لا يُخرجون منها } أي : من النار ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، استهانة بهم . وقرأ الأَخوان بالخطاب . { ولا هم يُستعتبون } أي : لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم ، أي : يرضوه بعمل صالح؛ لفوات إبانه ، وإن طلبوا الرجوع لم يقبل منهم .
{ فللّه الحمدُ } خاصة ، { ربّ السماوات وَربّ الأرض ربّ العالمين } فلا يستحق الحمد أحد سواه ، أي : فاحمدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء ، فإن مثل هذه الربوبية العامة ، توجب الحمد والثناء على كل مربوب ، وتكرير الرب للتأكيد والإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل منهما بطريق الأصالة . { وله الكبرياءُ في السماوات والأرض } أي : وكبّروه ، فقد ظهرت آثار كبريائه وعظمته في السموات والأرض ، وإظهارهما في موضع الإضمار لتخفيم شأن الكبرياء ، { وهو العزيزُ } الذي لا يُغلَب ، { الحكيم } في كل ما قضى وقدّر ، فاحمدوه وكبّروه ، وأطيعوه ، فصاحب هذه الصفات العظام مستحق لذلك .
الإشارة : وقيل اليوم ننساكم من شهود قُربى ، كما نسيتم لقاء يومكم هذا ، فلو ذكرتموني على الدوام لقربتكم على الدوام ، ولو ذكرتموني على الانفراد لأشهدتكم ذاتي على التماد ، ولكنكم اتخذتم آيات الله الدالة على وجودي من الكائنات ، والدالة على شهودي من الأولياء ، هزواً ، وغرتكم الحياة الدنيا ، فاليوم لا يخرجون من غم الحجاب ، ولا يُمنعون من انسداله ، ولا هم يرضون ربهم ، فيرضى عنهم ، فللّه الحمد على غناه عن الكل ، وله الكبرياء في السموات والأرض ، أي : رداء الكبرياء منشور على أسرار ذاته في السموات والأرض ، وهو ما ظهر من حسها ، كما هو منشور على وجهه في جنة عدن ، كما في الحديث .
وقال الورتجبي : نفى الحق الكبرياء عن الحدثان؛ لأنه هو المستحق للكبرياء ، وكبرياؤه ظاهر في كل ذرة ، من العرش إلى الثرى ، إذ هي كلها مستغرقة مقهورة في أنوار كبريائه ، يعز بعزه الأولياء ، ويقهر بقهره الأعداء ، حكيم في إبداع الخلق وإلزامهم عبوديته ، التي هي شرائعه المحكمة بحكمه ، وقال سهل رضي الله عنه : وله الكبرياء : العلو والقدرة والعظمة ، والحول والقوة في جميع الملك ، فمَن اعتصم به أيّده بحَوْلِه وقوته ، ومَن اعتمد على نفسه وكله الله إليها . ه . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/25)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
يقول الحق جلّ جلاله : { حم} يا محمد ، أو : الوحي إلى محمد ، { تنزيلُ الكتاب من الله } أي : هذا تنزيل القرآن ، وهو من الله { العزيزِ الحكيم } فمَن حفظه ، وعرف ما فيه ، وعمل بمضمنه كان عزيزراً على الله ، حكيماً فيما يبدئ ويعيد . { ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما } من المخلوقات { إِلا بالحق } أي : إلا ملتبساً بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية ، فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أو من أعم الأحوال ، أي : ما خلقناهما في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق ، وفيه من الدلالة على وجود الصانع ، وصفات كماله ، وابتناء أفعاله على حكمة بالغة ، ما لا يخفى ، { وأجل مُسمىً } تنتهي إليه ، وهو يوم القيامة ، يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات ، { والذين كفروا عما أُنذروا } به من هول ذلك اليوم ، الذي لا بُد لكل مخلوق من الانتهاء إليه ، { مُعرِضُون } لا يؤمنون به ، ولا يهتمُّون بالاستعداد له ، ويجوز أن تكون " ما " مصدرية ، أي : عن إنذارهم ذلك اليوم معرضون .
وحاصل افتتاح السورة : أنّ الوحي الخاص إلى محمد هو منزل من الله العزيز ، الذي عَزَّ عن الافتراء عليه ، وأعزَّ بالوحي مَن تمسّك به ، الحكيم في تنزيله وحيه ، مرشداً لعباده لِمَا فيه صلاحهم وهداهم ، ومن حكمته : أنّ خلق السموات والأرض دالاًّ بذلك على توحيده ، وكماله في أوصافه وتدابيره ، المقتضية لترتُّب دار الجزاء على دار العمل ، بحيث لا يُسَوِّي بين مبطل ومحق ، فأرشد بخلق الأشياء إلى حكمته دلالة ، ثم بإنزال الوحي بذلك قالة ، ومع وضوح الأمر في دلالتهما أعرض الذين كفروا من غير دليل عقلي ولا نقلي متواتر ولا آحاد ، على أنَّ ما اقتضاه الوحي إلى محمد من التوحيد ، والجزاء المرتب على الإخلاص له ، والصدق في عبودية الله ، والدعاء إلى محاسن الأخلاق ، مما اجتمعت عليه الرسل قبله ، فليس بمدع مِن عنده . ه . من الحاشية .
الإشارة : { حم} يا حبيب ممجد ، قد مجدناك بإنزال كتابنا ، وعززناك برسالتنا ، ما خلقنا الكائنات إلا ملتبسة بأسرار الحق ، وأهل الغفلة معرضون عن هذا .
قال القشيري : حَمَيْتُ قلوبَ أهل عنايتي ، فصرفتُ عنها خواطر التجويز ، ورميتها في مشاهد اليقين بنور التحقيق ، فيها شواهد برهانهم ، أي : برهان العيان - فأضفنا إليها لطائف إحساننا ، فكملت مَنالها من عين الوصلة ، وغديناهم بنسيم الأنس في ساحات القربة . { العزيز } المعز للمؤمنين بإنزال الكتب ، { الحكيم } لكتابه عن التبديل والتحويل . ه . وخواطر التجويز هي خواطر الشك في المقدور ، يجوز الوقوع وعدمه بسبب ضعف اليقين ، فإذا انتفى عن القلب خواطر التجويز ، دخله السكون والطمأنينة ، وارتاح في ظل برد الرضا والتسليم . والله تعالى أعلم .
(6/26)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل } يا محمد ، توبيخاً وتبكيتاً لهم : { أرأيتم } أخبروني { ماتَدْعون من دون الله } ما تعبدون من الأصنام من دون الله ، { أَرُونِي ماذا خلقوا من الأرض } أيّ شيء خَلقوا في الأرض إن كانوا آلهة؟ { أم لهم شِرْكٌ في السماوات } أي : أم لهم شركة مع الله في خلق السموات ، حتى يتوهم أن تكون لهم شائبة استحقاق للعبادة؟ فإنَّ مَن لا مدخل له في شيء من الأشياء ، بوجه من الوجوه ، بمعزل من ذلك الاستحقاق بأسره ، وإن كان من الأحياء العقلاء ، فما ظنك بالجماد؟ { ائتُوني بكتابٍ مِن قبل هذا } أي : من قبل القرآن ، يعني : أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد ، وإبطال الشرك ، وما من كتاب أنزل مِن قَبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك ، فأتوا بكتاب واحد مُنزل مِن قبله ، شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله ، { أو أثَارةٍ من عِلم } أو بقيةٍ من علم بقيت عندكم من علوم الأقدمين ، شاهدة باستحقاق الأصنام للعبادة ، { إِن كنتم صادقين } في أن الله أمركم بعبادة الأوثان ، فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي ، ولا سلطان نقلي ، وحيث لم يقم عليها شيء ، بل قامت على خلافها أدلةُ العقل والنقل تبين بطلانها .
{ ومَن أضلُّ } أي : لا أحد أشد ضلالاً { ممن يدعو مِن دون الله مَن لا يستجيبُ له إِلى يوم القيامة } غاية لنفي الإجابة ، { وهم عن دعائهم غافلون } لأنهم جمادات لا يسمعون .
{ وإِذا حُشر الناسُ } عند قيام الساعة { كانوا لهم أعداءً } أي : الأصنام لعَبَدَتِهَا ، { وكانوا } أي : الأصنام { بعبادتهم كافرين } جاحدين ، يقولون : ما دعوناهم إلى عبادتنا ، والحاصل : أنهم في الدنيا لا ينفعونهم ، وفي الآخرة يتبرؤون منهم ، ويكونون عليهم ضِداً ، ولَمَّا أسند إليهم ما يُسند إلى العقلاء من الاستجابة والغفلة؛ عبَّر عنهم ب " من " و " هم " ، ووصفُهم بترك الاستجابة تهكماً بها وبعبدَتِها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقال لأهل الغفلة : أرأيتم ما تركنون إليه من الخلق ، هل لهم قوة على نفعكم أو ضركم؟ { أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شِرك في السماوات . . . } الآية . فلا أحد أضل ممن يرجو الضعيف مثله ، الذي لا يستجيب له إلى يوم القيامة ، وهو غافل عن إجابته في الحال والمآل ، وإذا أحبّه على هوى الدنيا صارت يوم القيامة عداوة ومقتاً .
(6/27)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذا تتلى عليهم آياتُنا بيناتٍ } واضحات ، أو : مبنيات ، جمع بيِّنة ، وهي الحجة والشاهد ، { قال الذين كفروا للحق } أي : لأجله وفي شأنه ، والمراد بالحق : الآيات المتلوة ، وبالذين كفروا : المتلُوّ عليهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والمتلُو بالحق ، والأصل : قالوا في شأن الآيات ، التي هي حق { لمَّا جاءهم } أي : بادهوا الحق بالجحود ساعة أتاهم ، وأول ما سمعوه ، من غير إجالة فكر ولا إعادة نظر : { هذا سحر مبين } ظاهر كونه سحر .
{ أم يقولون افتراه } إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة - وهي تسميتهم الآيات سحراً ، إلى حكاية ما أشنع منها ، وهو كون الرسول صلى الله عليه وسلم { افتراه } أي : اختلقه ، وأضافه إلى الله كذباً ، والضمير للحق ، والمراد به الآيات . { قل إِن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً } أي : إن افتريته على سبيل الفرض لعاجلني الله بعقوبة الافتراء ، فلا تقدرون على كفه من معاجلتي ، ولا تملكون لي شيئاً مِن دفعه ، فكيف أفتريه وأتعرّض لعقابه الذي لا مناص منه؟! { هو أعلم بما تُفيضون فيه } من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته ، وتسميته سحراً تارة وفرية أخرى . { كفى به شهيداً بيني وبينكم } حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والجحود ، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم ، { وهو الغفورُ الرحيم } لمَن تاب وآمن ، وهو وعد لمَن آمن بالمغفرة والرحمة ، وترغيب في الإسلام .
الإشارة : رمي أهل الخصوصية بالسحر عادةٌ مستمرة ، وسُنَّة ماضية ، ولقد سمعنا هذا فينا وفي أشياخنا مراراً ، فيقول أهل الخصوصية : إن افترينا على الله كذباً عاجلنا بالعقوبة ، { فلا تملكون لنا من الله شيئاً . . . } الآية .
(6/28)

قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل ما كنتُ بِدعاً } أي : بديعاً ، كخف وخفيف ، ونصب ونصيب ، فالبدع والبديع من الأشياء : ما لم يتقدم مثله ، أي : لستُ بأول مرسل فتُنكر نبوتي ، بل تقدمت الرسل قبلي ، واقترِحتْ عليهم المعجزات ، فلم يقدروا على الإتيان بشيء إلا ما أظهره الله على أيديهم ، في الوقت الذي يُريد . قيل : كانت قريش تقترح على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات تظهر لهم ، ويسألونه عن الغيبيات ، عناداً ومكابرة ، فأُمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم : ما كنت بِدعاً من الرسل ، قادراً ما لم يقدروا عليه ، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه ، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب ، فإنَّ مَن قبلي من الرسل عليم السلام ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات ، ولا يُخبرون إلا بما أوحي إليهم ، { وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } أي : لا أدري ما يُصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى ، وماذا يبرز لنا من قضاياه . وعن الحسن : ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما يُفعل بي ولا بكم في الآخرة .
وقال : إنه منسوخ بقوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] قال شيخ شيوخنا الفاسي : وهو بعيد ، ولا يصح النسخ؛ لأنه لا يكون في الأخبار ، ولأنه لم يزل يعلم أن المؤمن في الجنة ، والكافر في النار ، من أول ما بعثه الله ، لكن محمل قول ابن عباس وغيره على أنه لم تكشف له الخاتمة ، فقال : لا أدري ، وأما مَن وافى على الإيمان ، فقد أعلم بنجاته من أول الرسالة ، وإلا فكان للكفار أن يقولوا : وكيف تدعونا إلى ما لا تدري له عاقبة؟ قاله ابن عطية . ه . وقال أبو السعود : والأوفق بمان ذكر من سبب النزول : أن " ما " عبارة عما عِلْمُه ليس من وظائف النبوة ، من الحوادث الواقعات الدنيوية ، دون ما سيقع في الآخرة ، فإنَّ العلم بذلك من وظائف النبوة ، وقد ورد به الوحي ، الناطق بتفاصيل الفعل بالجانبين . هذا ، وقد رُوي عن الكلبي : " أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له صلى الله عليه وسلم وقد ضجروا من إذاية المشركين : متى نكون على هذا؟ فقال : { ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم } أأترَكُ بمكة أو أومر بالخروج إلى أرض ذات نخيل وشجر ، قد رفعتْ إليّ ورأيتها . ه . وسأتي في الإشارة تحقيق المسألة إن شاء الله تعالى .
ثم قال : { إِن أتبعُ إِلا ما يُوحَى إِليَّ } أي : ما أفعل إلا الاتباع ، على معنى : قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي ، لا قصر اتباعه على الوحي ، كما هو المتبادر ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار بالغيوب ، أو عن استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من إذاية المشركين ، والأول هو الأوفق بقوله : { وما أنا إِلا نذير مبين } أُنذركم عقاب الله تعالى حسبنا يُوحى إليّ من الإنذار بالمعجزات الباهرة .
(6/29)

{ قل أرأيتم إِن كان } ما يوحى إليّ من القرآن { مِن عند الله } لا بسحر ولا مفترى كما تزعمون { و } قد { كفرتم به وشَهِدَ شاهدٌ } عظيم { من بني إِسرائيل } الواقفين على شؤون الله وأسرار الوحي ، بما أُوتوا من التوراة . والشاهد : عبد الله بن سلام ، عند الجمهور ، ولهذا قيل : إن الآية مدنية ، لأن إسلام " عبد الله بن سلام " بالمدينة . قلت : لَمّا عَلِمَ اللّهُ ما يكون من ابن سلام من الإسلام أخبر به قبل وقوعه ، وجعل شهادته المستقبلة كالواقعة ، فالآية مكية .
وقوله : { على مثله } أي : مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة ، المطابقة لما في القرآن من الوعد والوعيد وغير ذلك ، فإنَّ ما فيه عين ما فيها في الحقيقة ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ } [ الشعراء : 196 ] والمثلية باعتبار كونه من عند الله . وقيل : المثل : صلة .
{ فآمَنَ } ذلك الشاهد لَمّا تحقق برسالته . رُوي أنه لما قَدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ : ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بالُ الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما أول أشراط الساعة؛ فنارٌ تحشُرُ الناسَ من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادة كبد الحوت ، وأما الولد؛ فإذا سبقَ ماءُ الرجل نزعه ، وإن سبق ماءُ المرأة نزعته " فقال : أشهد أنك رسول الله حقاًُ ، فأسلم .
{ واستكبرتم } عن الإيمان به ، وجواب الشرط محذوف ، والمعنى : أخبروني إن كان من عند الله ، وشهد بذلك أعلم بني إسرائيل ، فآمن به من غير تلعثم ، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه البينة ، فمَن أضل منكم؟ بدليل قوله تعالى : { أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ . . . } [ فصلت : 52 ] الآية أو : إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ويدل عليه قوله : { إِن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، والتقديران صحيحان ، لأن عدم الهداية مستلزم الضلال ، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم ، فإن تركه - تعالى - لهدايتهم إنما هو لظلمهم . وقال الواحدي : معنى : { إِنّ الله لا يهدي القوم الظالمين } : إن الله جعل جزاء المعاندين للإيمان بعد الوضوح والبيان أن يمدهم في ضلالتهم ، ويحرمهم الهداية . ه .
الإشارة : قل ما كنت بِدعاً من الرسل ، وكذلك الوليّ يقول : ما كنت بِدعاً من الأولياء ، مع العصمة والحفظ وصريح الوعد بالنجاة ، لاتساع معرفتهم وعلمهم بالله؛ لأنهم لا يقفون مع عد ولا وعيد؛ لأن غيب المشيئة لا يعلم حقيقته إلا الله ، وقد يكون الوعد معلقاً بشروط أخفاها الله عنهم ، ليتحقق اختصاصه بحقيقة العلم ، وفي الحديث :
(6/30)

" لا تأمن مكري وإن أَمَّنتك " ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وعلى ذلك الششتري في نونيته ، حيث قال :
وأي وِصَالٍ في القَضِيَّة يُدَّعى ... وأكلُ مَن الْخَلْق لم يدَّع الأمْنا؟
هذا ، وقد قال تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم : { وَللأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى } [ الضحى : 4 ، 5 ] وقال : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، ومع ذلك كله لم يقف مع ظاهر الوعد ، لغيب المشيئة ، فقال في حديث ابن مظعون : " والله لا أدري - وأنا رسول - ما يُفعل بي " وحديث ابن مظعون بالمدينة بعد الهجرة ، فتبيَّن أنَّ الأمن الحقيقي لا يحصل لأحد قبل الختام ، وإن كان الغالب والطرف الراجح أن من وُعد بخيرٍ أو بُشِّر به يُنْجَز له بفضل الله وكرمه ، والكريم إذا وعد لا يُخلف ، لكن المشيئة وقهرية الربوبية لا تزال فوق رأس العبد حتى يلقاه . والله تعالى أعلم .
قال القشيري : وفي الآية دليل على فساد قول أهل البدع ، حيث لم يُجوزوا إيلام البريء عقلاً؛ لأنه لو لم يَجُزْ ذلك لكان يقول : أعْلَمُ قطعاً أني معصومٌ ، فلا محالةَ يغفر لي ، ولكنه قال هذا ليُعلم أن الأمر أمرُه ، والحكمَ حكمُه ، له أن يفعلَ بعباده ما يريد . ه .
وقال الورتجبي : لا أدري أين استغرق في بحار وصال جماله الأبدي ، وهناك لججات تغيب في ذرة منها جميعُ الأرواح العاشقة ، والأسرار الوالهة ، والقلوب الحائرة . ه . والحاصل : أنه لا يدري نهاية مناله من الله ، لنفي الغاية في حقه تعالى والنهاية ، وهو صريح استبعاد الششتري دعوى الوصال ، والله أعلم . ه . من الحاشية .
(6/31)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
يقوله الحق جلّ جلاله : { وقال الذين كفروا للذين آمنوا } أي : لأجلهم ، وهو كلام كفار مكة ، قالوا : إنَّ عامة مَن يتبع محمد السُّقاط ، يعنون الفقراء ، كعمار وصهيب وبلال وابن مسعود رضي الله عنهم ، قالوا : { لو كان } ما جاء به محمد من القرآن والدين { خيراً ما سبقونا إِليه } فإن معالي الأمور لا تنالها أيدي الأرذال ، فإنَّ عامتهم فقراء وموالٍ ورُعاة ، قالوه زعماً منهم أن الرئاسة الدينية مما تُنال بأسباب دنيوية ، كما قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وضلّ عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية ، وملكات روحانية ، مبناها : الإعارض عن زخارف الدنيا ، والإقبال على الله بالكلية ، وأنّ مَن فاز بها حازها بحذافيرها ، ومَن حرمها فما له عند الله من خلاق . والحاصل : أن هذه المقالة سببها الرضا عن النفس ، وهو صل كل معصية وغفلة . ثم قال تعالى : { وإِذ لم يهتدوا به } العامل في الظرف محذوف؛ لدلالة الكلام عليه ، أي : وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم ، وقالوا ما قالوا : { فسيقولون } غير مكتفين بنفي خيريته : { هذا إِفك قديم } أي : كذب متقادم ، كقوله : { أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } [ الأنعام : 25 ] .
وقال القشيري : إنه تكذيب للرسل فيما بُيّن لهم ، فما أُنزل عليهم من بعثة محمد رسولاً ، يعني : فيكون كقوله تعالى : { إِنَّا بِكُلِّ كَافِرُونَ } [ القصص : 48 ، الزخرف : 30 ] ، وقيل لابن عباس : أين نجد في القرآن " مَن كره شيئاً عاداه " ، فقرأ هذه الآية : { وإذ لم يهتدوا . . } الخ .
{ ومِن قبله } أي : مِن قبل القرآن { كتابُ موسى } أي : التوراة ، فكتاب : مبتدأ ، و " من قبله " : خبر ، والاستقرار هو العامل في قوله : { إِماماً ورحمةً } على أنهما حالان من الكتاب ، أي : قدوة يُؤْتمُ به في دين الله وشرائعه ، ورحمة من الله تعالى لمَن آمن به . { وهذا } القرآن ، الذي يقولون في حقه ما يقولون ، هو { كتاب } عظيم الشأن { مُصدِّق } لكتاب موسى ، الذي هو أماماً ورحمة ، أو : لِما بين يديه من جميع الكتب الإلهية . قال ابن عرفة : وجه مناسبتها لما قبلها : أنه لما تضمن قوله : { فسيقولون هذا إفك قديم } تقبيحهم إياه بأنه إما كذب في نفسه ، أو شبيه بما قبله من الأكاذيب والافتراءات ، عقبه ببيان أنه إما صدق في نفسه ، أو شبيه بما قبله من الكتب الصادقة . ه .
حال كون الكتاب { لساناً عربياً ليُنذر الذين ظلموا } متعلق بمُصَدِّق ، أو بأنزل ، محذوفاً ، وفيه ضمير الكتاب ، أو : الله تعالى ، أو : الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده : قراءة الخطاب ، { وبُشرى للمحسنين } في حيز النصب ، عطف على محل " ليُنذر "؛ لأنه مفعول له ، أي : للإنذار والبشرى ، أو : وهو بشرى للمحسنين ، للمؤمنين المطيعين .
الإشارة : قال في الحِكَم : " أصل كل معصية وغفلة وشهوة : الرضا عن النفس ، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة : عدم الرضا منك عنها ، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه ، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه ، فأيّ علِم لعالم يرضى عن نفسه؟ وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟ " ، وعلامة الرضا عن النفس : تغطية مساوئها ، وإظهار محاسنها ، كما قال الشاعر :
(6/32)

وَعَيْنُ الرِضَا عَن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... ولَكِن عَين السخطِ تُبدِي المساوي
وإذا نقصها له أحدٌ انتقم منه وغضب ، وإذا مدحها له فَرِحَ واستبشر ، ويرى أنه أهل لكل خيرٍ ، وأولى من غيره ، فيقول إذا رأى مَن حاز خيراً أو رئاسة ، كما قال الكفار : لو كان خيراً ما سبقونا إليه ، وعلامة عدم الرضا عنها : إظهار مساوئها ، واتهامها في كل حال .
وقال أبو حفص الحداد : مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها في جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه ، كان مغروراً ، ومَن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؟! والكريم ابن الكريم ابن الكريم يقول : { وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى } [ يوسف : 35 ] ه .
فإذا لم يرضَ عن نفسه ، وهذّبها ، استقامت أحواله ، وكان من المحسنين .
(6/33)

إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِن الذين قالوا ربُّنا اللّهُ ثم استقاموا } أي : جمعوا بين التوحيد ، الذي هو خاصة العلم ، والاستقامة في الظاهر ، التي هي منتهى العمل ، { فلا خوفٌ عليهم } من لحوق مكروه ، { ولا هم يحزنون } على فوات مرغوب ، و " ثم " للدلالة على تراخي رتبة العمل ، وتوقف الاعتداد به على التوحيد . ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ، والتعبير بالمضارع للدلالة على دوام نفي الحزن عنهم ، { أولئك } الموصوف بما ذكر من الاسمين الجليلين ، { أصحابُ الجنة خالدينَ فيها } حال من أصحاب الجنة ، والعامل : معنى الإشارة ، { جزاء بما كانوا يعملون } من الأعمال الصالحة ، و " جزاء " مصدر لمحذوف ، أي : جوّزوا جزاء ، أو بمعنى ما تقدم ، فإن قوله : { أولئك أصحاب الجنة } في معنى : جزيناهم .
الإشارة : مضى تفسير الاستقامة ، وأنَّ مَن درج على الإيمان والاستقامة حظي بكل كرامة ، ووصل إلى جزيل السلامة ، وقيل : السين في الاستقامة سين الطلب ، وأنَّ المستقيم يتوسل إلى الله تعالى في أن يقيمه على الحق ، ويثبته على الصدق . ه .
قال الورتجبي : ما قال القوم هذا القول - أي : " ربنا الله " - حتى شاهدوه بقلوبهم ، وعقولهم ، وأرواحهم ، وأسرارهم ، مشاهدة الحق سبحانه ، فإذا رأوه يقولون : هذا الهلال ، وصاحوا ، وضحكوا ، فهذا القول منهم بعد كشف مشاهدة الحق لهم ، فلما رأوه أبحوه وعرفوه ، وشربوا من بحار وصالة ، حتى تمكنوا ، فاستقاموا بقوتها في موازاة رؤية أنوار الأزل والآباد ، واستقاموا في مراد الله منهم ، وأداء حقوق عبوديته ، فلا يبقى عليهم خوف الحجاب ، ولا حزن العتاب ، قال الله تعالى : { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ه .
(6/34)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
يقول الحق جلّ جلاله : { ووصينا الإِنسانَ } بأن يُحسن { بوالديه حُسناً } وقرأ أهل الكوفة { إحساناً } وهما مصدران ، وقرئ : " حَسَناً " بفتح الحاء والسين ، أي : يفعل بهما فعلاً حَسَناً ، أو : وصينا إيصاءً حَسَاناً ، { حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً } أي : حملته بكُرْهٍ ومشقة ، ووضعته كذلك ، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها ، فإن الإحسان إليها أوجب ، وأحق من الأب ، ونصبهما على الحال ، أي : حملته كارهة ، أو : ذات كُره ، وفيه لغتان؛ الفتح والضم ، وقيل : بالفتح مصدر ، وبالضم اسمه . { وحَمْلُه وفِصَالُه } أي : ومدةُ حمله وفصاله ، وهو الفطام . وقرأ يعقوبُ : " وفصله " وهما لغتان كالفَطْم والفطام ، { ثلاثون شهراً } لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية ، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر؛ لأنه إذ حُط منه لفطام حولان ، لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] يبقى للحمل ستة ، قيل : ولعل تعيين أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما ، وارتباطِ النسب والرضاع بهما .
{ حتى إِذا بلغ أشُدَّه } أي : اكتهل ، واستحكم عقله وقوته ، وانتهت قامته وشبابه ، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين ، وقال زيد بن أسلم : الحلم ، وقال قتادة : ستة وثلاثون سنة ، وهو الراجح ، وقال الحسن : قيام الحجة عليه . { وبلغ أربعين سنة } وهو نهاية الأشدّ ، وتمام العقل ، وكمال الاستواء .
قيل : لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين ، قال ابن عطية : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته ، وفي الحديث " إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب ، فيقول : بأبي وَجْهٌ لايُفلح " ه . ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم : " مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب ، فإذا بلغسبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وشفع في أهل بيته ، وناداه منادٍ من السماء : هذا أسير الله في أرضه " وهذا في العبد المقبل على الله . والله تعالى أعلم . وقُرئ : " حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه " .
{ قال ربِّ أوزعني } أي : ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من الهداية والتوحيد ، والاستقامة على الدين ، { وعلى والديَّ } كذلك ، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه ، { وأنْ أعمل صالحاً ترضاه } التنكير للتفخيم والتكثير ، قيل : هو الصلوات الخمس ، والعموم أحسن ، { وأَصْلِحْ لي في ذُريتي } أي : واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ، أو : اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم ، { إِني تُبتُ إِليك } من كل ذنب ، { وإِني من المسلمين } الذين أخلصوا لك أنفسهم ، وانقادوا إليك بكليتهم .
(6/35)

قال عليّ رضي الله عنه : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره ، وأوصاه الله بهما . ه . فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه " أم الخير " وأولاده : عبد الرحمن ، وابنه عتيق ، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته ، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة . قال ابن عباس : أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين ، منهم : بلال ، وعامر بن فهيرة ، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه . ه .
قال ابن عطية : معنى الآية : هكذا ينبغي للإنسان أن يكون ، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع ، وقول مَن قال : إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف ، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف ، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح . ه . قلت : كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي ، فيُخبر عنه كأنه واقع ، ومنه : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ } [ الأحقاف : 10 ] و { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] وهذه الآية في إسلام إبي قحافة . والله تعالى أعلم .
{ أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } من الطاعات ، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة ، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة ، وضمّن " يتقبل " معنى يتجاوز ، فعدّاه بعَن؛ إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول ، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله ، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص ، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه ، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول . { ويتجاوز عن سيائتهم } فيغفر لهم ، { في } جملة { أصحاب الجنة } كقولك : أكرمني الأمير في نار من أصحابه ، أي : أكرمني في جملة مَن أكرمهم ، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله : نصب على الحال ، أي : كائنين في أصحاب الجنة ، ومعدودين فيهم ، { وَعْدَ الصِّدق } أي : وعدهم وعداً صدقاً ، فهو مصدر مؤكد ، لأن قوله : { يتقبل ويتجاوز } وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز ، { الذي كانوا يُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام .
الإشارة : لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما ، وفي الحقيقة : ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق ، ظهرت في تجلِّي الوالدين ، قذف الرأفة في قلوبهما ، حتى قاما بتربية الولد ، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة . وقال الورتجبي : وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه ، لأنهما أسباب وجوده ، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته ، وأنوارُ ربوبيته ، فحُرمتهما حرمة الأصل ، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته .
قال بعضهم : أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين ، وفّقه بركةُ ذلك ، لحِفظِ حرمات الله ، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس .
(6/36)

ه .
قال القشيري : وشر خصال الولد : التبرُّم بطول حياتهما ، والتأذي بما يجب من حقهما ، وعن قريب يموت الأصل ، وقد يبقى النسل ، ولا بد ان يتبعَ الأصل . ه . أي : فيعق إن عقّ أصله ، ويبر إن بر ، وفي الحديث : " برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم " ثم قال : ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا :
رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية ... لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا
ه .
قلت : وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين ، فيُقدم أمره على أمرهما ، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء . والله تعالى أعلم .
(6/37)

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قلت : { والذي قال } مبتدأ ، وخبره : { أولئك الذين حقَّ عليهم القول } ، والمراد ب " الذي قال " الجنس ، ولذلك جمع الخبر .
يقول الحق جلّ جلاله : { والذي قال لوالديه } عند دعوتهما إلى الإيمان : { أُفًّ لكما } وهو صوت يصدر عن المرء عند تضجُّره ، وقَنَطِه ، واللام لبيان المؤفّف ، كما في " هيتَ لك " وفيه أربعون لغة ، مبسوطة في محلها ، أي : هذا التأفيف لكما خاصة ، أو لأجلكما دون غيركما .
وعن الحسن : نزلت في الكافر العاقّ لوالديه ، المكذِّب بالبعث ، وقيل : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه ، قبل إسلامه . وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك ، وقالت : والله ما نزل في آل أبي بكر شيئاً من القرآن ، سوى براءتي ، ويُبطل ذلك قطعاً : قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } لأنَّ عبد الرحمن بن أبي بكر أسلم ، وكان من فضلاء الصحابة ، وحضر فتوحَ الشام ، وكان له هناك غناء عظيم ، وكان يسرد الصيامَ . قال السدي : ما رأيت أعبد منه . ه . وقال ابن عباس : نزلت في ابنٍ لأبي بكر ، ولم يسمه ، ويرده ما تقدّم عن عائشة ، ويدل على العموم : قوله تعالى : { أولئك الذين حقّ عليهم القول } ، ولو أراد واحداً لقال : حق عليه القول .
ثم قال لهما : { أَتعدانِني أن أُخْرَج } أي : أُبعث وأُخرج من الأرض ، { وقد خَلَت القرونُ من قبلي } ولم يُبعث أحد منهم ، { وهما يستغيثانِ اللّهَ } يسألانه أن يُغيثه ويُوقفه للإيمان ، أو يقولان : الغِياث بالله منك ، ومن قولك ، وهو استعظام لقوله ، ويقولان له : { وَيْلكَ } دعاء عليه بالثبور والهلاك ، والمراد به : الحث والتحريضُ على الإيمان ، لا حقيقة الهلاك ، { آمِنْ } بالله وبالبعث { إِنَّ وعدَ الله } بالبعث والحساب { حَقٌّ } لا مرية فيه ، وأضاف الوعد إليه - تعالى - تحقيقاً للحق ، وتنبيهاً على خطئه ، { فيقول } مكذّباً لهما : { ما هذا } الذي تسميانه وعْد اللّهِ { إلا أساطيرُ الأولين } أباطيلهم التي سطروها في كتبهم ، من غير أن يكون له حقيقة .
{ أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ } وهو قوله تعالى لإبليس : { لأَمَّلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [ الأعراف : 18 ] كما يُنبئ عنه قوله تعالى : { في أمم قد خلت مِن قبلهم من الجن والإنس } أي : في جملة أمم قد مضت ، { إِنهم كانوا خاسرين } حيث ضيّعوا فطرتهم الأصلية ، الجارية مجرى رؤوس أموالهم ، باتباعهم الشيطان ، وتقليداً بآبائهم الضالين .
{ ولكلٍّ } من الفريقين المذكورين ، الأبرار والفجار ، { درجاتٌ مما عملوا } أي : منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من الخير والشر ، ويقال في جانب الجنة : درجات ، وفي جانب النار : دركات ، فغلب هنا جانب الخير .
قال الطيبي : ولكلٍّ من الجنسين المذكورين درجاتٌ ، والظاهر أن أحد الجنسين ما دلّ عليه قوله : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } [ الأحقاف : 13 ] ، والآخر قوله : { والذي قال لوالديه أُف لكما } ثم غلب الدرجات على الدركات ، لأنه لمّا ذكر الفريق الأول ، ووصفَهم بثباتٍ في القول ، واستقامةٍ في الفعْل ، وعقَّب ذلك بذكر فريقِ الكافرين ، ووصفهم بعقوق الوالدين ، وبإنكارهم البعثَ ، وجعل العقوقَ أصلاً في الاعتبار ، وكرر في القِسم الأول الجزاء ، وهو ذكر الجنة مراراً ثلاثاً ، وأفْردَ ذكر النار ، وأخّره ، وذكرَ ما يجمعُهما ، وهو قوله : { ولكلٍّ درجات } غلّب الدرجات على الدركات لذلك ، وفيه ألا شيء أعظم من التوحيد والثبات عليه ، وبر الوالدين والإحسان إليهما ، ولا شيء أفحش من عقوق الوالدين ، وإنكار الحشر ، وفي إيقاع إنكار الحشر مقابلاً لإثبات التوحيد الدلالة على أن المنكر معطل مبطل لحكمة الله في إيجاد العالم .
(6/38)

ه .
{ ولنُوفيهم أعمالهم } وقرأ المكي والبصري بالغيب ، أي : وليوفيهم الله جزاء أعمالهم ، { وهم لا يُظلمون } بنقص ثواب الأولين ، وزيادة عقاب الآخرين ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : وليوفيهم أعمالهم ، ولا يظلمهم حقوقهم ، فعل ما فعل من ترتيب الدرجات أو الدركات .
الإشارة : عقوق الأساتيذ أقبح من عقوق الوالدين ، كما أن برهما أوكد؛ لأن الشيخ أخرجك من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة بالله ، والوالدان أخرجاك إلى دار التعب ، مُعرض لأمرين ، إما السلامة أو العطب ، والمراد بالشيخ هنا شيخ التربية ، لا شيخ التعليم ، فلا يقدّم حقه على حق الوالدين ، هذا ومَن يَسّر اللّهُ عليه الجمع بين بِر الوالدين والشيخ فهو كمال الكمال . وبالله التوفيق .
(6/39)

وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قلت : { ويوم } : منصوب بقول مقدّر قبل { أذهبتم } أي : يقال هم : أذهبتم طيباتكم يوم عرضكم ، أو باذكر ، وهو أحسن .
يقول الحق جلّ جلاله : { و } اذكر { يومَ يُعْرَضُ الذين كفروا على النار } أي : يُعذّبون بها ، من قولهم : عُرض بنو فلان على السيف ، إذا قُتلوا به ، وقيل المراد : عرض النار عليهم ، من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها ، فقلبوا . وإذا عُرضوا عليها يُقال لهم : { أَذْهبتُمْ طيباتِكُم } أي : أخذتم ما كُتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها { في حياتكم الدنيا } فقد قدمتم حظكم من النعيم في الدر الفانية
قال ابن عرفة : قيل : المراد بالطيبات المستلذات ، والظاهر : أن المراد أسباب المستلذات ، أي : الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات في الدار الآخرة ، إذ نسيتموها في الدنيا ، أي : تركتموها ولم تفعلوها . ه . قلت : يُبعده قوله : { واستمتعتم بها } أي : فلم يُبق ذلك لكم شيئاً منها ، بل قدمتم جنتكم في دنياكم .
وعن عمر رضي الله عنه : لو شئتُ كنتُ أطيبَكم طعاماً ، وألينكم لباساً ، ولكني أستبقي طيباتي . ولما قَدِم الشامَ صُنعَ له طعامٌ لم يُر قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون خبز الشعير؟ قال خالد ، لهم الجنة ، فاغروْرقتْ عينا عمر وبكى ، وقال : لئن كان حظنا من الحطام ، وذهبوا بالجنة ، لقد باينونا بوناً بعيداً ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الماء والتمر ، والله ما كان نرى سمراءَكم هذه ، وقال أبو موسى : ما كان لباسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصوف .
ورُوي : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصُّفة ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدَم ، ما يجدون لها رقعاً ، فقال : " أنتم اليوم خيرٌ أم يومَ يغدوا أحدكم في حُلة ، ويروح في أخرى ، ويُغدا عليه بجفنة ويُراح بأخرى ، ويُسترُ بيته كما تُستر الكعبة " ؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، فقال لهم : " بل أنتم اليوم خير " .
وقال عمرو بن العاص : كنت أتغدّى عند عمر الخبزَ والزيتَ ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأجلّ ذلك اللحم الغريض ، وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق ، فإنه كله طعامٌ ، ثم قال عمر رضي الله عنه : والله الذي لا إله إلا هو ، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتهم في العيش! ولكني سمعتُ اللّهَ يقول لقوم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } . ه .
{ فاليوم تُجزونَ عذابَ الهُونِ } أي : الهوان ، وقرئ به ، { بما كنتم } في الدنيا { تستكبرون في الأرض بغير الحق } بغير استحقاق لذلك ، { وبما كنتم تَفْسُقون } وتخرجون عن طاعة الله عزّ وجل ، أي : بسبب استكباركم وفسقكم .
(6/40)

الإشارة : ما زالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات ، مجاهدةً لنفوسهم ، وتصفيةً لقلوبهم ، فإنَّ تَتَبُّعَ الشهوات يُقَسي القلب ، ويكسِف نور العقل ، كما قال الشاعر :
إنَارَةُ العقل مَكْسُوفٌ بطَوْع هَوىً ... وعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تنْوِيرا
هذا في حال سيرهم ، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم؛ لأنهم يأخذون من الله ، ويتصرفون به في أمورهم كلها ، فلا حرج عليهم في نيل ما أنعم الله به عليهم ، حيث أمِنوا ضرره ، ومن ذلك : ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم ، أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ، ودعا نفراً يسيراً ، منهم الأوزاعي والثوري ، فقال له الثوري : أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً؟ فقال : ليس في الطعام إسراف ، إنما الإسراف في الثياب والأثاث ، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم ، فقال : خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري ، فقال : يا أبا إسحاق هذا كله؟ قال : ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال ، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال ، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام ، فيأكل ، فيقال له : إن أخاك بِشْراً كان كلا يأكل من هذا ، فيقول : أخي بِشْر قبضه الورعْ ، وأنا بسطتني المعرفة ، وإنما أنا شضيف في دار مولاي ، إذا أطعمني أكلت ، وإذا جوّعني صبرت ، ما لي وللاعتراض والتمييز . ه .
والحاصل : أن الناس أقسام ثلاثة : عوام ، لا همة لهم في السير ، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين . فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة ، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم ، وخواص ، نهضت همتُهم إلى الله ، وراموا الوصول إليه ، وهم في السير لم يتحقق وصولهم ، أو من العُبَّاد والزهّاد ، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم ، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات ، والقسم الثالث : خواص الخواص ، قد تحقق وصولهم ، ورسخت أقدامهم في المعرفة ، فهؤلاء لا كلام معهم ، ولا ميزان عليهم .
قال في الإحياء ، بعد كلام : وأكل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة ، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه ، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية ، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية ، كما يكون إمساكه بنية ، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه . ثم قال : وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر ، فإنه كان يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحب العسل ويأكله ، ثم لم يقس نفسه عليه ، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه ، ويقول : أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها ، اعزلوا عني حسابها ، وتركها رضي الله عنه .
(6/41)

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { واذكر أخا عاد } وهو هود عليه السلام { إِذا أنذر قومه } بدل اشتمال أي : وقت إنذاره قومه { بالأحقاف } جمع حِقْف ، وهو رمل مستطيل فيه انحناء ، من : احقوقف الشيء إذا اعوجَّ ، وكان عاد أصحاب عُمُد ، يسكنون بين رمال مُشرفة على البحر ، بأرض يُقال لها : " الشِّحْر " بأرض اليمن . وعن ابن عباس : الأحقاف : واد بين عُمان ومَهْرَة ، وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن ، في حضرموت ، بموضع يقال له : مَهْرة ، وإليه تنسب الإبل المهرية ، ويقال لها : المهاري ، وكانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إِرَم ، والمشهور : أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل ، كانت منازل عاد حوله .
{ وقد خَلَتْ النُذر } جميع نذير ، بمعنى النذر ، أي : مضت الرسل ، { من بين يديه ومن خلفه } أي : من قبل هود ومَن بعده ، وقوله : { وقد خلت . . } الخ : جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله : { ألاَّ تعبدوا إلا اللّهَ } مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار ، وإيذاناً باشتراكهم في العبادة المذكورة ، والمعنى : واذكر لقومك إنذار هود قومَه عاقبةَ الشرك والعذاب العظيم ، وقد أنذر مَن تقدمه مِن الرسل ، ومَن تأخر عنه قومهم قبل ذلك . { إني أخاف عليكم } إن عصيتموني { عذابَ يومٍ عظيم } يوم القيامة .
{ قالوا أجئتنا لتأفكَنَا } لتصرفنا { عن آلهتنا } عن عبادتها ، { فأْتنا بما تَعِدُنا } من العذاب العظيم { إن كنت من الصادقين } في وعدك بنزوله بنا ، { قال إِنما العلمُ } بوقت نزوله ، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك ، { عند الله } وحده ، لا علم لي بوقت نزوله ، ولا دخل لي في إيتانه وحلوله ، وإنما عِلْم ذلك عند الله ، فيأتيكم به في وقته المقدّر له . { وأُبلغكم ما أُرسلت به } من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب ، { ولكني أراكم قوماً تجهلون } حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل ، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته .
رُوي : أنهم قحطوا سنين ، ففزعوا إلى الكعبة ، وقد كانت بنتها العمالقة ، ثم خربت ، فطافوا بها ، واستغاثوا ، فعرضت لهم ثلاث سحابات : سوداء وحمراء وبيضاء ، وقيل لهم : اختاروا واحدة ، فاختاروا السوداء ، فمرتْ إلى بلادهم ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، فرحوا واستبشروا ، وهذا معنى قوله تعالى : { فلما رَأَوْهُ } أي : العذاب الذي استعجلوه بقوله : { فأتنا بما تعدنا } وقيل : الضمير مبهم ، يُفسره قوله : { عارضاً } على أنه تمييز ، أي : رأوا عارضاً ، والعارض : السحاب ، سُمي به لأنه يعرض السحاب في أُفق السماء . قال المفسرون : ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النقمة ، فخرجت عليهم من واد يُقال له : " مغيث " ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، أي : متوجة إليها ، فرحوا ، وقالوا : { هذا عارض مُمطرنا } أي : ممطر إياناً ، لأنه صفة النكرة ، فيقدر انفصاله .
(6/42)

قال الله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به } من العذاب ، وقيل : القائل هود عليه السلام ، { ريحٌ فيها عذابٌ إليم } فجعلت تحمل الفساطيط ، وتحمل الظعينة فترفعها في الجو ، فتُرى كأنها جرادة .
قال ابن عباس : لما دنا العارض ، قاموا فنظروا ، فأول ما عروا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من ديارهم من حالهم ومواشيهم ، تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، مثل الريش ، فدخلوا بيوتهم ، وأغلقوا أبوابهم ، فألقت الريح أبوابهم ، وصرعتهم ، وأمر الله تعالى الريح فأمالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، لهم أنين ، ثم أمر الله تعالى الريح ، فكشفت عنهم الرمال ، فاحتملتهم ، فرمت منهم في البحر ، وشدخت الباقي بالحجارة .
وقيل : أول مَن أبصر العذاب امرأة منهم ، قالت : رأيت ريحاً فيها كشهب النار ، وهو معنى قوله : { تُدَمّرُ كلَّ شيء } أي : تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبّر عن الكثرة بالكلية . { بأمر ربها } أي : رب الريح ، وفي ذكر الأمر والرب ، والإضافة ألى الريح ، من الدلالة على عظيم شأنه تعالى ما لا يخفى ، { فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهُم } أي : فجاءت الريح فدمرتهم ، فصاروا بحيث لا يُرى شيء إلا مساكنهم خاوية ، ومَن قرأ بتاء الخطاب ، فهو لكل مَن يتأتى منه الرؤية ، تنبيهاً على أن حالهم صار بحيث لو نظر كل أحد بلادَهم لا يَرى فيها إلا مساكنهم .
{ كذلك } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع { نجزي القومَ المجرمين } وننجي المؤمنين ، رُوي أن هود عليه السلام ومَن معه من المؤمنين في حظيرته ، ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين على الجلود ، وتلذه الأنفس ، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء ، والأرض ، وتدمغهم بالحجارة . سبحان الحكيم القدير ، اللطيف الخبير .
الإشارة : إنما جاءت النُذر من عهد آدم عليه السلام إلى القيامة الساعة ، تأمر بعبادة الله ، ورفض كل ما سواه ، فمَن تمسّك بذلك نجى ، ومَن عبد غير الله ، أو مال إلى سواه ، عاجلته العقوبة في الظاهر أو الباطن . والله تعالى أعلم .
(6/43)

وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قلت : { فيما } موصولة ، أو موصوفة ، ومفعول { اتخذوا } الأول : محذوف ، و { آلهة } مفعول ثان ، أي : اتخذوهم آلهة ، و { قرباناً } حال ، ولا يصح أن يكون مفعولاً ثايناً ل " اتخذوا " ، و " آلهة " : بدل ، لفساد المعنى ، وأجازه ابن عطية ، ووجه فساده : أن اتخاذهم آلهة منافٍ لاتخاذهم قرباناً؛ لأن القربان مقصود لغيره ، والآلهة مقصود بنفسها ، فتأمله ، و " إن " نافية ، والأصل : فيما ما مكنكم فيه ، ولمّا كان التكرار مستثقلاً جيء بأن ، كما قالوا في مهما ، والأصل : مَا مَا ، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء ، وقيل : " إن " صلة ، أي : في مثل ما مكنكم فيه ، والأول أحسن .
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد مكَّنَّاهم } أي : قررنا عاد ومكناهم في التصرُّف { فيما } أي : في الذي ، أو في شيء ما { مكناكم } يا معشر قريش { فيه } من السعة والبسطة ، وطول الأعمار ، وسائر مبادئ التصرفات ، فما إغنى عنهم شيء من ذلك ، حين نزل بهم الهلاك ، وهذا كقوله تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَكُمْ } [ الأنعام : 6 ] أو : ولقد مكنهم في مثل ما مكنكم فيه ، فما جرى عليهم يجري عليكم ، حيث خالفتم نبيكم ، والأول أوفق بقوله : { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِى الأَرْضِ } [ غافر : 21 ] وقوله : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] .
{ وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً } أي : آلات الإدراك والفهم ، ليعرفوا بكل واحدة منها ما خلقتْ له ، وما نيطت به معرفته ، من فنون النعم ، ويستدلوا بها شؤون منعمها ، ويداوموا على شكرها ، ويوحدوا خالقها ، ، { فما أغنى عنهم سمعُهم } حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل ، { ولا أبصارهم } حيث لم يُبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى ووجوب وجوده ، { ولا أفئدتهم } حيث لم يتفكّروا بها في عظمة الله تعالى وأسباب معرفته ، فما أغنت عنهم { من شيء } أي : شيئاً من الإغناء . و { من } زائدة؛ للتأكيد ، وقوله : { إِذ كانوا يجحدون بآيات الله } ظرف لقوله : { فما أغنى } جارٍ مجرى التعليل ، لاستواء مؤدّي التعليل والظرف في قولك : ضربته إذ أساء ، أو : لإساءته ، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ، وكذلك الحال في " حيث " دون سائر الظروف غالباً ، أي : فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله . { وحاق } أي : نزل { بهم ما كانوا به يستهزؤون } من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، ويقولون : { فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } .
{ ولقد أهلكنا ما حولَكم من القرى } يا أهل مكة ، كحِجر ثمود ، وقرى لوط ، والمراد : أهل القرى ، ولذلك قال : { وصرَّفنا الآياتِ } كرّرناه ، { ولعلهم يرجعون } أي : كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العِبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان ، فلم يرجعوا فأنزلنا عليه العذاب .
(6/44)

{ فلولا نَصَرَهم الذين اتخذوا من دون الله قُرباناً آلهةً } أي : فهلاّ منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ، حال كونها متقرباً بها إلى الله ، حيث كانوا يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [ الزمر : 3 ] و { هَؤُلآءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللَّهِ } [ يونس : 18 ] { بل ضلوا عنهم } أي : غابوا عن نصرتهم ، { وذلك إِفكهم وما كانوا يفترون } الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة ، وثمرة شركهم ، وفترائهم على الله الكذب .
وقرأ ابن عباس وابن الزبير : { أَفَكَهم } أي : صرفهم عن التوحيد . وقُرئ : بتشديد الفاء ، للتكثير .
الإشارة : التمكُّن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفاً في المعنى ، وبُعداً من الحق ، ولذلك يقول الصوفية : كل من زاد في الحس نقص في المعنى ، وكل ما نقص في الحس زاد في المعنى ، والمراد بالمعنى : كشف أسرار الذات وأنوار الصفات ، وما مكّن اللّهُ تعالى عبدَه من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه ، ويوصله إلى معرفته ، فإذا صرفها في غير ذلك ، عُوقب عليها . وبالله التوفيق .
(6/45)

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
قلت : " النفر " بالفتح : الجماعة من ثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى سبعة ولا يُقال نفر فيما زاد على عشرة ، والرهط والقوم والعشيرة والعشر معناهم الجمع ، ولا واحد لهم من لفظه ، وهو للرجال دون النساء . قاله في المصباح . و { من الجن } نعت للنفر ، وكذا { يستمعون } .
يقول الحق جلّ جلاله : { و } اذكر { إِذ صرفنا إِليك نفراً من الجن } أي : أملناهم إليك ، وقبلنا بهم نحوك ، وهم جن نصيبين ، أو جن نينوى ، قال في القاموس : " نِينوى " بكسر أوله ، موضع بالكوفة ، وقرية بالموصل ليونس عليه السلام . ه . { يستمعون القرآن } منه عليه السلام { فلما حضروه } أي : الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ، أي : كانوا منه حيث تمّ وفرغ من تلاوته ، { وَلَّوا إِلى قومهم منذرين } مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم .
رُوي : أن الجنَّ كانت تسترق السمع ، فلما حُرست السماء ، ورُموا بالشُهب ، قالوا : ماهذا إلا لأمر حديث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، لتعرفوا ما هذا ، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى ، منهم : " زوبعة " فمضوا نحو تهامة ، ثم انتهوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي صلاة الفجر ، فستمعوا القرآن ، وذلك عند منصرفه من الطائف ، حين ذهب يدعوهم إلى الله ، فكذّبوه ، وردُّوا عليه ، وأغروا به سفاءهم ، فمضى على وجهه ، حتى وصل إلى نخل ، فصلّى بها الغداة ، فوافاه نفر الجن يصلي ، فاستمعوا لقراءته ، ولم يشعُر بهم ، فأخبره الله تعالى باستماعهم .
وقيل : أمره اللّهُ تعالى أن يُنذر الجن ، ويقرأ عليهم ، فصرف الله إليه نفراً منهم ، وجمعهم له ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إني أُمرت أن أقرأ على الجن ، فمَن يتبعني؟ " قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، في شعب الجحون ، فخطّ خطّاً ، فقال : " لا تخرج عنه حتى أعود إليك " ، ثم افتتح القرآن ، وسمعت لغطاً شديداً ، حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي ، وغشيته أسوِدة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم تتقطع كقطع الحساب ، ذاهبين ، ففرغ صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فقال : " أنمتَ؟ " فقلت : لا والله ، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : اجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " هل رأيت شيئاً؟ " قلت : نعم ، رجالاً سوداً ، في ثياب بيض ، قال : " أولئك جن نصيبين " وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأ عليهم : { اقرأ باسم ربك } .
(6/46)

فلمَّا رجعوا إلى قومهم { قالوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى } قيل : قالوا ذلك لأنهم كاناو على اليهودية ، وعن ابن عباس : إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام وهو بعيد . حال كون الكتاب { مُصدّقاً لما بين يديه يهدي إِلى الحق } من العقائد الصحيحة ، أو إلى الله ، { وإِلى صراطٍ مستقيم } يُوصل إلى الله ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة .
{ يا قومنا أجيبوا دَاعِيَ الله } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، { وآمِنوا به } أي : بالرسول أو القرآن ، وصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعدما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم؛ لتلازمهما ، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته ، ترغيباً في الإجابة ، ثم أكدوه بقولهم : { يغفر لكم من ذنوبكم } أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان في حق خالصٍ لله تعالى ، فإنّ حقوق العباد لا تُغفر بالإيمان ، وقيل : تغفر . { ويُجركمْ من عذابٍ أليم } موجع .
واختلف في مؤمني الجن ، هل يُثابون على الطاعون ، ويدخلون الجنة ، أو يُجارون من النار فقط؟ قال الفخر : والصحيح أنهم في حكم بني آدم ، يستحقون الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهو قول مالك ، وابن أبي ليلى ، وقال الضحاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . ه . ويؤده قوله تعالى : { وَلِكُلِّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } كما تقدّم في الأنعام .
{ ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرض } أي : لا ينجي منه مهرب ، وإظهار " داعي الله " من غير اكتفاء بضميره ، للمبالغة في الإيجاب ، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته ، وإدخال الروعة . وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض؛ لتوسيع الدائرة ، أي : فليس بمعجز له تعالى وإن هرب في أقطار الأرض ودخل في أعمالقها . { وليس له من دونه أولياءُ } ينصرونه من عذاب الله ، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة ، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه ، وجمع " الأولياء " مبالغة ، إذا كان لا ينفعه أولياء ، فأولى واحد . { أولئك } الموصوفون بعدم إجابة داعي الله { في ضلال مبين } أي : ظاهر : بحيث لا تخفى ضلالته على أحد ، حيث أعرضوا عن إجابة مَن هذا شأنه ، وجمع الإشارة باعتبار معنى " من " ، وأفرادَ أولاً باعتبار لفظها .
الإشارة : قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى الله عليه وسلم حيث قالوا : أنصتوا ، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير ، كالصمت ، والوقار ، والهيبة ، والخضوع ، كما كانت حالة الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير . قال الشيخ أبو الحسن رضي لله عنه : " إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى ما لا تعرف ، لتفوز بالسر المكنون " فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كل واحد منذراً وداعياً إلى الله كلَّ مَن لقيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : " ليبلغ الشاهد الغائب " فمَن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم ، ومَن لا يجب داعي الله خاب وخسر ، والاستجابة أقسام ، قال القشيري : فمستجيبٌ بنفسه ، ومستجيبٌ بقلبه ، ومستجيبٌ بروحه ، ومستجيبٌ بسرِّه ، ومَن توقف عند دعاء الداعي إليه ، ولم يُبادر إلى الاستجابة هُجِرَ فيما كان يُخَاطب به . ه .
قلت : المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام ، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان ، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان ، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان ، وقول : هجر فيما يُخاطب به ، أي : كان يُخاطب بملاحظة الإحسان ، فإذا لم يبادر قِيد بسلاسل الامتحان . والله تعالى أعلم .
(6/47)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قلت : { ولم يَعْيَ } حال من فاعل " خلق " ، يُقال : عَي ، كرضَى ، وَعِيَ بالإدغام ، وهو أكثر . قاله في الصحاح . وفي القاموس : عَيَّ بالأمر وعَيِيَ كرَضِيَى ، وتَعايا واسْتَعيا وتَعَيَّا : لم يهتدِ لوجه مُراده ، أو عَجَزَ عنه ولم يُطِقْ إحْكَامه . ه . و { بقادر } خبر " أن " ، ودخلت الباء لاشتمال النفي الذي في صدر الآية على " أنّ " وما في حيّزها ، قال الزجاج : لو قلت : ما ظنت أنَّ زيداً بقائم ، جاز .
يقول الحق جلّ جلاله : { أَوَ لَمْ يَرَوا } أي : ألم يتكّفروا ولم يعلموا علماً جازماً { أنَّ الله الذي خلق السماوات والأرض } ابتداء من غير مثال يحتويه ، ولا قانون يحتذيه ، { و } الحال أنه { لم يَعْيَ بخلقهن } أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلاً ، ولم يعجز عنه ، أليس مَن فعل ذلك { بقادرٍ على أن يحيي الموتى بلى } جواب النفي ، أي : بلى هو قادر على ذلك ، { إِنه على كل شيء قديرٌ } تقرير للقدرة على وجه عام ، ليكون كالبرهان على المقصود .
ثم ذكر عقاب مَن أنكر البعث المبرهن عليه ، فقال : { و } اذكر { يوم يُعرض الذين كفروا على النار } فيقال لهم : { أليس هذا بالحق } فالإشارة إلى ما يُشاهدونه من فظيع العذاب ، وفيه تهكُّم بهم ، وتوبيخ لهم ، على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده ، ونفيه بقوله : " وما نحن بمعذبين " ، { قالوا } في جواب الملائكة : { بلى وربَّنا } إنه لحق ، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما في الدنيا ، وأنَّى لهم ذلك؟ { قال } تعالى لهم : { فذُوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون } بها في الدنيا ، ومعنى الأمر : الإهانة بهم والتوبيخ لهم ، نعوذ بالله من موارد الهوان .
الإشارة : تربية اليقين تطلب في أمرين ، حتى يكونا كرأي العين : وجود الحق أو شهوده ، وإيتان الساعة وقربها ، حتى تكون نُصب العين ، وتقدّم حديث حارثة شاهداً على إيمانه ، حيث قال : " وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون . . . " الحديث .
(6/48)

فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
قلت : { لهم } متعلق بتستعجل ، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف ، لا يليق بإعجاز التنزيل ، خلافاً لوقف الهبطي ، { وبلاغ } خبر عن مضمر ، أي : هذا بلاغ .
يقول الحق جلّ جلاله : { فاصبر } يا محمد على ما يُصيبك من جهة الكفرة { كما صبر أُولوا العزم } أي : الثبات والحزم { من الرسل } فإنك مِن جملتهم ، بل من أكملهم وأفضلهم ، و " من " للتبعيض ، واختلف في تعيينهم ، فقيل : هم المذكورون في الأحزاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيمَ } [ الأحزاب : 7 ] وهم أهل الشرائع ، الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمُّل مشاقها ، وسياسة مَن تمسّك بها ، ومعاداة الطاعنين فيها . وقيل : هم الصابرون على بلاء الله تعالى ، كنوح صَبَر على إذاية قومه ، كانوا يضربونه حتى يُغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النار ، وذَبْحِِ ولده ، ومفارقة وطنه ، وترك ولده ببلد خالية من العمران ، ويعقوب على فقد ولده ، وذهَاب بصره ، ويوسف على الجُب والسجن ، وأيوب على الضُر ، وموسى قال له قومه : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 61 ، 62 ] وعلى مكابدة التيه مع قومه ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة .
وقيل : هم اثنا عشر نبياً ، أُرسلوا إلى بني إسرائيل ، فعصوهم ، فأوحى الله إلى الأنبياء : إني مرسل عذابي على عصاة بني إسرائيل ، فشقَّ عليهم ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلتُ بكم العذاب ، وأنجيت بني إسرائيل ، وإن شئتم أنجيتكم وأنزلت ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب ويُنجي بني إسرائيل ، فسلّط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم مَن نُشر بالمناشير ، ومنهم مَن سُلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم مَن رُفع على الخشب ، ومنهم مَن أُحرق بالنار . نسأل الله العافية ، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء .
وقيل : " من " للتبيين ، كقولك : اشتريت ثياباً من الخز ، فكلهم أولو العزم ، وقيل : إلا يونس ، لقوله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [ القلم : 48 ] وآدم لقوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [ طه : 115 ]
ثم قال تعالى : { ولا تستعجلْ لهم } أي : لكفار مكة نزول العذاب ، فإنه نازل بهم ، { كأنهم يوم يَرَوْن ما يُوعدون } من العذاب { لم يلبثوا } في الدنيا { إِلا ساعةً } يسيرة { من نهارٍ } لما يُشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته . وقال الثعالبي : وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام ، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد ، وحفظ الحواس ، ومراعاة الأنفاس ، ومراقبة مولاك ، فاتخذه صاحباً ، ودعْ الناس جانباً ، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النفس إلى النهوض إلى الله ، والفرار مما سواه ، فانظره .
هذا { بلاغٌ } أي : هذا الذي وُعظتم به كفاية في الموعظة ، أو تبليغ من الرسول ، أو مني إليك ، ومنك إلى العالمين .
(6/49)

{ فهلْ يُهلك إِلا القوم الفاسقون } أي : ما يُهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ ، أو عن هذه المواعظ ، أو عن الطاعة ، أو : فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة ، والأدلة القاطعة إلا مَن هلك عن بينة ، أو : فلا يهلك مع رحمة الله وتفضُّله إلا الهالكون ، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء : { إِنَّ فِى هَذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدينَ } [ الأنبياء : 106 ] الآية .
فائدة : قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها ، فليكتب هاتين الآيتين الكريمتين في صحيفة ، ثم تغسل وجهها منها ، وتُسقى منها : بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله ، العظيم الحليم ، سبحان الله رب السموات والأرض ، ورب العرش العظيم ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، { كأنهم يوم يرون ما يُوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } صدق الله العظيم . ه .
الإشارة : أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير ، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم ، فهم جلاليون الظاهر ، جماليون الباطن ، قد أسّسوا منار الطريق ، وأظهروا معالم التحقيق ، قاسوا شدائد المجاهدة ، وأفضوا إلى دوام المشاهدة ، عالجوا سياسة الخلق ، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير ، فهم خلفاء الرسل في تجديد الشرائع ، وإحياء الدين ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . فيُقال لكل وليّ من أولي العزم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك .
قال القشيري : والصبرُ هو الوقوفُ لحكم الله تعالى ، والثبات من غير بَثّ الاستكراه . ه . أي : من غير إظهار الشكوى والتكرُّه . قلت : وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات ، وتوالي الأزمات ، وصيانة الوجه عن ذلك المخلوقات ، ولله در القائل :
اِرض بِأدْنَى الْعَيْشِ وَاشْكر عَلَيْهِ ... شُكْرَ مَن الْقلُّ كَثيرٌ لَدَيْهِ
وجَانِب الْحرص الَّذِي لَمْ يَزَل ... يَحُطُّ قَدْرَ الْمتَراقِي إِلَيهِ
وحَامِ عَنْ عِرْضِكَ وَاسْتَبقهِ ... كَمَا يُحامي اللَّيْثُ عَنْ لُبْدَتَيْهِ
وَاصْبِرْ علَى ما نَابَ مِن نوبٍ ... صَبْرَ أُولِي الْعَزْمِ ، وَاغْمِضْ عَلَيْهِ
ولبدتي الأسد : جانبا كتفيْه .
ويُقال لأُولي العزم ، حين يُؤذون من جهة الخلق : { ولا تستعجل لهم . . . } الآية . وقوله تعالى : { كأنهم يوم يرون . . . } الآية ، قال القشيري : مُدةُ الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى مُنتهى آجالهم ، بالإضافة إلى الأزلية ، كلحظةٍ ، بل هي أقلُّ ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء ، وأيّ خَطَرٍ لما حصل في لحظةٍ . . خيراً كان أو شرّاً؟ ه .
قال الورتجبي ، ثم بيَّن أن عند معاينة سطوات القهريات ، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتي ، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم بقوله : { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } الخارجون بالدعاوى الباطلة . ه . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/50)

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قلت : { الذين } : مبتدأ ، و { أضل } : خبر ، و { من ربهم } : من ضمير الحق ، وجملة { وهو . . . } الخ : اعتراضية بين المبتدأ والخبر ، و { ذلك } : مبتدأ ، و { بأن } : خبر .
يقول الحق جلّ جلاله : { الذين كفروا وصَدوا عن سبيل الله } أي : أعرضوا وامتنعوا عن الدخول في الإسلام ، أو صدُّوا غيرهم عنه . قال الجوهري : صدّ عنه ، يَصِدّ ، صُدُوداً : أعْرَض ، وصدَّهُ عن الأمر صَدّاً ، مَنَعَه ، وصَرَفه عنه . ه . وهم المطعمون يوم بدر ، أو : أهل الكتاب ، كانوا يصدون مَن أراد الدخول في الإسلام ، منهم ومن غيرهم ، أو عام في كل مَن كفر وصدّ ، فهؤلاء { أضلَّ أعمالهم } أي : أحبطها وأبطلها ، أي : جعلها ضالة ضائعة ، ليس لها مَن يتقبلها ويُثيب عليها ، كضالة الإبل . وليس المعنى أنه أبطلها بعد أن لم تكن كذلك ، بل بمعنى : أنه حكم ببطلانها وضياعها ، فإنَّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر ، كصِلة الأرحام ، وقِرى الضيف ، وفك الأسارى ، وغيرها من المكارم ، ليس لها أثر من أصلها؛ لعدم الإيمان ، أو : أبطل ما عملوا من الكيد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصد عن سبيله ، بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ، وهو الأوفق بقوله : { فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 8 ] .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } قيل : هم ناس من قريش ، وقيل : من الأنصار ، وقيل : مَن آمن مِن أهل الكتاب ، والمختار أنه عام ، { وآمَنوا بما نُزِّل على محمد } صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن ، وخُصّ بالذكر من بين ما يجب الإيمان به؛ تنويهاً بشأنه ، وتنبيهاً على سُمو مكانه من بين ما يجب الإيمان به ، وأنه الأصل في الكل؛ ولذلك أكّده بقوله : { وهو الحق من ربهم } أي : القرآن : لكونه ناسخاً لغيره من الكتب ، وقيل : دين محمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لا يرد عليه النسخ ، وهو ناسخ لسائر الأديان ، { كفَّر عنهم سيئاتهم } أي : ستر بالإيمان والعمل الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي؛ لرجوعهم عنها بالتوبة { وأصلح بالهم } أي : حالهم وشانهم ، بالتوفيق لأمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا ، بما أعطاهم الله من النصرة والعزة والتمكين في البلاد .
{ ذلك بأن الذين كفروا اتَّبعوا الباطلَ وأنَّ الذين آمنوا اتَّبعوا الحق من ربهم } أي : ذلك الأمر ، وهو إضلال أعمال أهل الكفر ، وتفكير سيئات أهل الإيمان ، وإصلاح شأنهم؛ كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطلَ؛ وهو الشيطان ، حيث فعلوا ما فعلوا من الكفر والصد ، واتباع هؤلاء الحق ، وهو القرآن ، أو ما جاء به صلى الله عليه وسلم ، أو يراد بالباطل : الزائل الذاهب من الدّين الفاسد ، وبالحق : الدين الثابت ، أو يراد بالباطل : نفس الكفر والصد ، وبالحق : نفس الإيمان والأعمال الصالحة .
{ كذلك } أي : مثل الضرب البديع { يضرب اللّهُ } أي : يُبين { للناس أمثالهم } أي : أحوال الفريقين ، وأوصافهما ، الجارية في الغرابة مجرى الأمثال ، وهو اتباع الأولين الباطلَ ، وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحقَّ ، وفوزهم وفلاحهم ، والضمير راجع إل الناس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضربُ أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلاً لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلاً لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلاً لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلاً لفوز الأبرار .
(6/51)

الإشارة : الذين كفروا بوجود الخصوصية ، وصدُّوا الناسَ عنها؛ أبطل سيرهم إليه ، فكلما ساروا رجعوا ، والذين آمنوا الإيمان الكامل واتعبوا السنّة النبوية ، ستر مساوئهم ، وأصلح شأنهم ، حتى صلحوا لحضرته . قال القشيري : الذين كفروا : امتنعوا ، وصدُّوا : مَنَعوا ، فلامتناعهم عن الله استوجبوا العقوبة ، ولمنعهم الخلق عن الله استوجبوا الحَجْبَةَ . ثم قال في قوله : { وأصلح بالهم } فالكفر للأعمال مُحْبطٌ ، والإيمان للخلود مُسْقِط ، ويقال : الذين اشتغلوا بطاعة الله ، ولم يعملوا شيئاً مما خالف اللّهَ - فلا محالة - يقوم الله بكفاية أشغالهم . ه .
وقوله تعالى : { ذلك بأنَّ الذين كفروا اتبعوا الباطل . . . } الآية ، قال الورتجبي : اتبع الكفرة ما وقع في مخايلهم ، من هواجس النفس ، ووساوس الشيطان ، ولا يقبلون طرائق الرشد من حيث الوحي والإلهام ، وأنَّ الذين صدقوا في دين الله ، وشاهدوا الله بالله ، واتبعوا سنّة رسوله وخطابه ، وما يقع في أسرارهم من النور والبيان ، والإلهام والكلام ، بنعت الإخلاص في طاعته ، والأدب في خدمته والإعراض عن غيره ، قال ابن عطاء : اتباع الباطل : ارتكاب الشهوات وأمالي النفس ، واتباع الحق : اتباع الأوامر والسنن . ه . قال القشيري : اتباع الحق بموافقة السنة ، ومتابعة الجد في رعاية الحق وإيثار رضاه ، والقيام بالطاعة ، واتباع الباطل : الابتداع والعمل بالهوى ، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية . ه .
(6/52)

فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
قلت : { فضَرْب } : مصدر ، نائب عن فعله ، مضاف إلى مفعوله ، و { مَنّاً } و { فِدَاءً } : مصدران لمحذوف ، و { الذين كفروا } : مبتدأ حُذف خبره ، وهو العامل في المصدر ، أي : والذين كفروا فأتعسهم تعساً ، و { أضل أعمالهم } : عطف على الخبر المحذوف .
يقول الحق جلّ جلاله : { فإِذا لقيتم الذين كفروا } في المحاربة { فَضَرْبَ الرقابِ } أصله : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فحذف الفعل وناب عن مصدره؛ للاختصار ، مع إعطاء معنى التوكيد ، لدلالة نصبه على مؤكده ، وضرب الرقاب عبارةٌ عن مطلق القتل ، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون ، { حتى إِذا أَثخنتموهم } أكثرتم فيه القتل ، وأغلظتموه ، من : الشيء الثخين ، وهو الغليظ ، أو : أثقلتموهم بالجِراح وهزمتموهم ، { فشُدُّوا الوَثاقَ } أي : فأسِروهم ، وشُدوا وثاقهم ، لئلا يتفلتوا ، والوثاق بالفتح والكسر : ما يشد به . فإذا أسرتموهم فتخيّروا فيهم { وإِما فِدَاءً } أن تفدوا فداءً ، والمعنى : التخيُّر بين الأمرين بعد الأسر ، بين أن يَمُنُّوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يُفادوهم ، ومذهب مالك : أن الإمام مُخَيَّر في الأسارى بين خمسة ، وهي : المنّ ، والفداء ، والقتل ، والاسترقاق ، وضرب الجزية ، وقيل : لا يجوز المَن ولا الفداء؛ لأن الآية منسوخة بقوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] فيتعين قتلهم ، والصحيح أنها محكمة ، ومَذْهَب الشافعي : أن الإمام مُخير بين أربعة : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمنّ . ولعل الجزية عنده خاصة بأهل الكتاب .
ومذهب أبي حنيفة : التخيير بين القتل والاسترقاق فقط ، قال : والآية منسوخة؛ لأن سورة براءة آخر ما نزل . وعن مجاهد : ليس اليوم مَنّ ولا فداء ، والمراد بالمنّ في الآية .
أن يمنّ عليهم بترك القتل ، فيسترقوا ، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية . ه .
والمشهور : مذهب مالك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل عقبةَ بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، يوم بدر صبراً ، وفادى سائر الأسارى ، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير ، وارتق نساء بني قريظة ، فابعهم ، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر .
ثم ذكر غاية الحرب فقال : { حتى تضع الحربُ أوزارها } أي : اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها ، وآلاتها ، التي لا قوم إلا بها ، كالسلاح والكراع ، وذلك حيث لم يبقَ حرب ، بأن تضع أهل الحرب عُدتها ، وقيل : { أوزارها } آثامها ، يعني : حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم ، بأن يُسلموا جميعاً . والمختار : أن المعنى : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان ، ويؤمن أهل الكتاب ، طوعاً أو كرهاً ، ويكون الدين كله للّه ، فلا يحتاج إلى قتال . وقال الحسن : معناه ، : حتى لا يُعبد إلا الله . وقال ابن عطية : ظاهر اللفظ : أنها استعارة ، يُراد بها التزام الأمر كذلك أبداً ، كما تقول : أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة .
(6/53)

ه . فالغاية ب " حتى " راجعة إلى الضرب والشد ، وما ترتب عليه من المنّ والفداء .
{ ذلك } الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك ، { ولو يشاء اللّهُ لانتصرَ } لانتقم { منهم } بغير قتال؛ بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال ، كالخسف أو الرجف أو غير ذلك ، { ولكن } أمركم بالقتال { ليَبلُوا بعضَكم ببعض } أي : المؤمنين بالكافرين ، فأمَرَهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم ، وليسلم مَن سبق إسلامه من الكافرين . { والذين قاتلوا في سبيل الله } لإعلاء كلمة التوحيد ، لا لغرض آخر ، { فلن يُضِلَّ أعمالَهم } فلن يضيعها .
{ سيهديهمْ } في الدنيا إلى طريق الرشد والصواب ، وفي الآخرة إلى جزيل الثواب وقيل : يهديه إلى جواب منكر ونكير ، { ويُصلحُ بالَهم } بأن يَقبل أعمالهم ويُرضي خصماءهم ، { ويُدخلهم الجنةَ عَرَّفها لهم } . قال مجاهد : عرّفهم مساكنهم فيها؛ حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها ، أو : طَيَّبها ، من : العَرف ، وهو طيب الرائحة ، ويمكن الجمع : بأن عَرْف المحل يهدي صاحبَه إلى جنته ومحله .
{ يا أيها الذين آمنوا إِن تنصروا اللهَ } بنصر دينه وإظهار شريعة نبيه { ينصركمْ } على عدوكم ، ويفتح لكم ، { ويُثبت أقدامكم } في مواطن الحرب ومواقفها ، أو على محجة الإسلام ، { والذين كفروا فتعساً لهم } أي : فيقال : تعساً لهم ، والتعس : الهلاك ، أو السقوط والانحطاط ، أو العثار ، أو البُعد . وقال ابن السكيت : التعس : أن يجر على وجهه . ه . أي : أتعسهم الله تعساً ، أي : أهلكهم وأبعدهم . وقال ابن عباس : " في الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة بالتردي في النار " . والمراد بالذين كفروا عام ، وقيل : المراد مَن يضاد الذين ينصرون دين الله ، كأنه قيل : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، ومَن لم ينصره فتعساً له ، فوضع { الذين كفروا } موضع مَن لم ينصره؛ تغليظاً ، فهو وِفقٌ لأسلوب السورة من التقابل المعنوي ، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها ، ولذلك دخلت الفاء في خبر الموصول ، كما قرره الزجاج . انظر الطيّبي . ه . من الحاشية . { وأضَلَّ أعمالَهم } أي : أحبطها وأبطلها .
{ ذلك } التعس والإضلال { بأنهم كَرِهوا ما أنزلَ اللّهُ } من القرآن؛ لما فيه من التوحيد؛ وسائر الأحكام ، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء ، { فأحْبَط } لأجل ذلك { أعمالَهم } التي كانوا عَمِلُوها ، من صلة الأرحام وغيرها .
الإشارة : نهايةُ الجهاد الأصغر : وضعُ الحرب أوزارَها بالإسلام أو السّلم ، ونهاية الجهاد الأكبر : استسلامُ النفس وانقيادها لما يُراد منها ، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية . قال بعض العارفين : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا . ه . فالإشارةُ بقوله : { إذا لقيتم الذين كفروا . . . } الخ إلى قتل الهوى والشطيان وسائر القواطع ، حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا وثاقهم ، ولا تأمنوا غائلتهم .
قال القشيري ، بعد كلام : وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه؛ فلا ينبغي أن يُبْقِيَ بعد انتقَاش شَوْكها بقيةً ، ولا في قلع شجرها مستطاعاً وميسوراً؛ فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة مَنْ وضع عليها إصبُعَه بَثَّتْ سُمَّها فيه .
(6/54)

ه . فإذا تمكنتم من معرفة الله ، فإما أن تَمُنوا عليها بترك جِهادها الأكبر ، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها في حلاوة الشهود ، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت ، ولو شاء اللّهُ لخلّصكم منها من غير جهاد ، فالقدرة صالحة ، ولكن ليختبركم ، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم " لولا ميادينُ النفوس ما تحقق سير السائرين " . والذين قاتلوا نفوسَهم في سبيل الله وطلب معرفته ، فلن يُضل أعمالَهم ، سيهديهم إلى معرفته ، ويُصلح بالهم بالاستغراق في شهوده ، ويُدخلهم جنة المعارف ، قد عرَّفها لهم ، وبيَّنها على أيدي الوسائط من الشيوخ العارفين ، أو طيّبها لهم ، فيهتدون بنسيم واردات التوجه ، إلى أنوار المواجهة . وقد أشار تعالى بقوله : { والذين قاتلوا في سبيل الله } إلى طلب الإخلاص ، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله ، أو معرفته ، إلا بتحقُّق الإخلاص ، من غير التفات لغرض نفساني ، لا عاجلاً ولا آجلاً .
ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ : أن ميْسرة الخادم ، قال : غزونا في بعض الغزوات ، فإذا بفتى جانبي ، وهو مقنَّع بالحديد ، فحمل على الميمنة ، ثم الميسرة ، ثم على القلب ، ثم أنشأ يقول :
أَحْسِنْ بمَولاكَ سَعيدُ ظنّاً ... هَذَا الذِي كُنتَ تَمَنَّى
تَنَح يا حُورَ الْجنَانِ عَنَّا ... مَا فيك قَاتَلْنَا ولا قُتِلْنا
لكِنْ إِلى سَيدكُنَّ اشْتَقْنَا ... قَدْ عَلِم السر وما أَعْلَنَّا
قال : فحمَل فقاتل ، فقَتَل منهم عدداً ، ثم رجع إلى موقفِه ، فتكالب عليه العدو ، فحملَ ، وأنشأ يقول :
قد كُنْتُ أَرْجُوا وَرَجَائي لَمْ يَخِبْ ... أَلاَّ يَضيعَ الْيَومَ كَدِّي والطَّلَبْ
يا مَن ملأ تِلْكَ الْقُصُورِ باللعب ... لَولاَكَ مَا طَابَتْ ولاَ طَابَ الطَّرَب
ثم حمَلَ فقاتل ، فقَتل عدداً كثيرا ، ثم رجع إلى مصافه ، فتكالب عليه العدو ، فحملَ ثالثة ، وأنشأ يقول :
يَا لُعبةَ الْخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسْمَعِي ... ما لَكِ قَاتَلْنَا فَكُفّي وَارْجِعي
ثُمَّ ارْجِعِي إلى الْجِنَانِ وأَسْرعي ... لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي لاَ تَطْمعِي
فقاتل رضي الله عنه حتى قُتل - رحمه الله . ه .
قوله تعالى : { إِن تنصروا الله ينصركمْ ويُثبتْ أقدامكمْ } فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير ، الداعين إلى الله ، الذين يسعون في أظهار الدين ، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، لئن شئتم لأقسمن لكم ، أن أحب عباد الله إلى الله الذين يُحببون اللّهَ إلى عباده ، ويُحببون عبادَ اللهَ إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " وقال أيضاً : " الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله " وأعظم النفع : إرشادهم إلى الله ، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية .
وقال الورتجبي : نُصرةُ العبد لله : أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه ، فإنهم أعداؤه ، فإذا خاصمها يُقويه الله وينصره عليهم ، بأن يدفع شرهم عنه ، ويجعله مستقيماً في طاعة الله ، ويجازيه بكشف جماله ، حتى يَثْبُتَ في مقام العبودية ، وانكشاف أنوار الربوبية . ه .
قال القشيري : ونصرةُ الله للعبد بإعلاء كلمته ، وقمع أعدائه . ثم قال في قوله تعالى : { ويُثبت أقدامكم } هو إدامة التوفيق ، لئلا ينهزم من صَوْلة أعداء الدين ، ولا يَضعُف قلبُه في معاداتهم ، ولا ينكسر باطنُه ثقةً بالله في إعزازِ دينه . ه . ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله ، الناصرين لدينه ، وهم المنتقدون عليهم ، فقال : { والذين كفروا فتسعاً لهم } أي : خيبةً لهم ، { وأضل أعمالهم } فلا يتوصلون بها إلى معرفته ، لكونها معلولة .
(6/55)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
يقول الحق جلّ جلاله : { أفلم يسيروا } أي : أَقعدوا فلم يسيروا { في الأرض } يعني كفار مكة ، { فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من الأمم المكذبة؟ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم ، فقد { دَمَّر اللَّهُ عليهم } فالجملة : استئناف مبني على سؤال ، كأنه قيل : كيف كان عاقبتهم؟ فقيل : استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، يُقال : دمّره؛ أهلَكه ، ودمّر عليه : أهلك عليه ما يختص به ، قاله أبو السعود . وفي الصحاح : الدمار : الهلاك ، دمّره تدميراً ، ودمَّر عليه ، بمعنى . ه . فظاهرة : أن معناهما واحد ، وفسره في الأساس بالهلاك المستأصل ، وقال الطيبي : في دمّر عليهم تضمينُ معنى أطبقَ ، فعُدي بعلى ، ولذلك استأصل . ه .
{ وللكافرين } أي : ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرَتِهم { أمثالُها } أي : أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير ، أو أمثال عواقِبهمْ أو عُقوبَاتهم ، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافَه؛ بل مثله ، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة ، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة ، ويجوز أن يكون عذابُهم أشدّ من عذاب الأولين فقد قُتلوا وأُسروا بأيدي مَن كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم ، والقتل بيد المثل أشد ألماً من الهلاك بسبب عام ، وقيل : دمَّر اللّهُ عليهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة أمثالُها .
{ ذلك } أي : نصرُ المؤمنين وهلاكُ الكافرين في الحال أو المآل { بأنَّ اللّهَ مولى الذين آمنوا } أي : ناصِرُهم ومعِزَّهُم { وأنَّ الكافرين لا مولى لهم } فيدفع عنهم ما حَلّ بهم من العقوبة ، ولا يخالف هذا قوله : { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } [ الأنعام : 62 ] لأن المولى هناك بمعنى المالك .
{ إِن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناتِ تجري من تحتها الأنهارُ } وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية ، { والذين كفروا يتمتعون } في الدنيا بمتاعِها أياماً قلائل ، { ويأكلون } غافلين عن عَواقبهم ، غير متفكرين فيها { كما تأكل الأنعامُ } في مسارحها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح ، فالتشبيهُ بالأنعام صادقٌ بالغفلةِ عن تدبير العاقبة ، وعن شكر المنعِم ، وبعدم التمييز للمُضر من غيره ، كأكل الحرام وعدم تَوَقيه ، وكذا كونُه غير مقصورٍ على الحاجة ، ولا على وقتها ، وسيأتي في الإشارة إن شاء الله . { والنارُ مثوىً لهم } أي : منزلُ ثوَاه وإقامته ، والجملةُ إما حال مقدرةٌ من واو { يأكلون } ، أو استئناف .
الإشارة : تفكُّر الاعتبار يكون في أربعة ، الأول : في سرعة ذهاب الدنيا وانقراضها ، كأضغاث أحلام ، وكيف غرَّت مَن انتشب بها ، وأخذته في شبكتها ، حتى قدِم على الله بلا زاد ، وكيف دَمّر اللّهُ على أهل الطغيان ، واستأصل شأفتهم ، فيُنتج ذلك التشمير والتأهُّب ليوم الجزاء . الثاني : في دوام دار البقاء ، ودوام نعيمها ، فينتهز الفرصة في العمل الصالح ، . الثالث : في النِعَم التي أنعم الله بها على عباده ، الدنيوية والأخروية ، الحسية والمعنوية ، قال تعالى :
(6/56)

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] فينْتِج ذلك الشكر ، لتدوم عليه . الرابع : في نصب هذه العوالم ، على ما هي عليه من الإبداع والإتقان ، فيُثمر ذلك معرفةَ الصانع ، وباهرِ قدرته وحكمته .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا . . . } الخ ، قال القشيري : المَوْلَى : المحِبُّ ، فهو محب الذين آمنوا ، والكافرين لا يُحبهم ، ويصح أن يُقال : أرجى آيةٍ في القرآن هذه الآية ، لم يقل مولى الزُهّاد والعُبّاد وأصحاب الأورادِ والاجتهاد : بل قال : { مولى الذين آمنوا } والمؤمن وإن كان عاصياً فهو من جملتهم . ه . والمحبة تتفاوت بقدر زيادة الإيمان والإيقان حتى يصير محبوباً مقرباً .
قوله تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } وكذلك الغافل ، فالأنعام تأكل بلا تمييز ، من أي موضع وجدت ، كذلك الجاهل ، لا تمييز له من الحلال أو من الحرام ، والأنعام ليس لها وقت لأكلها ، بل تأكل في كل وقت ، وكذلك الغافل والكافر . فقد ورد " أن الكفار يأكل في سبعة أمعاء ، والمؤمن يجتزئ بما تيسّر " ، كما في الخبر : " ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنٍ " والأنعام تأكل على الغفلة ، فمَن كان في أكله ناسياً لربه ، فأكلُه كأكل الأنعام . انظر القشيري .
(6/57)

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
قلت : { كأيّن } : كلمة مركبة من الكاف و " أيّ " ، بمعنى كم الخبرية ، ومحلها : الرفع بالابتداء ، وقوله : { هي أشد } : نعت لقرية ، و { أهلكناهم } : خبر ، وحذف المضاف ، أي : أهل قرية ، بدليل " أهكناهم " .
يقول الحق جلّ جلاله : { وكأيِّن من قريةٍ } أي : كثير من أهل قرية { هي أشدُّ قوةً من قريتك } مكة ، { التي أخرجتك } أي : تسببوا في خروجك ، أي : وكم من قوم هم أشدُّ قوةً من قومك الذين أخرجوك ، { أهلكناهم } بأنواع العذاب ، { فلا ناصرَ لهم } فلم يكن لهم مَن ينصرهم ويدفعُ العذابَ عنهم ، فأنتم يا معشر قريش أهونُ منهم ، وأولى بنزول ما حجل بهم .
{ أفمَن كان على بينة من ربه } أي : حُجةٍ واضحةٍ ، وبرهانٍ قاطع ، وهو القرآن المعجزُ ، وسائر المعجزات ، يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { كمن زُيِّن له سوءُ عمله } وهو أهل مكة ، زين للشيطانُ شركَهم وعداوتَهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم { واتبَعوا أهوائهم } الزائغة ، ونهمكوا في فنون الضلالات ، من غير أن يكون لهم شُبهة توهم صحة ما هم عليه ، فضلاً عن حُجةٍ تدل عليها . وقيل : المراد بمَن كان على بينة : المؤمنون فقط ، المتمسكون بأدلة الدين .
قال أبو السعود : وجعلُها عبارة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين ، لا يُساعد النظم الكريم ، عى أن الموازاة بينه صلى الله عليه وسلم ، وبين مَن زُيّنَ له سوءُ عمله مما يأباه مَنصِبُه الجليل . والتقدير : أليس الأمر كما ذُكِر؟ فمَن كان مستقرّاً على حُجةٍ ظاهرة ، وبرهانٍ نيّر من مالكٍ أمره ومُربّيه ، وهو القرآن ، وسائر الحجج العقلية ، { كمَن زُين له سوء عمله } من الشرك وسائر المعاصي ، مع كونه في نفسه أقبح القبائح . ه .
الإشارة : في الآية تهديدٌ لمَن يُؤذي أولياءَ الله ، ويُخرجهم من مواطنهم بالهلاك العاجل أو الآجل . وقوله تعالى : { أفمن كان على بينة من ربه } تقدّم في سورة هود الكلام عليها . وقال القشيري هنا ، في تفسير البينة : هي الضياء والحُجة والاستبصار بواضح المحجة ، فالعلماء في ضياء برهانهم ، والعارفون في ضياء بيانهم ، فهؤلاء بأحكام أدلة الأصول يُبصرون ، وهؤلاء بحُكم الإلهام والوصول يستبصرون . ه .
(6/58)

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
{ مثل } : مبتدأ حُذف خبره ، أي : صفة الجنة ما تسمعون ، وقدَّره سيبويه : فيما يُتلى عليكم مثل الجنة ، وقيل : المثل زائد ، أي : الجنة فيها أنهار . . . الخ ، و { كمَن هو خالد } : خبر لمحذوف ، أي : أَمَن هو خالد في هذه الجنة ، كمَن هو خالد في النار؟
يقول الحق جلّ جلاله : { مَثلُ الجنةِ } أي : صفتها العجيبة ، العظيمة الشأن { التي وُعدَ المتقون } الشركَ والمعاصي ، هو ما نذكره لكم ، { فيها أنهار من ماء غيرِ آسنٍ } غير متغير الطعم واللون والرائحة ، يقال : أسن الماء : إذا تغير ، سواء أنتن أم لا ، فهو آسن وأسِن ، { وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمُه } كما تتغير ألبان الدنيا بالحموضة وغيرها ، وانظر إذا تمنّاه كذلك مربّباً أو مضروباً . والظاهر : أنه يعطَاه كذلك ، إذ فيها ما تشتهيه الأنفس . { وأنهارٌ من خبرٍ لذةٍ للشاربين } أي : لذيذة ، ليس فيها كراهة طعم وريح ، ولا غائلة سُكْرٍ ، وإنما هي تلذُّذ محضٌ . و " لذة " : إما تأنيث " لذّ " بمعنى لذيذ ، أو : مصدر نُعت به للمبالغة .
{ وأنهار من عسل مُصفى } لم يخرج من بطون النحل فيخالطه شمع أو غيره ، وفي حديث الترمذي : " إنَّ في الجنة بحرَ الماء ، وبحرَ اللبن ، وبحرَ العسل ، وبحرَ الخمر ، ثم تُشَقَّقُ الأنهارُ بعدُ " قال : حسن صحيح . وعن كعب : نهر دجلة من نهر ماء الجنة ، والفرات نهر من لبنها ، والنيل من نهر خمرها ، وسَيْحان من نهر عسلها ، والكل يخرج من الكوثر . قلت : ولعل الثالثة لمّا خرجوا إلى الدنيا تغيّر حالُهم ، ليبقى الإيمان بالغيب . والله تعالى أعلم .
قيل : بُدئ من هذه الأنهار بالماء؛ لأنه لا يُستغنى عنه قط ، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم والمشروب في كثير من الأوقات ، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الريّ المطعومُ تشوقت النفسُ إلى ما يلتذ به ، ثم بالعسل؛ لأنه فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم؛ فهو متأخر في الرتبة .
{ ولهم فيها } مع ما ذكر من فنون الأنعام { من كل الثمراتٍ } أي : صنف من كل الثمرات . { و } لهم { مغفِرةٌ } عظيمة { من ربهم } أي : كائنة من ربهم ، فهو متعلق أي : مغفرة عظيمة من ربهم . وعبّر بعنوان المغفرة دون الرحمة؛ إشعاراً بأن الميل إلى نعيم الأشباح نقص في الدارين يستوجب المغفرة .
أيكون هذا { كمَن هو خالد في النار } ؟ أو : مثل الجنة كمثل جزاء مَن هو خالد في النار؟ وهو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه : النفي ، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيّزه ، وهو قوله : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } [ محمد : 14 ] ، وفائدة حذف حرف الإنكار ، زيادةُ تصويرٍ لمكابرة مَن يسوّي بين المتمسك بالبيّنة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة مَن يُثبت التسوية بين الجنة ، التي يجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار ، التي يُسقى أهلها الحميم الحار ، المُشار إليه بقوله : { وسُقوا ماءً حميماً } حارّاً في النهاية ، إذا دنا منهم شوى وجوههم ، ووقعت فروة رؤوسهم { فقَطَّع أمعاءهم } مصارينهم ، التي هي مكان تلك الأشربة .
(6/59)

نسأل الله العافية .
الإشارة : مثل جنة المعارف ، التي وُعدها المتقون كلَّ ما يشغل عن الله ، فيها أنهار من ماء علوم الحقيقة ، غير متغير صفاؤها ، ولا متكدرة أنوارُها ، وأنهار من لبن علوم الشريعة المؤيَّدة بالكتاب والسنّة ، لم تتغير حلاوة معاملتها ، ولا لذة مناجاتها ، وأنهار من خمرة الشهود ، لذة للشاربين لها ، تذهل حلاوتها العقول ، وتفوتُ عن مداركِ النقول ، وأنها من عسل حلاوة المكالمة والمسارَرة والمناجاة ، صافيات الأوقات ، محفوظة من المكدرات ، ولهم فيه من طُرف الحِكَم وفواكه العلوم ، ما لا تحصيه الطروس ، ولا تدركه محافل الدروس .
قال القشيري : ( مثل الجنة ) أي : صفتها كذا ، وللأولياء اليوم ، لهم شراب الوفاء ، ثم شراب الصفاء ، ثم شراب الولاء ، ثم شراب في حال اللقاء ، ولكل من هذه الأشربة عملٌ ، ولصاحبه سُكرٌ وصحوٌ ، فمَن تحسّى شراب الوفاء لم ينظر إلى أحد من الخلق في أيام غيبته عن إحساسه ، وأنشدوا :
وَمَا سَرَّ صَدْرِي مُنْذُ شَطَّتْ بِكَ النَّوى ... أنيس وَلاَ كَأْسٌ ولاَ مُتطرف
ومَن شرب بكأس الصفا خلص له عن كل شوب بلا كدورة في عهده ، فهو في كل وقت ظامئ عن نفسه ، خالٍ عن مطالباته ، قائم به ، بلا شغل في الدنيا ولا في الآخرة ، ومَن شرب كأس الولاء عدم فيه القرار ، ولم يغب سيرُه لحظة ، ليلاً ولا نهاراً ، وَمن شرب في حال اللقاء أَنِسَ على الدوام ببقائه؛ فلم يطلب مع بقائه شيئاً آخر ، لا من عطائه ولا من لقائه لاستهلاكه في علائه عند سطوات كبريائه . ه .
قلت : أما شراب الوفاء؛ فهو عَقد الإرادة مع الشيخ ، أو عقد المحبة والخدمة مع الحق ، فيجب الوفاء بكل منهما ، وهو كشُرب العطشان من الماء العذب ، وأما شراب الصفاء فهو صفاء العلم بالله ، وهو كاللبن تتغذى به الأرواح في حال ترقيها إلى الحضرة ، وأما شراب الولاء فهو شراب أهل التمكين من الولاية الكبرى ، فيشربون من الخمرة الأزلية ، فيسكرون ، ثم يصحون ، وفيها يقول الششتري رضي الله عنه :
لا شراب الدوالِي ، إنها أرضيه ... خمرُها دُون خمري ، خمرتي أزليه
وأما شراب حال اللقاء؛ فالمراد به ، أوقات رجوعهم إلى البقاء ، فيتفنّنون في علوم الحكمة وحلاوة المعاملة . والله تعالى أعلم .
(6/60)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
قلت : { آنفاً } : قال الزمخشري ومَن تبعه : ظرف ، أي : الساعة ، وقال أبو حيان : لا أعلم أحداً عدّه من الظروف ، وجوَّز " مَكيّ " فيه الظرف والحالية . قال الهروي : " آنفاً " مأخذوة من : ائتنفت الشيء : إذا ابتدأته ، وروضة أنُفٌ : إذا لم تُرعَ . المعنى : ماذا قال في وقت يقرب من وقتنا؟ و { أن تأتيهم } : بدل اشتمال من الساعة .
يقول الحق جلّ جلاله : { ومنهم مَن يستمعُ إليك } وهم المنافقون ، كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويسمعون كلامه ولا يَعُونَه ، ولا يُراعونَه حق رعايته ، تهاوناً منهم ، { حتى إِذا خرجوا من عندك قالوا للذين أُوتوا العلم } من الصحابة رضي الله عنهم : { ماذا قال آنفاً } ما الذي قال الساعة؟ على طريقة الاستهزاء ، أو : ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه؟
وقال مقاتل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، ويعيب المنافقين ، فسمع المنافقون قوله ، فلما خرجوا من المسجد ، سألوا ابنَ مسعود عما قال النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء . وقال ابن عباس : " أنا من الذين أُوتوا العلم ، وقد سُئلت فيمن سُئل " . ويقال : الناس ثلاثة : سامع عامل ، وسامع غافل ، وسامع تارك .
{ أولئك الذين طبع اللّهُ على قلوبهم } لعدم توجهها إلى الخير أصلاً ، { واتبعوا أهواءهم } الباطلة ، فلذلك فعلوا ما فعلوا ، مما لا خير فيه ، { والذين اهتدوا } إلى طريق الحق { زادهم } الله بذلك { هُدىً } علماً وبصيرة ، أو شرْح صدر بالتوفيق والإلهام ، أو : زادهم ما سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم هدايةً على ما عندهم ، { وآتاهم تقواهم } أعانهم عليها ، أو : آتاهم جزاء تقواهم ، أو : بيَّن لهم ما يتقون .
{ فهل ينظرون } أي : ما ينتظرون { إِلا الساعةَ أن تأتيهم بغتةً } أي : تُباغِتهم بغتةً ، وهي الفجاءة ، والمعنى : أنهم لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ، ولا بالإخبار بإتيان الساعة ، وما فيها من عظائم الأهوال ، وما ينظرون إلا إتيان نفس الساعة بغتة ، { فقد جاء أشراطُها } علاماتهان جمع : شَرَط بالتحريك ، بمعنى : العلامة ، وهي مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وانشقاق القمر ، والدخان ، على قول . وقيل : قطع الأرحام ، وقلة الكِرام ، وكثر اللئام ، فقوله تعالى : { فقد جاء أشراطها } تعليل لمفاجأتها ، لا لمطلق إتيانها ، على معنى : أنه لم يبقَ من الأمور الموجبة للتذكير أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها ، فلم يرفعوا لها رأساً ، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة .
{ فأنَّى لهم إِذا جاءتهم ذِكراهم } قال الأخفش : التقدير : فأنَّى لهم ذكراهم إذا جاءتهم ، أي : فمن أين لهم التذكير والاتعاظ إذا جاءتهم الساعة؟ ف " ذكراهم " : مبتدأ ، و " أنَّى " : خبر مقدم ، و " إذا جاءتهم " : اعتراض ، وسط بينهما ، رمز إلى غاية سرعة مجيئها ، والمقصود : عدم نفع التذكير عند مجيئها ، كقوله تعالى :
(6/61)

{ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 23 ] .
الإشارة : مجلس الوعظ والتذكير ، إن كان المذكِّر من أهل التنوير ، نهض المستمع له إلى الله قطعاً ، لكن ذلك يتفاوت على قدر سريان النور فيه قطعاً ، فمنهم مَن يصل النور إلى ظاهر قلبه ، ومنهم مَن يصل إلى داخل القلب ، ومنهم مَن يصل إلى روحه ، ومنهم مَن يصل إلى سره ، وذلك على قدر التفرُّع والاستعداد ، فمَن وصل النورُ إلى ظاهر قلبه نهض إلى العمل الظاهر ، وكان بين حب الدنيا والآخرة ، ومَن وصل إلى قلبه نهض بقلبه إلى الله ، ورفض الدنيا وراءه ، ومَن وصل إلى روحه انكشف عنه الحجاب ، ومَن وصل إلى سره تمكن من شهود الحق .
وفي الحِكَم : " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم ، فحيثما سار التنويرُ وصل التعبير " ، وهذا إن حضر مستفيداً ، وأما إن حضر منتقداً ، فهو قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك . . . } الآية ، والذين اهتدوا لدخول طريق التربية زادهم هُدىً ، فلا يزالون يزيدون تربيةً وترقيةً إلى أن يصلوا إلى مقام التمكين من الشهود . قال القشيري : والذين اهتدوا بأنواع المجاهدات زادهم هُدىً لأنوار المشاهداتْ ، واهتدوا بتأمُّل البرهان ، فزادهم هُدىً برَوْح البيان ، أو اهتدوا بعلم اليقين ، فزادهم هُدىً بحق اليقين . ه .
(6/62)

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
يقول الحق جلّ جلاله : { فاعلم أنه لا إِله إِلا اللّهُ } أي : إذا علمت أن مدار السعادة ، والفوز بالنعيم في دار البقاء هو التوحيد والطاعة ، ومناط الشقاء والخسران في دار الهوان هو الإشراكُ والعصيان ، فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد ، واعلم أنه لا إله في الوجود إلا الله ، فلا يستحق العبادة غيره ، { واستغفر لذنبك } وهو ما قد يصدر منه صلى الله عليه وسلم من خلاف الأولى ، عبّر عنه بالذنب نظراً إلى منصبه الجليل ، كيف لا ، وحسنات الأبرار سيئات المقربين؟ فكل مقام له آداب ، فإذا أخلّ بشيء من آدابه أُمر بالاستغفار ، فلمقام الرسالة آداب ، ولمقام الولاية آداب ، ولمقام الصلاة آداب ، وضعفُ العبودية لا يقوم بجميع حقوق الربوبية ، قال تعالى : { وَمَا قٌدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] . وبالجملة فالقيام بالآداب مع الله - تعالى - على ما يستحقه - سبحانه - حتى يُحيط العبد بجميع الآداب مع عظمة الربوبية محال عادة ، قال صلى الله عليه وسلم مع جلالة منصبه : " لا أُحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " فكل ما قَرُبَ العبدُ من الحضرة شُدّد عليه في طلب الأدب ، فإذا أخذته سِنةٌ أُمر بالاستغفار ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستغفر في المجلس سبعين مرة ، أو مائة ، على ما في الأثر .
وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي ، بعد كلام : والحق أن استغفاره صلى الله عليه وسلم طلب ثبات المغفرة والستر من الوقوع ، لا طلب العفو بعد الوقوع ، وقد أخبره تعالى بأنه فعل . وقد يُقال : استغفار تعبُّد لا غير . قال : والذي يظهر لي أن أمره بالاستغفار مع وعد الله بأنه مغفور له؛ إشارة إلى الوقوف مع غيب المشيئة ، لا مع الوعد ، وذلك حقيقةٌ ، والوقوف مع الوعد شريعة . وقال الطيبي : إذا تيقنت أن الساعة آتية ، وقد جاء أشراطها ، فخُذ بالأهم فالأهم ، والأَولى فالأَولى ، فتمسّك بالتوحيد ، ونزِّه اللّهَ عما لا ينبغي ، ثم طَهِّر نفسك بالاستغفار عما لا يليق بك ، مِن ترك الأَولى ، فإذا صِرت كاملاً في نفسك فكن مكمِلاً لغيرك ، فاستغفر { للمؤمنين والمؤمنات } . ه . أي : استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم ، وترغيبهم فيما يستدعي غفران ذنوبهم .
وفي إعادة الجار تنبيه على اختلاف معلّقيْه؛ إذ ليس موجبُ استغفاره صلى الله عليه وسلم كموجب استغفارهم ، فسيئاته - عليه السلام - فرضاً حسناتهم . وفي حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه - أي : ولذنب المؤمنين - إشعار بعراقتهم في الذنوب ، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار .
{ واللّهُ يعلم متقلَّبكم ومثواكم } أي : يعلم متقلبكم في الدنيا ، فإنها مراحل لا بد من قطعه ، ويعلم مثواكم في العقبى؛ فإنها مواطن إقامتكم ، فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما ، فبادِروا إلى الامتثال لما أمركم به ، فإنه المهم لكم ، أو : يعلم متقلبكم : في معايشكم ومتاجركم ، ومثواكم : حيث تستقروا في منازلكم ، أو متقلبكم : في حياتكم ، ومثواكم : في القبور ، أو : متقلبكم : في أعمالكم الحسنة أو السيئة ، ومثواكم : من الجنة أو النار ، أو : يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها ، فمثله حقيق بأن يُخشى ويُتقى ويُستغفر .
(6/63)

الإشارة : قال القشيري : قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاعلم أنه لا إِله إلا الله } وكان عالماً ، ولكن أمره باستدامة العلم واستزادته ، وذلك في الثاني من حاله في ابتداء العلم ، لأن العلم أمر ، ولا يجوز البقاء على الأمر الواحد ، فكل لحظة يأتي فيها علم . ويقال : كان له علم اليقين ، فأُمِر بعين اليقين ، فأُمِر بعين اليقين ، أو : كان له عيه اليقين ، فأُمر بحق اليقين . ويقال : قال صلى الله عليه وسلم : " أنا أعملكم بالله وأخشاكم له " فنزلت الآية ، أي : أُمر بالتواضع . وهنا سؤال : كيف قال : " فاعلم " ولم يقل صلى الله عليه وسلم بعدُ : علمتُ ، كما قال إبراهيم حين قال له : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ } [ البقرة : 131 ] ويُجاب : بأن الله تعالى أخبر عنه بقوله : { ءَامَنَ الرَّسُولُ } [ البقرة : 285 ] والإيمان هو العلم ، فإخبارُ الحق تعالى عنه أتم من إخباره عن نفسه بقوله : علمته .
ويُقال : إبراهيم عليه السلام لما قال : { أسلمتُ } ابتلي ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يقل علمت ، فعُوفي ، ويقال : فرق بين موسى ، لمَّا احتاج إلى زيادة العلم أُحيل على الخضر ، ونبينا صلى الله عليه وسلم قال له : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً } [ طه : 114 ] فكم بين مَن أُحيل في استزادة العلم على عبد ، وبين مَن أُمِر باستزادة العلم من الحق . ويقال : إنما أمره بقوله : { فاعلم } بالانقطاع إليه من الحظوظ من الخلق ، ثم بالانقطاع منه إليه ، وإذا قال العبد هذه الكلمة على العادة ، والغفلة عن الحقيقة ، وهي نصف البيان؛ فليس لهذا القول كبيرُ قيمةٍ ، وهذا إذا تعجب من شيء فذكر هذه الكلمة ، فليس له قَدْرٌ ، وإذا قاله مخلصاً ذاكراً لمعناها ، متحققاً بحقيقتها ، فإن قاله بنفسه فهو في وطن التفرقة ، وعندهم هذا من الشِّرْكِ الخفيِّ ، وإن قاله بالحق فهو إخلاص ، والعبد أولاً يعلم ربه بدليل وحُجةٍ ، فعلمه بنفسه ضروري ، وهو أصل الأصول ، وعليه ينبني كل علم استدلالي . ثم تزداد قوةُ علمه بزيادة البيان ، وزيادة الحُجج ، ويتناقض علمه بنفسه لغَلَبة ذكرِ الله بقلبه عليه ، فإذا انتهى لحال المشاهدة ، واستيلاء سلطان الحقيقة عليه ، صار علمه في تلك الحالة ضرورياً ، ويقِل إحساسه بنفسه ، حتى يصير علمه بنفسه كالاستدلال ، وكأنه غافلٌ عن نفسه ، أو ناسٍ لنفسه ، ويُقال : الذي في البحر غلب عليه ما يأخذه من الرؤية عن ذكر نفسه ، فإذا ركب البحر فرَّ من هذه الحالة ، فإذا غرق في البحر فلا إحساس له بشيء سوى ما هو مستغرقٌ فيه مستهلَك .
(6/64)

ه .
قلت : لا مدخل للحجج هنا ، وإنما هو أذواق وكشوفات ، فالصواب أن يقول : ثم تزداد قوة علمه ، بزيادة الكشف والذوق ، حتى يغيب عن وجوده ، بشهود معبوده ، فيتناقض علمه ، فيصير علمه بالله ضرورياً ، وعلمه بعدم وجوده ضرورياً ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { واستغفر لذنبك } قال الورتجبي عن الجنيد : أي : اعلم حقيقة أنك بنا ولنا وبنا ، عَلِمتنا ، وإياك أن ترى نفسَك في ذلك ، فإن خطر بك خاطر غَيْرٍ ، فاستغفر من خاطرك ، فلا ذنب ولا خطب أعظم ممن رجع عنا إلى سوانا ، ولو في خطرة ونفَس ، ثم قال عن الأستاذ القشيري : إذا علمت أنك علمته فاستغفر لذنبك من هذا؛ فإن الحق علا جلال قدره أن يعلمه غيره . ه . قلت : وحاصله : أنَّ استغفاره صلى الله عليه وسلم ما عسى أن يخطر بباله رؤية وجوده ، كما قال الشاعر :
وجُودك ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِه ذَنْبُ ... فَلاَ وُجوُدَ لِلْغَيْرِ مَعَهُ أَصْلاً ، فهو الذي عَرف نفسه بنفسه ، ووحّد نفسه بنفسه ، وقدّس نفسه بنفسه ، وعظّم نفسه بنفسه ، كما قال الهروي رضي الله عنه حين سُئل عن التوحيد الخاص :
مَا وَحَّدَ الْوَاحِدَ مِنْ وَاحد ... إِذْ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
تَوحِيدُ مَنْ يَنْطِق عَنْ نَعْتِه ... عَارِيَةٌ أَبْطَلَها الْوَاحِدُ
تَوْحِيدُه إِيّاه توحِيدُه ... وَنَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لأحِدْ
(6/65)

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
يقول الحق جلّ جلاله : { ويقول الذين آمنوا لولا نُزَّلت سورةٌ } فيها ذِكر الجهاد ، وذلك أنَّ المؤمنين كان حرصُهم على الجهاد يبعثهم على تمني ظهور الإسلام ، وتمني قتال العدو ، فكانوا يأنسوا بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ ، وكان المنافقون على العكس من ذلك ، { فإِذا أُنزلت سورةٌ } في معنى الجهاد { محكمةٌ } أي : مبيّنة غير متشابهة ، لا تحتمل وجهاً إلا وجوب الجهاد . وعن قتادة : كل سورة فيها ذِكْر القتال فهي محكمة؛ لأن النسخ لا يَردُّ عليها؛ لأن القتال نسَخَ ما كان قبلُ من الصلح والمهادنة ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . ه .
{ وذُكِر فيها القتالُ } أي : أُمر فيها بالجهاد { رأيتَ الذين في قلوبهم مرض } نفاق ، أي : رأيت المنافقين فيما بينهم يضجرون منها ، { ينظرون إِليك نظرَ المغشيِّ عليه من الموت } أي : تشخص أبصارُهم جُبناً وجَزعاً؛ كما ينظر مَن أصابته الغشيةُ عند الموت .
قال القشيري : كان المسلمون تضيق صدورُهم لتأخر الوحي ، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحيُ بسرعةٍ ، والمنافقون إذا ذُكر القتال يكرهون ذلك؛ لما كان يشُق عليهم القتال ، فكانوا بذلك يفتضحون وينظرون إليه نظر المغشيِّ عليه من الموت؛ أي : بغاية الكراهة لذلك ، { فأَوْلَى لهم } تهديد ، أي : الوعيد لهم ه . وقيل : المعنى : فويل لهم ، وهو أفعل ، من : الوَلْي ، وهو القرب ، والمعنى : الدعاءُ عليهم بأن يليَهم المكروه ، ويقربَ من ساحتِهم ، وقيل : أصله : أَوْيَل ، فقُلب ، فوزنه : أفلَع ، قال الثعلبي : يقال لمَن همّ بالعطَب ثم أفلت : أولى لك ، أي : قاربت العطَب .
وقوله تعالى : { طاعةٌ وقولٌ معروف } استئناف ، أي : طاعة لله وللرسول ، وقولٌ معروف حسن خيرٌ لهم ، أو : يكون حكايةَ قولِ المنافقين ، أي : قالوا : أَمْرُنا طاعة وقول معروفٌ ، قالوه نفاقاً ، فيكون خبراً عن مضمر ، وقيل : " أَوْلَى " : مبتدأ ، و " طاعة " : خبره ، وهذا أحسن ، وهو المشهور من استعمال " أَوْلى " بمعنى : أحق وأصوب ، أي : فالطاعة والقول المعروف أَوْلى لهم وأصوب .
{ فإِذا عَزَمَ الأمرُ } أي : فإذا جدّ الأمر ولزمهم القتال { فَلَوْ صَدَقوا اللّهَ } في الإيمان والطاعة { لكان } الصدق { خيراً لهم } من كراهة الجهاد ، وقيل : جواب " إذا " وهو العامل فيها - محذوف ، أي : فإذا عزم الأمرُ خالفوا أو تخلّفوا ، أو نافقوا ، أو كرهوا .
{ فهل عسيتم إِن توليتم أن تُفسداو في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم } أي : فلعلكم إن أعرضتم عن دين الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض ، بالتغاور والتناهب ، وقطع الأرحام ، بمقاتلة بعض الأقارب بعضاً ، أو : فهل عسيتم إن توليتم أمور الناس وتأمّرتم عليهم أن تُفسدوا في الأرض ، تَفاخراً على الملك ، وتهالكاً على الدنيا ، فإن أحوالكم شاهدة بذلك من خراب الدين ، والحرص على الدنيا .
(6/66)

قال في الحاشية الفاسية : والأشهر أنه من الولاية ، أي : إن وُليتم الحكم ، وقد جاء حديث أنهم قريش؛ أخذ الله عليهم إن وُلوا أمر الناس ألا يُفسدوا ، ولا يَقطعوا الأرحام ، قاله ابن حجر . ه .
وخبر " عسى " : " أن تُفسدوا " والشرط اعتراض بين الاسم والخبر ، والتقدير : فهل عسيتم أن تُفسدوا في الأرض إن توليتم . تقول : عسى يا فلان إن فعلت كذا أن يكون كذا ، فهل عسيتَ أنت ذلك ، أي : فهل توقعت ذلك؟ { أولئك } المذكورون ، فالإشارة إلى المخاطبين ، إيذاناً بأن ذكر مساوئهم أوجبَ إسقاطَهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم ، وهو مبتدأ ، وخبره : { الذين لعنهم اللّهُ } أبعدهم عن رحمته ، { فأصَمَّهم } عن استماع الحق والموعظة لتصاممهم عنه بسوء اختيارهم ، { وأعمى أبصارهم } لتعاميهم عما يُشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفُس والآفاق .
{ أفلا يتدبرون القرآن } فيعرفون ما فيه من المواعظ والزواجر ، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات ، { أم على قلوبٍ أقفالها } فلا يصل إليها وعظ أصلاً ، و " أم " منقطعة ، وما فيها من معنى " بل " للانتقال من التوبيخ على عدم التدبُّر إلى الوبيخ بكون قلوبهم مُقفلة ، لا تقبل التدبُّر والتفكُّر ، والهمزة للتقرير . وتنكير " قلوب " ، إما لتهويل حالها ، وتفظيع شأنها ، بإبهام أمرها في الفساد والجهالة ، كأنه قيل : قلوب منكرة لا يُعرف حالها ، ولا يُقادر قدرُها في القسوة ، إما لأنّ المراد بها قلوبُ بعض منهم ، وهم المنافقون ، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها مخصوصة بها ، مناسبة لها ، غير مجانسة لسائر الأفعال المعهودة .
قال القشيري : إذا تدبروا القرآنَ أفضى بهم إلى حس العرفان ، وأزاحهم عن ظلمة التحيرُّ { أم على قلوب أقفالها } أقفَل الحقُّ على قلوب الكفار ، فلا يدخلها زواجر التنبيه ، ولا تنبسط عليها شعاعُ العلم ، ولا يحصل فيهم الخطابُ ، والبابُ إذا كان مُقفلاً ، فكما لا يدخل فيه شيء لا يخرج ما فيه ، كذلك هي قلوب الكفار مقفلة؛ فلا الكفر الذي فيها يخرج ، ولا الإيمان الذي يدعَوْن إليه يدخل في قلوبهم . ه .
وقال ابن عطية : هو الران الذي منعهم من الإيمان ، ثم ذكر حكاية الشاب ، وذلك أن وفْد اليمن قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم شاب ، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية ، فقال الشابُّ : عليها أقفالها حتى يفتحها الله ويُفْرجَها ، قال عمر : فعَظُم في عيني ، فما زالت في نفس عمر رضي الله عنه حتى وُلّي الخلافة ، فاستعان بذلك الفتى . ه . وفي الحديث : " إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له قُفل قلبه ، وجعل فيه اليقين " .
الإشارة : أهل التوجُّه والرياضة يفرحون بما ينزل بهم ، مما يثقل على نفوسهم ، كالفاقات والأزمات ، وتسليط الخلق عليهم ، وغير ذلك من النوائب؛ لتموت نفوسهم؛ فتحيا قلوبهم وأرواحهم بمعرفة الله ، والذين في قلوبهم مرض كالوساوس والخواطر يفرُّون من ذلك ، وينظرون - حين يرون أمارات ذلك - نظر المغشي عليه من الموت ، فالأَوْلى لهم الخضوع تحت مجاري الأقدار ، والرضا والتسليم لأحكام الواحد القهار ، فإذا عزم الأمرُ بالتوجه إلى جهاد النفس ، أو بالسفر إلى مَن يُداويها ، فلو صدقوا في الطلب ، وتوجّهوا للطبيب ، لكان خيراً لهم .
(6/67)

فهل عسيتم إن توليتم وأعرضتم عن ذلك ، ولم تُسافروا إلى الطبيب ، أن تُفسدوا في الأرض بالمعاصي والغفلة ، وتُقطعوا أرحامكم ، إذا لا يصل رحِمَه حقيقةً إلا مَن صفا قلبه ، ودخله الخوف والهيبة ، أولئك الذي أبعدهم اللّهُ عن حضرتِه ، فأصمَّهم عن سماع الداعي إلى الله ، وأعمى أبصارهم عن رؤية خصوصيته ، وأنوار معرفته ، أفلا يتدبرون القرآن ، فإنَّ فيه علومَ الظاهر والباطن ، لكن إذا زالت عن القلوب الأقفال ، وحاصلها أربعة : حب الدنيا ، وحب الرئاسة ، والانهماك في الحظوظ والشهوات ، وكثرة العلائق والشواغل ، فإن سَلِمَ من هذه صفا قلبُه ، وتجلّت فيه أسرارُ معاني الذات والصفات ، فيتدبّر القرآن ، ويغوص في بحر أسراره ، ويستخرج يواقيتَه ودرره . وبالله التوفيق .
(6/68)

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الذين ارتَدُّوا على أدبارهم } أي : رجعوا إلا الكفر ، وهم المنافقون ، الذين وُصفوا قبلُ بمرض القلوب ، وغيره ، من قبائح الأفعال والأحوال ، فإنهم كفروا به صلى الله عليه وسلم { من بعد ما تبيّن لهم الهُدى } بالدلائل الظاهرة ، والمعجزات القاهرة . وقيل : اليهود ، وقيل : أهل الكتابيْن جميعاً ، كفروا به صلى الله عليه وسلم بعدما وجدوا نعته في كتابهم ، وعرفوا أنه المنعوت بذلك ، وقوله تعالى : { الشيطانُ سوَّل لهم } الجملة : خبر " إن " أي : الشيطان زيَّن لهم ذلك ، أو : سهَّل لهم ركوب العظائم ، من : السّول ، وهو الاسترخاء ، أي : أَرْخى العنانَ لهم ، حتى جرَّهم إلى مراده ، { وأَمْلَى لهم } ومدَّ لهم في الآمال والأماني ، وقرأ البصري : " وأُمْليَ " بالبناء للمفعول ، أي : أُمهلوا ومُدَّ في عُمرهم .
{ ذلك بأنهم قالوا للذين كَرِهوا ما نزّل اللّهُ } الإشارة إلى ما ذُكر من ارتدادِهم ، لا إلى الإملاء ، ولا إلى التسويل - كما قيل - إذ ليس شيئاً منهما سبباً في القول الآتي؛ أي : ذلك الارتداد بسبب أنهم - أي المنافقون - قالوا لليهود الذين كرهوا ما نَزَّل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما علموا أنه من عند الله حسداً وطمعاً في نزوله عليهم : { سنُطيعكم في بعض الأمر } أي : عداوة محمد والقعود عن نصْرِ دينه ، أو : في نصرهم والدفع عنهم إن نزل بهم شيء ، من قِبَلهِ عليه السلام ، وهو الذي حكاه عنهم بقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ . . . } [ الحشر : 11 ] الآية وهم بنو قريظة والنضير ، الذين كانوا يُوالونهم ويُوادونهم ، وإنما كانوا يقولون لهم ذلك سرّاً ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { والله يعلم أسرارهم } أي : جميع أسرارهم التي من جملتها : قولهم هذا ، وقرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدر ، أي : إخفاءَهم لما يقولون لليهود .
{ فكيف } تكون حيلتهم وما يصنعون { إِذا توفتهم الملائكةُ } حال كونهم { يضربون وجوهَهم وأدبارَهم } وهو تصوير لحال توفيهم على أَهْولَ الوجوه وأفظعها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : " لا يتوفى أحدٌ على معصية إلا تضرب الملائكة وجهَهُ ودُبره " . { ذلك } التوفِّي الهائل { بأنهم } بسبب أنهم { اتبعوا ما أسخط اللّهَ } من الكفر والمعاصي ومعاونة الكفرة ، { وكَرِهُوا رضوانه } من الطاعة والإيمان ونصر المؤمنين ، { فأَحْبَط } لأجل ذلك { أعمالَهم } التي عمِلوها حال الإيمان وبعد الارتداد ، من أعمال البر .
{ أَمْ حَسِبَ الذين في قلوبهم مرضٌ } هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشينعة ، { أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم } أحقادهم ، ف " أَمْ " منقطعة ، و " أن " مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، أي : أظن المنافقون الذين في قلوبهم حِقد وعداوة أنه لن يُخرج اللّهُ أحقادهم ، ولن يُبرزَها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، فيبقي أمورَهم مستورة؟ بل لا يكاد يدخل ذلك تحت الاحتمال .
(6/69)

{ ولو نشاء لأريناكهم } ودللناك عليهم بأمارات ، حتى تعرفهم بأعينهم ، معرفةً مزاحِمةً للرؤية . والالتفات لنون العظمة لإبراز العناية بالإرادة ، وفي مسند أحمد ، عن ابن مسعود : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : " إن منكم منافقين ، فمَن سميتُ فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، حتى سمّى ستة وثلاثين " انظر الطيبي . { فَلعَرفتَهم بسِيماهم } بعلامتهم التي نَسِمُهم بها ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما خَفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين؛ كان يعرفهم بسيماهم ، ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين ، يشْكُرهم الناس؛ فناموا ، فأصبح على وجه كل واحد منهم مكتوب : هذا منافق " قال ابن زيد : قصد الله إظهارَهم ، وأمرَهم أن يخرجوا من المسجد ، فأبوا إلا أن يتمسّكوا بلا إله إلا الله ، فحُقِنت دماءهم ، ونَكحوا ونُكح منهم بها .
{ ولَتعرِفَنَّهم } أي : والله لتعرفنهم { في لحن القول } أي : مجراه وأسلوبه وإمالته عن الاعتدال؛ لما فيه من التذويق والتشديق ، وقد كانت ألسنتهم حادة ، وقلوبهم خاربة ، كما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ . . . } [ البقرة : 204 ] الآية ، مَن في قلبه شيءٌ لا بد أن يظهر على لسانه ، كما قيل : " ما كمَن فيك ظَهَرَ على فِيك " . وهذه الجُمل كلها داخِلة تحت " لَوْ " معلقةً بالمشيئة ، واللحن يُطلق على وجهين : صواب وخطأ ، فالفعل من الصواب : لَحِنَ يلْحَنُ لَحْناً ، كفرِح ، فهو لَحِنٌ ، إذا فطنَ للشيء ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " ولعل بعضَكم أن يكون ألحن بحجته من بعض " أي : لقُوتهِ على تصريف الكلام . والفعلُ من الخطأ : لَحَنَ يلحَنُ لحْناً ، كجعل ، فهو لاَحِنٌ إذا أخطأ ، والأصل فيه : إزالة الكلام عن جهته ، مأخوذ من : اللحن ، وهو ضد الإعراب ، وهو الذهاب عن الصواب في الكلام . { والله يعلم أعمالَكم } فيُجازيكم بحسب قصدكم؛ إذا الأعمال بالنيات ، وهذا وعد للمؤمنين ، وإيذانٌ بأن حالهم بخلاف حال المنافقين ، أو : يعلم جميع أعمال العباد ، فيميزُ خيرَها من شرها .
الإشارة : { إن الذين ارتدوا على أدبارهم } أي : رَجعوا عن صحبة المشايخ ، بعدما ظهر لهم أسرارُ خصوصيتهم؛ الشيطانُ سوَّل لهم وأَمْلَى لهم ، وتقدّم عن القشيري : أنه يتخلّف عنهم يوم القيامة ، ولا يلحق بالمقربين ، ولو يشفع فيه ألفُ عارف ، بل من كمال المكر به أن يُلقي شَبَهَه في الآخرة على غيره ، حتى يتوهم عارفوه من أهل المعرفة أنه هو ، فلا يشفع أحد فيه؛ لظنهم أنه معهم ، فإذا ارتفعوا إلى عليين مُحيت صورته ، ورُفع إلى مقام العامة ، انظر معناه في آل عمران .
وقال هنا : الذي طلع فَجرُ قلبه وتلألأ نورُ التوحيد فيه ، ثم ارتدّ قبل طلوع نهار إيمانه؛ انكسفَ شمسُ يومه ، وأظلم نهارُ عرفانه ، ودَجا ليل شَكِّه ، وغابت نجومُ عقله ، فحدَّث عن ظلماتهم ولا حرج .
(6/70)

ه . ولا سيما إذا تحزّب مع العامة في الإذايَة ، وقال للذين كرهوا ما نَزّل الله على أهل الخصوصية من الأسرار : سنُطيعكم في بعض الأمر من إذايتهم ، والله يعلم أسرارهم ، وباقي الوعيد الذي في الآية ربما يشملهم . وقوله تعالى : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض } أي : عداوةٌ لأولياء الله أن لن يُخرج اللّهُ أضغانهم؟ بل يُخرجها ويُظهر وبالها ، ويفتضحون ولو بعد حين ، وقوله تعالى : { ولتعرفنهم في لحن القول } في قوة الخطاب ، ومفهوم الكلام؛ لأن الأسِرَّة تدلُّ على السريرة ، وما خامر القلوبَ فعلى الوجوه يلوحُ ، وأنشدوا في المعنى :
لَستُ مَنْ لَيْس يَدْرِي مَا هوانٌ مِن كَرَامه ... إِنَّ لِلْحُبِّ وَلِلْبَغْضِ عَلَى الْوَجْهِ عَلاَمه
المؤمن ينظر بنور الفراسة ، والعارفُ ينظر بعين التحقيق ، والموحِّدُ ينظر بالله ، ولا يستتر عليه شيء . ه . من القشيري .
(6/71)

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولَنبلونَّكم } أي : والله لَنختبرنَّكم بالأمر بالجهاد ، ونحوه من التكاليف الشاقة ، أي : نعاملكم معاملة المختبر؛ ليكون أبلغ في أظهار العدل ، { حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين } على مشاق الجهاد والتكاليف ، عِلماً ظاهراً ، يتعلق به الجزاء بعد تعلُّق العلم به في الأزل ، { ونبلوَ أخبارَكم } أي : ونختبر أسراركم بإظهار ما فيها من خير أو شر ، بالنهوض أو التخلُّف ، وقيل : أراد بأخباركم : أعمالكم ، عبّر بالأخبار عن الأعمال على سبيل الكناية؛ لأن الإخبار تابع لوجود المخبر عنه ، إن كان الخبر حسناً كان المخبر عنه - وهو العمل - حسناً ، وإن كان الخبر قبيحاً فالمخبَر عنه قبيح . ه .
{ إِنَّ الذين كفروا وصَدُّوا } الناس { عن سبيل الله وشاقُوا الرسولَ } أي : عادوه { من بعد ما تبيّن لهم الهدى } بما شاهدوا من نعته في التوراة ، وبما ظهر على يديه من المعجزات ، ونزل من الآيات ، وهم بنو قريظة والنضير ، أو : المطعمون يوم بدر من رؤساء قريش ، { لن يضروا } بكفرهم وصدهم { اللّهَ شيئاً } من الأشياء ، أو : شيئاً من الصد ، أو : لن يضرُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمشاقته ، وقد حذف المضاف؛ لتعظيم شأنه وتعظيم مشاقته . { وسيُحبط أعمالَهم } أي : مكائدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ، ومشاقة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ، ولا يُثمرُ لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم .
الإشارة : قال القشيري : في الابتلاء والامتحان يتبينُ جواهرُ الرجال ، فيظهر المخلصُ ، ويفتضح الممارق ، وينكشف المنافق . ه . وكان الفُضيل إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبلُنا؛ فإنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا . ه . ويبغي أن يزيد : وإن بلوتنا فأيّدنا ، وبالله التوفيق . إن الذين جحدوا وصدُّوا الناس عن طريق الوصول ، وخرجوا عن مناهج السنّة ، لن يضرُّوا الله شيئاً؛ فإن لله رجالاً يقومون بالدعوة ، لا يضرهم مَن عاداهم ، حتى يأتي أمر الله ، وسيُحبط أعمالَ الصادّين المعوِّقين ، فلا ينهضون إلى الله نهوض الرجال ، بشؤم انتقادهم . والله تعالى أعلم .
(6/72)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّهَ } فيما يأمركم به من الجهاد وغيره { وأطيعوا الرسولَ } فيما سنَّه لكم ، { ولا تُبطلوا أعمالَكم } بما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق ، وغير ذلك من مفسدات الأعمال ، كالعجب والرياء ، والمن والأذى ، وليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر ، خلافاً للمعتزلة ، أو : لا تبطلوا أعمالكم بأن تقطعوها قبل تمامها . وبها احتجَ الفقهاء على وجوب إتمام العمل؛ فأوجبوا على مَن شَرَعَ في نافلة إتمامها ، وأخذُه عن الآية ضعيف؛ لأن السياق إنما هو في إحباط العمل بالكفر ، لقوله قبلُ : { وسيُحبط أعمالهم } ثم قال : { يا أيها الذين آمنوا } لا تكونوا كهؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم؛ بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ، ومشاقتهم الرسولَ ، ويؤيده أيضاً : قوله تعالى : { إِن الذين كفروا وصَدُّوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر اللّهُ لهم } هذا عام في كل مَن مات على الكفر ، وإن صحّ نزوله في أهل القليب .
{ فلا تَهِنُوا } لا تضعفوا عن الجهاد { وتدعوا إِلى السَّلْم } أي : لا تدعوا الكفار إلى الصلح والمسالمة؛ فإن ذلك إعطاء الدنِيَّة - أي : الذلة - في الدين ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار " أن " في جواب النهي؛ أي : لا تهنوا مع إعطاء السلم ، { وأنتم الأَعْلَون } الأغلبون ، { واللّهُ معكم } بالنصر والمعونة ، ومَن كان غالباً ومنصوراً والله معه ، لا يتصور منه إظهار الذلة والضراعة لعدوه ، { ولن يَتِرَكُمْ أعمالكم } لن يضيعها ، من : وترت الرجل : إذا قتلت له قتيلاً ، من ولد أو أخ أو حميم ، فأفردته منه ، حتى صار وتراً ، عبّر عن ترك الإثابة في مقابلة العمل بالوتر ، الذي هو إضاعة شيء معتد به من الأنفس والأموال ، مع أن الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السُنَّة ، إبرازاً لغاية للطف ، بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق ، وتنزيل ترك الإثابة منزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها ، سبحانه من رب رحيم! .
{ إِنما الحياةُ لعبٌ ولهوٌ } لا ثبات لها ، ولا اعتداد بها ، فلا تُؤثروا حياتها الفانية على الحياة الأبدية بالموت في الجهاد الأصغر أو الأكبر ، { وإِن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم } أي : ثواب إيمانكم وأعمالكم من الباقيات الصالحات ، التي فيها يتنافس المتنافسون ، { ولا يسألكم أموالَكمْ } بحيث يُخل أداؤها بمعايشكم ، وإنما سألكم نزراً يسيراً؛ هو ربع العشر ، تؤدونه إلى فقرائكم .
{ إِن يسألكُمُوها } أي : جميع أموالكم { فيُحْفِكم } أي : يجهدكم بطلب الكُل ، فالإحفاء والإلحاف : المبالغة في السؤال : وبلوغ الغاية ، يُقال : أحفاه في المسألة : إذا لم يترك شيئاً من الإلحاح ، وأحفى شاربه : استأصله ، أي : إن يسألكم جميعها { تبخلوا } فلا تُعطوا شيئاً ، { ويُخرجْ أضغانكم } أي : أحقادكم؛ لأن عند سؤال المال يظهر الصادق من الكاذب ، وضمير " لا يسألكم " وما بعدها للّه أو لرسوله .
(6/73)

وضمير " يُخرج " لله تعالى ، ويؤيده القراءة بنون العظمة ، أو البخل؛ لأنه سبب الأضغان .
{ ها أنتم هؤلاء } أي : يا هؤلاء ، وقيل : { ها } : للتنبيه ، و { هؤلاء } : موصول بمعنى " الذين " ، وصلته : { تُدْعَون } أي : أنتم الذي تُدعون { لتُنفقوا في سبيل الله } هي النفقة في الغزو والزكاة ، كأنه قيل : الدليل على أنه لو أحفاكم لبخلتم أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر ، { فمنكم مَن يبخلُ } أي : فمنكم ناس يبخلون به ، { ومَن يبخلْ } بالصدقة وأداء الفريضة { فإِنما يبخلُ على نفسه } فإنَّ كُلاًّ مِن نفع الإنفاق وضرر البخل عائد إليه ، وفي حديث الترمذي : " السخي قريبٌ من الله ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار ، ولجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيل " وفي رواية : " من عالم بخيل " والبخيل يتعدّى ب " عن " ، و " على " لتضمُّنه معنى : الإمساك والعدي .
{ والله الغنيُّ } عن كل ما سواه ، ويفتقر إليه كُلَّ ما عداه ، { وأنتم الفقراءُ } أي : إنه - تعالى - لا يأمر بذلك لحاجته إليه؛ لأنه الغنيُّ عن الحاجات ، ولكن لحاجتكم وفقركم إلى الثواب ، { وإِن تَتولَّوا } أي : وإن تُعرضوا أيها العرب عن طاعته ، وطاعة رسوله ، والإنفاق في سبيله { يستبدل قوماً غيرَكم } يخلف قوماً خيراً منكم وأطوع ، { ثم لا يكونوا أمثالكم } في الطاعة ، بل أطوع ، راغبين فيما يقرب إلى الله ورسوله ، وهم فارس ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء القوم - وكان سلمان إلى جنبه ، فضرب على فخذه ، فقال : " هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثُريا لتناوله رجالٌ من فارس " .
قلت : صدق الصادق المصدوق ، فكم خرج منهم من جهابذة العلماء ، وأكابر الأولياء ، كالجنيد ، إما الصوفية ، والغزالي ، حَبر هذه الأمة ، وأضرابهما . وقيل : الملائكة ، وقيل : الأنصار ، وقيل : كندة ، وقيل : الروم ، والأول أشهر .
الإشارة : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } أو خليفته ، وهو الداعي إلى الله على بصيرة العيان ، ولا تُبطلوا أعمالكم ، برجوعكم عن السير ، بترك المجاهدة قبل المشاهدة . إنَّ الذين كفروا بوجود خصوصية التربية ، وصدُّوا الناسَ عنها ، ثم ماتوا على ذلك ، لن يستر اللّهُ مساوئهم ، ولا يُغيّبهم عن شهود نفوسهم التي حجبتهم عن الله . فلا تهنوا : ولا تضعُفوا ، أيها المترفهون ، عن مجاهدة نفوسكم ، فينقطع سيركم ، وذلك بالرجوع إلى الدنيا ، ولا تدعوا إلى السلم والمصالحة بينكم وبين نفوسكم ، وأنتم الأعلون ، قد أشرفتم على الظفر بها ، والله معكم؛ لقوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنآ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] ولن ينقصكم شيئاً من أعمالكم ، بل يُريكم ثمرتها ، عاجلاً وآجلاً ، ولا يفترنَّكم عن المجاهدة طولُ الأمل .
(6/74)

إنما الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي : ساعة من نهار ، وإن تُؤمنوا بكل ما وعدَ اللّهُ ، وتتقوا كل ما يشغل عن الله ، يُؤتكم أجوركم عاجلاً وآجلاً ، ولا يسألكم الداعي إليه جميعَ أموالكم ، إنما يسألكم ما يَخف عليكم ، تُقدموه بين يدي نجواكم ، ولو سألكم جميع أموالكم لبخلتم ، ويُخرج إضغانكم ، وهذا في حق عامة المريدين ، وأما الخاصة الأقوياء ، فلو سُئلوا أرواحَهم لبذلوها ، واستحقروها في جنب ما نالوا من الخصوصية ، وأما أموالهم فأهون عندهم من أن يبخلوا بشيء منها ، ويُقال لعامة الطالبين للوصول : { ها أنتم هؤلاء تُدعون . . . } الآية .
قال القشيري : والله الغني لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكُّنه من تنفيذ مُراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى الله ، في نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، في الابتداء ليخلقكم ، وفي الوسط ليُربيكم ، وفي الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويُبقيكم بهويته ، فالله غني عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد . ه . وإن تتولوا عن السير ، وتركنوا إلى الرخص والشهوات قبل التمكين ، يستبدل قوماً غيركم ، يكونوا أحزم منكم ، وأشد مجاهدة ، صادقين في الطلب ، ثابتين القَدم في آداب العبودية ، قد أدركتهم جذباتُ العناية ، وهَبَّتْ عليهم ريحُ الهداية ، ثم لا يكونوا أمثالكم في التولِّي والضعف ، حتى يصلوا إلى مولاهم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى لله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/75)

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا فتحنا لك } الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوةً أو صُلحاً ، بحرب أو بدون ، فإنه ما لم يقع الظفر مُنْغَلِقٌ ، مأخوذ من : فتح باب الدار . وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً . قيل : المراد به فتح مكة ، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه ، بُشِّر به صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحُديبية . والتعبير عنه بصيغة الماضي على سَنَن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع ، للإذيان بتحققه ، تأكيداً للتبشير ، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك ، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبَر به - وهو الفتح - ما لا يخفى . وقيل : هو فتح الحديبية ، وهو الذي عند البخاري عن أنس ، وهو الصحيح عند ابن عطية ، وعليه الجمهور . وفيها أُخذت البيعة على الجهاد ، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه ، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام ، للحرب التي كانت بينهم ، فلما وقع الصلح اختلط الناسُ بعضهم مع بعض ، وجعل الكفارُ يرون أنوارَ الإسلام ، ويسمعون القرآن ، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة .
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن رجلاً قال : ما هذا بفتح ، لقد صَدُّونا عن البيت ، ومَنعونا ، قال : " بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما يكرهون " وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية ، وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة ، حيث بُويع بيعة الرضوان ، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وبلغ الهَديُ مَحِلَّه ، وبُشِّروا بخيبر ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح به المسلمون ، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة ، وهي أنه نزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرة ، فتمضمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجّه فيها ، فدرّت بالماء ، حتى شرب جميع مَن كان معه ، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعدُ . وقيل : هو جميع ما فتح له صلى الله عليه وسلم ، من الإسلام ، والدعوة ، والنبوة ، والحجة ، والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كافة؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شُعبه ، وفرع من فروعه . وقيل : الفتح : بمعنى القضاء ، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل ، وأيّاً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه ، لا خصوصية المفتوح . قاله أبو السعود .
{ فتحاً مبيناً } ظاهر الأمر ، مكشوف الحال ، فارقاً بين الحق والباطل . وقوله تعالى : { ليغفر لك اللّهُ } غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله ، بمكابدة مشاق الحروب ، واقتحام موارد الخطوب ، أي : جعلنا الفتح على يديك ، وبسبب سعيك ، ليكون سبباً لغفران الله لك { ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر } أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى ، وما سيقع ، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل ، وتقدم قريباً تحقيقه .
(6/76)

وقول الجلال : " اللام للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب ، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية ، فإنه عليه تعالى محال ، وإنما يُريد صورة التعليل ، الذي هو حكمة الشيء ، وفائدته العائدة على خلقه ، فضلاً وإحساناً ، فالحِكمُ والمصالح غاية لأفعاله تعالى ، ومنافع راجعة إلى المخلوقات ، وليس شيء منها غرضاً وعلة غائية لفعله ، بحيث يكون سبباً لإقدامِه على الفعل ، وعلة غائية للفعل؛ لغناه تعالى ، وكماله في ذاته عن الاستكمال بفعل من الأفعال ، وما ورد في الآيات والأحاديث مما يُوهم الغرض والعلة فإنه يُحمل على الغايات المترتبة والحكمة ، فاحتفظ بذلك . قاله صابح الحاشية الفاسية . واللائق أن المعنى : إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمرٍ عاقبته أن جَمَعَ الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة ، بأن غفر لك ، وأتمّ نعمته عليك وهداك ، ونصرك . فاللام لام العاقبة لا لام العلة؛ فإن إفضال الله على رسوله لا يُعلل ولا يُوازي بعمل . ه .
{ ويُتم نعمتَه عليك } بإعلاء الدين ، وضم المُلك إلى النبوة ، وغيرها مما أفاض عليه من النعم الدينية والدنيوية ، { ويهيديَكَ صراطاً مستقيماً } أي : يُثبتك على الطريق القويم ، والدين المستقيم ، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حاصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلاً قبلُ . { ويَنصُرَك اللّهُ } أي : يُظهر دينك ، ويُعزّك ، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ، ولإظهار كمال العناية ، بشأن النصر ، كما يُعرب عنه تأكيده بقوله : { نصراً عزيزاً } أي : نصراً فيه عزة ومنعه ، أو : قوياً منيعاً ، على وصف المصدر بوصف صاحبه ، مجازاً ، للمبالغة ، أو : عزيزاً صاحبه .
الإشارة : { إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً } بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا ، وأنوار صفاتنا ، وجمال أفعالنا ، فشاهدتنا بنا ، ليغفر لك الله ، أي : ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك ، ويستر عنك حسك ورسمك ، حتى تكون بنا في كل شيء ، قديماً وحديثاً ، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك في الوجود ، وغفره : ستره بنور الوحدة ، لمحو ظلمة الأثينية ه . ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية ، والقيام بآداب العبودية ، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية ، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا ، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك ، وينصرك الله نصراً عزيزاً ، بالتمكُّن في شهود ذاتنا ، والعكوف في حضرتنا ، محفوفاً بالنصرة والعناية ، محمولاً في محفَّة الرعاية .
(6/77)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي أنزل السكينةَ } أي : السكون والطمأنينة ، فعلة ، من : السكون ، كالبهيتة من البهتان ، { في قلوب المؤمنين } حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى الله عليه وسلم مع المشركين ، مَن رَدّ مَن أسلم منهم ، وعدم ردهم مَن رجع إليهم ، ومِن دخول مكة قابلاً بلا سلاح ، وغير ذلك مما فعله صلى الله عليه وسلم معهم بالوحي ، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته ، وما زال يعتق ويفعل أموراً كفارة لذلك . وقيل : { السكينة } : الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله ، والتعظيم لأمر الله ، { ليزدادوا إيماناً مع إِيمانهم } أي : يقيناً إلى يقينهم ، أو : إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : بعث الله نبيه بشهادة " ألا إله إلا الله " فلما صدَّقوه فيها ، زادهم الصلاة ، فلام صدّقوه ، زادهم الزكاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الحج ، فلما صدّقوا زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم ، فذلك قوله : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنودُ السماوات والأرض } يُدبرها كما يريد ، يُسلط بعضها على بعض تارة ، ويوقع الصلح بينهما أخرى ، حسبنا تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح ، { وكان الله عليماً } مبالغاً في العلم بجميع الأمور { حكيماً } في تدبيره وتقديره .
{ ليُدخل المؤمنين والمؤمنات } اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله : { ولله جنود السماوات والأرض } من معنى التصرُّف ، أي : دَبّر ما دَبَّر من تسليط المؤمنين ، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها ، فيدخلهم { جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ويُكَفِّرَ عنهم سيئاتهم } أي : يُغطّي عنهم مساوئهم ، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم . وتقديم الإدخال على التكفير ، مع أن الترتيب في الوجود على العكس؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى . { وكان ذلك } أي : ما ذكر من الإدخال والتكفير { عند الله فوزاً عظمياً } لا يُقادر قدره؛ لأنه منتهى ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر . و " عند الله " : حال من " فوزاً عظيماً " لأنه صفته في الأصل ، فلما قُدّم عليه صار حالاً ، أي : كائناً عند الله في علمه وقضائه . والجملة اعتراض مقُرِّرٌ لما قبله .
{ ويُعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } لِما أغاظهم من ذلك وكرهوه ، وهو عطف على " يدخل " ، وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب . { الظانين بالله ظَنَّ السَّوءِ } أي : ظن الأمر السَّوء ، وهو ألا ينصر الله رسولَه والمؤمنين ، ولا يُرجعهم إلى مكة ، فالسَّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، يقال : فِعْلُ سَوُءٍ ، أي : مسخوط فاسد . { عليهم دائرةُ السَّوءِ } أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين ، وهو دائر عليهم وحائق بهم .
(6/78)

وفيه لغتان : فتح السين وضمها ، كالكَره والكُره ، والضَّعف والضَّعف ، غير أن المفتوح غلب عليه أن يُضاف إليه ما يُراد ذمّه من كل شيء ، وأما السُوء فجارٍ مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم ، ولاحقة بهم ، { وغَضِبَ اللّهُ عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً } لهم ، وهو عطف لما استوجبوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا ، وعطفَ " ولعنهم " وما بعده بالواو ، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية؛ إيذاناً باستقلال كل واحد منها بالوعيد ، وأصالته ، من غير استتباع بعضها لبعض .
{ ولله جنودُ السماوات والأرض } إعادة لما سبق ، وفائدتها : التنبيه على أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب ، كما ينبئ عنه التعرُّض لوصف العزة في قوله : { وكان اللّهُ عزيزاً } أي : غالباً فلا يُردّ بأسمه { حكيماً } فلا يعترض صنعه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين ، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال ، وأنوار الجمال ، وسكنوا تحت مجاري الأقدار ، كيفما برزت ، بمرارة أو حلاوة ، قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان ، أو العرفان بمشاهدة العيان ، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين . ه . ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان ، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان ، أو من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن عين اليقين إلى حق اليقين ، أو من المراقبة إلى المشاهدة ، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب .
{ ولله جنودُ السماوات والأرض } وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس ، حتى تغلبها وتستولي عليها ، وهي اليقين ، العلم ، والذكر ، والفكر ، والواردات الإلهية ، التي تأتي من حضرة القهّار ، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار ، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات ، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها ، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم ، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه ، بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم ، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم ، في جوار الكريم . ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله ، المتوجهين إليه ، الظانين بالله ظن السوء ، وهو أن خصوصية التربية انقطعت . { ولله جنود السماوات والأرض } أي : جنود الحجاب ، وهو جند النفس ، من الهوى والشيطان ، والدنيا والناس ، يُسلطها على مَن يشاء من عباده ، إن يبقى في ظلمة الحجاب ، والله غالب على أمره .
(6/79)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنّا أرسلناك شاهداً } تشهد على أمتك يوم القيامة ، كقوله : { وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] وهو حال مقدَّرة ، { ومبشِّراً } لأهل الطاعة بالجنة ، { ونذيراً } لأهل المعصية بالنار ، { لتؤمنوا بالله ورسوله } والخطاب للرسول والأمة ، { وتُعزِّروه } تقوُّوه بنصر دينه ، { وتُوقِّروه } أي : تُعظِّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته ، { وتُسبِّحوه } تُنزِّهوه ، أو تُصلوا له ، من : السبحة ، { بكرةً وأصيلاً } غدوة وعشية ، قيل : غدوة : صلاة الفجر ، وعشية : الظهر والعصر والمغرب والعشاء . والضمائر لله تعالى . ومَن فرّق؛ فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم والأخير لله تعالى ، فقد أبعد . وقرأ المكي والبصري بالغيب في الأربعة ، والضمائر للناس ، وقرأ ابن السميفع : " وتُعززوه " بزاءين ، أي : تنصروه وتُعِزُّوا دينه .
{ إِنَّ الذين يُبايعونك } على الجهاد ، بيعة الرضوان { إِنما يُبايعون اللّهَ } لأنه خليفة عنه ، فعقد البيعة معه صلى الله عليه وسلم كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله : { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه } [ النساء : 80 ] ثم أكّد ذلك بقوله : { يدُ اللهِ فوق أيديهم } يعني : أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله ، من باب مبالغة التشبيه ، { فمَن نكث } نقض البيعة ، ولم يفِ بها { فإِنما يَنكُثُ على نفسه } فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه ، قال جابر رضي الله عنه : " بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت ، وعلى ألاَ نفرّ ، فما نكث أحدُ منا البيعةَ ، إلا جَدّ بن قَيْسٍِ المنافق ، اختبأ تحت إبطِ بعيره ، ولم يَسر مع قومه " . { ومَن أوفى بما عاهد عليه اللّهَ } يقال : وفيت بالعهد وأوفيت . وقرأ حفص بضم الهاء من " عليه " توسُّلاً لتفخيم لام الجلالة ، وقيل : هو الأصل ، وإنما كسر لمناسبة الياء . أي : ومَن وفَّى بعهده بالبيعة { فسيؤتيه أجراً عظيماً } الجنة وما فيها .
الإشارة : لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم ، ويدعوهم إلى الله ، بمعرفته ، أو بإقامة دينه ، ليدوم الإيمان بالله ورسوله ، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين ، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين ، وقوله تعالى : { إنَّ الذين يُبايعونك } الآية ، قال الورتجبي : ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته ، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل ، فصار هو هو ، إذا غاب الفعل في الصفة ، وغابت الصفة في الذات . فقال : { إن الذين يُبايعونك . . . } الآية . وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره . وقال في القوت : هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل ، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه ، فيقول : لله ، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ه .
وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه ، فقال : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } .
(6/80)

ه .
قال القشيري : وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع ، كما قال : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } [ الأنفال : 17 ] وقال في مختصره : يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله . ه . فالآية تُشير إلى مقام الجمع ، المنبه عليه في الحديث : " فإذا أحببته كنت سمعه ، وبصره ، ويده " وسائر قواه ، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله ، أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان ، فمَن بايعهم فقد بايع الله ، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله ، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه ، فتيبس شجرةُ إرادته ، ويُطمس نور بصيرته ، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام ، والظفر بمقام المقربين ، ثبتنا الله على منهاجه القويم ، من غير انتكاص ولا رجوع ، آمين .
(6/81)

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
يقول الحق جلّ جلاله : { سيقولُ لك } يا محمد إذا رجعت من الحديبية { المخلَّفون من الأعراب } وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غِفَار ، ومُزَيْنةُ ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والديل ، وذلك انه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة ، عام الحديبية ، معتمراً ، استنفر مَن حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ، ليخرجوا معه ، حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدُّوه عن البيت ، وأحرم صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي؛ لِيُعْلمَ أنه لا يريد حرباً ، فتثاقل كثير من الأعراب ، وقالوا : نذهب إلى قوم غَزوهُ في داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم ، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة ، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا ، حيث تعلّلوا وقالوا : { شَغَلنا أموالُنا وأهلُونا } ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً ، بل عن اضطرار ، { فاستغفر لنا } فأكذبهم الله بقوله : { يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } فليس تخلُّفهم لأجل ذلك ، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً ، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة .
{ قل } لهم : { فمَن يملك لكم من الله شيئاً } فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه { إِن أراد بكم ضَرّاً } أي : ما يضركم من هلاك الأهل ، والمال وضياعها ، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها ، { أو أراد بكم نفعاً } أي : مَن يقدر على ضَرَكم إن أراد بكم نزول من ينفعكم ، من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله؟ { بل كان الله بما تعملون خبيراً } إضراب عما قالوه ، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه ، أي : ليس الأمر كما يقولون ، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال ، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه ، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم .
{ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً } بأن يستأصلهم المشركون بالموت ، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك ، فتخلّفتم لأجل ذلك ، لا لما ذكرتم من المعاذيرالباطلة ، { وزُيِّنَ ذلك في قلوبكم } زيّنه الشيطانُ وقبلتموه ، واشتغلتم بشأن أنفسكم ، غير مبالين بهم ، { وظننتم ظنَّ السَّوء } والمراد به الظن الأول ، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء ، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة ، كعلو الكفر ، وظهور الفساد ، وعدم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم ، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة ، { وكنتم قوماً بُوراً } هالكين عند الله ، مستوجبين لسخطه وعقابه ، جمع : بائر ، كعائذ وعُوذ ، من بار الشيء : هلك وفسد ، أي : كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم .
{ ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإِنّا أعتدنا } أعددنا { للكافرين } أي : لهم ، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب العسير .
(6/82)

ونكَّر { سعيراً } لأنها نار مخصوصة ، كما نكَّر { نَاراً تَلَظَّى } [ الليل : 14 ] . وهذا كلام وارد من قِبله تعالى ، غر داخل في الكلام المتقدم ، مُقرر لبوارهم ، ومُبيّن لكيفيته ، أي : ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين ، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها .
{ ولله مُلكُ السماوات والأرض } يُدبره تدبير قادر حكيم ، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء ، { يغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء } بقدرته وحكمته ، من غير دخل لأحد في شيء ، ومن حكمته : مغفرته للمؤمنين وتعذيبه للكافرين . { وكان الله غفوراً رحيماً } مبالغاً في المغفرة والرحمة لمَن يشاء ، أي : لمَن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله ، وأما مَن عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعاً .
الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن ، واعتذر بأعذار كاذبة ، يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم؛ إذ به تحصل التربية والترقية ، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه ، وربما يصل إليه المدد في موضعه ، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له ، بل يُحرم من زيادة الإمداد ، ومن الترقي في المقامات والأسرار ، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم ، وحُرموا السير والوصول ، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء . قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً ، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال ، أو : أراد بكم نفعاً ، بأن وصلكم إليه ، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم ، بل كان الله بما تعملون خبيراً ، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح ، أو لعذر باطل ، وبالله التوفيق .
(6/83)

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
يقول الحق جلّ جلاله : { سيقول المخلِّفون } المذكورون آنفاً { إِذا انطلقتم إِلى مغانمَ } أي : مغانم خيبر { تأخذونها } حسبما وعدكم الله بها ، وخصَّكم بها ، عِوض ما فاتكم من مغانم مكة . و { إذا } : ظرف لما قبله ، لا شرط لما بعده ، أي : سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر : { ذَرونا نتَّبِعكم } إلى خيبر ، ونشهد معكم قتال أهلها { يريدون إن يُبدِّلوا كلامَ الله } الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد ، فأراد المخلَّفون أن يُشاركوهم ويُبدلوا وعد الله . وكانت وقعة الحديبية في ذي الحجة سنة ست ، فلما رجع إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة ، ثم غزا في أول السابعة خيبر ، ففتحها ، وغنم أموالاً كثيرة ، فخصصها بأهل الحديبية ، بأمره تعالى ، { قل } لهم إقناطاً لهم : { لن تتبعونا } إلى خيبر ، وهو نفي بمعنى النهي ، للمبالغة ، أي : لا تتبعونا ، أو : نفي محض ، إخبار من الله تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه .
{ كذلكم قال اللّهُ من قبلُ } أي : من قبل انصرافهم إلى الغنيمة ، وأنَّ غنيمة خيبر لَمن شهد الحديبية فقط ، { فسيقولون } للمؤمنين عند سماع هذا النهي : { بل تحسدوننا } أي : ليس ذلك النهي من عند الله ، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم ، { بل كانوا لا يفقهون } كلام الله { إِلا قليلاً } شيئاً قليلاً ، يعني : مجرد اللفظ ، أو : لا يفهمون إلا فهماً قليلاً؛ وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين ، وهو ردٌّ لقولهم الباطل ، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط . والفرق بين الإضرابين : أن الأول ردَّ أن يكون حكم الله ألا يتبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضرابٌ عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه .
{ قل للمخلَّفين من الأعراب } وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية : { ستُدْعَوْن إِلى قومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ } يعني : بني حنيفة ، قوم مسليمة الكذاب ، وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه ، لأن المشركين وأهل الردة هم الذين لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف . واستُدل بالآية على حقيّة خلافة أبي بكر ، وأخذها من القرآن بقوله : { سَتُدعون } فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بني حنيفة ، وكانوا أولي بأس شديد ، هو أبو بكر ، بلا خلاف ، قاتلوهم ليُسلموا لا ليُعطوا الجزية بأمر الصدّيق ، وقيل : هم فارس ، والداعي لقتالهم " عمر " ، فدلّت على صحة إمامته ، وهو يدل على صحة إمامة أبي بكر . { تُقاتلونهم أو يُسلمون } أي : يكون أحد الأمرين ، إما المقاتلة أو الإسلام ، ومعنى " يُسلمون " على هذا التأويل : ينقادون؛ لأن فارس مجوس ، تُقبل منهم الجزية ، { فإِن تُطيعوا } مَن دعاكم إلى قتالهم { يُؤتكم اللّهُ أجراً حسناً } هو الغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة ، { وإِن تتولوا } عن الدعوة ، كما توليتم من قبل في الحديبية ، { يُعذبكم عذاباً أليماً } لتضاعف جُرمكم .
(6/84)

وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها ، والوعيد بالعقاب على التولي ، وقد تقدّم في النساء .
الإشارة : سيقول المخلِّفون عن السير بترك مجاهة النفوس ، التي بها يتحقق سير السائرين : ذرونا نتبعكم في السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد ، يريدون أن يُبدلوا كلامَ الله ، وهو قوله : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ، فخصّ الهداية إلى الوصول بالمجاهدة ، لا بالبقاء مع حظوظ النفوس ، قل : لن تتبعونا في السير ، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة ، كذلك حكم الحكيم العليم ، فإن قالوا : حسدتمونا ، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه ، فقد دلّ ذلك على جهلهم ، وعدم فهمهم ، قل للمخلفين على السير ، بالبقاء مع حظوظهم : ستُدعون إلى مجاهدة قوم أُولي بأس شديد ، وهو النفس ، بتحميلها ما يثقل عليها ، كالذل ، والفقر ، والهوى بمخالفته ، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر ، والناس بالفرار منهم جملة ، إلا مَن يدلّ على الله ، تقاتلوهم ، أو يُسلمون ، بأن ينقادوا لكم ، ويصيروا طوع أيديكم ، فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ، وهو لذة الشهة ، ورؤية الملك الودود ، عاجلاً وآجلاً ، وإن تتولوا كما توليتم في زمان البطالة ، وبقيتم مع هوى نفوسكم ، يُعذِّبكم عذاباً أليماً ، بغم الحجاب وسوء العقاب .
قال القشيري : قوله تعالى { فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً } دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مُرْضية ، ثم تتغير للصلاح ، وأنشدوا :
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه ... فَرَجِّ له بعد الفساد صلاحا
قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلُّف والعصيان ، فقُبلت منهم .
(6/85)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
يقول الحق جلّ جلاله : { ليس على الأعمى حرجٌ } في التخلُّف عن الغزو { ولاعلى الأعرج حرجٌ ولا على المريض } الذي لا يقدر على الحرب { حرج } لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفي الحرج ، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة ، فلا حرج عليهم في التخلُّف . وفي التصريح بنفي الحرج مع كل طائفة مزيد اعتناء بأمرهم ، وتوسيع لدائرة الرخصة . { ومَن يُطع الله ورسوله } فيما ذكر من الأوامر والنواهي ، { يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومَن يتولّ } يُعرض عن الطاعة { يُعذبه عذاباً أليماً } لا يقادر قدره . وقرأ نافع والشامي بنون العظمة ، والباقي بيان الغيبة .
الإشارة : أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرجال ، وحطُّوا رؤوسهم لهم ، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم ، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم ، ووصفت الواردات والأمداد إليهم في أمكانهم ، ونالوا مراتب الرجال ، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن ، والله يزرق العبدَ على قدر نيته وهمته .
(6/86)

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
يقول الحق جلّ جلاله : { لقد رَضِي اللّهُ عن المؤمنين } وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله : { إن الذين يبايعونك . . . } الآية ، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان و " إذ " منصوب ب " رَضِيَ " ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة ، و { تحت الشجرة } : متعلق به ، أو : بمحذوف ، حال من مفعوله ، أي : رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك { تحت الشجرة } أو : حاصلاً تحتها .
رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحديبية ، بعث خِراش بن أمية الخزاعي ، رسولاً إلى أهل مكة ، فَهَمُّوا به ، وأنزلوا عن بعيره ، فمنعته الأحابيش ، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني ، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني ، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت ، مُعظِّماً لحُرمته ، ولم يُرد حرباً ، فوقروه ، وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتبس عندهم ، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناسَ إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة - وكانت سمرة وقيل : سِدرة - على أن يُقاتلوا قريشاً ، ولا يفرُّوا ، وأول مَن بايع " أبو سنان الأسدي " ، واسمه : وهب بن عبد الله بن محصن ، ابن اخي عكاشة بن مِحصن . وقيل : بايعوه على الموت عنده ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم اليوم خير أهل الأرض " وقال أيضاً : " لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة " وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين ، وقيل : ألفاً وأربعمائة . والحديبية بتخفيف الياء ، قاله في المصباح ، وهي على عشرة أميال من مكة .
{ فعَلِمَ ما في قلوبهم } من الإخلاص ، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه . وقال القشيري : عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشّر أصحابه ، فلمام صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ ، { فأنزل } اللّهُ { السكينةَ عليهم } أي : اليقين والطمأنينة ، فذهب عنهم . ثم قال : وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة ، وفي الرَّيب مُوقعة ، ثم لا عبرة ، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه ، وقارن التحقيق سِرَّه ، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان . قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ . . . } [ الأعراف : 201 ] الآية .
{ فأنزل السكينة عليهم } أي : الطمأنينة والأمن ، وسكون النفس ، بالربط على قلوبهم ، { وأثابهم } أي : جازاهم { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم . { ومغانمَ كثيرةً يأخذونها } وهي مغانم خيبر ، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال ، فقسمها بينهم ، { وكان الله عزيزاً } منيعاً فلا يغالب ، { حكيماً } فيما يحكم به فلا يعارَض .
(6/87)

{ وعَدَكُمْ اللّهُ مغانِمَ كثيرةً تأخذونها } هو ما فتح على المؤمنين ، وغنموه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة . والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان . { فعجَّلَ لكم هذه } المغانم ، يعني مغانم خيبر ، { وكفَّ أيديَ الناس عنكم } أي : أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا ، وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح ، { ولِتكون } هذه الكفَّة { آيةً للمؤمنين } وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان ، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم ، أو : لتكون آية يعرفون بها صدقَ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم ، ودخول مكة ، ودخول المسجد الحرام آمنين . واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر ، أي : وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف ، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين ، أي : فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون . . . الخ ، { ويهديكم صراطاً مستقيماً } أي : يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى .
قال الثعلبي ، ولمّا فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع عليه السلام بأهل خيبر ، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم ، ويخلُّوا له الأموال ، ففعل ، ثم صالح أهلَ خيبر ، على أن يعملوا في أموالهم على النصف ، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء ، ففعلوا ، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين ، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم ، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة ، أكثرت في ذراعها السم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الذراع ، فأكل منه ، ثم كلّمه ، فأمسك ، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور ، فمات من ساعته ، وسَلِمَ صلى الله عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين ، فمات به ، فجُمع له بين الشهادة والنبوة .
ثم قال تعالى : { وأُخرى لم تَقْدِروا عليها } أي : وعجّل لكم مغانم أخرى ، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين . ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجَوْلة . { قد أحاط اللّهُ بها } قَدَرَ عليها واستولى ، وأظهركم عليها ، وهي صفة أخرى ل " أخرى " مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى ، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم . ويجوز في " أُخرى " النصب بفعل مضمر ، يُفسره { قد أحاط الله بها } أي : وقضى الله أخرى ، ولا ريب في أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله : { وعدكم الله مغانم كثيرة } فيه مزيد فائدة ، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه .
(6/88)

وقال ابن عباس والحسن ومقاتل : { وأخرى لم تقدروا عليها } هي فارس والروم . وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم . ه . قلت : بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال أي : لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها ، { وكان الله على كل شيء قديراً } لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق ، لا تختص بشيء دون شيء .
قال ابن عرفة : مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء ، فيبقى النظر : هل يطلق على الواجب شيء ، لقوله تعالى : { قُلْ أَىُّ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ } [ الأنعام : 19 ] أم لا يطلق عليه شيء؟ فإن قلنا : يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية ، فيكون عامّاً مخصوصاً ، وإن قلنا بعدم صحته ، فيبقى النظر : هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية ، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة ، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص . ه .
الأشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول ، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين ، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة ، تحت ظل شجرة همتك ، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق ، فأنزل السكينة عليهم ، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة ، وأثابهم فتحاً قريباً ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ومغانم كثيرة؛ فتوحات ومكاشفات ، وأسرار ، وترقيات كثيرة ، إلى ما لا نهاية له ، يأخذونها . ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح ، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء ، والتوسُّع في المقامات ، والترقِّي في معارج المكاشفات ، فعَجَّل لكم هذه ، هو مقام الفناء ، وكفَّ أيدي القواطع عنكم ، لتتوجهوا إلى مولاكم ، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير ، يهتدون بهديكم ، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا ، ادخرها لكم يوم القيامة ، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
وقال الورتجبي : { لقد رضي الله عن المؤمنين } أي : رَضِيَ عنهم في الأزل ، وسابق علم القدم ، ويبقى رضاه إلى الأبد؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية ، لا تتغير بتغيُّر الحدثان ، ولا بالوقت والزمان ، ولا بالطاعة والعصيان ، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد ، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية ، ولا بالشهوات ، لأن أهل الرضا محروسون برعايته ، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد ، وصاروا متصفين بوصف رضاه ، فرضوا عنه كما رضي عنهم ، قال تعالى : { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ المائدة : 119 ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله : { فأنزل السكينة عليهم } فسكنت قلوبهم إليه ، واطمأنت به؛ لِتنزُّل اليقين . ه .
قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق ، واطمأن به ، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم .
قال اللجائي ، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك ، وإن كان عاصياً وأنت مطيع ، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر ، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض ، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة ، ولا مَن يفوز بالسعادة ، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة ، ويتلقى سخطه بذنب واحد ، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة . . . الخ .
(6/89)

وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
{ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ . . . }
يقول الحق جلّ جلاله : { ولو قاتلكم الذين كفروا } من أهل مكة ولم يُصالحوا ، أو من خلفاء خيبر ، الذين جاؤوا لنصرهم { لَوَلَّوا الأدبارَ } منهزمين { ثم لا يجدون وليّاً } يلي أمرهم ، { ولا نصيراً } ينصرهم . { سُنَّةَ الله التي قد خَلَتْ من قبل } مصدر مؤكد ، أي : سنَّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية ، وهو قوله : { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] { ولن تجد لسنة الله تبديلاً } تغيُّراً .
{ وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم } أي : أيدي كفار أهل مكة { وأَيْدِيَكم عنهم } عن أهل مكة { ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } أي : أقدركم وسلَّطكم عليهم ، يعني : قضى بينهم وبينكم المكافَّة والمحاجزة بعدما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية ، يطلب غرة بالمسلمين ، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد على جند ، فهزمهم ، حتى أدخلهم حيطان مكة ، ثم عاد ثانياً فهمزمه ، ثم عاد فهزمه ، هكذا نقله الثعلبي وغيره . فانظره مع ما في الاكتفاء للكلاعي : أن خالداً كان مع المشركين في الحديبية ، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح ، وكان في السنة الثامة ، والحديبية في السادسة ، والذي ذكر النسفي أنه عليه السلام بعث مَن هزمهم ، ولم يسمه ، وهزمُ خالد لبعض قريش إنما كان في الفتح ، لا في الحديبية ، فلعل الراوي غلط . وقال أنس : إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ، عام الحديبية ، ليقاتلوا المسلمين ، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سِلْماً ، فأعتقهم ، فنزلت الآية .
ووجه المنّة في كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين : ما ذكر بعد من قوله : { ولولا رجال مؤمنون } . . . الآية ، أو : ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه ، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح ، وقال القشيري : بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم ، أنزل الله هذه الآية يمنُّ عليهم ، حيث كفّ أيديَ بعضهم عن بعض ، عن قدرة من المسلمين ، لا عن عجز ، فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعباً وخوفاً ، وأما المسلمون فنهياً من قِبل الله ، لما في أصلابهم من المؤمنين . ه . { وكان الله بما تعملون } من مقاتلتهم وهزمهم أولاً ، والكفّ عنهم ثانياً ، لتعظيم بيته الحرام ، وقرأ البصري بياء الغيب ، أي : بما يعمل المشركون { بصيراً } فيجازي كُلاًّ بما يستحقه .
(6/90)

{ هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام } { و } صدُّوا { الهدْيَ } حال كونه { معكوفاً } أي : محبوساً عن { أن يبلغ مَحِلَّهُ } أي : مكانه الذي يحلّ به نحره ، وهو منىً وكان صلى الله عليه وسلم ساق سبعين بدنة ، فلما صُدّ ، نَحَرَها بموضعه ، وبه استدل مَن قال : إنّ المحصَر ينحر هداياه بموضعه ، وروي أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل ، ومصلاّه في الحرم ، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يُقال لمَن سبقت لهم العناية ، وحَفّت بهم الرعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة ، والشيطان ، والهوى ، وسائر القواطع ، لَوَلُّوا الأدبار ، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً ، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب ، ودخل تحت تربية الرجال ، فإن همتهم دائرة عليه ، ولن تجد لسنَّة الله تبيدلاً . وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم ، وكَفّ أيديكم عنهم ، من بعد أن أظفركم عليهم ، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها ، ووجب البرور بها ، وتصديقها فيما تحدثه ، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها ، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده . وقيل لبعضهم : متى ينتهي سير الطالبين؟ قال : " الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا " . وأيضاً : لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة ، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة . هم الذين كفروا من النفوس المتمردة ، والهوى ، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة ، والهديَ معكوفاً ، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله ، بأن تمنعكم من إعطائه ، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب ، لئلا تبلغ محل الإخلاص .
ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية ، فقال :
{ . . . وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً }
قلت : { أن تطؤوهم } : بدل اشتمال من رجال ونساء ، ومن ضمير " تعلموهم " وبغير متعلق بتطؤوهم ، وجواب " لولا " محذوف ، أغنى عنه جواب " لو " أي : لما كفّ أيديكم عنهم .
يقول الحق جلّ جلاله : { ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمناتٌ } بمكة ، ضَعُفوا عن الهجرة { لم تعلموهم } لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين ، { أن تطأوهم بغير علمٍ } أي : غير عالِمين بهم { فتُصيبَكم منهم معرَّة } أي : مشقة ومكروه . وفي تفسير المحلي " المعرة " بالإثم نظر ، مع فرض عدم العلم ، إلا أن يُحمل على صورة الإثم ، وهو الخطأ ، وفيه الكفارة . والمعرة : مفعلة من : عراهُ : إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه ، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلو بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والإثم إذا قصد قتله . والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة .
(6/91)

والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين ، غير متميّزين منهم ، فقيل : ولولا كراهة أن تُهلكوا ناساً من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتُصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه ، ولما كففنا أيديكم عنهم ، ولسلطانكم عليهم .
وكان ذلك الكفّ { ليُدخل اللّهُ في رحمته } أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم ، أو : ليدخلهم في الإسلام مَن رغب فيه من مشركيهم { مَن يشاء } زيادته أو هدايته ، فاللام متعلقة بمحذوف ، تعليل لما دلت عليه الآية ، وسيقت له ، من كفّ الأيدي عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم ، صوناً لما بين أظهرهم من المؤمنين . { لو تزيّلوا } أي : تفرّقوا وتميّز المسلمون من الكافرين ، { لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً } بقتل مقاتلهتم ، وسبي ذراريهم . ويجوز أن يكون : " لو تزيّلوا " كالتكرير ل " لولا . . "؛ لمرجعهما لمعنى واحد ويكون { لعذَّبنا . . . } الخ ، هو جواب " لولا " والتقدير : ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمناتٍ من غير علم ، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف .
الإشارة : إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد ، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد ، ولو تزيّلوا لعذبنا المنكرين عذاباً أليماً ، وكذلك إذا اختلط الفجّار مع الأبرار ، وغلب جمع الأبرار ، لا يعم البلاء ، ويُصرف عن الجميع ، فلو تزيّل الفجّار لعُذبوا عذاباً أليماً .
قال القشيري : قد تكون في النفس أوصاف مستحسنة ، تليق بالفيض الألهي ، مع أوصاف مذمومة ، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة ، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة ، فتُصيبكم معرة ، ليدخل الله في رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النفوس ، بتصفية ما فيها من الرذائل . لو تزيّلوا تميز ما يصلح قلعه ، كالكبر ، والشر ، والحرص والحقد ، أو ما يصلح تبديله ، كالبخل بالسخاء ، والحرص بالقناعة ، والغضب بالحلم ، والجبن بالشجاعة ، والشهوة بالعفة ، لعذَّبنا النفوس المتمردة عذاباً أليماً ، بإهلاكها بالكلية . بالمعنى .
(6/92)

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر { إِذ جعلَ الذين كفروا } من قريش أي : ألقوا { في قلوبهمُ الحميِّة } أي : الأنفَة والتكبُّر ، أو : صيّروا الحميةَ راسخة في قلوبهم { حميةَ الجاهليةِ } بدل ، أي : حَميّة الملة الجاهلية ، أو الحميّة الناشئة من الجاهلية ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ، إذ تقدّم ذكرهم ، لذمِّهم بما في حيز الصلة ، وتعليل الحكم به . والجعل بمعنى الإلقاء ، فلا يتعدّى إلى مفعولين ، أوك بمعنى التصيير ، فالمفعول الثاني محذوف ، كما تقدّم . و " الذين " : فاعل ، على كل حال . { فأنزل اللّهُ سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين } أي : أنزل في قلوبهم الطمأنينة والوقار ، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش .
رُوي : أن رسول الله لمَّا نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العُزَّى ، ومِكْرَز بن حفص ، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك ، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتب بينهم كتاباً ، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل وأصحابه ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : " اكتب : هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة " فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أنّي رسول ، وأنا محمد بن عبد الله " فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك ، ويبطشوا بهم ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فتوقّروا وحلُموا . وفي رواية البخاري : فكتب عليّ رضي الله عنه : " هذا ما قضى عليه محمد رسول الله " فلما أَبَوا ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم لعليّ : " امح رسول الله ، واكتب : محمد بن عبد الله " ، فقال : والله لا أمحوك أبداً ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا . قيل : كتب بيده معجزةً ، وقيل : أَمَرَ من كتب ، وهو الأصح .
{ وإلزمهم كلمةَ التقوى } شهادة " لا إله إلا الله " وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم ، وقيل : محمد رسول الله ، وقيل : الوفاء بالعهد ، والثابت عليه . وإضافتها إلى التقوى؛ لأنها سببها وأساسها ، وقيل : كلمة أهل التقوى . { وكانوا أحقَّ بها } أي : متصفين بمزيد استحقاق بها ، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً ، أو : أحق بها من غيرهم من سائر الأمم { و } كانوا أيضاً { أهلها } المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم . قال القشيري : كلمة التقوى هي التوحيد عن قلبٍ صادق ، وأن يكون مع الكلمة الاتقاءُ الشرْك ، وكانوا أحق بها في سابق حكمه ، وقديم علمه ، وهذا إلزام إكرام ولطف ، لا إلزام إكراهٍ وعنف ، وإلزامُ بر ، لا إلزام جبر .
(6/93)

ه . { وكان الله بكل شيء عليماً } فيجري الأمور على مساقها ، فيسوق كلاًّ إلى ما يستحقه .
الإشارة : لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية ، وروحه سماوية ، يدور مع الحق أينما دار ، ويخضع للحق أينما ظهر ، ولأهله أينما ظهروا ، لم تبقَ فيه حَميّة ولا أَنفة ، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر ، ولا تميز بينهما ، وأما مَن فيه حمية الجاهلية ، فهو من أهل الخذلان ، وأما أهل العناية ، فأشار إليهم بقوله : { فأنزل الله سكينته على رسوله } فكان متواضعاً سهلاً ليناً ، كما قال تعالى : { وَإِنكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] وعلى المؤمنين فأخبر عنهم بقوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] الآية ، و " ألزمهم كلمة التقوى " ، " لا إله إلا الله " لأنها تهذِّب الأخلاق ، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق؛ لأن النفي : تنزيه وتخلية ، والإثبات : نور وتحلية ، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن .
قال في نوادر الأصول ، لمّا تكلم على { وألزمهم كلمة التقوى } : هو " لا إله إلا الله " ، وجه تسميتها بذلك : أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك ، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً ، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة ، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته ، وولِهت قلوبهم إليه ، فابتدأ هذا القلب - الذي وصفنا - بالنفي لأرباب الأرض ، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى ، فوقف عنده ، وتذلّل وخشع له ، واطمأن وولِه إليه . وقال لنبيه : { سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [ الأعلى : 1 ] أي : إن هذه أرباب متفرقون ، والرب الله الواحد القهار ، فهداه إلى الرب الأعلى ، وقال : { وَأنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } [ النجم : 42 ] . ثم قال : ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة ، كما قال : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُم } [ الحجرات : 7 ] ، فبحلاوة الحب ، وزينة البهاء ، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم .
وأما قوله : { وكانوا أحق بها وأهلها } فإنما صاروا كذلك؛ لأن الله كان ولا شيء ، فخلق المقادير ، وخلق الخلق في ظلمة ، ثم رشّ عليهم من نوره ، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومَن أخطأه ضلّ ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه . ثم ذكر أحاديث ، من ذلك : حديث ابن عمرو : " إن الله خلق خلقه ، ثم جعلهم في ظلمة ، ثم أخذ من نوره ما شاء ، فألقاه عليهم ، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه ، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه . . . " الحديث . ثم قال بعد كلام طويل : ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه ، أهل اليمين ، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ ، وأصحاب الشمال كالحمَّة سُود من كتفه الأيسر ، والسابقون أمام الفريقين ، المقربون ، وهم الرسل والأنبياء والأولياء ، فقرّبهم كلهم ، وأخذ عليهم ميثاق على الإقرار بالعبودية ، وأشهدهم على أنفسهم ، وشهد عليهم بذلك . ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام . ه .
وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله : { وكانوا أحقَّ بها وأهلَها } : مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة ، وهو أحق بها ، لِما سبق إليه من كرامة الأزل . ه . والحاصل : أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية ، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم ، دون الذي حجبهم الله عن رؤية نورها . قاله في الحاشية .
(6/94)

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
يقول الحق جلّ جلاله : { لقد صَدَقَ اللّهُ رسولَه الرؤيا } أي : صدَقه في رؤياه ولم يكذبه - تعالى الله عن الكذب - فحذف الجارَ وأوصل الفعل؛ كقوله : { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] يقال : صدقه الحديث : إذا حققه وبيّنه له ، أو : أخبره بصدق رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم ، قبل خروجه إلى الحديبية ، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصّروا ، فقصّ الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسِبوا أنهم داخلوها ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله حق . والله تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي ، فلما صُدوا ، قال عبد الله بن أُبيّ وغيرُه من المنافقين : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت : { لقد صَدَقَ اللّهُ رسوله } فيما أراه ، وما كذب عليه ، ولكن في الوقت الذي يريد .
وقوله : { بالحق } إما صفة لمصدر محذوف ، أي : صدقاً ملتبساً بالحق ، أي : بالغرض الصحيح ، والحكمة البالغة التي تُميز بين الراسخ في الإيمان ، والمتزلزل فيه ، أو : حال من الرؤيا ، أي : ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام ، ويجوز أن يكون قسَماً ، أي : أقسم بالحق { لَتدخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ } وعلى الأول : جواب القسم محذوف ، أي : والله لتدخلن المسجد الحرام ، والجملة القسمية : استنئاف بياني ، كأن قائلاً قال : ففيم صَدَقَه؟ فقال : { لتدخلن المسجد إن شاء الله } وهو تعليق للعِدة بالمشيئة لتعليم العبادة . قال ثعلب : استثنى الله فيما يعلم؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون . وقال في القوت : استثنى الله معلماً لعباده ورَادّاً لهم إلى مشيئته ، وهو أصدقُ القائلين ، وأعلمُ العالمين . ه . أو : للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه ، لموت ، أو غيبة ، أو غير ذلك ، أو : هو حكاية لِما قاله ملَك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لِما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، حين قصّ عليهم ، أي : والله لتدخلنها { آمنين } من غائلة العدو ، فهو حال من فاعل " لتدخلن " والشرط معترض . { مُحلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين } أي : محلقاً بعضكم ، ومقصراً آخرون ، { لا تَخافون } بعد ذلك أبداً ، فهو حال أيضاً ، أو استئناف ، { فَعِلمَ ما لم تعلموا } من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل ، { فجعل من دون ذلك } فتح مكة { فتحاً قريباً } وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوبُ المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود . والله تعالى أعلم .
الإشارة : العارف الكامل لا يركن إلى شيء دون الله تعالى ، فلا يطمئن إلى وعد ، ولا يخاف من وعيد ، بل هو عبد بين يدَي سيده ، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته ، فإن بُشِّر بشيء في النوم أو اليقظة ، لا يركن إليه ، ولا يقف معه؛ لأن غيب المشيئة غامض ، وإن خُوّف بشيء في النوم أو غيره ، لا يفزع ولا يجزع؛ لأن الغنى بالله والأُنس به غيَّبه عن كل شيء ، وفي الله خلف من كل تلف " ماذا فقد من وجدك؟ " والله يتولى الصالحين ،
(6/95)

{ وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً . . . } [ الطلاق : 2 ] الآية .
قال في الإبريز : الرؤيا المُحْزِّنة إنما هي اختبار من الله للعبد ، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه ، فإن كان العبد متعلقاً به تعالى ، ورأى الرؤيا المحزنة ، لم يلتفت إليها ، ولما يُبال بها؛ لعلمه بأنه منسوب إلى مَن بيده تصاريف الأمور ، وأنَّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة ، فلا يهوله أمر الرؤيا ، ولا يلقي إليها بالاً ، وهذه لا تضره بإذن الله تعالى : وإذا كان العبد غير متعلق بربه ، ورأى رؤيا محزنة ، جعلها نصب عينيه ، وعمّر بها باطنه ، وانقطع بها عن ربه ، ويُقدِّر أنها لا محالة نازلة به ، فهذا هو الذي تضره؛ لأنَّ مَن خاف من شيء سلّطه عليه . ه .
وسُئل سهل التستري رضي الله عنه عن الاستثناء في هذه الآية ، فقال : تأكيداً في الافتقار إليه ، وتأديباً لعباده في كل حال ووقت . ه . أي : أدّبهم لئلاّ يقفوا مع شيء دونه .
(6/96)

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى } بالتوحيد ، أي : ملتبساً به ، أو : بسببه ، أو : لأجْله ، { ودينِ الحق } وبدين الإسلام ، وبيان الإيمان والإحسان ، وقال الورتجبي : ودين الحق : هو بيان معرفته والأدب بين يديه . ه . { ليُظهره على الدين كله } ليُعْلِيَه على جنس الدين ، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب ، وقد حقّق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى ديناً قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة ، إلا ما كان من النصارى بالجزيرة ، حيث فرّط أهل الإسلام ، وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر . وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات . { وكفى بالله شهيداً } على أن ما وعده كائن . وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيُظهر دينه ، أو : كفى به شهيداً على نبوة محمد صلى عليه وسلم وهو تمييز ، أو حال .
{ محمد رسولُ الله } أي : ذلك المرسَل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله ، فهو خبر عن مضمر ، و " رسول " : نعت ، أو : بدل ، أو : بيان ، أو : " محمد " : مبتدأ و " رسول " : خبر ، { والذين معه } مبتدأ ، خبره : { أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم } أو : " الذين " : عطف على " محمد " ، و " أشداء " : خبر الجميع ، أي : غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم ، رُحماء متعاطفون بينهم ، يعني : أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة ، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ ، وهذا كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] ، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم : أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه .
وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللّهُ به الصحابةَ رضي الله عنهم مطلوبٌ من جميع المؤمنين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى " رواه البخاري ، وقال أيضاً : " نَظَرُ الرجل إلى أخيهِ شوقاً خيراُ من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا " ، ذكره في الجامع .
{ تراهم رُكَّعاً سجداً } أي : تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين؛ لمواظبتهم على الصلوات ، أو : على قيام الليل ، كما قال مَن شاهد حالهم : رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار ، وهو استئناف ، أو : خبر ، { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } أي : ثواباً ورضا وتقريباً { سِيماهم } علامَاتهم { في وجوههم } في جباههم { من أثر السجود } أي : من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود . وما رُوي عنه عليه السلام : " لا تُعلموا صوَركم " أي : لا تسمُوها ، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض ، ليحدث ذلك فيها ، وذلك رياء ونفاق ، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد ، فلا ينهى عنه ، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم .
(6/97)

وقال منصور : سألت مجاهداً عن قوله : { سيماهم في وجوههم } أهو الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال : لا ربما يكون بين عيني الرجل مِثلُ ركبة البعير ، وهو أقسى قلباً من الحجارة ، ولكنه نورٌ في وجوهم من الخشوع . وقال ابن جيرح : هو الوقار والبهاء ، وقيل : صفرة الوجوه ، وأثر السهر . وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم مرضى . وقال سفيان وعطاء : استنارت وجوههم من طول ما وصلُّوا بالليل ، لقوله عليه السلام : " مَن كَثُرت صلاتُه بالليل حَسُن وجْههُ بالنَّهار " وقال ابن عطية : إنه من قول شريك لا حديث ، فانظره ، وقال ابن جبير : في وجوههم يوم القيامة يُعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا لله تعالى . ه .
{ ذلك مَثَلُهم في التوراة } الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة ، وما فيها من معنى البُعد مع قُرب العهد للإيذان بعلو شأنه ، وبُعد منزلته في الفضل ، أي : ذلك وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال ، هو نعتهم في التوراة ، أي : كونهم أشدّاء على الكفار ، رحماء بينهم ، سيماهم في وجوههم .
ثم ذكر وَصْفَهم في الإنجيل فقال : { ومَثَلُهم في الإِنجيل كزرعٍ . . } الخ ، وقيل عطفٌ على ما قبله ، بزيادة " مَثَلَ " ، أي : ذلك مثلُهم في التوراة والإنجيل ، ثم بيَّن المثل فقال : هم كزرع { أخرج شطأه } فِرَاخَه ، يقال : أشْطأ الزرع : أفرخ ، فهو مُشْطِىءٌ ، وفيه لغات : شطأه بالسكون والفتح ، وحذف الهمزة ، كقضاة . و " شطَهُ " ، بالقصر ، { فآزره } فقوّاه ، من : المؤازرة ، وهي الإعانة ، { فاستغلظ } فصار من الرقة إلى الغلظ ، { فاستوى على سُوقه } فاستوى على قصبه ، جمع : ساق ، { يُعجِبُ الزُّرَّاع } يتعجبون من قوّته ، وكثافته ، وغِلظه ، وحُسن نباتِه ومنظره . وهو مَثَلٌ ضربه الله لأصحابه صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، بتَرَقي أمرُهم يوماً بيوم ، بحيث أعجب الناسَ أمرهم ، فكان الإسلام يتقوّى كما تقوى الطاقة من الزرع ، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها .
وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينْهون عن المنكر . وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر ، فآرزه بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعليّ . وحكى النقاش عن ابن عباس ، أنه قال : الزرعُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فآزره عليّ بن أبي طالب ، فاسغلظ بأبي بكر ، فاستوى على سوقه بعمر . ه .
واختار ابن عطية : أن المَثَل شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة ، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث وحده ، فهو الزرع ، حَبّة واحدة ، ثم كثُر المسلمون ، فهم كالشطْءِ ، تَقَوّى بهم صلى الله عليه وسلم .
(6/98)

{ ليغيظ بهم الكفار } تعليل لما يُعرب عنه الكلامُ من تشبيههم بالزرع في ذكائه واستحكامه ، أي : جعلهم كذلك ليغيظ بهم مَن كَفَر بالله .
{ وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرةً وأجراً عظيماً } استئناف مُبيِّن لما خصَّهم به من الكرامة في الآخرة ، بعد بيان ما خصَّهم به في الدنيا ، ويجوز أن يرجع لقوله : { ليغيظ بهم . . . } الخ : أي : ليغيظ بهم وعَدهم بالمغفرة والأجر العظيم؛ لأن الكفار إذا سمعوا ما أُعدّ لهم في الآخرة مع ما خصَّهم في الدنيا من العزة والنصر غاظهم ذلك أشد الغيظ ، و " من " في " منهم " للبيان ، كقوله : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] أي : وعد الله الذين آمنوا من هؤلاء .
الإشارة : هو الذي أرسل رسول بالهدى : بيان الشرائع ، ودين الحق : بيان الحقائق ، فمَن جمع بينهما من أمته ظهر دينُه وطريقته ، وهذا هو الوليّ المحمدي ، أعني : ظاهره شريعة ، وباطنه حقيقة ، وما وصَف به سبحانه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وصْفُ الصوفية ، أهل التربية النبوية ، خصوصاً طريق الشاذلية ، حتى قال بعضهم : مَن حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة ما حنث . وقوله تعالى : { يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيدَ كشف في الذات والدنو والوصالِ والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب ، وهذا محل الرضوان الأكبر . ه .
وقوله تعالى : { سيماهم في وجوههم } أي : نورهم في وجوههم ، لتوجهِهم نحو الحق ، فإنَّ مَن قَرُب من نور الحق ظهرت عليه أنورا المعرفة ، وجمالُها وبهاؤها ، ولو كان زنجيّاً أو حبشيّاً ، وفي ذلك قيل :
وعلى العارفين أيضاً بهاءُ ... وعليهم من المحبّة نورُ
ويقال : السيما للعارفين ، والبَهجة للمحبين ، فالسيما هي الطمأنينة ، والرزانة ، والهيبة ، والوقار ، كل مَن رآهم بديهةً هابَهم ، ومَن خالطهم معرفةً أحبهم ، والبهجة : حسن السمت والهَدْي ، وغلبة الشوق ، والعشقُ ، واللهج بالذكر اللساني . والله تعالى أعلم .
وروى السلمي عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النُحولة والصفرة ، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين ، يبدو من باطنهم على ظاهرهم ، يتبين ذلك للمؤمنين ، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي . وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقُرب عهدِهم بمناجاة سيدهم . وقال ابن عطاء : ترى عليهم طِلع الأنوار لائحة . وقال الورتجبي : المؤمن وجهٌ لله بلا قفا ، مقبلاً عليه ، غير معرض عنه ، وذلك سيما المؤمن . ه . وبالله التوفيق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
(6/99)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } تصدير الخطاب بالنداء ، تنبيهُ المخاطبين على أنَّ في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه ، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم ، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به ، { لا تُقدِّموا } أي : لا تفعلوا التقديم ، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور ، على طريقة قولهم : فلان يعطي ويمنع ، أو : لا تُقدّموا أموراً من الأمور ، على حذف المفعول ، للعموم ، أو : يكون التقديم بمعنى التقدُّم ، من " قدّم " اللازم ، ومنه : مقدمة الجيش ، للجماعة المتقدَّمة ، ويؤيده قراءة مَن قرأ : ( لا تَقدَّموا ) بحذف أحدى التاءين ، أي : لا تتقدموا { بين يدي اللّهِ ورسولهِ } : لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به ، وحقيقة قولك : جلست بين يدي فلان : أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه ، فسُميت الجهتان يدين؛ لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما ، توسعاً ، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره .
وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً ، وفيه فائدة جليلة ، وهي : تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة . ويجوز أن يجري مجرى قولك : سرَّني زيد وحُسْنُ ماله ، فكذلك هنا المعنى : لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوة الاختصاص ، ولمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى؛ سلك به هذا المسلك ، وفي هذا تميهد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته؛ لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة ، واختصه بهذا الاختصاص ، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال : إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه ، ولا يُقطع أمر دونه ، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله؛ لأنه لا ينطلق عن الهوى ، فنبغي الاقتداء بالملائكة؛ حيث قيل فيهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ . . } [ الأنبياء : 27 ] الخ .
قال عبد الله بن الزبير : قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد ، وقال عمر : يا رسول الله؛ بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس؛ فقال أبو بكر : ما أردتُ إلا خلافي ، وقال عمر : ما أردتُ خِلافَك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت . فعلى هذا يكون المعنى : لا تُقَدِّموا وُلاةً ، والعموم أحسن كما تقدّم . وعبارة البخاري : " وقال مجاهد : ( لا تقُوموا ) لا تَفْتاتُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يَقضي اللّهُ - عزّ وجل - على لسانه " . وعن الحسن : أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة ، فنزلت ، فأمرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ، وعن عائشة : أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك .
(6/100)

{ واتقوا اللّهَ } في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال ، التي من جملتها ما نحن فيه ، { إِنَّ اللّهَ سميع } لأقوالكم { عليم } بأفعالكم ، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب .
{ يا أيها آمنوا لا ترفعوا أصواتَكم فوقَ صوتِ النبي } شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم ، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل ، وإعادة النداء مع قرب العهد؛ للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه؛ أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه صوته صلى الله عليه وسلم ، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم ، وجهره باهراً لجهركم ، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً ، وسابقته لديكم واضحة .
{ ولا تجهروا له بالقول } إذا كلّمتموه { كجَهْرِ بعضِكم لبعضٍ } أي : جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم ، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته ، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس ، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم ، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها . وقيل : معنى : { لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } : لا تقولوا : يا محمد ، يا أحمد ، بل : يا رسول الله . يا نبي الله ، ولمّا نزلت هذه الآية؛ ما كلّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر إلا كأخي السِّرار .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَاس ، وكان في أذنيه وَقْر ، وكان جَهْوَريَّ الصوت ، وكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيتأذّى من صوته . ه . والصحيح ما تقدّم . وفي الآية أنهم لم يُنهوا عن الجهر مطلقاً ، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص ، أي : الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم ، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة ، وجلالة مقدارها .
وقوله : { أن تحبط أعمالُكم } مفعول من أجله ، أي : لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم ، { وأنتم لا تشعرون } فإنَّ سوء الأدب ربنا يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر . ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج ، فتَفقَّده صلى الله عليه وسلم ، فدعاه فسأله ، فقال : يا رسول الله؛ لقد أُنزلت عليك هذه الآية ، وإني رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " لست هناك ، تعيش بخير ، وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة " .
وأما ما يُروى عن الحسن : أنها نزلت في المنافقين ، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم فقد قيل : محْمله : أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص .
{ إِنَّ الذين يَغُضُّون أصواتَهم عند رسول الله } أي : يخفضون أصواتهم في مجلسه ، تعظيماً له ، وانتهاءً عما عنه ، { أولئك الذين امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى } أي : أخلصها وصفَّاها ، من قولهم : امتحن الذهب وفَتَنه : إذا أذابه ، وفي القاموس : محنَه ، كمنعه : اختبره ، كامتحنه ، ثم قال : وامتحن القول : نَظَرَ فيه ودبّره ، والله قلوبَهم : شرحها ووسّعها ، وفي الأساس : ومن المجاز : محنَ الأديمَ : مدّده حتى وسعه ، وبه فسّر قوله تعالى : { امتحن اللّهُ قلوبَهم للتقوى } أي : شرحها ووسعها ، { لهم مغفرة وأجرٌ عظيمٌ } أي : مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم : نعيم الجنان .
(6/101)

الإشارة : على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف ، وقد جمع شيخنا البوزيدي الحسني رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره ، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه .
والذي يُؤخذ من الآية : أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام ، لا سيما إذا سأله أحدٌ ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب ، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ ، مع ما فيه من إظهار علمه ، وإشهار شأنه ، والتقدم على شيخه . ومن ذلك أيضاً : ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته ، ما دام تحت الحجرية ، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه ، وأن يغضّ صوته عند حضوره ، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام ، ويكون بخفض صوت وتعظيم .
قلت : وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة؛ إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال ، وسَمِعتُ شيخ شيخنا ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول : حُكّونا في المذاكرة؛ ليظهر العلم ، وكونوا معنا كما قال القائل : حك لي نربل لك ، لا كما قال القائل : سَفِّجْ لي نعسل لك . ه . لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام ، من غير معارضة ولا جدال ، وإلا وإلا فالسكوت أسلم .
قال القشيري : { لا تُقدّموا بين يَدي الله ورسوله } لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً ، وقُفوا حيثما وُقِفْتم ، وافعلوا ما به أُمِرْتُم ، أي : اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق ، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع ، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع .
وقال في قوله تعالى : { لا ترفعوا أصواتَكم . . . } الآية ، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن : ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ ، ويكون مستسلماً لرأيه ، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته ، { ولا تجهرا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي : لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل ، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم ، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم ، فلا تنبسطوا معه ، متاجسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه ، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم ، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم ، وأنتم لا تشعرون . إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي : انتزع عنها حبّ الشهوات ، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق ، وتخلقت بمكارم الأخلاق ، حتى انسلختْ من عادات البشرية . ه .
وقال في القوت : الوقاية مقرونة بالنصرة؛ فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه ، وأعْدى عدُوه نفْسُه ، فإذا نَصَره عليها ، أخرج الشهوة منها ، فامتحنَ قلبَه للتقوى ، ومحّض نفسَه ، فخلّصها من الهوى . ه .
(6/102)

إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ الذين يُنادونك من وراء الحجرات } من خارجها ، أو : من خلفها ، أو : من أمامها ، فالوراء : الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام ، و " مِن " لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة : الرقعة من الأرض ، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها ، فعْلة ، بمعنى مفعولة ، كالقُبْضَة ، والجمع : حُجُرات ، بضمتين ، وبفتح الجيم ، والمراد : حجرات النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان لكل امرأة حُجرة .
نزلت في وفد بني تميم ، وكانوا سبعين ، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري ، والأقرعُ بن حابس ، وفَدوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة ، وهو راقد ، فنادوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته ، وقالوا : اخرجْ إلينا يا محمدُ؛ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ ، وذمّنا شيْن ، فاستيقظ ، وخرج عليه السلام وهو يقول : " ذلكم الله الذي مدحُه زين ، وذمّه شين " ، فقالا : نحن قوم من بني تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا ، لنُشاعركَ ، ونُفاخرك ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ما بالشعر بُعثت ، ولا بالفخار أُمرت " ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم ، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس - وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم : قم ، فقام ، فخطب ، فأقحم خطيبَهم ، ثم قام شاب منهم ، فأنشأ يقول :
نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا ... فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ
ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ ... إنَّا كَذَلِكِ عِنْدَ الْفخرُ نَرْتَفعُ
فقال صلى الله عليه وسلم لحسّان : قم فأجبه ، فقال :
إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهمْ ... قَدْ شَرَّعوا سُنَّةً للناس تُتبعُ
يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه ... تَقوَى الإله وكلُّ الفخر يُصطنعُ
ثم قال الأقرع شعراً افتخر به ، فقال عليه السلام لحسّان : قم فأجبه ، فقال حسّان :
بَنِي دَارِمٍ ، لاَ تَفْخُروا ، إِنَّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبالاً عِنْد ذِكْرِ الْمكَارِمِ
هَبلْتُم ، عَليْنا تَفْخرُون وأَنْتُم ... لَنا خَوَلٌ من بَيْن ظِئْرٍ وخادِمِ
فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد كنتَ غنياً عن هذا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه " ، ثم قال الأقرعُ : تكلم خطيبُنا ، فكان خطيبهُم أحسن قِيلاً ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعِرُهم أشعر . ه .
هذا ومناداتُهم من وراء الحجرات؛ إما لأنهم أتَوْها حجرةً حجرة ، فنادوه صلى الله عليه وسلم من ورائها ، أو : بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى الله عليه وسلم ، أو : نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جُمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الذي ناداه عُيينةُ بن حصن والأقرعُ ، وإنما أُسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأَمروا به . { أكثرُهم لا يعقلون } إذ لو كان لهم عقل لَمَا تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب .
(6/103)

{ ولو أنهم صبروا } أي : ولو تحقق صبرُهم وانتظارُهم ، فمحل { أنهم صبروا } رفعٌ على الفاعلية؛ لأنَّ " أنْ " تسبك بالمصدر ، لكنها تفيد التحقق والثبوت ، للفرق بين قولك : بلغني قيامك ، وبلغني أنك قائم ، و " حتى " تُفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مُغَيّاً بخروجه عليه السلام ، فإنها مختصة بالغايات . والصبرُ . حبسُ النفس على أن تُنازع إلى هواها وقيل : " الصبر مرٌّ ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ " . أي : لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة؛ لكان الصبرُ خيراً لهم من الاستعجال ، لِما فيه من رعاية حسن الأدب ، وتعظيمِ الرسول ، الموجبتين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسؤول؛ إذ رُوي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العَنبر ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم بعث سريةً إلى حي بني العنبر ، وأمّرَ عليهم عُيينة بن حِصن ، فهربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عُيينة ، ثم قَدِم رجالُهم يَفْدون الذراري ، فلما رأتهم الذراريُّ أجهشوا إلى آبائهم يَبْكون ، فعَجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادَوْه حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فأطلق النصف وفادى النصف ، { والله غفور رحيم } بليغ المغفرة والرحمة واسعهما ، فلن يضيق ساحتُهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا .
الإشارة : من آداب المريد ألاَّ يُوقظ شيخَه من نومه ، ولو بقي ألف سنة ينتظره ، وألاَّ يطلب خروجَه إليه حتى يخرجَ بنفسه ، وألاَّ يقف قُبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه . ومن آدابه أيضاً : ألا يبيت معه في مسكن واحد ، وألا يأكل معه ، إلا أن يعزم عليه ، وألا يجلس على فراشِه أو سجّادته إلا بأمره ، وإذا تعارض الأمر والأدب ، فهل يُقدّم الأمر أو الأدب؟ خلاف ، وقد تقدم في صلاح الحديبية : أن سيدنا عليّاً - كرّم الله وجهه - قدَّم الأدب على الأمر ، حين قال له صلى الله عليه وسلم : " امح اسم رسول الله من الصحيفة " ، فأبى ، وقال : " والله لا أمحول أبداً " والله تعالى أعلم .
(6/104)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إِن جاءكم فاسق بنبأٍ } نزلت في الوليد بن عُبة بن أبي مُعَيْط ، وكان من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المُصْطلِق ، بعد الوقعة مصدِّقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية ، فخرجوا يتلقّونه ، تعظيماً النبي صلى الله عليه وسلم ، فظنّ أنهم مقاتلوه؛ فرجع ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : قد ارتدُّوا ومنعوا الزكاة ، فَهمَّ صلى الله عليه وسلم أن يغزوهم ، ثم أتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمةً؛ فاتهمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم " خالد بن الوليد " خفيةً مع عسكر ، وأمره أن يُخفي عليهم قدومَه ، ويتطلعَ عليهم ، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم؛ أخذ زكاتهم ورجع ، وإن رأى غير ذلك؛ استَعمل فيهم ما يُستعمل في الكفار ، فسمع خالدُ فيهم آذان صلاتي المغرب والعشاء ، فأخذ صدقاتهم ، ولم يرَ منهم إلا الطاعة ، فنزلت الآية .
وسُمِّي الوليد فاسقاً لعدم تَثَبُّته؛ فخرج بذلك عن كمال الطاعة ، وفي تسميته بذلك زجرٌ لغيره ، وترغيبٌ له في التوبة ، والله تعالى أعلم بغيبه ، حتى قال بعضهم : إنها من المتشابه ، لِمَا ثبت من تحقُّق إيمان الوليد . وقال أبو عمر في الاستيعاب : لا يصح أن الآية نزلت في قضية الوليد؛ لأنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أعوام ، أو من عشرة ، فكيف يبعثه رسولاً؟! ه . قلت : لا غرابةَ فيه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّر أسامةَ بن زيد على جيش ، فيه أبو بكر وعمر ، مع حداثة سِنِّه ، كما في البخاري وغيره .
وفي تنكير ( فاسق ) و ( نبأ ) شِياعٌ في الفُسَّاق والأنباء ، أي : إذا جاءكم فاسقٌ أيّ فاسقٍ كان ، بأيِّ خبر { فتبَيَّنوا } أي : فتوقفوا فيه ، وتطلَّبوا بيان الأمر وانكشافَ الحقيقة ، ولا تعتمدوا قولَ مَن لا يتحرّى الصدق ، ولا يتحامى الكذب ، الذي هو نوع من الفسوق .
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العَدل؛ لأنا لو توقفنا في خبره؛ لسوّينا بينه وبين الفاسق ، ولخلا التخصيص به عن الفائدة . وقرأ الأخوان : " فثبتوا " والتثبُّت والتبيُّن متقاربان ، وهما : طلبُ الثبات والبيان والتعرُّف .
{ أن تُصيبوا } أي : لئلا تصيبوا { قوماً بجهالةٍ } حال ، أي : جاهلين بحقيقة الأمر وكُنه القصة . { فتُصْبِحوا } فتصيروا { على ما فعلتم نادمين } مغتمِّين على ما فعلتم ، متمنين أنه لم يقع ، والندم : ضرب من الغلم؛ وهو أن يَغتم على ما وقع ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحبُ الإنسان صحبةً لها دوامٌ في الجملة .
{ واعلموا انَّ فيكم رسولَ الله } فلا تكْذبوا ، فإن الله يُخبره ، فيهتك سر الكاذب ، أو : فارجعوا إليه واطلبوا رأيه ، ثم استأنف بقوله : { لو يُطيعُكم في كثير من الأمر لعَنتُّم } لوقعتم في العنت؛ وهو الجهد والهلاك .
(6/105)

والتعبيرُ بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور ، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم ، فلا . انظر أبا السعود . وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد ، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر ، وهم الذين استثناهم الله بقوله :
{ ولكنَّ الله حَبَّبَ إِليكم الإِيمانَ } وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا ، وقيل : هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك ، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم ، أي : ولكنه - تعالى - جعل الإيمان محبوباً لديكم { وزيَّنه في قلوبكم } حتى رسخ فيها ، ولذلك صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج ، وحاصل الآية على هذا : واعلموا أنَّ فيكم رسول الله ، فلا تُقِرُّون معه على خطأ ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ، ولكنَّ الله حبّب إلى بعضكم الإيمان ، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة .
قلت : والأحسن في معنى الاستدراك : أنَّ التقدير : لو يُطيعكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم ، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم؛ لأنَّ الله حبَّبَ إليكم الإيمان وزيَّنيه في قلوبكم ، فلا يسلك بكم إلا ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة .
ثم قال : { وكَرَّهِ إِليكم الكفرَ والفُسوق والعصيان } ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا خير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم ، قال ابن عرفة : العطف في هذه الآية تَدَلِّي؛ فالكفر أشدُّها ، والفسوق دونه ، والعصيان أخفّ؛ لصدقه على ترك المندوبات ، حسبنا نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه ، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم . ه .
{ أولئك هم الراشدون } أي : أولئك المستَثون ، أو : المتَّصِفون بالإيمان ، المزيّن في قلوبهم ، هم السالكون على طريق السّوى ، الموصل إلى الحق ، أي : أصابوا طريقَ الحق ، ولم يَميلوا عن الاستقامة . والرشدُ : الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه ، من : الرشادة ، وهي الصخرة الصماء . { فضلاً من الله ونِعمةً } أي : إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم؛ مفعولٌ من أجله ، أي : حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم { والله عليمٌ } مبالغ في العلم ، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل ، { حكيمٌ } يفعل ما يفعل الحكمةٍ بالغة .
الإشارة : إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا ، ولا تُبادروا بإظهاره ، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة ، فتظنُّوا بهم السوء ، وتقعوا في الغيبة ، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه ، إذا خطر فيه شيء نطق به ، فهذا هالك ، والمؤمن لسانه من رواء قلبه ، إذا خطر شيءٌ نظر فيه ، ووَزَنه بميزان الشرع ، فإن كان فيه مصلحة نطق به ، وإلا ردَّه وكتمه ، فالواجبُ : وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم ، فلا يُظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته .
(6/106)

{ واعملوا أن فيكم رسولَ الله } قد بَيَّن لكم ما تفعلون وما تذرون ، ظاهراً وباطناً ، ومَن اتصل بخليفة الرسول ، وهو الشيخ حكّمه على نفسه ، فإن خطر في قلبه شيءٌ يهِمُّ أمرُه عَرَضه عليه ، والشيخ ينظر بعين البصيرة ، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمركم التي تعزمون عليها لَعَنِتُّم ، ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمانَ ، وزيَّنه في قلوبكم ، فتَستمعُون لما يأمركم به ، وتمتثلون أمره ، وكرَّه إليكم الكفر والفسوق؛ الخروجَ عن أمره ونهيه ، والعصيان لما يأمرُكم به ، فلا تَرون إلا ما يسرّكم ، ويُفضي بكم إلى السهولة والراحة ، فضلاً من الله ونعمة ، فإنَّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم ، فللّه الحمد وله الشكر دائماً سرمداً .
وللقشيري إشارة أخرى ، قال : { إن جاءكم فاسق بنبأ } يشير إلى تسويلات النفوس الأمّارة بالسوء ، ومجيئها كل ساعة بنبأِ شهوةٍ من شهوات الدنيا ، فتبيّنوا ربحَها من خسرانها ، من قبل أن تُصيبوا قوماً من القلوب وصفائها بجهالة ، فإنَّ ما فيه شفاءُ النفوس وحياتها فيه مرضُ القلوب ومماتُها؛ فتُصبحوا صباحَ القيامة على ما فعلتم نادمين ، واعملوا أن فيكم رسولَ الله ، يُشير إلى رسول الإلهام في أنفسكم ، يُلهمكم فجور نفوسكم وتقواها ، لو يُطيعكم في كثيرٍ من أمرِ النفس الأمّارة ، لَعَنِتُّم؛ لوقعتم في الهلاك ، ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان بالإلهامات الربانية ، وزيَّنه في قلوبكم بقلم الكَرَم ، وكرَّه بنور نظر العناية إليكم الكفر ، والفسوق : هو ستر الحق والخروج إلى الباطل ، والعصيان ، وهو الأعراض عن طلب الحق ، أولئك هم الراشدون إلى الحق بإرشاد الحق ، فضلاً من الله ونعمةً منه ، يُنعم به على مَن شاء مِن عباده ، { والله عليم حكيم } . ه .
(6/107)

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } أي : تقاتلوا . والجمعُ باعتبار المعنى؛ لأن كلّ طائفة جمعٌ؛ كقوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ } [ الحج : 19 ] ، { فأصْلِحوا بينهما } بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى ، { فإِن بَغَتْ إِحداهما على الأخرى } ولم تتأثر بالنصحية { فقاتِلوا التي تبغي حتى تفيءَ } ترجع { إِلى أمر الله } إلى حُكمه ، أو : إلى ما أمر به من الصُلح وزوال الشحناء ، والفيء : الرجوع ، وقد يُسمى به الظل والغنيمة ، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس ، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين .
وحكم الفئة الباغية : وجوب قتالها ، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت . قال ابن جزي : وأَمَرَ اللّهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية؛ وذلك إذا تبيَّن أنها باغية ، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين؛ فاختلف العلماءُ فيها على قولين : أحدهما : أنه لا يجوز النهوض ، في شيء منها ولا القتال ، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص ، وأبي ذر ، وجماعة من الصحابة ، وحجتُهم حديث : " قتال المسلم كفر " ، وحديث : الأمر بكسر السيوف في الفتن ، والقولُ الثاني : النهوضُ فيها واجبٌ ، لتُكفَ الفئةُ الباغية ، وهذا مذهب عليّ ، وعائشة ، وطلحة ، وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتُهُم هذه الآية . فإذا فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه ، وإن أدّى ذلك إلى قتله؛ لحديث : " مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد " ، وإذا فرّعنا على الثاني ، فاختُلف؛ مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين؟ فقيل : مع السواد الأعظم ، وقيل : مع العلماء ، وقيل : مع مَن يُرى أنّ الحق معه . ه .
قلت : إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ ، يجب كفُّها ، وإذا وقعت بين الحدود؛ فالمشهور : النهوض ، ثم يقع السؤال عن السبب؛ فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه ، فإن أشكل الأمر ، فالأمساك عن القتال أسلم . والله تعالى أعلم .
{ فإِن فاءتْ } عن البغي ، وأقلعت عن القتال؛ { فأَصْلِحوا بينهما بالعدل } بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى ، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما؛ لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر ، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة ، وقد أكد ذلك بقوله : { وأَقْسِطوا } أي : واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون ، { إِنَّ الله يحب المُقْسِطِين } العادلين ، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء ، والقَسط بالفتح : الجَور ، وبالكسر : العدلُ ، والفعل من الأول : قَسط فهو قاسط : جارَ ، ومن الثاني : أقسط فهو مقسط : عَدل ، وهمزتُه للسلب ، أي : أزل القسط ، أي : الجور .
والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة ، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار ، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين ، فوقف صلى الله عليه وسلم على المجلس ، ووعظ وذكَّر ، فقال عبد الله بن أُبي : يا هذا ، لا تؤذنا في مجالسنا ، واجلس في موضعك ، فمَن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد الله بنُ رواحة : بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا ، فارتفعت أصواتهما ، وتضاربوا بالنعال ، فنزلت الآية ، وقيل غير ذلك .
(6/108)

وفي الآية دليل على أنَّ لا يخرج ببغيه عن الإيمان ، وأنه يجب نُصرة المظلوم ، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس .
{ إِنما المؤمنون إِخوةٌ } أي : منتسبون إلى أصل واحدٍ ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية ، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة . والفاء في قوله : { فأصْلِحوا بين أخوَيكم } للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح . ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه ، وتخصيص الاثنين بالذكر؛ لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه . وقيل : المراد بالأخَويْن : الأوس والخزرج . وقرأ يعقوب : " إخوتكم " بالجمع . { واتقوا الله } فيما تأتون وتذرون ، التي من جملتها : الإصلاحُ بين الناس { لعلكم تُرحمون } راجين أن تُرحموا على تقواكم ، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف ، وهو سبب نزول الرحمة .
الإشارة : النفسُ الطبيعية والروح متقابلان ، والحرب بينهما سِجال ، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها ، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار ، وبينما اتصال والتصاقٌ ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل ، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وإن غلبت الروح ، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين ، بعد تزكيتها وتصفيتها ، فتكسوها حُلةَ الروحانية ، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح ، ولكلٍّ جندٌ تقابل به ، فيقال من طريق الإشارة : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما ، بأن تؤخَذَ النفسُ بالسياسة شيئاً فشيئاً ، يُنقص من حظوظها شيئاً فشيئاً ، حتى تتزكى وتعالَجَ الروحُ لدخول الحضرة ، وعكوف الهم في الذكر شيئاً فشيئاً ، حتى تدخل الحضرة وهي لا تشعر ، ثم تشعُر ويقع الاستغراق . وأما إن قُطِعت النفسً عن جميع مألوفاتها مرةً واحدة ، أو كُلفت الروحَ الحضورَ في الذكر على الدوام مرةً واحدة ، أفسدتهما ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " ادخلوا في هذا الدين برفق ، فما شاد أحدكم الدين إلا غَلَبه " وقال أيضاً : " لا يكن أحدكم كالمُنْبتِّ ، لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " ؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي ، بأن تُردع النفس إن طغت ، وتأخذ لجام الروح إن هاجت ، حتى تفيء إلى أمر الله ، وهو الاعتدال ، فيعطي كلّ ذي حق حقه ، ويُوفي كل ذي قسط قسطه .
وقوله تعالى : { إِنما المؤمنون إخوة } قال الورتجبي : افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت ، وألبسها أنوارَ الجبروت؛ فمواردُها من قُربه مختلفة ، لكن عينها واحدة ، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها ، وزيّنها بنور قدرته ، ونفخ فيها تلك الأرواح ، وجعل من الأرواح والأجسام النفوس الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح ، ولا من قبيل الأجسام ، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها ، فأرسل الله عليها جندَ العقول ، يدفع شَرَّها ، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة؛ ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان ، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم؛ لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً .
(6/109)

ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة ، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله : { واتقوا الله لعلكم تُرحمون } فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد ، فإنهم كنفسٍ واحدة؛ لأن مصادرهم مصدر واحد ، وهو آدم ، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت ، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال . لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت ، والجسم إلى الجنة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كل شيء يرجع إلى أصل " ه . قلت : صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة ، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح ، وكل ذلك بعد الموت ، وأحسنُ العبارة أن يُقال : لأن مصادرَهم مصدر واحد ، وهو بحر الجبروت ، المتدفق بأنوار الملكوت ، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت .
ثم قال الورتجبي : قال أبو بكر النقاش : سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال : هو أنت في الحقيقة ، غير أنه غيرك في الهيكل . قلت : يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة ، وما افترقوا إلا في الهياكل ، فكلهم أخوة . وقال أبو عثمان الحيري : أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب ، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين ، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب . ه . وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذ . . . } [ الزخرف : 67 ] الآية .
وقال القشيري هنا : ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار ، بل تُبسط عذرَه أي : تذكر عذره قبل أن يعتذر ، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك ، وتتوب عليه إذا أذنب ، وتعوده إذا مرض ، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة ، كما أنشدوا :
إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم ... لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكَان
(6/110)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا يسخرْ قومٌ من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم } أي : عسى أن يكون المسخُورُ منهم خيراً عند الله تعالى من الساخرين؛ لأن الناس لا يَطَّلِعون إلا على الظواهر ، وهو تعليل للنهي ، والقوم خاص بالرجال؛ لأنهم القوّامون على النساء ، وهو في الأصل : جمع قائم ، كصوْم وزَوْر ، في جميع صائم وزائر ، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية؛ إذ لو كانت النساء داخلة في الرجال لم يقل : { ولا نساء من نساء } وحقق ذلك زهير في قوله :
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقومٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِساءُ؟
وأَمَّا قولهم في قوم فرعون ، وقوم عاد : هم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم شاملاً لهم ، ولكن قصد ذكر الذكور ، والإناث تبع لهم .
{ ولا } يسخر { نساءٌ } مؤمنات { من نساءٍ } منهن { عسى أن يَكُنَّ } أي : المسخور منهن { خيراً منهن } أي : الساخرات ، فإنّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يَظهرَ من الصور والأشكال ، والأوضاع والأطوار ، التي عليها يدور أمر السخرية ، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب ، من تحقيق الإيمان ، وكمال الإيقان ، وموارد العرفان ، وهي خَفيّة ، فقد يُصغّر العبدُ مَن عظَّم اللّهُ ، ويتحقرُ مَن وقّره الله ، فيسقطُ من عين الله ، فينبغي ألا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بأحدٍ إذا رآه رَثّ الحال ، أو ذا عاهة في بدنه ، ولو في دنيه ، فلعله يتوب ويُبتلى بما ابْتُلي به . وفي الحديث : " لا تُظْهِر الشماتَة لأخيك فيُعافِيه الله ويبتليكَ " وعن ابن مسعود رضي الله عنه : البلاء موكّل بالقول ، لو سخِرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحَوَّل كلباً . ه .
وتنكير القوم والنساء؛ إما لإرادة البعض ، أي : لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وإما لإرادة الشيوع ، وأن يصير كل جماعة منهم مَنهية عن السخرية ، وإنما لم يقل : رجلٌ من رجلٍ ، ولا امرأةٌ من امرأة؛ إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدٍ من نسائهم على السخرية ، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه .
{ ولا تَلْمِزُوا أنفسَكُم } ولا يعيب بعضكم بعضاً بالطعن في نسبه أو دينه ، واللمز : الطعن والضرب باللسان ، والمؤمنون كنفس واحدة ، فإذا عاب المؤمنُ فقد عاب نفسه . وقيل : معناه : لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرُّض للكلام؛ لأن مَن فعل ما استحق به اللمز فقد لمزَ نفسَه حقيقة . { ولا تَنابزوا بالألقاب } أي : لا يَدْعُ بعضكم بعضاً بلقب السوء ، فالتنابزُ بالألقاب : التداعي بها . والتلقيبُ المنهي عنه ما يُدخِل على المدعُوِّ به كراهيةً ، لكونه تقصيراً به وذمّاً له ، فأمَا ما يُحبه فلا بأس به ، وكذا ما يقع به التمييز ، كقول المحدِّثين : حدثنا الأعمش والأحدب والأعور .
رُوي أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخَبَّاب وعَمَّار وصُهيب ، فنزلت .
(6/111)

وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة ، وكانت قصيرة ، وعن أنس : عَيّرت نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر ، فنزلت . ورُوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، وكان به وَقْر - أي : صمم - فكانوا يوسِّعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى قوماً وهو يقول : تفسَّحوا ، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل : تنحّ؛ فلم يفعل ، فقال : مَن هذا؟ فقال : أنا فلان ابن فلانة - يريد أُمّاً كان يُعَير بها في الجاهلية ، فخجل الرجُل ، فنزلت ، فقال ثابت : والله لا أفخر على أحد بعد هذا أبداً .
وقال ابن زيد : معنى { ولا تَنابزوا بالألقاب } لا يقل أحد : يا يهودي ، بعد إسلامه ، ولا يا فاسق ، بعد توبته . { بئس الاسمُ الفسوقُ بعد الإيمان } يعني : أن اللقب بئس الاسمُ هو ، وهو ارتكابُ الفسق بعد الإيمان ، وهو استهجان للتنابز بالألقاب ، وارتكاب هذه الجريمة بعد الدخول في الإسلام ، أو : بئس قولُ الرجل لأخيه : يا فاسق ، بعد تبوته ، أو : يا يهودي ، بعد إيمانه ، أي : بئس الرمي بالفسوق بعد بالإيمان .
رُوي : أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حُيي ، أتت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يقُلن لي : يا يهودية بنتُ يهوديَّيْن ، فقال صلى الله عليه وسلم : " هلاّ قلت : إن أبي هارون ، وعمي موسى ، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم " ، أو يُراد بالاسم هنا : الذكر ، من قولهم : طار اسمه في الناس بالكرام أو اللؤم ، كأنه قيل : بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يُذكروا بالفسق .
وقوله : { بعد الإِيمان } استقباح للجميع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان ، كما تقول : بئس الشأن بعد الكبرة الصَّبْوة . { ومن لم يتبْ } عما نُهي عنه { فأولئك هم الظالمون } بوضع المخالفة موضع الطاعة ، فإن تاب واستغفر؛ خرج من الظلم .
وعن حذيفة رضي الله عنه : شَكَوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذَرَب لساني ، فقال : " أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة " ، والذَرَب - بفتح الذال والراء : الفحش ، وفي حديث ابن عمر : كنا نَعُدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة . " رب اغفر لي ، وتب عليّ ، إنك أنت التوّاب الرحيم " .
الإشارة : مذهب الصوفية التعظيم والإجلال لكل ما خلق الله ، كائناً مَن كان؛ لنفوذ بصيرتهم إلى شهودِ الصانع والمتجلِّي ، دون الوقوف مع حسن الصنعة الظاهرة ، وقالوا : " شروط التصوُّف أربعة : كف الأذى ، وحمل الجفا ، وشهود الصفا ، ورميُ الدنيا بالقفا " . فشهود الصفا يجري في الأشياء كلها ، فإياك يا أخي أن تَحقِر أحداً من خلق الله؛ فتُطرد عن بابه ، وأنت لا تشعر ، ولله در القائل :
(6/112)

للّهِ في الخلقِ أسرار وأنوارُ ... ويَصطفي اللّهُ مَن يَرضَى ويَخْتارُ
لاَ تَحْقِرنَّ فقيراً إن مررْت به ... فقد يكونُ له حظٌّ ومقْدارُ
والمرءُ بالنَّفْسِ لا بِاللَّبْس تَعْرِفُه ... قَد يَخْلقُ الْغِمْدُ والْهنْديُّ بتَّارُ
والتِّبْرُ في التَّربِ قد تَخْفى مَكانتُه ... حَتَّى يُخَلِّصُه بالسَّبْكِ مِسْبَارُ
ورُبَّ أشعثَ ذِي طِمرَيْنِ مجتهدٌ ... لَه على الله في الإقْسَامِ إبْرارُ
وعن أبي سعيد الخراز ، قال : دخلت المسجد الجامع ، فرأيت فقيراً عليه خرقتان ، فقلت في نفسي : هذا وأشباهه كَلٌّ على الناس ، فناداني ، وتلا : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } [ البقرة : 235 ] فاستغفرتُ الله في سري ، فناداني وقال : { وَهُوَ الَّذِى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] ثم غاب عني فلم أره . ه .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن المستهزئين بالناس يُفتح لأحدهم باب من الجنة ، فيُقال لأحدهم : هلم ، فيجيء بغمه وكربه ، فإذا جاء أُغلق دونه ، ثم يُفعل به هكذا مراراً ، من بابٍ إلى باب ، حتى يأتيه الإياس " بالمعنى من البدور السافرة .
(6/113)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا اجتنِبوا كثيراً من الظن } أي : كونوا في جانب منه ، يقال : جنَّبه الشرّ إذا أبعده عنه ، أي : جعله في جانب منه ، و " جنّب " يتعدى إلى مفعولين ، قال تعالى : { وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] ، ومطاوعُه ، اجتنب ، ينقص مفعولاً ، وإبهام " الكثير " لإيجاب التأمُّل في كل ظن ، حتى يعلم من أي قبيل هو ، فإنَّ مِن الظن ما يجب اتباعُه؛ كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات ، وحسن الظن بالله تعالى ، ومنه ما يُحرم ، وهو ما يُوجب نقصاً بالإلهيات والنبوات ، وحيث يخالفه قاطع ، وظن السوء بالمؤمنين ، ومنه ما يُباح ، كأمور المعاش .
{ إِنَّ بعض الظن إِثمٌ } تعليل للأمر بالاجتناب ، قال الزجاج : هو ظنّك بأهل الخير سوءاً ، فأما أهل الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر عليهم ، وقيل المعنى : اجتنبوا اجتناباً كثيراً من الظن ، وتحرّزوا منه ، إن بعض الظن إثم ، وأَوْلى كثيرُه ، والإثم : الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث " ، فالواجب ألاَّ يعتمد على مجرد الظن ، فيعمل به ، أو يتكلم بحسبه .
قال ابن عطية : وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن ، ويجتنبون ذرائعه . قال النووي : واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول ، فكما يحرم أن تحدّث غيرَك بمساوئ إنسان؛ يحرم أن تُحدِّث نفسك بذلك ، وتسيء الظن به ، والمراد : عقدُ القلب وحكمُه على غيره بالسوء ، فأما الخواطرُ ، وحديثُ النفس ، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه ، فمعفوٌّ عنه باتفاق؛ لأنه لا اختيارَ له في وقوعه ، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه . ه . وقال في التمهيد : وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " حرّم الله من المؤمن : دمَه ومالَه وعِرضَه ، وألا يُظنَّ به إلا الخير " ه . ونقل أيضاً أن عُمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكر عنده رجل بفضل أو صلاح ، قال : كيف هو إذا ذُكر عنده إخوانُه؟ فإن قالوا : ينتقص منهم ، وينال منهم ، قال عمر : ليس هو كما تقولون ، وإن قالوا : إنه يذكُرُ منهم جميلاً ، ويُحسن الثناء عيلهم ، قال : هو كما تقولون إن شاء الله . ه . وفي الحديث أيضاً : " خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير ، حُسْن الظنِّ بالله ، وحُسْن الظن بعباد الله ، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر : سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله " .
{ ولا تجسَّسُوا } لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم ، يقال : تجسّس الأمر : إذا تطلّبه وبحث عنه ، تَفعلٌ من : الجسّ . وعن مجاهد : خُذوا ما ظهر ودَعوا ما ستر الله . وقال سهل : لا تبحثوا عن طلب ما ستر الله على عباده ، وفي الحديث :
(6/114)

" لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإنَّ مَن تتبَّع عورات المسلمين تتبَّع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته " .
قال ابن عرفة : مَن هو مستور الحال فلا يحلّ التجسُّس عليه ، ومَن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسُّس عليه مطلوب أو واجب . ه . قلت : معناه : التجسُّس عليه بالشم ونحوه؛ ليُقام عليه الحد ، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه ، فإنه منهي عنه ، وأمَّا فعل عمر رضي الله عنه فحالٌ غالبة ، يقتصر عليها في محلها ، وانظر الثعلبي ، فقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه فعل من ذلك أموراً ، ومجملها ما ذكرنا .
وقرئ بالحاء ، من " الحس " الذي هو أثر الجس وغايته ، وقيل : التجسُّس - بالجيم - يكون بالسؤال ، وبالحاء يكون بالاطلاع والنظر ، وفي الإحياء : التجسُّس - أي : بالجيم - في تطلُّع الأخبار ، والتحسُّس بالمراقبة بالعين . ه . وقال بعضهم : التجسُّس - بالجيم - في الشر ، وبالحاء في الخير ، وقد يتداخلان .
والحاصل : أنه يجب ترك البحث عن أخبار الناس ، والتماس المعاذر ، حتى يُحسن الظن بالجميع ، فإنَّ التجسُّس هو السبب في الوقوع في الغيبة ، ولذلك قدّمه الحق - تغالى - عن النهي عن الغيبة ، حيث قال : { ولا يغتب بعضُكم بعضاً } أي : لا يذكر بعضُكم بعضاً بسوء . فالغيبة : الذكرُ بالعيب في ظهر الغيب ، من الاغتياب ، كالغِيْلَةِ من الاغتيال . وسئل صلى الله عليه وسلم عن الغيبة ، فقال : " ذِكْرُك أخاك بما يكره ، فإن كان فيه فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه " .
وعن معاذ : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذَكَر القومُ رجلاً : فقالوا : لا يأكل إلا إذا أُطعم ، ولا يرحل إلا إذا رُحِّل ، فما أضعفه! فقال عليه السلام : " اغتبتم أخاكم " ، فقالوا : يا رسول الله ، أوَ غيبة أن يُحدَّث بما فيه؟ قال : " فَحَسْبُكم غيبةً أن تُحدِّثوا عن أخيكم بما فيه " قال أبو هريرة : قام رجل من عند النبي صلى الله عليه وسلم فرأَوْا في قيامه عَجْزاً ، فقالوا : يا رسول الله ، ما أعجز فلاناً! فقال عليه السلام : " أَكَلْتُم لحْمَ أخيكم واغتبتموه " .
قال النووي : الغيبة : كلّ ما أفهمت به غيرَك نقصان مسلم عاقل ، وهو حرام . ه . قوله : ما أفهمت . . . الخ ، يتناول اللفظ الصريح والكناية والرمزَ والتعريضَ والإشارة بالعين والرأس ، والتحكية بأن يفعل مثلَه ، كالتعارج ، أو يحكي كلامَه على هيئته ليُضحك غيره ، فهذا كله حرام ، إن فهَم المخاطَب تعيين الشخص المغتاب ، وإلا فلا بأس ، والله تعالى أعلم . ولا فرق بين غيبة الحي والميت ، لما ورد : " مَن شتمَ ميتاً أو اغتابه فكأنما شتم ألف نبي ، ومَن اغتابه فكأنما اغتاب ألفَ ملَك ، وأحبط الله له عمل سبعين سنة ، ووضع على قدمه سبعين كيةً من نار " .
(6/115)

والسامع للغيبة كالمغتاب ، إلاَّ أن يُغَير أو يقوم ، وورد عن الشيخ أبي المواهب التونسي الشاذلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " فإن كان ولا بد من سماعك غيبة الناس - أي : وقع منك - فاقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين ، واهدِ ثوابها للمغتاب؛ فإن الله يُرضيه عنك بذلك " ه .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : الغيبة إدامُ كلابِ الناس . ه . وتشبيههم بالكلاب في التمزيق والتخريق ، فهم يُمزقون أعراض الناس ، كالكلاب على الجيفة ، لا يطيب لهم مجلسٌ إلا بذكر عيوب الناس . وفي الحديث : " رأيت ليلة أُسري بي رجالاً لهم أظفار من نحاس ، يَخْمشُون وجوههم ولحومَهم ، فقلت : مَن هؤلاء يا جبريل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " .
{ أيُحب أحدُكم أن يأكلَ لَحْمَ أخيه مَيْتاً } هذا تمثيل وتصوير لما ينالُه المغتاب من عِرضِ المغتابِ على أفحش وجه . وفيه مبالغات ، منها : الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها : فعلُ ما هو الغاية في الكراهية موصولاً بالمحبة ، ومنها : إسناد الفعل إلى { أحدكم } إشعاراً بأنَّ أحداً مِن الأحدين لا يُحبُّ ذلك ، ومنها : أنها لم يَقْتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم مطلق الإنسان ، بجعله أخاً للآكل ، ومنها : أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخر حتى جعله ميتاً . وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مُدَوّدة أن تأكل منها : كذلك فاكْرَه لحم أخيك . ه .
ولمَّا قررهم بأن أحداً منهم لا يُحب أكل جيفة أخيه عقَّب ذلك بقوله : { فكَرِهْتُموه } أي : وحيث كان الأمر كما ذُكر فقد كرهتموه ، فكما تحققت كراهتُكم له باستقامة العقل فاكْرَهوا ما هو نظيره باستقامة الدين .
{ واتقوا الله } في ترك ما أمِرتم باجتنابه ، والندم على ما صدَر منكم منه ، فإنكم إن اتقتيم وتُبتم تقبَّل الله توبتكم ، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين ، { إِنَّ الله توّاب رحيم } مبالغ في قبول التوبة ، وإفاضة الرحمة ، حيث جعل التائب كمَن لا ذنب له ، ولم يخص تائباً دون تائب ، بل يعم الجميع ، وإن كثرت ذنوبه .
رُوي أنَّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ، ويُصلح طعامَهما ، فنام عن شأنه يوماً ، فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما عندي شيء " فأخبرهما سلمان ، فقالا : لو بعثناه إلى بئر سَميحةٍ لَغار مَاؤُها . فلما جاءا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : " مَا لي أَرى حُمرَةَ اللَّحم في أَفْواهِكُما؟ " فقالا : ما تناولنا لَحْماً ، فقال : " إنكما قد اغْتَبتُما ، مَن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه " ، ثم قرأ الآية .
وقيل : غيبة الخلق إنما تكون بالغيبة عن الحق . ه . قاله النسفي . قال بعضهم والغيبة صاعقة الدين فمَن أراد أن يُفرّق حسناته يميناً وشمالاً؛ فليغتب الناس . وقيل : مثلُ صاحب الغيبة مثل مَن نصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته يميناً وشمالاً ، شرقاً وغرباً .
(6/116)

ه . والأحاديث والحكايات في ذم الغيبة كثيرة ، نجانا الله منها بحفظه ورعايته . وهل هي من الكبائر أو من الصغائر؟ خلاف ، رجّح بعَضٌ أنها من الصغائر؛ لعموم البلوى بها ، قال بعضهم : هي فاكهةُ القراء ، ومراتعُ النساء ، وبساتينُ الملوك ، ومَزبلةُ المتقين ، وإدام كلام الناس . ه .
الإشارة : مَن نظر الناسَ بعين الجمع عذَرهم فيما يصدرُ منهم ، وحسَّن الظنَّ فيما لم يصدر منهم ، وعظَّم الجميع ، ومَن نظرهم بعين الفرق طال خصمه معهم فيما فَعلوا ، وساء ظنُّه بهم فيما لم يفعلوا ، وصغَّرهم حيث لم يرَ منهم ما لا يُعجبه ، فالسلامةُ : النظر إليهم بعين الجمع ، وإقامةُ الحقوق عليهم في مقام الفرق ، قياماً بالحكمة في عين القدرة . وفي الحديث : " ثلاثة دبّت لهذه الأمة : الظن ، والطيرة ، والحسد ، قيل : فما النجاة؟ قال : " إذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ " أو كما قال عليه السلام . قال القشيري : النفسُ لا تُصدَّق ، والقلب لا يُكذَّب ، والتمييزُ بينهما مُشْكِلٌ ، ومَن بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيةٌ - وإن قلّت - فليس له أن يَدَّعي بيانَ القلب - أي : استفتاءه - بل يتهمَ نفسه ما دام عليه شيء من نفسه ، ويجب أن يتهم نَفْسَه في كل ما يقع له من نقصان غيره ، هذا أمير المؤمنين عمرُ قال وهو يخطب الناس : " كُلّ الناسِ أفقه من عمر حتى النساء " . ه .
قوله تعالى : { ولا تجسسوا . . . } الخ ، التجسُّس عن أخبار الناس من علامة الإفلاس ، قال القشيري : العارف لا يتفرّغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخلق ، فكيف يتفرّغ إلى التجسُّس عن أحوالهم؟! لأن مَن اشتغل بنفسه لا يتفرَغ إلى الخلق ، ومَن اشتغل بالحق لا يتفرّغ لنفسه ، فكيف إلى غيره؟! ه .
قوله تعالى : { ولا يغتب بعضُكم بعضاً } ليست الغيبة خاصة باللسان في حق الخاصة ، بل تكون أيضاً بالقلب ، وحديث النفس ، فيُعاتبون عليها كما تُعاتَب العامةُ على غيبة اللسان ، وتذكّر قضية الجنيد مع الفقير الذي رآه يسأل ، وهي مشهورة ، وتقدّمت حكاية أبي سعيد الخراز ، ونقل الكواشي عن أبي عثمان : أنَّ مَن وجد في قلبه غيبةً لأخيه ، ولم يعمل في صرف ذلك عن قلبه بالدعاء له خاصة ، والتضرُّع إلى الله بأن يُخلِّصَه منه؛ أخاف أن يبتليه الله في نفسه بتلك المعايب . ه . قال القشيري : وعزيزٌ رؤيةُ مَن لا يغتاب أحداً بين يديك . ه . وقد أبيحت الغيبة في أمور معلومة ، منها : التحرُّز منه لئلا يقع الاغترار بكلامه أو صحبته ، والترك أسلم وأنجى .
(6/117)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم من ذَكَرٍ وأُنثى } آدم وحوّاء ، أو : كل واحد منكم من أبٍ وأم ، فما منكم من أحد إلا وهو يُدلي بما يُدلي به الآخر ، سواء بسواء ، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب . وفي الحديث : " لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى " وقال أيضاً : " ثلاثة من أمر الجاهلية : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والدعاء بدعاء الجاهلية " أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
{ وجعلناكم شعوباً وقبائلَ } الشعوب : رؤوس القبائل ، مثل ربيعة ومضر ، والأوس والخزرج ، واحدها : شَعب - بفتح الشين - سُمُّوا بذلك لتشعُّبهم كتشعُّب أغصان الشجرة ، والقبائل : دون الشعوب ، واحدها : قبيلة ، كبَكر من ربيعة ، وتميم من مضر . ودون القبائل : العمائر ، جمع عَمارة بفتح العين ، وهم كشيبان من بكر ، ودارم من تميم ، ودون العمائر : البطون ، واحدها : بطن ، وهي كبني غالب ولؤي من قريش ، ودون البطون : الأفخاذ ، واحدها : فَخْذ ، كهاشم وأمية من بني لؤي ، ثم الفصائل والعشائر ، واحدها : فصيلة وعشيرة ، فالشعب تجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعَمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل . وقيل : الشعوب من العجم ، والقبائل من العرب ، والأسباط من بني إسرائيل . { لِتَعارفوا } أي : إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضُكم نسبَ بعض ، فلا يتعدّى إلى غير آبائه ، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب .
ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان ، ويكتسب الشرفَ والكرمَ عند الله ، فقال : { إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم } أي : لا أنسبكم ، فإنَّ مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى ، فمَن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَن سَرّه أن يكون أكرم الناس فليتقِ الله " ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة ، ثم حمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : " الحمد لله الذي أذهب عُبِّيَّةَ الجاهلية وتكبُّرها؛ يا أيها الناس؛ إنما الناس رجلان : رجل مؤمن تَقيّ كريمٌ على الله ، ورجل فاجر شقي هَيِّن على الله " ثم قرأ الآية .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : كرم الدنيا الغنى ، وكرم الآخرة التقى . وقال قتادة : أكرم الكرم التقى ، والأمُ اللؤم الفجور ، وسُئل عليه السلام عن خير الناس؟ فقال : " آمرُكم بالمعروف ، وأنهاكم عن المنكر ، وأوصلكم للرحم " وقال عمر رضي الله عنه : " كرم الرجل : دينه وتقواه ، وأصله : عقله ، ومروءته : خُلقه ، وحَسَبُه : ماله " .
وعن يزيد بن شَجَرَةَ : مرّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة ، فرأى غلاماً أسود ، قائماً يُنادَى عليه؛ مَن يزيد في ثمنه ، وكان الغلام يقول : مَن اشتراني فعلى شرط ألاَّ يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتراه بعضهم ، فعادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تُوفي ، فتولى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غُسله وتكفينَه ودفنَه ، فقالت المهاجرون : هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا ، فما نرى أحداً منا لقي في حياته ولا موته ما لقي هذا الغلام ، وقالت الأنصار : آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا ، فآثر علينا عبداً حبشيّاً ، فنزلت .
(6/118)

وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الله لا ينظر إلى صُوركم ، ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ، وإنما أنتم بنو آدم ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وأنتم تقولون : فلان ابن فلان ، وأنا اليوم أرفَع نسبي وأضع أنسابكم ، أين المتقون " وقيل : يا رسول الله ، مَن أكرمُ الناس؟ قال : " أتقاهم " ه . وأنشدوا :
مَا يَصْنع الْعَبدُ بعِزّ الْغِنَى ... وَالْعِزُّ كُلُّ العزِّ للمُتَّقِي
مَنْ عرف الله فلم تُغنِه ... مَعرفةُ الله فذاك الشَّقِي
{ إِنّ الله عليمٌ خبير } عليم بكرم القلوب وتقواها ، خيبر بهمم النفوس في هواها .
الإشارة : كان سيدنا عليّ رضي الله عنه يقول : " ما لابن آدم والفخر ، أوله نُطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وفيما بينهما يحمل العذرة " وكان يُنشد :
الناسُ من جِهة التمثيل أَكْفاءُ ... أَبوهم آدمٌ والأم حوّاءٌ
ومَن يَرْمِ منهُم فَخْراً بذي نَسب ... فإن أصْلَهُم الطِّينُ والماءُ
مَا الفخرُ إلا لأهل العِلم إِنَّهمُ ... علَى الهدى لَمن اهتدى أدلاَّءُ
وقَدْرُ كل امرِىءٍ ما كان يُتقنُه ... وَالجاهلون لأهل العلم أعداءُ
وقوله : ما لفخر إلا لأهل العلم . . . الخ ، يعني : لو كان الفخر مباحاً ما أُبيح إلاّ لهم ، وإلا فهم أولى بالتواضع ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قال : " مَن تواضع دون قدرِه رفعه الله فوق قدره " فما رفع اللّهُ قدر العلماء إلا بتواضعهم حتى ينالهم الشريفُ والوضيع ، الصغيرُ والكبير ، والقوي والضعيف ، فمَن لم يكن هكذا فليس بعالِم؛ لنّ الخشية تحمل على التواضع ، ومَن لم يخشَ فليس لعالم حقيقة . قال تعالى : { إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم } اعلم أنَّ نصيب كل عبد من الله تعالى على قدر تقواه ، وتقواه على قدر توجهه إلى الله ، وتوجهه على قدر تفرُّغه من الشواغل ، وتفرُّغه على قدر زهده ، وزهده ، على قدر محبته ، ومحبته على قدر علمه بالله ، وعلمه على قدر يقينه ، ويقينه على قدر كشف الحجاب عنه ، وكشف الحجاب على قدر جذب العناية ، وجذب العناية على قدر السابقة ، وهي سر القدر الذي لم يُكشف في هذه الدار . وسقوط العبد من عين الله على قدر قلة تقواه ، وقلة تقواه على قدر ضعف توجهه ، وضعف توجهه على قدر تشعُّب همومه ، وتشعُّب همومه على قدر حرصه ورغبته في الدنيا ، ورغبته في الدنيا على قدر ضعف محبته في الله ، وضعف محبته على قدر جهله به ، وجهله على قدر ضعف يقينه ، وضعف اليقين من كثافة الحجاب ، وكثافة الحجاب من عدم جذب العناية ، وعدم جذب العناية من علامة الخذلان السابق ، الذي هو سر القدر . والله تعالى أعلم .
(6/119)

قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15)
يقول الحق جلّ جلاله : { قالت الأعرابُ } أي : بعض الأعراب { آمنّا } نزلت في نفر من بني أسد ، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة ، فأَظْهَروا الإسلام ، ولم يُؤمنوا في السر ، وأفْسَدوا طُرق المدينة بالعذَرَات ، وأغْلَوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ، ولم نُقاتلك كما قتلك بنو فلان ، وهم يريدون الصدقة ، ويقولون : أعطنا ، ويمنّون بإسلامهم .
{ قل } لهم : { لم تؤمنوا } لم تُصدّقوا بقلوبكم { ولكن قولوا أسْلَمنا } فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به ، والإسلام هو الدخول في السِّلْم ، والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين؛ ألا ترى إلى قوله : { ولمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قلوبكم } فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان ، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان ، وهذا من حيث اللغة ، وأما في الشرع فهما متلازمان ، فلا إسلام إلا بعد إيمان ، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر .
والتعبير ب " لمّا " يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع . فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا ، أو : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً ، فقيل : قل لم تؤمنوا ، مع حسن أدب ، فلم يقل : كذبتم صريحاً ، ووضع " لم تؤمنوا " الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه ، واستغنى بقوله : { لم تؤمنوا } عن أن يقال : لا تقولوا آمنا؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان ، ولم يقل : ولكن أسلمتم؛ ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم : " آمنا " كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم؛ لكان كالتسليم ، والاعتداد بقولهم ، وهو غير معتدّ به .
وليس قوله : { ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم } تكريراً لمعنى قوله : { لم تؤمنوا } فإنّ فائدة قوله : { لم تؤمنوا } تكذيب دعواهم ، وقوله : { ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم } توقيت لما أُمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم : ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في " قولوا " . قاله النسفي .
{ وإِن تُطيعوا اللّهَ ورسولَه } بالإخلاص وترك النفاق { لا يَلِتْكُم من أعمالكم شيئاً } من أجورها . يقال : ألَت يألِتُ ، وألات يُليت ، ولات يلِيت ، بمعنى ، وهو النقص ، { إِنَّ اللّهَ غفور } لما فرط من الذنوب ، { رحيمٌ } يستر العيوب .
{ إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسولِه ثم لم يرتابوا } لم يَشُكُّوا ، من : ارتاب ، مضارع رابه : إذا أوقعه في الشك والتُهمة ، والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في إيمانهم شك فيما آمنوا ، ولا اتهام لمَن صدّقوه ، ولمَا كان الإيقان وزوال الريب ملاك الإيمان أُفرد بالذكر بعد تقدُّم الإيمان ، تنبيهاً على عُلو مكانه ، وعُطف على الإيمان بثمّ؛ إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّاً جديداً .
(6/120)

{ وجاهدوا بأموالهم وأنفسِهم في سبيل الله } أي : جاهَدوا ما ينبغي جهاده في الكفار والأنفس والهوى ، بالإعانة بأموالهم ، والمباشرة بأنفسهم في طلب رضى الله : { أولئك هم الصادقون } أي : الذي صدقوا في قلوبهم : آمنا ، لم يُكذِّبوا كما كذَّب أعرابُ بني أسد؛ بل إيمانهم إيمان صِدق وحق . والله تعالى أعلم .
الإشارة : مذهب الصوفية : أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام ، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان ، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان ، وقد جعل الساحلي مقامَ الإسلام مُركّباً من ثلاثة : التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمانَ مُركباً من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسانَ مُركّباً من المراقبة والمشاهدة والمعرفة ، ولكلٍّ زمان ورجال تربية واصطلاح في السير ، والمقصد واحد ، وهو المعرفة العيانية .
قال القشيري : الإيمان هو حياة القلوب ، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذَبْح النفوس ، ولنفوس لا تموت ولكنها تغيب . ه . أي : المقصود بقتل النفوس : هو الغيبة عنها في نور التجلِّي ، فإذا وقع الفناء في شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة . وقال القشيري في مختصره : { قالت الأعراب آمنّا . . . } الخ ، يُشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان ، بل هو نور يدخل القلوب ، إذا شرح الله صدر العبد للإسلام؛ كما قال تعالى : { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] ، وقال عليه السلام في صفة ذلك النور : " إنّ النور إذا وقع في القلب انفسح له واتسع " ، قالوا : يا رسول الله؛ هل لذلك النور من علامة؟ قال : " بلى؛ التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت . قبل نزوله " لهذا قال تعالى { ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم } أي : نور الإيمان . ه .
{ وإن تطيعوا الله ورسوله } في الأوامر والنواهي بعد ذبح النفوس بسيف الصدق { لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً } بل كل ما تتقربون به إلى الله من مجاهدة النفوس ترون جزاءه عاجلاً ، من كشف غطاء وحلاوة شهود ، إن الله غفور لمَن وقع له فتور ، رحيم بمَن وقع منه نهوض ، { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله } وشاهَدوا أنواره وأسراره ، { ورسولِهِ } حيث عرفوا حقيقته النورانية الأولية ، { ثم لم يرتابوا } لم يخطر على بالهم خواطر سوء ، ولا شكوك فيما وعد الله من الرزق وغيره؛ لأنَّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم ، فصار الغيب شهادة ، والخبر عياناً ، والتعبير ب " ثم " يقتضي تأخُّر تربية اليقين شيئاً فشيئاً حتى يحصل التمكين في مقامات اليقين ، مع التمكين في مقام الشهود والعيان .
ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله : { وجاهَدوا بأموالهم } حيث بذلوها لله { وأنفسِهم } حيث جاهدوها في طلب الله { أولئك هم الصادقون } في طلب الحق ، فظفروا بما أمّلوا ، وربحوا فيما به تجروا . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
(6/121)

قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
يقول الحق جلّ جلاله : { قل أتُعَلِّمون اللّهَ بدينِكم } أي : أتُخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ رُوي أنه لمّا نزل قوله : { قل لم تؤمنوا } جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم الله بقوله : { قل أتُعلمون . . } الخ . والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم ، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل . قال الهروي : و " علَّمت " و " أعلمت " في اللغة بمعنى واحد ، وفي القاموس : وعلّمه العلم تعليماً ، وأعلمه إياه فتعلّمه . ه . { واللّهُ يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض } فلا يحتاج إلى إعلام أحد ، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم ، { واللّهُ بكل شيءٍ عليمٌ } أي : مبالغ في العلم بجميع الأشياء ، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند أظهارهم الإيمان .
{ يمنُّون عليك أنْ أسْلَموا } أي : يعدون إسلامهم مِنّة عليك ، ف " أن " نصب على نزع الخافض ، والمَنُّ : ذكر النعمة في وجه الافتخار . وقال النسفي : هو ذكر الأيادي تعريضاً للشكر ، ونهينا عنه . ه . فانظره . { قل لا تمنُّوا عليَّ إِسلامَكم } أي : لا تعدوا إسلامكم منةً عليَّ ، فإنّ نفعَه قاصرٌ عليكم إن صح ، { بل الله يَمُنُّ عليكم } أي : المنة إنما هي لله عليكم { أنْ هداكم للإِيمان } أي : لأن هداكم ، أو : بأن هداكم للإيمان على زعمكم { إِن كنتم صادقين } في ادّعاء الإيمان ، إلاَّ أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه . وجواب الشرط محذوف؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي : إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فللّه المنّة عليكم .
وفي سياق النظم الكريم من اللُطف ما لا يخفى؛ فإنهم لمّا سَموا ما في صدورهم إيماناً ، ومَنُّوا به ، نفى تعالى كونه إيماناً ، وسمّاه إسلاماً ، كأنه قيل : يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام وليس بإيمان ، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم .
{ إِنَّ اللّهَ يعلمُ غيبَ السماوات والأرض } أي : ما غاب فيهما ، { والله بصير بما تعملون } في سِركم وعلانيتكم ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم ، يعني : الله تعالى يعلم كل مستتر في العالَم ، ويُبصر كل عمل تعملونه في سِركم وعلانتيكم ، لا يخفى عليه منه شيء ، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم . قال الورتجبي : ليس لله غيب ، إذ الغيب شيء مستور ، وجميع الغيوب عِيان لله تعالى ، وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يُبصرُ ببصره القديم ما كان وما لم يكن ، وهناك العلم والبصر واحد . ه . قوله : " العلم والبصر واحداً " هذا على مذهب الصوفية في أن بصره يتعلق بالمعدوم ، كما يتعلق به العلم ، ومذهب علماء الكلام : أن متعلق البصر خاص بالموجودات ، فمتعلق العلم أوسع . وانظر حاشية الفاسي على الصغرى .
الإشارة : كل مَن تمنى أن يعلم الناسُ ما عنده من العلم والسر؛ يُقال له : أتُعلِّمون الله بدينكم ، والله يعلم ما في سموات القلوب والأرواح من السر واليقين ، وما في أرض النفوس من عدم القناعة بعلم الله ، والله بكل شيء عليم .
(6/122)

وفي الحكم : " استشرافك أن يعلم الناس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك " . وكل مَن غلب عليه الجهل حتى مَنَّ على شيخِه بصُحبته له ، أو بما أعطاه ، يقال في حقه : { يمنون عليك أن أسلموا . . . } الآية . وقوله تعالى : { والله بصير بما تعملون } قال القشيري : فمَن لاحَظَ شيئاً من أعماله وأحواله؛ فإن رآها من نفسه كان شِركاً ، وإن رآها لنفسه كان مكراً ، وإن رآها من ربه بربه كان توحيداً . وفقنا الله لذلك بمنِّه وجوده . ه .
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً .
(6/123)

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
يقول الحق جلّ جلاله : { ق } أيها القريب المقرب من حضرتنا { و } حق { القرآنِ المجيد } إنك لرسول مجيد ، أو : { ق } أي : وحق القَويّ القريب ، والقادر القاهر . وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض من زمُردة خضراء ، وعليه طغى الماء ، وخُضرة السماء منه ، والسماء مقبّبة عليه ، وما أصاب الناس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل . ورُوي أن ذا القرنين وصل إليه ، فخاطبه ، وقال : يا قاف أخبرني بشيء من عظمة الله ، قال : إن شأن ربنا لَعظيم ، وإن ورائي أرضاً ميسرة خمسمائة عام ، في عرض خمسمائة عام ، من ثلج يحطم بعضه بعضاً ، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم . ه .
{ والقرآنِ المجيد } أي : ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، أو : لأنه كلام مجيد ، مَن علم معانيه وعمل بما فيه مَجُد عند الله وعند الناس . وجواب القسم محذوف ، أي : إنك لرسول نذير ، أوك لتُبعثن ، بدليل قوله : { أئذا متنا . . . } الخ ، أو : إنا أنزلناه إليك لِتُنذر به فلم يؤمنوا ، { بل عَجِبوا أن جاءهم } أي : لأن جاءهم { مُنذر منهم } من جنسهم ، لا من جنس الملائكة ، أو : من جلدتهم ، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب ، وهو أن يُخوفهم من غضب الله رجلٌ منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومَن كان كذلك لم يكن إلا ناصحاً لقومه ، خائفاً أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفاً أظلهم لزمه أن ينذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف؟ أو إنكار لتعجُّبهم مما أنذرَهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء ، وإلا كان إنشاء الخلق عبثاً ، ثم بيَّن تعجُّبهم بقوله : { فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ } أي : هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شيءٌ عجيب ، أو : كون محمد منذراً بالقرآن شيءٌ يُتعجب منه . ووضع " الكافرون " موضع الضمير للدلالة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمون على كفر عظيم .
ثم قالوا : { أئِذا متنا وكنا تُراباً } أي : أنُبعث حين نموت ونصير تراباً كما يقوله هذا النذير؟ { ذلك رجع بعيد } أي : ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعَد ، منكَر ، بعيد من الوهم والعادة . فالعامل في " إذا " محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا . قال تعالى : { قد عَلِما ما تنقصُ الأرضُ منهم } وهو ردّ لاستبعادهم؛ فإنَّ مَن عمّ علمه ولطفه حتى ينتهي إلى حيث علم ما تنقص الأرضُ من أجساد الموتى ، وتأكل من لحومهم وعظمهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كلُّ ابن آدم يأكله التراب إلا عَجْبُ الذَّنَب ، ومنه خُلق ، وفيه يُرَكَّب "
(6/124)

وهو العُصْعص ، وقال في المصباح : العَجْب - كفلْس - من كل دابة : ما انضم عليه الورِك من أصل الذَّنَب . ه . وهو عَظم صغير قدر الحمصة ، لا تأكله الأرض ، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء . قال ابن عطية : حفظ ما تنقص الأرض إنما هو لِيعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو الحق . وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه ، هذا عندي خلاف ظاهر كتاب الله ، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدي ولأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضي أن أسجاد الدنيا هي التي تعود . ه .
{ وعندنا كتابٌ حفيظ } لتفاصيل الأشياء ، أو : محفوظ من التغيير ، وهو اللوح المحفوظ ، أو : حافظاً لما أودعه وكتب فيه ، أو : يريد علمه تعالى ، فيكون تمثيلاً لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزيئاتها ، بعلم مَنْ عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء .
{ بل كذّبوا بالحق } إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة ، وتكذيب البعث ، إلى ما أشنع منه وأفظع ، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة ، { لَمَّا جاءهم } من غير تأمُّل وتفكُّر ، وقيل : الحق : القرآن ، أو : الإخبار بالبعث ، { فهم في أمر مَرِيج } مضطرب ، لا قرار له ، يقال : مرج الخاتم في أصبعه إذا اضطرب من سعته ، فيقولون تارة : مجنون ، وطوراً : ساحر ، ومرة : كاهن ، ولا يثبتون على قول . أو : مختلط ، يقال : مرج أمر الناس : اختلط . أو : ملبِس ، قال قتادة : مَن ترك الحق مرج عليه أمره ، وألبس عليه دينه .
{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } بحيث يشاهدونها كل وقت { كيف بَنيناها } رفعناها بغير عمد { وزيّناها } بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب ، { وما لها من فُروج } من فنوق لمَلاستها وسلامتها من كل عيبٍ وخلل ، { والأرضَ مددناها } بسطناها { وألقينا فيها رواسيَ } جبالاً ثوابت ، من : رسى الشيء : ثبت ، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرسال ، { وأنبتنا فيها من كل زوج } صنف { بهيج } حسن . { تبصرةً وذِكرَى } علتان للأفعال المذكورة ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصُّراً وتذكيراً { لكل عبدٍ مُنيبٍ } أي : راجع إلى ربه ، متفكر في بدائع صنائعه .
{ ونزَّلنا من السماء ماءً مباركاً } كثير المنافع { فأنبتنا به جناتٍ } بساتين كثيرة { وحبَّ الحصيد } أي : حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البُرِّ والشعير وأمثالهما ، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات؛ إذ به جل القوام .
{ والنَّخْلُ باسقاتٍ } طوالاً في السماء ، أو : حوامل ، من : بسَقت الشاة : إذا حملت . وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في " جنات " لبيان فضلها على سائر الأشجار ، { لها طَلع نَضِيدٌ } منضود ، بعضه فوق بعض ، والمراد : تراكم الطلع ، أو : كثرة ما فيه من الثمر ، { رزقاً للعباد } أي : لرزق أشباحهم ، كما أن قوله : { تبصرة وذكرى } لرزق أرواحهم . وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكُّر والتبصُّر الذي هو رزق الروح أهم وأقدم من تمتُّعه من حيث الرزق الحسي ، { وأحيينا به } بذلك الماء { بلدةً ميتاً } أرضاً جدبة ، لا نماء فيها أصلاً ، فلما أنزلنا عليه الماء رب واهتزت بالنبات والأزهار ، بعدما كانت جامدة .
(6/125)

وضمَّن البلدة معنى البلد فذَكَّر الوصف . { كذلك الخروجُ } من القبور ، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تُخرجون أحياء بعد موتكم ، لأن إحياء الموت كإحياء الأموات . وقدّم الخبر للقصد إلى القصر . والإشارة في " كذلك " إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار ببُعد رتبها ، أي : مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور ، لا شيء مخالف لها . وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء ، وعن حياة الأموات بالخروج؛ تفخيم لشأن النبات ، وتهوين لأمر البعث ، وتحقيق للمماثلة؛ لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه إلى أفهام الناس .
الإشارة : { ق } أيها القريب المقرَّب ، وحق القرآن المجيد ، إنك لحبيب مجيد ، رسول من عند الله الملك المجيد ، وإن كنت بشراً فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر ، فالبشرية لا تُنافي الخصوصية ، بل تجامعها مِنَّةً منه تعالى وفضلاً ، على مَن شاء من عباده ، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشراً من طين ، وذلك قياس فاسد ، مضاد للنص ، وكما استَبعدت الكفرة وجود خصوصية النبوة في البشر ، استبعدت الجهلُ خصوصية التربية بالإصطلاح في البشر ، بل عجِبوا أن جاءهم منذر منهم ، يدل على الله ، ويُبين الطريق إليه ، قالوا : هذا شيء عجيب : { أئذا متنا } بأن ماتت قلوبنا بالغفلة ، { وكنا تراباً } أرضيين بشريين ، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد .
قال تعالى : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أرض النفوس من أرواحهم ، وتهوي بها إلى الحضيض الأسفل ، فيجذبها إلى أعلى عليين ، إن سبقت عنايتنا ، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات ، فيلتحق كل واحد بما سبق له . بل كذّبوا بالحق ، وهو الداعي إلى الحق ، لمّا جاءهم في كل زمان ، فهم في أمر مريج ، تارة يُقرون وجود التربية بالهمّة والحال ، وينكرون الاصطلاح ، وتارة يُقرون بالجميع ، وينكرون تعيينه ، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح ، كيف بنيناها ، أي : رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف ، وزيَّنَّاها بأنوار الإيمان والإحسان ، وليس فيها خلل ، وأرض النفوس مددناها : جعلناها بساطاً للعبودية ، وألقينا فيها رواسي أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة ، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان ، وأنبتنا فيها من كل صنف بهيج ، من فنون علم الحكمة والتشريع ، تبصرةً وتذكيراً لكل عبدٍ منيبٍ ، راجع إلى مولاه ، قاصدٍ لمعرفته .
قال القشيري : تبصرةً وذكرى لمَن رجع إلينا في شهود أفعالنا إلى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا . ه . ونزَّلنا من السماء ماء العلوم اللدينة ، كثير البركة والنفع ، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد ، وهو حب المحبة؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله . والنخل باسقات ، أي : شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد : ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود ، رزقاً لأرواح العباد ، وأحيينا به نفساً ميتة بالغفلة والجهل ، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، أي : مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج ، وإلا فلا .
(6/126)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبتْ قبلَهم } أي : قبل قريش { قومُ نوحٍ } نوحاً ، حيث أنذرهم بالبعث ، { وأصحابُ الرسّ } قيل : هم مَن بعث إليهم شعيب عليه السلام كما مَرَّ في سورة الفرقان بيانه وقيل : قوم باليمامة ، وقيل : أصحاب الأخذود . والرس : بئر لم تطو ، { وثمودُ وعادٌ وفرعونٌ } أراد بفرعون قومَه ، ليلائم ما قبلهم؛ لأن المعطوف عليه جماعات ، { وإِخوانُ لوط } قيل : كان قومه من أصهاره عليه السلام ، فسماهم إخوانه ، { وأصحابُ الأيكة } هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين ، { وقومُ تُبَّعٍ } هو ملك باليمن ، دعا قومه إلى الإسلام وهم حِمير ، فكذَّبوه ، وسُمّي تُبعاً؛ لكثرة تبعه .
قال ابن إسحاق : كان تُبع الآخِر هو أسعدُ بن كرْب ، حين أقبل من المشرق ، ومرّ على المدينة ، ولم يُهِج أهلها ، وخلف عندهم ابناً له ، فقُتِل غيلة ، فجاء مجمعاً على حربهم ، وخراب المدينة ، فأجمع هذا الحي من الأنصار على قتاله ، وسيدهم عمرو بن طلحة ، أخو بن النجار ، فتزْعُم الأنصارُ : أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ، ويقرُّونه بالليل ، فيعجبه ذلك ، ويقول : إن قومنا هؤلاء لكرام ، فبينما هو كذلك إذا جاءه حَبران من أحبار بني قريظة ، من علماء أهل زمانهما ، فقالا : أيها الملك لا تقاتلهم ، فإنا لا نأمن عليك العقوبة؛ لأنها مهاجر نبيّ يخرُج من هذا الحي ، من قريش ، في آخر الزمان ، هي داره وقراره ، فكُفّ عنهم ، ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما ، ثم رجع إلى اليمن ، فقالت له حِمير : لا تدخلها وقد فارقت ديننا ، فحاكِمْنا إلى النار ، وقد كانت باليمن نار أسفل جبل يتحاكمون إليها ، فتأكل الظالم لا تضر المظلوم ، فخرجوا بأصنامهم ، وخرج الحَبران بمصاحفهما ، فأكلت النارُ الأوثانَ ، وما قَرَّبوا معها ، ومَن دخل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما ، يتلوان التوراة ، ولم تضرهما ، فأطبق أهلُ حمير على دين الحبرين ، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن . قال الرياشي : كان أبو كرب أسعد الحميري من التبابعة ، آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث بسبعمائة سنة . وتقدّم شِعره في الدُخَان .
{ كُلٌ كّذَّب الرسلَ } فيما أُرسلوا به من الشرائع ، التي من جملتها : البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة ، أي : كل قوم من الأقوام المذكورين كذّبوا رسولهم { فحقَّ وعيدِ } أي : فوجب وحلّ عليهم وعيدي ، وهي كلمة العذاب . وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد لهم .
{ أفَعيِينَا بالخلق الأول } استئناف مقرر لصحة البعث ، الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة . والعَيُّ بالأمر : العجز عنه ، يقال : عيى بالأمر : إذا لم يهتدِ لوجه عمله . والهمزة للإنكار ، والفاء : عطف على مقدر ، ينبئ عنه المقام ، كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ { بل هم في لَبْسِ من خَلقٍ جديدٍ } أي : بل هم في لبس وخلط وشُبهة ، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم ، حيث سؤَّل لهم أن إحياء الموتى خارج عن العادة ، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح ، وهو : أن مَن قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر .
(6/127)

وهو معطوف على مقدر يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول ، بل هم في خلط وشبهة من خلق مستأنف جديد . وتنكير " خلق " لتفخيم شأنه ، والإشعار بخروجه عن حدود العادة ، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته .
الإشارة : قال القشيري : الإشارة في الآية إلى أنَّ الغالب في كل زمان غلبة الهوى والطبيعة الحيوانية واستيلاء الحس على الناس ، نفوسهم متمردة . بعيدة من الحق ، قريبة من الباطل ، كلما جاء إليهم رسول كذّبوه ، وعلى ما جاء به قاتلوه ، فحقَّ عليهم عذابُ ربهم ، لَمَّا كفروا نِعَمَه ، فما أعياه إهلاكهم . ه . قلت : وكذلك جرى في كل زمان ، كل مَن أَمَر الناس بإخراجهم عن عوائدهم ، ومخالفة أهوائهم ، رفضوه وعادوه ، فقلَّ بسبب ذلك المخلصون ، وكثر المخلطون ، فإذا قالوا : لا يمكن الإخراج عن العوائد ، قلنا : القدرة صالحة ، قال تعالى : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } وهو إحياء القلب الميت ، فيجدّد إيمانه ، وتحيا روحه حياة سرمدية . وبالله التوفيق .
(6/128)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد خلقنا الإِنسانَ ونعلمُ ما تُوسْوسُ به نفسُه } أي : ما تُحدِّثه نفسُه ويهجس في ضميره من خير وشر . والوسوسة : الصوت الخفي ، ووسوسة النفس : ما يخطر بالبال . والضمير في " به " ل " ما " إن جعلتها موصولةً ، والباء كما في : صَوَّت بكذا ، أو : للإنسان ، إن جعلتها مصدرية . والباء حينئذ للتعددية . { ونحن أقربُ إِليه } أي : أعلم بحاله مما كان أقرب إليه { مِن حبل الوريد } والحبل : العرق ، وإضافته بيانية والوريدان : عرقان مكتفان بصفحتي العنق في مقدمه متصلان بالوتين ، والوتين : عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه . قاله في القاموس ، يَرِدان من الرأس إليه ، وقيل : سُمي وريد؛ لأن الماء يرده .
{ إِذ يتلقَّى المتلقيان } أي : الملكان الحافظان لأعمال العبد . والظرف : منصوب بما في " أقرب " من معنى الفعل ، أي : يتقرب إذ يتلقى . والمعنى : أنه تعالى لطيف يتوصل علمُه إلى ما لا شيء أخفى منه ، وهو أقرب للإنسان من كل قريب ، حين يتلقى الحافظان ما يُتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه تعالى غنيٌّ عن استحفاظها؛ لإحاطة علمه بما يخفى عليهم ، وإنما ذلك لما في كتبهما وحفظهما لأعمال العباد ، وعرض صحائفها يوم يقوم الأشهاد ، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته بتفاصيل أحواله من زيادة لطف به في الكف عن السيئات ، والرغبة في الحسنات . ثم ذكر مكانهما بقوله : { عن اليمين وعن الشمال قَعِيدٌ } أي : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وحذف الأول لدلالة الثاني عليه . وقعيد : بمعنى مقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، أو : بمعنى قاعد ، كالسميع والعليم . وعنه صلى الله عليه وسلم : " إن مقعد ملَكيْك على ثَنِيَّتِيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادُهما ، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحي من الله ولا منهما! " وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر من الحَنَك ، ورواه عن الحسن ، وكان يُعجبه أن ينظف عنفقته .
{ ما يلفظ مِن قولٍ } أي : ما يتكلم به وما يَرْمي به من فِيه { إِلا لديه رقيبٌ } حافظ { عتيدٌ } حاضر لازم ، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر ، وقال أبو أمامة عنه صلى الله عليه وسلم : " كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنةً كتبها صاحبُ اليمين عشراً ، وإذا عمر سيئة قال صاحبُ اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يُسبِّح أو يستغفِر " .
قال الحسن : إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه ، وعند جماعه ، ويكتبان عليه كل شيء ، حتى أنينه في مرضه . وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر . وعنه عليه السلام : " ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا ، فيرى الله تعالى في أول الصحيفة خيراً وفي آخرها خيراً ، إلا قال للملائكة : اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة "
(6/129)

والحفظة أربعة : اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، فإذا مات العبد قاموا على قبره يُكبران ويُهللان ويُكتب ذلك للعبد المؤمن .
ولمَّا ذكر إنكارهم للبعث ، واحتج عليهم بعموم قدرته وعِلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه هم لاقوه بعد الموت ، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال : { وجاءت سكرةُ الموت بالحق . . } الخ . وقال ابن عطية : هو عندي عطف على " إذ يتلقى " والتقدير : وإذ تجيءُ سكرة الموت ، يعني فهو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } [ الواقعة : 85 ] الآية . ه . وحاصل الآية حينئذ : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه ، ونحن أقربُ إليه في جميع أحواله ، في حياته ، ووقت مجيء سكرة الموت ، أي : شدته الذاهبة بالعقل ، ملتبسة { بالحق } أي : بحقيقة الأمر ، وجلاء الحال ، من سعادة الميت أو شقاوته ، { ذلك ما كنتَ منه تحيدُ } أي : تنفر وتهرب وتميل عنه طبعاً . والإشارة إلى الموت . والخطاب للإنسان في قوله : { ولقد خلقنا الإنسان } على طريقة الالتفات .
{ ونُفخ في الصور } نفخة العبث { ذلك يومُ الوعيد } أي : وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد ، أي : يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد . وتخصيص الوعيد بالذكر؛ لتهويله ، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله : { وجاءت كُلُّ نَفْسٍ } من النفوس البرّة والفاجرة { معها سائق وشهيد } أي : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد عليه بعمله . قيل : السائق : كاتب الحسنات ، والشاهد : كاتب السيئات ، ويقال لها : { لقد كنتَ في غفلة من هذا } النازل بك اليوم ، { فكشفنا عنك غِطاءك } فأزلنا غفلتك ، وهو الوقوف مع المحسوسات والإلْف ، والانهماك في الحظوظ ، وقصر النظر عليها ، فشاهدت اليومَ ما كنتَ غافلاً عنه { فبصرُكَ اليومَ حديدٌ } نافذة؛ لزوال المانع . جعلت الغفلة كأنها غطاء غطّى به جسده ، أو غشاوة غطّى بها عينيه فهو لا يبصر شيئاً ، فإذا كان يوم القيامة سقط ، وزالت عنه الغفلة ، وكشف غطاؤه ، فبصر ما يبصره من الحق ، ورجح بصره الكليل حديداً ، لتيقُّظه حين لم ينفع التيفظ . وبالله التوفيق .
الإشارة : هذه الآية وأشباهها أصل في مقام المراقبة القلبية ، فينبغي للعبد أن يستحيي من الله أن يُحدِّث في نفسه بشيء يتسحيي أن يظهره ، يعني الاسترسال معه ، وإلا فالخواطر العارضة لا قدرة على دفعها . قال القشيري : { ما توسوس به نفسُه } من شهوة تطلب استيفاءها ، أو تصنُّع مع الخَلْق ، أو سوء خُلُق ، أو اعتقاد فاسد ، أو غير ذلك من أوصاف النفس ، توسوس بذلك لتشَوِّش عليه قلبه ووقته ، وكيف لا نعلم ذلك وكُلُّ ذلك مما خلقناه وقدرناه . ه .
وقوله تعالى : { ونحن أقربُ إليه من حبل الوريد } أي : أنا أقرب إلى كل أحد من عروق قلبه ، وهذا لأن قيام الفعل بالصفات ، والصفات لا تُفارق الذات ، فالقرب بالعلم والقدرة ، وتستلزم القرب الذات ، وقرب الحق من خلقه هو قرب المعاني من الأواني ، إذ هي كليتها وقائمة بها ، فافهم .
(6/130)

قال القشيري : وفي هذه الآية هَيْبَةٌ وفَزَعٌ لقوم ، ورَوْحٌ وأُنْسٌ وسُكونُ قلبٍ لقوم . ه . وقوله تعالى : { إذ يَتَلقى المتقليان . . . } الخ ، كأنّه تعالى يقول : مَن لم يعرف قدر قُربي منه ، بأن يَعده وهمُه وجهلُه ، فإني أوكل عليه رقيبين يحفظان أعماله لعله ينزجر .
وقوله تعالى : { ما يلفظ من قول . . . } الخ ، وأما عمل القلوب فاختص الله تعالى بعلمها ، وهي محض الإخلاص . قال بعضهم : الإخلاص : إخفاء العمل بحيث لم يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، فالعارفون جُلّ أعمالهم قلبية ، نظرة أو فكرة . رُوي أن بعض العارفين قال له حفظتُه : يا سيدي أظهر لنا شيئاً من أعمالك نفرح به عند الله ، فقال لهم : يكفيكم الصلوات الخمس . ه . قال القشيري : وفيه أيضاً إشارة إلى كمال عنايته في حق عباده ، إذ جعل على كل واحد رقيبين من الملائكة ليحفظوه بالليل والنهار ، إذا كان قاعداً فواحد عن يمينه وواحد عن شماله ، وإذا قام فواحد عند رأسه ، وواحدٌ عند قَدَمِه ، وإذا كان ماشياً فواحدٌ بين يديه وواحد خَلْفه . انظر بقيته . ه . وهذان غير الملكين الموكلين بحفظ الأعمال . والله أعلم .
وقال في قوله : { وجاءت سكرةُ الموت بالحق } : إذا أشرفت النفسُ على الخروج من الدنيا ، فأحوالهم تختلف ، فمنهم مَن يزداد في ذلك الوقت خوفُه ، ولا يتبيّنُ حاله إلا عند ذهاب الروح ، ومنهم مَن يُكَاشف قبلَ خروجه فتَسُكُن روحُه ، يُحفظ عليه عَقْلُه ، ويتم له حضورُه وتمييزُه ، فسلَّم الروحَ على مَهَلٍ من غير استكراهٍ وعبوس منهم . وفي معناه يقول بعضهم :
أنا إنْ مِتُّ فالهوى حشو قلبي ... وبداءِ الهوى تموت الكرامُ
{ ونُفخ في الصور ذلك يوم الوعيد } لكل نفس ما وعدها الله ، بحسب سيرها من أول العمر إلى يوم البعث ، { وجاءت كل نفس معها سائق } وهو الذي ساقها في مبدأ الوجود ، إما سوقاً باللطف ، أو سوقاً بالعنف عند قوله : " هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي " ، وشهيد يشهد عليها بما جرى لها من الأحكام الأزلية { لقد كنتَ في غفلة من هذا } قال القشيري : يُشير إلى أن الإنسان ، وإن خُلق من عالم الغيب والشهادة ، فالغالب عليه في البداية الشهادة ، وهو العالم الحسي ، فيرى بالحواس الظاهرة العالَم المحسوس مع اختلاف أجناسه ، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب ، فمن الناس يكشف له غطاؤه عن بصره بصيرته ، فيجعل حديداً ، يبصر رشده ، ويحذر شره ، وهم المؤمنون من أهل السعادة ، ومنهم مَن يكشف له غطاء عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم { لا ينفع نفساً إيمانها . . } الآية ، وهم الكفار من أهل الشقاوة . ه .
(6/131)

وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يقول الحق جلّ جلاله : { وقال قرينُهُ } أي : الشيطان المقيض له ، أو : الملك الكاتب الشاهد عليه : { هذا ما لديَّ عَتِيدٌ } أي : هذا ما عندي وفي ملكي عتيد لجهنم ، قد هيأته بإغوائي وإضلالي ، أو : هذا ديوان عمله عندي عتيد مهيأ للعرض ، ف " ما " موصولة ، إما بدل من " هذا " أو صفة ، و " عتيد " : خبر ، أو : خبر ، و " عتيد : خبر آخر ، أو : موصوفة خبر " هذا " ، و " لديّ " : صفته ، وكذا " عتيد " أي : هذا شيء ثابت لديّ عتيد .
ثم يقول الله تعالى للسائق والشهيد : { ألقيا في جهنم } أو : لملكين من خزنة جهنم ، أو : يكون الخطاب لواحد ، وكان الأصل : ألقِ ألقِ ، فناب " ألقيا " عن التكرار؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل ، فكان تثنية الفاعل نائباً عن تكرار الفعل ، أو : أصله : ألْقِيَن ، والألف بدل من نون التوكيد ، إجراء للموصول مجرى الوقف ، دليله : قراءة الحسن : ( ألْقينْ ) والأحسن : أن يُراد جنس قرينه ، فيصدق بالسائق والشهيد ، فيقال لهما : { ألقيا في جهنم كلَّ كَفَّار } بالنعم والمُنعِم { عنيدٍ } : مجانب للحق ، معادٍ لأهله ، { منَّاعٍ للخير } كثر المنع للمال عن حقوقه ، أو : منَّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ، أو : يراد بالخير الإسلام ، لأن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة ، لَمَّا منع بني أخيه من الإسلام . { معتدٍ } ظالم متخطِّ للحق { مريب } : شاكٍّ في الله تعالى وفي دينه .
{ الذي جعل مع الله إِلهاً آخر } : بدل من " كل كَفَّار " ولا يجوز أن يكون صفة؛ لأن النكرة لا توصف بالموصول ، خلافاً لابن عطية ، أو : مبتدأ مضمن معنى الشرط ، خبره : { فألْقِيَاهُ في العذاب الشديد } وعلى الأول يكون " فألقياه " تكريراً للتوكيد ، أو مفعولاً بمضمر ، يُفسره " فألقياه " أي : ألقِِ الذي جعل مع الله إلهاً آخر ألقياه .
{ قال قرينُه } أي : شيطانه الذي قُرن به ، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين ، وإنما أُخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى؛ لأن الأولى واجب عطفها؛ للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول ، أي : مجيء كل نفس مع ملكين وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهي مستأنفة ، كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول ، كما في مقاولة موسى وفرعون في وقوله : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ } [ الشعراء : 23 - 31 ] إلى آخر الآيات ، فكأن الكافر قال : هو أطغاني ، فأجابه قرينُه بتكذيبه فقال : { ربنا ما أطغيتُه ولكن كان في ضلال بعيد } عن الحق ، أي : ما أوقعته في الطغيان بالقهر ، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى ، وهذا كقوله : { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ }
(6/132)

[ إبراهيم : 22 ] ، فالوسوسة والتزيين حاصل منه ، والاختيار من الكافر ، والفعل لله ، لا يُسأل عما يفعل .
{ قال } تعالى : { لا تختصمون لَدَيَّ } أي : في موقف الحساب والجزاء ، إذ لا فائدة في ذلك ، والجملة استئناف جواب عن سؤال ، كأن قائلاً قال : فماذا قال الله تعالى لهم؟ قال : لا تختصموا عندي { وقد قَدَّمتُ إِليكم بالوعيد } في دار الكسب على ألسنة رسلي ، فلا تطمعوا في الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلُّل بالمعاذير الباطلة . والجملة فيها تعليل للنهي ، على معنى : لا تختصموا وقد صحّ عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قالت : " لأملأن جهنم . . . " الخ ، فاتبعتموه معرضين عن الحق ، فلا وجه للاختصام في هذا الوقت . والباء إما مزيدة كما في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] أو معدية على أن " قَدَّم " مضارع تقدم .
{ ما يُبدّلُ القولُ لَدَيَّ } أي : لا تطمعوا أن يُبدل قولي ووعيدي بإدخال الكفار في النار ، { وما أنا بظَلاَّمٍ للعبيد } فلا أُعذب عبداً بغير ذنب مِن قِبلَه ، بل بما صدر منه من الجنايات ، حسبنا أشير إليه آنفاً . والتعبير عن بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة ، فضلاً عن كونه ظلماً مفرطاً لتأكيد هذا المعنى ، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم ، وقيل : هو لرعاية جميعة العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلاّم لعبيده ، وقيل : ظلاّم بمعنى : ذي ظلم ، كلبّان لذي اللبن . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قرين الإنسان نَفْسُه الأمّارة ورُوحه المطمئنة ، فإذا غلبت النفسُ على الروح وصرّفت صاحبها في الهوى ، تقول يوم القيامة : هذا ما لديّ عتيد ، مهيَّا للعتاب ، فيقال لهما : ألقيا في نار القطيعة كلَّ كفّار للنعم ، جحود لوجود الطبيب ، منّاع للخير ، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه ، معتدٍ على الله بتكبُّره ، وعدم حط رأسه للداعي إلى الله ، مُريب ، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر ، أو : شاك في وجود الطبيب ، الذي جعل مع الله إلهاً آخر ، يُحبه ويخضع له ، من الهوى والدنيا ، وكل ما أشركه مع الله في المحبة ، فألقياه في العذاب الشديد : الحجب عن الله ، وعدم اللحوق بأولياء الله ، أو العذاب الحسي . قال قرينه - روحه التي كانت سماوية ، فصيّرها أرضية ، بمتابعة هواه : ربنا ما أطغيته ، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأني ، ولكن كان في ضلال بعيد ، حيث أطاع نفسه وهواه ، ورماني في مزابل الشهوات والغفلة ، قال تعالى : { لا تختصموا لَدَيَّ } اليوم ، قد قدمت إليكم بالوعيد ، حيث قلت : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارة بِالسُّوء } [ يوسف : 53 ] { قَدْ أَفَلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ، 10 ] وقلت في شأن مَن جاهد نفسه ، وردها لأصلها : { ياأيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] الآية ، { ما يُبدلّ القولُ لَدَيَّ } فإني وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتي ، والتنعُّم برؤيتي بقولي : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا . . . } [ العنكبوت : 69 ] الآية ، وأهلَ الغفلة بالحجاب ، بقولي : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 14 ، 15 ] ، وما ظلمت أحداً قط ، لأن الظلم ليس من شأني ، ولا يليق بمُلكي .
(6/133)

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر { يوم يقول لجهنم هل امتلأتِ } ؟ وقرأ غير نافع وشعبة : بنون العظمة . فالعامل في الظرف : اذكر أو : " بظلاّم " أو محذوف مؤخر ، أي : يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال ، { وتقول هل من مزيد } ؟ أي : من زيادة ، مصدر كالمجيد ، أو : مفعول ، كالمنيع ، أي : هل بقي ما يزاد ، يعني : أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها الناس والجِنة فوجاً بعد فوج حتى تملأ { وتقول } بعد امتلائها : { هل من مزيد } أي : هل بقي فيَّ موضع لم يمتلئ؟! يعني : قد امتلأت . أو : أنها من السعة يدخل مَن يدخلها ولم تمتلئ فتطلب المزيد ، وهذا أولى .
قال ابن جزي : واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة ، أو مجازاً بلسان الحال ، والأظهر : أنه حقيقة ، وذلك على الله يسير ، ومعنى قولها : هل من مزيد : أنها تطلب الزيادة ، وكانت لم تمتلئ ، وقيل : معناه : لا مزيد ، أي : ليس عندي موضع للزيادة ، فهي على هذا قد امتلأت ، والأول أرجح ، لما ورد في الحديث : " لا تزال جهنم يُلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضعَ الجبارُ فيها قدمه ، فتنزوي ، وتقول : قَطْ قَطْ " وفي هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه . ه .
قال في الحاشية : ووضع القدم مَثَلٌ للردع والقمع ، أي : يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد . وقال ابن حجر : واختلف في المراد بالقدم ، فطريق السلف في هذا وغيره مشهورة . ثم قال : وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك ، فقيل : المراد إذلال جهنم ، فإنها إذا بلغت في الطغيان ، وطلبت المزيد ، أذلّها الله ، كوضعها تحت القدم ، وليس المراد حقيقة القدم ، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفاً للأمثال ، ولا تريد أعيانها كقولهم : رغم أنفه ، وسقط في يده . ه . قلت : مَن دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشُبّه ، فإن تجليات الحق لا تنحصر ، فيتجلّى سبحانه كيف شاء ، وبما شاء ، ولا حضر ولا تحييز ، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرجال .
ثم قال تعالى : { وأُزلفتْ الجنةُ للمتقين } وهو شروع في بيان أحوال المؤمنين بعد النفخ ومجيء النفوس إلى موقف الحساب . وتقديم الكفرة في أمثال هذا؛ إما لتقديم الترهيب على الترغيب ، أو لكثرة أهل الكفر ، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء في جلدٍ أسود ، أي : قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي ، بحيث يشاهدونها من الموقف ، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن ، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها ، فائزون بها ، ويأتي في الإشارة بقية بيان ، إن شاء الله . وقوله : { غيرَ بعيدٍ } تأكيد للإزلاف ، أي : مكاناً غير بعيد ، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر ، الذي يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث ، أو لتأوّل الجنة بالبستان .
(6/134)

{ هذا ما تُوعدون } أي : هذا الثواب ، أو الإزلاف ، ما كنتم توعدون به في الدنيا ، وهو حاصل { لكل أواب } أي : رجّاع إلى الله تعالى ، { حفيظٍ } لأوامر الله ، أو لما استودعه الله من حقوقه ، { مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب } : بدل من " أواب " أو مبتدأ ، خبره : أدخلوها ، على تقدير : يقال لهم : ادخلوها؛ لأن " من " في معنى الجمع ، والخشية : انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة . وقوله تعالى : { بالغيب } حال من فاعل " خشي " ، أو من مفعوله ، أو صفة لمصدره ، أي : خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشي عقابه وهو غائب عنه ، وخشي الرحمن وهو غائب عن الأعين في رداء الكبرياء ، لا تراه الأعين الحسية الحادثة ، والتعرُّض لعنوان الرحمن للثناء البليغ على الخاشي ، حيث خشيَه مع علمه بسعة رحمته ، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى ، أو : للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته . { وجاء بقلب منيب } راجع إلى الله ، أو سريرةٍ مَرضيةٍ ، وعقيدةٍ صحيحة .
يُقال لهم : { ادخلوها بسلامٍ } أي : سالمين من زوال النعم وحلول النقم ، أو : ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم ، { ذلك يومُ الخلود } الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع في بعض منه ما ذكر من الأحوال ، أي : نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود ، الذي لا انتهاء له ، { لهم ما يشاؤون فيها } من فنون المطالب ومنتهى الرغائب { ولدينا مزيدٌ } هو النظر إلى وجهه الكريم ، على قدر حضورهم اليوم ، أو : هو ما لا يخطر ببالهم ، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات ، التي لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وقيل : إن السحاب تمر باهل الجنة فتمطر عليهم الحور ، فتقول : نحن المزيد الذي قال تعالى : { ولدينا مزيد } قلت : مزيد كل واحد على قدر همته وشهوته . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يوم يقول لجهنم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد ، كذلك النفس ، نار شهوّاتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئاً من حظوظها طلب المزيد ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على مَن تاب ، وفي الحديث : " اثنان لا يشبعان : طالب الدنيا وطالب علم ، طالب الدنيا يزداد من الله بُعداً ، وطالب العلم يزداد من الله رضاً وقُرباً " أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن الروح إذا عشقت شيئاً فإن كان من الدنيا يُسمى حرصاً ، وإن كان في جانب الحق سُمي محبة وشوقاً ، وفي الحقيقة ما هي إلا محبة واحدة ، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية ، وغابت عن المعاني الأزلية ، وكلما زاد في الحرص نقص في المحبة ، وما نقص من الحرص زاد في المحبة . ويقال : كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى ، وبالعكس ، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية ، كانت حظوظاً أو حقوقاً ، بل كلما ألقي فيها تقول : هل من مزيد ، حتى يضع الجبار قدمه ، وهو قذف نور معرفته في القلب ، فحينئذ يحصل الفناء وتقول : قط قط .
(6/135)

ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله : { وأُزلفت الجنة للمتقين } أي : قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين ، الذي اتقوا ما سوى الله ، فقربت منهم ، ودَخَلوها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية في المحشر ، فيركبون في قصورها وغرفها ، وتطير بهم إلى الجنة ، فلا يسحون بالصراط ولا بالنار ، وفيهم قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] والناس على ثلاثة أصناف : قوم يُحشرون إلى الجنة مشاة ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً } [ الزمر : 73 ] وهم عوام المؤمنين ، وقوم يُحشرون إلى الجنة ركباناً على طاعتهم ، المصورة لهم على صورة المراكب ، وهؤلاء الخواص من العباد والزهّاد والعلماء والصالحين ، وأما خواص الخواص ، وهم العارفون ومَن تعلق بهم ، فهم الذين قال الله فيهم : { وأزلفت الجنة للمتقين } تُقرب منهم ، فيركبون فيها ، ويسرحون إلى الجنة . انظر القشيري .
وقوله تعالى : { هذا ما توعدون } الإشارة إلى مقعد صدق ، ولو كان إلى الجنة لقال " هذه " . قال القشيري . ثم وصف أهل هذا المقام بقوله : { لكل أواب حفيظ } أي : راجع إلى الله في جميع أموره ، لا يعرف غيره ، ولا يلتجئ إلا إليه ، حفيظ لأنفاسه مع الله ، لا يصرفها إلا في طلب الله ، مَنْ خَشِيَ الرحمنَ بالغيب ، أي : بنور الغيب يشاهد شواهد الحق ، فيخشى بُعده أو حجبه . قال القشيري : والخشية تكون مقرونة بالأُنس ، ولذلك لم يقل : مَن خشي الجبار . ثم قال : والخشية من الرحمن خشية الفراق ، ويقال : هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل ، ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، فكأنها قريبة من الهيبة . ه { وجاء بقلب منيب } مقبل على الله بكليته ، معرض عما سواه ، { ادخلوها } جنة المعارف { بسلام } من العيوب ، آمنين من السلب والرجوع ، وهذا قوله { ذلك يوم الخلود } فيها ، لهم ما يشاؤون من فنون المكاشفات ، ولذيذ المشاهدات ، ولدينا مزيد ، زيادة ترقي أبداً سرمداً ، جعلنا الله من هذا القبيل في الرعيل الأول ، آمين .
(6/136)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
يقول الحق جلّ جلاله : { وكم أهلكنا قبلهم } قبل قومك { من قَرْنٍ } من القرون الذين كذَّبوا رسلهم { هم أشدُّ منهم } من قومك { بطشاً } قوة وسطوة ، { فنَقَّبوا في البلاد } أي : خرّبوا وطافوا وتصرّفوا في أقطارها ، وجالوا في أكناف الأرض كل مجال حذرا من الموت { هل } وجدوا { من مَحيص } أي : مهرب منها؟ بل لَحِقَتهم ودقت أعناقهم ، أو : هل وجدوا من مهرب من أمر الله وقضائه؟ وأصل التنقيب والنقب : البحث والطلب ، قال امرؤ القيس :
لقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حَتَّى ... رَضِيتُ من الغَنِيمَةِ بالإِيابِ
ودخلت الفاء للتسبُّب عن قوله : { هم أشد منهم بطشاً } أي : شدة بطشهم ، أي : قدرتهم على التنقيب في البلاد ، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة ، أي : ساروا في أسفارهم ومسايرهم في بلد القرون ، فهل روأوا لهم محيصاً حتى يُؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيدهم قراءة مَن قرأ ( فنَقِّبوا ) على صيغة الأمر .
{ إِنَّ في ذلك } أي : فيما ذكر من قصصهم ، أو : فيما ذكر في السورة { لَذِكرى } لتذكرة وعظة { لمَن كان له قلبٌ } سليم واعٍ يُدرك كنه ما يشاهده من الأمور ، ويتفكّر فيها ، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر ، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير ، { أو أَلقى السمعَ } أي : أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحي الناطق بما جرى عليهم ، فإن مَن فعله يقف على كنه الأمر ، فينزجر عما يؤدي إليه من الكفر والمعاصي ، يقال : ألق إليَّ سمعَك ، أي : استمع ، ف " أو " لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ، فإن إلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات ، للإذان بأن مَن عَرَى قلبه عنهما كمَن لا قلب له أصلاً . وقوله تعالى : { وهو شهيد } حال ، أي : والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو : شاهد على ما يقرأ من كتاب الله .
{ ولقد خلقنا السماواتِ والأرضَ وما بينهما } من أصناف المخلوقات ، وهذا أيضاً احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر ، كقوله : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] وقوله تعالى { في ستة أيام } إنما خلقها في تلك المدة تعليماً لخلقه التؤدة ، وإلا فهو قادر على أن يخلقها في لمحة ، { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] ، ويحتمل أن هذا في عالم الأمر ، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج ، وله الخلق والأمر ، ثم قال تعالى : { وما مسَّنا من لُغوبٍ } من إعياء ولا تعب في الجملة ، وهذا رد على جهلة اليهود ، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش ، تعالى عما يقولون عُلوّاً كبيراً .
الإشارة : كثيراً ما أهلك اللّهُ من النفوس المتمردة في القرون الماضية ، زجراً لمَن يأتي بعدهم ، ففي ذلك ذِكرى لمَن كان له قلب سليم من تعلُّقات الكونين .
(6/137)

قال القشيري : فالقلوب أربعة : قلب فاسد : وهو الكافر ، وقلب مقفول : وهو قلب المنافق ، وقلب مطمئن : وهو قلب المؤمن ، وقلب سليم : وهو قلب المحبين والمحبوبين ، الذي هو مرآة صفات جمال الله وجلاله ، كما قال تعالى : " لا يسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " ه . وقال الشبلي : لِمن كان له قلب حاضر مع الله ، لا يغفل عنه طرفة عين . وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان : قلب احتشى بأشغال الدنيا ، حتى إذا حضر أمرٌ من أمور الآخرة لم يدرِ ما يصنع ، وقلب احتشى بالله وشهوده ، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدرِ ما يصنع ، غائب عن الكونين بشهود المكوِّن . وقال القتاد : لمن كان له قلب لا يتلقّب عن الله في السراء والضراء . ه . { أو ألقى السمع وهو شهيد } أي : يشهد ما مِن الله إلى الله ، أو : يشهد أسرار الذات . قال القشيري : يعني مَن لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع الله وهو حاضر مع الله ، فيعتبر بما يشير إليه الله في إظهار اللطف أو القهر . ه . { ولقد خلقنا السماوات } أي : سماوات الأرواح ، وأرض الأشباح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار ، وسر الأسرار ، في ستة أيام ، أي : ستة أنواع من المخلوقات ، وهي محصورة فيما ذكرناه من الأرواح ، والأشباح ، والنفوس ، والقلوب ، والأسرار ، وسر الأسرار ، فلا مخلوق إلا وهو داخل في جملتها ، لا يخرج عنها ، { وما مسّنا من لُغوب } لأن أمرنا بين الكاف والنون .
(6/138)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
يقول الحق جلّ جلاله : { فاصبرْ على ما يقولون } أي : ما يقوله الشركون في شأن البعث من الأباطيل ، فإنَّ الله قادر على بعثهم والانتقام منهم ، أو : يقولونه في جانبك من النقص والتكذيب ، أو : ما تقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه ، { وسبِّح بحمد ربك } أي : اصبر على ما تسمع واشتغل بالله عنهم ، فسبِّح ، أي : نزِّه ربك عن العجز عما يمكن ، وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه ، حامداً له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق والرشاد ، { قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } وهما وقت الفجر والعصر ، وفضلهما مشهور .
{ ومن الليل فسبِّحه } أي : وسبّشحه في بعض الليل { وأدبارَ السجود } أي : أعقاب الصلوات ، جمع : دبر ، ومَن قرأ بالكسر ، فمصدر ، من : أدبرت الصلاة : انقضت ، ومعناه : وقت انقضاء الصلاة ، وقيل : المراد بالتسبيح : الصلوات الخمس ، فالمراد بما قبل الطلوع : صلاة الفجر ، وبما قبل الغروب : الظهر والعصر ، وبما من الليل : المغرب والعشاء والتهجُّد ، وبأدبار السجود : النوافل بعد المكتوبات .
{ واسْتَمِع } أي : لِما يُوحى إليك من أحوال القيامة ، وفيه تهويل وتفظيع للمخبر به ، { يوم يُنادي المنادِ } أي : إسرافيل عليه السلام ، فيقول : أيتها العظام البالية ، واللحوم المتمزقة ، والشعور المتفرقة؛ إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء ، وقيل : إسرافيل ينفخ ، وجبريل ينادي بالمحشر ، { من مكانٍ قريبٍ } بحيث يصل نداؤه إلى الكل ، على سواء ، وقيل : من حجرة بيت المقدس ، وهو أقرب مكان من الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً ، وهي وسط الأرض ، وقيل : من تحت أقدامهم ، وقيل : من منابت شعورهم ، فيسمع من كل شعرة . " ويوم " منصوب بما دلّ عليه " يوم الخروج " أي : يوم ينادِ المنادِ يخرجون من القبور ، فيوقف على " واستمع " وقيل : تقديره : واستمع حديث يوم ينادِ المنادي .
و { يوم يسمعون الصحيةَ } : بدل من " يوم ينادِ " أي : واستمع يوم ينادِ المنادي ، وذلك اليوم هو يوم يسمعون الصيحة ، وهي النفخة الثانية . و { بالحق } : متعلق بالصيحة ، أو : حال ، أي : ملتبسة بالحق ، وهو البعث والحشر للجزاء ، { ذلك يومُ الخروجِ } من القبور .
{ إِنّا نحن نُحيي } الخلق { ونُميتُ } أي : نُميتهم في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد ، { وإِلينا المصير } أي : مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا . وذلك { يومَ تشقق } أصله : تتشقق ، فأدغم ، وقرأ الكوفيون والبصري بالتخفيف ، بحذف إحدى التاءين ، أي : تتصدع ، { الأرضُ عنهم سِراعاً } فيخرج المؤمنون من صدوعها مسرعين ، { ذلك حشرٌ } أي : بعث { علينا يسيرٌ } هَيْنٌ ، وهو معادل لقول الكفرة : { ذلك رجع بعيد } ، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به تعالى .
{ نحن أعلم بما يقولون } من نفي البعث وتكذيب الآيات ، وغير ذلك مما لا خير فيه ، وهو تهديد لهم ، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، { وما أنت عليهم بجبَّار } أي : ما أنت بمسلَّط عليهم ، إنما أنت داع ، كقوله :
(6/139)

{ لَّسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر } [ الغاشية : 22 ] من : جبره على الأمر : قهره ، أي : ما أنت بوالٍ عليهم تجبرهم على الإيمان ، وهذا قبل الأمر بالقتال ، { فذَكِّر بالقرآن من يخاف وعيدِ } لأنه هو الذي يتأثر بالوعظ ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] وأما مَن عداهم ، فنحن نفعل بهم ما توجبه أقوالهم ، وتستدعيه أعمالهم من أنواع العقاب وفنون العذاب .
الإشارة : فاصبر أيها المُتوجِّه على ما تسمع من الأذى ، وغب عن ذلك بذكر ربك قبل طلوع شمس البسط ، وقبل غروبها ، أي : اشتغل بالله في القبض والبسط ، أو : قبل طلوع شمس المعرفة ، في حال السير ، وقبل الغروب حين تطلع ، ومن ليل القبض أو القطيعة فسبِّح حتى يطلع نهار البسط أو المعرفة ، وأدبار السجود ، أي : عقب سجود القلب في الحضرة ، فلا يرفع رأسه أبداً ، واستمع يوم ينادِ المنادي ، وهي الهواتف الغيبية ، والواردات الإلهية ، والإلهامات الصادقة ، من مكان قريب ، هو القلب ، يوم يسمعون الصيحة ، أي : تسمع النفوس صيحة الداعي إلى الحق بالحق ، فتجيب وتخضع إن سبقت لها العناية ، ذلك يوم الخروج ، خروج العوائد والشهوات من القلب ، فتحيي الروح ، وتُبعث بعد موتها بالغفلة والجهل ، بإذن الله ، إنا نحن نُحيي نفوساً بمعرفتنا ، ونُميت نفوساً بقهريتنا ، وإلينا المصير ، أي : الرجوع إنما هو إلينا ، فمَن رجع إلينا اختياراً أكرمناه ونعّمناه ، وفي حضرة القدس أسكنّاه ، ومَن رجع قهراً بالموت عاتبناه أو سامحناه ، وفي مقام البُعد أقمناه .
{ يوم تشقق الأرضُ عنهم } : أرض الحشر في حق العامة ، وأرض الوجود في حق الخاصة ، أي : يذهب حس الكائنات ، وتضمحل الرسوم ، وتُبدل الأرض والسموات ، ذلك حشر علينا يسير ، أي : جمعكم إلينا ، بإفناء وجودكم ، وإبقائكم بوجودنا ، يسير على قدرتنا ، وجذبِ عنايتنا . ويُقال لكل داع إلى الله ، في كل زمان ، حين يُدبر الناس عنه ، وينالون منه : نحن أعلم بما يقولون ، وما أنت عليهم بجبّار ، إنما أنت داع : خليفة الرسول ، فذكِّر بالقرآن ، وادع إلى الله مَن يخاف وعيدِ؛ إذ هو الذي يتأثر بالوعظ والتذكير ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلمّ .
(6/140)

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
يقول الحق جلّ جلاله : { والذاريات } الرياح الذاريات؛ لأنها تذرو التراب والحشيش وغير ذلك ، يُقال : ذرت الرياحُ تذرو ذرواً ، وأذرت تذري ، و { ذرواً } : مصدر ، والعامل فيه اسم الفاعل . { فالحاملات وِقْراً } أي : السحاب الحاملة للأمطار ، أو : الرياح الحاملة للسحاب الموقورة بالماء . وقال ابن عباس : السفن الموقورة بالناس ، ف " وِقراً " مفعول بالحاملات ، { فالجاريات يُسراً } أي : السفن الجارية في البحر والرياح الجارية في مهابها ، أو السحاب الجارية في الجو تسوق الرياحَ ، او : الكواكب السيارة الجارية في مجاريها ومنازلها بسهولة ، { يسراً } : نعت لمصدر محذوف ، أي : جرياً ذا يسر .
{ فالمُقسَّمات أمراً } أي : الملائكة التي تقسم الأمور الغيبية من الأمطار والأرزاق والآجال ، والخَلْق في الأرحام ، وأمر الرياح ، وغير ذلك؛ لأن هذا كله إنما هو بملائكة تخدمه ، ف " أمراً " هنا جنس ، وأنَّثَ " المقسّمات " لأن المراد الجماعات ، ويجوز أن يُراد الرياح في الكل ، فإنها تنشئ السحاب ، وتُقلّه ، وتُصرّفه ، وتجري به في الجو جرياً سهلاً ، وتقسّم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار . ومعنى الفاء على الأول : أنه تعالى أقسم بالرياح ، فبالسحاب التي تسوقه ، فبالفلك الجارية بهبوبها ، فبالملائكة التي تقسم الأرزاق ، وعلى الثاني : أنها تبتدئ بالهبوب ، فتذروا التراب والحصباء ، فتُقل السحاب ، فتجري في الجو باسطةً له ، فتقسّم المطر .
وقال أبو السعود : فإن حملت الأمور المقْسم بها على ذوات مختلفة ، فالفاء لترتيب الإقسام باعتبار ما بينها في التفاوت في الدلالة على كمال القوة ، وإلا فهي لترتيب ما صدر عن الريح من الأفاعيل ، فإنها تذرو الأبخرة إلى الجو حتى تنعقد سحاباً ، فتجري به بساطة له إلى ما أمرت به ، فتقسم المطر . ه .
والمقسّم عليه قوله : { إِنَّ ما تُوعدون } من البعث والجزاء ، { لصادقٌ } لوعد صادق ، { وإِنَّ الدين } أي : الجزاء على الأعمال { لواقعٌ } لكائن لا محالة . وتخصيص الأمور المذكورة بالإقسام بها رمزاً إلى شهادتها بتحقيق مضمون الجلمة المُقْسَم عليها ، من حيث إنها أمور بديعة ، مخالفة لمقتضى الطبيعة ، فمَن قدر عليها فهو قادر على البعث الموعود ، و " ما " موصولة ، أو مصدرية ، ووصف الوعد بالصدق كوصف العيشة بالرضا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : { والذاريات } : رياح الواردات الإلهية ، التي ترد على القلوب ، فتذرو منها الأمراض والشكوك والأوهام والخواطر؛ لأنها تأتي من حضرة قهّار ، لا تُصادم شيئاً إلا دفعته ، { فالحاملات وِقراً } فالأنفس المطهرة ، الحاملة للعلوم والحِكم والمواهب ، وِقراً : حِملاً لا حدّ له ، { فالجاريات يُسراً } : فالأفكار الجارية في بحار الأحدية ، من الجبروت إلى الملكوت ، ثم تنزل على عالَم المُلك ، تتفنن في علوم الحكمة ، في جرياً يُسراً شيئاً فشيئاً ، { فالمُقَسِّمات أمراً } : فالأرواح والأسرار الكاملة ، التي تقسم الأرزاق المعنوية والحسية ، حيث جعل الله لها ذلك بفضله عند كمالها ، وهذه أرواح أهل التصرُّف من الأولياء . إنما تُوعدون من الوصول إلينا لَصادِقٌ لمَن صدق في الطلب ، وإنَّ الجزاء على المجاهدة بالمشاهدة لواقع . قال القشيري : إن الله تعالى وعد المطيعين بالجنة ، والتائبين بالمحبة ، والأولياء بالقُربة ، والعارفين بالوصلة ، والطالبين بالوجدان . ولعلّ مراده بالأولياء عموم الصالحين .
(6/141)

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
يقول الحق جلّ جلاله : { والسماءِ ذات الحُبُكِ } ذات الطُرق الحسيّة ، مثل ما يظهر على الماء والرمال من هبوب الرياح ، وكذلك الطُرق التي في الأكسية من الحرير وغيره ، يقال لها : حُبُك جمع حَبيكةٌ ، كطريقة وطُرق ، أو : جمع حِباك ، قال الرَّاجز :
كأنما جلاَّها الحوَّاكُ ... طِنْفَسَةً في وَشْيِها حِبَاكُ
والحوَّاك : صانع الحياكة ، والمراد : إما الطريق المحسوسة ، التي هي مسير الكواكب ، أو : المعنوية ، التي يسلكها النُظار في النجوم ، فإن لها طرائق . قال البيضاوي : النكتة في هذا القَسَم ، تشبيه أقوالهم في اختلافها ، وتباين أغراضها ، بطرائق السماوات في تباعدها ، واختلاف غاياتها ، وقال ابن عباس وغيره : ذات الخَلْق المستوي ، وعن الحسن : حبكها نجومها . وقال ابن زيد : ذات أشدة ، لقوله تعالى : { سَبْعاً شِدَاداً } } [ النبأ : 12 ] .
{ إِنكم } يا أهل مكة { لفي قولٍ مختلف } متخالف متناقض ، وهو قولهم في حقه صلى الله عليه وسلم تارة : شاعر ، وأخرى ساحر ، وفي شأن القرآن ، تارة : شعر ، وأخرى أساطير الأولين { يُؤفكُ عنه مَن أُفك } يُصرف عن القرآن ، أو عن الرسول ، مَن ثبت له الصرف الحقيقي ، الذي لا صرف أفظع وأشد منه ، فكأنّ لا صرف حقيقة إلا لهذا الصرف ، أي : يُصرف عن الإيمان مَن صُرف عن كل سعادةٍ وخير ، أو : يُصرف عن الإيمان مَن صُرف في سابق الأزل .
قلت : والأظهر أن يرجع لما قبله ، أي : يُصرف عن هذا القول المختلف مَن صُرف في علم الله تعالى ، وسَبقت له العناية ، يقول : أفكه عن كذا : صرفه عنه ، وإن كان الغالب استعماله في الصرف عن الخير إلى الشر ، لكنه عُرفي ، لا لغوي . والله تعالى أعلم .
{ قُتل الخرَّاصُون } دعاء عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] وأصله : الدعاء القتل والهلاك ، ثم جرى مجرى " لُعِنَ " ، والخرَّاصون : الكذّابون المُقدِّرون ما لا صحة له ، وهم أصحاب القول المختلف ، كأنه قيل : لُعن هؤلاء الخراصون { الذي هم في غمرةٍ } في جهل يغمرهم ، { ساهون } غافلون عما أُمروا به { يسألون أيّان يومُ الدين } أي : متى وقوع يوم الجزاء ، لكن لا بطريق الاستعلام حقيقة ، بل بطريق الاستعجال ، استهزاء ، فإنَّ " إيّان " ظرف للوقوع المقدّر؛ لأن " أيّان " إنما يقع ظرفاً للحدثان .
ثم أجابهم بقوله : { يومَ هم على النار يُفتنون } أي : يقع يوم هم على النار يُحرقون ويُعذّبون ، ويجوز أن يكون خبراً عن مضمر ، أي : هو يوم هم ، وبُني لإضافته إلى مضمر ، ويُؤيده أنه قُرئ بالرفع . { ذُوقوا فِتْنتكم } أي : وتقول لهم خزنة النار : ذوقوا عذابكم وإحراقكم بالنار ، { هذا الذي كنتم به تستعجلون } أي : هذا العذاب هو الذي كنتم تستعجلونه في الدنيا ، بقولكم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } [ الأعراف : 70 ] ف " هذا " : مبتدأ ، و " الذي . . . " الخ : خبر ، ويجوز أن يكون " هذا " بدلاً من فتنتكم ، و " الذي " : صفته .
(6/142)

الإشارة : أقسم الله تعالى بسماء الحقائق ، وتُسمى سماء الأرواح؛ لأن أهل الحقائق روحانيون سماويون ، ترقَّوا من أرض الأشباح إلى سماء الأرواح ، حيث غلبت روحانيتهم ، على بشريتهم ، كما أن أهل الشرائع اليابسة أرضيين بشريين ، حيث غلبت بشريتهم الطينية على روحانيتهم السماوية ، ولكل واحدٍ طُرق ، فطُرق سماء الحقائق هي المسالك التي تُوصل إليها ، وهي قَطْع المقامات والمنازل ، وخَرق الحُجب النفسانية ، حتى يُفضوا إلى مقام العيان " في مقعد صدق عند مليك مقتدر " وطُرق أرض الشرائع هي المذاهب التي سلكها الأولون ، واقتدى بهم الآخرون ، يفضوا أهلها إلى رضا الله ونعيمه . وكان الشيخ الشاذلي رضي الله عنه يقول في تلميذه المرسي : إن أبا العباس أعرف بطُرق السماء منه بطُرق الأرض ، أي : أعرف بمسالك الحقائق منه بمذاهب الشرائع ، وهذا إشارة قوله : { ذات الحُبك } أي : الطُرق . إن أهل الجهل بالله لفي قولٍ مُختلفٍ مضطرب ، لا تجد قلوبهم تأتلف على شيء ، قلوبهم متشعبة ، ونياتهم مختلفة ، وهممهم دنية ، وأقوالهم مضطربة ، بخلاف أهل الحقائق العارفين بالله ، قلوبهم مجتمعة على محبة واحدة ، وقصدٍ واحد ، وهو الله ، بدايتهم في السلوك مختلفة ، ونهايتهم متفقة ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ولله در ابن البنا ، حيث قال :
مذاهبُ الناسِ على اختلاف ... ومذهبُ القوم على ائتلاف
وقال الشاعر :
عباراتهم شتى وحُسْنُك واحدٌ ... وكُلٌّ إلى ذاك الجمال يُشير
يُؤفك عن هذا الاختلاف مَن صُرف في سابق العناية ، أو مَن صُرف من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح . قُتل الخراصُون؛ المعتمدون على ظنهم وحدسهم ، فعلومهم جُلها مظنونة ، وإيمانهم غيبي ، وتوحيدهم دليلي من وراء الحجاب ، لا يَسلم من طوارق الاضطراب ، الذين هم في غمرة؛ أي : في غفلة وجهل وضلالة - ساهون عما أُمروا به من جهاد النفوس ، والسيرإلى حضرة القدوس ، أو ساهون غائبون عن مراتب الرجال ، لا يعرفون أين ساروا ، وفي أيّ بحار سَبَحوا وغاصوا ، كما قال شاعرهم :
تركنا البحورَ الزاخراتِ وراءنا ... فمن أين يدري الناسُ أين توجهنا؟
{ يسألون أيّان يومُ الدين } ؛ لطول أملهم ، أو يسألون أيَّان يوم الجزاء على المجاهدة . قال تعالى : هو { يوم هم } أي : أهل الغفلة - على نار القطيعة أو الشهوة يُفتنون بالدنيا وأهوالها ، والعارفون منزَّهون في جنات المعارف . ويقال للغافلين : ذُوقوا وبال فتنتكم ، وهو الحجاب وسوء الحساب ، هذا الذي كنتم به تستعجلون ، بإنكاركم على أهل الدعوة الربانيين ، فتستعجلون الفتح من غير مفتاح ، تطلبون مقام المشاهدة من غير مجاهدة ، وهو محال في عالم الحكمة . وبالله التوفيق .
(6/143)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المتقين في جناتٍ وعيون } عظيمة ، لا يبلغ كُنهها ، ولا يُقادر قدرها ، ولعل المراد بها الأنهار الجارية ، بحيث يرونها ، ويقع عليها أبصارهم ، لا أنهم فيها ، { آخذين ما آتاهم ربهم } أي : نائلين ما أعطاهم راضين به ، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي ، يتلقى بحسن القبول ، { إِنهم كانوا قبل ذلك } في الدنيا { محسنين } متقنين لأعمالهم الصالحة ، آتين بها على ما ينبغي ، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم ، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام : " أن تعبد الله كأنك تراه " الحديث . ومن جملته ما أشار إليه بقوله :
{ كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجعون } أي : كانوا يهجعون ، أي : ينامون في طائفة قليلة من الليل ، على أن " قليلاً " ظرف؛ أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً ، على أنه صفة لمصدر ، و " ما " مزيدة في الوجهين ، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة ب " قليلاً " على الفاعل ، أي : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم . وقال النسفي : يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في " كانوا " : لا بقليلاً؛ لأنه صار موصوفاً بقوله : { من الليل } فبعد من شبه الفعل وعمله ، ولا يجوز أن تكون " ما " نافية على معنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله . ه . أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله؛ لأن " ما " النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولأن المحسنسن وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول ، وموجودون في كل زمان ومكان ، فلا معنى لقلتهم ، خلافاً لوقف الهبطي ، وأيضاً : فمدحهم بإيحاء الليل كله مخالف لحالته صلى الله عليه وسلم ، وما كان يأمر به .
{ وبالأسحارِ هم يستغفرون } وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم . والسَحر : السدس الأخير من الليل ، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار ، كأنهم المختصون به ، لاستدامتهم له ، وإطنابهم فيه .
{ وفي أموالهم حقُّ } أي : نصيب وافر ، يُوجبونه على أنفسهم ، تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقاً على الناس ، { للسائلِ والمحروم } أي : لمَن يُصرح بالسؤال لحاجة ، وللمتعفف الذي يتعرّض ولا يسأل حياءً وتعففاً ، يحسبه الناس غنيّاً فيحرم نفسه من الصدقة . وقد تكلم في نوادر الأصول على مَن سأل بالله ، أي : قال : أعطني لوجه الله ، هل يجب إعطاؤه أم لا؟ وفي الحديث : " مَن سألكم بالله فأعطوه " قال : وهو مُقيد بما إذا سأل بحق : أي : لحاجة ، وأما إذا سأل بباطل - أي : لغير حاجة - فإنما سأل بالشيطان؛ لأن وجه الله حق . ثم ذكركلام عليّ شاهداً ، ثم حديث معاذ :
(6/144)

" مَن سألكم بألله فأعطوه ، فإن شئتم فدعوه " ، قال معاذ : وذلك أن تعرف أنه غير مستحق ، وإذا عرفتم أنه مستحق ، وسأل فلم تعطوه فأنتم ظَلَمة . وأُلحِقَ بغير المستحق مَن اشتبه حاله؛ لتعليق الظلم على معرفة الاستحقاق خاصة .
وقال النووي في الأذكار : يُكره منع مَن سأل بالله ، وتشفَّع به؛ لحديث : " مَن سأل بالله فأعطوه " قال : ويكره أن يسأل بوجه الله عير الجنة . ه . وفي حديث المنذري : " ملعونٌ مَن سأل بوجه الله ، وملعونٌ مَن سُئل بوجه الله ، ثم مَنَعَ سَائِلَهُ ما لم يَسْأَلْ هُجْراً " وقال في كتابه " الأخبار " على قوله عليه الصلاة والسلام : " مَن سألكم بالله فأعطوه " إجلالاً لله تعالى ، وتعظيماً ، وإيجاباً لحقه . ثم قال : إذ ليس يجب إعطاء السائل إذا كان في معصية أو فضول ، فمَن سأل بالله فيما ليس عليه ولا عليك فرضه ، فإعطاؤك إياه لإجلال حق الله وتعظيمه ، وليس عليك بفرض ولا حتم . انظر تمامه في الحاشية الفاسية .
الإشارة : إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف ، وعيون العلوم والأسرار . قال القشيري : في عاجلهم في جنة الوصول ، وفي آجلهم في جنة الفضل ، فغداً نجاة ودرجات ، واليوم قربات ومناجاة . ه . { آخذين ما آتاهم ربهم } من فنون المواهب والأسرار ، وغداً من فنون التقريب والإبرار ، راضين بالقسمة ، قليلاً أو كثيرة . إنهم كانوا قبل ذلك : قبل الإعطاء ، محسنين ، يعبدون الله على الإخلاص ، يأخذون من الله ، ويدفعون به ، وله ، ولا يردون ما أعطاهم ، ولو كان أمثال الجبال ، ولا يسألون ما لم يعطهم ، اكتفاء بعلم ربهم .
قال القشيري : كانوا قبل وجودهم محسنين ، وإحسانهم : كانوا يُحبون الله بالله ، يحبهم ويحبونه وهم في العدم ، ولمَّا حصلوا في الوجود ، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، كأنَّ نومهم عبادة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " نوم العالم عبادة " فمن َيكون في العبادة لا يكون نائماً ، وهجوع القلب : غفلته ، وقلوبهم في الحضرة ، ناموا أو استيقظوا ، فغفلتهم بالنسبة إلى حضورهم قليلة . وقال سهل رضي الله عنه : أي : كانوا لا يغفلون عن الذكر في حال ، يعني هجروا النوم؛ لوجود الأُنس في الذكر ، والمراد بالنوم : نوم القلب بالغفلة .
{ وبالأسحار هم يستغفرون } ، قال القشيري : أخبر عن تهجدهم ، وقلة دعاويهم ، وتنزُّلهم بالأسحار ، منزلةَ العاصين ، تصغيراً لقدرهم ، واحتقاراً لفعلهم . ثم قال : والسهر لهم في لياليهم دائم ، إما لفرط لهف ، أو شدة أسف ، وإما لاشتياق ، أو للفراق ، كما قالوا :
كم ليلةٍ فيك لا صباحَ لها ... أفنيْتُها قابضاً على كبدي
قد غُصَّت العين بالدموع وقد ... وضعتُ خدي على بنانِ يدي
وإما لكمال أُنس ، وطيب روح ، كما قالوا :
سقى الله عيشاً قصيراً مضى ... زمانَ الهوى في الصبا والمجون
لياليه تحكي انسدادَ لحاظٍ ... لعيْنيّ عند ارتداد الجفون
ه .
{ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } أي : هم يُواسون مَنْ قصدهم بالحس والمعنى ، فيبذلون ما خوّلهم الله من الأموال ، للسائل والمتعفف ، وما خوّلهم الله من العلوم ، للطالب والمعرض ، وهو المحروم ، فيقصدونه بالدواء بما أمكن؛ فإنهم أطباء ، والطبيب يقصد المريض أينما وجده ، شفقةً ورحمة ، ونُصحاً للعباد . وبالله التوفيق .
(6/145)

وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
يقول الحق جلّ جلاله : { وفي الأرض آياتٌ } دالة على كامل قدرته على البعث وغيره ، من حيث أنها مدحوة كالبساط الممهد ، وفيها مسالك وفجاج للمتقلبين في أقطارها ، والسالكين في مناكبها ، وفيها سهل وجبل ، وبحر وبر ، وقِطع متجاورات ، وعيونٌ متفجرات ، ومعادن مقنية ، ودواب منبثة ، مختلفة الصور والأشكال ، متباينة الهيئات والأفعال ، وهي مع كبر شكلها مبسوطة على الماء ، المرفوع فوق الهواء ، فالقدرة فيها ظاهرة ، والحكمة فيها باهرة ، ففي ذلك عبرة { للمُوقنين } الموحِّدين ، الذين ينظرون بعين الأعتبار ، ويُشاهدون صانعها ببصير الاستبصار .
{ وفي أنفسكم } آيات وعجائب القدرة؛ إذ ليس شيء في العالم إلا وفي الأنفس له نظير ، مع ما فيه من الهيئات النابعة والمصادر البهية ، والترتيبات العجيبة ، خَلَقَه نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم فصلها إلى العظم والعصب والعروق ، فالعظام عمود الجسد ، ضمّ بعضها إلى بعض بمفاصل وأقفال رُبطت بها ، ولم تكن عظماً واحداً؛ لأنه إذا ذاك يكون كالخشبة ، ولا يقوم ولا يجلس ، ولا يركع ولا يسجد لخالقه ، ثم خلق تعالى المخ في العظام في غاية الرطوبة ليرطب يُبس العظام ، ويتقوّى به ، ثم خلق سبحانه اللحمَ وعباه على العظام ، وسدّ به خلل الجسد ، واعتدلت هيئته ، ثم خلق سبحانه العروق في جميع الجسد جداول ، يجري الغذاء منها إلى أركان الجسد ، لكل موضع من الجسد عدد معلوم ، ثم أجرى الدم في العروق سيالاً خاثراً ، ولو كان يابساً ، أو اكتفى مما هو فيه ، لم يجرِ في العروق ، ثم كسى سبحانه اللحمَ بالجلد كالوعاء له ، ولولا ذلك لكان قشراً أحمر ، وفي ذلك هلاكه ، ثم كساه الشعر؛ وقايةً وزينةً ، وليّن أصوله ، ولم تكن يابسة مثل رؤوس الإبر ، وإلا لم يهنه عيش ، وجعل الحواجب والأشفار وقاية للعين ولولا ذلك لأهلكهما الغبار والسقط ، وجعلها سبحانه طوع يده ، يتمكن من رَفْعِها عند قصد النظر ، ومِن إرخائها على جميع العين عند إرادة إمساك النظر عما يضر دِيناً ودُنيا ، وجعل شعرها صفّاً واحد لينظر من خللها ، ثم خلق سبحانه سفتين ينطبقان على الفم؛ يصونان الحلقَ والفمَ من الرياح والغبار ، ولما فيهما من كمال الزينة ، ثم خلق الله سبحانه الأسنان؛ ليتمكن من اقطع مأكوله وطحنه ، ولم تكن له في أول خلِقته لئلا يذي أمه ، وجعلها ثلاثة أصناف : قسم يصلح للكسر ، كالأنياب ، وقسم يصلح للقطع ، كالرباعية ، وقسم يصلح للطحن ، كالأضراس . . . إلى غير ذلك مما في الإنسان من عجائب الصنع وبدائع التركيب .
{ أفلا تُبصرون } أي : تنظرون نظر مَن يعتبر ، وما قيل : إن التقدير : أفلا تبصرون في أنفسكم ، فضعيف؛ لأنه يُفضي إلى تقديم ما في حيّز الاستفهام عليه .
{ وفي السماء رزقكم } وهو المطر . وعن الحسن؛ أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه : فيه رزقكم إلا أنكم تُحرمونه بخطاياكم ، أو : في سماء الغيب تقدير رزقكم .
(6/146)

فهو مضمون عند الله في سماء غيبه ، ستر ذلك بسر الحكمة ، وهو الأسباب ، { وما تُوعدون } أي : وفي السماء ما تُوعدون من الثواب؛ لأن الجنة في السماء السابعة ، سقفها العرش ، أو : أراد : إنما تُوعدونه من الرزق في الدنيا وما تُوعدونه في العقبى كله مقدّر ومكتوب في السماء ، وقيل : إنه مبتدأ وخبره : { فَوَرَبُّ السماءِ والأرض إِنه لَحقٌّ } أي : ما توعدون من البعث وما بعده ، أو : ما توعدونه من الرزق المقسوم ، فَوَرَبِّ العالم العلوي والسفلي { إِنه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون } أي : مثل نطقكم ، شبّه ما وعد به من الرزق وغيره بتحقُّق نطق الآدمي؛ لأنه ضروري ، يعرفه من نفسه كلُّ أحد .
قال الطيبي : وإنما خصّ النطق دون سائر الأعمال الضرورية ، لكونه أبقى وأظهر ، ومن الاحتمال أبعد ، فإنّ النطق يُفصح عن كل شيء ، ويجلي كل شبهة . ه . فَضمان الرزق وإنجاز وعده ضروري ، كنطق الناطق . رُوي عن الأصمعي أنه قال : أقبلتُ من جامع البصرة ، فطلع أعرابي على قَعود ، فقال : مَنْ الرجل؟ فقلت : من بني أصمع ، فقال : من أين أقبلت؟ فقلت : من موضع يتلى فيه كلام الله ، قال : اتل عليَّ ، فتلوت : { والذاريات . . . } فلما بلغت قوله : { وفي السماء رزقكم } قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ، ووزعها على مَن أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسّرهما ، وولّى ، فلما حججت مع الرشيد ، وطُفت ، فإذا أنا بصوت رقيق يهتف بي ، فالتفتّ ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفرّ ، فسلّم عليَّ ، واستقرأ السورة ، فلما بلغتُ الآية ، صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقّاً ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأتُ : { فَوَرَبِّ السماء والأرض إِنه لَحقٌّ } فقال : سبحان الله! مَن الذي أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يُصدقوه بقوله حتى حلف ، قالها ثلاثاً ، وخرجت معها نَفْسُه . ه . من النسفي .
قلت : وقد سمعت حكاية أخرى ، فيها عبرة ، وذلك أن رجلاً سمع قارئاً يقرأ هذه الآية ، فدخل بيته ، ولزم زاوية منه يذكر فيها ، ويتبتل ، فجاءت امرأته تنقم عليه ، وتأمره بالخدمة ، فقال لها : قال تعالى : { وفي السماء رزقكم } ، فلما أيست منه ذهبت تحفر شيئاً ، فوجدت آنية مملوءة دنانير ، فجاءت إليه ، وقالت : قد أتانا رزقنا ، قم تحرفه معي ، هو في موضع كذا ، فقال : إنما قال تعالى : { في السماء } ولم يقل في الأرض ، فامتنع فذهبت إلى أخٍ لها تستعين به ، فلما فتحتها وجدتها مملوءة عقارب ، فقالت : والله لأطرحنها عليه لنستريح منه ، ففتحت كوة من السقف ، وطرحتها عليه ، فسقطت دنانير ، فقال : الآن نعم ، قد آتاني من حيث قال ربي : { وفي السماء رزقكم } . ه . وذكر في التنوير : أن الملائكة لمّا نزلت هذه الآية ضجّت في السماء ، وقالت : ما أضعف بني آدم حتى أحوجوا ربهم إلى الحلف .
الإشارة : وفي أرض نفوس العارفين آيات ، منها : أن الأرض تحمل كل شيء ، ولا تستثقل شيئاً ، فكذلك نفس العارف ، تحمل كُلَّ كَلٍّ وثقيل ، ومَن استثقل حملاً ، أو تبرّم من أحد ، أو من شيء ، ساقته القدرة إليه ، فلغيبته عن الحق ، ومطالعته الخلق بعين التفرقة ، وأهل الحقائق لا يتصفون بهذه الصفة .
(6/147)

ومنها : أنها يلقى عليها كل قذارة وقمامة فتُنبت كل زهر ونَور وورد ، فكذلك العارف يُلقى عليه كل جفاء ، ولا يظهر منه إلا الصفاء . ومنها أن الأرض الطيبة تُنبت الطيب ، وينصع نباتها ، والأرض السبخة لا تُنبت شيئاً ، كذلك القلوب الطيبة تُنبت كل ما يلقى فيها من الخير ، والقلوب الخبيثة لا تعي شيئاً ، ولا ينبت فيها إلا الخبيث .
وقوله تعالى : { وفي أنفسكم . . } قال القشيري : يُشير إلى أن النفس مرآة جميع صفات الحق ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام : " مَن عرف نفسه فقد عرف ربه " فلا يعرف أحد نفسه إلا بعد كمالها ، وكمالُها : أن تصير مرآةً كاملةً تامة مصقولة ، قابلة لتجلِّي صفات الحق لها ، فيعرف نسفه بالمرآتية ، ويعرف ربه بالتجلِّي فيها ، كما قال تعالى : { سَنُرِيِهِمْ ءَايَاتِنَا فِى الأَفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ . . . } [ فصلت : 53 ] الآية . ه .
قلت : حديث : " مَن عرف نفسه " أنكره النووي ، وقال إنه من كلام يحيى بن معاذ وقد اشتهر عند الصوفية حديثاً ، ومعناه حق؛ فإنَّ مَن عرف حقيقة نفسه ، وأنها مظهر من مظاهر الحق ، وغاب عن حس وجوده الوهم ، فقد عرف ربه وشَهِدَه ، فاطلب المعرفة في نفسك ، ولا تطلبها في غيرك ، فليس الأمر عنك خارجاً ، ولله در الششتري في بعض أزجاله ، حيث قال :
وإليْك هو السّيْرُ * وأنْت مَعْنَى الخَيْر * وما دونَك غيْرُ ... وقال أيضاً :
يا قاصداً عَيْنَ الْخَبرْ ... غطَّاهُ أَيْنَكُ
ارجع لذاتكَ واعْتَبِر ... ما ثمَّ غيْرَك
الخيرُ منك والخبَرْ ... والسر عندك
وقوله تعالى : { وفي السماء رزقكم } قال الورتجبي : وفي سماء صفاتي رزق أرواحكم ، من مشاهدة النور ، وغذاء العلم الرباني ، وما توعدون من مشاهدة الذات وكشف عيانه . ه .
قلت : هذا قوت الأرواح ، أمّا قوت الأشباح فتجب الغيبة عنه ، ثقةً بالله ، وتوكلاً عليه . قال في قطب العارفين : اعلم أنه عزّ وجل قسَّم الأرزاق في الأزل ، وجزّأه على عمر العبد ، ووقَّت أوقاته ، وحدَّ للعبد ما يأتيه منه في السنة ، والشهر ، واليوم ، والساعة ، فكل ما حدّ لك أن تناله من رزقك عند صلاة العصر ، مثلاً ، لا تناله عند صلاة الصبح ، ولو طلبته بكل حِيلة في السموات والأرض ، فإن الطلب لا يجمع ، والتوكل لا يمنع . ه . وقال فيه أيضاً : العارف يجد في نفسه الاعتماد على الله ، وإن كانت السماء لا تُمطر ، والأرض لا تُنبت . . . الخ كلامه ، ومثله قول ذي النون : لو كانت السماء من زجاج ، والأرض من نحاس لا تُنبت شيئاً ، ومصر كلها عيالي ، ما اهتممتُ لهم برزقٍ؛ لأنَّ مَن خلقهم هو الذي تكفّل برزقهم . ه . وقال في القطب أيضاً : ومن علامة جهل قلب العالم : خوف شدائد السنيين الآتيات ، والاستعداد لها قبل مجيئها ، بمصاحبة الاضطراب ، وفقد الطمأنينة القسمة السابقة ، فمَن اتصف بهذه الصفة فقد نازع الربوبية ، وانسلخ من العبودية . ه .
(6/148)

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
يقول الحق جلّ جلاله : { هل أتاك حديثُ ضَيف إِبراهيمَ } استفتح بالاستفهام التشويقي ، تفخيماً لشأن الحديث ، وتنبيهاً على أنه ليس مما عَلِمَه رسولُ الله صلى الله علي وسلم بغير طريق الوحي . والضيف في الأصل : مصدر : كالزوْر ، والصوع ، يصدق الواحد والجماعة ، قيل : كانوا اثني عشر مَلَكاً ، وقيل : تسعة عاشرهم جبريل . وجعلهم ضيفاً لأنهم في صورة الضيف ، حيث أضافهم إبراهيم ، أو لأنهم كانوا في حسبانه كذلك . قوله { المُكْرَمين } أي : عند الله ، لأنهم عباد مكرمون ، أو عند إبراهيم ، حيث خدمهم بنفسه ، وأخدمهم امرأته ، لهم القِرَى .
{ إِذا دخلوا عليه } ظرف للحديث ، أو لِمَا في الضيف من معنى الفعل ، أو بالمكَرمين ، إن فسر بإكرام إبراهيم لهم ، { فقالوا سلاماً } أي : نُسلِّم عليك سلاماً ، { قال } إبراهيم : { سلامٌ } أي : عليكم سلام . عدل به إلى الرفع بالابتداء للقصد إلى الثبوت والدوام حتى تكون تحيته عليه السلام أحسن من تحيتهم ، وهذا أيضاً من إكرامه ، { قومٌ مُنكَرُون } أي : أنتم قوم مُنكَرون ، لا نعرفكم ، فعرّفوني مَن أنتم . قيل : إنما أنكرهم لأنهم ليسوا ممن عهدهم مِن الناس ، أو : لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس ، وقيل : إنما قال ذلك سِرّاً ولم يخاطبهم به ، وإلا لعرّفوه بأنفسهم .
{ فَرَاغَ إِلى أهله } أي : ذهب إليهم في خِفيةٍ من ضيوفه ، فالروغان : الذهاب بسرعة ، وقيل : في خفية . ومن آداب المضيف أن يبادر الضيف : بالقِرَى ، وأن يخفى أمره من غير أن يشعر به الضيف ، حذراً من أن يكفّه ، وكان عامة مال إبراهيم البقر . { فجاء بعِجْلٍ سمينٍ } الفاء فصيحة تُفصح عن جُملٍ حّذفت لدلالة الحال عليها ، وإيذاناً بكمال سرعة المجيء ، أي : فذبح عجلاً فَحَنَذَه ، فجاء به ، { فقرَّبه إِليهم } بأن وضعه بين أيديهم حسبما هو المعتاد ، فلم يأكلوا ، ف { قال ألا تأكلونَ } أنكر عليهم ترك الأكل ، أو : حثَّهم عليه ، { فَأَوْجسَ } أضمر { منهم خيفةَ } خوفاً ، لتوهُّم أنها جاؤوا للشر؛ لأن مَن لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمِامك . عن ابن عباس رضي الله عنه : وقع في نفسه أنهم ملائكة أُرسلوا للعذاب . { قالوا لا تَخَفْ } إنَّا رُسل الله . قيل : مسح جبريل العِجْل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه ، فعرفهم وأمِن منهم ، { وبشَّروه بغلام عليم } أي : يبلغ ويكون علماً ، وهو إسحاق عليه السلام .
{ فأقبلت امرأتُه } سارة لمَّا سمعت بشارتهم إلى بيتها ، وكانت في زاوية منه تنظر إليهم ، { في صَرَّةٍ } صيحة ، من الصرير ، وهو الصوت ، ومنه : صرير الباب وصرير الأقلام . قال الزجَّاج : الصرّة : شدّة الصياح . وفي القاموس الصرّة : - بالكسر : أشد الصياح ، وبالفتح : الشدة من الكرب والحرن والحر والعطفة والجماعة وتغضيب الوجه . ه . ومحله النصب على الحال ، أي فجاءت صارة ، وقيل : صرتها : قولها : { يَا وَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ . . . } [ هود : 72 ] أو : فجاءت مغضّبة الوجه ، كما هو شأن مَن يُخبر بشيء غريب ، استبعاداً له ، { فصَكَّتْ وجهها } لطمته ببسط يدها ، وقيل : ضربت بأطراف أصابعها جبهتها ، فعل المتعجِّب ، { وقالت عجوزٌ عقيم } أي : إنها عجوز عاقر ، فكيف ألد؟! .
(6/149)

{ قالوا كذلك } أي : مثل ما قلنا وأخبرناك به { قال ربك } أي : إنما نُخبرك الله تعالى ، والله قادر على ما يُستعبد ، { إِنه هو الحكيمُ } في فعله ، { العليمُ } فلا يخفى عليه شيء ، فيكون قوله حقاً ، وفعله متقناً لا محالة . رُوي أن جبريل عليه السلام قال لها حين استبعدت : انظري إلى بيتك ، فنظرت ، فإذا جُذوعُهُ مورقة مثمرة ، ولم تكن هذه المفاوضة مع سارة فقط ، بل هي وإبراهيمُ عليه السلام حاضر ، حسبنا شُرح في سورة الحجر ، وإنما لم يذكرها اكتفاء بما ذكر هناك ، كما أنه لم يذكر هناك سارة ، اكتفاء بما ذكر هنا وفي سورة هود .
ولمّا تحقق أنهم ملائكة ، ولم ينزلوا إلا لأمر ، { قال فما خطبكم } أي : فما شأنكم وما طِلبتكم وفيمَ أُرسلتم؟ { أيها المرسَلون } هل أُرسلتم بالبشارة خاصة ، أو لأمر آخر ، أو لهما؟ { قالوا إِنا أُرسلنا إِلى قوم مجرمين } أي : قوم لوط ، { لِنُرسل عليهم حجارةٌ من طين } أي : طين متحجر ، هو السجّيل ، وهو طينٌ طُبخ ، كما يُطبخ الآجر ، حتى صار في صلابة الحجارة ، { مسوَّمة } مُعلَّمةً ، على كلِّ واحد اسم مَن يهلك بها ، من السّومة وهي العلامة ، أو : مرسلة ، من أسمت الماشية : أرسلتها ، ومر تفصيله في هود { عند ربك } أي : في مُلكه وسلطانه { للمسرفين } المجاوزين الحدّ في الفجوز .
{ فأخْرجنا مَن كان فيها } الفاء فصيحة ، مُفصحة ، عن جُمل قد حُذفت ، ثقةً بذكرها في مواضع أُخر ، كأنه قيل : فباشروا ما أُمروا به ، فذهبوا إلى لوط ، وكان مِن قصتهم ما ذكر في موضع آخر ، { فأخرجنا مَنْ كان فيها } أي : مِن قرى قوم لوط { من المؤمنين } يعني لوطاً ومَن آمن معه . قيل : كان لوط وأهل بيته الذين نجو ثلاثةَ عشر . { فما وجدنا فيها غيرَ بيتٍ } أي : غير أهل بيت { من المسلمين } وفيه دليل على أن الإسلام والإيمان واحد ، أي : باعتبار الشرع ، وأما في اللغة فمختلف ، والإسلام محله الظاهر ، والإيمان محله الباطن . { وتركنا فيها } أي : في قُراهم { آيةَ للذين يخافون العذابَ الأليم } أي : مِن شأنهم أن يخافوا؛ لسلامة فطرتهم ، ورقة قلوبهم ، وأما مَن عداهم من ذوي القلوب القاسية ، فإنهم لا يعتبرون بها ، ولا يعدونها آية .
الإشارة : الإشارة بإبراهيم إلى القلب ، وأضيافه : تجليات الحق ، فنقول حينئذ : هل بلغك حديث إبراهيم القلب ، حين يدخل عليه أنوار التجليات ، مُسلِّمة عليه ، فيُنكرها أول مرة ، حيث لم يألف إلا رؤية حس الكائنات ، فرغ إلى أهله : عوالمه ، فجاء بعِجْل سمينٍ : النفس أو السِّوى ، فقربّه إليهم ، بذلاً لها في مرضاة الله ، فقال : ألا تأكلون منها ، لتذهب عني شوكتها؛ إذ لا تثبت أنوار الشهود إلا بعد محق النفس وموتها ، فأوجس منهم خيفة؛ لان صدمات التجلي تدهش الألباب ، إلا مَن ثبته الله ، قالوا : لا تخف ، أي : لا تكن خوَّافاً ، إذ لا ينال هذا السر إلا الشجعان ، كما قال الجيلاني :
(6/150)

وإِيَّاكَ حَزْماً لا يَهُولُكَ أَمْرُها ... فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجَاعُ المُقَارعُ
{ وبشَّروه بغلامٍ عليم } وهو نتيجة المعرفة ، من اليقين الكبير ، والطمأنينة العظمى ، فأقبلت النفس تصيح ، وتقول : أألد هذا الغلام ، من هذا القلب ، وقد كبر على ضعف اليقين ، وأنا عجوز ، شِخْتُ في العوائد ، عقيم من علوم الأسرار؟! فتقول القدرة : { كذلك قال ربك } هو عليَّ هيِّن ، أتعجيبن من قدرة الله ، " مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً " إنه هو الحكيم في ترتيب الفتح على كسب المجاهدة ، العليم بوقت الفتح ، وبمَن يستحقه . قال إبراهيم القلب أو الروح : فما خطبكم أيها الجليات ، أو الواردات الإلهية ، { قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين } وهم جند النفس ، { لنُرسل عليهم حجارة من طين } مسومةً عند ربك للمسرفين ، وهم الأذكار والأوراد والمجاهدات والرياضات والمعاملات المهلِكة للنفس وأوصافها ، { فأخرجنا مَن كان فيها من المؤمنين } ، سالمين من الهلاك ، وهو ما كان لها من الأوصاف الحميدة ، والعلوم الرسمية ، إذا لا تُخرِج المجاهدة إلا مَن كان مذموماً ، فما وجدنا فيها من ذلك إلا النذر القليل؛ إذ معاملة النفس جُلها مدخولة ، وتركنا فيها آيةً من تزكية النفس ، وتهذيب أخلاقها ، { للذين يخافون العذاب الأليم } ، فيشتغلون بتزكيتها؛ لئلا يلحقهم ذلك العذاب .
(6/151)

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
قلت : { وفي موسى } : عطف على { وفي الأرض } ، أو على قوله : { وتركنا فيها آية } على معنى : وجعلنا في موسى آية ، كقوله :
علفتها تبناً وماءً بارداً ... و { إذ أرسلناه } : منصوب بآيات ، أو : بمحذوف ، أي : كائنة وقت إرسالنا ، أو بتَركنا .
يقول الحق جلّ جلاله : { وفي موسى } آية ظاهرة حاصلة { إِذ أرسلناه إِلى فرعون بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة ، وهي ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة ، { فَتَولَّى بِرُكْنِه } فأعرض عن الإيمان وازوَرّ عنه { برُكنه } بما يتقوى به من جنوده ومُلكه ، والركن : ما يركن إليه الإنسان من عِزٍّ وجند ، { وقال } في موسى : هو { ساحرٌ أو مجنون } كأنه نسب ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة إلى الجن وتردد هل ذلك باختياره وسعيه ، أو بغيرهما . { فأخذناه وجنودَه فنبذناهم في اليمِّ } وفيه من الدلالة على عِظَمِ شأن القدرة الربانية ، ونهاية حماقة فرعون ما لا يخفى ، { وهو مُليمٌ } آتٍ بما يُلام عليه من الكفر والطغيان .
{ وفي عادٍ إِذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيمَ } وُصفت بالعقيم لأنها أهلكتهم ، وقطعت دابرهم ، أو : لأنها لم تتضمن خيراً مَّا ، من إنشاء مطرٍ ، أو إلقاح شجرٍ ، وهي الدَّبور ، على المشهور ، لقوله عليه السلام : " نُصرتُ بالصَّبَا ، وأُهلكت عادٌ بالدَّبور " ، { وما تذرُ من شيءٍ أتتْ عليه } أي : مرت عليه { إلا جعلته كالرميم } وهو كل ما رمّ ، أي : بلي وتفتت ، من عظم ، أو نبات ، أو غير ، والمعنى : ما تركت شيئاً هبتَ عليه من أنفسهم وأموالهم إلا أهلكته .
{ وفي ثمودَ } آية أيضاً { إِذ قيل لهم تمتعوا حتى حينٍ } تفسيره قوله تعالى : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] رُوي أن صالحاً قال لهم : تُصبح وجوهكم غداً مصفرة ، وبعد غدٍ مُحْمَرة ، وفي الثالث مسودة ، ثم يُصحبكم العذاب ، { فَعَتوا عن أمر ربهم } استكبروا عن الامتثال ، { فأخذتهم الصاعقةُ } العذاب ، وكل عذاب مُهلك صاعقة . قيل : لما رأوا العلامات من اصفرار الوجوه ، واحمرارها ، واسودادها ، التي بُنيت لهم ، عَمدوا إلى قتله عليه السلام فنجّاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ، وتقدّم في النمل ، ولمّا كان ضحوة اليوم الرابع تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع ، فأتتهم الصيحة ، فهلكوا ، كبيرهم وصغيرهم وهم ينظرون إليها ويُعاينونها جهراً ، { فما استطاعوا من قيامٍ } من هرب ، أو هو من قولهم : ما يقوم بهذا الأمر : إذا عجز عن دفعه . { وما كانوا منتصِرِين } ممتنعين من العذاب بغيرهم ، كما لم يمتنعوا بأنفهسم .
{ وقومَ نوح } أي : وأهلكنا قوم نوح؛ لأن ما قبله يدل عليه ، أو : واذكر قوم نوح ، ومَن قرأ بالجر فعطف على ثمود ، أي : وفي قوم نوح آية ، ويؤديه قراءة عبد الله " وفي قوم نوح " { مِن قبل } أي : قبل هؤلاء المذكورين ، { إِنهم كانوا قوماً فاسقين } خارجين عن الحدود بما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وإذاية نوح عليه السلام .
(6/152)

{ والسماء بَنَيْنَاها } من باب الاشتغال ، أي : بنينا السماء ، بنيناها { بأيدٍ } بقوة ، والأيد : القوة ، { وإِنا لمُوسِعون } لقادرين ، من الوسع ، وهو الطاقة ، والمُوسِع : القويُّ على الإنفاق ، أو : لموسعون بين السماء والأرض ، أو : لموسعون الأرزاق على مَن نشاء ، وهو تتميم كما تمّم ما بعده بقوله : { فَنِعْمَ الماهدون } لزيادة الامتنان .
{ والأرضَ فرشناها } بسطناها ومهّدناها؛ لتستقروا عليها ، { فنِعْمَ الماهدون } نحن . { ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجين } نوعين؛ ذكر وأنثى ، وقيل : متقابلين ، السماء والأرض والليل والنهار ، والشمس والقمر ، والبر والبحر ، الموت والحياة . قال الحسن : كل شيء زوج ، والله فرد لا مِثل له . { لعلكم تذكَّرون } أي : جعلنا ذلك كله ، من بناء السماء ، وفرش الأرض ، وخلق الأزواج ، لتذكَّروا ، وتعرفوا أنه خالق الكل ورازقهم ، وأنه المستحق للعبادة ، وأنه قادر على إعادة الجميع ، وتعملوا بمقتضاه . وبالله التوفيق .
الإشارة : وفي موسى القلب إذ أرسلناه إلى فرعون النفس ، بسلطانٍ ، أي : بتسلُّط وحجة ظاهرة ، لتتأدب وتتهذب ، فتولى فرعون النفس برُكنه ، وقوة هواه ، وقال لموسى القلب : ساحر أو مجنون ، حيث يأمرني بالخضوع والذل ، الذي يفرّ منه كلُّ عاقل ، طبعاً ، فأخذناه وجنوده من الهوى والجهل والغفلة ، فنبذناهم في اليمِّ في بحر الوحدة ، فلما غرقت في بحر العظمة ، ذابت وتلاشت ، ولم يبقَ لها ولا لجنودها أثر ، وهو - أي : فرعون النفس - مُليم : فَعل ما يُلام عليه من الميل إلى ما سوى الله قبل إلقائه في اليم .
وفي عادٍ ، وهي جند النفس وأوصاف البشرية ، من التكبُّر ، والحسد ، والحرص ، وغير ذلك ، إذ أرسلنا عليهم الريحَ العقيم؛ ريح المجاهدة والمكابدة . أو : ريح الواردات القهرية ، ما تذر من شيء من الأوصاف المذمومة إلا أهلكته ، وجعلته كالرميم . وفي ثمود ، وهم أهل الغفلة ، إذ قيل لهم : تمتعوا بدنياكم إلى حين زمان قليل؛ مدة عمركم القصير ، فعتوا : تكبّروا عن أمر ربهم ، وهو الزهد في الدنيا ، والخضوع لمَن يدعوهم إلى الله ، فأحذتهم صاعقة الموت على الغفلة والبطالة ، وهم لا ينظرون إلى ارتحالهم عما جمعوا ، فما استطاعوا من قيام ، حتى يدفعوا ما نزل بهم ، ولو افتدوا بالدنيا وما فيها ، وما كانوا ممتنعين من قهرية الموت ، فرحلوا بغير زاد ولا استعداد . وقوم نوح من قبل ، وهو مَن سلف من الأمم الغافلة ، إنهم كانوا قوماً فاسقين خارجين عن حضرتنا .
والسماء ، أي : سماء الأرواح ، بنيناها ورفعناها بأَيد ، ورفعنا إليها مَن أحببنا من عبادنا ، وإنا لمُوسعون على المتوجهين إلينا في المعارف والأنوار ، والعلوم والأسرار ، والأرض؛ وأرض النفوس ، فرشناها للعبودية ، والقيام بآداب الربوبية ، فنِعم الماهدون ، مهدنا الطريق لذوي التحقيق ، ومن كل شيء من تجليات الحق ، خلقنا ، أي : أظهرنا زوجين ، الحسن والمعنى ، الحكمة والقدرة ، الشريعة والحقيقة ، الفرق والجمع ، الملك والملكوت ، الأشباح والأرواح ، الذات والصفات ، فتجلى الحق جلّ جلاله بين هذين الضدين؛ ليبقى الكنز مدفوناً ، والسر مصوناً ، ولو تجلّى بضد واحد لبطلت الحكمة وتعطلت أسرار الربوبية ، فمَن لم يعرف الله تعالى في هذين الضدين ، لم يعرفه أبداً ، ومَن لم يُفرق بين هذين الضدين ، في هذه الأشياء المذكورة ، لم تنسج فكرته ، فصفاء الغزول هو التمييز بين هذين الضدين ، ذوقاً ، وبينهما تنسج الفكرة .
(6/153)

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
يقول الحق جلّ جلاله : { فَفِرُّوا إِلى الله } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر من شؤونه تعالى في إهلاك مَن تعدى الحدود ، ففِروا إلى الله بالإيمان والطاعة ، كي تنجوا من غضبه ، وتفوزوا بثواب ، أو : ففِرُّوا من الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، أو : من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن ، { إِني لكم منه نذير مبين } تعليل للأمر بالفرار إلأيه تعالى ، فإنَّ كونه صلى الله عليه وسلم منذراً منه تعالى ، لا من تلقاء نفسه ، موجب للفرار ، وفيه وعد كرمي بنجاتهم من الهروب ، وفوزهم بالمطلوب ، { ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر } هو نهي موجبٌ للفرار من سبب العقاب ، بعد الأمر بالفرار من نفس العقاب ، كما يُشعر به قوله تعالى : { إِني لكم منه } أي : من الجعل المنهي عنه { نذير مبين } كأنه قيل : ففرُّوا إلى الله من عقابه ، ومن سببه ، وهو جعلكم مع الله إلهاً آخر .
{ كذلك } أي : الأمر ما ذكر من تكذيبهم الرسول ، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً ، ثم فسر ما أجمل بقوله : { ما أتي الذين مِن قبلهم } من قبل قومك { مِن رسولٍ } من رسل الله { إلا قالوا } في حقه : هو { ساحرٌ أو مجنون } فرموهم بالسحر والجنون؛ لجهلهم ، { أتَواصَوا به } الضمير للقول ، أي : أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول ، حتى قالوه جميعاً متفقين عليه ، { بل هم قومً طاغون } أي : لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد ، بل جمعتهم العلة الواحدة ، وهي الطغيان ، { فتولَّ عنهم } أي : أعرِضْ عن الذين كرّرت عليهم الدعوة ، فلم يجيبوا عناداً ، { فما أنت بملومٍ } فلا لوم عليك في إعراضك بعدما بلّغت الرسالة ، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة . { وذَكِّرْ } وَعِظ بالقرآن { فإِنَّ الذكرى تنفعُ المؤمنين } الذي قدّر الله سبحانه وتعالى إيمانهم ، أو آمنوا بالفعل ، فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين والعلم . وبالله التوفيق .
الإشارة : الفرار إلى الله يكون من خمسة أشياء : من الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة بالتوبة ، ومن الغفلة إلى اليقظة بدوام الذكر ، ومن المقام مع العوائد والحظوظ إلى الزهد بالمجاهدة وخرق العوائد ، ومن شهود الحس إلى شهود المعنى ، وهو مقام الشهود . وفي القوت : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } الفَرْد ، { ففروا إلى الله } أي : من الأشكال والأضداد إلى الواحد الفرد . وفي البخاري : " معناه : من الله إليه " .
قال القشيري : ارجعوا إلى الله ، والإشارة إلى حالتين ، إما رغبة في شيء ، أو رهبة من شيء ، أو حالي خوف ورجاء ، أو طلب نفع أو دفع ضر ، وينبغي أن يفر من الجهل إلى العلم ، ومن الهوى إلى التقوى ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الشيطان إلى الله ، ومِن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته ، ومن وصفه الذي هو سخطه ، إلى وصفه الذي هو رحمته ، ومن نفسه ، حيث قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] إلى نفسه ، حيث قال : { ففروا إلى الله } . ه . ونقل الورتجبي عن الخراز ، فقال : أظهر معنى الربوبية والوحدانية ، بأن خلق الأزواج فتخلُص له الفردانية ، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع علة الفناء؛ دعا العباد إلى نفسه؛ لأنه الباقي ، وغيره فانٍ ، بقوله : { ففروا إلى الله } أي : ففروا مِن وجودكم ، ومِن الأشياء كلها ، إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه . ه .
(6/154)

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
يقول الحق جلّ جلاله : { وما خلقتُ الجنَّ والإِنس إِلا ليعبدون } أي : إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتي ، لا لنستعين بهم على شأن من شؤوني ، كما هي عادة السادات في كسب العبيد ، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش ، ويدلّ على هذا التأويل : قوله تعالى { وما أريد منهم من رزق . . . } الخ ، قال ابن المنير ، إلا لأمرهم بعبادته ، لا لطلب رزقٍ لأنفسهم ، ولا إطعام لي ، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم ، بل الله هو الذي يرزق ، وإنما على عباده العبادة له؛ لأنهم مُكلَّفون ، ابتلاءً وامتحاناً ، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها ، لقوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } [ الأعراف : 179 ] . ه . وقيل المعنى : ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة ، متمكنين منها أتم استعداد ، وأكمل تمكُّن ، فمنهم مَن أطاع ، ومنهم مَن كفر ، وهو كقولهم : البقرة مخلوقة للحرث ، أي : قابلة لذلك ، وقد يكون فيها مَن لا يحرث . والحاصل : أنه لا يلزم من كون الشيء مُعدّاً لشيءٍ أن يقع منه جميع ذلك .
أو : ما خلقتهم إلا ليتذللوا لي ، ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع ، وهذا عام في الكل ، طوعاً أو كرهاً؛ إذ كل ما خلق مُنقاد لقدرته وقهريته ، عابد له بهذا المعنى . وفي البخاري : وما خلقت أهل السعادة من الفريقين إلا ليُوحِّدون . وقال بعضهم : خلقهم ليفْعلوا ، ففعل بعضٌ وترك بعضٌ . وليس فيه حجة لأهل القدر . ه . منه ، والمراد بأهل القدر : المعتزلة ، القائلون بأن الله تعالى لم يُرد الكفر والمعاصي ، وهو باطل ، وسيأتي في الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله .
{ ما أُريد منهم من رزقٍ } أي : ما خلقتهم ليَرزقوا أنفسهم ، أو واحداً من عبادي ، { وما أُريد أن يُطعمون } قال ثعلب : أن يُطعموا عبادي ، وهو إضافة تخصيص ، كقوله عليه السلام : " مَن أكرم مؤمناً فقد أكرمني ومَن آذى مؤمناً فقد آذاني " ، والحاصل : أنه تعالى بيَّن أن شأنه مع عباده متعالياً عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم ، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم ، وتهيئة أرزاقهم ، أي : ما أريد أن أصرفهم في تحصيل رزقي ولا رزقهم ، بل أتفضّل عليهم برزقهم ، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندي ، فليشتغلوا بما خُلقوا له من عبادتي .
{ إِنَّ الله هو الرزَّاق } أي : يرزق كل مَن يفتقر إلى الرزق ، وفيه تلويح بأنه غني عنه ، { ذو القوة } ذو الاقتدار ، { المتينُ } أي : الشديد الصلب . وقرأ الأعمش " المتِين " بالجر ، نعت للقوة ، أي : ذو القوة المتينة ، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار .
{ فإِنَّ للذين ظلموا } أنفسهم ، بتعريضها للعذاب ، حيث كذّبوا الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، أو : وضعوا التكذيب مكان التصديق ، وهم أهل مكة ، { ذنوباً } أي : نصيباً وافراً من العذاب ، { مثل ذنوب أصحابهم } مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية .
(6/155)

قال الزجاج : الذَنوب في اللغة ، النصيب ، مأخوذ من مقاسمة السُقاة الماءَ بالذنوب ، وهو الدلو العظيم المملوء . { فلا يستعجلون } ذلك النصيب ، فإنه لاحق بهم ، وهذا جواب النضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب .
{ فويلٌ للذين كفروا } وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالكفر ، أي : فويلٌ لهم { من يومهِمُ الذي يُوعَدون } أي : من يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والأول أنسب لما في صدر السورة الآتية .
الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - إنما بعث الرسلَ بإظهار الشرائع ، ليحوّشوا العباد إلى الله ، ويدعوهم إليه كافة ، ويأمروهم بالتبتُّل والانقطاع ، من غير التفات لمَن سبق له السعادة والشقاء؛ لأن ذلك من سر القدر ، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه في حالة الدعوة ، فقوله تعالى : { وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون } هذا ما يمكن الأمر به في ظاهر الأمر ، ويُؤمر بإظهاره في حالة الدعوة ، وكون الحق الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة ، وسر القدر لا يقدح في عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر؛ لأنه من قبيل الحقيقة ، وما جاءت الرسل إلا بالشريعة ، فالدعاة إلى الله يُعممون الدعوة ، ويُحرِّضون على التبتُّل والأنقطاع إلى الله ، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة . وقال الورتجبي : عن جعفر الصادق { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أي : ليعرفوني . ه . ومداره قوله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه عن رب العزة : " كنت كنزاً مخيفاً لم أُعرف ، فأحببتُ أن أُعرف ، فخلقت الخلق لأُعرف " أي : ما أظهرت الخلق إلا لأُعرف بهم ، فتجليت بهم في قوالب العبودية ، لتظهر ربوبيتي في قوالب العبودية ، فتظهر قدرتي وحكمتي ، فسبحان الحكيم العليم .
قال أبو السعود : ولعل السر في التعبير عن المعرفة بالعبادة للتبيه على أن المعتَبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ، لا ما يحصل بغيرها ، كمعرفة الفلاسفة . ه . قلت : وكل معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها ، بل هي زندقة أو دعوى . وبالله التوفيق .
وقوله تعالى : { إِن الله هو الرزّاقُ ذو القوة المتين } هذه الآية وأمثالها هي التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدِّيقين ، حتى حصل لهم اليقين الكبير ، فسكنت نفوسُهم ، واطمأنت قلوبهم ، فهم في روح وريحان . والأحاديث في ضمان الرزق كثيرة ، وأقوال السلف كذلك ، وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى الله عليه وسلم قال : " لو فَرَّ أحدُكم من رِزْقه لتبعه كما يَتْبعه الموتُ " وقال أيضاً عن الله عزّ وجل : " يقول : " يا ابن آدم تفرَّغْ لعبادتي ، املأ صدرك غِنىً ، وأسُد فقرك ، وإلا تفعل موت يدك شُغلاً " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَن كانت الآخرة هَمَّه ، جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شَمْلَه ، وأتته الدنيا وهي صاغرة ، ومَن كانت الدنيا همه؛ جعل الله فقرّه بين عينيه ، وفرَّق عليه شملَه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له " .
(6/156)

وقال المحاسبي : قلت لشيخنا : من أين وقع الاضطراب في القلوب ، وقد جاء الضمان من الله عزّ وجل؟ قال : من وجهين : من قلة المعرفة وقلة حسن الظن . ثم قال : قلت : شيء غيره؟ قال : نعم ، إن الله عزّ وجل وَعَدَ الأرزاق وضمِنها ، وغيّب الأوقات ، ليختبر أهل العقول ، ولولا ذلك لكان كل المؤمنين راضين ، صابرين ، متوكلين ، لكن الله - عزّ وجل - أعلمهم أنه رازقهم ، وحلف لهم ، وغيّب عنهم أوقات العطاء ، فمِن هنا عُرف الخاص من العام ، وتفاوت العباد ، فمنهم ساكن ، ومنهم متحرك ، ومنهم ساخط ، ومنهم جازع ، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة تفاوتوا في اليقين . ه . مختصراً . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/157)

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
يقول الحق جلّ جلاله : { والطورِ } هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بمَدين ، { وكتابٍ مسطور } وهو القرآن العظيم ، ونكّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب ، أو : اللوح المحفوظ ، أو : التوراة ، كتبه الله لموسى ، وهو يسمع صرير القلم ، { في رَقٍّ منشور } الرَق : الجلد الذي يُكتب فيه ، والمراد : الصحيفة ، وتنكيره للتخفيم والإشعار بأنها ليست مما يتعارفه الناس ، والمنشور : المفتوح لا ختم عليه ، أو : الظاهر للناس ، { والبيت المعمور } وهو بيت في السماء السابعة ، حِيَال الكعبة ، ويقال له : الضُراح ، وعُمرانه بكثرة زواره من الملائكة ، رُوي : أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، يطوفون به ، ويخرجون ، ومَن دخله لا يعود إليه أبداً ، وخازنه ملَك يُقال له : " رَزين " . وقيل الكعبة ، وعمارته بالحجاج والعُمَّار والمجاورين .
{ والسقفِ المرفوع } أي : السماء ، أو : العرش ، { والبحر المسجُورٍ } أي : المملوء ، وهو البحر المحيط ، أو الموقد ، من قوله تعالى : { وَإِذَا الْبِحَارُ سًجِّرَت } [ التكوير : 6 ] والمراد الجنس ، رُوي " أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة ناراً ، تسجر بها نار جهنم ، كما يسجر التنوير بالحطب " وعن ابن عباس : المسجور : المحبوس ، أي : المُلْجَم بالقدرة . والواو الأولى للقسم ، والتوالي للعطف ، والمقسم عليه : { إِنَّ عذاب ربك لواقعٌ } لنازل حتماً ، { ما له من دافع } أي : لا يمنعه مانع ، والجملة : صفة لواقع ، أي : وقع غير مدفوع . و " من " مزيدة للتأكيد ، وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها؛ لأنها أمور عظام ، تُنبئ عن عِظم قدرة الله تعالى ، وكمال علمه ، وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل أعمال العباد ، وضطبها ، الشاهدة بصدق أخباره ، التي من جملتها : الجملة المُقسَم عليها .
الإشارة : أقسم الله تعالى بجبل العقل ، الذي أرسى به النفس أن تميل إلى ما فيه هلاكها ، وبما كتب في قلوب أوليائه من اليقين ، والعلوم ، والأسرار ، قال تعالى : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإِيمانُ } [ المجادلة : 22 ] وذلك حين رقَّت وَصَفَت من الإغيار ، ثم أقسم أيضاً بذلك القلب ، وهو البيت المعمور؛ لأن القلب بيت الرب ، " يا داوود طَهرّ بيتاً أَسْكُنه . . . " الحديث ، وهو معمور بالمعارف والأنوار ، وأقسم بسماء الأرواح المرفوعة عن خوض عالم الأشباح ، وهو سقف بيت القلب ، وبحر الأحدية الذي عمر كلَّ شيء ، وأحاط بكل شيء ، وأفنى كلَّ شيء ، فالوجود كله بحر متصل ، أوله وآخره ، وظاهره وباطنه . إنَّ عذاب ربك لأهل العذاب ، وهم أهل الحجاب ، لواقع ، وأعظم العذاب : غم الحجاب وسوء الحساب ، ومن دعاء السري السقطي : اللهم مهما عذبتني فلا تعذبني بذل الحجاب . اه . ماله من دافع؛ لا يدفعه أحد من الخلق ، إلا مَن رحم الله ، أو : مَن أهّله الله لذلك من أهل التربية النبوية .
(6/158)

يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر { يومَ تَمورُ } أو : لواقع يوم تمور { السماءُ } أي : تدور كالرحى مضطربة { موراً } عظيماً تتكفأ بأهلها كالسفينة ، { وتسير الجبالُ سيراً } أي : تزول عن وجه الأرض ، فتصير في الهواء كالهباء . وتأكيد الفعل بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة ، أي : مَوراً عجيباً وسيراً بديعاً ، لا يُدرك كنههما . { فويل يومئذٍ للمكذبين } إذا وقع ذلك ، أو : إذا كان الأمر كما ذكر ، فويل لهم إذا وقع ذلك ، أو : إذا كان الأمر كما ذكر ، فويل لهم إذا وقع ذلك ، { الذين هم في خوضٍ } أي : في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب { يلعبون } . يلهون ، فالخوض غلب بإطلاقه في الاندفاع في الباطل والكذب ، ومنه قوله : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَآئِضِينَ } [ المدثر : 45 ] . { يوم يُدَعُّون إِلى نار جهنم دعّاً } أي : يُدفعون إليها دفعاً عنيفاً شديداً ، بأن تُغلّ أيديهم إلى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، فيُدفعون إلى النار على وجوههم ، ويقال لهم : { هذه النارُ التي كنتم بها تُكّذِّبون } في الدنيا .
{ أَفَسِحْرٌ هذا } توبيخ وتقريع لهم ، حيث كانوا يُسمون الوحي الناطق بذلك العذاب سحراً ، كأنه قيل : كنتم تقولون للقرآن الناطق بهذا سحراً ، أفهذا أيضاً سحر؟ وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ . { أم أنتم لا تُبصرون } أم أنتم عُميٌ عن المخبر عنه ، كما كنتم عُمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكُّم ، { اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا } أي : ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه ، { سواءٌ عليكم } الأمران : الصبر وعدمه ، ف " سواء " : مبتدأ حُذف خبره . وعلل استواء الصبر وعدمه بقوله : { إِنما تُجْزون ما كنتم تعملون } من الكفر والمعاصي ، فالصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة؛ بأن يُجازى عليه الصابر جزاءَ الخير ، وأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزيّة له على الجزع . نعوذ بالله من موارد الهوان .
الإشارة : يوم تمور سماء الأرواح ، أي : تتحرك الأرواح وتهيج بالواردات الإلهية ، شوقاً إلى اللقاء ، فإذا حصل اللقاء وقع لها السكون والطمأنينة ، ولذلك قيل : " المحبة أولها جنون ، ووسطها فنون ، وآخرها سكون " . وسبب هذا الاضطراب الذي يظهر على المريد في أول بدايته : أنَّ جند الأنوار إذا أراد أن يدخل على جند الأغيار ، ويُخرجه من وطنه - الذي هو باطن العبد - وقع بينهما تجارب وتضارب ، فجند الأنوار يريد أن يقلع جند الأغيار من باطن العبد ، ويسكن هو ، وجند الأغيار يريد المقام في وطنه ، فلا يزال القتال بينهما ، حتى يغلب واحد منهما ، فإذا غلب جند الأنوار سكن في الباطن ، وسكن الظاهر ، ولم تقع فكرة العبد إلا في التوحيد ، أو ما يقرب إلى الحق تعالى ، وإذا غلب جند الأغيار ، ولم يترك جند الأنوار يدخل إلى الباطل ، سكن الظاهر أيضاً ، ويبقى باطن البعد محشوّاً بالخواطر والوساوس الدنيوية كما كان ، ورجع العبد إلى مقام العمومية .
(6/159)

وقوله تعالى : { وتسير الجبال سيراً } أي : تزول جبال وجود العبد عند إشراق أنوار الحقائق ، { فويل يومئذ للمكذِّبين } أي : بُعْدٌ لأهل الإنكار عن حضرة الأسرار ، حين ظفر الطالب بالمطلوب ، ووصل المحب إلى المحبوب ، الذين هم في خوض الدنيا وشهواتها وزخارفها يلعبون ، لا حديث لهم إلا عليها ، ولا فكرة إلا فيها . يوم يُدَعّون إلى النار القطيعة والبُعد ، دعّاً ، لا خلاص منها ، ولا رجوع ، فتناديهم عزةُ الحق تعالى : { هذه النار التي كنتم بها تُكذِّبون } وتقولون : لا يقطعنا عن الله شيء من الدنيا ، وترمون أهلَ التربية بالسحر ، أفسحر هذا أم أنتم لا تُبصرون حقائق هذه المعاني؟ اصْلَوا نار القطيعة ، فاصبروا على غم الحجاب ، { أو لا تصبروا } إذ لم تصبروا على مخالفة النفوس حين ينفعكم الصبر ، سواء عليكم أجزعتم أم صبرتم ، { إنما تُجْزَون ما كنتم تعملون } في الدنيا ، من إيثار الهوى والحظوظ ، على مجاهدة النفوس .
(6/160)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ المتقين } الشرك والمعاصي { في جناتٍ } عظيمة { ونعيمٍ } أيّ نعيم ، فالتنكير للتفخيم ، أو : للتنوع ، أي : جناتٍ مخصوصة بهم ، ونعيمٍ مخصوص ، { فاكهين } ناعمين متلذذين { بما آتاهم ربُّهم } بما أتحفهم ، { ووقاهم رَبُّهم عذابَ الجحيم } عطف على " آتاهم " على أن " ما " مصدرية ، أي : فاكهين بإتياهنم وبوقايتهم ، أو : على " في جنات النعيم " أي : استقروا في جنات ووقاهم ، أو : حال ، إما من المستكن في الخبر ، أو : من فاعل " آتى " ، أو : مفعوله بإضمار " قد " . وإظهار الرب في موضع الإضمار مضافاً إلى ضمير { هم } لتشريفهم ، ويُقال لهم : { كُلوا واشربوا } ما شئتم { هنيئاً } أي : أكلاً وشرباً هنيئاً ، أو : طعاماً وشراباً هنيئاً ، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته ، { بما كنتم } أي : عوض ما كنتم { تعملون } في الدنيا من الخير ، أو جزاءه .
{ متكئين على سُررٍ مصفوفةٍ } مصطفة ، وهو حال من الضمير في { كلوا واشربوا } ، { وزوَّجناهم } أي : قرنّاهم { بحُورٍ } جمع حوراء { عينٍ } : جمع عيناء ، أي : عظام الأعين حِسانها . وفي الكشّاف : وإنما دخلت الباء في { بِحُورٍ } لتضمن معنى زوجناهم قرناهم . ه . وقال الهروي : { زوَّجناهم } أي : قرناهم ، والأزواج : الأشكال والقرناء ، وليس في الجنة تزويج . ه . والمنفي : تحمل مؤنة التزويج والمعاقدة ، وإنما يقع التمليك والإقران .
{ والذين آمنوا } مبتدأ ، { واتَّبعتهم ذريتُهم } عطف على { آمنوا } ، و { بإِيمان } متعلق بالاتباع ، والخبر : { ألحقنا بهم ذرياتهم } أي : تلحق الأولاد بدرجات الآباء؛ إذ شاركوهم في الإيمان ، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء ، وكذلك الآباء تلحق بدرجة الأبناء؛ لتقرّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم ببعض ، إذا اجتمعوا في الإيمان من غير أن ينقص أجر مَنْ هو أحسن عملاً شيئاً ، بزيادته في درجة الأنقص ، ولا فرق بين مَنْ بلغ مِن الذرية ، أو لم يبلغ ، إذا كان الآباء مؤمنين . انظر الثعلبي .
وفي حديث ابن عباس : " إذا دخل أهلُ الجنة الجنة ، يسأل الرجلُ عن أبويه ، وزوجته ، وولده ، فيُقال : إنهم لم يُدركوا ما أدركتَ ، فيقول : لقد عملتُ لي ولهم أجمعين ، فيؤمر بإلحاقهم به " قال القشيري : ليكمل عليهم سرورهم بذلك؛ فإنّ الانفراد بالنعمة والقلب مشتغل بالأهل والذرية ينغص العيش ، وكذلك مَن يلاحظ قلباً من صديق وقريب ووليّ وخادم ، قال تعالى في قصة يوسف : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } [ يوسف : 93 ] . ه .
قال في الحاشية : وربما يستأنس بما ذُكر في الجملة بقوله : { وَمَن يُطِعِ اللَّهِ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم . . . } [ النساء : 69 ] الآية ، وما قيل في سبب نزولها ، وكذلك حديث : " المرء مع مَن أحب " ، وحال الجنة مما لا يخطر على بال ، فيجوز أن يكون الأدنى مع الأعلى بمنازلته معه ، مع مباينته له بحقيقته ، كما أنّ حَيطة الحق تعالى شاملة للكل ، وكل يتعرّف له على قدره ، فالكل معه بمطلق التعرُّف ، مع تحقُّق التفاوت ، وأهل الجنة فيها على حكم الأرواح ، وأحكامها لا تكيف ، واعتبر بالفروع مع الأصول ، مع تفاوتها .
(6/161)

والله أعلم . ه .
والحاصل : أنهم يلحقون بهم في الطبقة ، ويتفاوتون في نعيم الأرواح والأشباح ، وفي الرؤية والزيادة . والله تعالى أعلم .
{ وما أَلتناهم } أي : ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق { مِن عملهم } من ثواب عملهم { من شيءٍ } بأن أعطينا بعض مثوباتهم لأبنائهم ، فتنقص مثوبتهم ، وتنحط درجتهم ، وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضُّل والإحسان . والألت : البخس . وقرأ المكي : ( أَلِتناهم ) بكسر اللام ، من : ألِت يألَت ، كعلم يعلم ، و " مِن " الأولى متعلقة ب " ألتناهم " ، والثانية زائدة لتأكيد النفي . { كُلُّ امرئ بما كسب رهينٌ } أي : كل امرئ مرهون عند الله بعمله ، فإن كان صالحاً فله ، وإلا أهلكه . والجملة : استئناف بياني ، كأنه لمّا قال : ما نقصناهم من عملهم شيئاً نعطيه الأبناء حتى يلحقو بهم على سبيل التفضُّل ، قيل : لِمَ كان الإلحاق تفضُّلاً؟ قال : لأن كل امرىءٍ بما كسب رهين ، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بسببه بهم ، فأُلحقوا تفضُّلاً .
{ وأمددناهم } أي : وزوّدناهم في وقت بعد وقت { بفاكهةٍ ولحم مما يشتهون } من فنون النعماء وألوان اللآلئ ، وإن لم يطلبوا ذلك . { يتنازعون فيها كأساً } أي : يتعاطون ويتعاورون هم وجلساؤهم من أقربائهم كأساً فيها خمر ، يتناول هذا الكأسَ من يد هذا ، وهذا من يد هذا ، بكمال رغبة واشتياق ، { لا لغوٌ فيها } أي : في شربها ، فلا يتكلمون في أثناء الشراب إلا بكلام طيب ، فلا يجري بينهم باطل ، { ولا تأثيمٌ } أي : لا يفعلون ما يُوجب إثماً لصاحبه لو فعله في دار التكليف ، كما هو شأن المُنادمين في الدنيا ، وإنما يتكلمون بالحِكَم واحاسِن الكلام ، ويفعلون ما يفعله الكرام .
قال القشيري : { لا لغوٌ فيها ولا تأثيم } لا يجري بينهم باطل ولا ما فيه لوم ، كما يجري من الشَّرْب اليوم في الدنيا ، ولا تذهب عقولهم ، فيجري بينهم ما يُخرج عن حدّ الأدب والاستقامة ، وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ، على المعلوم مَن يسقيهم بمشهد من مجلوسهم ، وعلى رؤية من شربهم ، والقوم عن الدار وعن ما فيها مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم ، فالشراب يؤنسهم ، ولكن لا يمر بحاستهم . ه .
وقرأ المكي والبصري بالفتح فيها على إعمال " لا " النافية للجنس .
الإشارة : إنَّ المتقين ما سوى الله في جنات المعارف عاجلاً ، وجنات الزخارف والمعارف آجلاً ، ونعيم المشاهدات والمكاشفات والمناجاة ، فاكهين ، معجبين ، متلذذين بما آتاهم ربهم من أصناف ألطافه ، وتقريبه ، ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم ، أي : نار شهوة نفوسهم ، فبردت عنهم ، وسَلِموا منها ، كُلوا من طعام المشاهدات ، واشربوا من أمداد الزيادات والترقيات ، هنيئاً بما كنتم تعملون من المجاهدات والمكابدات ، متكئين على سُرر المقامات ، والدرجات ، مصفوفة في منازل العبودية ، وزوجناهم بحُورٍ عين من أبكار الحقائق ، وثيبات العلوم ، والذين آمنوا بهذه الطريق وسلكوها ، واتبعتهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم من طلاب الحق ، ألحقنا بهم ذريتهم ومَنْ تعلق بهم ، وإن لم يبلغوا صفاء مشربهم من الوصال والاتصال ، فيكونون معهم في الدرجة ، مع تفاوتهم في نعيم المشاهدة ، وما ألتناهم من عملهم من شيء ، بل ألحقناهم بهم فضلاً وكرماً ، مع توفُّر ثواب عمل الملحق بهم ، كل امرئ بما كسب رهين ، لا يزيد نعيم روحه على سعيه في الدنيا ومجاهدته ، وإن تساوى في الدرجة مع غيره .
(6/162)

وأمددناهم بفاكهةٍ من حلاوة المعاملة ، ولحم مما يشتهون من لذائذ المشاهدة ، يتنازعون فيها؛ في جنة المعارف ، كأس خمر المحبةً والفناء ، فيفنون عن وجودهم في شهود محبوبهم . يتناولون ذلك من أشياخهم واحداً بعد واحد ، وقد يجتمعون في كأس واحدة ، لا لغو فيها ، أي : لا حديث للنفس في حال شربها ، بل الهم كله مجموع يها ، كما قال القائل :
وإذا جلستَ إلى المُدام وشُربِه ... فاجعلْ حديثكَ كلّه في الكأس
فالخمرة التي يشوبها شيء من حديث النفْس ليس بصافية من الأكدار . ولا تأثيم بنزوع الروح إلى طبع النفس ، وإذا نزلت إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، بل تكون في ذلك بالله ، ومن الله ، وإلى الله ، تنزل بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين ، جلعنا الله من ذلك القبيل بمنّه وكرمه .
وقال الورتجبي : { يتنازعون . . . } الآية : وصفهم الله في شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القُربة ، ثم وصف شرابَهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة في السُكْر ، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة ، وما يتكلم به سكارى المعرفة في الدنيا عند الخلق ، ولا يشابِهُ حالُ أهل الحضرة حالَ أهل الدنيا من جميع المعاني . ه .
(6/163)

وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
يقول الحق جلّ جلاله : { ويطوفُ عليهم } أي : بالكأس أو : في شأن الخدمة كلها { غِلْمانٌ لهم } أي : مماليك مخصصون بهم ، قيل : أولاد الكفار الذين ماتوا صِغاراً ، وقيل : تُوجدهم القدرةُ من الغيب ، وفي الحديث : " إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يُنادِي الخادِمَ مِن خدامه ، فيجيبه ألفٌ ، كلهم يُناديه : لبيك لبيك " قلت : هذا في مقام أهل اليمين ، وأما المقربون فإذا اهتمُّوا بشيء حضر ، بغلامٍ أو بغير غلام ، من غير احتياج إلى نداء ، وقال ابن عمر رضي الله عنه : ( ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه ) . { كأنهم } من بياضهم وصفائهم { لؤلؤٌ مكنون } مصوف في الصدف؛ لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى ، أو مخزون؛ لأنه لا يخزن إلا الثِمن الغالي القيمة . قيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم " .
{ وأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون } يسأل بعضُهم بعضاً عن أحواله وأعماله ، وما استحق به نيل ما عند الله ، فكل بعض سائر ومسؤول . { قالوا } أي : المسؤولون في جوابهم ، وهم كل واحد منهم في الحقيقة : { قالوا } أي : المسؤولون في جوابهم ، وهم كل واحد منهم في الحقيقة : { إِنَّا كنا قبلُ في أهلنا } أي : في الدنيا { مُشفقين } أرِقَّاء القلوب من خشية الله ، أو : خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو : من ردّ الحسنات وأخذ بالسيئات ، أو : واجلين من العاقبة ، { فمنَّ اللّهُ علينا } بالمغفرة والرحمة { ووقانا عذابَ السَّموم } وهي الريح الحارة ، التي تدخل المسامّ ، فسمّيت بها نار جهنم؛ لأنها بهذه الصفة . { إِنَّا كنا قَبلُ } أي : من قبل لقاء الله والمصير إليه - يعنون : في الدنيا : { نَدْعُوه } نعبده ولا نعبد غيره ، أو نسأله الوقاية ، { إِنه هو البَرُّ } المحسن { الرحيمُ } الكثير الرحمة ، الذي إذا عُبد أثاب ، وإذا سُئل أجاب ، وقرأ نافع والكسائي بالفتح ، أي : لأنه ، أو بأنه .
الإشارة : ويطوف على قلوبهم علومٌ وهبية ، وحِكَمٌ غيبية ، تزهو على اليواقيت المكنونة . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون : كيف سلكوا طريق الوصول ، وكيف كانت مجاهدة كل واحد ومسيره إلى الله ، إما تحدُّثاً بالنعم ، أو : للاقتداء بهم ، وفي الحِكَم : " عبارتهم إما لفيضان وَجدٍ أو : لهداية مريد " . إنَّا كنا قبلُ الوصول في أهلنا ، أي : في عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرجوع ، خائفين من سَموم صفات البهيمية والشيطانية ، والشهوات الدنيوية ، فإنها تهب بسموم قهر الحق ، قهر بها جُلّ عباده فانقطعوا عنه ، فمنَّ الله علينا ، ووصلنا بما منه إلينا ، لا بما منا إليه ، ووقانا عذاب السموم ، وهو الحرص والجزع ، والانقطاع عن الحبيب ، ولولا فضله ما تخلّصنا منه ، إنّا كنا من قبل الوصول ندعوه أن يأخذ بأيدينا ، ويجذبنا إلى حضرته ، ويرحمنا بالوصول ، ويبرّ بنا ، إنه هو البر بمزيده ، الرحيم بمَن يُنيب إليه .
(6/164)

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
يقول الحق جلّ جلاله : { فذكِّرْ } أي : فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم ، { فما أنت بنعمتِ ربك } أي : بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل { بكاهنٍ ولا مجنونٍ } كما زعموا ، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون ، { أم يقولون شاعرٌ نتربصُ به رَيْبَ المَنونِ } أي : حوادث الدهر ، أي : ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله ، زهير والنابغة . و " أم " في هذه الآي منقطعة بمعنى " بل " . { قل تربصوا فإِني معكم من المتربصين } أتربّص هلاككم ، كما تتربصون هلاكي . وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم ، وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته ، أو ما عنده ، لا يموت إلا قبله .
{ أم تأمرهم أحلامُهم } أي : عقولهم { بهذا } التناقض في المقالات ، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور ، والمجنون مُغطى عقله ، مختل فكره ، والشاعر يقول ما لا يفعل ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد؟ وكانت قريش يُدْعَون أهل الأحلام والنُهي ، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة ، { أم هم قوم طاغُون } يجُازون الحدودَ في المكابرة والعناد ، ولا يحومون حول الرشد والسداد . وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز .
{ أم يقولون تَقوَّله } اختلقته من تلقاء نفسه ، { بل لا يؤمنون } ردّ عليهم ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل ، التي لا يخفى بطلانها على أحد ، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم ، { فليأتوا بحديثٍ مِثْلِه } أي : مثل القرآن في البلاغة والإعجاز { إِن كانوا صادقين } في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه؛ لأنه بلغاتهم ، وهم فصحاء ، مشاركون له صلى الله عليه وسلم في العربية والبلاغة ، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المقاولة للنظم والثر ، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم .
{ أم خُلقوا من غير شيءٍ } أي : أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع ، الذي عليه فطرتهم ، من غير محدث ومقدّر . أو : أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة ، بأن خُلقوا عبثاً ، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ { أم هم الخالقون } المُوجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور ، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها ، { أم خَلقوا السماوات والأرض } فلا يعبدون خالقِهما { بل لا يُوقنون } لا يتدبرون في الآيات ، فيعلمون خالقهم ، وخالق السموات والأرض ، فيُفردونه بالعبادة .
{ أم عندهم خزائنُ ربك } من النبوة والرزق وغيرهما ، فيخصُّوا بما شاؤوا مَن شاؤوا ، { أم هم المصَيْطِرون } أي : الأرباب الغالبون ، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاؤوا ، حتى يُدبروا أمر الربوبية ، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم .
(6/165)

وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل .
{ أم لهم سُلَّمٌ } منصوب يرتقون به إلى السماء ، { يستمعون فيه } كلامَ الملائكة ، وما يُوحى إليهم من علم الغيب ، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق ، وما عليه غيرهم باطل ، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب ، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى الله عليه وسلم قبلهم ، وانفرادهم بالرئاسة . و " في " : سببية ، أي : يستمعون بسبب حصولهم فيه ، أو : ضمّن " يستمعون " يعرجون . وقال الزجاج : { يستمعون فيه } أي : عليه ، { فليأت مُستمعهم بسلطانٍ مبين } بحجة واضحة ، تصدق استماع مستمعهم .
ثم سفَّه أحلامهم بقوله : { أم له البناتُ ولكم البنونَ } حيث اختاروا لله ما يكروهون وهم حكماء في زعمهم ، { أم تسألُهم أجراً } على التبليغ والإنذار { فهم } لأجل ذلك { من مَغْرَم مُثقلون } أي : من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل ، فلذلك لا يتبعونك . والمغرم : أن يُلزم الإنسان ما ليس عليه . { أم عندهم الغيبُ } أي : اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه الغيوب ، { فهم يكتبون } ما فيه ، حتى يتكلمون في ذلك بنفي أو إثبات .
{ أم يُريدون كيداً } هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، { فالذين كفروا } وهم المذكورون ، ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، أي : ف { هم المكِيدُونَ } الذين يحيق بهم كيدّهم ، ويعود عليه وبالُه ، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره . { أَم لهم إِلهٌ غيرُ الله } يمنعهم من عذابه ، { سبحان الله عما يُشركون } أي : تنزيهاً له عن إشراكهم ، أو : عن شركة ما يُشركونه به . وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات : أحد عشر ، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة ، وثلاثة في جانب الربوبية ، وهو قوله : { أم خُلقوا من غير شيء } ، { أم خَلقوا السماوات والأرض } ، { أم لهم إله غير الله } ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي : كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي ، فاصبر حتى نأخذهم .
الإشارة : فذكِّر أيها الخليفة للرسول ، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ ، وإن رموك بشيء من ذلك . قال القشيري : قد علموا أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون ، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء ، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه ، بما يعلم أنه بريء مما يقوله . ه . وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية ، سُنَّة ماضية . قال القشيري : طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين ، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد ، على قانون الشريعة ، ومتابعة الرسول عليه السلام وخلفائه ، وهم العلماء الربانيون ، الراسخون في العلم بالله ، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان ، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب ، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة ، والانقطاع عن الخلق ، والتبتُّل إلى الله ، وطلب الأمن .
(6/166)

كتب الله في قلوبهم الإيمان ، وأيَّدهم بروح منه ، وهو الصدق في الطلب ، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر { يُحبهم ويُحبونه } وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . ه . مختصراً .
وقوله تعالى : { قل تربصوا . . . } الآية ، قال القشيري : ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد ، لتنتهي النوبة إليه ، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه ، ولا يدرك ما تمناه . ه . وقال في مختصره : الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور ، ودعوة الخلق إلى الله ، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده ، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين . ه . وقوله : { أم تأمرهم أحلامُهم بهذا } . . . إلى قوله : { عما يشركون } هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية في كل زمان ، وهي تدلّ على غاية حمقهم وسفههم ، نجانا الله من جميع ذلك .
(6/167)

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
يقول الحق جلّ جلاله : { وإِن يَرَوا كِسْفاً } قطعة { من السماء ساقطاً } عليهم لتعذيبهم ، { يقولوا } من فرط طغيانهم وعنادهم : هذا { سَحَابٌ مركومٌ } أي : تَرَاكَم بعضها على بعض لمطرنا ، ولم يُصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم ، يعني : أنهم بلغوا في الطغيان بحث لو أسقطناه عليهم حسبنا قالوا : { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [ الإسراء : 92 ] لعاندوا وقالوا سحاب مركوم . { فذرهم حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } ، وهو اليوم الذي صُعقوا فيه بالتقل يوم بدر ، لا عند النفخة الأولى ، كما قيل؛ إذ لا يصعق بها إلا مَن كان حيّاً حينئذ . وقرأ عاصم والشامي بضم الياء ، يقال : صعقه ، فصُعق ، أو : من أصعقه .
{ يوم لا يُغني عنهم كيدُهم شيئاً } من الإغناء ، بدل من " يومهم " ولا يخفى أن التعرُّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له في الانتفاع به ، وليس ذلك إلا ما دبّروه في أمره صلى الله عليه وسلم من الكيد يوم بدر ، من مناشبتهم القتال ، وقصد قتله خفية ، وليس يجري في نفخة الصعق شيء من الكيد والحيل ، فلا يليق حمله عليه . { ولا هم يُنصرون } من جهة الغير في دفع العذاب عنهم .
{ وإِنَّ للذين ظلموا } أي : لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم ، أي : وإنَّ لهؤلاء الظلمة { عذاباً } آخر { دون ذلك } دون ما لاقوه من القتل ، أي : قبله ، وهو القحط الذي أصابهم ، حتى أكلوا الجلود الميتة . أو : وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك ، أي : وراءه ، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة . { ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون } أن الأمر كما ذكر ، وفيه إشارة إلى أن فيهم مَن يعلم ذلك ، وإنما يصر على ذلك عناداً : أو لا يعلمون شيئاً أصلاً؛ إذ هم جاهلية جهلاء .
الإشارة : أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات ، أو الحسد يُغطي نور البصيرة ، فذرهم في غفلتهم وحيرتهم ، وكثافة حجابهم ، حتى يُصعقوا بالموت؛ فيعرفون الحق ، حين لا تنفع المعرفة فيقع الندم والتحسُّر ، وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك ، وهو عيشهم في الدنيا عيش ضنك في هَم وغم وجزع وهلع ، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ذلك؛ لأنهم لا يرون إلا مَن هو مثلهم . ومَن توسعت دائرة معرفته ، فعاش في روح وريحان ، فهو غائب عنهم ، لا يعرفون مقامه ، ولا منزلته .
(6/168)

وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
يقول الحق جلّ جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمَن كان على قدمه : { واصبرْ لحُكم ربك } بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم ، أو : واصبر لِمَا حكم به عليك من شدائد الوقت ، وإذاية الخلق ، { فإِنك بأعيُننا } أي : حفظنا وحمايتنا ، بحيث نراقبك ونكلؤك . والمراد بالحُكم : القضاء السابق ، أي : لما قُضي به عليك ، وفي إضافة الحُكم إلى عُنوان الربوبية تهييج على الصبر ، وحل عليه ، أي : إنما هو حُكم سيدك الذي يُربيك ويقوم بأمورك وحفظك ، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك . وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرعاية . { وسبِّح بحمد ربك } أي : نزِّهه ملتبساً بحمده على نعمائه الفائتة للحصر ، { حين تقومُ } أي : من أيّ مكان قمت ، أو : من منامك . وقال سعيد بن جبير : حين تقوم من مجلسك تقوم : سبحانك اللهم وبحمدك . وقال الضحاك والربيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك ، وتعالى جَدُّكَ ، ولا إله غيرك . ه . { ومن الليل فسبِّحه } أي : في بعض الليل وأفراده؛ لأن العبادة فيه أشق على النفس ، وأبعد من الرياء ، كما يلوح به تقدميه على الفعل ، والمراد إما الصلة في الليل ، أو التسبيح باللسان؛ سبحان الله وبحمده ، { وإِدبار النجوم } أي : وقت إدبارها ، أي : غيبتها بضوء الصبح ، والمراد : آخر الليل ، وقيل : التسبيح من الليل : صلاة العشاء ، وإدبار النجوم : صلاة الفجر . وقرأ زيدٌ عن يعقوب بفتح الهمز ، أي : أعقابها إذا غربت .
الإشارة : في هذه تسلية لأهل البلاء والجلال ، فإنّ مَن عَلِمَ أن ما أصابه إنما هو حُكم ربه ، الذي يقوم به ويحفظه ، وهو بمرئً منه ومسمَعٍ ، لا يهوله ما نزل ، بل يزيده غبطةً وسروراً؛ لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره ، وتشحير ذهب نفسه ، وقطع البقايا منه ، فهو في الحقيقة نعمة لا نقمة ، وفي الحِكَم : " مَن ظنّ انفكاك لطف الله عن قدره ، فذلك لقصور نظره " .
قال القشيري : أي : اصبر لما حكم به في الأزل ، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر ، لكن إن صبرت على قضائي جزيت ثواب الصابرين بغير حساب ، وفيه إشارة أخرى ، أي : اصبر فإنك بأعيينا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية ، كما قال تعالى : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } [ النحل : 127 ] . ه . وقيل المعنى : فإنك من جُملة أعيننا ، وأعيان الحق الكُمل من الأنبياء ، والرسل ، والملائكة ، وأكابر أوليائه ، فإنهم أعيان تجلياته ، ولذلك الإشارة بقوله عمر رضي الله عنه في شأن عليّ - كرّم الله وجهه - حين ضرب شخصاً فشكاه : " أصابته عين من عيون الله " ، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة ، صاروا عين العين . ومن ذلك قولهم : ليس الشأن أن تعرف الاسم ، إنما الشأن أن تكون عين الاسم ، أي : عين المُسمّى ، وهو سر التصرُّف بالهوية عند التمكين فيها ، وتمكُّن غيبة الشهود في الملك المعبود ، وقوله تعالى : { وسبح بحمد ربك . . . } الخ ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر ، والاستغراق فيه ، ودوام التنزيه لله تعالى عن رؤية شيء معه . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/169)

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
يقول الحق جلّ جلاله : { والنجم } أي : الثريا ، أو : جنس النجم { إِذا هَوَى } إذا غرب ، أو : انتثر يوم القيامة ، أو طلع ، يقال : هَوَى هَوِياً ، بوزن " قَيول " إذا غرب ، وهَوى هُوياً ، بوزن دُخول : إذا طلع . والعامل في { إذا } فعل القسم ، أي : أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه . وجواب القسم : { ما ضلَّ } عن قصد الحق { صاحِبكُم } أي : محمد صلى الله عليه وسلم ، والخطاب لقريش . { وما غَوَى } في اتباع الباطل ، أو : ما اعتقد باطلاً قط ، أي : هو في غاية الهدى والرشد ، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية في شيء . فالضلال ، نقيض الهدى ، والغي نقيض الرشد ، ومرجعهما لشيء واحد ، وهو عدم اتباع طريق الحق .
وقال الفخر : أكثر المفسرين لم يُفرقوا بين الغي والضلال ، والفرق بينهما : أنَّ الغي في مقابلة الرشد ، والضلال أعم منه ، والاسم من الغي : الغَواية - بالفتح - والحاصل : أنّ الغي أقبح من الضلال ، إذ لا يرجى فلاحه . وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم خُبراً ببراءته - عليه الصلاة والسلام - مما نفى عنه بالكلية ، وباتصافه - عليه الصلاة والسلام - بغاية الهدى والرشد؛ فإنَّ كون صحبتهم له صلى الله عليه وسلم ، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً . وتقييد القسم بوقت الهُوى؛ لأن النجم لا يهتدي به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده ، وأما ما دام في وسط السماء فلا يهتدي به ، ولا يعرف المشرق من المغرب ، ولا الشمال من الجَنوب .
ثم قال : { وما ينطق عن الهوى } أي : وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلاً ، { إنْ هو إِلا وحيٌ } من الله تعالى { يُوحَى } إليه ، وهي صفة مؤكدة لوَحْي ، لرفع المجاز ، مفيدة لاستمرار التجدُّد للوحي ، واحتج بهذه الآية مَن لا يرى الاجتهاد للأنبياء - عليه السلام - ويُجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحي ، لا نُطقاً عن الهوى .
{ علَّمه شديدُ القوى } أي : مَلكٌ شديد قواه ، وهو جبريل عليه السلام : فإنه الواسطة في إيراد الوحي إلى الأنبياء ، ومَن قوته أنه خلع قُرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى ، وحملها على جناحه ، ورفعاه إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحةً بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة .
{ ذو مِرَّةٍ } أي : ذو خصابة في عقله ، ورزانة ومتانة في دينه . وأصل المِرة : الشدّة ، من مراير الحبل ، وهو فتله فتلاً شديداً ، أو : ذو حُسن في منظره ، { فاستوى } : عطفٌ على " علَّمه " بطريق التفسير ، فإنه إلى قوله : { ما أوحى } بيان لكيفية التعليم ، أو : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها ، دون الصورة التي كان يتمثّل بها كلما هبط بالوحي ، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبّ أن يراه في الصورة التي خلقه اللّهُ عليها ، وكان صلى الله عليه وسلم بحراء ، فطلع له جبريلُ من المشرق ، وسدّ الأرض من المغرب ، وملأ الأفق ، فخرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل في صورة الأدمي ، فضمّه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه .
(6/170)

قيل : ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الأصلية إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه رآه فيها مرتين؛ مرة في الأرض ، ومرة في السماء ، وقيل : استوى بقوته على ما جعل له من الأمر .
{ وهو } أي : جبريل { بالأُفق الأعلى } أفق الشمس ، أي : مطلعها ، { ثم دنا } جبريلُ من النبي صلى الله عليه وسلم { فتدلَّى } أي : زاد في القرب ، أو : استرسل من الأفق مع تعلُّق به . يقال : تدلت الشجرة ، ودلّى رجله من السرير ، ودلّى دلوه ، والدوالي : الثمر المُعلّق . { فكان قابَ قوسين } أي : مقدار قوسين عربيين . والقاب : المقدار . قال قتادة وغيره : معناه : من طرف العود إلى طرفه الآخر . وقال مجاهد والحسن : من الوتر إلى العود في وسط القوس ، أي : فكان بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم مقدار قوسين ، { أو أدنى } في تقديركم ، كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وهذا لأنهم خُوطبوا على لغتهم وفهمهم ، وهم يقولون : هذا مقدار قوسين أو أدنى .
{ فأَوْحَى إلى عبده ما أَوْحَى } أي : فأوحى الله تعالى إلى عبده بواسطة تجلّي جبريل { ما أوحى } من الأمور العظيمة التي لا تفي بها العبارة ، وقيل : أوحى إليه : " أنَّ الجنة مُحرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك " ويمكن حمل الآية على قصة المعراج ، أي : { علَّمه شديد القوى } وهو الله تعالى ، { ذُو مِرة } أي : شدة ومتانة ، ومنه : أسمه " المتين " ، { فاستوى } بنوره أي : تجلّى بنور ذاته من ناحية الأُفق ، أي : العلو ( فتدلّى ) ذلك النور { فكان قاب قوسين أو أدنى } وفي البخاري : " فدنا ربُّ العزة دنو يليق بجلاله ومجده " ويرجع لتجلّيه لنبيه ، وتنزُّله له ، وتعرّفه له ، وفي حديث الإسراء عنه - عليه الصلاة والسلام - : " سمع النداء من العلي الأعلى : أُدن يا خير البرية ، أُدن يا محمد ، فأدناني ربي حتى كنتُ كما قال تعالى : { ثم دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى } " قال القشيري : ويُقال : كان بينه وبين ربه قَدْر قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى .
{ ما كَذَبَ الفؤادُ } أي : فؤاد محمد عليه السلام { ما رأى } أي : ما رآه ببصره من صورة جبريل على تلك الكيفية ، أو : من نور الحق تعالى الذي تجلّى له ، أي : ما قال فؤاده لَمَّا رآه : لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذباً؛ لأنه عرفه بقلبه ، كما عرفه ببصره ، وقيل : على إسقاط الخافض ، أي : ما كذب القلب فيما رآه البصر ، بل ما رآه ببصره حققه ، وفي الحديث : سئل صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال :
(6/171)

" رأيت ربي بفؤادي مرتين " ، حديث آخر : " جعل نور بصري في فؤادي ، فنظرتُ إليه بفؤادي " ، يعني أنه انعكس نور البصر إلى نور البصيرة فرأى ببصره ما رأته البصيرة ، وجاء أيضاً : أنه لما انتهى إلى العرش صار كله بصراً ، وبهذا يرتفع الخلاف ، وأنه رآه ببصر رأسه؛ وقوله عليه السلام حين سأله أبو ذر : هل رأيت ربك؟ فقال " نورَاني أراه " وفي رواية : " نورٌ أَنَّى أراه " ؟ بالاستفهام ، وفي طريق آخر : " رأيت نوراً " وحاصلها : أنه رأى ذات الحق متجلية بنور من نور جبروته؛ إذ لا يمكن أن ترى الذات إلا بواسطة التجليات ، كما هو مقرر عند محققي الصوفية ، كما قال الشاعر :
وليستْ تُنال الذاتُ من غير مَظهرٍ ... ولو هُتك الإنسانُ من شدةِ الحرصِ
وقال كعب لابن عباس : إنَّ الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلَّم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين . وقيل لابن عباس : ألم يقل الله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] ، قال : ذلك إذا تجلّى بنوره . الذي هو نوره الأصلي ، يعني أن الله تعالى يتجلّى لخلقه على ما يطيقون ، ولو تجلّى بنوره الأصلي لتلاشى الخلق ، كما قال في الحديث : " حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت تجليات وجهه ما أدركه من بصره "
{ أَفتُمارونه } أي : أفتجادلونه ، من : المراء ، وهو المجادلة ، واشتقاقه من : مَرْي الناقة ، وهو استخراج لبنها ، كأنَّ كل واحد من المتجادلين يَمْري ما عند صاحبه ، أي : يستخرجه . وقُرئ في التواتر : " أَفَتَمْرُونه " أي : أفتغلبونه . ولما فيه من معنى الغلبة ، قال تعالى : { على ما يرى } فعدّى بعلى ، كما تقول : غلبته على كذا ، وقيل : أفتمرونه : أفتجحدونه ، يقال : مريته حقّه : جحدته ، وتعديته ب " على " على مذهب التضمين ، والمعنى : أفتُخاصمونه على ما يرى معانيةً ، وحققه باطناً .
{ ولقد رآه } أي : رأى محمدٌ جبريلَ على صورته الأصلية ، أو : رأى ربه على تجلٍّ خاص وتعرفٍ تام ، { نزلةً أخرى } مرةً أخرى ، والحاصل : أنه عليه السلام رأى ربه بتجلٍّ خاص جبروتي مرتين ، عند خرق الحُجب العلوية فوق العرش ، عند السدرة ، وأما رؤيته عليه السلام لله تعالى في مظاهر الكائنات ففي كل حين ، لا يغيب عنه طرفة عين . والنزلة : فعلة من النزول ، نُصب نَصبَ الظرف الذي هو " مرّة " . { عند سِدرة المنتهى } الجمهور : أنها شجرة النبق في السماء السابعة ، عن يمين العرش ، وتسميتها المنتهى؛ إما لأنها في منتهى الجنة وآخرها ، أو : لأنها لم يُجاوزها أحد ، وإليها ينتهي علم الخلائق ، ولا يعلم أحدٌ ما وراءها ، أو : إليها ينتهي أرواح الخلائق ، أو : أرواح الشهداء ، وفي الحديث :
(6/172)

" أنها شجرة يسير الراكب في ظلها ألف عام ، لا يقطعها ، والورقة منها تُظل الأُمّة ، وتمرها كالقِلال الكبار " .
{ عندها جنةُ المأوى } أي : الجنة التي يصير إليها المتقون ويأوون إليها ، أو : تأوي إليها أرواح الشهداء والصدّيقين والأنبياء . قال ابن جُزي : يعني أن الجنة التي وَعَدَ اللّهُ بها عبادَه هي عند سدرة المنتهى ، وقيل : هي جنة أخرى ، والأول أظهر وأشهر . ه . ويؤيده ما في الحديث : " إن النيل والفرات يخرجان من أصلها " وهما من الجنة ، كما في الصحيح . { إِذ يغشى السدرةَ ما يغشى } ظرف للرؤية ، أي : لقد رآه عند السدرة وقت ما غشيها ما غشيها ، مما لا يكتنهه الوصف ، ولا يفي به البيان ، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ، استحضاراً لصوتها البديعة ، أو للإيذان باستمرار الغشيان وتجدُّده ، وقيل : يغشاها الجمُّ الغفير من الملائكة ، يعبدون الله تعالى عندها ، وقيل : يزورونها متبركين بها ، كما يزور الناسُ الكعبة ، وقيل : يغشاها فَراش من ذهب ، والفَراش - بفتح الفاء - ما يطير ويضطرب . { ما زاغ البصرُ } أي : بصر محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، أي : ما عدل عن رؤية العجائب التي مُكِّنَ من رؤيتها ، { وما طغى } وما جاوز ما أمر برؤيته ، { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } أي : والله لقد رأى من عجائب الملكوت وأسرار الجبروت وما لا يفي به نطاق العبارة وقد دُوِّنَتْ هنا كُتبٌ في عجائب ما رآه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج .
الإشارة : أقسم اللّهُ تعالى بنجم العلم إذا طلع في أفق سماء القلوب الصاحية ، إنَّ هذا القلب الذي طلع فيه نجم العلم بالله ، وأشرقت عليه شمسُ الحقائق ، لا يَضل صاحبُه ولا يغوى ، وما ينطق عن الهوى؛ لأنه مستغرق في شهود الحق ، لا يتجلى فيه إلا الحق ، { إن هو } أي : ما يتجلى فيه إلا وحي يُوحى من قِبل الإلهام الإلهي ، علّمه شديدُ القوى ، وهو الوارد الرباني ، ذو مِرةٍ وشدة؛ لأنه من حضرة قهّار ، ولا يُصادم شيئاً إلا دفعه ، فاستوى وهو بالأفق الإعلى على من سماء الغيوب ، ثم دنا من القلب فتدلّى ، فكان من القلب قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى اللّهُ تعالى بواسطة ذلك الوارد إلى عبده ما أوحى من علوم الحقائق والأسرار ، ومن مكاشفات غيوب الأقدار ، ما كذب الفؤادُ فيما رأى لأنه حق ، لكن قهرية العبودية غيَّبت عنه تعيين وقت وقوعه . ولقد رآه ، أي : رأى القلبُ أسرارَ ذات الحق ، نزلةً أخرى في عالم الجبروت ، الخارج عن دائرة التجليات الكونية ، وهي الأسرار اللطيفة ، المحيطة في الأنوار الملكوتية والملكية ، عند سِدرة المنتهى ، وهي شجرة القبضة المحمدية ، التي انتهى إليها علم العلماء ، وأرواح الشهداء ، إذ لا يخرج عن دائرتها أفكار العارفين . عندها جنة المأوى التي يأوي إليها أفكار العارفين وأسرار الراسخين ، إذا يغشى السدرة - أي : شجرة الكون - ما يغشى من الفناء والتلاشي عند سطوع شمس الحقائق ، ما زاغ بصرُ البصيرة عن شهود تلك الأسرار ، وما حجبه عنها أرض ، ولا سماء ، ولا عرش ، ولا كرسي؛ لتلطُّف تلك العوالم في نظر العارف ، وما طغى : وما جاوز العبودية حتى يطمع في الإحاطة بعظمة كنه الربوبية ، فإنَّ الإحاطة لا تُمكن ، لا في هذه الدار ، ولا في تلك الدار ، بل يبقى الترقي في الكشوفات ، والمزيد من حلاوة الشهود أبداً سرمداً ، لقد رأى هذا القلب الصافي من عجائب ربه الكبرى ، حيث وسع مَن لم تسعه أرضه ولا سماؤه .
(6/173)

وقال الروتجبي بعد كلام : في هذه الآية بيان كمال شرف حبيبه ، إذ رآه نزلةً أخرى ، عند سدرة المنتهى ، ظنَّ صلى الله عليه وسلم أنَّ ما رآه في الأول لا يكون في الكون - أي : في مظهر الكون - لكمال علمه بتنزيه الحق ، فلما رآه ثانياً علم أنه لا يحجبه شيء من الحدثان ، وعادة الكُبراء إذا زارهم أحد يأتون معه إلى باب الدار إذا كان عليهم كريمً ، فهذا منه سبحانه إظهار كمال حُبه لحبيبه . وحقيقة الإشارة : أنه سبحانه أراد أن يعرف حبيبه مقام الالتباس ، فلبس الأمر ، وظهرَ المكرُ ، وبان الحقُّ من شجرة سدرة المنتهى ، كما بان من شجرة العِناب لموسى ، ليعرفَهُ حبيبُه بكمال المعرفة ، إذ ليس بعارف مَن لم يعرف حبيبه في لباس مختلفة ، وبيان ذلك في قوله : { إذ يغشى السدرة ما يغشى } وأبهم ما غشيه؛ لأن العقول لا تُدرك حقائق ما يغشاها ، وكيف يغشاها ، والقِدم منزّه عن الحلول في الأماكن؟! كان ولا شجرة ، وكانت الشجرة مرآه لظهوره سبحانه ، ما ألطف ظهوره ، لا يعلم تأويله إلا الله ، والراسخون في العلم يؤمنون به بعد عرفانهم به . ه .
(6/174)

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتم اللاتَ والعُزّى ومناةَ الثالثةَ الأخرى } أي : أخبروني عن هذه الأشياء التي تبعدونها من دون الله ، هل لها من القدرة والعظمة التي وُصف بها رَبُّ العزة في الآي السابقة حتى استحقت العبادة ، أم لا؟ واللات وما بعدها : أصنام كانت لهم ، فاللات كانت لثقيف بالطائف ، وقيل : كانت بنخلة تعبدها قريش ، وهي فَعْلَةٌ ، من : لوى؛ لأنهم كانوا يلوون عليها ويطوفون بها . وقرأ ابن عباس ومجاهد ورُويس بتشديد التاء ، على أنه اسم فاعل ، اشتهر برجلاً كان يُلتُّ السَّوِيق بالزيت ، ويُطعمه الحاجَ ، فلما مات عكفواعلى قبره يبعدونه . { والعُزى } كانت لغفطان ، وهي شجرة كانوا يعبدونها ، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد فقطعها ، فخرجت منها شياطنة ناشرة شعرها ، واضعة يدها على رأسها ، وهي تُولول ، فجعل خالد يضربها بالسيف حتى قتلها ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تلك العُزى ، لن تُعبد بعد اليوم أبداً " .
{ ومناة } : صخرة على ساحل البحر لهذيل وخزاعة ، وقيل : بيت بالمشلّل يعبدوه بنو كعب ، وسميت مناة؛ لأن دماء النسائك تُمنى ، أي : تُراق عندها؛ لأنهم كانوا يذبحون عندها . وقرأ بان كثير بالهمزة بعد الألف ، مشتق من النوء؛ لأنهم كانوا يستمطرون بالأنواء عندها ، تبرُّكاً بها ، وقيل : سَموا هذه الأصنام بأسماء الله ، وأَنَّثوها ، كأنها بنات الله في زعمهم الفاسد ، فاللات من " الله " ، كما قالوا : عمر وعمرة ، وعباس وعباسة ، فالتاء للتأنيث . والعُزَّى : تأنيث العزيز ، ومناة : تأنيث منان ، فغُيّر تخفيفاً ، ويؤيد هذا قولُه تعالى ردّاً عيهم : { ألكم الذكُر وله الأنثى } . و { الأخرى } : صفة ذمّ لها ، وهي المتأخرة الوضيعة القدر ، كقوله : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي : وضعاؤهم لرؤسائهم ، وقيل : وصفها بالوصفين؛ لأنهم كانوا يُعظِّمونها أكثر من اللات والعزى ، والفاء في قوله : { أفرأيتم } للعطف على محذوف ، وهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : عَقِب ما سمعتم من كمال عظمته تعالى في ملكه وملكوته ، وأحكام قدرته ، ونفوذ أمره في الملأ الأعلى وما تحت الثرى وما بينهما ، رأيتم هذه الأصنام مع حقارتها بنات الله ، مع وأدكم البنات ، وكراهتكم لهنَّ؟ .
{ ألكمُ الذكرُ وله الأنثى } أي : أتُحبون لكم الذكر وتنسبون له الأنثى كهذه الأصنام والملائكة؟ { تلك إِذاً قسمةٌ ضِيزَى } أي : جائرة ، من : ضازه يضيزه : إذا ظلمه ، وصرّح في القاموس بأنه مثلث الضاد ضيزى وضوزى وضازى ، وهو هنا فُعلى بالضم ، من الضيز ، لكنه كسر فاؤه لتسلم الياء ، كما فعل في " بيض " ، فإن " فِعلى " بالكسر لم تأت وصفاً ، وإنما هي من بناء الأسماء ، كالشّعرى والدفلى . وقال ابن هشام : فإن كانت فُعلى صفة محضة وجب قلب الضمة كسرة ، ولم يُسمع من ذلك إلا " قسمة ضيزى " " ومشية حِيكى " ، أي : يتحرك فيها المنكبان .
(6/175)

ه . وقرأ المكيُّ بالهمز ، من : ضأزه : ظلمه ، فهو مصدر نعت به .
{ إِنْ هي } أي : هذه الأصنام { إِلاَّ أسماءٌ } وليس تحتها في الحقيقة مسميات؛ لأنكم تدّعون لها الألوهية ، وهي أبعد شيء منها ، { سميتموها } آلهة ، أو : سميتم بها هذه الأصنام ، واعتقدتم أنها آلهة ، بمقتضى أهوائكم الباطلة ، { أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّهُ بها } بعبادتها { من سلطان } من حجة . { إِن يتبعونَ } فيما ذكر من التسمية والعمل بموجبها { إلاَّ الظنَّ } : إلا توهم أنَّ ما هم عليه حق ، توهُّماً باطلاً ، { وما تهوى الأنفُسُ } أي : ما تشتهيه أنفسهم الأمّارة ، { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } الرسول والكتاب فتركوه .
{ أم للإِنسان ما تمنَّى } . " أم " : منقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسُه من الأمور التي من جملتها أطماعهم الفارغة في شفاعة الآلهة ونظائرها ، كقول بعضهم : { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَى } [ فصلت : 50 ] ، وكَتَمَنِّي بعضُهم أن يكون هو النبي ، { فللّه الآخرةُ والأُولى } أي : الدنيا والآخرة ، هو مالكهما والحاكم فيهما ، يُعطي الشفاعة والنبوة مَن شاء ، لا مَن تمناها بمجرد الهوى ، وهو تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما تمنّى ، فإنَّ ختصاص أمور الآخرة والأُولى به تعالى مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان شيء مما تمنى إلا ان يشاء ويرضى .
الإشارة : هذه الأصنام موجودة في كل إنسان ، فاللات : حب اللذات والشهوات الجسمانية الفانية ، فمَن كان حريصاً عليها ، جامعاً لأسبابها ، فهو عابد لها ، والعُزى : حب العز والجاه والرئاسة وسائر الشهوات القلبية ، فمَن طلبها فهو عبد لها ، ومناة : تمني البقاء في الدنيا الدنية الحقيرة ، وطول الأمل فيها ، وكراهية الموت ، فمَن كان هذا وصفه فهو عبد الدنيا ، كاره لقاء الله ، فيكره اللّهُ لقاءه ، فتوجه لهؤلاء العتاب بقوله تعالى : { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر } حيث تُحبون ما هو كمال لأنفسكم ، { وله الأنثى } ؟ حيث جعلتم هذه الأشياء الحقيرة شريكة لله في استحقاق العبادة والمحبة ، تلك إذاً قسمة ضِيزى جائرة ، ما هي إلا أسماء ليس تحتها طائل ، تفنى ويبقى عليها العذاب والعتاب ، سميتموها واعتنيتم بشأنها والانكباب عليها ، أنتم وآباؤكم ، ما أنزل الله بمتابعتها والحرص على تحصيلها من سلطان ولا برهان ، إن يتبعون في ابتاعها والحرص عليها إلا الظن ، ظنوا أنها كانت مباحة في ظاهر الشرع لا تَضُر القلبَ ولا تحجبه عن شهود الرب ، وهو رأي فاسد؛ إذ ليس للقلب إلا وجهة واحدة ، إن توجه لطلب الحظوظ أعرض عن الله قطعاً ، وإن توجه لله أعرض عما سواه ، وراجع ما تقدم في قوله : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ } [ الأحقاف : 20 ] الآية . ويتبعون أيضاً ما تهوى الأنفُس الأمَّارة؛ لأنها لا تهوى إلا ما فيه حظها وهواها ، ولقد جاءهم من ربهم الهُدى ، أي : مَن يهدي إلى طريق السلوك ، بقطع العلائق النفسانية والقلبية ، وهم خلفاء الرسول عليه السلام ، الدعوان إلى الله ، من شيوخ التربية في كل زمان ، أم للإنسان ما تمنى ، ليس له ما يتمنى إلا بسابق العناية ، فلا يُدرك العبدُ من الدنيا والآخرة ، ومن الله تعالى ، إلا ما سبق به القدر ، كما قال الشاعر :
(6/176)

ما كل ما يتمنى المرءُ يُدركه ... تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
فلله الآخرة والأولى ، قال القشيري : يُشير إلى قَهْرمَانيةِ الحق تعالى على العالم كله ، ملكه وملكوته ، الأخروي والدنيوي ، فلا يملك الإنسان من أمر الدارين شيئاً ، بل ملك الآخرة تحت تصرف يده اليمنى ، المتقضية لموجبات حصول الآخرة من الأعمال الصالحة والأفعال الحسنة ، يهبه باسمه الواهب لمَن شاء أن يكون مظهراً للطفه وجماله ، وملك الدنيا تحت تصرف يده اليسرى ، المقتضية لأسباب حصول الدنيا ، من حب الدنيا الدنية ، المنتجة للخطيئة ومتابعة النفس الخبيثة ، وموافقة الطبيعة اللئيمة ، باسمه المقسط ، لمَن شاء أن يكون مظهر قهرِه وجلاله ، وليس ذلك يزيد في ملكه ، ولا هذا ينقص من ملكه ، وكلتا يديه ملأى سحّاء ، أي : فيّاضة . ه .
(6/177)

وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
قلت : { كم } : خبرية ، تفيد التكثير ، ومحلها : رفع بالابتداء ، والجملة المنفية : خبر ، وجمع الضمير في { شفاعتهم } لأن النكرة المنفية نعم .
يقول الحق جلّ جلاله : { وكم من ملكٍ في السماوات } أي : كثير من الملائكة { لا تُغني شفاعتُهم } عند الله تعالى { شيئاً } من الإغناء في وقت من الأوقات ، { إِلا مِن بعد أن يأذن اللّهُ } لهم في الشفاعة { لمَن يشاء } أن يشفعوا له ، { ويرضَى } ويراه أهلاً للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان ، وأما مَنْ عداهم من أهل الكفر والطغيان فيهم عن إذن الله بمعزلٍ ، وعن الشفاعة بألف معزلٍ ، فإذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر ، فما ظنهم بحال الأصنام؟!
ثم شنَّع عليهم في اعتقادهم الفاسد في الملائكة ، فقال : { إِنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة } وما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي { ليُسمُّون الملائكةَ } المنزّهين عن سمات النقص { تسميةَ الأنثى } فإن قولهم : الملائكة بنات الله ، قول منهم بأن كُلاً منهم بنته - سبحانه ، وهي التسمية بالأنثى ، وفي تعليقها بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنهم في الشناعة واستتباع العقوبة بحيث لا يجترئ عليها إلا مَن لا يؤمن رأساً .
{ وما لهم به من علم } أي : بما يقولون . وقرىء " بها " أي " بالتسمية ، أو بالملائكة . { إِن يتبعونَ إِلا الظن } وهو تقليد الآباء ، { وإن الظن } أي : جنس الظن ، ولذلك أظهر في موضع الإضمار ، { لا يُغني من الحق شيئاً } من الإغناء؛ لأن الحق عبارة عن حقيقة الشيء ، وهو لا يُدرك إلا بالعلم ، والظن لا اعتداد به في باب المعارف الحقيقية ، وإنما يُعتد به في العمليات وما يؤدي إليها .
{ فأعْرِضْ عَمَّن تولى عن ذِكْرِنا } أي : عنهم ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة ، ولتعليل الحكم ، أي : فأعرض عمن تولى عن ذكرنا المفيد للعلم اليقيني ، وهو القرآن المنطوي على علوم الأولين والآخرين ، المذكِّر بالأمور الآخرة ، أو : عن ذكرنا كما ينبغي ، فإن ذلك يستتبع ذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها ، قال الطيبي : أعرِضْ عن دعوة مَن تدعوه إلى لقاء ربه والدار الآخرة ، وهو يقول : { ماهي إلا حياتنا الدنيا . . . } الخ ، { ولم يُرِدْ إِلاَّ الحياةَ الدنيا } وزخارفها ، قاصراً نظره إليها ، والمراد بالإعراض عنه : إهماله والغيبة عنه ، فإنَّ مَن أعرض عن الذكر ، وانهمك في الدنيا ، بحيث كانت هي منتهى همته ، وقصارى سعيه ، لا تزيده الدعوة إلى خلافها إلا عناداً ، وإصراراً على الباطل .
{ ذلك } أي : ما هم فيه من التولِّي ، وقصر الإرادة على الحياة الدنيا؛ هو { مبلغُهم من العلم } أي : منتهى علمهم ، لا يكادون يُجاوزونه إلى غيره ، فلا تُجدي فيهم الدعوة والإرشاد شيئاً . وجمع الضمير بعد أن أفرده باعتبار معنى " مَن " ولفظها ، والمراد بالعلم : مطلق الإدراك الشامل للظن الفاسد .
(6/178)

{ إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بمَن اهتدى } أي : هو أعلم بالضال والمهتدي ومجازاتهما ، وهو تعليل الأمر بالإعراض ، وتكرير " هو أعلم " لزيادة التقرير ، وللإيذان بكمال تباين المعلومين ، أي : هو المبالغ في العلم بمَن لا يرعوي عن الضلال ، ومَن يَقبل الاهتداء في الجملة ، فلا تتعب نفسك في دعوتهم ، فإنهم من القبيل الأول .
الإشارة : شفاعة كل أحد على قدر جاهه وتمكُّنه من الله ، فقد يشفع الوليّ في أهل زمانه ، كما تقدّم في مريم . والاعتقاد في الملائكة : أنهم أنوار لطيفة من تجليات الحق ، اللطافة فيهم أغلب ، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ، يتشكلون كيف شاؤوا . وقوله تعالى : { فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا . . . } الآية ، فيه تحذير من مخالطة الغافلين والصحبة لهم ، فإنَّ صُحبتهم سُم قاتل ، والجلوس معهم تضييع وبطالة ، إلا أن يستولي نورُ مَن يصحبهم على ظلمتهم ، فيجرّهم إلى الله ، فهذا جلوسه معهم كمال ، وقال بعضهم : الوحدة أفضل من الجلوس مع العامة ، والجلوس مع الخاصة أفضل من العزلة ، إلا مَن تحقق كماله ، فلا كلام معه .
إشارة أخرى : { وكم من ملك . . . } الخ ، أي : كثير من الأرواح الصافية السماوية لا تُغني شفاعتها في الأنفس الظلمانية الطبيعية ، لتنقلها من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، إلا مِن بعد أنْ يأذن اللّهُ لمَن يشاء انتقاله وعروجه إلى سماء الأرواح ، ويرضى أن يُسكنه في الحضرة القدسية . إن الذين لا يؤمنون بالحالة الآخرة ، هي الانتقال من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، ويُنكرون على مَن يُوصل إليها ، لَيُسَمُّون الخواطر القلبية بتسمية الخواطر النفسانية ، أي : لا يُميِّزون بينهما ، لجهلهم بأحوال القلوب ، ما لهم به - أي : بهذا التمييز - من علم ، إن يتبعون في جُلّ اعتقاداتهم إلا الظن القوي ، وإنَّ الظن لا يُغني عن الحق شيئاً ، فلا ينفع مقام الإيمان إلا الجزم عن دليل وبرهان ، ولا في مقام الإحسان إلا شهود الحق بالعيان ، فمَن لم يحصل هذا فهو غافل عن ذكر الله الحقيقي ، يجب الإعراض عنه ، قال تعالى : { فأعْرِضْ عن من تولى عن ذكرنا ولم يُرد إلا الحياة الدنيا } وزخارفها ، ذلك مبلغهم من العلم ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا ، وهم عن الآخرة هم غافلون . وقال اللجائي ، في قطبه : وإياك أن تكون دنياك إرادة قلبك تبعاً لشهوات نفسك ، أو تكون دنياك أحب إليك من آخرتك ، وقلبك من ذكر مولاك خالياً معرضاَ ، فإنها صفة الهالكين ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { فأعْرِض عن من تولى عن ذكرنا . . . } الآية . وقيل لأبي الحسن الشاذلي : يا سيدي ، بمَ فُقْتَ أهلَ عصرك ، ولم نرَ كل كبير عمل؟ فقال : بخصلة ، أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتمسكتُ بها أنا ، وهي الإعراض عنكم وعن دنياكم . ه . إن ربك هو أعلم بمَن ضَلَّ عن طريق الوصول إليه ، وهو أعلم بمن اهتدى إليها ، فيُعينه ، ويجذبه إلى حضرته ، فإن الأمر كله بيده .
(6/179)

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } خَلقاً وملِكاً ، لا لغيره ، لا استقالاً ولا اشتراكاً ، { ليَجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا } بعقاب ما عملوا من السوء ، أو : بسبب ما عملوا ، { ويجزَي الذين أحسنوا بالحسنى } بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، والمعنى : أن الله تعالى إنما خلق هذا العالم والعلوي والسفلي ، وتصرّف فيه بقدرته بين جلاله وجماله ، ليجزي المحسن من المكلّفين ، والمسيء منهم؛ إذ من شأن الملك أن ينصر أولياءه ويُكرمهم ، ويقهر أعدائه ويُهينهم .
وقال الطيبي : " ليجزي " راجع لقوله : { هو أعلم بمَن ضَلَّ . . . } الآية ، والمعنى : إنَّ ربك هو أعلم بمَن ضلّ وبمَن اهتدى ليجزي كل واحد بما يستحقه ، يعني : أنه عالم ، كامل العلم ، قادر ، تام القدرة ، يعلم أحوال المُكلَّفين فيُجازيهم ، لا يمنعه أحدٌ مما يريده؛ لأنَّ كل شيء من السموات والأرض ملكه ، وتحت قهره وسلطانه ، فقوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } : جملة معترضة ، توكيد للاقتدار وعدم المعارض . ه .
{ الذين يجتنبون كبائِرَ الإثم } : بدل من الموصول الثاني ، أو : رفع على المدح ، أي : هم الذين يجتنبون . والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الاجتناب واستمراره . وكبائر الإثم : ما يكبر عقابه من الذنوب ، وهو ما رتّب عليه الوعيد بخصوصه . قال ابن عطية : وتحرير القول في الكبائر : إنها كل معصية يُوجد فيها حَدّ في الدنيا ، أو توعّد عليها بنار في الآخرة ، أو بلَعنةٍ ونحوها . وقرأ الأخوان : ( كبير الإثم ) على إرادة الجنس ، أو الشرك ، { و } يجتنبون { الفواحشَ } وهو ما فَحُشَ من الكبائر ، كأنه قيل : يجتنبون الكبائر وما فحش منها خصوصاً ، فيحتمل أن يريد بالكبائر : ما فيه حق الله وحده ، والفواحش منها : ما فيه حق الله وحق عباده ، { إِلا اللممَ } أي : إلا ما قَلَّ وصَغُر ، فإنه مغفور لمَن يجتنب الكبائر ، وقيل : هي النظرة والغمزة والقُبلة ، وقيل : الخطرة من الذنب ، وقيل : كل ذنب لم يجعل الله فيه حَدّاً ولا عذاباً . والاستثناء منقطع؛ لأنه ليس من الكبائر ولا من الفواحش .
{ إِنَّ ربك واسِعُ المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو : حيث يغفر ما يشاء من الذنوب من غير توبة ، وهذا أحسن ، { هو أعلم بكم إِذا أنشأكم } في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام { من الأرض } إنشاءً إجمالياً ، حسبما مرّ تحقيقه مراراً ، { وإِذا أنتم أَجِنةٌ } أي : يعلم وقت كونكم أجنّة { في بُطون أمهاتكم } على أطوار مختلفة ، لا يخفى عليه حالٌ مِن أحوالكم ، ولا عمل من أعمالكم .
{ فلا تُزكُّوا أنفسكم } فلا تنسبوها إلى زكاء الأعمال ، وزيادة الخير والطاعات ، أو : إلى الزكاة والطهارة من المساوئ ، ولا تُثنوا عليها ، واهضموها ، فقد علم اللّهُ الزكيَّ منكم والتقِيّ ، قبل أن يُخرجكم من صُلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم .
(6/180)

وقيل : كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ، ثم يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت . وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، لا على سبيل الاعتراف بالنعمة ، والتحدُّث بها ، فإنه جائز؛ لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكرها . والأحسن في إيراد الاعتراف والشكر أن يُقدم ذكر نقصه ، فيقول مثلاً : كنا جُهالاً فعلَّمنا الله ، وكنا ضُلاَّلاً فهدانا الله ، وكنا غافلين فأيقظنا الله ، وهكذا نحن اليوم كذا وكذا .
قال ابن عطية : ويُحتمل أن يكون نهياً عن أن يُزَكِّي بعضُ الناس بعضاً ، وإذا كان هذا ، فإنما ينهى عن تزكية السَّمع ، أو القطع بالتزكية ، ومن ذلك الحديث في " عثمان بن مظعون " عند موته ، وأما تزكية القدوة أو الإمام ، أو أحداً ، ليؤتم به أو لِيَتَهَمَّمَ الناس بالخير ، فجائز ، وقد زكَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وغيره ، وكذلك تزكية الشهود في الحقوق جائزة؟ للضرورة إليها ، وأصل التزكية : التقوى ، والله تعالى أعلم بتقوى الناس منكم . ه .
وقال في القوت : هذه الذنوب تدخل على النفوس من معاني صفاتها ، وغرائز جبلاتها ، وأول إنشائها من نبات الأرض ، وتركيب الأطوار في الأرحام ، خَلْقٍ مِن بعد خلقٍ ، ومن اختلاط الامشاج بعضها مع بعض ، ولذلك عقبه بقوله : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم . . . } الآية . ه .
ثم قال تعالى : { هو أعلم بمن اتقى } فاكتفوا بعلمه عن علم الناس ، وبجزائه عن ثناء الناس . وبالله التوفيق .
الإشارة : ولله ما في سموات الأرواح من أنوار الشهود ، وما في أرض النفوس من آداب العبودية ، رتَّب ذلك ليجزي الذين أساؤوا بوقوفهم مع أرض النفوس في العالم المحسوس ، ويجزي الذين آمنوا بترقيهم إلى مقام الإحسان ، بالحسنى ، وهي المعرفة ، حيث ترقّوا من أرض الأشباح إلى عالم سماء الأرواح ، ، وهم الذين يجتنبون كبائر الإثم وهو شهود وجودهم مع وجود الحق محبوبهم ، ووقوفهم مع عالم الحس ، والفواحش ، وهو اعتراضهم على الله فيما يبرز من عُنصر قدرته ، وتصغيرهم شيئاً مما عظَّم الله ، إلا اللمم؛ خواطر تخطر ولا تثبت .
قال القشيري : كبائر الإثم ثلاث : محبة النفس الأمّارة ، ومحبة الهوى النافخ في نيران النفس ، ومحبة الدنيا ، التي هي رأس كل خطيئة ، ولكل واحدة من هذه الثلاث فاحشة لازمة لها ، أما فاحشة محبة النفس : فموافقة الطبيعة ومخالفة الشريعة ، وأما فاحشة محبة الهوى : فحُب الدنيا وشهواتها ، وأما فاحشة محبة الدنيا فالإعراض عن الله ، والإقبال على ما سواه . وقوله { إلا اللمم } أي : الميل اليسير إلى الهوى والنفس والدنيا ، بحسب ضرورته البشرية؛ مِن استراحة البدن ، ونيل قليل من حظوظ الدنيا ، بحسب الحقوق ، لا بحسب الحظوظ ، فإنَّ مباشر الحقوق مغفور ، ومباشر الحظوظ مغرور . ه .
{ إِنَّ ربك واسعُ المغفرة } يستر العيوب ، ويُوصل إلى حضرة الغيوب . هو أعلم بكم إذ أنشأكم من أرض البشرية ، ورقّاكم إلى عالم الروحانية ، وإذ أنتم أَجنة في أول بدايتكم في بطون أمهاتكم ، في بطون الهوى والغفلة ، ودائرة الكون ، فأخرجكم منها بمحض فضله ، فلا تُزكُّوا أنفسكم ، فتنظروا إليها بعين الرضا ، أو تنسبوا إليها شيئاً من الكمالات قبل صفائها . قال القشيري : تزيكة المرء نفسه علامة كونه محجوباً؛ لأنَّ المجذوب عن بقائه ، المستغرق في شهود ربِّه ، لا يُزكِّي نفسه . ه . قلت : هذا ما دام في السير ، وأما إن حصل له الوصول؛ فلا نفس له ، وإنما يُزكّي ربه إذا زكّاها ، هو أعلم بمَن اتقى ما سواه .
(6/181)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتَ الذي تولَّى } أعرض عن الإيمان { وأعطَى قليلاً وأكْدى } أي : قطع عطيته وأمسك ، وأصله : إكداء الحافر ، وهو أن تلقاه كُدْية - وهي صلابة ، كالصخرة - فيمسك عن الحفر . قال ابن عباس : " هو فيمن كفر بعد الإيمان " ، وقيل : في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتّبع رسولّ الله صلى الله عليه وسلم فعيّره بعضُ الكافرين ، وقال : تركتَ دين الأشياخ ، وزعمتَ أنهم في النار؟ قال : إني خشيتُ عذاب الله ، فضمن له إن أعطاه شيئاً من ماله ، ورجع إلى شركه ، أن يتحمّل عنه عذاب الله ، ففعل ذلك المغرور ، وأعطى الذي عاتبه بعضَ ما كان ضمن له ثم بخل به ومنعه . { أعنده علْمُ الغيبِ فهو يَرى } أي : يعلم هذا المغرور أنَّ له حق؟
{ أم لم يُنَبَّأُ } يُخْبَر { بما في صُحف موسى } أي : التوراة ، { وإِبراهيمَ } أي : وما في صحف إبراهيم { الذي وفَّى } أي : أكمل وأتمّ ما ابتلي به من الكلمات ، أو : ما أُمر به ، أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّهَ عليه . وعن الحسن : ما أمره الله بشيء إلا وفّى به . وعن عطاء بن السائب : عهد ألاَّ يسأل مخلوقاً ، فلما قذف في النار قال له جبريل : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا . وقال الشيخ المرسي : وفَى بمقتضى قوله : { حسبي الله } وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " وَفَّى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار " وهي صلاة الضحى . وروي : " ألا أخبركم لم سمّى خليلَه " الذي وفَّى "؛ كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى : { فسبحان الله حين تُمسون . . . } إلى { تُظهرون } وقيل : وفَّى سهام الإسلام ، وهي ثلاثون ، عشرة في التوبة : { التَّآئِبُونَ } [ التوبة : 112 ] الخ ، وعشرة في الأحزاب : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ . . . } [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في المؤمنين : { قد أفلح المؤمنون } . وقيل : وفي حيث أسلم بدنه للنيران ، وولده للقربان ، وطعامه للضيفان . ورُوي : أنه كان يوم يضيف ضيفاً ، فإن وافقه أكرمه ، وإلاَّ نوى الصوم ، وتقديم موسى لأنَّ صحفه وهي التوراة أكثر وأشهر .
ثم فسّر ما في تلك الصُحف فقال : { ألاَّ تَزِرُ وَازرةٌ وِزْرَ أخرى } أي : أنه لا تحمل نفس وازرة وزر نفس أخرى ، بل كل نفس تستقل بحمل وزرها ، يقال : وزر يزر إذا اكتسب وِزراً ، و " أن " مخففة ، وكأنّ قائلاً قال : ما في صحف موسى وإبراهيم؟ فقال : ألاَّ تحمل نفس مثقلة بوزرها وِزرَ نفس أخرى .
{ وأن ليس للإِنسان إِلا ما سَعَى } هو أيضاً مما في صحف موسى وإبراهيم ، وهو بيان لعدم انتفاع الإنسان بعمل غيره ، إثر بيان عدم انتفاعه من حيث رفع الضرر عنه به ، وأما ما صحّ من الأخبار في الصدقة عن الميت والحج عنه ، فلأنه لمَّا نواه عنه كان كالوكيل عنه ، فهو نائب عنه .
(6/182)

قال ابن عطية : الجمهور أنّ قوله : { وأن ليس للإِنسان إِلا ما سعى } مُحْكَمٌ لا نسخ فيه ، وهو لفظ عام مخصّص . ه يعني : أن المراد : الكافر ، وهكذا استقرئ من لفظ " الإنسان " في القرآن ، وأما المؤمن فجاءت نصوص تقتضي انتفاعه بعمل غيره ، إذا وهب له من صدقة ودعاء وشفاعة واستغفار ، ونحو ذلك ، وإلاَّ لم يكن فائدة لمشروعية ذلك ، فيتصور التخصيص في لفظ " الإنسان " : وفي السعي ، بأن يخص الإنسان بالكافر ، أو السعي بالصلاة ، ونحو ذلك مما لا يقبل النيابة مثلاً . والحاصل : أن الإيمان سعي يستتبع الانتفاع بسعي الغير ، بخلاف من ليس له الإيمان . ه قاله الفاسي : وكان عز الدين يحتج بهذه الآية في عدم وصول ثواب القراءة للميت ، فلما مات رؤي في النوم ، فقال : وجدنا الأمر خلاف ذلك .
قلت : أما في الأجور فيحصل الانتفاع بسعي الغير ، إن نواه له ، وأما في رفع الستور ، وكشف الحجب ، والترقي إلى مقام المقربين ، فالآية صريحة فيه ، لا تخصيص فيها؛ إذ ليس للإنسان من حلاوة المشاهدة والقُرب إلا بقدر ما سعى من المجاهدة . والله تعالى أعلم .
ثم قال : { وأنَّ سَعْيَه سوف يُرى } أي : يعرض عليه ، ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه ، { ثم يُجزاه } أي : يجزى العبد سعيه ، يقال : جزاه اللّهُ عملَه ، وجزاه عليه ، بحذف الجار وإيصال الفعل ، ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ، ثم فسّره بقوله : { الجزاءَ الأوفى } أو : أبدله منه ، أي : الجزاء الأكمل بحيث يزيده ولا ينقصه .
الإشارة : أفرأيتَ الذي تولى عن طريق السلوك ، بعد أن أعطى نفسه وفلْسَه ، وتوجه إلى حضرة مولاه ، ثم منَّته نفسُه ، وغرّته أنه يصل بلا عطاء ولا مجاهدة ، فقطع ذلك واشتغل بنفسه ، أو غرّه أحدٌ حتى ردَّه ، وضمن له الوصول ، بلا ذلك ، أعنده عِلمُ الغيب حتى عَلِمَ أنه يصل بلا واسطة ولا مجاهدة؟ فهو يرى عاقبة ما هو سائر إليه . وتصدُقُ الإشارة بمن صَحِبَ شيخاً ، وأعطاء بعض ماله أو نفسه ، ثم رجع ومال إلى غيره ، فلا يأتي منه شيء ، أعنده علم الغيب ، وأنّ فتحه على يد ذلك الشخصن فهو يرى ما فيه صلاح وفساده؟ وهذا إن كان شيخه أهلاً للتربية ، وإلاَّ فلا . أم لم يُنبأ هذا المنقطِع بما في صُحف موسى وإبراهيم ، أنه لا يتحمّل أحدٌ عن أحدٍ مجاهدة النفوس ورياضتها؟ وأن ليس للإنسان من لذة الشهود والعيان إلا ما سعى فيه بالمجاهدة ، وبذل النفس والفلس ، وأنَّ سعيه سوف يُرى؟ أي : يَظهر أثره من الأخلاق الحسنة ، والرزانة والطمأنينة ، وبهجة المحبين ، وسيما العارفين .
وقسَّم القشيري السعي على أربعة أقسام : الأول : السعي في تزكية النفس وتطهيرها ، ونتيجته : النهوض للعمل الصالح ، الذي يستوجب صاحبه نعيمَ الجنان . الثاني : السعي في تصفية القلب من صَداء ظلمات البشرية ، وغطاء عورات الطبيعية ، ونتيجته : صحته من الأمراض القلبية ، كحب الدنيا والرئاسة والحسد ، وغير ذلك ، ليتهيأ لدخول الواردات الإلهية . الثالث : السعي في تزكية الروح ، بمنعها من طلب الحظوظ الروحانية ، كطلب الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، وحلاوة المعاملات ، لتتهيأ بذلك للاستشراف على مقام المشاهدات ، وحمل أعباء أسرار الذات . الرابع : السعي في تزكية السر بتحليته بالصفات الإلهية ، والأخلاق الربانية ليتحقق بمقام الفناء والبقاء ، وهو منتهى السعي وكماله . ه . بالمعنى .
(6/183)

وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
يقول الحق جلّ جلاله في بقية ذكر ما في الصُحف الأُولى : { وأنَّ إِلى ربك المنتهى } أي : الانتهاء ، أي : ينتهي إليه الخلق ويرجعون ، إليه كقوله : { وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] أو : ينتهي علم العلماء إليه ثم يقفون ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا فكرة في الرب " أي : كُنه الذات ، وسيأتي في الإشارة : { وأنه هو أضحكَ وأبكى } أي : خلق الضحك والبكاء ، أو : خلق الفرح والحزن ، أو : أضحك المؤمنين في الأخرة ، وأبكى الكافرين ، أو : أضحك المؤمنين في العُقبى بالمواهب وأبكاهم في الدنيا بالنوائب ، { وأنه هو أمات وأحيا } أي : أمات الآباء وأحياء الأبناء ، أو : أمات بالكفر وأحيا بالإيمان .
{ وأنه خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نُطفةٍ إذا تُمنَى } : إذ تدفق وتُدفع في الرحم . يقال : منى وأمنى ، { وأنَّ عليه النشأةَ الأخرى } الإحياء بعد الموت ، { وأنه هو أغنَى } أي : صيّر الفقير غنيّاً { وأَقْنَى } أي : أَعطى القِنْيَة ، وهو المال الذي تأثّلته ، وعزمت ألاَّ تُخرجه من يدك . { وأنه هو رَبُّ الشِّعْرى } وهو كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وكانت خزاعة تعبدها . سنّ لهم ذلك " ابن أبي كبشة " رجل من أشرافهم ، قال : لأن النجوم تقطع السماء عرضاً ، والشعرى طولاً ، ويقال لها : شعرى العبور . انظر الثعلبي . وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن أبي كبشة ، تشبيهاً له صلى الله عليه وسلم به ، لمخالفته إياهم في دينهم ، فأخبر تعالى أنه ربّ معبودهم ، فهو أحق بالعبادة وحده .
{ وأنه أهلك عاداً الأُولى } وهم قوم هود ، وعاد الأخرى : عاد إرم ، وقيل : معنى الأولى العدمي لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح ، وقال الطبري وغيره : سميت " أُولى " لأن ثُمَّ عاداً آخرة ، وهي قبلية كانت بمكة مع العماليق ، وهم بنو لُقَيم بن هَزّال . والله أعلم . ه . { قلت } : والتحقيق : أن عاداً الأولى هي عاد إرم ، وهي قبيلة هود التي هلكت بالريح ، ثم بقيت منهم بقايا ، فكثروا وعمّروا بعدهم ، فقيل لهم عاد الأخيرة ، وانظر أبا السعود في سورة الفجر . وها هنا قراءات ، وجَّهناها في كتاب الدرر .
{ وثَموداً } أي : وأهلك ثموداً ، وهم قوم صالح ، { فما أبقَى } أحداً منهم ، { وقمَ نوحٍ من قبلُ } ؛ وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، { إِنهم كانوا أظلمَ وأطغى } مِن عاد وثمود؛ لأنهم كانوا يضربونه حتى لا يكون به حِراك ، وينفرون منه حتى كانوا يُحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه ، { والمؤتفكةَ } أي : والقرى التي ائتفكت ، أي : انقلبت بأهلها ، وهم قوم لوط . يقال : أَفَكه فائتفك ، أي : قَلَبَه فانقلب ، { والمؤتفكة } منصوب ب { أَهْوَى } أي : رفعها إلى السماء على جناح جبريل ، ثم أهواها إلى الأرض ، أي : أسقطها ، { فَغَشَّاها } ألبسها من فنون العذاب { ما غَشَّى } وفيه تهويل لما صبَّ عليها من العذاب ، وأمطر عليها من الصخر المنضود .
(6/184)

{ فبأي آلاءِ ربك } أيها المخاطب { تتمارَى } أي : تتشكك؟ أي : فبأي نِعَمٍ من نِعَم مولاك تجحد ولا تشكر؟ فكم أولاك من النِعم ، ودفع عنك من النِقم ، وتسمية الأمور المتعددة قبلُ نِعماً مع أن بعضها نقم؛ لأنها أيضاً نِعَم من حيث إنها نصرة الأنبياء والمرسَلين ، وعظة وعبرة للمعتبرين . { هذا نذيرٌ } أي : محمد مُنذِّر { من النُذُرِ الأولى } من المنذِّرين الأولين ، وقال : " الأُولى " على تأويل الجماعة ، أو : هذا القرآن نذير من النذر الأولى ، أي : إنذار من جنس الإنذارات الأولى التي إنذِر بها من قبلكم .
{ أَزِفَتِ الآزفةُ } أي : قربت الساعة الموصوفة بالقرب من قوله : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [ القمر : 1 ] ، وفي ذكرها بعد إنذارهم إشعار بأنَّ تعذيبهم مؤخر إلى يوم القيامة ، { ليس لها من دون الله كاشِفةٌ } أي : ليس لها نَفْس مبيّنة وقت قيامها إلاّ الله تعالى ، وهذا كقوله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] أو : ليس لها نفس قادرة على كشف أهوالها إذا وقعت إلا الله تعالى ، فيكشفها عمن شاء ، ويُعذِّب بها مَن شاء .
ولمَّا استهزؤوا بالقرآن ، الناطق بأهوال القيامة ، نزل قوله تعالى : { أفمن هذا الحديث تعجبون } إنكاراً ، { وتضحكون } استهزاءً ، { ولا تبكون } خشوعاً ، { وأنتم سامدون } غافلون ، أو : لاهون لاعبون ، وكانوا إذا سمعوا القرآن عارضوه بالغناء ، ليشغلوا الناس عن استماعه ، { فاسجدوا لله واعبدوا } ولا تعبدوا معه غيره ، من اللات والعزى ومناة والشعْرَى ، وغيرها من الأصنام ، أي : اعبدوا رب الأرباب ، وسارعوا له ، رجاء في رحمته . والفاء لترتيب الأمر بالسجود على بطلان مقابلة القرآن بالإنكار والاستهزاء ، ووجوب تلقيه بالإيمان والخضوع والخشوع ، أي : إذا كان الأمر كذلك فساجدوا لله الذي أنزله واعبدوه .
الإشارة : { وأنَّ إلى ربك المنتهى } انتهى سير السائرين إلى الوصول إلى الله ، والعكوف في حضرته . ومعنى في حضرته . ومعنى الوصول إلى الله : العلم بأحدية وجوده ، فيمتحي وجود العبد في وجود الرب ، وتضمحل الكائنات في وجود المكوِّن ، فتسقط شفيعة الأثر ، وتثبت وترية المؤثِّر ، كما قال القائل :
وبروْح وراح ... عاد شفعي وترى
وقال الآخر :
فلم يبق إلا الله لم يبق كائنٌ ... فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثم بائنُ
بذا جاء برهان العيانِ ، فما أرى ... بِعيْنيَّ إلا عينه إذ أعاينُ
إلى غير ذلك مما غَنَّوا به من أذواقهم ووجدانهم .
ثم قال تعالى : { وأنه هو أضحك وأبكى } أي : قبض وبسط ، أو : أنه أضحك أرواحاً بكشف الحجاب ، وأبكى نفوساً بذُل الحجاب ، أو : أضحك إذا تجلّى بصف الجمال ، وأبكى إذا تجلّى بصفة الجلال ، وأنه هو أمات قلوباً بالجهل والغفلة ، بمقتضى اسمه القهّار ، وأحيا قلوباً بالعلم والمعرفة ، بمقتضى اسمه الغفّار ، أو : أمات نفوساً عن شهواتها الفانية ، وأحيا سبب ذلك أرواحاً بكمال المعرفة فاتصفت بالأوصاف الربانية ، أو : أمات أرواحاً بغلبة ظلمة النفس واتسيلائها عليها ، وأحيا نفوساً باستيلاء الأرواح عليها ، وغلبة ونورها ، فحييت وانقلبت روحاً .
(6/185)

وأنه خلق الزوجين ، أي : الصنفين : الذكر والأنثى ، الحس والمعنى ، الحقيقية والشريعة ، القدرة والحكمة ، كما تقدم . وقال القشيري : الروح كأنه ذَكَر موصوفة بصفة الفاعلية ، والنفْس أنثى موصوفة بصفة القابلية ، لتحصل نتيجة القلب ، بحصول المطالب الدنيوية والأخروية . ه . مختصراً . وقال بعضهم : والشيطان كالذَكَر ، والنفس كالأنثى ، يتولّد بينهما المعصية . ه .
{ وأنَّ عليه النشأة الأخرى } وهو بعث الأرواح من موت الغفلة ، وحشرها إلى موقف المراقبة والمحاسبة ، ثم إدخالها جنة المعارف ، فلا تتشاق إلى جنة الزخارف أبداً ، أو : { النشأة الأخرى } : الجذب بعد السلوك ، والفناء بعد البقاء ، ثم البقاء بعد الفناء ، البقاء الأول بوجود النفس ، والثاني بالله . وأنه هو أغنى به بوصول العبد إلى مشاهدته ، وأفنَى بأن مكَّنه منه فزاد غناه . وطبّل على ماله ، { وأنه هو رَبُّ الشِّعرى } ، وهو كل ما عُبد من الهوى والدنيا ، فكيف يعبد المربوب اللئيم ، ويترك الرب الكريم؟! وأنه أهلك عاداً الأولى؛ النفوس المتفرعنة ، والأهوية المُغوية ، أرسل عليهم ريحَ الهداية القوية ، حتى اضمحلت وخضعت لمولاها ، وثمودَ الخواطر ، فما أبقى منها إلا خواطر الخير ، التي تأمر بالخير ، وقوم نوح؛ من القواطع الأربعة : النفس ، والشيطان ، والناس ، والدنيا ، فطعنهم عن المتوجه من قَبلُ ، أي : مِن قبل أن يتوجه إلينا ، لِما سبق في علمنا أنهم كانوا هم أظلم وأطغى من بقية العلائق ، والنفس المؤتفكة ، أي : المنقلبة عن التوجُّه ، أهوى بها في أسفل سافلين ، باعتبار أهل عليين ، فغشَّاها من الدنيا ومن الخواطر والهموم والغموم ، ما غشَّى .
فإذا سَلِمتَ أيها العبد من هؤلاء القواطع والعلائق ، وتوجهتَ إلى مولاك ، { فبأي آلاء ربك تتمارى؟ } بل الواجب عليك أن تشكر الله آناء الليل والنهار . هذا الذي أخذ بيدك نذيرٌ من النُذُر الأولى ، المتقدمين الداعين إلى الله في كل زمان ، أزفت الآزفة ، أي : قربت ساعة الفتح حين توجهت وانقطعت عنك العلائق ، ووجدتَ مَن يُدخلك بحرَ الحقائق ، ليس لها من دون الله كاشفة ، لا يكشف لك هذه الحقائق إلا الذي منَّ عليك بصحبة مَن يدلك عليه . قال القشيري : أزفت الآزفة : قَرُبَت الحقيقة بالقرب والدنو ، وأنت أيها السالك في عينها ، وما لك بها شعور ، لفنائك في أوصافك النفسانية ، ه مختصراً . أفمن هذا الحديث العجيب ، والغزل الرقيق الغريب ، تعجبون ، إنكاراً ، وتضحكون استهزاءً؟ قلت : وقد رأيت كثيراً ممن يُنكر الإشارة ، ويستهزئ بها ، ويتنكّب مطالعتها ، وقد قيل : مَن كَرِهَ شيئاً عاداه . ولا تبكون على أنفسكم ، حيث حُرمتْ من هذه المواهب ، وأنتم سامدون غافلون لاهون ، للدنيا طالبون ، فاسجدوا لله واعبدوا ، وتضرّعوا إليه ، حتى يُخرجكم من سجن هواكم ونفوسكم .
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله عليه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .
(6/186)

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
يقول الحق جل جلاله : { اقتربت الساعةُ } قربت القيامة ، قال القشيري : ومعنى قربها : أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليلٌ بالإضافة إلى ما مضى . ه . قال ابن عطية : وأمرها مجهول التحديد ، وكل ما يُروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف . ه . { وانشقَّ القمرُ } نصفين ، وقرئ : و " قد انشقَّ القمر " ، أي : اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقًَّ ، كما تقول : أقبل الأميرُ ، وقد جاء البشير بقدومه .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين ، فكانت أحداهما فوق الجبل ، والأخرى أسفل من الجبل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اشهدوا " قال ابن عباس : إنَّ المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن كنت صادقاً فشُق لنا القمر فلقتين ، فقال : " إن فعلتُ؛ أتؤمنون؟ " فقالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل صلى الله عليه وسلم ربه؛ فانشق فرقتين ، نصف على أبي قُبيس ، ونصف على قُعَيْقِعان ، وقيل : سألوا آية مجملة ، فأراهم انشقاق القمر . قال ابن عطية : وعليه الجمهور ، يعني عدم التعيين .
وفي صحيح مسلم : أنه انشق مرتين وصرح في شرح مرتين وصرح في شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر . ه . وقيل : معناه : انشق ، أي : ينشق يوم القيامة ، وهو ضعيف ، ولا يُقال : لو انشقَّ لما خفي على أهل الأقطار ، ولو ظهر عندهم لنقل متواتراً؛ لأن الطباع جبلت على نشر العجائب ، لأنه يجوز أن يحجبه اللّهُ عنهم بغيم أو غيره ، مع أنه كان ليلاً ، وجُلّ الناس نائمون ، وأيضاً : عادة الله تعالى في معجزاته أنه لا يراها إلاَّ مَن ظهرت لأجله في الغالب .
تنبيه : قال القسطلاني في المواهب اللدنية : ما يذكره بعض القصَّاص أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه ، ليس له أصل ، كما حكاه الزركشي عن شيخه العِماد ابن كثير . ه .
{ وإِن يَرَوا } أي : أهل مكة { آيةً } تدل على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم { يُعرضوا } عن الإيمان { ويقولوا سِحْرٌ مستمر } محكم شديدٌ قويّ ، من : المِرّة ، وهي القوة ، أو : دائم مطّرد . رُوي : أنه لما انشق؛ قالوا : هذا سحر ابن أبي كبشة؟ فسلوا السُّفار ، فلما قَدِموا سألوهم ، فقالوا : إنهم قد رأيته ، فقالوا : قد استمر سحره في البلاد ، فنزلت . قال البيضاوي : دلّ قوله : { مستمر } على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة ، ومعجزات سابقة . ه . أو : مستمر ، ذاهب ومارٌّ ، يزول ولا يبقى ، من : مرّ الشيء واستمر : ذهب .
{ وكذّبوا واتَّبعوا أهواءَهم } الباطلة ، وما زيَّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره ، حتى قالوا : سحرَ القمر ، أو : سَحَرَ أعيننا ، { وكلُّ أمرٍ } وعدهم الله به { مستقِرٌ } كائن في وقته ، أو : كل أمر قُدِّرَ واقع لا محالة يستقر في وقته ، أو : كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب ، وقُرئ " مستقرٍ " بالجر ، فيعطف على " الساعة " ، أي : اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر ، يعني : أشراطها .
(6/187)

{ ولقد جاءهم } أي : اهل مكة في القرآن؛ { من الأنباءِ } من أخبار القرون الماضية ، وكيف أُهلكوا بالتكذيب { ما فيه مُزْدَجَرٌ } أي : ازدجار عن الكفر والعِناد ، يقول : زجرته وازدجرته ، أي : منعته ، وأصله : ازتجر ، افتعل ، من الزجر ، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً؛ لأن التاء حرف مهموس ، والزاي حرف مجهور . فأبدل من التاء حرف مجهور ، وهو الدال؛ ليناسب الميم .
{ حكمة بالغةٌ } بدل من " ما " ، أو : خبر ، أي : هو حكمة بالغة؛ ناهية في الرشد والصواب ، أو : بالغة من الله إليهم ، قال القشيري : والحكمة البالغة : الصحيحة الظاهرة الواضحة لمَن فكّر فيها . ه . قال المحلي : وصفت بالبلاغة؛ لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها ه . { فما تُغنِ النُّذُر } شيئاً ، حيث سبق القدر بكفرهم ، و " ما " نافية ، أو استفهامية منصوبة ب " تُغن " ، أي : فأيّ إغناء تُغني النُذر مع سابق القدر؟ والنُذر : جمع نذير ، وهم الرسل ، أو : المنذَر به ، أو : مصدر بمعنى الإنذار ، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الإغناء ، واستمراره حسب تجدُّد مجيء الزواجر واستمرارها .
{ فتولَّ عنهم } لعلمك بأنّ الإنذار لا يُغني فيهم شيئاً ، واذكر { يومَ يدع الداع } وهو إسرافيل عليه السلام { إِلى شيءٍ نُّكُرٍ } أي : منكر فظيع ، تُنكره النفوس ، لعدم العهد بمثله ، وهو هول القيامة . { خُشَّعاً أبصارُهم يخرجون } ف " خُشَعاً " : حال من فاعل " يخرجون " ، أي : { يَخرجون من الأجداث } أذلة أبصارهم من شدة الهول؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن في أعينهما ، ومَن قرأ : " خاشعاً " فوجهه : أنه أسند إلى ظاهر ، فيجب تجريده كالفعل ، وأما مَن قرأ بالجمع ، فهو على لغة : " أكلوني البراغيث " ، { كأنهم جراد منتشِرٌ } في الكثرة والتموُّج والتفرُّق في الأقطار . قال ابن عطية : في الحديث : أن مريم دعت للجراد؛ فقال : اللهم أعِشْها بغير رضاع ، وتتابع بينها بغير شباع . ه .
ثم وصف خروجهم من القبور ، فقال : { مهطِعين إِلى الداعِ } مسرعين مَادِّي أعناقهم إليه ، أو ناظرين إليه ، { يقول الكافرون } استئناف بياني ، وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال ، وأهله بسوء الحال ، كأنّ قائلاً قال : فماذا يكون حينئذ؟ فقال : { يقول الكافرون هذا يوم عِسِرٌ } صعب شديد . وفي إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اقتربت ساعة الفتح لمَن جَدّ في السير ، ولازم صحبةَ أهل القرب ، قال القشيري : الساعة ساعتان : كبرى ، وهي عامة ، وصغرى ، وهي خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله ، برفع الأوصاف البشرية ، وقطع العلائق الطبيعية .
(6/188)

قال : وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " مَن مات فقد قامت قيامته " راجعة إلى الساعة الصغرى . ه . أي : مَن مات عن رؤية نفسه؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده . وقوله تعالى : { وانشق القمر } أي : قمر الإيمان؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان ، لم يبقَ لنوره أثر ، ليس الخبر كالعيان ، وإن يَرَوا - أي : أهل الغفلة والحجاب - آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص ، يُعرضوا منكرين ، ويقولوا : { هذا سحر مستمر . . . } الآية ، وكل أمر قدّره الحق - تعالى في الأزل ، من أوقات الفتح أو غيره ، مستقر ، يستقر ويقع في وقته ، لا يتقدّم ولا يتأخّر ، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه ، فربما عُوقب بحرمانه ، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية ، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر ، كما فعل بابن البراء وأمثاله ، حكمة من الله بالغة ، وسنة ماضية ، يقول : " من آذى لي وليّاً فقد آذن بالحرب " فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان ، فتولّ أيها السالك عنهم ، وعن خوضهم ، واشتغل بالله عنهم؛ { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } واذكر الموت وما بعده ، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء ، وذل الأغبياء ، يقولون : هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبّر .
(6/189)

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبت قبلهم } أي : قبل أهل مكة { قومُ نوح فكذَّبوا عبدنا } نوحاً عليه السلام . ومعنى تكرار التكذيب : أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب ، كلما خلا منهم قرن مكذِّب ، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله ، وقيل : كذبت قوم نوح الرسل ، { فكذَّبوا عبدنا } ؛ لأنه من جملتهم . وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة؛ تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله ، وزيادة تشينع لمكذِّبيه ، { وقالوا مجنون } أي : لم يقتصروا على مجرد التكذيب ، بل نسبوه للجنون ، { وازْدُجِرْ } أي : زجر عن أداء الرسالة؛ بالشتم ، وهدّد بالقتل ، أو : هو من جملة قولهم ، أي : قالوا : هو مجنون وقد ازدجرته الجن ، أي : تخبّطته وذهبت بلُبه .
{ فدعا ربَّه } حين أيس منهم { أني مغلوب } أي : بأني مغلوب من جهة قومي ، بتسليطهم عليّ ، فلم يسمعوني ، واستحكم اليأس من إجابتهم . قال القشيري : مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة ، إذ الحجة كانت له . ه . وهذا جار فيمن لم يستجب لك ، تقول : غلبني . ثم دعى عليهم بقوله : { فانتصرْ } ؛ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم ، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم . فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه ، فيقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
{ ففتحنا أبوابَ السماء بما منهمرٍ } منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً ، قال يمان : حتى طبق بين السماء والأرض ، وقيل : كانوا يطلبون المطر سنين ، فأُهلكوا بمطلوبهم . وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار ، وشدة إنصابها ، وقيل : كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة .
{ وفجَّرنا الأرض عيوناً } وجلعنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك : وفجرنا عيون الأرض ، ومثله : { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] في إفادة العموم والشمول ، { فالتقى الماءُ } أي : مياه السماء ومياه الأرض ، وقرئ : " الماءان " ، أي : النوعان من الماء السمائي والأرضي . { على أمر قد قُدِر } أي : قُضي في أم الكتاب ، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ، أو : قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت . قيل : كان ماء السماء بارداً كالثلج ، وماء الأرض مثل الحميم ، ويقال : إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب ، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً .
{ وحملناه على ذات ألواح } أي : أخشاب عريضة ، والمراد : السفينة ، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له ، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه ، { ودُسُرٍ } ومسامير ، جمع : دسار ، وهو المسمار ، فِعال مِن : دسره : إذا دفعه؛ لأنه يدسَر به مَنفذه . { تجري بأعيننا } أي بمرأىً منا ، أو : بحفظنا ، وهو حال من فاعل " تجري " ، أي : تجري محفوظة { جزاءً } مفعول له ، أي : فعلنا ذلك جزاءً { لمن كان كُفِرَ } وهو نوح عليه السلام ، وجعله مكفوراً؛ لأن النبي نعمة من الله ورحمة ، فكان نوح نعمة مكفورة .
(6/190)

وقرأ مجاهد بفتح الكاف ، أي : عقاباً لمَن كَفَرَ بالله . قيل : ما نجا من الغرق إلاَّ عُوج بن عُنُق ، كان الماء إلى حجزته ، وسبب نجاته : أنّ نوحاً احتاج إلى خشب الساج للسفية ، فلم يمكنه نقلها ، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام ، فشكر الله له ذلك ، ونجّاه من الغرق . قال الثعلبي . قلت : وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود ، وأنه من وضع الزنادقة . ذكره القسطلاني .
{ ولقد تركناها } أي : السفينة ، أو : الفعلة ، أي : جعلناها { آيةً } يَعتبر بها مَن يقف على خبرها . وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة ، وقيل : على الجُوديَّ ، حتى رآها أوائل هذه الأمة . { فهل من مُّدَّكر } من متعظ يتعظ ويعتبر ، وأصله : مذتكر ، فأبدلت التاء دالاً مهملة ، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج ، { فكيف كان عذابي ونُذر } ؟ استفهام تعظيم وتعجيب ، أي : كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة ، لا يُحيط بها الوصف ، والنُذر : جمع نذير ، معنى الإنذار .
{ ولقد يسَّرنا القرآنَ للذِكرِ } أي : سهّلناه للادّكار والاتعاظ؛ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر ، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية . { فهل من مُّدّكِرٍ } ؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه ، أي : فهل من متعظ يقبل الاتعاظ ، وقيل : ولقد سهّلناه للحفظ ، وأعنّا مَن أراد حفظه ، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه؟ قال القشيري : { ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر } يسَّر قراءته على ألسنة قوم ، وعِلْمَه على قوم ، وفهمه على قلوب قوم ، وحِفْظه على قلوب قوم ، وكلهم أهل القرآن ، وكلهم أهل الله وخاصته . ويقال : كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد ، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟ . ه .
ويروى : أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً ، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن ، وفي القوت : مما خصَّ اللّهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء : حفظ كتابنا هذا ، إلا ما ألهم اللّهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها ، ومنها : تبقية الإسناد فيهم ، يأثره خلف عن سلف ، متصلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان يستنسخون الصُحف ، كلما خلقت صحيفة جُددت ، فكان ذلك أثرة العلم فيهم ، والثالثة : أن كان مؤمن من هذه الأمة يُسأل عن علم الإيمان ، ويُسمع قوله مع حداثة سنه ، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان . وزاد رابعة : وهي ثبات الإيمان في قلوبهم ، لا يعتوره شك ، ولا يختلجه شرك ، مع تقليب الجوارح في المعاصي . وقد قال قوم موسى : { اجعل لَّنَآ إلها } [ الأعراف : 138 ] بعد أن رأوا الآيات العظيمة ، من انفلاق البحر وغيره . ه . قال أبو السعود : وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام . ه .
الإشارة : في الآية تسلية لمَن أُوذي من الأولياء ، وإجابة الدعاء على الظالم ، لهم إن أُذن لهم في ذلك بإلهام أو هاتفٍ ، وإلاَّ فالصبر أولى ، وجعل القشيري نوحاً إشارة إلى القلب ، وقومَه جنود النفس ، من الهوى والدنيا وسائر العلائق ، فيكون التقدير : كذبت النفسُ وجنودُها القلبَ ، فيما يَرِدُ عليه من تجليات الحق ، وكشوفات الغيب ، وقالوا : إنما هو مجنون فيما يُخبر به ، فزجرته ، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها ، فدعا ربه وقال : أني مغلوب في يد النفس وجنودها ، فانتصِرْ لي حتى تغيبني عنهم ، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية ، لتمحق تلك الظلمات النفسانية ، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية ، فالتقى ماء الواردات ، التي هي من حضرة الربوبية ، مع ماء علوم العبودية ، على أمر قد قُدر أنه ينصر القلب ، ويرقيه إلى حضرة القدس ، وحملناه على سفينة الجذب والعناية ، تجري بحفظنا ، جزاء لنعمة القلب التي كفرتْ به النفسُ وجنودُها ، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا ، والطالبون لنا ، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابي لمَن استولت عليه النفس وجنودها؟ وكيف كان إنذاري من غم الحجاب ، وسوء الحساب ، ولقد يسَّرنا القرآن للذكر؛ للاتعاظ ، فهل من مُدكر ، فينهض من غفلته إلى مولاه؟ .
(6/191)

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبتْ عادٌ } هوداً عليه السلام ، { فكيف كان عذابي ونُذُرِ } ؟! أي : وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله ، والاستفهام لتوجيه قلوب السامعين للإصغاء إلى ما يُلقى إليهم قبل ذكره؛ لتهويله وتعظيمه ، وتعجيبهم من حاله قبل بيانه ، كما قبله وما بعده ، كأنه قيل : كذبت عاد فهل سمعتم ما حلّ بهم؟ أو : فاسمعوا ، فكيف كان عذابي وإنذاري لهم .
ثم بيَّن ما أجمل فقال : { إِنَّا أرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً } باردة أو : شديدة الصوت ، { في يوم نَحْسٍ } شؤم { مستمرٍ } شؤمه عليهم إلى أن أهلكهم ، وكان في أربعاء آخر شوال ، { تَنزِعُ الناسَ } أي : تقلعهم ، وجاء بالظاهر مكان المضمر؛ ليشمل ذكورَهم وإناثهم ، صغيرهم وكبيرهم . رُوي : أنهم كانوا يتداخلون الشِّعاب ، ويحفرون الحفر ، ويندسُّون فيها ، ويُمسك بعضهم ببعض؛ فتزعجهم الريح ، وتَصرعُهم موتى .
قال ابن إسحاق : ولمّا هاجت عليهم الريح ، قام سبعةُ نفرٍ من عاد فأولجوا العيال في شعب بين جبلَين ، ثم اصطفُّوا على باب الشعب ، ليردُّوا الريحَ عنهم ، فجعلت الريحُ تجعفهم رجلاً رجلاً . ه . ثم صاروا بعد موتهم { كأنهم أعجازُ نخل مُنقَعرٍ } أي : أصول نخل منقلع من مغارسه ، وشُبِّهوا بأعجاز النخلة ، وهي أصولها التي قطعت روؤسها؛ لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم ، فتبقى أجساداً بلا رؤوس ، فيتساقطون على الأرض أمواتاً ، وهم جثث طوال . وتذكير صفة النخل بالنظر إلى اللفظ ، كما أن تأنيثه في قوله تعالى : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحافة : 7 ] بالنظر للمعنى . { فكيف كان عذابي ونُذُر } ؟! تهويل وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما ، فليس فيها شائبة تكرار ، وما قيل : من أن الأول لِما حاق بهم في الدنيا ، والثاني لِما يحيق بهم في الآخرة ، يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي .
{ ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكرفهل من مُّدَّكِرٍ } ؟! وفي تكريره بعد كل قصة؛ تنبيه على أن إيراد قصص الأمم إنما هو للوعظ والتذكار ، وللانزجار عن مثل فعلهم ، لا لمجرد السماع والتلذُّذ بأخبارهم ، كما هي عادة القصاص .
الإشارة : من شأن النفوس العاتية المُتجبرة العادية؛ تكذيب أهل الخصوصية كيفهما كانوا ، ولا ترضى بحط رأسها لمَن يدعوها إلى ربها ، فيُرسل اللّهُ عليهم ريحَ الهوى والخذلان ، فتصرعهم في محل الذل والهوان ، وتتركهم عبيداً لنفوسهم الخسيسة ، وللدنيا الدنية ، فكيف كان عذابي هؤلاء وإنذاري لهم؟! ولقد يسّرنا القرآن للذكر ، وبيَّنَّا فيه ما فعلنا بأهل التكبُّر والعناد من الإهانة والطرد والإبعاد ، فهل مِن مدكر ، يتيقّظ مِن سنة غفلته ، ويرحل من دنياه لآخرته ، ومن نفسه إلى ربه؟
(6/192)

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبت ثمودُ بالنُذُر } بصالح عليه السلام؛ لأنَّ مَن كذّب واحداً فقد كذّب الجميع؛ لاتفاقهم في الشرائع ، أو : كذّبوا بالإنذارات والمواعظ التي يسمعونها من صالح ، { فقالوا أَبَشراً منا } أي : كائناً من جنسنا ، وانتصابه بفعل يُفسره " نتبعه " أي : أنتبع بشراً منا { واحداً } منفرداً لا تباعة له؟ أو : واحداً من الناس لا شرف له { نَتبه } وندع ديننا؟ { إِنَّا إِذاً } أي : على تقدير اتباعنا له ، وهو مفرد ونحن أمة جمة { لفي ضلالٍ } عن الصواب { وسُعُرٍ } نيران تحرق ، جمع " سعير " . كان صالح يقول فعكسوا عليه ، لغاية عتوهم ، وقالوا : إن اتبعناك كنا كنا تقول . وقيل : المراد بالسعر : الجنون ، لأنها تشوه صاحبها ، أنكروا أن يكون الرسول بشراً ، وطلبوا أن يكون من الملائكة ، وأنكروا أن تتبع أمةٌ واحداً ، أو : رجلاً لا شرف له في زعمهم ، حيث لم يتعاط معهم أسباب الدنيا . ويؤيد التأويل الثاني قوله : { أأُلقيَ الذِكْرُ } أي : الوحي { عليه مِن بيننا } وفينا مَن هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟ { بل هو كذّاب أشِرٌ } أي : بطر متكبر ، حَمَلَه بطرُه وطلبُه التعظيم علينا على ادعائه ذلك .
قال تعالى : { سيعلمون غداً } أي : عن قريب ، وهو عند نزول العذاب بهم ، أو يوم القيامة ، { مَن الكذّابُ الأشِرُ } أصالح أم مَن كذّبه؟ وقرأ الشامي وحمزة بتاء الخطاب ، على حكاية ما قاله صالح مجيباً لهم . { إِنا مرسلوا الناقةِ } باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا ، { فتنةً لهم } ابتلاءً وامتحاناً لهم ، مفعول له ، أو : حال ، { فارتقبهم } فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون { واصْطَبر } على أذاهم ، ولا تعجل حتى ياتيك أمري .
{ ونَبِّئهم أنَّ الماءَ قِسْمةٌ بينهم } مقسوم بينهم ، لها شِرْب يوم ، ولهم شِرْب يوم ، وقال : " بينهم " تغليباً للعقلاء . { كُل شِرْبِ مُحتَضَرٌ } محضور ، يحضر القوم الشرب يوماً ، وتحضر الناقة يوماً ، { فنادَوا صَاحِبَهم } قُدَار بن سالف ، حُمير ثمود ، { فتعاطَى } فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم ، غير مكترث به ، { فعَقَرَ } الناقة ، أو : فتعاطى الناقة فعقرها ، أو : تعاطى السيف فقتلها ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلُّف . وقال أبو حيان : هو مضارع عاطا ، وكأنّ هذه الفعلة تدافعها الناس بعضهم بعضاً ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده .
{ فكيف كان عذابي ونُذُر إِنَّا أرسلنا عليهم } في اليوم الرابع مِن عَقْرها ، { صَيحةً واحدة } صاح بهم جبريل عليه السلام { فكانوا } فصاروا { كهشيمِ المحتظِر } كالشجر اليابس الذي يجده مَن يعمل الحظيرة ، فالهشيم : الشجرة اليابس المتكسر ، الذي يبس من طول الزمان ، وتتوطّؤه البهائم؛ فيتحطّم ويتهشّم ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة . قال ابن عباس : " هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك ، فما يسقط من ذلك ودرسته الغنم فهو هشيم " شبههم في تبدُّدهم ، وتفرُّق أوصالهم ، بالشوك الساقط على الأرض ، { ولقد يَسَّرْنا القرآن للذكر فهل من مُدَّكِرٍ } فيتعظ بما يسمع من هذه القصص .
(6/193)

الإشارة : سبب إنكار الناس على أهل الخصوصية؛ ظهور وصف البشرية عليهم ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، ووصف البشرية على قسمين :
قسم لازم ، لا تنفك العبودية عنه ، كالأكل والشرب والنوم والنكاح ، وغيرها من الأوصاف الضرورية ، وهذه هي التي تجامع الخصوصية ، وبها سترت ، واحتجبت حتى أنكرت ، فوجودها في العبد كمال؛ لإنها صِوان لسر الخصوصية . قال في الحكم : " سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية " . وقسم عارض يمكن زواله؛ وهي الأوصاف المذمومة ، كالكبر والحسد والحقد ، وحب الدنيا والرياسة ، وغير ذلك ، فهذا لا تجامعه الخصوصية ، ولا بد من التطهير منه في وجودها .
وللقشيري إشارة أخرى ، وحاصلها : كذبت ثمود؛ النفسُ الأمّارة وجنودُها : صالح القلب؛ حين دعاها إلى الخروج عن عوائدها ، والتطهُّر من أوصافها المذمومة ، فقالت النفسُ وجنودها : أنتبع واحداً منا ، لأنه مخلوق مثلنا ، ونحن عُصبة؟ إنا إذاً لفي ضلال سُعر ، أأُلقي الذكر الإلهامي عليه مِن بيننا؟ بل هذ كذَّاب أشر ، سيعلمون غداً ، حين يقع لهم الرحيل من عالمهم ، مَنِ الكذابُ الأشر ، أثمود النفس وجنودها ، أم صالح القلب؟ . إنّا مرسل ناقة النفس فتنة لهم ، ابتلاءً؛ ليظهر الخصوص من العموم ، فارتقبهم ، لعلهم يرجعون إلى أصلهم من النزاهة والطهارة ، واصطبر في مجاهدتهم ، ونبئهم أنَّ ماء الحياة - وهي الخمرة الأزلية - قسمة بينهم ، مَن شَرِبَ منها ، صفا ، ومَن تنكّب عنها أظلم ، كُل شِرْب يحضره مَن يتأهل له . فنادوا صاحبهم - وهو الهوى - فتعاطى ناقة النفس ، التي أرادت العروج إلى وطن الروح ، فعقرها وردها إلى وطنها الخسيس ، فكيف كان عذابي لها وإنذاري إياها؟ إنَّا أرسلنا عليهم صيحةَ القهر ، فسقطوا إلى الحضيض الأسفل ، فكانا كهشيم المحتظر؛ صاروا أرضيين بعد أن كانوا سماويين . ه . بالمعنى مع تخالف له .
ثم قال القشيري : اعلم أن النفس حقيقة واحدة ، غير متعددة ، لكن بحسب توارد الصفات المتباينة تعددت أسماؤها ، فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كليّاً؛ سميت مطمئنة ، وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كليّاً؛ سميت أمّارة ، وإذا توجهت إلى الحق تارة ، وإلى الطبيعة أخرى؛ سميت لوّامة . ه مختصراً .
(6/194)

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
يقول الحق جلّ جلاله : { كذبت قومُ لوط بالنُذر } وقد تقدّم ، { إِنّا أرسلنا عليهم } أي : على قوم لوط { حاصِباً } أي : ريحاً تحصبهم ، أي : ترميهم بالحصباء ، { إِلا آلَ لوطٍ } ابنتيه ومَن آمن معه ، { نجيناهم بسَحَرٍ } ملتبسين بسَحَرٍ من الأسحار ، ولذا صرفه ، وهو آخر الليل ، أو : السُدس الأخير منه ، وقيل : هما سحران ، فالسَحَر الأعلى : قبل انصداع الفجر ، والآخر : عند انصداعه ، { نعمةً مِن عندنا } أي : إنعاماً منا ، وهو علة لنجَّينا ، { كذلك } أي : مثل ذلك الجزاء العجيب { نجزي من شَكَرَ } نعمتنا بالإيمان والطاعة .
{ ولقد أَنذَرَهم } لوط { بطشَتنا } أخذتنا الشديدة بالعذاب ، { فتمَارَوا } فكذّبوا { بالنُذُر } بإنذاره متشاكّين فيه ، { ولقد راودوه عن ضيفه } قصدوا الفجور بأضيافه ، { فطمسنا أعينَهم } فمسخناها وسويناها كسائر الوجه ، أي : صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها .
رُوي أنهم لمَّا قصدوا دار لوط ، وعالجوا بابها ليدخلوا ، قالت الرسل للوط : خلّ بينهم وبين الدخول ، فإنّا رُسل ربك ، لن يصلوا إليك . وفي رواية : لمّا مُنعوا من الباب تسوّروا الحائط ، فدخلوا ، فصفعهم جبريل بجناحه؛ فتركهم عُمياً يترددون ، ولا يهتدون إلى الباب ، فأخرجهم لوط عُمياً . وقلنا لهم على ألسنة الرسل ، أو بلسان الحال : { فذُوقوا عذابي ونُذُرِ } أي : وبال إنذاري ، والمراد به : الطمس؛ فإنه من جملة ما أُنذروا به .
{ ولقد صبَّحهم بُكرةً } أول النهار { عذابٌ مستقِرٌ } لا يفارقهم حتى يُسلمهم إلى النار ، وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهي إليه ، { فذوقوا عذابي ونُذُرِ } حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته - تعالى - تشديداً للعتاب .
{ ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر فهل من مُّدكرِ } قال النسفي : وفائدة تكرير هذه الآية ، أن يجدّدوا عند سماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك ، وأن يستأنفوا تنبُّهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحثّ على ذلك ، وهكذا حكم التكرير في قوله : { فَبِأَيِّ ءَالآءِ رَبِّكُمَا تُكّذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] عند كل نعمة عدّها ، وقوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] عند كل آية أوردها ، وكذا تكرير القصص في أنفسها؛ لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب ، مصوّرة في الأذهان ، مذكّرة غير منسيّةٍ في كل أوان . ه .
الإشارة : قال القشيري : يُشير إلى أنَّ كل مَن غلبته الشهوةُ البهيمية - شهوة الجماع - يجب عليه أن يقهر تلك الصفة ، ويكسرها بأحجار ذكر " لا إله إلا الله " ، ويُعالج تلك الصفة بضدها ، وهو العفة . ه . فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية ، فقد كذّب الروحَ حين دعتها إلى مقام الصفا ، ودعتها النفسُ بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل ، فإذا أراد اللّهُ نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات ، فمحتْ أوصافها الذميمة ، ونقلتها إلى مقام الروحانية ، قال تعالى : { إنا أرسلنا عليه حاصباً إلا آل لوط } يعني الأوصاف المحمودة ، نجيناهم في آخر ليل القطيعة ، أو : الروح وأوصافها الحميدة ، نجيناها في وقت النفحات من التدنُّس بأوصاف النفس الأمّارة ، نعمةً من عندنا ، لا بمجاهدة ولا سبب ، كذلك نَجزي من شكر نعمة العناية ، وشكر مَن جاءت على يديه الهداية ، وهم الوسائط من شيوخ التربية .
(6/195)

ولقد أنذر الروحُ النفسَ وهواها وجنودها بطشَتنا : قهرنا ، بوارد قهري ، مِن خوف مُزعج ، أو شوقٍ مُقلق ، حتى يُخرجها من وطنها ، فتَماروا بالنُذر ، وقالوا : لم يبقَ مَن يُخرجنا مِن وطننا ، فقد انقطعت التربية ، ولا يمكن إخراجنا بغيرها ، ولقد راودوه عن ضيفه ، راودوا الروحَ عن نور معرفته ويقينه ، بالميل إلى شهوات النفس؛ فطمسنا أعينهم ، فلم يتمكنوا من رد الروح إذا سبقت لها العناية ، فيُقال للنفس وجنودِها ، ذوقوا عذابي ونُذُري بالبقاء مع الخواطر والهموم ، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر ، وهو مَحق أوصاف النفس ، والغيبة عنها أبداً سرمداً . والله تعالى أعلم .
(6/196)

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
يقول الحق جلّ جلاله : { ولقد جاء آلَ فرعونَ النُذُر } موسى وهارون ، جمعهما لغاية ما عالجا في إنذارهم ، أو : بمعنى الإنذار ، وصدّر قصتهم بالتوكيد القسمي؛ لإبراز كمال الإعتناء بشأنها؛ لغاية عِظَم ما فيها من الآيات ، وكثرتها ، وهول ما لاقوه من العذاب ، واكتفى بذكر آل فرعون؛ للعلم بأنَّ نفسه أولى بذلك ، { كذَّبوا بآياتنا كلها } وهي التسع { فأخذناهم أَخْذَ عزيزٍ } لا يغالَب { مقتدرٍ } لا يعجزه شيء .
الإشارة : النفوس الفراعنة ، التي حكمت المشيئة بشقائها ، لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير؛ لأنَّ الكبرياء من صفة الحق ، فمَن نازع اللّهَ فيها قصمة الله وأبعده .
(6/197)

أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
يقول الحق جلّ جلاله : { أكُفاركم } يا معشر العرب : أو : يا أهل مكة { خيرٌ من أُولئِكم } الكفار المعدودين في السورة؛ قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون ، والمعنى : أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوةً وآلةً ومكانةً في الدنيا ، أو : كانوا أقلّ منكم كفراً وعناداً ، فهل تطمعون ألاَّ يُصيبكم مثل ما أصابهم ، وأنتم شر منهم مكانةً ، وأسوأ حالاً؟ { أم لكم براءةٌ في الزُبُر } أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة : أنَّ مَن كفر منكم وكذّب الرسول كان آمناً مِن عذاب الله ، فأمِنتم بتلك البراءة؟
{ أم يقولون نحنُ جميعٌ } أي : جماعة أمرنا جميع { منتصِرٌ } ممتنع لا نُرام ولا نُضام ، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم ، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب ، وحكاية قبائحهم لغيرهم ، أي : أيقولون واثقين بشوكتهم : نحن أولو حزم ورأي ، أمرنا مجتمع لا يقدَر علينا ، أو : منتصرون من الأعداء ، لا نغلب ، أو : متناصرون ، ينصر بعضُنا بعضاً . والإفراد باعتبار لفظ " جميع " .
{ سيُهزم الجَمْعُ } جمع أهل مكة ، { ويُولُّون الدُّبر } الأدبار . والتوحيد لإرادة الجنس ، أو : إرادة أنّ كل منهم يُولّي دبره ، وقد كان كذلك يوم بدر . قال عمر رضي الله عنه : لما نزلت : { سيهزم الجمع ويُولون الدبر } كنت لا أدري أي جمع يُهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يلبس الدرع ، ويقول : { سيُهزم الجمع ويُولون الدبر } فعرفت تأويلها ، فالآية مكية على الصحيح ، { بل الساعةُ موعدُهُم } أي : ليس هذا تمام عقوبتهم ، بل الساعة موعد أصل عذابهم ، وهذا طلائعه ، { والساعةُ أدْهَى وأَمرُّ } أي : أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا . والداهية : الأمر الفظيع الذي لا يُهْتَدَى إلى الخلاص منه ، وإظهار الساعة في موضع إضمارها تربيةً لهولها .
{ إِنَّ المجرمين } من الأولين والآخرين { في ضلالٍ } عن الحق في الدنيا { وسُعُرٍ } ونيران تحرق في الآخرة ، أو : لفي هلاك ونيران مسعرة ، { يوم يُسحبون في النار } يُجرّون فيها { على وجوههم } ويقال لهم : { ذُوقوا مَسَّ سَقَرَ } أي : قيسوا حرها وأَلمها ، كقولك : وَجَدَ مسَّ الحمَّى ، وذاق طعم الضرب؛ لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّاً بذلك ، و " سقر " غير مصروف للعلمية والتعريف؛ لأنها علم لجهنم ، من : سقَرتْه النار : إذا لَوّحتْه .
الإشارة : ما قيل في منكري خصوصية النبوة ، يُقال في منكري خصوصية الولاية إذا استغل بأذاهم ، يعني : أنَّ مَن أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم ، إما ذُل في الظاهر ، أو طرد في الباطن ، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلُهم . أمنتقدكم خير مِن أولئكم أم لكم براءة مِن العذاب في كتب الله تعالى؟ أم يقولون : نحن جميع ، أي : مجتمعون على الدين ، لا يُصيبنا ما أصاب الكفار ، فيُقال لهم : سيُهزم جمعكم ، ويتفرّق شملكم ، وتُفضوا إلى ما أسلفتم ، نادمين على ما فعلتم ، ولن ينفع الندم حين تزل القدم ، فتبقون في حسرة البُعد على الدوام ، فالكفار حُرموا من جنة الزخارف ، وأنتم تُحرمون من جنة المعارف ، مع غم الحجاب وذُل البُعد عن الحضرة القدسية ، إن المجرمين - وهم أهل الطعن والانتقاد - في ضلال عن طريق الوصول إلى الله ، ونيران القطيعة ، يوم يُسْبَحون على وجوههم ، فينهمكون في الدنيا في الحظوظ والشهوات ، وفي الآخرة في نار البُعد والقطيعة ، على دوام الأوقات ، ويقال لهم : ذُوقوا مرارةَ الحجاب وسوء الحساب ، وكل هذا بقدر وقضاء سابق .
(6/198)

إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا كُلَّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ } أي : بتقدير سابق في اللوح قبل وقوعه ، قد علمنا حالَه وزمانه قبل ظهوره ، أو : خلقناه كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة ، و " كل " : منصوب بفعل يُفسره الظاهر . وقرئ بالرفع شاذّاً ، والنصب ألأولى؛ لأنه لو رفع لأمكن أن يكون " خلقنا " صفة لشيء ، ويكون الخبر مقدراً ، أي : إنا كل شيء مخلوق لنا حاصل بقدر ، فيكون حجة للمعتزلة ، باعتبار المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله . فلم يسبق لها قدر ، تعالى الله عن قولهم ، المفهوم ، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله . فلم سبق لها قدر ، تعالى الله عن قولهم ، ويجوز أن يكون الخبر : " خلقناه " ، فلا حجة فيه ، ولا يجوز في النصب أن يكون " خلقنا " صفة لشيء؛ لأنه يفسر الناصب ، والصفة لا تعمل في الموصوف ، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً . قال أبو هريرة : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُخاصمونه في القدر ، فنزلت الآية ، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية ، أي : على طريق الإخبار بالغيب .
{ وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ } أي : كلمة واحدة ، سريعة التكوين ، وهو قوله تعالى : { كن } أي : وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلاّ أن نقول له : كن ، فيكون ، أو : إلاّ فِعلة واحدة ، وهو الإيجاد بلا معالجة ، { كلمح بالبصر } في السرعة ، أي : على قد ما يلمح أحد ببصره ، وقيل : المراد سرعة القيامة ، لقوله تعالى : { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [ النحل : 77 ] .
{ ولقد أهلكنا أشياعكم } أي : أشباهكم في الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم ، { فهل من مُدَّكِر } من متعظ بذلك { وكلُّ شيءٍ فعلوه } من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل { في الزُبرِ } في ديوان الحفظة ، { وكل صغيرٍ وكبيرٍ } مِن الأعمال ، ومِن كل ما هو كائن { مُسْتَطَرٌ } مسطور في اللوح بتفاصيله .
ولمَّا بيَّن سوء حال الكفرة بقوله : { إن المجرمين . . . } الخ ، بيَّن حُسن حال المؤمنين ، جمعاً بين الترهيب والترغيب فقال : { إِنَّ المتقين } أي : الكفر والمعاصي { في جناتٍ } عظيمة { ونَهَرٍ } أي : أنهار كذلك ، والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس ، مراعاة للفواصل ، وقرئ : " ونُهُر " جمع " نَهَر " ، كأَسَد وأُسُد . { في مقعد صدقٍ } في مكان مرضيّ ، وقرئ " فيمقاعد صدق " ، { عند مليكٍ مقتدرٍ } أي : مقربين عند مليك قادر لا يُقادَر قدر ملكه وسلطانه ، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته ، سبحانه ، ما أعظم شأنه . والعندية : عندية منزلة وكرامة وزلفى ، لا مسافة ولا محاسّة .
الإشارة : هذه الآية وأشباهها هي التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار ، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار؛ لأنّ العاقل إذا علمَ عِلم يقين أن شؤونه وأحواله ، وكل ما ينزل به ، قد عمّه القدر ، لا يتقدّم شيء عن وقته ولا يتأخر ، فوَّض أمره إلى الله ، واستسلم لأحكام مولاه ، وتلقى ما ينزل به من النوازل بالرضا والقبول ، خيراً كان أو شرّاً ، كما قال الشاعر :
(6/199)

إِذا كانتِ الأَقْدارُ مِن مَالكِ المُلْكِ ... فَسِيَّان عِندي مَا يَسرُّ وما يُبكي
وقال آخر :
تَسَلَّ الْهُمومِ تَسل ... فَما الدُّنيا سِوى ثوبٍ يُعارُ
وسَلِّم للمُهَيْمنِ في قَضَاهُ ... ولاَ تَخْتَرْ فلَيْسَ لَكَ اخْتِيارُ
فَما تَدرِي إِذا ما الليْلُ وَلَّى ... بِأَيِّ غَريبةٍ يَاتِي النَّهار
وقوله تعالى : { وما أَمْرُنا إِلا واحدةٌ . . } الخ ، هذا في عالمَ الأمر ، ويُسمى عالم القدرة ، وأما في عالم الخلق ، ويسمى عالَم الحكمة ، فجُلّه بالتدريج والترتيب ، ستراً لأسرار الربوبية ، وصوناً لسر القدرة الإلهية ، ليبقى الإيمان بالغيب ، فتظهر مزية المؤمن؟ ويُقال لأهل العناد المُتجبرة : ولقد أهلكنا أشياعكم؛ إما بالهلاك الحسي ، أو المعنوي ، كالطرد والبُعد ، فهل من متعظٍ ، يرجع عن عناده؟ وكل شيء فعلوه في ديوان صحائفهم ، وكل صغير وكبير من أعمال العباد مسطورة في العلم القديم . إنَّ المتقين ما سوى الله ، في جنات المعارف ، وأنهار العلوم والحِكَم ، في مقعد صدق ، هو حضرة القدس ، ومحل الأنس ، عند مليك مقتدر . قال الورتجبي : مقامات العندية جنانها زفارف الأنس ، وأنهارها أنوار القدس ، أجلسهم الله في بساط الزلفة والمداناة ، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر ، ولا يزول عنها بالتستُّر والحجاب؛ لذلك سماه " مقعد صدق " أي : محل كرامة دائمة ، ومزية قائمة ، ومواصلة سرمدية ، والله مقدّر قادر . انظر تمام كلامه .
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
(6/200)