الكتاب : تفسير ابن عجيبة
المؤلف : ابن عجيبة
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
قلت : { بالحق } : إما صفة لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير " نَقُصُّ " ، أو من " نبأهم " ، أو صفة له ، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته ، أي : نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق ، أو نقصه متلبسين بالحق ، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق ، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق . و { إذ قاموا } : ظرف لربطنا ، { وشططًا } : صفة لمحذوف ، أي : قولاً شططًا ، أي : ذا شطط ، وُصِف به؛ للمبالغة . و { هؤلاء } : مبتدأ ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم ، و { قومنا } : عَطْفُ بيانٍ له . و { اتخذوا } : خبر ، و { ما يعبدون } : موصول ، عطف على الضمير المنصوب ، أو مصدرية ، أي : وإذ اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله ، أو عبادتهم إلا عبادة الله ، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام . ومنقطع؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان ، ويجوز أن تكون { ما } نافية؛ على أنه إخبار من الله - تعالى - عن الفتية بالتوحيد ، معترض بين " إذ " وجوابه العامل فيها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { نحن نقصُّ عليك نبأَهم } ، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر ، قصصًا ملتبسًا { بالحق } : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة .
وخبرهم ، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل ، وظهرت فيهم الخطايا ، وطغت ملوكهم ، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا : " دقيانوس "؛ فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا ، فجاس خلال الديار والبلاد؛ بالعبث والفساد ، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح ، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع ، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه ، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها . فلما رأى الفتيةُ ذلك ، وكانوا عظماء مدينتهم ، وكانوا بني الملوك ، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى ، واشتغلوا بالصلاة والدعاء ، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار ، فأحضروهم بين يديه ، فقال لهم ما قال ، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان ، فقالوا : إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا ، لن ندعو من دونه أحدًا ، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا ، فاقض ما أنت قاض ، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة ، وأخرجهم من عنده . زاد في رواية : وضمنهم أهلهم ، وخرج إلى مدينة ( نينوى ) ؛ لبعض شأنه ، وأمهلهم إلى رجوعه؛ ليتأملوا في أمرهم ، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين .
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين ، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا ، فتصدقوا ببعضه ، وتزودوا بالباقي ، فأَوَوْا إلى الكهف . وفي رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم ، على ما يأتي في شأنه ، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار ، ويبتهلون إلى الله - سبحانه - بالأنين والجُؤَار ، ففوضوا أمر نفقتهم إلى " يمليخا " ، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ، ويلبس ثياب المساكين ، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ، ويتحسس ما فيها من الأخبار ، ويعود إلى أصحابه ، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم ، وأحضر آباءهم ، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم ، وبذروها في الأسواق ، وفروا إلى الجبل .
(3/381)

فلما رأى " يمليخا " ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ، ومعه قليل من الزاد ، فأخبرهم بما شهد من الهول ، ففزعوا إلى الله - عزّ وجلّ - وخروا له سُجدًا ، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم ، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم فناموا ، ونفقتُهم عند رؤوسهم . فخرج " دقيانوس " في طلبهم بخيله ورَجله ، فوجدهم قد دخلوا الكهف ، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله ، فلما ضاق بهم ذرعًا ، قال قائل منهم : أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم؟ قال : بلى . قال : فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا؛ جُوعًا وعَطَشًا ، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى ، إذ قال :
{ إِنهم فتيةٌ } ، استئناف بياني ، كأن سائلاً سأل عن حالهم ، فقال : إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة { آمنوا بربهم } ، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم ، { وزدناهم هُدىً } ؛ بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه ، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء . وفيه التفات إلى التكلم؛ لزيادة الاعتناء بشأنهم ، { وربطنا على قلوبهم } أي : قويناهم ، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان ، والنعيم والإخوان ، واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر ، والرد على دقيانوس الجبار؛ { إِذْ قاموا } أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين ، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد . فقال أكبرهم : إني لأجد في نفسي شيئًا ، إن ربي هو رب السماوات والأرض ، فقالوا : نحن أيضًا كذلك ، فقاموا جميعًا { فقالوا ربُنا ربُّ السماواتِ والأرضِ } ، وعزموا على التصميم بذلك . وقيل : قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به ، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام ، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى : { هؤلاء . . . } الخ : منقطعًا صادرًا عنهم ، بعد خروجهم من عنده .
ثم قالوا : { لن ندعوَ من دونه إِلهًا } ، لا استقلالاً ولا اشتراكًا ، ولم يقولوا : ربًا؛ للتصميم على الرد على المخالفين ، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة ، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية . { لقد قُلنا إِذًا شَطَطًا } : قولاً ذا شطط ، وهو الجور والتعدي ، أي : لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر ، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول ، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا .
{ هؤلاء قومُنَا } قد { اتخذوا من دون آلهةً } ، فيه معنى الإنكار ، { لولا } : هلا { يأتونَ عليهم } : على ألوهيتهم { بسلطان بَيِّن } : بحجة ظاهرة ، { فمن أظلمُ } أي : لا أحد أظلم { ممن افترى على الله كذبًا } بنسبة الشريك إليه؛ فإنه أظلم من كل ظالم .
(3/382)

{ وإذ اعتزلتموهم } أي : فارقتموهم { و } فارقتم { ما يعبدون إِلا الله فَأْووا إِلى الكهف } : فالتجئوا إليه ، والمعنى : وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا ، { ينشرْ لكم ربٌُّكم } : يبسط لكم ويوسع عليكم { من رحمته } في الدارين ، { ويهيئْ لكم من أمركم } الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين ، { مِرْفَقًا } : ما ترتفقون به ، أي : تنتفعون ، وجزمهم بذلك؛ لنصوع يقينهم ، وقوة وثوقهم بفضل الله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية؛ الإيمان ، الذي هو الأساس ، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان ، وربط القلب في حضرة الرب ، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد ، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق .
وقال الورتجبي في قوله تعالى : { وزدناهم هُدىً } : أي : زدناهم نورًا من جمالي ، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي ، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد؛ لأن نوري لا نهاية له . وقال عند قوله : { إِذ قاموا } : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع . والأصل قوله : { وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا } ، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة ، أي : الحسية في القيام الحسي ، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية ، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين ، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن ، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة . ه .
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع . وإذا حملناه على القيام المعنوي ، وهو النهوض في الشيء ، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك ، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته . والله تعالى أعلم .
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية ، وفعلته ودامت عليه ، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف : { إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض } ، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا . ه . قلت : وقوله تعالى : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً } [ آل عمران : 191 ] : صريح في الجواز .
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد ، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا؟ فقال : " لا ، بل أوّاه منيب " ، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية : " أِسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع " ، فأنكر عليه بما شهد فيه ، ولم ينكر على أبي موسى قوله : ( لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا ) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به ، ولذا كل من كان له حسن قصد ، ونية خير ، في إظهار عمل ، فليس من السمعة والرياء في شيء؛ لتجرده من الآفة الدنيوية ، وهي الطمع والمدح . ه .
(3/383)

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قلت : { تزاور } أصله : تتزاور ، فأُدغمت التاء في الزاي . وقرأ الكوفيون بحذفها ، وابن عامر ويعقوب : " تَزَوَّرُ " كتَمرد ، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل . و { ذات اليمين } : ظرف بمعنى الجهة . وجملة : { وهم في فجوة } : حال ، و { ذراعيه } : مفعول " باسط "؛ لأنه حكاية حال ، أي : يبسط ، و { فرارًا } : مصدر؛ لأنه عبارة عن معنى التولية ، أو حال ، أي : لوليت فارًا ، و { رُعْبًا } : مفعول ثان لملئت ، أو تمييز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بيان حالهم بعدما أووا إلى الكهف : { وترى الشمسَ إِذا طلعت تزَاورُ } أي : تنتحي وتميل { عن كهفهم } الذي أووا إليه ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب . وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا ، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم { ذاتَ اليمين } أي : جهة ذات يمين الكهف ، عند الداخل إلى قعره ، { وإِذا غَرَبَت } أي : وتراها إذا غربت { تَقْرِضُهم } أي : تقطعهم وتتعدى عنهم { ذاتَ الشمال } أي : جهته وجانبه الذي يلي المشرق . وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة؛ كرامة لهم . وقيل : كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش ، { وهم في فجوةٍ منه } : في موضع واسع منه ، وذلك موقع لإصابة الشمس ، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم .
{ ذلك من آيات الله } أي : ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها ، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته ، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه . قال بعضهم : هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف ، قلت : كان قبل السد وبعد هدم السد؛ لأنه هُدم بعدُ ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا . وظاهر الآية يُرجح من قال : إنه من باب خرق العادة .
{ مَن يَهدِ الله فهو المهتدِ } الذي أصاب الفلاح . والمراد : إما الثناء عليهم ، والشهادة بإصابة المطلوب ، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق ، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها ، { ومن يُضلل } أي : يخلق فيه الضلال؛ بصرف اختياره إليه ، { فلن تجد له } ، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء ، { وليًّا } : ناصرًا { مُرشدًا } ، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح . والجملة معترضة بين أجزاء القصة .
ثم قال : { وتحسبُهُم } بالفتح والكسر ، أي : تظنهم { أيقاظًا } ، لانفتاح أعينهم ، أو لكثرة تقلبهم ، وهو جمع " يقظ "؛ بظم القاف وكسرها ، { وهم رقود } أي : نيام ، { ونُقلِّبهم } في رقودهم { ذاتَ اليمين } أي : جهة تلي أيمانهم ، { وذات الشمال } أي : جهة تلي شمائلهم؛ لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم . قال ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض .
(3/384)

قيل : كانوا يتقلبون مرتين في السنة . وقيل : مرة يوم عاشوراء . وقيل : في تسع سنين .
{ وكلبهم باسطٌ ذراعيه } ، حكاية حال ماضية أي : يبسط ذراعيه ، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع . { بالوصيد } أي : بموضع من الكهف ، وقيل : بالفِناء من الكهف ، وقيل : العَتَبة . وهذا الكلب ، قيل : هو كلبٌ مَروا به فتبعهم ، فطردوه مرارًا ، فلم يرجع ، فأنطقه الله ، فقال : يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي؛ فإني أُحب أحباء الله ، فناموا حتى أحرُسَكم . وقيل : هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم ، ومر معه كلبه ، ويؤيده قراءة : ( وَكَالِبُهُمْ ) أي : وصاحب كلبهم ، وقيل : هو كلب صيد لهم أو زرع ، واختُلف في لونه؛ قيل أحمر ، وقيل : أصفر ، وقيل : أصهب .
{ لو اطّلعتَ عليهم } أي : لو عاينتهم وشاهدتهم . والاطلاع : الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة ، { لولَّيت منهم فرارًا } : هربًا بما شاهدت منهم ، { ولمُلئتَ منهم رُعْبًا } ، أي : خوفًا يملأ الصدور برُعبه ، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة ، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم ، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم . وعن معاوية : أنه غزا الروم فمرّ بالكهف ، فقال : لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم ، فقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس لك ذلك؛ قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك ، حيث قال : { لو اطلعت عليهم . . . } الآية ، فلم يسمع ، وقال : ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم ، فبعث ناسًا ، وقال : اذهبوا فانظروا ، ففعلوا ، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم . ه .
الإشارة : للصوفية - رضي الله عنهم - تشبه قويّ بأهل الكهف ، في الانقطاع إلى الله ، والتجرد عن كل ما سواه ، والانحياش إلى الله ، والفرار من كل ما يشغل عن الله ، والتماس الرحمة الخاصة من الله ، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب ، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به ، حين أووا إلى كهف الإيواء؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس . ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله - أي : الصوفية - ممن رام أذاهم ، وغيّبهم عن حس أنفسهم ، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته ، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم ، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء؛ تحقيقًا لكمال التشبيه . والله تعالى أعلم .
(3/385)

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك } أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل ، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا ، { بعثناهم } من النوم { ليتساءلوا بينهم } أي : ليسأل بعضُهم بعضًا ، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة ، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم ، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله ، ويستبصروا أمر البعث ، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم .
{ قال قائلٌ منهم } هو رئيسهم ، واسمه : " مكْسلَيمنيا " : { كم لبثتمْ } في منامكم؟ لعله قال ذلك؛ لِمَا رأى من مخالفة حالهم ، لِمَا هو المعتاد في الجملة ، { قالوا } أي : بعضهم : { لبثنا يومًا أو بعض يوم } ، قيل : إنما قالوا ذلك؛ لأنهم دخلوا الكهف غُدوة ، وكان انتباههم آخر النهار ، فقالوا : { لبثنا يومًا } ، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا : { أو بعض يوم } ، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب ، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب .
{ قالوا } أي : بعضٌ آخر منهم ، بما سنح له من الأدلة ، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم : { ربكُم أعلمُ بما لبثتم } أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم ، وإنما يعلمها الله - سبحانه - ، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب ، { فابعثوا أحَدكم بورقكم هذه إِلى المدينة } ، أعرضوا عن البحث عن المدة ، وأقبلوا على ما يهم في الوقت ، والورق : الفضة ، مضروبة أو غير مضروبة ، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم ، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل ، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه . ثم قالوا : { فلينظر أيُّها } أي : أيُّ أهلها { أزكى طعامًا } أي : أحل وأطيب ، أو أكثر وأرخص ، { فليأتِكُمْ برزقٍ منه } أي : من ذلك الأزكى طعامًا ، { وليتلطف } : وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام ، لئلا يُعرف ، { ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحدًا } ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة ، أو : لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك .
ثم علل النهي بقوله : { إِنهم إِن يَظْهَرُوا عليكم } : يطلعوا عليكم ، أو يظفروا بكم ، والضمير : للأهل المقدر في " أيها " ، أي : إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم { يَرجُموكم } إن ثبتم على ما أنتم عليه ، { أو يُعيدوكم في مِلَّتهمْ } أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها؛ كرهًا ، كقوله تعالى : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ إبراهيم : 13 ] ، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق . { ولن تُفلحوا إِذًا } ؛ إن دخلتم فيها ، ولو بالكره والجبر ، { أبدًا } ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى .
الإشارة : وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة ، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة ، استصغروا أيام البطالة؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها ، وإن كثرت آمادها ، وفي الحِكَم : " رب عمر اتسعت آماده ، وقَلَّْتْ أمداده " ، بخلاف زمان اليقظة ، فإنه كثيرة أمداده ، وإن قلّتْ آماده ، فهو طويل؛ معنىً ، وإن قلَّ؛ حسًا ، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا : " ورب عمر قليلةٌ آماده ، كثيرةٌ أمداده " .
(3/386)

وقال أيضًا : " من بورك له في عمره : أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة " .
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله ، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة ، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب ، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه ، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه ، غير من هو أهلٌ له؛ لأنهم ، إن أظهروه لغيرهم ، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم ، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم ، ولن يفلحوا إذًا أبدًا . وبالله التوفيق .
(3/387)

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
قلت : { إذ يتنازعون } : ظرف لقوله : { أعثرنا } ، لا ليعلموا ، أي : أعثرنا هم عليهم حين يتنازعون بينهم . . . الخ ، و { رجمًا } : حال ، أي : راجمين بالغيب ، أو مفعول مُطلق ، أي : يرجمون رجمًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك } أي : وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم { أعْثَرْنا عليهم } : أطلعنا الناس عليهم { ليَعْلموا } أي : ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت { أنَّ وعد الله } أي : وعده بالبعث والثواب والعقاب { حقٌّ } صادق لا خُلْف فيه ، أو : ثابت لا مرد له؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث ، { وأنَّ الساعة } أي : القيامة ، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا؛ للحساب والجزاء ، { لا ريبَ فيها } : لا شك في قيامها ، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر ، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد ، ثم أرسلها كما كانت ، لا يبقى معه ريب ، ولا يختلجه شك ، في أن وعده تعالى حق ، وأنه يبعث مَنْ في القبور ، ويجازيهم بأعمالهم .
وكان ذلك الإعثار { إِذْ يتنازعون } : حين كانوا يتنازعون { بينهم أمْرَهُم } ، في أمر البعث مختلفين فيه؛ ففرقة أقرّت ، وفرقة جَحَدّتْ ، وقائل يقول : تُبعث الأرواح فقط ، وآخر يقول : تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح ، قيل : كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا ، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة ، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم ، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب ، ولبس مسحًا وجلس على رماد ، وسأل ربه أن يظهر الحق ، فألقى الله - عزّ وجلّ - في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف ، أن يهدم بنيان فم الكهف ، فهدم ما سدَّ به " دقيانوس " بابَ الكهفِ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه ، فعند ذلك بعثهم الله - تعالى - فجرى بينهم من التقاول ما جرى .
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة؛ ليشتري الطعام ، أخرج دراهمه ، وكانت على ضرب ( دقيانوس ) ، فاتهموه أنه وجد كنزاً ، فذهبوا به إلى الملك ، فقص عليه القصة ، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من ( دقيانوس ) ، فلعلهم هؤلاء ، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة؛ من مسلم وكافر ، فدخلوا عليهم وكلموهم ، ثم قالت الفتية للملك : نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن ، ثم رجعوا إلى مضاجعهم ، فماتوا ، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه ، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب ، فرآهم في المنام كارهين للذهب ، فجعلها من الساج ، وبنى على باب الكهف مسجدًا . وقيل : لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانَكَم حتى أدخل أولاً؛ لئلا يفزعوا ، فدخل ، فَعُمِّي عليهم المدخل ، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا .
وقيل : المتنازَع فيه : أمر الفتية قبل بعثهم ، أي : أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم ، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال ، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال .
(3/388)

وعلى التقديرين : فالفاء في قوله : { فقالوا ابنُوا } فصيحة ، أي : أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا ، ثم ماتوا ، فقال بعضهم : { ابنوا عليهم } : على باب كهفهم { بُنيانًا } ؛ لئلا يتطرق إليهم الناس ، ففعلوا ذلك؛ ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم .
ثم قالوا : { ربهم أعلمُ بهم } ، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم؛ من حيث النسبة ، ومن حيث العدد ، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف ، قالوا ذلك؛ تفويضًا إلى علام الغيوب . أو : يكون من كلامه سبحانه؛ ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين ، { قال الذين غلبوا على أمرهم } ، وهو الملك والمسلمون ، وكانوا غالبين في ذلك الوقت : { لنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا } ، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه .
ثم وقع الخوض في عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام - بين نصارى نجران حين قدموا المدينة ، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم ، كما قال تعالى : { سيقولون ثلاثةٌ رابعُهُم كلبهم } ، وهو قول اليعقوبية من النصارى ، وكبيرهم السيد ، وقيل : قالته اليهود ، { ويقولون خمسة سادِسُهم كلبهُم } ، هو قول النسطورية منهم ، وكبيرهم العاقب ، { رجمًا بالغيب } : رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر ، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق ، { ويقولون سبعة وثامنهمْ كلبهم } ، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي ، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب ، وتغيير سبكه؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها ، يَقضي بصحته .
قال تعالى : { قل } يا محمد؛ تحقيقًا للحق ، وردًا على الأولين : { ربي أعلم بعدَّتهم } أي : ربي أقوى علمًا بعدتهم ، { ما يعلمهم } أي : ما يعلم عددهم { إِلا قليلٌ } من الناس ، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام . قال ابن عباس رضي الله عنه : " أنا من ذلك القليل " ، قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة ، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل : رجمًا بالغيب ، علم أنه حق . وعن علي - كرم الله وجهه - : أنهم سبعة ، أسماؤهم : يمليخا ، وهو الذي ذهب بورقهم ، ومكسيلمينيا ، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم ، ومشلينا ، وفي رواية الطبري : ومجْسَيْسِيا بدله ، وهؤلاء أصحاب يمين الملك ، وكان عن يساره : مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس ، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره ، و السابع : الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس ، واسمه : كفشططيوش . وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء ، وكلهم عجميون ، قال : والسندُ في معرفتهم واهْ . والله تعالى أعلم .
الإشارة : عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس ، رحمةً بهم؛ إذ لو أظهرهم في البدايات؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه ، حتى إذا تخلصوا من البقايا ، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده ، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق ، وأنّ خراب العالم بانقراضهم ، وقيام الساعة لا ريب فيه . وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به ، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء . والله تعالى أعلم .
(3/389)

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قلت : { إلا أن يشاء } : استثناء مفرغ من النهي ، أي : لا تقولن في حال من الأحوال ، إلا حال ملابسةٍ بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو : في وقت من الأوقات ، إلا وقت إن شاء الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلا تُمَارِ } أي : لا تجادل { فيهم } ؛ في شأن أهل الكهف { إِلا مِراءً ظاهرًا } قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم ، من غير زيادة عليه ، مع تفويض العلم إلى الله ، فلا تُصرح بجهلهم ، ولا تفضح خطأهم ، فإنه يُخل بمكارم الأخلاق ، { ولا تَسْتَفْتِ فيهم } : في شأنهم { منهم } ؛ من الخائضين { أحدًا } ؛ فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن ذلك ، مع أنهم لا علم لهم بذلك .
{ ولا تقولنّ لشيء } أي : لأجل شيء تعزم عليه : { إِني فاعلٌ ذلك } الشيء { غدًا } : فيما يستقبل من الزمان مطلقًا ، فيصدق بالغد وما بعده؛ لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح ، وعن أصحاب الكهف ، وعن ذي القرنين . فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال : " غدًا أخبركم " ، ولم يستثن ، فأبطأ عليه الوحي ، حتى شقَّ عليه ، وكذبته قريشٌ ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يومًا ، أو قريبًا منها ، على ما ذكره أهل السِّيَر ، أي : لا تَقُلْ إني فاعل شيئًا في حال من الأحوال إلا متلبسًا بمشيئته على الوجه المعتاد ، وهو أن تقول : إن شاء الله ، أو في وقت من الأوقات ، إن شاء الله أن تقوله ، بمعنى : أن يأذن لك فيه ، فإن النسيان بمشيئته تعالى .
{ واذكر ربكَ } بقولك : إلا أن يشاء الله؛ مستدركًا له ، { إِذا نسيتَ } : إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه : ولو بعد سنة ما لم يحنث . ولذلك جوَّز تأخير الاستثناء . وعامة الفقهاء على خلافه ، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق ، ولم يعلم صدق ولا كذب ، وقال القرطبي : هذا في تدارك الترك والتخلص من الإثم ، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً به ، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك؛ بالتسبيح والاستغفار؛ إذا نسيت الاستثناء؛ مبالغة في الحث عليه ، أو : اذكر ربك إذا اعتراك نسيان؛ لتستدرك ما فات ، وحُمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها . وسيأتي في الإشارة بقية الكلام عليها .
{ وقل عسى أن يَهْديَنِ ربي } : يوفقني { لأقربَ من هذا } أي : لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف ، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي ، { رَشَدًا } أي : إرشادًا للناس ودلالة على ذلك . وقد فعل عزّ وجلّ ذلك؛ حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء ، المتباعدة أيامهم ، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة .
(3/390)

أو : لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المَنْسِي ، أي : عسى أن يدلني على ما هو أصلح لي من الذي نسيته؛ إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرًا له من ذكره؛ إذ فيه إظهار قهريته تعالى ، وغناه عن خلقه ، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل ، أو : الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف؛ رشدًا وصوابًا ، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيِّم الذي أظهره على الأديان كلها ، ولو كره المشركون .
{ ولَبِثُوا في كهفهم } ؛ أحياءً ، مضروبًا على آذانهم ، { ثلاث مائةٍ سنينَ وازدادوا تسعًا } ، رُوي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية ، والله تعالى ذكر السنة القمرية ، والتفاوت بينهما في كل مائة ثلاثُ سنين ، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين . ه . { قُلِ الله أعلم بما لَبِثُوا } أي : الزمان الذي لبثوا فيه . { له غيبُ السماوات والأرض } أي : ما غاب فيهما ، وخفي من أحوال أهلها ، { أبصِرْ به وأسمعْ } أي : ما أسمعه وما أبصره . دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين؛ لأنه تعالى لا يحجبه شيء ، ولا يحول دونه حائل ، ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف ، والصغير والكبير ، والخفي والجلي . والتعجب في حقه تعالى مجاز؛ لأنه إنما يكون مما خفي سببه ، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتَدْه ، وهو تعالى منزَّه عن ذلك ، فيُؤَوَّل بأنه مبالغة في إحاطة سمعه وبصره بكل شيء ، كما تقدم .
{ ما لهم من دونه من وليٍّ } أي : ما لأهل السماوات والأرض من دونه تعالى من ولي؛ يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه ، { ولا يُشرِكُ في حُكمِهِ } : في قضائه في علم الغيب { أحدًا } منهم ، ولا يجعل له فيه مدخلاً ، وقرئ بالخطاب لكل أحد ، أي : ولا تشرك أيها السامع في حكمه وتدبيره أحدًا من خلقه ، فإنه لا فعل له ولا تدبير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال ، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه ، من غير ملاججة ولا مخاصمة ، في سهولة وليونة وسلامة القلوب .
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور؛ قال صلى الله عليه وسلم " اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك ، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه ، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى . القلوب الصافية المنورة بذكر الله ، الزاهدة فيما سوى الله ، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق ، ولا تسكن إلا إلى الحق ، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى ، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها .
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره ، والرضا بما يبرز به القضاء ، بحيث لا يعقد على شيء ، ولا يجزم بفعل شيء ، إلا ملتبسًا بمشيئة الله ، فينظر ما يفعل الله ، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به ، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه ، كما قال صاحب الحِكم .
(3/391)

الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر ، حتى يغيب عما سوى المذكور؛ قال تعالى : { واذكر ربك إذا نسيت } أي : إذا نسيت ما سواه ، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة ، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه ، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه؛ لشدة غيبته فيه ، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته .
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين ، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه ، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته ، { وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا } ، وبالله التوفيق .
(3/392)

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واتلُ ما أُوحي إليك من كتاب ربك } أي : أسرده على ما نزل ، ولا تسمع لقولهم { ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ } [ يونس : 15 ] ، أو اتبع أحكامه ، { لا مُبدِّل لكلماته } : لا قادر على تبديله غيره ، أو : لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له ، { ولن تجدَ } أبدًا { من دونه مُلتحدًا } أي : ملجأ ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة ، أو : لن تجد ، إن بدلت؛ تقديرًا ، وخالفت ما أنزل إليك ، ملتحدًا : ملجأ تميل إليه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية ، دنيوية أو دينية ، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به ، رأى فَرَجًا ، وقريبًا ، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله ، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها ، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه؛ قال تعالى : { ولن تجد من دونه ملتحدًا } تميل إليه فيأويك . والله تعالى أعلم .
(3/393)

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
قلت : { ولا تعد } : نهي مجزوم بحذف الواو ، و { عيناك } : فاعل ، و { تريد } : حال من الكاف ، أو من فاعل { تَعْدُ } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واصبرْ نفسك } أي : احبسها { مع الذين يدعون ربهم } أي : يعبدونه { بالغداةِ والعَشِيِّ } ، قيل : الصلوات الخمس ، فالغداة : الصبح ، والعَشِيِّ : الظهر وما بعده ، وقيل : الصبح والعصر ، قلت : والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة ، وهي ركعتان بالغداة والعشي . قال ابن عطية : ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة ، ومن يجمع لمذاكرة علم ، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا "
وقيل : { يدعون ربهم } في جميع الأوقات ، وفي طرفَيْ النهار ، والمراد بهم فقراء المؤمنين؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال ، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، وقالوا : إن ريح جِبَابِهم تؤذينا ، فنزلت الآية . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال : " الحمدُ لله الذي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه " وقيل : نزلت في بيان أهل الصُّفَّة ، وكانوا نحو سبعمائة ، فتكون الآية مدنية .
ثم وصفهم بالإخلاص ، فقال : { يُريدون وجهه } أي : معرفة ذاته ، لا جنة ولا نجاة من نار ، { ولا تَعْدُ عيناك عنهم } أي : لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم ، من عداه : إذا جاوزه ، وفي الوجيز : ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة ، { تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا } أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا .
{ ولا تُطِعْ } في تنحية الفقراء عن مجلسك { مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا } أي : جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له ، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك ، فإنهم غافلون عن ذكرنا ، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات ، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله - سبحانه - حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل ، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل . { واتَّبَعَ هواه } : ما تهواه نفسه ، { وكان أمره فُُرطًا } : ضياعًا وهلاكًا ، وهو من التفريط والتضييع ، أو من الإفراط والإسراف ، فإن الغفلة عن ذكر الله - تعالى - تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم ، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة ، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق ، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب ، حتى يتأهل لحضرة التقريب ، وبصحبتهم تدوم حياة الطريق ، ويصل العبد إلى معالم التحقيق ، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
(3/394)

مَا لَذّةُ العَيْشِ إلا صُحبة الفُقرا ... هُمُ السَّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتَأَدَّبْ فِي مَجَالِسِهِم ... وَخَلِّ حظَّكَ مَهْمَا خَلَّفُوكَ وَرَا
إلى آخر كلامه .
وقوله تعالى : { واصبر نفسك } قال القشيري : لم يقل : واصبر قلبك؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى ، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر ، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ . ه . قال الورتجبي : اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء ، العاشقين لجمالي ، المشتاقين إلى جلالي ، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم ، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي ، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال ، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال . ه .
وقوله تعالى : { يريدون وجهه } ، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه ، شوقًا إليه ومحبة فيه ، من غير تعلق بغيره ، أو شُغل بسواه ، بل همتهم الله لا غيره ، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتم عليه . قال في الإحياء : من يعمل اتقاء من النار خوفًا ، أو رغبة في الجنة رجاء ، فهو من جملة النيات الصحيحة؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة ، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله ، لا لأمرٍ سواه . ثم قال : وقول رويم : الإخلاص : ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين ، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين ، وهو الإخلاص المطلق ، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة . ه . من الحاشية .
(3/395)

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قلت : { الحق } : خبر ، أي : هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقل } : يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم ، أو : لمن جاءك من الناس : هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو { الحقُّ من ربكم } أي : من جهة ربكم ، لا من جهتي ، حتى يتصور فيه التبديل ، أو يمكن التردد في اتباعه . { فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفرْ } ، وهو تهديد ، أي : فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين ، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل ، ومن شاء أن يكفر فليفعل ، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم .
ثم أوعدهم على الكفر ، فقال : { إِنا أعْتَدْنا للظالمين } أي : هيأنا للكافرين بالحق ، بعد ما جاء من الله سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين؛ للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد ، ووضعٌ للشيء في غير محله ، أي : هيأنا لهم { نارًا } عظيمة { أحاط بهم } أي : محيطُ بهم { سُرادِقُها } أي : سورها المحيط بها ، والتعبير بالماضي؛ لتحقق وقوعه ، والسرادق : ما يحيط بالشيء ، كالجدار ونحوه . قيل : هو حائط من نار ، وقيل : دخانها . { وإِن يستغيثوا } ؛ من العطش { يُغَاثوا بماء كالمهل } : كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة . وقيل : كرديء الزيت في اللون ، { يشوي الوجوه } إذا قُدم ليشرب؛ بحرارته . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه "
{ بئسَ الشرابُ } ذلك ، { وساءت } ؛ النار { مُرتفقًا } : مُتَّكًا ، وأصل الارتفاق : نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه ، وأنى ذلك في النار ، وإنما هو بمقابلة قوله في المؤمنين : { وحسنت مرتفقًا } .
الإشارة : ينبغي للواعظ ، أو المُذكر ، أو العالم ، ألا يحرص على الناس ، بل يستغني بالله في أموره كلها ، وإنما يُبين الحق من الباطل ، ويقول : هذا الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر . هذا إذا كان لعامة الناس ، وأما إن كان لخاصتهم؛ كأهل الرئاسة والجاه ، فاختلف فيه؛ فقال بعضهم : يسلك هذا المنهاج يُبين الحق ولا يبالي ، محتجًا بالآية ، قال : نحن أمة محمدية ، قال تعالى له : { وقل الحق من ربكم . . . } الآية ، وقال بعضهم : ينبغي أن يلين لهم القول؛ لقوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] ، وهو الأليق بطريق السياسة ، فمن أعرض عن الوعظ ، وبقي على ظلمه ، فالآية تجر ذيلها عليه . والله تعالى أعلم .
(3/396)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قلت : جملة : { إنّا لا نضيع } : خبر " إن " ، والعائد محذوف ، أي : أحسن عملاً ، أو : وقع الظاهر موقعه؛ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحًا . و { أولئك } : استئناف؛ لبيان الأجر ، أو : خبر " إن " ، وما بينهما اعتراض ، أو خبر بعد خبر . و { من أساور } : ابتدائية ، و { من ذهب } : بيانية ، و { أساور } : جمع أسورة ، أو أسوار جمع سوار ، فهو جمع الجمع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين آمنوا } أي : اختاروا الإيمان ، من قوله : { فمن شاء فليؤمن } ، وكأنه في المعنى عطف على قوله : { أعتدنا للظالمين } ، أي : والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا ، ولعل تغيير سبكه : للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين ، أي : إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك { وعَمِلُوا } الأعمال { الصالحات } ، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك ، { إِنا لا نُضِيعُ أجرَ من أحسن عملاً } ، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة .
{ أولئك } ؛ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة { لهم جناتُ عدن تجري } من تحت قصورهم { الأنهار } ؛ من ماء ولبن وخمر وعسل ، { يُحلَّون فيها من أساورَ من ذهب }
أي : كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب . وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك ، { ويَلْبَسُون ثيابًا خُضْرًا } ، وخصت الخضرة بثيابهم؛ لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة . وتلك الثياب { من سُنْدُسٍ وإِستبرقٍ } ، السندس : ما رقَّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه ، جمع النوعين؛ للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، { متكئين فيها على الأرائك } جمع أريكة ، وهو السرير في الحجَال ، أي : متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة ، كحال العرائس المتنعمين . { نِعْمَ الثوابُ } ذلك ، { وحَسُنَتْ مُرتفقًا } : متَّكأ . والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضي الله عنهم ، وأماتنا على منهاجهم . آمين .
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس ، أولئك لهم جنات المعارف ، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب ، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين ، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين ، متكئين على سرر الهنا والسرور ، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور ، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه .
(3/397)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قلت : { رجلين } : بدل من " مثلاً " ، وجملة { جعلنا . . . } بتمامها : بيان للتمثيل ، أو صفة لرجلين ، و { ما شاء الله } : خبر ، أي : هذا ما شاء الله ، أو الأمر ما شاء الله ، أو مبتدأ حُذف الخبر ، أي : الذي شاء الله كائن ، أو شرطية ، والجواب محذوف ، أيْ : أيّ شيء شاء الله كان ، و { هنالك } : ظرف مقدم ، و { الولاية } : مبتدأ ، والظرف : إشارة إلى الآخرة ، وهذا أحسن .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واضربْ لهم } أي : للفريقين؛ فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين ، { مَّثَلاً } ؛ من حيث عصيان الكافر ، مع تقلبه في النعيم ، وطاعة المؤمن ، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر ، وما كان مآلهما ، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا ، أي : واضرب لهم حالي { رجُلَيْن } مقدرين أو محققين ، هما أخوان من بني إسرائيل ، أو شريكان : كافر ، واسمه قُطروس ، ومؤمن ، اسمه يهوذا ، اقتسما ثمانية آلاف دينار ، أو ورثَاها من أبيهما ، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا ، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر .
رُوِيَ : أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار ، فقال صاحبه المؤمن : اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف ، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار ، فقال المؤمن : اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف ، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار ، فقال : اللهم ، إن فلانًا تزوج بألف دينار ، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار ، فقال : اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف ، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف ، فتصدق بألف دينار ، ثم أصابته حاجة ، فقال : لعل صاحبي يُناولني معروفه ، فأتاه ، فقال : ما فعل مالك؟ فأخبره قصته ، فقال : أو إنك لمن المصدقين بهذا؟ والله لا أعطيك شيئًا ، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } [ الصافات : 51 ، 52 ] الآية .
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله : { جعلنا لأحدهما } وهو الكافر ، { جنتين } : بساتين { من أعنابٍ } : من كروم متنوعة ، { وحفَفناهما بنَخْلٍ } أي : جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما ، { وجعلنا بينهما } : وسطهما { زرعًا } ؛ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه ، متواصل العمارة ، على الهيئة الرائقة ، والوضع الأنيق . { كلتا الجنتين آتت أُكُلَها } : ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل ، { ولم تَظْلِم منه شيئًا } أي : لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة ، بخلاف سائر البساتين ، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام ، { وفجَّرْنا خِلالهما } : فيما بين كل من الجنتين { نَهَرًا } على حدةٍ ، وقرئ بالسكون .
(3/398)

والنهر : الماء الكثير ، وكان لكل بستان نهر؛ ليدوم شربها ويدوم بهاؤها .
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل ، مع أن الترتيب الخارجي العكس؛ للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين ، كما في قصة البقرة ونحوها ، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض .
{ وكان له ثمرٌ } أي : وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين ، من ثَمُرَ مالُه : إذا كثر . قال ابن عباس : الثمر : جميع المال؛ من الذهب ، والفضة والحيوان ، وغير ذلك . وقال مجاهد : هو الذهب والفضة خاصة . { فقال لصاحبه } المؤمن ، أخيه أو شريكه ، { وهو يُحاوره } : يراجعه في الكلام ، من حَار إذا رجع ، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه ، فقال : قدمتُه بين يدي ، لأقدم عليه ، فقال له : { أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا } : حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا؛ لأنهم الذين ينفرون معه .
{ ودخل جَنَّتَهُ } : بستانه الذي تقدم وصفه ، وإنما وحده؛ إما لعدم تعلق الغرض بتعدده ، أو لاتصال أحدهما بالآخر ، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد . فدخله { وهو ظالمٌ لنفسه } ؛ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره ، { قال } حين دخوله : { ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه } الجنة ، أي : تفنى { أبدًا } ؛ لطول أمده وتمادي غفلته ، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة ، ولذلك قال : { وما أظنُّ الساعة قائمةً } أي : كائنة فيما سيأتي ، { ولئن رُدِدتُ إِلى ربي } ؛ بالبعث عند قيامها ، كما تقول ، { لأجدنَّ } حينئذ { خيرًا منها } : من الجنتين { مُنقلبًا } أي : مرجعًا وعاقبة ، أي : كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة ، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة : اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا؛ لاستحقاقه لذاتِهِ ، وكرامته عليه ، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج .
{ قال له صاحبه } ؛ أخوه المسلم { وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك } أي : أصلك { من ترابٍ } ، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه؛ إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل ، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه ، { ثم من نطفة } هي مادتك القريبة ، { ثم سَوَّاك رجلاً } أي : عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا ، أو صيرك رجلاً ، وفي التعبير بالموصول مع صلته : تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الحَجّ : 5 ] .
قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرًا بالله؛ لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله ، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب ، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه . ه .
ثم قال أخوه المسلم : { لَكِنَّا } أصله : لكن أنا ، وقُرئ به ، فحُذفت الهمزة ، فالتقت النونان فوقع الإدغام ، { هو الله ربِّي } ، " هو " : ضمير الشأن ، مبتدأ ، خبره : " هو الله ربي " ، وتلك الجملة : خبر " أنا " ، والعائد منها : الضمير ، وقرئ بإثبات " أنا " في الوصل والوقف ، وفي الوقف خاصة ، ومدار الاستدراك قوله تعالى : { أكفرت } ، كأنه قال : أنت كافر ، لكني مؤمن موحد ، { ولا أُشركُ بربي أحدًا } ، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك .
(3/399)

قاله أبو السعود .
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : والذي يظهر من قوله : { ولولا إذ دخلت . . . } الآية ، ومن قوله : { يا ليتني لم أشرك . . . } الآية ، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه ، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه ، وقد قال وهب بن منبه : ( قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر ) ، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله ، وهو كفر صراح . ه .
{ ولولا إِذْ دخلتَ جنتك } : بستانك ، { قلتَ ما شاء الله } أي : هلاَّ قُلتَ عند دخولها : { ما شاء الله } أي : الأمر ما شاء الله ، أو ما شاء الله يكون ، والمراد : تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى ، إن شاء أبقاها ، وإن شاء أخفاها ، { لا قوة إِلا بالله } أي : لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ : مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله ، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ " وقال لأبي هريرة : " أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة " ؟ قَال بَلَى يا رسُول الله ، قال : " لاَ قوةَ إلاَّ بالله ، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ : أسْلم عبدي واسْتَسْلم " وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ : " ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ " ؟ قال : بَلَى ، يا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله " .
ثم قال له أخوه المسلم : { إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا } في الدنيا ، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد ، { فعسى ربي أن يُؤتين } في الآخرة أو في الدنيا { خيرًا من جنتك } والمعنى : إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى ، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك ، ويسلبك؛ لكفرك نعمته ، ويخرب جنتك ، { ويُرسلَ عليها حُسْبانًا } : عذابًا { من السماء } يُذهبها ، من بَرَدٍ أو صاعقة ، وهو جمع : حُسْبَانة ، وهي : المرامي من هذه الأنواع المذكورة ، وتطلق أيضًا ، في اللغة ، على سهام تُرمى دفعة واحدة ، { فتُصبح صعيدًا زَلقًا } أي : أرضًا ملساء ، يزلق عليها؛ الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء ، { أو يُصبح ماؤُها } أي : النهر الذي خِلالَها { غَوْرًا } : غائرًا ذاهبًا في الأرض ، و " زلقًا " و " غورًا " : مصدران ، عبَّر بهما عن الوصف؛ مبالغةً .
(3/400)

{ فلن تستطيعَ له طَلَبًا } أي : لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا ، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به ، فضلاً عن وجدانه ورده .
{ وأُحِيطَ بثَمَرِه } أي : هلكت أشجاره المثمرة ، وأمواله المعهودة ، وأصله : من إحاطة العدو ، وهو عطف على مُقدر ، كأنه قيل : فوقع بعض ما وقع من المحذور ، وأهلكت أمواله ، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها . { فأصبح يُقلَّب كفَّيه } ظهرًا لبطن ، أو يضرب يديه واحدة على أخرى ، يصفق بهما ، وهو كناية عن الندم ، كأنه قال : فأصبح يندم { على ما أنفق فيها } أي : في عمارتها من الأموال . وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة؛ لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية . انظر أبا السعود .
{ وهي } أي : الجنة { خاويةً } : ساقطة { على عُرُوشها } أي : دعائمها المصنوعة للكروم ، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها . وتخصيص حالها بالذكر ، دون الزرع والنخل ، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها ، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي؛ لأنها حيث هلكت ، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى ، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر . { ويقولُ } أي : يقلب وهو يقول : { يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا } ، كأنه تذكر موعظة أخيه ، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه .
{ ولم تكن له فئةٌ } : جماعة { ينصرونه } : يقدرون على نصره؛ بدفع الهلاك عن أمواله ، { من دون الله } ، فإنه القادر على ذلك وحده ، { وما كان منتصرًا } أي : وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه .
{ هنالك } ؛ في ذلك المقام ، وفي تلك الحال { الولاَيةُ لله الحقّ } أي : النصرة له وحده ، لا يقدر عليها أحد غيره ، وقُرئ : " الحقِ "؛ بالكسر ، صفة لله ، وبالرفع ، نعت للولاية . ويُحتمل أن يكون : { هنالك } ظرفًا لمنتصرًا ، أي : وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت ، ففيه تنبيه على أن قوله : { يا ليتني لم أشرك } : كان عن اضطرار وجزع مما دهاه ، فلذلك لم ينفعه ، كقوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال : { الولايةُ لله الحق } أي : الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة ، لا يخذلهم في حال من الأحوال ، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم ، كما هو شأن من اعتز بالله ، دون من اعتز بغيره ، فقوله : { ولم تكن له فئة } : رد لقوله : { وأعزُّ نفرًا } ؛ أي : بل النصرة لله لأوليائه ، دون من تولى غيره .
والحاصل : أن من تولى الله فعاقبته النصرة ، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان . والعياذ بالله . ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة ، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة ، فقال : { هنالك } عند ذلك ، يعني : يوم القيامة { الولايةُ لله الحق } ؛ يتولون الله ويُؤمنون به ، ويتبرأون مما كانوا يعبدون ، { هو خيرٌ ثوابًا } أي : خير من يرجى ثوابه ، { وخيرُ عُقبًا } أي : عاقبة لأوليائه .
(3/401)

والعُقب : العاقبة ، يقال : عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه ، أي : آخره . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه ، وقصر همته على زخارف دنياه ، ولمن توجه بهمته إلى مولاه ، وقدَّم دنياه لأخراه ، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران ، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان ، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه ، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه .
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك ، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل ، فأخبر الله عنه بقوله : { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا . . . } الآية . ولكن ادخلها كما بيّن لك ، وقل كما رَضي لك : { ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله } ، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم : " لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " وفي رواية أخرى : " كنز من كنوز تحت العرش " . فالترجمة : ظاهر الكنز ، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة ، والرجوع إلى حول الله وقوته .
(3/402)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
قلت : { كماءٍ } : خبر عن مضمر ، أي : هي كماء ، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ ، على أنه بمعنى " صيِّر " .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا } أي : واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها ، وسرعة انقراضها وفنائها؛ لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة ، هي { كماءٍ أنزلناه من السماء } وهو المطر ، { فاختلط به } أي : بسببه { نباتُ الأرض } بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا؛ من كثرته وتكاثفه ، ثم مرت مدة قليلة { فأصبح هشيمًا } أي : مهشومًا مكسورًا ، { تذروه الرياحُ } أي : تُفرقه وتطيره ، كأن لم يَغْنَ بالأمس ، { وكان الله على كل شيء مقتدرًا } : قادرًا ، ومن جملة الأشياء : الإفناء والإنشاء .
{ المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا } أي : مما تذروه رياح الأقدار ، ويلحقه الفناء والبوار ، ويدخل في الزينة : الجاهُ ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ؛ فإنه يفنى ويبيد ، ثم ذكر ما لا يفنى فقال : { والباقياتُ الصالحاتُ } ؛ وهي أعمال الخير بأسرها ، أو : الصلوات الخمس ، أو : " سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر " ، زاد بعضهم : " ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " . قال عليه الصلاة والسلام : " هي من كنز الجنة ، وصفايا الكلام ، وهن الباقيات الصالحات ، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات " .
أو : الهمات العالية والنيات الصالحة؛ إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل . أو : كل ما أريد به وجه الله ، وسميت باقيةً : لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية .
قال في الإحياء : كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا ، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب ، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات ، كالعلم والحرية؛ لبقائهما؛ كمالاً فيه ، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى ، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله ، وتجرده عن سواه ، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه . ه .
وهي ، أي : الباقيات الصالحات { خيرٌ عند ربك } أي : في الآخرة { ثوابًا } أي : عائدة تعود على صاحبها ، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين؛ فإنه يفنى ويبيد . وهذا كقوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] . وقوله : { عند ربك } : بيان لما يظهر فيه خيريتها ، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية؛ إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة . ثم قال تعالى : { وخيرٌ أملاً } أي : ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى؛ حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا ، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله . وتكرير " خير "؛ للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه .
(3/403)

الإشارة : قد تقدم ، مرارًا ، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة؛ لسرعة ذهابها وانقراضها . رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا " ؟ قلت : نعم ، فأخذ بيدي ، وانطلق ، حتى وقف بي على مزبلة ، رؤوس الآدميين ملقاة ، وبقايا عظام نخرة ، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين ، فقال : " يا أبا هريرة؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها ، كانت مثل رؤوسكم ، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا ، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون ، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون ، فاليوم قد تعرّت عظامهم ، وتلاشت أجسامهم كما ترى ، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها ، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين ، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات ، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها ، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها ، وينهبها بعضُهم من بعض ، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد؛ من نتنها ، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى ، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك ، فإنها موضع البكاء " قال أبو هريرة رضي الله عنه : فبكى جماعة الحاضرين " .
(3/404)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قلت : { ويوم } : معمول لمحذوف ، أي : واذكر ، أو عطف على قوله : " عند ربك " ، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ، و { حشرناهم } : عطف على { نُسيّر } ؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون ، وعليه يدور أمر الجزاء ، وكذا الكلام فيما عطف عليه ، منفيًا وموجبًا ، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك . و { نغادر } : نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه : الغدير؛ لما يتركه السيل في الأرض من الماء ، و { صفًّا } : حال ، أي : مصْطفين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { يوم نُسيِّرُ الجبالَ } أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو ، على هيئتها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا ، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال ، وقرئ : " تُسَيَّر "؛ بالبناء للمفعول؛ جريًا على سَنَن الكبرياء ، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل؛ لظهور تعينه ، ثم قال : { وترى الأرضَ } أي : جميع جوانبها ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يسمع ، { بارزةً } : ظاهرة ، ليس عليها جبل ولا غيره . بل تكون { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] . { وحشرناهم } : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب ، مؤمنين وكافرين ، { فلم نُغادرْ } أي : لم نترك { منهم أحدًا } .
{ وعُرِضُوا على ربك } ، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان ، ليأمر فيهم بما يأمر . وفي الالتفات إلى الغيبة ، وبناء الفعل للمفعول ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من تربية المهابة ، والجري على سَنَن الكبراء ، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى . قاله أبو السعود . { صَفًّا } أي : مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين ، كل أمة صَفٌّ ، وفي الحديث الصحيح : " يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد ، صفوفًا ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ . . . " الحديث بطوله . وفي حديث آخر : " أهل الجنة ، يوم القيامة ، مائة وعشرون صفًا ، أنتم منها ثمانون صفًا " .
يقال لهم - أي : للكفرة منهم : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة } ، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم . أو : حفاة عراة غُرْلاً ، كما في الحديث .
وهذه المخاطبة ، بهذا التقريع ، إنما هي للكفار المنكرين للبعث ، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة ، ويدل عليه ما بعده من قوله : { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا } أي : زعمتم في الدنيا أنه ، أي : الأمر والشأن ، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه .
(3/405)

وهو إضراب وانتقال من كلام ، إلى كلام ، كلاهما؛ للتوبيخ والتقريع .
{ ووضع الكتاب } أي : كتاب كل أحد ، إما في يمينه أو شماله ، وهو عطف على : { عُرِضوا } ، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها ، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي؛ لتحقق وقوعه ، وإيثار الإفراد؛ للاكتفاء بالجنس ، والمراد : صحائف أعمال العباد . ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً ، أو في الميزان . { فترى المجرمين } قاطبة ، المنكرون للبعث وغيرهم ، { مشفقين } : خائفين { مما فيه } من الجرائم والذنوب ، { ويقولون } ، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه؛ نقيرًا أو قطميرًا : { يا ويلتنا } أي : ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات ، ومستدعين لها؛ ليهلكوا ، ولا يرون تلك الأهوال ، أي : يا ويلتنا احضري؛ فهذا أوان حضورك ، يقولون : { ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ } : لا يترك { صغيرةً ولا كبيرةً } من ذنوبنا { إلا أحصاها } أي : حواها وضبطها ، وجملة { لا يغادر } : حال محققة؛ لِمَا في الاستفهام من التعجب ، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما شأنه حتى يتعجب منه؟ فقال : لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، { ووجدوا ما عملوا } في الدنيا من السيئات ، أو جزاء ما عملوا { حاضرًا } : مسطورًا عتيدًا ، { ولا يظلم ربُّك أحدًا } ، فيكتب ما لم يعمل من السيئات ، أو يزيد في عقابه المستحق له . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس ، أو الوهم ، عن بساط المعاني ، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد ، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله ، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية ، فلم نغادر منهم ، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم ، أحدًا ، وعُرضوا على ربك؛ لشهود أنوار جماله وجلاله ، صفًا ، للقيام بين يديه ، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد ، كما خلقناكم أول مرة ، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي ، غائبين عن العلائق والعوائق ، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا ، وإنما موعده الجنة ، ومن مات عن شهود حسه ، وعن حظوظه ، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي ، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب ، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه ، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب ، فَنَصْبُ الموازين ، ومناقشةُ الحسابِ؛ إنما هو لأهل الحجاب ، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم ، الباقون بربهم ، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً ، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا . والله تعالى أعلم .
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب ، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب ، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه ، وأنه شبيه بإبليس ، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه .
(3/406)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
قلت : { إلا إبليس } : استثناء منقطع ، إذا قلنا : إن إبليس لم يكن من الملائكة ، وإذا قلنا : إنه منهم يكون متصلاً ، ويكون معنى " كان " صار ، أي : إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود ، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن ، وهم الذين خُلقوا من النار . وجملة { كان من الجن } : استئنافية سيقت مساق التعليل ، كأنه قيل : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان أَصْلُهُ جنِّيًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إِذْ قلنا للملائكةِ } أي : وقت قوْلنا لهم : { اسجدوا لآدمَ } سجود تحية وتكريم ، { فسجدوا } جميعًا؛ امتثالاً للأمر ، { إِلا إِبليسَ } أبى واستكبر؛ لأنه { كان من الجنِّ } ، وكان رئيسهم في الأرض ، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة ، فغزوهم ، فهربوا في أقطار الأرض ، وأُخذ إبليس أسيرًا ، فعرجوا به إلى السماء ، فأسلم وتعبد في أقطار السماوات ، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله ، { ففسقَ } أي : خرج { عن أمر ربه } أي : عن طاعته ، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى؛ إذ لولا ذلك لَمَا أبى ، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق؛ لبيان كمال قُبح ما فعله .
قال تعالى : { أفتتخذونه وذريَّتَه } أي : أولاده ، أو أتباعه ، وهم الشياطين ، جُعلوا ذريةً؛ مجازًا . وقال قتادة : إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم . وقيل : يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين . والهمزة للإنكار والتعجب ، والفاء للتعقيب ، أي : أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه ، تتخذونه وذريته { أولياءَ } ؛ أحبار { من دوني } ؛ فتستبدلونهم ، وتطيعونهم بدل طاعتي ، والحال أنهم ، أي : إبليس وذريته { لكم عدو } أي : أعداء . وأُفرد؛ تشبيهًا له بالمصدر ، كالقبول والولوع ، { بئس للظالمين } : الواضعين للشيء في غير محله ، { بدلاً } استبدلوه من الله تعالى ، وهو إبليس وذريته . وفي الالتفات إلى الغيبة ، مع وضع الظاهر موضع الضمير ، من الإيذان بكمال السخط ، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ، ما لا يخفى .
{ ما أشهدتُهم } أي : ما أحضرت إبليس وذريته ، أو : جميع الكفار { خلْقَ السماواتِ والأرضِ } ، حيث خلقتهما قبل خلقهم ، { ولا خلقَ أنفسهم } : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض : كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النِّساء : 29 ] . قاله البيضاوي .
قلت : الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها ، أي : ما أحضرتهم خلق أنفسهم ، أي : ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم ، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل ، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السماوات بالتخمين ، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم ، من كل متخوض في هذه الأشياء ، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس ، والمصدقين لهم . انظر ابن عطية .
قال تعالى : { وما كنت مُتَّخِذَ المضلِّينِ } من الشياطين { عَضُدًا } أي : أعوانًا في شأن الخلق ، أو في شأن من شؤوني ، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي ، وكان الأصل أن يقول : وما كنت متخذهم ، فوقع المظهر موقع الضمير؛ ذمًا لهم ، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال ، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء ، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم؛ حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان ، فيحتاجون إلى التصريح به .
(3/407)

انظر أبا السعود .
الإشارة : في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس ، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت ، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله ، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله ، وفيها أيضًا : النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر ، وفيها أيضًا : النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان . وبالله التوفيق .
(3/408)

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قلت : { موبقًا } : اسم مكان ، أو مصدر ، من : وَبَقَ وبوقًا ، كوثب وثوبًا ، ووَبِقَ وبَقًا ، كفرح فرحًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { يومَ يقولُ } الحق تعالى للكفار؛ توبيخًا وتعجيزًا لهم : { نادُوا شركائِيَ الذين زعمتم } أنهم شفعاؤكم؛ ليشفعوا لكم ، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله ، أو إبليس وذريته ، { فَدَعَوْهم } أي : نادوهم للإغاثة ، { فلم يستجيبوا لهم } : فلم يُغيثوهم ، { وجعلنا بينهم } أي : بين الداعين والمدعوين { مَّوبقًا } أي : مهلكًا يهلكون فيه جميعًا ، وهو النار ، وقيل : العداوة ، وهي نوع من الهلاك ، لقول عمر رضي الله عنه : " لا يكن حُبك كَلَفًا ، ولا بُغْضك تلفًا " . وقيل : المراد بالبيْن : الوصل ، أي : وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعَام : 94 ] ، وقيل : المراد بالشركاء : الملائكة ، وعُزير ، وعيسى - عليهم السلام - ، ويراد حينئذ بالموبق : البرزخ البعيد ، أي : وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا؛ لأنهم في قعر جهنم ، وهم في أعلى عليين .
{ ورأى المجرمون النارَ } ، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ؛ تصريحًا بإجرامهم ، وذمًا لهم ، أي : ورأوا النار { فظنوا } أي : أيقنوا { أنهم مُّواقعوها } ؛ مخالطوها وواقعون فيها ، { ولم يجدوا عنها مَصْرِفًا } أي : انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه ، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك .
الإشارة : من اتخذ الله وليًا ، بموالاة طاعته وإفراد محبته ، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته ، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته ، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه ، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا ، ومن وَالَى أولياء الله فإنما والى الله ، { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } [ الفَتْح : 10 ] . وبالله التوفيق .
(3/409)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
قلت : { جَدَلاً } : تمييز ، و { ربك } : مبتدأ و { الغفور } : خبره ، و { ذو الرحمة } : خبر بعد خبر ، وقيل : الخبر : { لو يؤاخذهم } ، و { الغفور ذو الرحمة } : صفتان للمبتدأ ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة؛ للتنبيه على كثرة الذنوب ، وأيضًا : المغفرة ترك المؤاخذة ، وهي غير متناهية ، والرحمة فعل ، وهو متناهي ، وتقديم الوصف الأول؛ لأن التخلية قبل التحلية ، و ( المُهْلَك ) ؛ بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر ، من أهلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للمفعول؛ لأن الفعل متعد ، وقرئ بفتح الميم ، من هلك ، فالمصدر ، على هذا ، مضاف للفاعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد صرَّفنا } أي : كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب ، { في هذا القرآنِ للناس } ؛ لمصلحتهم ومنفعتهم ، { من كل مَثَلٍ } ؛ من كل خبر يحتاجون إليه ، أو : من كل مثل مضروب يعتبرون به ، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين ، ومثل الحياة الدنيا . أو : من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان ، التي هي ، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب ، كالمثل المضروب ، ليتلقوه بالقبول ، فلم يفعلوا . { وكان الإنسانُ } بحسب جِبلَّته { أكثرَ شيءٍ جدلاً } أي : أكثر الأشياء ، التي يتأتى منها الجدل ، جدلاً ، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل ، والمعنى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل ، وفيها ذم الجدل . وسببها : مجادلة النضر بن الحارث كما قيل ، وهي عامة .
{ وما منع الناسَ } أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم ، من { أن يؤمنوا } بالله تعالى ، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك ، { إِذْ جاءهُم الهُدَى } أي : حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان ، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز ، فيؤمنوا ، { ويستغفروا ربهم } عما فرط منهم من أنواع الذنوب ، التي من جملتها : مجادلتهم للحق بالباطل ، { إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين } أي : ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين ، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره ، فيكون على حذف مضاف ، أي : انتظار سنة الأولين ، وهو الهلاك . قال ابن جزي : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة ، وهي الإهلاك في الدنيا ، أو يأتيهم العذاب أي : عذاب الآخرة . ه . قلت : والظاهر أن معنى الآية : ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا ، كعادة الأمم الماضية ، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه ، أو : عذاب ينزل بهم جهرًا ، وهو معنى قوله : { أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً } أي : مقابلة وعيانًا .
قال تعالى : { وما نُرسل المرسلين } إلى الأمم { إِلا مبشرين ومنذرين } أي : مبشرين للمؤمنين بالثواب ، ومنذرين للكافرين بالعقاب ، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات ، { ويُجادل الذين كفروا بالباطل } ؛ باقتراح الآيات؛ كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها . يفعلون ذلك { ليُدْحِضُوا به } أي : بالجدال { الحقَّ } ، أي : يزيلونه عن مركزه ويبطلونه ، من إدحاض القدم وهو إزلاقها .
(3/410)

وجدالهم : قولهم لرسلهم عليهم السلام : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ } [ يس : 15 ] ، { وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } [ المؤمنون : 24 ] ، ونحوها . { واتخذوا آياتي } التي تخرّ لها صُمُّ الجبال ، وهو القرآن ، { وما أنذروا } أي : وإنذاري لهم ، أو : الذي أنذروا به من العذاب والعقاب ، { هُزُوًا } ؛ مهزوءًا به ، أو محل استهزاء .
{ ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه } وهو القرآن العظيم ، { فأعْرَضَ عنها } ؛ فلم يتدبرها ولم يؤمن بها ، أي : لا أحد أظلم منه؛ لأنه أظلم من كل ظالم؛ حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ ، { ونَسِيَ ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي ، ولم يتفكر في عاقبتها ، { إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً } : أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات ، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم ، فعل ذلك بهم كراهة { أن يفقهوه } ، أو : منعناهم أن يقفوا على كنهه . { و } جعلنا { في آذانهم وَقْرًا } أي : ثِقلاً يمنعهم من استماعه ، { وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا } أي : فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف؛ للطبع المتقدم على قلوبهم ، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء .
و " إذًا " : حرف جزاء وجواب ، وهو ، هنا ، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم ، كأنه قال صلى الله عليه وسلم : " ما لي لا أدعوهم " ؟ فقال : إن تدعهم . . . الخ . وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه ، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ .
{ وربُّك الغفور } : البليغ المغفرة { ذو الرحمة } الموصوف بها ، { لو يُؤاخذهم بما كسبوا } من المعاصي ، التي من جملتها : ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل ، وإعراضهم عن آيات ربهم ، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات ، { لعجَّلَ لهم العذابَ } قبل يوم القيامة؛ لاستجلاب أعمالهم لذلك ، والمراد : إمهال قريش ، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { بل لهم موعدٌ } وهو يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والمعطوف عليه ببل : محذوف ، أي : لكنهم ليسوا بمؤاخذين ، { بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً } أي : ملجأ يلتجئون إليه ، أو مَنْجىً ينجون به ، يقال : وأَلَ : أي : نجا ، ووأل إليه : أي : التجأ إليه .
{ وتلك القرى } ؛ أي : قرى عاد وثمود وأضرابها ، أي : وأهل تلك القرى { أهلكناهم } بالعذاب { لمَّا ظلموا } أي : وقت ظلمهم ، كما فعلت قريش بما حكى عنهم ، { وجعلنا لمهلكهم } أي : عَيَّنَّا لهلاكهم { موعدًا } أي : وقتًا مُعَينًا ، لا محيدَ لهم عن ذلك ، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد ، من علم الظاهر والباطن ، لكن خوض القلوب فيما لا يعني ، وكثرة مجادلتها بالباطل ، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه . فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه .
(3/411)

وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء ، وهم العارفون بالله ، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله ، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم ، ونزول العذاب على من آذاهم ، وهو جهل بطريق الولاية؛ لأنهم رحمة للعباد ، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان ، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير ، وبملاطفة الوعظ والتذكير ، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا ، حيث حادوا عن تذكيرهم ، ونفروا عن صحبتهم ، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار ، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب ، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب ، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا ، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا ، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى ، فلن يهتدوا إذًا أبدًا؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء ، فلولا مغفرته العامة ، ورحمته التامة ، لعجل لهم العذاب ، لكن له وقت معلوم ، وأجل محتوم ، لا محيد عنه إذا جاء ، ولا ملجأ منه ولا منجا . نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه .
(3/412)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف ، وكان وقع فيها عتاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث لم يستثن بتأخير الوحي ، وبقوله : { ولا تقولن لشيء . . . } الخ ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام - وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام؛ حيث لم يردَّ العلم إليه ، حين قال له القائل : هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال : لا ، فذكر الحق تعالى قصتهما؛ تسليةً لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب .
قلت : { لا أبرح } : ناقصة ، وخبرها : محذوف : اعتمادًا على قرينة الحال؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر ، أي : لا أبرح أسير في سفري هذا ، ويجوز أن تكون تامة ، من زال يزول ، أي : لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إذ قال موسى لفتاه } يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام ، وكان ابن أخته ، سُمي فتاه؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم . والفتى في لغة العرب : الشاب ، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان ، قيل للخادم : فتى ، ويقال للتلميذ : فتى ، وإن كان شيخًا ، إذا كان في خدمة شيخه ، فقال موسى عليه السلام : { لا أبرحُ } : لا أزال أسير في طلب هذا الرجل ، يعني : الخضر عليه السلام ، { حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرين } ، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق ، وهذا مذهب الأكثر . وقال ابن جزي : مجمع البحرين : عند " طنجة "؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو بحر الأندلس . قلت : وهو قول كعب بن محمد القرضي . { أو أَمْضِيَ حُقُبًا } أي : زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب . والحقب : الدهر ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون .
وسب هذا السفر : أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر ، بعد هلاك القبط ، أمره الله تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة ، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة ، رقَّت بها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقالوا له : من أعلم الناس؟ فقال : أنا . وفي رواية : هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ فقال : لا . فعَتَب الله عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه عزّ وجلّ ، فأوحى الله إليه : " أعلم منك عبدٌ لي بمجمع البحرين ، وهو الخضر " ، وكان قبل موسى عليه السلام ، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين ، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام ، وسيأتي ذكر التعريف به في محله ، إن شاء الله .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن موسى عليه السلام سأل ربه : أيُّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يستقي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى ، أو ترده عن ردى ، قال : يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه؟ قال : أعلم منك الخضر ، قال : أين أطلبه؟ قال : على ساحل البحر عند الصخرة .
(3/413)

قال : يا رب ، كيف لي به؟ قال : خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ ، فحيثما فقدتَه فهو هناك ، فأخذ حُوتًا مشويًا ، فجعله في مِكْتَلٍ ، فقال لفتاه : إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني ، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر ، على ما يأتي تمامه ، إن شاء الله تعالى . وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري وغيره . والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان .
الإشارة : قصة سيدنا موسى مع الخضر - عليهما السلام - هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن ، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر ، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن . أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع ، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق . قيل : هو المراد بمجمع البحرين ، حيث اجتمع سيدنا موسى ، الذي هو بحر الشرائع ، والخضر عليه السلام ، الذي هو بحر الحقائق ، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق ، بل كان جامعًا كاملاً ، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف ، بالتواضع في طلب زيادة العلم؛ تأديبًا له وتربية ، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه ، وفي الحِكَم : " منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين ، أَفَيُبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين! " .
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه ، إذا أظهروا شيئًا من القوة ، أو خرجوا عن حد العبودية ، ولو أنملة ، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً؛ عناية بهم ، وتشريفًا لهم؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال ، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له : تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا ، وأنا لي تسعة أشهر ما ذقت شيئًا . وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية ، حيث تكلموا في المحبة ، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها ، فقامت امرأة بالباب ، عليها جُبة صوف ، فردت على كل واحد ما قال ، حيث أظهروا قوة علمهم ، فأدبهم بامرأة .
ويؤخذ من طلب موسى الخضر - عليهما السلام - والسفر إليه : الترغيب في العلم ، ولا سيما علم الباطن ، فطلبه أمر مؤكد . قال الغزالي رضي الله عنه : هو فرض عين؛ إذ لا يخلو أحد من عيب إو إصرار على ذنب ، إلا الأنبياء - عليهم السلام - وقد قال الشاذلي رضي الله عنه : من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر . وبالله التوفيق .
(3/414)

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
قلت : { بينهما } : ظرف مضاف إليه؛ اتساعًا ، أو بمعنى الوصل ، و { سَرَبًا } : مفعول ثان لاتخذ ، و { إذ أوينا } : متعلق بمحذوف ، أي : أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره . و { أن أذكره } : بدل من الهاء في { أنسانيه } ؛ بدل اشتمال؛ للمبالغة ، و { عجبًا } : مفعول ثان لاتخذ ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله : { في البحر } ، ثم ابتدأ التعجب فقال : { عجبًا } أي : أَعْجَبُ عَجَبًا ، وهو بعيد . قاله ابن جزي . قلت : وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي . و { قصصًا } : مصدر ، أي : يقصان قصصًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا ، وسارا يلتمسان الخضر ، { فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما } ؛ بين البحرين ، أو مجمع وصل بعضهما ببعض ، وجدا صخرة هناك ، وعندها عين الحياة ، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله ، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً ، فناما ، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ ، ودخل البحر ، وقد كانا أَكَلاَ منه ، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع ، وقيل : توضأ عليه السلام من تلك العين ، فانتضح الماء على الحوت ، فحيى ودخل البحر ، فاستيقظ موسى ، وذهبا ، و { نَسِيَا حوتَهما } أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه ، أو نسي يوشع أن يعلمه ، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء ، { فاتخذ } الحوت { سبيله } أي : طريقه { في البحر سَرَبًا } ؛ مسلكًا كالطّاق ، قيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد ، حتى صار كالطاق في الماء؛ معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام - .
فلما جاوزا مجمع البحرين ، الذي جُعل موعدًا للملاقاة ، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر ، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع ، ف { قال لفتاه آتنا غداءنا } أي : ما نتغدى به ، وهو الحوت ، كما يُنبئ عنه الجواب ، { لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا } : تعبًا وإعياء . قيل : لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك ، ويدل عليه الإتيان بالإشارة ، وجملة { لقد لقينا } : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء ، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع ، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا .
{ قال } فتاه عليه السلام : { أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة } أي : التجأنا إليها ونِمنا عندها ، { فإني نسيتُ الحوت } أي : أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت ، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره ، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان ، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى ، { وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ } بوسوسته الشاغلة له عن ذلك ، { أن أذكره } ، ونسبته للشيطان؛ هضمًا لنفسه ، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان ، وإن كان الكل من عند الله .
(3/415)

وهذه الحالة ، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها ، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام ، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها ، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس ، حتى غاب عن الإخبار بها .
{ قلت } : والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب ، وحكمتُه ما لقي من النصب؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام ، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب ، ولذلك : " حفت الجنة بالمكاره " .
ثم قال : { واتخذ } الحوتُ { سبيلَه في البحر عَجَبًا } ، فيه حذف ، أي فحيى الحوت ، واضطرب ، ووقع في البحر ، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا ، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه ، وهو كون مسلكه كالطاق ، { قال } موسى عليه السلام : { ذلك ما كنا نبغ } أي : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام ، { فارتدَّا } أي : رجعا { على } طريقهما الذي جاءا منه ، يَقُصَّان . يتبعان { آثارِهما قَصَصًا } ، حتى أتيا الصخرة { فوجدا عبدًا من عبادنا } ، التنكير؛ للتفخيم والإضافة؛ للتعظيم ، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور ، واسمه : بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا ، والخضر لقب له؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء ، كما في حديث أبي هريرة - عنه - صلى الله عليه وسلم .
وقال مجاهد : سمي خضرًا؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله ، ثم قال : وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكان أبوه ملكًا . ه . وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر ، فقال : " كان ابن ملك من الملوك ، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده ، فأبى وهرب ، ولحق بجزائر البحر ، فلم يقدر عليه " قيل إنه شرب من عين الحياة؛ فمُتع بطول الحياة .
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ - أي : بساط - على وجه الماء ، فسلم عليه . وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " انتهى موسى إلى الخضر ، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب ، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا ، وقال : عليك السلام يا نبي بني إسرائيل ، فقال موسى : من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال : الذي أدراكَ بي ، وذلك عليَّ "
قال تعالى في حق الخضر : { آتيناه رحمةً من عندنا } ، هي الوحي والنبوة ، كما يُشعر به تنكير الرحمة ، وإضافتها إلى جناب الكبرياء ، وقيل : هي سر الخصوصية ، وهي الولاية . { وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا } خاصًا ، لا يكتنه كُنْهه ، ولا يُقدر قدره ، وهو علم الغيوب ، أو أسرار الحقيقة ، أو علم الذات والصفات ، علمًا حقيقيًا . فالخضر عليه السلام قيل : إنه نبي؛ بدليل قوله فيما يأتي : { وما فعلته عن أمري } ، وقيل : وَلِيٌّ ، واخْتلف : هل مات ، أو هو حي؟ وجمهور الأولياء : أنه حي ، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء ، حتى تواتر عنهم حياته .
(3/416)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه ، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة ، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله ، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه ، ويخرق عوائد نفسه ، ويفنى عن بشريته ، ويبقى بربه ، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه ، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه ، ويَظهر منه خرق العوائد ، كما ظهر من الحوت ، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق ، وذلك اقتدار ، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر ، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة . قاله في الحاشية بمعناه .
وقال قبل ذلك في قوله : واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا : أي اتخذ الحوتُ ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى ، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت ، حتى وجد الخضر على كبد البحر . ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب ، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب؛ حكمة ، وحالة الاقتدار أشرف ، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام ، بخلاف الآخر ، فإن نفعه خاص . ه .
وقوله تعالى : { وعلّمناه من لدُنَّا علمًا } ، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم ، قال عليه الصلاة والسلام : " من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل ، وتفرغه من العلائق والشواغل ، فإذا كمل تطهير القلب ، وانجذب إلى حضرة الرب ، فاضت عليه العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول ، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول ، بل تُسلم لأربابها ، من غير أن يقتدى بهم في أمرها ، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة ، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام ، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء ، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى . وبالله التوفيق .
(3/417)

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قلت : { رُشْدًا } : مفعول ثاني لعلمت ، أو : علة لأتبعك ، أو : مصدر بإضمار فعله ، أو : حال من كاف { أتبعك } ، أو : على إسقاط الخافض ، أي : من الرشد ، وفيه لغتان : ضم الراء وسكون الشين ، وفتحهما ، وهو : إصابة الخير ، و { خُبْرًا } : تمييز محول عن الفاعل ، أي : لم يحط به خبرك . و { لا أعصي } : عُطِفَ على : { صابرًا } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتصل موسى بالخضر - عليهما السلام - استأذنه في صحبته ليتعلم منه ، ملاطفة وأدباً وتواضعاً ، وكذلك ينبغي لمن يريد التعلم من المشايخ : أن يتأدب ويتواضع معهم . { قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلّمَنِ رُشدًا } أي : مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب ، لعلي أرشد به في ديني . ولا ينافي كونه نبيًا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية؛ إذ لا نهاية لعلمه تعالى ، وقد قال له تعالى فيما تقدم : أعلم الناس من يبتغي علم غيره إلى علمه . رُوي أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان ، فجاءت خُطافة أو عصفور فنقر في البحر نقرة أو نقرتين ، فقال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض؟ ما علمك وعلمي وعلم الأولين والآخرين في جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور .
ولَمَّا سأله صُحْبَتَهُ { قال } له : { إِنك لن تستطيع معيَ صبرًا } ؛ لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع ، وأنا أطلعني الله تعالى على أمور خفية ، لا تتمالك أن تصبر عنها؛ لمخالفة ظاهرها للشريعة . وفي صحيح البخاري : " قال له الخضر : يا موسى ، إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ ، لا تعلمه أنت ، وأنتَ على علمٍ من علم الله علَّمكَه الله ، لا أعلمه "
ثم علّل عدم صبره بقوله : { وكيف تصبرُ على ما لم تُحط به خُبْرًا } ؟ لأني أتولى أموراً خفية لا خُبر لك بها ، وصاحب الشريعة لا يُسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة ، { قال } له موسى عليه السلام : { ستجدني إِن شاء الله صابرًا } معك ، غير مُعترض عليك . وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن ، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر ، { ولا أعصي لك أمرًا } ، هو داخل في الاستثناء ، أي : ستجدني إن شاء الله صابرًا وغير عاص .
وقال القشيري : وَعَدَ من نفسه شيئين : الصبر ، وألاَّ يعصيه فيما يأمره به . فأما الصبر فَقَرنَه بالمشيئة ، حتى وجده صابرًا ، فلم يقبضْ على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل . والثاني قال : { ولا أعصي لك أمراً } ، فأطلق ولم يستثن ، فعصى ، حيث قال له الخضر : { فلا تسألني عن شيء } ، فكان يسأله ، فبالاستثناء لم يخالف ، وبالإطلاق خالف . ه . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وفيه نظر؛ للحديث الصحيح : " يرحم الله موسى ، لو صبر . . . "
(3/418)

مع أن قوله : " ولا أعصي . . . " الخ ، غير خارج عن الاستثناء ، كما تقدم ، وإن احتمل خروجه ، والظاهر : أن الاستثناء ، كالدعاء ، إنما ينفع إذا صادف القدر ، وهو هنا لم يصادف ، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله : { لن تستطيع معي صبرًا } ، وقد أراد الله نفوذ علم الخضر . ه .
وقال ابن البنا : أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة ، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لأن موسى عليه السلام لم يلتزم إلا ذلك . ولمّا رأى ما هو محرم تكلم . . . فافهم . ه .
ثم شرط عليه التسليم لِمَا يرى ، فقال : { فإِن اتبعتني فلا تسالني عن شيء } تشاهده من أفعالي ، فهمْتَه أم لا ، أي : لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته ، فضلاً عن مناقشته واعتراضه ، { حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًا } ؛ حتى أبتدي بيانه لك وحكمته ، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية ، وعاقبة صالحة . وهذا من أدب المتعلم مع العالم ، والتابع مع المتبوع ، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل؛ مُسترشدًا بملاطفةٍ وأدب ، وهذا في العلم الظاهر . وسيأتي في الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن .
الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام -؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم ، حتى لو قال لشيخه : لِمَ؟ لَمْ يفلح أبدًا ، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره ، ولعله اختبار له في صدقه ، أو اطلع على باطن الأمر فيه ، فأحوالهم خضرية ، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى ، ويمتثل أمره في كل شيء ، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا ، هذا في علم الباطن ، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش ، مع ملاطفة وتعظيم .
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة . ه . قال القشيري في قوله : { فلا تسالن عن شيء } : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه ، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ . ه .
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم ، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه ، فلا تتبعه إلا عن دليل ، ويُسلم له في حاله ، ولا تعترض عليه ، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه ، وإن كنت لا تعمل بعمله؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل ، فلا تعمل مثل عمله ، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك ، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر ، فلا تقفُ ما ليس لك به علم .
(3/419)

والله الموفق والمرشد . ه .
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته ، فإنما هو طالب علم أو تبرك ، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به ، كيفما كان ، نعم ، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به .
وقال في القوت في قوله : { فلا تسألن عن شيء } : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم ، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه ، لا يصلح أن يسأل عنه ، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية ، لا يوكل إلى العقول ، بل يخص به المراد المحمول . ه .
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته ، فيتصرفون ، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون ، وهؤلاء هم أهل القبضة ، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة ، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم ، فتتكوّن لهم الأشياء ، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم ، وهم كما قال : مرادون محمولون ، فما يجري عليهم : قدر { وما رميت ... } الآية . ه .
(3/420)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
قلت : ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها ، فعداه بفي ، وقد تركه على أصله في قوله : { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النّحل : 8 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فانطلقا } أي : موسى والخضر ، وسكت عن الخادم؛ لكونه تبعًا ، وقيل : إن يوشع لم يصحبهما ، بل رجع ، فصارا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة ، فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نَوْل ، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة ، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء ، فحشاها موسى بثوبه ، و { قال أخرقتها لتُغرق أهلَها } أو : ليَغرَق أهلُها ، { لقد جئتَ } أي : أتيتَ وفعلت ، { شيئًا إِمْرًا } أي : عظيمًا هائلاً ، يقال : أَمِر الأمرُ : عظم ، { قال } الخضر : { ألم أقل إِنك لن تستطيع معي صبرًا } ؛ تذكيرًا لما قاله له من قبلُ ، وإنكارًا لِعدم الوفاء بالعهد ، { قال } موسى عليه السلام : { لا تُؤاخذني بما نسيتُ } أي : بنسياني ، أو بالذي نسيته ، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه ، أراد : نسي وصيته ، ولا مؤاخذة على الناسي ، وفي الحديث : " كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا " أو : أراد بالنسيان الترك ، أي : لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة . { ولا تُرهقني } أي : لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي { من أمري } ، وهو اتباعك ، { عُسرًا } أي : لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك ، بل يسرها عليّ؛ بالإغضاء والمسامحة .
{ فانطلقا } أي : فقبل عذره؛ فخرجا من السفينة فانطلقا { حتى إذا لقيا غلامًا فقتله } قيل : كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه ، وقيل : ضرب رأسه بحجر ، وقيل : ذبحه ، والأول أصح؛ لوروده في الصحيح ، رُوي أن اسم الغلام " جيسور " بالجيم ، وقيل : بالحاء المهملة ، فإِن قلت : لِمَ قال { خرقها } ؛ بغير فاءٍ ، وقال : { فقتله } بالفاء؟ فالجواب : أن " خَرَقَها " : جواب الشرط ، و { قتله } : من جملة الشرط ، معطوفًا عليه ، والجزاء هو قوله : { قال أقتلت } ، فإن قلت : لِمَ خولف بينهما؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب ، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام . ه . وأصله للزمخشري . وقال البيضاوي : ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى ، وفي الثانية { فقتله } من جملة الشرط ، واعتراضه جزاء؛ لأن القتل أقبح ، والاعتراض عليه أدخل ، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام ، ولذلك وصله بقوله : { لقد جئت شيئًا نُكرًا } أي : منكرًا . ه . وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره .
{ قال } موسى عليه السلام في اعتراضه : { أقتلتَ نفسًا زكية } : طاهرة من الذنوب ، وقرئ بغير ألف؛ مبالغةً ، { بغير نَفْسٍ } أي : بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ ، فيكون قصاصًا . وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد إحصان؛ لأنه أقرب إلى الوقوع؛ نظرًا لحال الغلام .
(3/421)

{ لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا } أي : مُنكرًا ، قيل : أنكرُ من الأول ، إذ لا يمكن تداركه ، كما يمكن تدارك الأول؛ بالسد ونحوه . وقيل : " الإمْر " أعظم؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة .
{ قال } له الخضرُ عليه السلام : { ألم أقل لك إِنك لن تستطيعَ معي صبرًا } ، زاد " لك "؛ لزيادة تأكيد المكافحة؛ بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر ، لما تكرر منه الإنكار ، ولم يَرْعَوِ بالتذكير ، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر . { قال } موسى عليه السلام : { إِنْ سألتك عن شيء بعدها } ؛ بعد هذه المرة { فلا تُصاحبني } إن سألتُ صُحبتَكَ ، وقرأ يعقوب : " فلا تصحبني "؛ رباعيًا ، أي : لا تجعلني صاحبًا لك ، { قد بلغتَ من لدُنِّي عُذْرًا } أي : قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في مفارقتي ، حيث خالفتك ثلاث مرات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أَخِي مُوسَى ، استحيا ، فقال ذلك ، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب " وفي البخاري : " وددنا لو صبر موسى ، حتى يقص الله علينا من أمرهما " .
{ فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قريةٍ } ، هي أنطاكية ، وقيل : أَيْلة ، وقيل الأبُلة ، وهي أبعد أرض الله من السماء ، وقيل : برقة ، وقال أبو هريرة وغيره : هي بالأندلس . ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء . قلت : وهي التي تسمى اليوم طريفة ، وأصلها بالظاء المشالة . وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانوا أهل قرية لِئامًا " وقال قتادة : شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف ، ولا يعرف لابن السبيل حقه .
ثم وصف القرية بقوله : { استطعما أهلها } أي : طلبا منهم طعامًا ، ولم يقل : استطعماهم ، على أن يكون صفة لأهل؛ لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم ، فإن الإباء من الضيافة ، مع كونهم أهلها قاطنين بها ، أشنع وأقبح .
رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام ، فلم يطعموهما . واستضافاهم { فأَبَوا أن يُضيفوهما } بالتشديد ، وقرئ بالتخفيف . يقال : ضافه : إذا كان له ضيفًا ، أضافه وضيّفه : أنزله ضيفًا . وأصل الإضافة : الميل ، من : ضاف السهمُ عن الغرض : مال ، ونظيره : زاره ، من الازْوِرَار ، أي : الميل . فبينما هما يمشيان ، { فوجدا فيها جدارًا } ، قال وهب : كان طوله مائة ذراع ، { يُريد أن ينقضَّ } أي : يسقط ، استعار الإرادة للمشارفة؛ للدلالة على المبالغة في ذلك ، والانقضاض : الإسراع في السقوط ، وهو انفعال ، من القض ، يقال : قضضته فانقض ، ومنه : انقضاض الطير والكوكب؛ لسقوطه بسرعة . وقرئ : أن ينقاض ، من انقاضت السنُّ : إذا سقطت طولاً . { فأقامه } قيل : مسحه بيده فقام ، وقيل : نقضه وبناه ، وهو بعيد . { قال } له موسى : { لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرًا } نتعشى به ، وهو تحريض له على أخذ الجُعل ، أو تعريض بأنه فُضول ، وكأنه لَمَّا رأى الحِرمَان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك في ذلك الوقت مما لا يعني ، فلم يتمالك الصبر عليه .
(3/422)

قال ابن التين : إن الثالثة كانت نسيانًا؛ لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع ، وهو الإحسان لمن أساء . ه . وفيه نظر؛ فقد قال القشيري في تفسير الآية : لم يقل موسى : إنك ألْمَمْتَ بمحظور ، ولكن قال : لو شئتَ ، أي : فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا ، فكان أخْذُ الأجر خيرًا من الترك ، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللت بحقنا؟ ويقال : إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب ، فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة ، وإلاَّ فهو نسي ، حيث سقى لبنات شعيب ، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر ، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً ، وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلا . ه .
قلت : لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه ، فكان سالكًا محضًا ، وفي وقت السقي : كان مجذوبًا محمولاً عنه .
ثم قال القشيري : وكما أن موسى كان يُحب صحبة الخضر؛ لما له فيه من غرض استزادةٍ من العلم ، كان الخضر يحب ترك صحبته؛ إيثارًا للخلوة بالله عنه . ه . قاله في الحاشية الفاسية .
الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه ، ويعيب سفينة وجوده ، بتخريب ظاهره ، حتى لا يقبله أحد ، ولا يُقبل عليه أحد ، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه ، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد ، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد .
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى ، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها ، وما يخف عليها فتحجزها عنه ، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق . ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع؛ قيامًا بآداب العبودية ، وصونًا لكنز أسرار الربوبية . ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه ، فإن أهل القرية أساؤوا؛ بترك ضيافة الخضر ، فقابلهم بالإحسان؛ حيث أقام جدارهم . والله تعالى أعلم .
(3/423)

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قلت : { هذا } ، الإشارة إما إلى نفس الفراق ، كقولك : هذا أخوك ، أو إلى الوقت الحاضر ، أي : هذا وقت الفراق . أو إلى السؤال الثالث . و { بيني } : ظرف مضاف إليه المصدر؛ مجازًا ، وقرئ بالنصب ، على الأصل ، و { غَصْبًا } : مصدر نوعي ليأخذ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } الخضر عليه السلام : { هذا فراقُ بيني وبينك } فلا تصحبني بعد هذا ، { سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا } أي : سأخبرك بالخبر الباطن ، فيما لم تستطع عليه صبرًا؛ لكونه منكرًا في الظاهر ، فالتأويل : رجوع الشيء إلى مآله ، والمراد هنا : المآل والعاقبة ، وهو خلاص السفينة من اليد العادية ، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره ، مع الفوز بالبدل الأحسن ، واستخراج اليتيمين للكنز ، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته ، ولم يقل : " بتأويل ما رأيت "؛ نوعُ تعريضٍ به ، وعناية عليه السلام .
ثم جعل يفسر له ، فقال : { أما السفينة } التي خرقتُها ، { فكانت لمساكين } : ضُعفاء ، لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، فسماهم مساكين؛ لذلهم وضعفهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وأمتْنِي مِسْكِينًا ، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ " فلم يُرد مسكنة الفقر ، وإنما أراد التواضع والخضوع ، أي : احشرني مخبتًا متواضعًا ، غير جبار ولا متكبر ، وقيل : كانت السفينة لعشرة إخوة : خمسة زَمْنَى ، وخمسة { يعملون في البحر } . وإسناد العمل إلى الكل ، حينئذ ، بطريق التغليب ، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل . { فأردت أن أعيبها } : أجعلها ذات عيب ، { وكان ورائهم ملكٌ } أي : أمامهم ، وقرئ به ، أو خلفهم ، وكان رجوعهم عليه لا محالة ، وكان اسمه : " جلندي بن كركر " وقيل : " هُدَدُ بن بُدَد " ، قال ابن عطية : وهذا كله غير ثابت ، يعني : تسمية الملك . { يأخذُ كلَّ سفينة } صالحة ، وقرئ به ، { غَصْبًا } من أصحابها .
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب ، فيقول : فكانت لمساكين ، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة ، فأردت أن أعيبها؛ لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب ، وإنما قدّم؛ للاعتناء بشأنها؛ إذ هي المحتاجة إلى التأويل ، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها ، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي : ومبني ذلك - أي : التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد ، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . ه .
{ وأما الغلامُ } الذي قتلتُه { فكان أبواه مؤمنين } وقد طُبع هو كافرًا ، وإنما لم يصرح بكفره؛ لعدم الحاجة إليه؛ لظهوره من قوله : { فخشينا أن يُرهقهما } : فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ { طغيانًا } عليهما { وكفرًا } بنعمتهما؛ لعقوقه وسوء صنيعه ، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا ، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا .
(3/424)

وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك؛ لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره ، وقرئ : " فخاف ربك " ، أي : كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر . ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية ، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا؛ { فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه } ؛ بأن يرزقهما بدله ولدًا { خيرًا منه زكاةً } : طهارة من الذنوب والأخلاق الردية ، { وأقربَ رُحْمًا } أي : رحمة وعطفًا ، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى؛ من الدلالة على وصول الخير إليهما ، فلذلك قيل : ولدت لهما جارية ، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا ، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم ، وقيل : ولدت سبعين نبيًا ، وقيل : أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما .
{ وأما الجدارُ } الذي أقمتُ { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } أي : القرية المذكورة فيما سبق ، ولعل التعبير عنها بالمدينة؛ لإظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح ، قيل : اسم اليتيمين أصرم وصريم . { وكان تحته كنزٌ لهما } من فضة وذهب ، كما في الحديث ، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته ، مع أن هذه شريعة أخرى . قال ابن عباس : ( كان لوحًا من ذهب ، مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ) . وقيل : كانت صحفًا فيها علم مدفون .
{ وكان أبوهما صالحًا } ، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما ، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم ، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد . قال محمد بن المنكدر : ( إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده ، ومَسربته التي هو فيها ، والدويرات التي حولها ، فلا يزالون في حفظ الله وستره ) . وكان سعيد بن المسيب يقول لولده : إني لأزيد في صلاتي من أجلك ، رجاء أن أُحْفَظَ فيك ، ويتلو هذه الآية . ويتلو هذه الآية . وفي الحديث : " ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته " ويؤخذ من الآية : القيام بحق أولاد الصالحين؛ إذ قام الخضر عليه السلام بذلك .
{ فأراد ربك } أي : مالكك ومُدبر أمرك . وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام ، دون ضميرهما ، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد ، والاستسلام لإرادته سبحانه ، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها . أراد { أن يبلغا أشُدَّهما } : حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا ، { ويستخرجا كنزهما } من تحت الجدار ، ولولا أني أقمته لانقض ، وخرج الكنز من تحته ، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته ، وضاع بالكلية؛ { رحمةً من ربك } مصدر في موضع الحال ، أي : يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى .
(3/425)

أو : يتعلق بمضمر ، أي : فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها ، { رحمة من ربك } ؛ بمن فُعل له أو به .
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة؛ فنسب ما كان عيبًا لنفسه ، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى؛ فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ ، وإبداله بخير منه خير ، فأتى بضمير المشاركة ، وما كان كمالاً محضًا ، وهو إقامة الجدار ، نسبه لله تعالى .
ثم قال : { وما فعلته } أي : ما رَأَيْتَ من الخوارق { عن أمري } أي : عن رأيي واجتهادي ، بل بوحي إلهي مَلَكي ، أو إلهامي ، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته ، { ذلك } أي : ما تقدم ذكره من التأويلات ، { تأويلُ } أي : مآل وعاقبة { ما لم تَسْطِع عليه صبرًا } أي : تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا ، فحذف التاء؛ تخفيفًا ، وهو فذلكة لِمَا تقدم ، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب . قيل : كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله ، ففي هذه الأمثلة حجة عليه ، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة ، نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له : أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار ، نودي : أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر؟ والله تعالى أعلم .
رُوِيَ أنه قال له : لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة ، كلها مما رأيت . ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه ، قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به ، واطلبه لتعمل به . ه .
وفي رواية : قال له : اجعل همتك في معادك ، ولا تخض فيما لا يعنيك ، ولا تأمن الخوفَ ، ولا تيأس الأمْن ، وتدبر الأمور في علانيتك ، ولا تذر الإحسان في قدرتك . فقال له : زدني يا ولي الله ، فقال : يا موسى إياك واللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك ، من غير عَجَب ، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم ، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران ، وإياك والإعجاب بنفسك ، والتفريط فيما بقي من عمرك ، فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية ، أتم الله عليك نعمته ، وغمرك في رحمته ، وكلأك من عدوه . فقال الخضر : آمين . فأوصني أنت يا نبي الله ، فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله ، ولا ترضى عن أحد إلا في الله ، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا ، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر ، فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران ، أعانك الله على طاعته ، وأراك السرور في أمرك ، وحببك إلى خلقه ، وأوسع عليك من فضله ، قال موسى : آمين .
(3/426)

تنبيه : قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام . وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين ، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة ، فنزل فاغتسل منها ، وشرب من مائها ، فأخطأ ذو القرنين الطريق ، فعاد ، فلم يصادفها ، قالوا : وإلياس أيضًا في الحياة ، يلتقيان في كل سنة بالموسم ، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام- ، كما في الصحيح ، بعد صلاة العشاء : " أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا " ، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب ، أو يخصص الحديث به؛ كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم ، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله ، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه "؛ كما في الحِكَم . فالواجب على المريد ، إذا كان بين يدي الشيخ ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم ، إلا أن يأمره بالكلام ، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت ، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له ، ويطلب تأويله ، فإن الشريعة واسعة ، لها ظاهر وباطن ، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد .
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه ، ولا تأويل فيه ، كالزنا بالمعينة أو اللواط ، وأما ما اختلف فيه ، ولو خارج المذهب ، فلا ينكر عليه ، وكذلك ما فيه تأويل . هذا إن صحت عدالته ، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل . وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه ، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه ، وكذلك غيره من أرباب الأحوال ، يُلتمس لهم أحسن المخارج ، فإن أحوالهم خضرية ، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا . وبالله التوفيق .
(3/427)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويسألونك } أي اليهود ، سألوه على وجه الامتحان ، أو قريش ، بتلقينهم . والتعبير بالمضارع؛ للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب ، والمراد : ذو القرنين الأكبر ، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام ، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام ، واسمه تبرس ، وقيل : هرديس ، وأما ذو القرنين الأصغر ، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام ، واسمه الإسكندر ، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف ، وقيل : المراد به هنا الأصغر ، واقتصر عليه المحلِّي .
قال الإمام الرازي : والأول أظهر؛ لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر ، كما شهدت به كتب التواريخ . قلت : كلاهما بلغا الغاية القصوى ، وملكا المشارق والمغارب ، أما ذو القرنين الأكبر ، فقيل : إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا ، ملك الأقاليم ، وقهر أهلها من الملوك ، ودانت له البلاد ، وإنه كان داعيًا إلى الله تعالى ، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور ، وكان الخضر على مقدمة جيشه ، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير . وقيل : كان ابن خالته . وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام ، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل . ورُوي أنه حج ماشيًا ، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له ، وأوصاه بوصايا . ويقال : إنه أُتي بفرس ليركب ، فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل ، فعند ذلك سخّر له السحاب ، وطوى له الأسفار ، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم ، إذا ارادوا غزو قوم . وسئل عنه عليّ رضي الله عنه : أكان نبيًا أو ملَكًا - بالفتح -؟ فقال : لم يكن نبيًا ولا ملَكًا ، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله ، وناصَحَ الله فناصحه ، فسخر له السحاب ، ومدَّ له الأسباب .
وقال مجاهد : ملك الأرض أربعةٌ : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين ، والكافران : نمرود وبختنصر . ه .
وأما ذو القرنين الأصغر ، وهو الإسكندر اليوناني ، فرُوِيَ انه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر ، ثم عاد إلى مصر ، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل ، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ، ودان له العراقيون والقبط والبربر ، واستولى على ملوك الفرس ، وقصد السند وفتحه ، وبنى مدينة سرنديب وغيرها ، ثم قصد الصين ، وغزا الأمم البعيدة ، ورجع إلى العراق ومرض ومات .
رُوِيَ أن أهل النجوم : قالوا له : إنك تموت على أرض من حديد ، وتحت سماء من خشب ، فبلغ بابل ، ورعُف ، وسقط عن دابته ، فبسطت له دروع من حديد ، فنام عليها ، فآذته الشمس ، فأظلوه بترس من خشب ، فنظر ، فقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب ، فمات ، وهو ابن ألف وستمائة سنة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، قال ابن كثير : وهو غريب .
(3/428)

قلت : والذي لابن عساكر : أنه عاش ستًا وثلاثين سنة ، وأنه كان بعد داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قال ابن عساكر بعد كلام : وإنما بينّا هذا؛ لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر ، فيقع بذلك خطأ كبير . كيف لا ، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا ، ملكًا عادلاً ، وزيره الخضر عليه السلام ، وقد قيل : إنه كان نبيًا ، وأما الثاني فقد كان كافرًا ، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف ، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة ، فأين هذا من ذلك؟! . ه . فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه ، مما يدل على إسلامه ، قال فيه : لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله ، دعا بكاتبه ، فقال له : اكتب تعزيتي لأمي ، بسم الله الرحمن الرحيم ، من الإسكندر بن قيصر ، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه ، إلى أمي رومية ذات الصفا ، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء ، وعما قريب تجاوره في دار البقاء ، يا أماه؛ أسألك بودك لي وودي لك ، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج ، ثم يهشم ويتناثر ، كأن لم يغنَ بالأمس ، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله : يا دنياي ارحلي بأهلِكِ ، فإنكِ لستِ لهم بدار ، إنما الدنيا واهبة الموت ، موروثة الأحزان ، مفرقة الأحباب ، مخربة العمران ، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار . انظر بقية كلامه فيه . ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه . والله تعالى أعلم .
واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن : هل كان نبيًا أو ملَكًا - بفتح اللام - أو ملِكًا - بالكسر - وهو الصحيح ، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين؛ فقيل : كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين ، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان ، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عزّ وجلّ ، فضُرب بقرنه الأيمن ، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر ، وقيل : لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس ، وقيل : لأنه انقرض في عهده قرنان ، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه ، وتحوطه الظلمة من ورائه . ه .
ثم ذكر الحق تعالى الجواب ، فقال : { قل سأتلو عليكم } أي : سأذكر لكم { منه ذكرًا } أي : خبرًا مذكورًا ، أو قرآنا يخبركم بشأنه ، والسين؛ للتأكيد ، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم ، وتصديقه بإنجاز وعده ، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل؛ لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها ، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه ، وعن الروح ، وعن أهل الكهف ، فقال : غدًا أُخبركم ، فتأخر الوحي كما تقدم ، ثم نزلت السورة مفصلة .
(3/429)

ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر ، فقال : { إِنا مكنَّا له في الأرض } أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء ، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار ، حيث سخر له السحاب ، ومدّ له في الأسباب ، وبسط له النور ، فكان الليل والنهار عليه سواء ، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها ، { وآتيناه من كل شيء } أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه { سببًا } أي : طريقًا يُوصله إليه؛ من علم ، أو قدرة ، أو آلة ، فأراد الوصول إلى الغرب { فأتْبَع سببًا } : طريقًا يوصله إليه .
{ حتى إذا بلغ مَغْرِب الشمس } أي : منتهى الأرض من جهة المغرب ، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي ، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات ، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين . { وجدَها } أي : الشمس ، { تغربُ في عينٍ حَمِئَةٍ } أي : ذات حمأ ، وهو الطين الأسود ، وقرئ : حامية ، أي : حارة ، رُوي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية ، وعنده ابن عباس ، فقال ابن عباس : حمئة ، فقال : معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين ، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : في ماء وطين ، كذا نجده في التوراة ، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه .
وليس بينهما تنافٍ ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين ، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار ، مع أن قراءته أيضًا متواترة ، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها ، وقراءته محتملة ، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك ، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء ، كما يلوح به قوله تعالى : { وجدها تغرب } ، ولم يقل : كانت تغرب؛ فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض .
{ ووجد عندها } أي : تلك العين { قومًا } ؛ قيل : كان لباسهم جلود الوحش ، وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارًا ، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل ، وأن يدعوهم إلى الإيمان ، فقال : { قلنا يا ذا القرنين إِما أن تُعَذَّبَ } بالقتل من أول الأمر ، { وإِمّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا } ؛ أمرًا ذا حُسْنٍ ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ، واستدل بهذا على نبوته ، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبي كان معه في ذلك العصر ، أو إلهامًا ، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي ، { قال } ذو القرنين ، لمن كان عنده : مختارًا للشق الأخير ، وهو الدعاء إلى الإسلام : { أمّا من ظَلَم } في نفسه ، وأصرّ على الكفران ، ولم يقبل الإيمان { فسوف نُعذِبُه } بالقتل . وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر في القدور ، { ثم يُرَدُّ إلى ربه } في الآخرة { نُعَذِّبُهُ } فيها { عذابًا نُكْرًا } ؛ منكرٌ فظيعًا ، لم يُعهد مثله ، وهو عذاب النار .
(3/430)

وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه ، أي : حيث لم يقل : " ثم يرد إليك " ، وأن مقاولته كانت مع النبي ، أو مع من عنده من أهل مشورته .
{ وأما مَنْ آمن } بموجب دعوته { وعَمِلَ } عملاً { صالحًا } حسبما يقتضيه الإيمان { فله } في الدارين { جزاء الحُسنى } ، أي : المثوبة الحسنى ، أو الفعلة الحسنى جزاء ، على قراءة النصب ، على أنه مصدر مؤكد للجملة ، قُدِّم عليه المبتدأ؛ اعتناءً ، أو حال ، أو تمييز . { وسنقول له من أمرنا } أي : مما نأمر به { يُسْرًا } : سهلاً ميسرًا ، غير شاق عليه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه ، ودعا إلى الله ، ونصح لله ، مكّنه الله تعالى من الأرض ، ويسر له أموره ، حتى قطع مشارقها ومغاربها ، وكذلك من انقطع إلى الله ، ورفع همته إلى مولاه ، وأرشد الخلق إلى الله ، تكون همته قاطعة ، يقول للشيء كن فيكون ، بقدرة الله وقدره . وسخر له الكون بأسره ، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، يقول الله تعالى ، في بعض كلامه : " يا عبدي كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد " .
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا ، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها ، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها ، ويحظر أقطارها ومناكبها ، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة ، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب ، أو غيره من قطع مسافة ، أو استتار عن أبصار ، وتصديق مأمول ، وتحقيق سؤال ، وإجابة دعاء ، وكشف بلاء ، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره ، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا ، ويمنع قومًا عما شاؤوا ، فلهم من الحق تحقيق أمل ، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات ، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ ، فالله يحقق فيهم همتهم . ه . قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته ، في كل وقت وحين ، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا ، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا ، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين . والله تعالى أعلم .
(3/431)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قلت : { مَطْلِعَ } فيه لغتان : الكسر والفتح ، و { كذلك } : خبر عن مضمر ، أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا لك ، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد ، أو { نجعل } أي : وجدا أو جعلا كذلك ، أو صفة لقوم ، أي : على قوم مثل ذلك القبيل ، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم ، أو صفة لستر ، أي : سترًا مثل ستركم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم أَتْبَع } ذو القرنين { سببًا } : طريقًا راجعًا من مغرب الشمس ، موصلاً إلى مشرقها ، { حتى إِذا بلغ مَطْلِعَ الشمس } أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض ، قيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة ، وقيل : في أقل من ذلك .
{ وجدها تطْلُع على قوم } عراة { لم نجعلْ لهم من دونها سترًا } من اللباس والبنيان ، قيل : هم الزنج ، وفي اللباب : قيل : إنهم بنو كليب ، وقيل : إن بني كليب طائفة منهم ، وهم قوم بآخر صين الصين ، على صور بني آدم ، إلاّ أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب ، ووجوه كوجوه الكلاب ، وأكثر قُوتِهم الحوت ، ومَن مات منهم أكلوه ، وملأوا موضع دماغه مسكًا وعنبرًا ، وحبسوه عندهم؛ تبركًا بآبائهم وأبنائهم . ثم قال : وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم . ه .
وعن كعب : أن أرضهم لا تمسك الأبنية ، وبها أسراب ، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر ، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، يتراعون فيها كما ترعى البهائم . قال رجل من سمَرْقَنْد : خرجت حتى جاوزت الصين ، فقالوا لي : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة ، فاستأجرت رجلاً حتى بلغتهم ، فإذا أحدهم يفرش أذنه ، ويلبس الأخرى ، وكان صاحبي يُحسن لسانهم ، فسألهم فقالوا : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس . قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة ، فغشي عليَّ ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن ، فلما طلَعت الشمس على الماء ، إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت ، فأدخلونا سربًا لهم ، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج . ه . وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض . ه .
وقوله تعالى : { كذلك } : أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا ، في رفعة المحل وبسط الملك ، أو أمره فيهم كأمره في أهل مغرب الشمس ، من التخيير والاختيار ، أو وجد قومًا عند مطلع الشمس كذلك ، وحكم فيهم ، بحكم أولئك . أو : { لم نجعل لهم } سترًا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال . قال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر ، ولا تحمل البناء ، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر . ه . قال تعالى : { وقد أحطْنا بما لديه } من الأسباب والعُدَد ، وما صدر عنه وما لاقاه { خُبْرًا } : علمًا تعلق بظواهره ، وخفايا أمره ، يعني : أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير .
(3/432)

الإشارة : كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية ، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية ، وهي شمس القلوب ، التي تكشف أستار الغيوب ، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان ، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان ، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام ، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام ، حتى قال قائلهم : لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين ، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يقول : وجدها تطلع على أهل التجريد ، الخائضين في بحار التوحيد ، وأسرار التفريد ، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه :
أقَارِئينَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ ... هُنَا البُحورُ إلَيَّ تُنْبِي
هَذَا مَقَامُ أَهْلِ التَّجْرِيد ... الْوَاقفِينَ مَع ربِّي
قد تجرّدوا من لباس الزينة والافتخار ، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار ، فعوضهم الله تعالى في قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار ، صبروا قليلاً ، واستراحوا زمنًا طويلاً ، تذللوا قليلاً ، وعزّوا عزًا طويلاً ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
(3/433)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قلت : { بين السدين } : مفعول ، لا ظرف؛ لأنه يستعمل متصرفًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم أتْبَعَ } ذو القرنين { سببًا } : طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب ، سالكًا من الجنوب إلى الشمال ، { حتى إذا بلغ بين السدين } : بين الجبلين ، اللذين سُدَّ ما بينهما ، وهو منقطع أرض الترك ، مما يلي المشرق ، لا جبال أرمينية وأذربيجان ، كما توهم ، وفيه لغتان : الضم والفتح ، وقيل : ما كان من فعل الله فهو مضموم ، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح . { وجد من دونهما } أي : من ورائهما : مما يلي بر الترك ، { قومًا } : أمة من الناس { لا يكادون يفقهون } : يفهمون { قولاً } ؛ لغرابة لغتهم ، وقلة فطنتهم ، وقرئ بالضم؛ رباعيًا ، أي : لا يُفصحون بكلامهم ، واختلف فيهم ، قيل : هم جيل من الترك؛ قال السدي : الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج ، خرجت ، فضرب ذو القرنين السد ، فبقيت خارجة . قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك ، حين اعتزلوا قومهم ، ثم قال : فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم ، - أي : يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة ، سد ذو القرنين على إحدى وعشرين ، وبقيت واحدة ، فسُموا الترك؛ لأنهم تُرِكُوا خارجين . قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه السلام ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أَبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج . ه .
وقُرِئ بالهمز فيهما؛ لأنه من أجيج النار ، أي : ضوؤها وشررها ، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم ، وهو غير منصرف؛ للعجمة والعلَمية .
{ قالوا يا ذا القرنين } ، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان ، أو يكون فَهم كلامهم ، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب ، فقالوا له : { إِن يأجوج ومأجوج } ، قد تقدم أنهم من أولاد يافث . وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح ، واختلف في صفاتهم ، فقيل : في غاية صغر الجثة وقصر القامة ، لا يزيد قدمهم على شبر ، وقيل : في نهاية عِظم الجسم وطول القامة ، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا ، وفيهم من عرضه كذلك .
قال عبد الله بن مسعود : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج ، فقال : " هم أمم ، كل أمة أربع مائة ألف ، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه ، كلهم قد حمل السلاح " ، قيل : يا رسول الله صفهم لنا ، قال : " هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ، ومن مات منهم أكلوه ، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام ، وسَاقَتُهُمْ بخراسان ، يشربون أنهار المشرق ، وبحيرة طبرية " .
(3/434)

فقالوا له : { إِنَّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض } أي : في أرضنا ، بالقتل ، والتخريب ، وإتلاف الزرع ، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع ، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ، ولا يابسًا إلا احتملوه ، وكانوا يأكلون الناس أيضًا . { فهل نجعلُ لك خَرْجًا } أي : جُعْلاً من أموالنا { على أن تجعلَ بيننا وبينهم سدًّا } ؛ بالفتح وبالضم ، أي : حاجزًا يمنعهم منا؟
{ قال ما مكَّني } - بالفك وبالإدغام - أي : ما مكنني { فيه ربي } ، وجعلني في مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب ، { خيرٌ } من جُعْلِكم ، فلا حاجة لي به ، { فأَعينوني بقوة } الأبدان وعمل الأيدي ، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل ، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء ، { أجعلْ بينكم وبينهم رَدْمًا } أي : حاجزًا حصينًا ، وبرزخًا مكينًا ، وهو أكبر من السد وأوثق ، يقال : ثوب مُردم؛ إذا كان ذا رقاع فوق رقاع ، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون . { آتُوني زُبَرَ الحديد } : جمع زبرة ، وهي القطعة الكبيرة ، وهذا لا ينافي رد خراجهم؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة ، كما ينبئ عنه قراءة : " ائتوني "؛ بوصل الهمزة ، أي : جيئوني بزبر الحديد ، على حذف الباء ، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة ، دون الخراج على العمل .
قال القشيري : استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم ، ولم يأخذ منهم عُمالة؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة . ه .
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات؛ من الفحم والحَطب وغيرهما؛ لأن الحاجة إليها أمسُّ؛ لأنها الركن في السد ، ووجودها أعز . قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء ، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب ، والبنيان من زبر الحديد ، وجعل بيْنهما الفحم والحطب ، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، وكان بينهما مائة فرسخ ، وذلك قوله تعالى : { حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَينِ } ، وقرئ بضمهما ، أي : ما زال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك . قيل : كان ارتفاعه : مائتي ذراع ، وعرضه : خمسون ذراعًا . وقرئ { سوَّى } ؛ بالتشديد ، من التسوية .
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء ، { قال } للعَمَلة : { انفخوا } النيران في الحديد المبني ، ففعلوا { حتى إذا جعله } أي : المنفوخ فيه { نارًا } أي : كالنار في الحرارة والهيئة . وإسناد الجعل إلى ذي القرنين ، مع أنه من فعل العملة؛ للتنبيه على أنه العمدة في ذلك ، وهم بمنزلة الآلة . { قال } للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها : { آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا } أي : آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه ، لِمَا تقدم .
{ فما اسطاعوا } أي : استطاعوا { أن يَظْهَرُوه } أيْ : يعلوه بالصعود لارتفاعه ، والفاء فصيحة ، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر ، فأفرغوه عليه ، فاختلط والتصق بعضه ببعض ، فصار جبلاً صلَدًا ، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه { فما اسطاعوا أن يَظْهَرُوه } ؛ لارتفاعه وملاسته ، { وما استطاعوا له نَقْبًا } ؛ لصلابته ، وهذه معجزة له؛ لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها ، فضلاً عن إفراغ القطر عليها ، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال .
(3/435)

والله على كل شيء قدير .
{ قال } ذو القرنين ، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم : { هذا } أي : السد ، أو تمكينه منه ، { رحمةً } عظيمة { من ربي } على كافة العباد ، لا سيما على مجاوريه ، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق ، بل هو إحسان إلهي محض ، وإن ظهر بمباشرتي . والتعرض لوصف الربوبية؛ لتربية معنى الرحمة .
{ فإذا جاء وعدُ ربي } : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج ، أو بقيام الساعة؛ بأن شارف قيامُها ، { جعله } أي : السد المذكور ، مع متانته ورصانته ، { دكّاءَ } : مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض ، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى ، بعد بيان سعة رحمته ، { وكان وعد ربي حقًا } : كائنًا لا محالة .
رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا ، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ ، حَفَرُوا ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ ، حَفَرُوا ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ ، قَالَ الذِي عَلَيْهم : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ الله ، فَيَعُودُونَ إِلَيْه ، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس " وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم ، إن شاء الله ، وهذا آخر كلام ذي القرنين . قال تعالى : { وتركنا بعضهم يومئذ } : يوم مجيء الوعد ، ويخرجون ، { يموجُ في بعض } ؛ يزدحمون في البلاد ، أو : يموج بعض الخلق في بعض ، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم ، حيارى من شدة الهول . رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به ، ممن لم يتحصن منهم من الناس ، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس ، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم ، فيموتون مرة واحدة ، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر ، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم ، ثم تُوضع فيها البركة ، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ، ثم تنقرض الدنيا كما قال تعالى :
{ ونُفخ في الصُّور } ؛ لقيام الساعة ، { فجمعناهم جمعًا } ، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى؛ اكتفاء بذكرها في موضع آخر ، أي : جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم ، وتمزقت أجسادهم ، في صعيد واحد؛ للحساب والجزاء ، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ ، { وعرَضْنَا جهنم } ؛ أظهرناها وأبرزناها { يومئذ } أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة ، { للكافرين } منهم ، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا ، { عَرضًا } فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره ، وخص العَرض بهم ، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة؛ لأن ذلك لأجلهم .
ثم ذكر وصفهم بقوله : { الذين كانت أعينهم } وهم في الدنيا { في غطاءٍ } كثيف وغشاوة غليظة { عن ذكري } : عن سماع القرآن وتدبره ، أو : عن ذكري بالتوحيد والتمجيد ، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني ، { وكانوا لا يستطيعون سمعًا } أي : وكانوا مع ذلك؛ لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم ، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية ، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار .
(3/436)

الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد ، أقلها سبع سنين ، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة . وفيها فوائد ، منها : زيارة الإخوان ، والمذاكرة معهم ، وهي ركن في الطريق ، ومنها : نفع عباد الله ، إن كان أهلاً لتذكيرهم ، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ) . ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته ، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا ، وتلوينًا غريبًا ، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد ، فالمريد كالماء ، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر ، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى . ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه ، أو يزيد به إلى ربه .
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة ، يهدون بالحق وبه يعدلون ، يقسمون بالسوية ، ويحكمون بالعدل ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب ، وليس عليهم أُمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا يختلفون ولا يتنازعون ، ولا يقتتلون ، ولا يضحكون ولا يحزنون ، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس ، أطول الناس أعمارًا ، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ ، فعجب منهم ، وقال : خبِّروني بأمركم ، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم ، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا : لئلا ننسى الموت؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا ، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها؟ قالوا : ليس فيها مُتهم ، ولا فينا إلا أمين مؤتمن . قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام؟ قالوا : لا نختصم ، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا : لا نتكاثر . قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا : لا نفتخر ، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا ، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب ، ولا نتخادع ، ولا يغتاب بعضنا بعضًا . قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد ، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية . قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع ، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية .
(3/437)

قال : فما بالكم لا تضحكون؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار . قال : فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء . فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله ، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا؟ قالوا : نعم ، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويُواسون فقراءهم ، ويعفون عمن ظلمهم ، ويُحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمن جهل عليهم ، ويَصلُون أرحامهم ، ويُؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويُوفون بعهدهم ، ويَصدُقون في مواعدهم ، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم ، ما كانوا أحياءًا ، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم . فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم ، ولكن لم أُومر بالمقام . ه . ذكره الثعلبي .
وقال في القوت : قوله تعالى ، في صفة أعدائه المحجوبين : { كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره ، ناظرون إلى غيبه ، قال تعالى في ضده : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } [ هُود : 20 ] ، وقال : { مَثَلُ الفريقين . . . } [ هُود : 24 ] الآية . ه .
(3/438)

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
قلت : { أن يتخذوا } : سد مسد المفعولين ، أو حذف الثاني ، أي : أَحَسِبُوا اتخاذهم نافعَهم و { نزلاً } : حال من جهنم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : منكرًا على الكفار المتقدمين : { أفَحَسِبَ الذين كفروا } حين أعرضوا عن ذكري ، وكانت أعينهم في غطاء عن رؤية دلائل توحيدي ، { أن يتخذوا عبادي } كالملائكة والمسيح وعزير ، أو الشياطين؛ لأنهم عباد ، { من دُونِي أولياءَ } أي : معبودين من دوني ، يُوالونهِم بالعبادة ، أن ذلك ينفعهم ، أو : ألا نعذبهم على ذلك ، بل نعذبهم على ذلك ، { إِنا أَعتدنا } ؛ يَسَّرنا وهيأنا { جهنمَ للكافرين نُزُلاً } أي : شيئًا يتمتعون به أول ورودهم القيامة . والنزُل : ما يقدم للنزيل أي : الضيف ، وعدل عن الإضمار؛ ذمًا لهم على كفرهم ، وإشعارًا بأن ذلك الإعتاد بسبب كفرهم ، وعبَّر بالإعْتادِ؛ تهكمًا بهم ، وتخطئة لهم ، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد ، وإعداد الزاد ليوم المعاد ، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم ، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذُّخْرِ ، ، جهنم؛ عدة لهم . وفي ذكر النُزل : إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له ، وتستحقر دونه ، وقيل : النزل : موضع النزول ، أي : أعتدناها لهم منزلاً يقيمون فيه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما أحببتَ شيئًا إلا وكنتَ له عبدًا ، وهو لا يُحب أن تكون لغيره عبدًا ، فأَفْرد قلبك لله ، وأَخْرِج منه كلَّ ما سواه ، فحينئذ تكونُ عبدًا لله ، حرًا مما سواه ، فكل ما سوى الله باطلٌ ، وظل آفل ، فكن إبراهيميًا ، حيث قال : { لا أُحِبُّ الآفلين } [ الأنعَام : 76 ] ، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق ، وعلقها بالملك الحق ، فلا تُحب إلا الله ، ولا تطلب شيئًا سواه ، كائنًا ما كان ، من جنس الأشخاص ، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات؛ لئلا تنخرط في سلك من اتخذ من دون الله أولياء ، فتكون كاذبًا في العبودية .
رُوِيَ عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : قرأتُ الفاتحة ، فقلت : الحمد لله رب العالمين . فقال لي الهاتف مِنْ قِبَل الله تعالى : صدقت ، فقلت : الرحمن الرحيم ، فقال : صدقت . فقلت : مالك يوم الدين ، فقال : صدقت . فلما قلتُ : إياك نعبد ، قال كذبتَ؛ لأنك تعبد الكرامات ، قال : ثم أدبني ، وتبت لله تعالى . ذكره ابن الصباغ مُطولاً . قلت : ولعله قبل ملاقاة الشيخ ، ولذلك عاتبه بقوله : يا أبا الحسن عِوَضُ ما تقول : " سَخِّر لي خلقك " ، قل : يا رب كن لي ، أرأيت إن كان لك أيفوتك شيء؟ نفعنا الله بجميعهم .
(3/439)

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
قلت : { أعمالاً } : تمييز ، و { في الحياة } : متعلق بسعيهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { هل نُنبئُكم } يا معشر الكفرة { بالأخسرين أعمالاً } أي : بالذين خسروا من جهة أعمالهم؛ كصدقةٍ ، وعتق ، وصلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، حيث عملوها في حال كفرهم فلم تُقبل منهم ، وهم : { الذين ضلَّ سعيُهُم } أي : بطل بالكلية { في الحياة الدنيا } أي : بطل ما سَعْوا فيه في الحياة الدنيا وعملوه ، { وهم يَحسبون } : يظنون { أنهم يُحسنُون صُنعًا } أي : يأتون بها على الوجه الأكمل ، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها ، وهو الإيمان ، واختلف في المراد بهم ، فقيل : مشركو العرب ، وقيل : أهل الكتابين ، ويدخل في الأعمال ما عملوه في الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات . وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحْملونَها على الرياضات الشاقة .
والمختار : العموم في كل من عمل عملاً فاسدًا ، يظن أنه صحيح من الكفرة ، بدليل قوله : { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم } : بدلائل التوحيد ، عقلاً ونقلاً ، { ولقائه } : البعث وما يتبعه من أمور الآخرة ، { فحَبِطَتْ } لذلك { أعمالُهم } المعهودة حبوطًا كليًا ، { فلا نُقيم لهم } أي : لأولئك الموصوفين بحبوط الأعمال ، { يومَ القيامة وزنًا } أي : فنُهينُهم ، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا؛ لأن مدار التكريم : الأعمالُ الصالحة ، وقد حبطت بالمرة؛ قال صلى الله عليه وسلم : " يُؤتى بالرَّجُل السَّمِين العَظِيم يَوْمَ القِيَامَةِ ، فلاَ يَزنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ؛ اقْرَأوا إن شِئْتُمْ : { فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا } . أو : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا؛ لأن الكفر أحبطها . أو : لا نقيم لهم وزنًا نافعًا . قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : يأتي أناسٌ بأعمالهم يوم القيامة ، هي عندهم في العِظَم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لا تزن شيئًا ، فذلك قوله : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا } .
ثم بيَّن مآل كفرهم بعد أن بيَّن مآل أعمالهم ، فقال : { ذلك } الصنف الذين حبطت أعمالهم { جزاؤُهم جهنمُ } ، أو الأمر ذلك ، ثم استأنف بقوله : { جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا } أي : بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح ، التي من جملتها ما تضمنه قوله : { واتَّخذُوا آياتي } الدالة على توحيدي أو كلامي ، أو معجزاتي ، { ورسلي هُزُوًا } أي : مهزوًا بهم ، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر ، بل ارتكبوا ما هو أعظم ، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل . عائذًا بالله من ذلك .
الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين ، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان ، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه ، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا ، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع ، فتنسحب الآية على طوائف ، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس ، وهذا عين الرياء؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر : ( الرياء سبعون بابًا ، أهونها مثل نكاح الرجل أمه ) .
(3/440)

ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات ، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة ، وحجب عن الجوارح الباطنة ، وهي عبادة القلوب ، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح ، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم ، وغفل عن علم القلوب ، وهو بطالة وغفلة عند المحققين ، ومنها من قنع بعبادة القلوب ، كالتفكر والاعتبار ، وغفل عن عبادة الأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار ، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال ، وإنْ كان لا يشعر ، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده ، وسيأتي عند قوله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزُّمَر : 47 ] ، زيادة بيان على هذا إن شاء الله . فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند أخرين؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين . ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار . وبالله التوفيق .
(3/441)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين آمنوا } بآيات ربهم ولقائه ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات كانت لهم } ؛ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده ، { جنَّاتُ الفردوسِ } ، وهي أعلى الجنان . وعن كعب : أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس ، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في الجَنَِّ مِائَةُ دَرَجَةٍ ، ما بَيْنَ كُل دَرَجتين كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض ، أَعلاها الفِرْدَوس ، ومِنْها تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجنَّةِ ، فَوْقَها عَرْشُ الرحمن ، فإذَا سَأَلْتُمُ اللهُ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ "
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم : " جنان الفردوس أربع : جنتان من فِضَّةٍ ، أبنيتهما وآنيتُهُما ، وجنَّتان من ذهب ، أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظُرُوا إلى ربهمْ إلا رِدَاءُ الكبْرياءِ على وَجْهِه " وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة . وقال أبو أمامة : هي سرة الجنة . وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية . وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار .
كانت لهم { نُزُلاً } أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه ، على حذف مضاف ، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نُزلاً ، أو جعلنا نفس الجنة نُزلاً ، مبالغةً في الإكرام ، وفيه إيذان بأن ما أعدَّ الله لهم على ما نطق به الوحي على لسان النبوة بقوله : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَرَ على قلب بشر " هو بمنزلة النُزُل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها ، وإن جُعِلَ النُزل بمعنى المنزل؛ فظاهر . { خالدين فيَبْغُون عنها حِوَلاً } أي : لا يطلبون تحولاً عنها؛ إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم ، وأرفع منها ، حتى تنزع إليه أنفسهم ، أو تطمح نحوه أبصارهم . ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم ، لا نفادَ له ولا نهاية؛ لأنه مكون بكلمة " كن " ، وهي لا تتناهى .
قال تعالى : { قل لو كان البحرُ } أي : جنس البحر { مِدَادًا } ، وهو ما تمد به الدواة من الحِبْر ، { لِكلماتِ ربي } وهي ما يقوله سبحانه لأهل الجنة ، من اللطف والإكرام ، مما لا تكيفُه الأوهام ، ولا تحيط به الأفكار ، فلو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا لنفدت ، ولم يبق منها شيء ، { قبل أن تنفد كلماتُ ربّي } ؛ لأن البحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية . ثم أكّده بقوله : { ولو جئنا بمثله مدَدًا } أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى ، هذا لو لم يجيء بمثله مددًا ، بل ولو جئنا بمثله { مددًا } ؛ عونًا وزيادة؛ لأن ما دخل عالم التكوين كله متناهٍ .
{ قل } لهم : { إِنما أنا بشرٌ مثلكم } يتناهى كلامي ، وينقضي أجلي ، وإنما خُصصت عنكم بالوحي والرسالة؛ { يُوحى إِليَّ } من تلك الكلمات : { أنما إِلهكم إِله واحد } لا شريك له في الخلق ، ولا في سائر أحكام الألوهية ، { فمن كان يرجو لقاء ربه } : يتوقعه وينتظره ، أو يخافه ، فالرجاء : توقع وصول الخير في المستقبل ، فمن جعل الرجاء على بابه ، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول .
(3/442)

ومن حمله على معنى الخوف ، فالمعنى : يخاف سوء لقائه . قال القشيري : حَمْلُه على ظاهره أَوْلى؛ لأن المؤمنين قاطبةً يرجون لقاءَ الله ، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم . ه . بالمعنى .
والتعبير بالمضارع في { يرجو } ؛ للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء ، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه { فليعملْ } ؛ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة { عملاً صالحًا } ، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله ، ومدارها على الإتقان؛ ظاهرًا ، والإخلاص؛ باطنًا . وقال سهل : العمل الصالح : المقيد بالسُنَّة ، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها . { ولا يُشرك بعبادةِ ربه أحدًا } إشراكًا جليًا ، كما فعل الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا؛ حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه ، أو إشراكًا خفيًا ، كما يفعله أهل الرياء ، ومن يطلب به عوضًا أو ثناءً حسنًا .
قال شهر بنُ حَوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلاً يُصلي يبتغي وجه الله ، ويحب أن يُحمد عليه ، ويتصدق يبتغي وجه الله ويُحب أن يُحمد عليه ، ويحج كذلك؟ قال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : " أنا خيرُ شريك ، فمن كان له شريك فهو له " ورُوي أن جُنْدبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَال لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأعْمَلُ العَمَلَ للهِ تَعَالى ، فإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سرَّني ، فقال له عليه الصلاة والسلام : " لَكَ أَجْرَان : أجْرُ السِّرِّ ، وأَجْرُ العَلاَنِيَةِ " وذلك إذا قصد أن يُقْتَدَى به ، وكان مُخْلصًا في عمله . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اتقوا الشرك الأصغر ، قالوا : وما الشرك الأصغر؟ قال : الرياء " .
وقال صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - : " إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي ، وإياكم وشرك السرائر ، فإنَّ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء " ، فشق ذلك على القوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره " ؟ قالوا : بلى ، قال : " قولوا : " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك من كل ما لا أعلم " .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَرَأ آخرَ سورة الكَهف - يعني : { إن الذين آمنوا } إلى آخره - كَانَتْ لَهُ نُورًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّها كانَتْ له نُورًا من الأرْضِ إلى السَّمَاءِ " وعنه صلى الله عليه وسلم :
(3/443)

" مَنْ قَرَأَ عِنْدَ مَضْجِعِهِ : { قل إنما أنا بشر مثلكم } الخ ، كَانَ لَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ نُورًا يَتَلألأ إلى مَكّةَ ، حَشْوُ ذلِكَ النُّور مَلائِكَةٌ يُصَلُون حَتَّى يَقُومَ ، وإنْ كَانَ بِمَكَةَ كانَ لَهُ نُورًا إلى البيتِ المَعْمُور " قلت : ومما جُرِّب أن من قرأ هذه الآية ، { إن الذين آمنوا } الخ ، ونوى أن يقوم في أي ساعة شاء ، فإن الله تعالى يُوقظه بقدرته . وانظر الثعلبي .
الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص ، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً ، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها ، بفضل الله وكرمه ، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا ... فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد ، وأسرار التفريد ، أبدًا سرمدًا ، لا نهاية؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية ، وهي كلمة التكوين ، التي لا تنفد؛ { قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي . . . } الآية . هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم ، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية . قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام ، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد ، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله ، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان ، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان؛ فليعمل عملاً صالحًا ، الذي لا حظ فيه للنفس؛ عاجلاً ولا آجلاً ، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا ، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية ، والقيام بوظائف العبودية ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(3/444)

كهيعص (1)
قيل : هي مختصرة من أسماء الله تعالى ، فالكاف من كافٍ ، والهاء من هادٍ ، والياء من يمين ، والعين من عليم أو عزيز ، والصاد من صادق . قاله الهروي عن ابن جبير .
قال أبو الهيثم : جعل الياء من يمين ، من قولك : يَمَن الله الإنسانَ يَيْمنُهُ يمنًا فهو ميْمون . ه . ولذا ورد الدعاء بها ، فقد رُوي عن عليّ - كرم الله وجهه - أنه كان يقول : ( يا كهيعص؛ أعوذ بك من الذنوب التي تُوجب النقم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تغير النعم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تهتِك العِصَم ، وأعوذ بك من الذنوب التي تحبس غيث السماء ، وأعوذ بك من الذنوب التي تُديل الأعداء ، انصرنا على من ظلمنا ) . كان يقدم هذه الكلمات بين يدي كل شدة . فيحتمل أن يكون توسل بالأسماء المختصرة من هذه الحروف ، أو تكون الجملة ، عنده ، اسمًا واحدًا من أسماء الله تعالى ، وقيل : هو اسم الله الأعظم . ويحتمل أن يشير بهذه الرموز إلى معاملته تعالى مع أحبائه ، فالكاف كفايته لهم ، والهاء هدايته إياهم إلى طريق الوصول إلى حضرته ، والياء يُمنه وبركته عليهم وعلى من تعلق بهم ، والعين عنايته بهم في سابق علمه ، والصاد صدقه فيما وعدهم به من الإتحاف والإكرام . والله تعالى أعلم .
وقيل : هي مختصرة من أسماء الرسول - عليه الصلاة والسلام - أي : يا كافي ، يا هادي ، يا ميمون ، يا عين العيون ، أنت صادق مصدق . وعن ماضي بن سلطان تلميذ أبي الحسن الشاذلي - رضي الله عنهما - : [ أنه رأى في منامه أنه اختلف مع بعض الفقهاء في تفسير قوله : ( كهيعص . حم . عسق ) ، فقلت : هي أسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكأنه قال : " كاف "؛ أنت كهف الوجود ، الذي يؤم إليه كلُّ موجود ، " ها "؛ هبنا لك الملك ، وهيأنا لك الملكوت ، " يَعَ "؛ يا عين العيون ، " ص "؛ صفات الله { مَن يُطع الرسولَ فقد أطاع الله } ، " حاء "؛ حببناك ، " ميم " ملَّكناك ، " عين " علمناك ، " سين "؛ ساررناك ، " قاف "؛ قربناك . فنازعوني في ذلك ولم يقبلوه ، فقلت : نسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفصل بيننا ، فسرنا إليه ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لنا : " الذي قال محمد بن سلطان هو الحق " ] . وكأنه يشير إلى أنها صفات أفعال .
(3/445)

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قلت : { ذكر } : خبر عن مضمر ، أي : هذا ذكر ، والإشارة للمتلو في هذه السورة؛ لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر في حكم الحاضر الشاهد . وقيل : مبتدأ حُذف خبره ، أي : فيما يُتلى عليك ذكر رحمت ربك . وقيل : خبر عن { كهيعص } ، إذا قلنا؛ هي اسم للسورة ، أي : المسمى بهذه الحروف ذكر رحمة ربك ، و { عبده } : مفعول لرحمة ربك ، على أنها مفعول لما أضيف إليها ، أو لذكر ، على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع . ومعنى ( ذكر الرحمة ) : بلوغها إليه ، و { زكريا } : بدل منه ، أو عطف بيان ، و { إذ نادى } : ظرف لرحمة ، وقيل : فذكْر ، على أنه مضاف إلى فاعله ، وقيل : بدل اشتمال من زكريا ، كما في قوله : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ إِذِ انتبذت . . . . } [ مريَم : 16 ] ، و { مِنّي } : حال من العَظْم ، أي : كائنًا مني ، و { شيئًا } : تمييز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا الذي نتلوه عليك في هذه السورة هو { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا } > . قال الثعلبي : [ فيه تقديم وتأخير ] . أي : ذكر ربك عبده زكريا برحمته ، { إِذْ نادى ربه } وهو في محرابه في طلب الولد { نداءً خفيًّا } : سرًا من قومه ، أو في جوف الليل ، أو مخلصًا فيه لم يطلع عليه إلا الله . ولقد راعى عليه السلام حسن الأدب في إخفاء دعائه فإنه أَدْخَلُ في الإخلاص وأَبَْعَدُ من الرياء ، وأقرب إلى الخلاص من كلام الناس ، حيث طلب الولد في غير إِبَّانِهِ ومن غائلة مواليه الذين كان يخافهم .
{ قال } في دعائه : { ربِّ إِني وَهَنَ العظمُ مني } أي : ضعف بدني وذهبت قوتي . وإسناد الوهن إلى العَظْم؛ لأنه عماد البدن ودعامة الجسد ، فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله ، وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن إلى كل فرد من أفراده . ووهن بدنه عليه السلام : لكبر سنه ، قيل : كان ابن سبعين ، أو خمسًا وسبعين ، وقيل : مائة ، وقيل : أكثر .
{ واشتعل الرأسُ شيبًا } أي : ابيضَّ شَمَطًا . شبه عليه السلام الشيب من جهة البياض والإنارة بشواظ النار ، وانتشاره في الشعر وفُشوِّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وهو الرأس ، وأخرجه مخرج التمييز ، ففيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة ما لا يخفى ، حيث كان الأصل : واشتعل شيب رأسي ، فأسند الاشتعال إلى الرأس؛ لإفادة شموله لكلها ، فإن وِزَانَهُ : اشتعل بيته نارًا بالنسبة إلى اشتعلت النار في بيته ، ولزيادة تقريره بالإجمال أولاً ، والتفصيل ثانيًا ، ولمزيد تفخيمه بالتكثير من جهة التنكير .
ثم قال : { ولم أكن بدعائك ربِّ شقيًّا } أي : لم أكن بدعائي إياك خائبًا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل ، بل كنت كلما دعوتك استجبتَ لي . توسل إلى الله بسابق حسن عوائده فيه ، لعله يشفع له ذلك بمثله ، إثر تمهيد ما يستدعي ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال .
(3/446)

والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع ، ولذلك قيل : من أراد أن يُستجاب له فليدعُ الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته .
ثم قال : { وإِني خفتُ الموالي } أي : الأقارب ، وهم : بنو عمه ، وكانوا أشرار بني إسرائيل ، فخاف ألا يحسنوا خلافته في أمته ، فسأل الله تعالى ولدًا صالحًا يأمنه على أمته . وقوله : { من ورائي } : متعلق بمحذوف ، أي : جور الموالي ، أو مما في الموالي من معنى الولاية ، أي : خفت أن يلوا الأمر من ورائي ، { وكانت امرأتي عاقرًا } : لا تلد من حين شبابها ، { فهبْ لي من لدنك } أي : أعطني من محض فضلك الواسع ، وقدرتك الباهرة ، بطريق الاختراع ، لا بواسطة الأسباب العادية؛ لأن التعبير بِلَدُنَ يدل على شدة الاتصال والالتصاق ، { وليًّا } : ولدًا من صُلبي ، يلي الأمر من بعدي .
والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكره عليه السلام من كبر السن وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عن الولد بتوسط الأسباب ، فاستوهبه على الوجه الخارق للعادة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنالك داعٍ آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور ، من مشاهدته للخوارق الظاهرة عند مريم ، كما يعرب عنه قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عِمرَان : 38 ] . وعدم ذكره هنا اكتفاء بما تقدم ، فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكتة التنزيلية . وقوله : { يرثني } : صفة لوليًّا ، وقرئ بالجزم هو وما عطف عليه جوابًا للدعاء ، أي : يرثني من حيث العلم والدين والنبوة ، فإن الأنبياء - عليه السلام - لا يورثون من جهة المال . قال صلى الله عليه وسلم : " نحن مَعاشر الأنبيَاءِ لا نُورَثُ " وقيل : يرثني في الحبورة ، وكان عليه السلام حَبْرًا .
{ ويرثُ من آل يعقوب } النبوة والمُلك والمال . قيل : هو يعقوب بن إسحاق . وقال الكلبي ومقاتل : هو يعقوب بن ماثان ، أخو عمران بن ماثان ، أبي مريم ، وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم ، وماثان من نسل سليمان عليه السلام ، فكان آل يعقوب أخوال يحيى . قال الكلبي : كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم ، وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ ، فأراد أن يرث ولده حبُورته ، ويرث من بني ماثان ملكهم . ه .
{ واجعله ربِّ رَضيًّا } أي : مرضيًا ، فعيل بمعنى مفعول ، أي : ترضى عنه فيكون مرضيًا لك ، ويحتمل أن يكون مبالغة من الفاعل ، أي : راضيًا بتقديرك وأحكامك التعريفية والتكليفية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : طلب الوارث الروحاني- وهو وارث العلم والحال - جائز ليبقى الانتفاع به بعد موته . وقيل : السكوت والاكتفاء بالله أولى ، ففي الحديث : " يرحَم اللهُ أخانا زَكَرِيَّا ، وَمَا كَان عَلَيْه مَنْ يَرِثُه " وقوله تعالى : { نداء خفيًا } .
(3/447)

الإخفاء عند الصوفية أولى في الدعاء والذكر وسائر الأعمال ، إلا لأهل الاقتداء من الكَمَلَة ، فهم بحسب ما يبرز في الوقت .
وقوله تعالى : { ولم أكن بدعائك ربّ شقيًّا } . فيه قياس الباقي على الماضي ، فالذي أحسن في الماضي يحسن في الباقي ، فهذا أحد الأسباب في تقوية حسن الظن بالله؛ وأعظم منه من حسَّن الظن بالله؛ لما هو متصف به تعالى من كمال القدرة والكرم ، والجود والرأفة والرحمة ، فإن الأول ملاحظ للتجربة ، والثاني ناظر لعين المِنَّة . قال في الحكم : " إن لم تحسن ظنك به لأجل وصفه ، حسّن ظنك به لوجود معاملته معك ، فهل عَوَّدَكَ إلا حَسَنًا؟ وهل أسدى إليك إلا مننًا؟ " .
(3/448)

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قلت : { عِتيًّا } : مصدر ، من عتا يعتو ، وأصله : عتوو ، فاستثقل توالي الضمتين والواوين ، فكسرت التاء ، فقلبت الأولى ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها ، ثم قُلبت الثانية أيضّا؛ لاجتماع الواو والياء ، وسبق إحداهما بالسكون . { قال كذلك } : خبر ، أي : الأمر كذلك ، فيوقف عليه ، ثم يقول : { قال ربك } ، أو مصدر لقال الثانية ، أي : مثل ذاك القول قال ربك . و { سويًّا } : حال من فاعل { تكلم } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا زكريا } ، كلمهُ بواسطة المَلك : { إِنا نبشركَ } ونجيب دعوتك { بغُلامٍ اسمه يَحيى } ؛ لأنه حيى به عُقْمُ أمه . أجاب نداءه في الجملة ، لا من كل وجه ، بل على حسب المشيئة ، فإنه طلب ولدًا يرثُه ، فأجيب في الولد دون الإرث؛ فإن الجمهور على أن يحيى مات قبل موت أبيه - عليهما السلام - وقيل : بقي بعده برهة ، فلا إشكال حينئذ . وفي تعيين اسمه تأكيد للوعد وتشريف له ، وفي تخصيصه به - كما قال تعالى : { لم نجعل له من قبلُ سَميًّا } أي : شريكًا في الاسم ، حيث لم يتسم به أحد قبله - مزيد تشريف وتفخيم له عليه السلام؛ فإن التسمية بالأسماء البديعة الممتازة عن أسماء الناس تنويه بالمسمى لا محالة . وقيل : { سَميًّا } : شبيهًا في الفضل والكمال ، كما قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] فإنه عليه السلام لم يكن قبله أحد مثله في بعض أوصافه ، لأنه لم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد لشيخ فانٍ ، وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورًا ، ولم تكن هذه الخصال لغيره .
{ قال ربِّ أنّى يكونُ لي غلامٌ } أي : من أين وكيف يحدث لي غلام ، { وكانت امرأتي عاقرًا } : عقيمة ، { وقد بلغتُ من الكِبَر عتيًّا } : يبسًا في الأعضاء والمفاصل ، ونحولاً في البدن ، لِكِبَرِهِ ، وكان سنُّه إذ ذاك مائة وعشرين ، وامرأته ثمان وتسعين . وتقدم الخلاف فيه . وإنما قاله عليه السلام مع سبق دعائه وقوة يقينه ، لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في آل عمران؛ استعظامًا لقدرة الله تعالى ، وتعجيبًا منها ، واعتدادًا بنعمته تعالى عليه في ذلك ، بإظهار أنه من محض فضل الله وكرمه ، مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة . وقيل : كان دهشًا من ثمرة الفرح ، وقيل : كان ذلك منه استفهامًا عن كيفية حدوثه . وقيل : بل كان ذلك بطريق الاستبعاد ، حيث كان بين الدعاء والبشارة سِتُّون سنة ، وكان قد نسي دعاءه ، وهو بعيد .
{ قال كذلك } أي : الأمر كما ذكر من كبر السن وعقم المرأة ، لكن هو على قدرتنا هين ، ولذلك قال : { قال ربك هو عليّ هيِّنٌ } ، أو مثل ذلك القول البديع قال ربك ، ثم فسَره بقوله : { هو عليّ هيِّن } ، أو " مثل " مقحمة ، أي : ذلك قال ربك . والإشارة إلى مصدره ، الذي هو عبارة عن إيجاد الولد السابق ، أو كذلك قضى ربك .
(3/449)

ثم قال : { هو عليَّ هيِّن وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئًا } أي : وقد أوجدت أصلك " آدم " من العدم ، ثم نشأتَ أنت من صلبه ، ولم تك شيئًا ، فإن نشأة آدم عليه السلام وتصويره منطوية على نشأة أولاده ، ولذلك قال في آية أخرى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعرَاف : 11 ] الآية . انظر تفسير أبي السعود .
{ قال ربِّ اجعلْ لي آية } أي : علامة تدلني على تحقق المسؤول ، وبلوغ المأمول ، وهو حمل المرأة بذلك الولد ، لأتلقى تلك النعمة العظيمة بالشكر حين حدوثها ، ولا أؤخر الشكر إلى وقت ظهورها ، وينبغي أن يكون سؤاله الآية بعد البشارة ببرهة من الزمان؛ لما يُروى أن ( يحيى كان أكبر من عيسى - عليهما السلام - بستة أشهر ، أو بثلاث سنين ) ، ولا ريب في أن دعاء زكريا عليه لسلام كان في صغر مريم ، لقوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] ، وهي إنما ولدت عيسى عليه السلام وهي بنت عشر سنين ، أو ثلاث عشرة سنة ، أو يكون تأخر ظهورُ الآية إلى قرب بلوغ مريم - عليها السلام - .
{ قال } له تعالى : { آيتك ألاّ تُكَلّم الناس } أي : أن لا تقدر على أن تُكلم الناسَ مع القدرة على الذكر ، { ثلاث ليالٍ } بأيامهن ، للتصريح بها في آل عمران ، حال كونك { سويًّا } أي : سَوِيّ الخَلْقِ سليم الجوارح ، ما بك شائبَةُ بَكَمٍ ولا خَرَس ، وإنما مُنعت بطريق الاضطرار مع كمال الأعضاء . وحكمة منعه؛ لينحصر كلامه في الشكر والذكر في تلك الأيام .
{ فخرج على قومِهِ من المحراب } : من المصلّى ، وكان مغلقًا عليه ، فالمحراب مكان التعبد ، أو من الغرفة ، وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب ، ليدخلوا ويُصلوا ، إن خرج عليهم متغيرًا لونه ، فأنكروه ، وقالوا له : ما لك " فأوحى إليهم أي : أوْمَأ إليهم ، وقيل كتب في الأرض { أن سبِّحُوا } أي صلوا { بُكرةً وعَشِيًا } : صلاة الفجر وصلاة العصر ، ولعلها كانت صلاتهم . أو : نزهوا ربكم طرفي النهار ، ولعله أُمِر أن يُسبح فيها شكرًا ، ويأمر قومه بذلك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إجابة الدعاء مشروطة بالاضطرار ، قال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } [ النَّمل : 62 ] وفي الحِكَم : " ما طلَبَ لك شيءٌ مثلُ الاضطرار ، ولا أسرع بالمواهب مثل الذلة والافتقار . فإذا اضطررت إلى مولاك ، فلا محالة يجيب دعاك ، لكن فيما يريد لا فيما تريد ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد . فلا تيأس ولا تستعجل { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ] . فإذا رأيت مولاك أجابك فيما سألته ، فاجعل كلامك كله في شكره وذكره ، واستفرغ أوقاتك ، إلا من شهود إحسانه وبره . وبالله التوفيق .
(3/450)

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قلت : { صبيًا } : حال من مفعول { آتيناه } ، و { حنانًا } و { زكاة } : عطف على { الحُكْم } . و { من لدنا } : متعلق بمحذوف ، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، أي : وآتيناه الحكم وتحنُّنًا عظيمًا واقعًا من جنابنا ، أو شفقة في قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما . قال ابن عباس : ( ما أدري ما حنانًا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده ) . ومنه قولهم : " حَنَانَيْكَ " ، مثل سعديْك ، وأصله : من حنين الناقة على ولدها ، و { برًّا } : عطف على { تقيًّا } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا يحيى } أي : قلنا يا يحيى ، وهذا استئناف طُوي قبله جمل كثيرة ، مما يدل على ولادته ونشأته ، حتى أوحي إليه ، ثم قال له : { يا يحيى خُذِ الكتابَ } أي : التوراة ، وقيل : كتاب خُص به ، فدلت الآية على رسالته . وفي تفسير ابن عرفة : أن يحيى رسول كعيسى . ه . وقوله : { بقوةٍ } أي : بجد واجتهاد ، وقيل : بالعمل به ، { وآتيناه الحُكم صبيًا } ، قال ابن عباس : ( الحكم هنا النبوة ، استنبأهُ وهو ابن ثلاث سنين ) ، قلت : كون الصبي نبيًا جائز عقلاً ، واقع عند الجمهور ، وأما بعثه رسولاً فجائز عقلاً ، وظاهر كلام الفخر هنا أنه واقع ، وأن يحيى وعيسى بُعثا صغيرين . وقال ابن مرزوق في شرح البخاري ما نصه : ( الأعم : بعث الأنبياء بعد الأربعين ) ؛ لأنه بلوغ الأشد ، وقيل : أرسل يحيى وعيسى - عليهما السلام - صبيين . وقال ابن العربي : يجوز ، ولم يقع .
وقول عيسى عليه السلام : ( إني عبد الله ) إخبار عما وجب في المستقبل ، لا عما حصل . واستُشْكِلَ جواز بعث الصبي بأنه تكليف ، وشرطُه : البلوغُ ، إن كانت الشرائع فيه سواء . انظر المحشي الفاسي . قلت : والذي يظهر أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - تنبئا صغيرين ، وأرسلا بعد البلوغ . والله تعالى أعلم . وقيل : الحكم : الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين . رُوي أنه دعاه الصبيان إلى اللعب ، فقال : ما لِلَعِبٍ خُلقت .
{ و } آتيناه { حنانًا } أي : تحنُّنًا عظيمًا { من لَدُنَّا } : من جناب قدسنا ، أو تحننًا من الناس عليه . قال عوف : الحنان المحبّب ، { وزكاة } : طهارة من العيوب والذنوب ، أو صدقة تصدقنا به على أبويه ، أو : وفّقناه للتصدق على الناس . { وكان تقيًّا } ؛ مطيعًا لله ، متجنبًا للمعاصي ، { وبرًا بوالديه } : لطيفًا بهما محسنًا إليهما ، { ولم يكن جبارًا عصيًّا } ؛ متكبرًا عاقًا ، فالجبّار : هو المتكبر ، لأنه يجبر الناس على أخلاقه . وقيل : من لا يقبل النصيحة ، أو عاصيًا الله تعالى . { وسلامٌ عليه } أي : سلامة من الله تعالى عليه ، { يوم وُلِدَ } من أن يناله الشيطان بما ينال بني آدم ، { ويومَ يموتُ } من عذاب القبر ، { ويوم يُبعث حيَّا } من هول القيامة وعذاب النار .
رُوِيَ أن يحيى وعيسى - عليهما السلام - التقيا ، فقال له يحيى : استغفر لي ، فأنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، أنا سلمت على نفسي وأنت سلم الله عليك .
الإشارة : أخذ الكتاب بالقوة - وهو الجد والاجتهاد في قراءته - هو أن يكون متجردًا لتلاوته ، منصرف الهمة إليه عن غيره ، فلا يصدق على العبد أن يأخذ كتاب ربه بقوة ، حتى يكون هكذا عند تلاوته . قال الورتجبي : { خُذ الكتابَ بقوة } أي : خذ كتابنا بنا لا بك ، والكتاب كلام الحق الأزلي ، أي : خذ الكتاب الأزلي بالقوة الأزلية . ه . ومعناه أن يكون التالي فانيًا عن نفسه ، متكلمًا بربه ، ويسمعه من ربه ، فهذا حال المقربين . والله تعالى أعلم .
(3/451)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
قلت : { إذ انتبذت } : بدل اشتمال من مريم ، على أن المراد بها نبؤها ، فإن الظرف مشتمل على ما فيها ، وقيل : بدل الكل ، على أن المراد بالظرف ما وقع فيه . وقيل : " إذ " ظرف لنبأ المقدر ، أي : اذكر نبأ مريم حين انتبذت؛ لأن الذكر لا يتعلق بالأعيان ، لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبأها عند انتباذها فقط ، بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستثناء داخل في حيز الظرف متمم للنبأ . و { مكانًا } : مفعول بانتبذت ، باعتبار ما فيه من معنى الإتيان ، أي : اعتزلت وأتَتْ مكانًا شرقيًا ، أو ظرف له ، أي : اعتزلت في مكان شرقي . و { بَشرًا } : حال . وجواب { إن كنت } : محذوف ، أي : إن كنت تقيًا فإني عائذة بالرحمن منك . و { بَغِيًّا } أصله : بغوي ، على وزن فعول ، فأدغمت الواو - بعد قلبها ياء - في الياء ، وكسرت الغين للياء ، و { لنجعله } : متعلق بمحذوف ، أي : ولنجعله آية فعلنا ذلك ، أو معطوف على محذوف ، أي : لنُبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله . . . الخ . أو على جملة : { هو عليّ هين } ؛ لأنها في معنى العلة ، أي : كذلك قال ربك؛ لقدرتنا على ذلك؛ ولنجعله . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكرْ } يا محمد { في الكتابِ } : القرآن ، والمراد هذه السورة الكريمة؛ لأنها هي التي صُدرت بذكر زكريا ، واستتبعت بذكر قصة مريم؛ لما بينهما من الاشتباك . أي : اذكر في الكتاب نبأ { مريم إِذ انتبذتْ } ؛ حين اعتزلت { من أهلها } وأتت { مكانًا شرقيًا } من بيت المقدس ، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة ، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة . وقيل : قعدت في مشربة لتغتسل من الحيْض ، محتجبة بشيء يسترها ، وذلك قوله تعالى : { فاتخذتْ من دونهم حجابًا } ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد . فبينما هي تغتسل من الحيض ، متحجبةً دونهم ، أتاها جبريل عليه السلام في صورة آدمي ، شاب أمرد ، وضيء الوجه .
قال تعالى : { فأرسلنا إِليها رُوحنا } : جبريل عليه السلام ، عبَّر عنه بذلك؛ توفية للمقام حقه . وقرئ بفتح الراء؛ لكونه سببًا لِمَا فيه روح العباد ، يعني اتباعه والاهتداء به ، الذي هو عدة المقربين في قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقِعَة : 88 ، 89 ] . { فتمثَّل لها بشرًا سويًّا } : سَويّ الخَلق ، كامل البنية ، لم يفقد من حِسان نعوت الآدمية شيئًا ، وقيل : تمثل لها في صورة شاب تِرْبٍ لها ، اسمه يوسف ، مِنْ خدَم بيت المقدس ، وإنما تمثل لها في تلك الصورة الجميلة لتستأنس به ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى؛ إذ لو ظهر لها على صورة الملَكية ، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته .
وأما ما قيل من أن ذلك لتَهيج شهوتُها ، فتنحدر نطفتها إلى رحمها ، فغلط فاحش ، ينحو إلى مذهب الفلاسفة ، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم ، يُكذبه قوله تعالى : { قالت إِني أعوذ بالرحمن منك إِن كنت تقيًا } ، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه ، فضلاً عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة .
(3/452)

نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحُسن الفائق والجمال اللائق؛ لابتلائها واختبار عِفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه . وذِكْرُ عنوان الرحمانية؛ للمبالغة في العِيَاذ به تعالى ، واستجلاب آثر الرحمة الخاصة ، التي هي العصمة مما دهمها . قاله أبو السعود . وقولها : { إِن كنتَ تَقيًّا } أي : تتقي الله فتُبَالى بالاستعاذة به .
{ قال إِنما أنا رسولُ ربك } أي : لستُ ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر ، وإنما أنا رسول من استعذت برحمانيته؛ { لأهَبَ لك غُلامًا } أي : لأكون سببًا في هبة الغلام ، أو : ليهب لك ربُك غُلامًا - في قراءة الياء - . والتعرض لعنون الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها؛ لتشريفها وتسليتها ، والإشعار بعلية الحكم؛ فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها . وقوله : { زكيًّا } أي : طاهرًا من العيوب صالحًا ، أو تزكو أحواله وتنمو في الخير ، من سن الطفولية إلى الكبر .
{ قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ } كما وصفتَ ، { و } الحال أنه { لم يَمْسَسني بشرٌ } بالنكاح ، { ولم أكُ بغيًا } ؛ زانية فاجرة تبتغي الرجال؟ { قال } لها الملك : { كذلك } أي : الأمر كما قلتُ لك { قال ربكِ هو عليَّ هيِّنٌ } أي : هبة الغلام من غير أن يمسسك بشرٌ هين سهل على قدرتنا ، وإن كان مستحيلاً عادة؛ لأني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائط ، بل أمرنا بين الكاف والنون ، { و } إنما فعلنا ذلك { لنجعله آيةً للناس } يستدلون به على كمال قدرتنا . والالتفات إلى نون العظمة؛ لإظهار كمال الجلالة ، { و } لنجعله { رحمةً } عظيمة كائنة { منا } عليهم ، ليهتدوا بهدايته ، ويُرشدوا بإرشاده . { وكان } ذلك { أمرًا مقضيًا } في الأزل ، قد تعلق به قضاء الله وقدره ، وسُطِّر في اللوح المحفوظ ، فلا بُدّ من جريانه عليك ، أو : كان أمرًا حقيقيًا بأن يقضى ويفعل؛ لتضمنه حِكَمًا بالغة وأسرارًا عجيبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا تظهر النتائج والأسرار إلا بعد الانتباذ عن الفجار ، وعن كل ما يشغل القلب عن التذكار ، أو عن الشهود والاستبصار ، فإذا اعتزل مكانًا شرقيًا ، أي : قريبًا من شروق الأنوار والأسرار ، بحيث يكون قريبًا من أهل الأنوار ، أو بإذنهم ، أرسل الله إليه روحًا قدسيًا ، وهو وارد رباني تحيا به روحُه وسرُه وقلبُه وقالبُه ، فيهب له عِلمًا لدنيا ، وسرًا ربانيًا ، يكون آية لمن بعده ، ورحمة لمن اقتدى به وتبعه . وبالله التوفيق .
(3/453)

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قلت : { رُطبًا } : تمييز ، فيمن أثبت التاءين ، أو حذف إحداهما ، ومفعول به ، فيمن قرأ بتاء واحدة مع كسر القاف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فحملَتْهُ } بأن نفخ جبريل في درعها ، فدخلت النفخة في جوفها . قيل : إن جبريل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه ، وقيل : نفخ عن بُعد ، فوصل الريح إليها فحملت في الحال ، وقيل : إن النفخة كانت في فيها ، وكانت مدة حملها سبعة أشهر ، وقيل : ثمانية . ولم يعش ولد من ثمانية . وفي ابن عطية : تظاهرت الروايات أنها ولدت لثمانية أشهر ، ولذلك لا يعيش ابن ثمانية أشهر؛ حفظًا لخاصية عيسى ، فتكون معجزة له . ه . وقيل : تسعة أشهر . وقيل : ثلاث ساعات ، حملته في ساعة ، وصُور في ساعة ، ووضعته في ساعة حين زالت الشمس . وقيل : ساعة ، ما هو إلا أن حملت فوضعت ، وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة ، وقيل : عشر سنين ، وقد حاضت حيضتين .
{ فانتبذت به } أي : فاعتزلت ملتبسة به حين أحست بقرب وضعها ، { مكانًا قَصيًّا } : بعيدًا من أهلها وراء الجبل ، وقيل : أقصى الدار . { فأجاءها المخاضُ } ؛ فألجأها المخاض . وقرئ بكسر الميم . وكلاهما مصدر ، مَحَضتِ المرأة : إذا تحرك الولد في بطنها للخروج ، { إِلى جِذْعِ النخلةِ } لتستتر به ، أو لتعتمد عليه عند الولادة ، وهو ما بين العِرق والغصن . وكانت نخلة يابسة ، لا رأس لها ولا قعدة ، قد جيء بها لبناء بيت ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف في النخلة إما للجنس أو للعهد ، إذ لم يكن ثَمَّ غيرها ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ، وليطعمها الرطب ، الذي هو من طعام النفساء الموافق لها .
{ قالت } حين أخذها وجع الطلق : { يا ليتني متُّ } بكسر الميم ، من مات يُمَاتُ ، وبالضم ، من مات يموت ، { قبل هذا } الوقت الذي لقيتُ فيه ما لقيت ، وإنما قالته ، مع أنها كانت تعلم ما جرى لها مع جبريل عليه السلام من الوعد الكريم؛ استحياء من الناس ، وخوفًا من لائمتهم ، أو جريًا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر ، كما رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنَةً من الأرض ، فقال : ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئًا " . وقال بلال : ( ليت بلالاً لم تلده أمه ) . ثم قالت : { وكنتُ نسْيًا } أي : شيئًا تافهًا شأنه أن يُنسى ولا يُعتد به ، { منسيًّا } لا يخطر ببال أحد من الناس . وقُرئ بفتح النون ، وهما لغتان؛ نِسي ونَسْي ، كالوَتْر والوِتْر . وقيل : بالكسر : اسم ما ينسى ، وبالفتح : مصدر .
{ فناداها } أي : جبريل عليه السلام { مِنْ تحتِها } ، قيل : إنه كان يقبل الولد من تحتها ، أي : من مكان أسفل منها ، وقيل : من تحت النخلة ، وقيل : ناداها عيسى عليه السلام ، ويرجحه قراءة من قرأ بفتح الميم ، أي : فخاطبها الذي تحتها : { أن لا تحزني } ، أو : بألا تحزني ، على أنَّ " أنْ " مفسرة ، أو مصدرية ، حذف عنها الجار .
(3/454)

{ قد جعل ربك تحتكِ } أي : بمكان أسفل منك { سَرِيًا } أي : نهرًا صغيرًا ، حسبما رُوي مرفوعًا . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( إن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض ، فظهرت عين ماء عذب ، فجرى جدولاً ) . وقيل : فعله عيسى ، أي : ضرب برجله فجرى ، وقيل : كان هناك نهر يابس - أجرى الله تعالى فيه الماء - ، كما فعل مثله بالنخلة ، فإنها كانت يابسة لا رأس لها ، فأخرج لها رأسًا وخُوصًا وتمرًا . وقيل : كان هناك نهرُ ماء . والأول أظهر؛ لأنه الموافق لبيان إظهار الخوارق ، والمتبادر من النظم الكريم .
وقيل : { سريًا } أي : سيدًا نبيلاً رفيعَ الشأن جليلاً ، وهو عيسى عليه السلام ، والتنوين حينئذ للتفخيم . والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي . والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها؛ لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية .
ثم قال : { وهُزّي إِليك } أي : حركي النخلة إليك ، أي : جاذبة لها إلى جهتك . فهَزُّ الشيء : تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكًا عنيفًا ، والمراد هنا ما كان بطريق الجذب والدفع . والباء في قوله : { بجذع النخلة } : صلة للتأكيد ، لقول العرب : هزَّ الشيء وهز به ، أو للإلصاق . فإذا هززت النخلة { تَسَّاقَط } أي : تتساقط . وقُرئ : تساقِطَ ، وتُسْقِط ، أي : النخلة عليك إسقاطًا متواترًا بحسب تواتر الهز { رُطبًا جنيًا } أي : طريًّا ، وهو ما قطع قبل يبسه . فعيل بمعنى مفعول ، أي : مجنيًا صالحًا للاجتناء . { فكُلي } من ذلك الرطب { واشربي } من ذلك السري ، { وقَرّي عينًا } ؛ وطيبي نفسًا وارفضي عنك ما أحزنك وأهمك ، فإنه تعالى قد نزه ساحتك عن التُهم ، بما يفصح به لسان ولدك من التبرئة . أو : وقري عينًا بحفظ الله ورعايته في أمورك كلها . وقرة العين : برودتها ، مأخوذ من القرّ ، وهو البرد؛ لأن دمع الفرح بارد ، ودمع الحزن سُخن ، ولذلك يقال : قرة العين للمحبوب ، وسُخنة العين للمكروه .
{ فإِما تَرَينَّ من البشر أحدًا } آدميًا كائنًا من كان { فقولي } له إن استنطقكِ أو لامك : { إِني نذرتُ للرحمن صومًا } أي : صمتًا ، وقُرئ كذلك ، وكان صيامهم السكوت ، فكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الطعام . وذكر ابن العربي في الأحوذي : أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - اختص بإباحة الكلام لأمته في الصوم ، وكان محرمًا على من قبلنا ، عكس الصلاة . ه . قالت : { فلن أُكلِّمَ اليوم إِنسيًّا } أي : بعد أن أخبرتكم بنذري ، وإنما أكلم الملائكة أو أناجي ربي . وقيل : أُمرت بأن تُخبر عن نذرها بالإشارة . قال الفراء : العرب تُسمى كل ما وصل إلى الإنسان كلامًا ، ما لم يُؤكّد بالمصدر ، فإذا أُكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . ه . وإنما أُمرت بذلك ونذرته؛ لكراهة مجادلة السفهاء ومقاولتهم ، وللاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام؛ فإنه نص قاطع في قطع الطعن .
(3/455)

{ فأتت به قومًها } عندما طَهُرت من نفاسها ، { تحملُه } أي : حاملة له . قال الكلبي : احتمل يوسف النجار - وكان ابن عمها - مريمَ وابنها عيسى ، فأدخلهما غارًا أربعين يومًا ، حتى تَعَلّتْ من نفاسها ، ثم جاءت به تحمله بعد أربعين يومًا ، وكلمها عيسى في الطريق ، فقال : يا أمه ، أبشري ، فإني عبد الله ومسِيحُه . فلما رآها أهلُها ، بَكَوا وحزنوا ، وكانوا قومًا صالحين . { قالوا يا مريمُ لقد جئتِ } أي : فعلت { شيئًا فَرِيًّا } : عظيمًا بديعًا منكرًا ، من فَرَى الجلد : قطعه . قال أبو عبيدة : ( كل فائق من عَجَب أو عمل فهو فَرِيّ ) . قال النبي صلى الله عليه وسلم : في حق عمر رضي الله عنه : " فلم أرَ عَبْقَرِيًا من النَّاس يَفْرِي فَرِيَّة " ، أي : يعمل عمله .
{ يا أخت هارون } ، عنوا هارون أخا موسى؛ لأنها كانت من نسله ، أي : كانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة ، وكان بينها وبينه ألفُ سنة . أو يا أخت هارون في الصلاح والنسك ، وكان رجلاً صالحًا في زمانهم اسمه هارون ، فشبهوها به . ذُكِرَ لما مات تبع جنازته أربعون ألفًا ، كلهم يسمي هارون من بني إسرائيل . وقيل : إن هارون الذي شبهوها به كان أفسق بني إسرائيل ، فشتموها بتشبيهها به . { ما كان أبوك } عمران { امْرأَ سَوْءٍ وما كانت أُمك بغيًا } ، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟ . هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا ، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش .
{ فأشارتْ إِليه } أي : إلى عيسى أن كلموه ، ولم تكلمهم وفاء بنذرها ، وإشارتها إليه من باب الإدلال ، رجوعًا لقوله لها : { وقرّي عينًا } ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به ، من العناية بأمرها والكفاية لشأنها ، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به ، فتدل بالإشارة . وكان ذلك طوعَ يدها ، وتذكّر قضية جريج . قاله في الحاشية . { قالوا } منكرين لجوابها : { كيف نُكلم من كان في المهد صبيًّا } ، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل . و { كان } هنا : تامة . و { صبيًّا } : حال . وقيل : زائدة ، أي : من هو في المهد .
{ قال } عيسى عليه السلام : { إِني عبد الله } ، أنطقه الله تعالى بذلك تحقيقًا للحق ، وردًا على من يزعم ربوبيته . قيل كان المستنطق لعيسى زكريا - عليهما السلام - وعن السدي : ( لما أشارت إليه ، غضبوا ، وقالوا : لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت ) . رُوي أنه عليه السلام كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع واقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره ، وأشار بسبابته ، فقال ما قال . وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان .
ثم قال في كلامه : { آتاني الكتابَ } : الإنجيل : { وجعلني } مع ذلك { نبيًّا وجعلني مباركًا } : نفَّاعًا للناس ، معلمًا للخير { أينما كنتُ } أي : حيثما كنت ، { وأوصاني بالصلاة } : أمرني بها أمرًا مؤكدًا ، { والزكاة } ؛ زكاة الأموال ، أو بتطهير النفس من الرذائل { ما دمت حيًا } في الدنيا .
(3/456)

{ و } جعلني { برًّا بوالدتي } فهو عطف على { مباركًا } . وقرئ بالكسر ، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغةً ، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة؛ إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم ، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه . ثم قال : { ولم يجعلني جبارًا شقيًّا } عند الله تعالى ، بل متواضعًا لينًا ، سعيدًا مقربًا ، فكان يقول : سلوني ، فإن قلبي لين ، وإني في نفسي صغير ، لما أعطاه الله من التواضع .
ثم قال : { والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حيًّا } ، كما تقدم على يحيى . وفيه تعريض بمن خالفه ، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده ، كما في قوله تعالى : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] ؛ فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى .
فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام ، وهو أحد من تكلم في المهد ، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا . وكلهم معروفون ، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها . وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي . قال : قال ابن عباس : ( لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال : يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال : رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون ، كانت تمشطها ، فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبى؟ فقالت : لا ، بل ربي وربك ورب أبيك . فقالت : أُخبر بذلك أبي؟ قالت : نعم ، فأخبرته فدعاها ، وقال : من ربك؟ قالت : ربي وربك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة - أي : آنية عظيمة من نحاس - فَأُحْمِيَتْ ، ودعاها بولدها ، فقالت : إن لي إليك لحاجةً ، قال : وما حاجتك؟ قالت : تجمع عظامي وعظامَ ولدي فتدفنها جميعًا ، قال : وذلك لك علينا من الحقّ ، سأفعل ذلك لك ، فأمر بأولادها واحدًا واحدًا ، حتى إذا كان آخر ولدها ، وكان صبيًا مرضَعًا ، قال : اصبري يا أمه . . . فألقاها في البقرة مع ولدها . ه .
الإشارة : يؤخذ من الآية أمور صوفية ، منها : أن الإنسان يُباح له أن يستتر في الأمور التي تهتك عرضه ، ويهرب إلى مكان يُصان فيه عرضه ، إلا أن يكون في مقام الرياضة والمجاهدة ، فإنه يتعاطى ما تموت به نفسه ، ومنها : أنه لا بأس أن يلجأ الإنسان إلى ما يخفف آلامه ويسهل شدته ، ولا ينافي توكله . ومنها : أن لا بأس أن يتمنى الموت إذا خاف ذهاب دينه أو عرضه ، أو فتنة تحول بينه وبين قلبه . ويُؤخذ أيضًا من الآية : أن فزع القلب عند الصدمة الأولى لا ينافي الصبر والرضا؛ لأنه من طبع البشر ، وإنما ينافيه تماديه على الجزع .
ومنها : أن تحريك الأسباب الشرعية لا ينافي التوكل ، لقوله تعالى : { وهُزي إليك } . لكن إذا كانت خفيفة مصحوبة بإقامة الدين ، غير معتمد عليها بقلبه ، فإن كان متجردًا فلا يرجع إليها حتى يكمل يقينه ، ويتمكن في معرفة الحق تعالى .
(3/457)

وقد كانت في بدايتها تأتي إليها الأرزاق بغير سبب كما في سورة آل عمران ، وفي نهايتها قال لها : { وهُزي إليك } . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كانت في بدايتها متعرفًا إليها بخرق العادات وسقوط الأسباب ، فلما تكمل يقينها رجعت إلى الأسباب ، والحالة الثانية أتم من الحالة الأولى ، وأما من قال : إن حبها أولاً كان لله وحده ، فلما ولدت انقسم حبها ، فهو تأويل لا يرضى ولا ينبغي أن يلتفت إليه ، لأنها صدّيقة ، والصدّيق والصدّيقة لا ينتقلان من حالة إلا إلى أكمل منها .
ومنها : أن الإنسان لا بأس أن يوجب على نفسه عبادة ، إذا كان يتحصن بها من الناس ، أو من نفسه ، كالصوم أو الصمت أو غيرهما ، مما يحجزه عن العوام ، أو عن الانتصار للنفس .
وقوله تعالى : { والسلام عليّ يوم وُلدتُ . . . } الآية : قال الورتجبي : سلام يحيى سلام تخصيص الربوبية على العبودية . ثم قال : وسلام عيسى من عين الجمع ، سلام فيه مزية ظهور الربوبية في معدن العبودية . وأرفع المقامين سلام الحق على سيد المرسلين كفاحًا في وصاله وكشف جماله ، ولو سَلّم عليه بلسانه كان بلسان الحدث ، ولا يبلغ رتبة سلامه بوصف قِدَمه . ه .
(3/458)

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
قلت : { وإن الله } : عطف على قوله : { إني عبد الله } فيمن كسر ، وعلى حذف اللام فيمن فتح ، أي : ولأن الله ربي وربكم . وقال الواحدي وأبو محمد مكي : عطف على قوله : { بالصلاة } أي : أوصاني بالصلاة وبأن الله . . . الخ : وقال المحلي : بالفتح ، بتقدير اذكر ، وبالكسر بتقدير " قل " . و { قول الحق } : مصدر مؤكد لقال ، فيمن نصب ، وخبر عن مضمر ، فيمن رفع ، أي : هو ، أو هذا . و { إذا قضى } : بدل من { يوم الحسرة } ، أو ظرف للحسرة . و { هم في غفلة وهم لا يؤمنون } : جملتان حاليتان من الضمير المستقر في الظرف في قوله : { في ضلال مبين } أي : مستقرين في الضلال وهم في تينك الحالتين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } المنعوت بتلك النعوت الجليلة ، والأوصاف الحميدة هو { عيسى ابنُ مريم } ، لا ما يصفه النصارى به من وصف الألوهية ، فهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني ، حيث جعله موصوفًا بأضداد ما يصفونه به . وأتى بإشارة البعيد؛ للدلالة على علو رُتبته وبُعد منزلته ، وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ، ونزوله منزلة المشاهد المحسوس .
هذا { قولُ الحق } ، أو قال عيسى { قولَ الحق } الذي لا ريب فيه ، وأنه عبد الله ورسوله ، { الذي فيه يمترون } أي : يشكون أو يتنازعون ، فيقول اليهود : ساحر كذاب ، ويقول النصارى : إله ، أو ابن الله . { ما كان لله أن يتخذ من ولد } أي : ما صح ، أو ما استقام له أن يتخذ ولدًا ، { سبحانه } وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ، فهو تنزيه عما بهتوه ، ونطقوا به من البهتان ، وكيف يصح أن يتخذ الله ولدًا ، وهو يحتاج إلى أسباب ومعالجة ، وأمره تعالى أسرع من لحظ العيون ، { إِذا قضى أمرًا فإِنما يقول له كن فيكون } .
ثم قال لهم عيسى عليه السلام : { وإنَّ الله ربي وربكم فاعبدوه } ، فهو من تمام ما نطق به في المهد ، وما بينهما اعتراض ، للمبادرة للرد على من غلط فيه ، أي : فإني عبد ، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تُشركوا معه غيره ، { هذا } الذي ذكرت لكم الذي ذكرت لكم من التوحيد { صراط مستقيم } لا يضل سالكه ولا يزيغ متبعه .
قال تعالى : { فاختلف الأحزابُ من بينهم } ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، تنبيهًا على سوء صنيعهم ، بجعلهم ما يُوجب الاتفاق منشأ للاختلاف ، فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام ، مع كونها نصوصًا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله ، قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط ، وفرّق النصارى ، فقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت اليعقوبية : هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء ، وقالت المِلْكَانية : هو ثالث ثلاثة . { فويلٌ للذين كفروا } وهم : المختلفون فيه بأنواع الضلالات .
(3/459)

وأظهر الموصول في موضع الإضمار؛ إيذانًا بكفرهم جميعًا ، وإشعارًا بِعِلِّيَّةِ الحكم ، { من مَشْهَدِ يوم عظيم } أي : ويل لهم من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة ، أو : من وقت شهوده أو مكانه ، أو من شهادة اليوم عليهم ، وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - وألسنتُهم وأيديهم وأرجلهم ، بالكفر والفسوق .
{ أسمِعْ بهم وأبصرْ } أي : ما أسمعهم وما أبصرهم ، تعجب من حدة سمعهم وإبصارهم يومئذ . والمعنى : أن أسماعهم وأبصارهم { يوم يأتوننا } للحساب والجزاء جدير أن يُتعجب منها ، بعد أن كانوا في الدنيا صمًا عميًا . أو : ما أسمعهم وأطوعهم لما أبصروا من الهدى ، ولكن لا ينفعهم يومئذ مع ضلالهم عنه اليوم ، فقد سمعوا وأبصروا ، حين لم ينفعهم ذلك . قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر ، حين يقول الله لعيسى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المَائدة : 116 ] . ه . ويحتمل أن يكون أمر تهديد لا تعجب ، أي : أسمعهم وأبصرهم مواعيد ذلك اليوم ، وما يحيق بهم فيه ، فالجار والمجرور ، على الأول ، في موضع رفع ، وعلى الثاني : نصب . { لكن الظالمون اليومَ } أي : في الدنيا ، { في ضلال مبين } أي : لا يدرك غايته ، حيث غفلوا عن الاستماع والنظر بالكلية . ووضع الظالمين موضع الضمير؛ للإيذان بأنهم في ذلك ظلمون لأنفسهم حيث تركوا النظر .
{ وأنذرهم يوم الحسرة } يوم يتحسر الناس قاطبة ، أما المسيء فعلى إساءته ، وأما المحسن فعلى قلة إحسانه ، { إِذ قُضيَ الأمر } أي : فرغ من يوم الحساب ، وتميز الفريقان ، إلى الجنة وإلى النار .
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك ، فقال : " حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح ، فيُذبح ، والفريقان ينظرون ، فينادي؛ يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم ، وأهل النار غمًا إلى غمهم ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : { وأنذرهم يوم الحسرة إِذْ قُضي الأمر وهم في غفلة } ، وأشار بيده إلى الدنيا " قال مقاتل : ( لولا ما قضى الله من تعميرهم فيها ، وخلودهم؛ لماتوا حسرة حين رأوا ذلك ) . { وهم } في هذا اليوم { في غفلة } عما يراد بهم في الآخرة ، { وهم لا يُؤمنون } بهذا؛ لاغترارهم ببهجة الدنيا ، فلا بد أن تنهد دعائمها ، وتمحى بهجتها ، ويفنى كل ما عليها ، قال تعالى : { إِنا نحن نرث الأرضَ ومَنْ عليها } لا ينبغي لأحد غيرنا أن يكون له عليها وعليكم ملك ولا تصرف ، أو : إنا نحن نتوفى الأرض ومن عليها ، بالإفناء والإهلاك ، توفي الوارث لإرثه ، { وإِلينا يُرجعون } ؛ يُردون إلى الجزاء ، لا إلى غيرنا ، استقلالاً أو اشتراكًا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للعبد المعتني بشأن نفسه أن يحصِّن عقائده بالدلائل القاطعة ، والبراهين الساطعة ، على وفاق أهل السُنَّة ، ثم يجتهد في صحبة أهل العرفان ، أهل الذوق والوجدان ، حتى يُطلعوه على مقام الإحسان ، مقام أهل الشهود والعيان .
(3/460)

فإذا فرط في هذا ، لحقه الندم والحسرة ، في يوم لا ينفع فيه ذلك . فكل من تخلف عن مقام الذوق والوجدان؛ فهو ظالم لنفسه باخس لها ، يلحقه شيء من الخسران ، ولا بد أنْ تبقى فيه بقية من الضلال ، حيث فرط عن اللحوق بطريق الرجال ، قال تعالى : { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } .
{ وأنذرهم يوم الحسرة } أي : يوم يرفع المقربون ويسقط المدعون . فأهل الذوق والوجدان حصل لهم اللقاء في هذه الدار ، ثم استمر لهم في دار القرار . رُوي أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال يومًا بين يدي أستاذه : ( اللهم اغفر لي يوم لقائك ) . فقال له شيخه - القطب ابن مشيش - رضي الله عنهما : هو أقرب إليك من ليلك ونهارك ، ولكن الظلم أوجب الضلال ، وسبقُ القضاء حَكَمَ بالزوال عن درجة الأُنْس ومنازل الوصال ، وللظالم يومٌ لا يرتاب فيه ولا يخاتل ، والسابق قد وصل في الحال ، " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين " . ه . كلامه رضي الله عنه .
(3/461)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
قلت : { إذ قال } : بدل اشتمال من { إبراهيم } ، وما بينهما : اعتراض ، أو متعلق بكان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكر في الكتاب } ؛ القرآن أو السورة ، { إِبراهيم } أي : اتل على الناس نبأه وبلغه إياهم ، كقوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } [ الشعراء : 69 ] ؛ لأنهم ينتسبون إليه عليه السلام ، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان . { إِنه كان صدّيقًا } ؛ ملازمًا للصدق في كل ما يأتي ويذر ، أو كثير التصديق؛ لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله ، فالصدِّيق مبالغة في الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه ، وعمل بما صدق به فهو صدّيق ، وبذلك سُمي أبو بكر الصدّيق ، وسيأتي في الإشارة تحقيقه عند الصوفية ، إن شاء الله .
والجملة : استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر؛ فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره ، وكان أيضًا { نبيًّا } ، أي : كان جامعًا بين الصديقية والنبوة ، إذ كل نبي صِدِّيق ، ولا عكس . ولم يقل : نبيًا صديقًا؛ لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة .
{ إِذْ قال لأبيه } آزر ، متلطفًا في الدعوة مستميلاً له : { يا أبتِ } ، التاء بدل من ياء الإضافة ، أي : يا أبي ، { لِمَ تعبدُ ما لا يسمع } ثناءك عليه حين تعبده ، ولا جُؤَارك إليه حين تدعوه ، { ولا يُبْصِرُ } خضوعك وخشوعك بين يديه ، أو : لا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات ، فيدخل في ذلك ما ذكر دخولاً أوليًا ، { ولا يُغْنِي عنك شيئًا } أي : لا يقدر أن ينفعك بشيء في طلب نفع أو دفع ضرر .
انظر؛ لقد سلك عليه السلام في دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل ، واحتج عليه بأبدع احتجاج ، بحسن أدب ، وخلق جميل ، لكن وقع ذلك لسائرٍ ركب متن المكابرة والعناد ، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد ، أي : فإنَّ من كان بهذه النقائص يأبى مَن له عقل التمييز من الركون إليه ، فضلاً عن عبادته التي هي أقصى غاية التعظيم ، فإنها لا تحِقُ إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام ، الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، والشيء لو كان مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر ، لكنه ممكن ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته ، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر .
ثم دعاء إلى اتباعه؛ لأنه على المنهاج القويم ، مُصدّرًا للدعوة بما مرَّ من الاستعطاف والاستمالة ، حيث قال : { يا أبتِ إِني قد جاءني من العلم ما لم يأتِكَ } ، لم يَسِمْ أباه بالجهل المفرط ، وإن كان في أقصاه ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، وإن كان في أعلاه ، بل أبرز نفسه في صورة رفيق له ، أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق ، فاستماله برفق ، حيث قال : { فاتّبِعْنِي أَهدِكَ صراطًا سوِيًّا } أي : مستقيمًا موصلاً إلى أسمى المطالب ، منجيًا من الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب .
(3/462)

ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام ، فقال : { يا أبتِ لا تعبدِ الشيطانَ } ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يُسولُها لك ويغريك عليها ، ثم علل نهيه فقال : { إِن الشيطان كان للرحمن عَصِيًّا } ، فهو تعليل لموجب النهي ، وتأكيد له ببيان أنه مستعصٍ على ربك ، الذي أنعم عليك بفنون النعم ، وسينتقم منه فكيف تعبده؟ .
والإظهار في موضع الإضمار؛ لزيادة التقرير ، والاقتصارُ على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته؛ لأنه ملاكها ، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته . والتعرض لعنوان الرحمانية؛ لإظهار كمال شناعة عصيانه .
وقوله : { يا أبتِ إِني أخاف أن يمسّك عذابٌ من الرحمن } تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان ، وهو اقترانه معه في الهوان الفظيع . و { من الرحمن } : صفة لعذاب ، أي : عذاب واقع من الرحمن ، وإظهار { الرحمن } ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما في قوله تعالى : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } [ الانفطار : 6 ] ، { فتكون للشيطان وليًّا } أي : فإذا قرنت معه في العذاب تكون قرينًا له في اللعن المخلد . فهذه موعظة الخليل لأبيه ، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه :
الأول : ندائه : بيا أبت ، ولم يقل يا آزر ، أو يا أبي .
الثاني : قوله { ما لا يسمع . . . } الخ ، ولم يقل : لِمَ تعبد الخشب والحجر .
الثالث : قوله : { إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك } ، ولم يقل له : أنك جاهل ضال .
الرابع : قوله : { إني أخاف } ، حيث عبَّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب .
الخامس : في قوله : { أن يمسك } ، حيث عبَّر بالمس ولم يُعبر باللحوق أو النزول . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقة والنبوة مع الرسالة والخلة ، وقدَّم الصديقية لتقدمها في الوجود في حال الترقي ، فالصديقية تلي مرتبة النبوة ، كما تقدم في سورة النساء . فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يَعْظُمْ صدقه وتصديقه ، فيصدِّق بوجود الحق وبمواعده ، حتى يكون ذلك نصب عينيه ، من غير تردد ولا تلجلج ، ولا توقف على آية ولا دليل . ثم يبذل مهجته وماله في مرضاة مولاه ، كما فعل الخليل ، حيث قدم بدنه للنيران وطعامه للضيفان وولده للقربان . وكما فعل الصدِّيق ، حيث واسى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في الغار ، وخرج عن ماله خمس مرار . وكما فعل الغزالي حيث قدم نفسه للخِرَابِ ، حين اتصل بالشيخ وخرج عن ماله وجاهه في طلب مولاه . ولذلك قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : في حقه : " إنا لنشهد له بالصدِّيقية العظمى " ، وناهيك بمن شهد له الشاذلي بالصدِّيقية .
(3/463)

ومن أوصاف الصدّيق أنه لا يتعجب من شيء من خوارق العادة ، مما تبرزه القدرة الأزلية ، ولا يتعاظم شيئًا ولا يستغربه ، ولذلك وصف الحق تعالى مريم بالصديقية دون سارة ، حيث تعجبت ، وقالت : { أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هُود : 72 ] ؛ وأما مريم فإنما سألت عن وجه ذلك ، هل يكون بنكاح أم لا ، والله تعالى أعلم .
وفي الآية إشارة إلى حسن الملاطفة في الوعظ والتذكير ، لا سيما لمن كان معظمًا كالوالدين ، أو كبيرًا في نفسه . فينبغي لمن يذكره أن يأخذه بملاطفة وسياسة ، فيقر له المقام الذي أقامه الله تعالى فيه ، ثم يُذكره بما يناسبه في ذلك المقام ، ويشوقه إلى مقام أحسن منه ، وأما إن أنكر له مقامه من أول مرة ، فإنه يفرّ عنه ولم يستمع إلى وعظه ، كما هو مجرب . وبالله التوفيق .
(3/464)

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قلت : هذا استئناف بياني ، مبني على سؤال نشأ عن صدر الكلام ، كأنه قيل : فماذا قال أبوه عندما سمع هذه النصائح الواجبة القبول؟ فقال مصرًا على عناده : أراغب . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } له أبوه في جوابه : { أراغبٌ أنتَ عن آلهتي } أي : أمعرض ومنصرف أنت عنها فوجّه الإنكار إلى نفس الرغبة ، مع ضرب من التعجب ، كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل ، فضلاً عن ترغيب الغير عنها ، ثم هدده فقال : { لئن لم تَنْتَهِ } عن وعظك { لأرجُمنَّكَ } بالحجارة ، أي : والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجر ، وقيل باللسان ، { واهجرني } أي : واتركني { مَلِيًّا } أي : زمنًا طويلاً ، أو ما دام الأبد ، ويسمى الليل والنهار مَلَوان ، وهو عطف على محذوف ، أي : احذرني واهجرني .
{ قال } له إبراهيم عليه السلام : { سلامٌ عليك } مني ، لا أصيبك بمكروه ، وهو توديع ومُتاركة على طريق مقابلة السيئة بالحسنة ، أي : لا أشافهك بما يؤذيك ، ولكن { سأستغفر لك ربي } أي : أستدعيه أن يغفر لك . وقد وفى عليه السلام بقوله في سورة الشعراء : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشُّعَرَاء : 86 ] . أو : بأن يوفقك للتوبة ويهديك للإيمان . والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه ، وإنما المحظور استدعاء المغفرة مع بيان شقائه بالوحي ، وأما الاستغفار له بعد موته فالعقل لا يحيله . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب : " لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنك " ثم نهاه عنه كما تقدم في التوبة . فالنهي من طريق السمع ، ولا اشتباه أن هذا الوعد من إبراهيم ، وكذا قوله : { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ المُمتَحنَة : 4 ] ، وقوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشُّعَرَاء : 86 ] ، إنما كان قبل انقطاع رجائه من إيمانه ، بدليل قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأ } [ التّوبَة : 114 ] .
وقوله تعالى : { إِنه كان بي حَفيًّا } أي : بليغًا في البر والألطاف ، رحيمًا بي في أموري ، قد عوَّدني الإجابة . أو عالمًا بي يستجيب لي إن دعوتُه ، وفي القاموس : حَفِيَ كَرَضِيَ ، حَفَاوةً . ثم قال : واحتفًا : بالَغَ في إكْرامِه وأظْهَرَ السُّرُورَ والفَرَحَ به ، وأكَثَر السُؤَالَ عن أحواله ، فهو حافٍ وحفي . ه .
{ وأعتزلُكم } أي : أتباعد عنك وعن قومك ، { وما تَدْعُونَ من دونِ الله } بالمهاجرة بديني ، حيث لم تؤثر فيكم نصائحي ، { وأدعو ربي } : أعبده وحده ، أو أدعوه بطلب المغفرة لك - أي قبل النهي - أو : أدعوه بطلب الولد ، كقوله : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } [ الصَّافات : 100 ] ، { عسى ألا أكون بدعاءِ ربي شقيًّا } أي : عسى ألا أشقى بعبادته ، أو : لا أخيب في طلبه ، كما شقيتم أنتم في عبادة آلهتكم وخبتم . ففيه تعريض بهم ، وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع وحسن الأدب ، والتنبيه على أن الإجابة من طريق الفضل والكرم ، لا من طريق الوجوب ، وأن العبرة بالخاتمة والسعادة ، وفي ذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى .
(3/465)

الإشارة : انظر كيف رفض آزرُ مَن رغب عن آلهته ، وإن كان أقرب الناس إليه ، فكيف بك أيها المؤمن ألاَّ ترفض من يرغب عن إلهك ويعبد معه غيره ، أو يجحد نبيه ورسوله ، بل الواجب عليك أن ترفض كل ما يشغلك عنه ، غيرةً منك على محبوبك ، وإذا نظرت بعين الحقيقة لم تجد الغيرة إلا على الحق ، إذ ليس في الوجود إلا الحق ، وكل ما سواه باطل على التحقيق .
فمن اعتزل كل ما سوى الله ، وأفرد وجهته إلى مولاه ، لم يَشْق في مَطلبه ومسْعاه ، بل يطلعه الله على أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، حتى لا يرى في الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد . وبالله التوفيق .
(3/466)

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قلت : { وكُلاًّ } : مفعول أول لجعلنا ، و { عَلِيًّا } : حال من اللسان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلما اعتزلهم } أي : اعتزل إبراهيمُ قومَه { وما يعبدون من دون الله } بأن خرج من " كوثى " بأرض العراق ، مهاجرًا إلى الشام واستقر بها ، { وهبنا له إسحاق } ولده { ويعقوبَ } حفيده ، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر ، التي وُهبت لزوجه سارة ، ثم وهبتها له ، فوُلد له منها إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة ، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة ، فكان سبب عمارتها . ثم حملت سارة بإسحاق ، ثم نشأ عنه يعقوب ، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه في بلده ، وإسحاق كان متصِلاً به يسعى معه في مآربه ، فكانت النعمة بهما أعظم .
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ها هنا لبيان كمال عِظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياهُ ، في مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب ، فإنهما شجرة الأنبياء ، لهما أولاد وأحفاد ، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير . { وكُلاًّ جعلنا نبيًّا } أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيًا ورسولاً .
{ ووهبنا لهم من رحمتنا } هي النبوة ، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء؛ للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل . وقيل : الرحمة : المال والأولاد ، وما بسط لهم من سعة الرزق ، وقيل : إنزال الكتاب ، والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي . { وجعلنا لهم لسانَ صدقٍ عليًّا } : رفيعًا في أهل الأديان ، فكل أهل دين يتلونهم ، ويثنُون عليهم ، ويفتخرون بهم؛ استجابة لدعوته بقوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشُّعَرَاء : 84 ] .
والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام في لسان العرب ولغتهم ، وإضافته إلى الصدق ، ووصفه بالعلو؛ للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار ، وتبدل الدول ، وتحول الملل والنحل . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق ، طلبًا في الوصول إلى مشاهدة الحق ، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية ، وهي نتائج فكرة القلوب الصافية ، وفي الحكم : " ما نفع القلب شيءٌ مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة " . قال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ( ثمار العزلة : الظفر بمواهب المنة ، وهي أربعة : كشف الغِطاء ، وتنزل الرحمة ، وتحقق المحبة ، ولسان الصدق في الكلمة ، قال الله تعالى : { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له } الآية ) . وقال بعض الحكماء : من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا ، فهلك كما هلكوا .
وقال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله : كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لي من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم ، فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات .
(3/467)

. . هذا لا يكون أبدًا ، ثم غاب عني .
وقال القشيري رضي الله عنه : فأرباب المجاهدات ، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات - أي : من الدنيا - . قال : وهذا أصل كبير لهم في المجاهدات في أحوال الرياضة . ه . وقال في " القوت " : ولا يكون المريد صادقًا حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية ، وحتى يكون أُنسه في الوحدة ، وروحه في الخلوة ، وأحسن أعماله في السر . ه .
قلت : العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط في بداية المريد ، فإذا تمكن من الشهود ، وأَنس قلبه بالملك الودود ، واتصل بحلاوة المعاني ، ينبغي له أن يختلط بالخلق ويربي فكرته؛ لأنهم حينئذ يزيدون في معرفته ويتسع بهم؛ لأنه يراهم حينئذ أنوارًا من تجليات الحق ، ونوارًا يرعى فيهم ، فيجتني حلاوة الشهود ، وفي ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب :
الخَلْقُ نَوارٌ وَأَنا رَعَيْتُ فِيهِمُ ... هُمُ الحجَابُ الأكْبَرُ والمَدْخَلُ فيهِمُ
وفي مقطعات الششتري :
عين الزحام ... هم الوصول لحيِّنا
وبالله التوفيق .
(3/468)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
قلت : { نَجِيًّا } : حال من أحد الضميرين في { ناديناه } أو { قربناه } ، وهو أحسن . و { هارون } : عطف بيان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكر في الكتاب موسى } ، قدَّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب؛ لأنه من نسله ، { إِنه كان مُخْلِصًا } : موحدًا ، أخلص عبادته من الشرك والرياء ، وأسلم وجهه لله تعالى ، وأخلص نفسه عما سواه . وقرئ بالفتح ، على أن الله تعالى أخلصه من الدنس . قال القشيري أي : خلصًا لله ، لم يكن لغيره بوجهٍ . ثم قال : ولم يُغْضِ في اللهِ على شيءٍ . ه .
{ وكان رسولاً نبيًّا } أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدَّم رسولاً مع كونه أخص وأعلى ، { وناديناه من جانب الطور الأيمن } ، الطور : جبل بين مصر ومدين ، أي : ناديناه من ناحيته اليمنى ، وهي التي تلي يمين موسى عليه السلام ، فكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى ، أو من أيمن ، أي : من جانبه الميمون ، ومعنى ندائه منه : أنه سمع الكلام من تلك الناحية ، { وقربناه نجيًّا } أي : مناجيًا لنا نُكلمه بلا واسطة ، فالتقريب : تقريبُ تكرمة وتشريف ، مَثَّلَ حاله عليه السلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته . وقيل : { نجيًا } من النجو ، وهو العلو والارتفاع ، أي : رفعناه من سماء إلى سماء ، حتى سمع صريف القلم يكتب له في الألواح .
{ ووهبنا له من رحمتنا } أي : من أجل رحمتنا ورأفتنا به ، أو من بعض رحمتنا { أخاه هارون } ، أي : وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته ، إجابةً لدعوته : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي } [ طه : 29 ، 30 ] لا نفسه؛ لأنه كان أكبر منه ، وُجد قبله ، حَال كونه { نبيًّا } : رسولاً مُشْركًا معه في الرسالة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص ، وكلاهما شرط في حصول سر الخصوصية ، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية ، فمن لا تصديق عنده لا سير له ، ومن لا إخلاص له لا وصول له . وحقيقة الإخلاص : إخراج الخلق من معاملة الحق ، وهي ثلاث طبقات؛ سفلى ، ووسطى ، وعليا .
فالسفلى : أن يفعل العبادة لله تعالى ، طالبًا لعوض دنيوي ، كسعة الأرزاق ، وحفظ الأموال والبدن ، فهذا إخلاص العوام ، وإنما كان إخلاصًا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقًا في عملهم .
والوسطى : أن يعبد الله مخلصًا ، طالبًا لعوض أخروي ، كالحور والقصور .
والعليا : أن يفعل العبادة قيامًا برسم العبودية ، وأدبًا مع عظمة الربوبية ، غير ملتفت لجنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ، مع تعظيم نعيم الجنان ، لأنه محل اتصال الرؤية؛ كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
ليس شوقي من الجنان نعيمًا ... غير أني أُريدها لأراكَ
فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل ، صار مقربًا نجيًا في محل المشاهدة والمكالمة . وبالله التوفيق .
(3/469)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكر في الكتاب إِسماعيل } ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، لإيراده مستقلاً بترجمته ، { إِنه كان صادق الوعد } ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره . وإيراده عليه السلام بهذا الوصف؛ لكمال شهوته به .
رُوِيَ أنه واعد رجلاً أن يلقاه في موضع ، فجاء إسماعيل ، وانتظر الرجلَ يومه وليلته - وقيل : ثلاثة أيام - فلما كان في اليوم الآخر ، جاء الرجل ، فقال له إسماعيل : ما زلتُ هنا من أمس . وقال الكلبي : انتظره سنة ، وهو بعيد . قال ابن عطية : وقد فعل مثل هذا نبيُنا صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره ، وذلك في مبايعة وتجارة ه . وقال القشيري : وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه ، فصبر على ذلك ، إلى أن ظهر الفداء ، وصِدق الوعد دلالة حفظ العهد . ه .
وقال ابن عطاء : وعد لأبيه من نفسه الصبر ، فوفى به ، في قوله : { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصَّافات : 102 ] . ه . وهذا مبني على أنه الذبيح ، وسيأتي تحقيق المسألة إن شاء الله .
{ وكان رسولاً نبيًّا } أي : رسولاً لجرْهُم ومن والاهم ، مخبرًا لهم بغيب الوحي ، وكان أولاده على شريعته ، حتى غيرها عَمرو بن لحي الخزاعي ، فأدخل الأصنام مكة . فما زالت تُعبَد حتى محاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشريعته المطهرة .
{ وكان } إسماعيل { يأمر أهله بالصلاة والزكاة } ، قدَّم الأهل اشتغالاً بالأهم ، وهو أن يُقبل بالتكميل على نفسه ، ومن هو أقرب الناس إليه ، قال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشُّعَرَاء : 214 ] ، { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة } [ طه : 132 ] ، { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التّحْريم : 6 ] ، وقصد إلى تكميل الكل بتكميلهم؛ لأنهم قدوة يُؤتَسى بهم . وقيل : أهله : أمته؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - آباء الأمم . { وكان عند ربه مَرْضِيًّا } ؛ لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من الخصال الحميدة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد وصف الحق - جل جلاله - نبيه إسماعيل بثلاث خصال ، بها كان عند ربه مرضيًا ، فمن اتصف بها كان مرضيًا مقربًا : الوفاء بالوعد ، والصدق في الحديث؛ لأنه مستلزم له ، وأمر الناس بالخير . أما الوفاء بالعهد فهو من شيم الأبرار ، قد مدح الله تعالى أهله ، ورغَّب فيه وأمر به ، قال تعالى : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } [ البَقَرَة : 177 ] . وقال تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } [ النّحل : 91 ] ، فإخلاف الوعد من علامة النفاق ، قال صلى الله عليه وسلم : " آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان " وخلف الوعد إنما يضر إذا كان نيته ذلك عند عقده ، أو فرط فيه ، وأما إن كان نيته الوفاء ، ثم غلبته المقادير ، فلا يضر ، لا سيما في حق أهل الفناء ، فإنهم لا حكم لهم على أنفسهم في عقد ولا حل ، بل هم مفعول بهم ، زمامهم بيد غيرهم ، كل ساعة ينظرون ما يفعل الله بهم ، فمثل هؤلاء لا ميزان عليهم في عقد ولا حل . فمثلهم مع الحق كمثل الأطفال المحجر عليهم في التصرف ، ولذلك قالوا : ( الصوفية أطفال في تربية الحق تعالى ) . فإياك أن تطعن على أولياء الله إذا رأيت منهم شيئًا من ذلك ، والتمس أحسن المخارج ، وهو ما ذكرته لك ، فإنه عن تجربة وذوق . والله تعالى أعلم .
(3/470)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكر في الكتاب إِدريس } وهو سبط شيث ، وجَدّ أبي نوح ، فإنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس عليه السلام ، واشتقاقه من الدرس؛ لكثرة دراسته لما أوحي إليه ، وكثرة ذكره لله تعالى .
رُوِيَ أنه كان خياطًا فكان لا يدخله الإبرة ولا يخرجها إلا بذكر الله . ورُوي أنه جاء إليه الشيطان يفتنه بفستق ، فقال له : هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في هذه الفُسْتقة؟ فقال له عليه السلام : ( الله قادر على أن يدخل الدنيا كلها في سم هذه الإبرة ، ونخس عينه ) ، ذكره السنوسي في شرح مقرئه . قال ابن وهب : إنه دعا قومه إلى لا إله إلا الله ، فامتنعوا فهلكوا . وفي حديث أبي ذر : أنه رسول ، وجمع بينه وبين حديث الشفاعة ، وقولهم لنوح : إنك أول رسول ، بأن تكون رسالته لقومه خاصة ، كهود وصالح ، وكذا آدم وشيث ، فإنه أرسل لبنيه لتعليم الشرائع والإيمان ، ولم يكونوا كفارًا ، وخلفه في ذلك شيث ، قال المحشي الفاسي : والأظهر عندي في نوح أنه أول رسول من أهل العزم ، لا مطلقًا .
قال ابن عطية : والأشهر أن إدريس عليه السلام لم يرسل ، وإنما هو نبي فقط ، وذهب إلى ذلك ابن بطال ، ليسلم من المعارضة ، وهي مدفوعة بما ذكرنا . ه . فالمشهور أن إدريس رسول إلى قومه . رُوي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة ، وأنه أول من خط بالقلم ، ونظر في علم النجوم والحساب ، وخاط الثياب . قيل : وهو أول نبي بُعث إلى أهل الأرض .
قال تعالى في وصفه : { إِنه كان صدِّيقًا نبيًّا } : خبران لكان ، والثاني مخصص للأول؛ إذ ليس كل صديق نبي . { ورفعناه مكانًا عليًّا } ، هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى . وقيل : علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا ، كما قال تعالى في حق نبينا : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشّرح : 4 ] ، وقيل : الجنة ، وقيل : السماء الرابعة ، وهو الصحيح .
رُوِيَ عن كعب وغيره في سبب رفعه أنه مشى ذات يوم في حاجته ، فأصابه وهج الشمس وحرها ، فقال : يا رب أنا مشيت يومًا ، فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد! اللهمَّ خَفِّفْ عنه من ثقلها ، واحمل عنه حرها ، فلما أصبح الملَك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف ، فقال : يا رب كلفتني بحمل الشمس ، فما الذي قضيت فيه؟ فقال : إن عبدي إدريس سألني أن أُخفف عنك حملها وحرّها فأجبته ، قال : يا رب اجعل بيني وبينه خُلَّة ، فأذن له ، حتى أتى إدريس ، فقال له إدريس : أخبرت أنك أكرم الملائكة عند مَلَك الموت ، فاشفع لي ليؤخر أجلي ، لأزداد شكرًا وعبادة ، فقال له الملك : لا يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها ، فقال : قد علمت ذلك ، ولكنه أطيب لنفسي ، قال : نعم ، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء . رُوي أنه مات هناك وردت إليه روحه بعد ساعة ، فهو في السماء الرابعة حي . وهذه قصص الله أعلم بصحتها . وبالله التوفيق .
الإشارة : ارتفاع المكان والشأن يكون على قدر صفاء الجنان ، والإقبال على الكريم المنان ، فبقدر التوجه والإقبال يكون الارتفاع والوصال .
بقدر الكد تكسب المعالي ... وَمَنَ رَامَ العُلا سَهِرَ الليالي
أتبغي العز ثم تنام ليلاً ... يَغُوصُ البحر منَ طلب اللآلي
قال بعضهم : من عامل الله على بساط الأنس : رفع ، لا محالة ، إلى حضرة القدس . وبالله التوفيق .
(3/471)

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قلت : { أولئك } : مبتدأ ، و { الذين } : خبره ، أو { الذين } : صفته ، و { إذا تتلى } : خبره . والإشارة إلى المذكورين في السورة ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل ، و { من النبيين } : بيان للموصول ، و { من ذرية } : بدل منه بإعادة الجار ، و { سُجدًا وبُكيًّا } : حالان من الواو ، و { بكيًّا } : جمع باك ، كمساجد وسجود ، وأصله : بكوى ، فاجتمع الواو والياء ، وسُبق إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أولئك } المذكورون في السورة الكريمة هم { الذين أنعم الله عليهم } بفنون النعم الدينية والدنيوية ، { من النبيين من ذرية آدم } ، وهو إدريس عليه السلام ونوح ، { ومن حملنا مع نوحٍ } أي : ومن ذرية من حملناهم في السفينة ، وهو إبراهيم؛ لأنه من ذرية سام بن نوح ، { ومن ذرية إبراهيم } ، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وقوله : { وإِسرائيلَ } أي : ومن ذرية إسرائيل ، وهو يعقوب ، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية . { وممن هدينا } أي : ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء .
{ إِذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خَرُّوا سُجدًا وبُكيًّا } ، هذا استئناف؛ لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له ، مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب ، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ ، أي : إذا تتلى عليهم ، آيات الرحمن ، إما عند نزولها عليهم ، أو بسماعها من غيرهم ، لحديث : " أحب أن أسمعه من غيري " ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النِّساء : 41 ] فكان الأنبياء عليهم السلام مثله ، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين . عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا ، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا " وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم ، فسجد فيها ، فقال : ( هذا السجود ، فأين البكاء ) ؟
قال بعضهم : ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها ، فهاهنا يقول : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم ، المهديين الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك . وفي الإسراء يقول : اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك ، وهكذا . والذي ورد في الخبر : يقول : " سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره ، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه ، بحوله وقُوته ، اللهم اكتب لي بها أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام " . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم ، وهو أول درجة المحبة ، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب ، وفوقه الفرح بشهود المتكلم ، وهنا ينقطع البكاء؛ لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف ، وليس في الجنة بكاء .
(3/472)

وأيضًا : من شأن القلب في أول أمره الرطوبة ، يتأثر بالواردات والأحوال ، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية . وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه ، حين رأى قومًا يبكون عند سماع القرآن : ( كذلك كنا ثم قست القلوب ) ، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة ، تواضعًا واستتارًا ، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة؛ لأنها سُلّم لما فوقها . والله تعالى أعلم .
(3/473)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قلت : { جنات عدن } : بدل من الجنة ، بدل بعض؛ لاشتمالها عليها ، وما بينهما اعتراض ، أو نصب على المدح . و { إلا سلامًا } : منقطع ، أي : لكن يسمعون سلامًا ، ويجوز اتصاله ، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة ، فإن أهل الجنة أغنياء عنه ، فهو داخل في اللغو . و { بالغيب } : حال من عائد الموصول ، أي : وعدها ، أو من العباد ، و { مأتِيًا } : أصله مأتوي ، فأبدل وأدغم كما تقدم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فخَلَفَ من بعدهم } أي : جاء بعد أولئك الأكابر ، { خَلْفٌ } أي : عقب سوء ، يقال لعقب الخير " خَلَفٌ " بفتح اللام ، ولعقب الشر " خلْف " بسكون اللام ، أي : فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء ، { أضاعوا الصلاة } أي : تركوها وأخروها عن وقتها ، { واتبعوا الشهواتِ } ؛ من شرب الخمر ، واستحلال نكاح الأخت ، من الأب ، والانهماك في فنون المعاصي ، وعن علي رضي الله عنه : هم من بَني المُشيد ، وركب المنضود ، ولبس المشهور . قلت : ولعل المنضود : السُرج المرصعة بالجواهر والذهب . وقال مجاهد : هذا عند اقتراب الساعة ، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة . ه . { فسوف يلقون غيًّا } : شرًا ، فكل شر عند العرب غيٌ ، وكل خير رشاد . قال ابن عباس : الغيُّ : واد في جهنم ، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه ، أُعد للزاني المصرِّ ، ولشارب الخمر المدمن ، ولأهل الرياء والعقوق والزور ، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره . ه .
{ إِلا مَن تاب وآمن وعمل صالحًا } ، هذا يدل على أن الآية في الكفار . { فأولئك } المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح ، { يدخلون الجنة } بموجب الوعد المحتوم ، أو يُدخلهم الله الجنة ، { ولا يُظلمون شيئًا } : لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا ، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ، ولا ينقص أجورهم ، إذا صححوا المعاملة مع ربهم .
{ جنات عدنٍ } أي : إقامة ، لإقامة داخلها فيها على الأبد ، { التي وعد الرحمن عبادَه بالغيب } أي : ملتبسين بالغيب عنها لم يروها ، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار ، أو ملتبسة بالغيب ، أي : غائبة عنهم غير حاضرة . والتعرض لعنوان الرحمانية؛ للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى ، { إِنه كان وعده مَأْتِيًّا } ؛ يأتيه من وعُد به لا محالة ، وقيل : هو مفعول بمعنى فاعل ، أي : آتيًا لا محالة ، وقيل : مأتيًا : منجزًا ، من أتى إليه إحسانًا ، أي : فعله .
{ لا يسمعون فيها لغوًا } أي : فضول كلام لا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها . وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه . وفي الحديث : " مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ " وهو عَامٌّ في الكلام وغيره . { إِلا سلامًا } ، أي : لا يسمعون لغوًا ، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا } أي : على قدرهما في الدنيا ، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل ، بل ضوء ونور أبدًا .
(3/474)

قال القرطبي : ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، أي : ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب .
قال القشيري : الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار ، والقصد : أنهم أغنياء مياسير في كل وقت . ه . وسيأتي عند قوله : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } [ الزّخرُف : 71 ] كيفية أرزاقهم .
قال تعالى : { تلك الجنة } : مبتدأ وخبر ، جيء بهذه الجملة؛ لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها ، أي : تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي { التي نُورث } أي : نورثها { مِنْ عبادنا من كان تقيًّا } لله بطاعته واجتناب معاصيه ، أي : نُديمها عليهم بتقواهم ، ونمتعهم بها ، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به ، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ؛ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال . وقيل : يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار ، لو آمنوا وأطاعوا ، زيادة في كرامتهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { فخلف من بعدهم خلف . . . } الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين ، فتنكب عن طريقهم ، فضيّع الدين ، وتكبر على ضعفاء المسلمين ، واتبع الحظوظ والشهوات ، وتعاطى الأمور العلويات ، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه ، أو بالجاه والمال ، كان أغرق في الغي والضلال ، يصدق عليه قول القائل :
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا ... خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا
بل يفخرون بأجداد لهم سلفت ... نِعم الجدود ولكن بئس ما خلَّفوا
إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه ، من العلم النافع والعمل الصالح ، والتواضع للصالح والطالح ، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف ، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب ، ثم صارت عندهم شهادة ، إنه كان وعده مأتيًا ، لا يسمعون فيها لغوًا؛ لأن الحضرة مقدسة عن اللغو ، { إلا سلامًا } ؛ لسلامة صدورهم ، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب ، في كل ساعة وحين ، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله ، وانقطع بكليته إلى مولاه . وبالله التوفيق
ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تَزورنا؟ " .
(3/475)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قلت : وجه المناسبة لما قبله - والله أعلم - : أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم ، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم ، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره ، فقال : { وما نتنزل . . . } الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا لقول جبريل عليه السلام : { وما نتنزَّلُ } عليك يا محمد { إِلا بأمرِ ربك } ، وذلك حين أبطأ الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، فلم يدر كيف يجيب ، ورجا أن يوحي إليه فيه ، فأبطأ عليه أربعين يومًا . قاله عكرمة . وقال مجاهد : ثنتي عشرة ليلة ، أو خمس عشرة . فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة . وقال : " يا جبريل قد اشتقت إليك ، فقال جبريل : إني كنت أَشْوَق ، ولكني عبد مأمور ، إذا بُعثتُ نزلت ، وإذا حُبست احتَبَستُ ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى " ، والتنزل : النزول على مَهَل ، وقد يُطلق على مطلق النزول ، والمعنى : وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى ، على ما تقتضيه حكمته .
وقيل : هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج ، أي : ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه ، وهو مالك المور كلها ، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها ، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله . ه . قلت : ولا يخفى حينئذ مناسبته .
ثم قال : { له ما بين أيدينا وما خَلْفَنا وما بين ذلك } أي : وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ، فلا ننتقل من مكان إلى مكان ، ولا ننزل في زمان دون زمان ، إلا بأمره ومشيئته ، وعن مقاتل : { له ما بين أيدينا } من أمر الدنيا { وما خلفنا } من أمر الآخرة ، { وما بين ذلك } مما بين النفختين ، وهو أربعين سنة . أو ما بين أيدينا بعد الموت ، وما خلفنا قبل أن يخلقنا ، وما بين ذلك مدة حياتنا ، أي : له علم ذلك كلها { وما كان ربك نَسِيًّا } : تاركًا لك ومهملاً شأنك ، أو : ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك؛ لأنه مُحال ، يعني : أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به؛ لحكمة بالغة فيه ، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا ، كما زعمت الكفرة . وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى .
وقوله تعالى : { ربُّ السماوات والأرض وما بينهما } بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى؛ فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان . والفاء في قوله : { فاعبُده واصطَبِرْ لعبادته } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما .
(3/476)

أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام ، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين ، والمعنى على الأول : فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده ، أو حين عرفته تعالى لا ينساك ، أو : ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة ، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة ، { هل تعلم له سَمِيًّا } أي : شبيهًا ونظيرًا ، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله العالي ، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين ، ولا مثل له ، لا موجودًا ولا موهومًا ، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً ، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم ، ولو تجاسر أحدٌ لهلك .
وقيل : إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم ، فخف به وبتلك البلدة . ذكره القشيري في التحبير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به؛ بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته ، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ، ولا حركة ولا سكون ، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون ، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق؛ " ما من نفَس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه " . وقال الشاعر :
مشيناها خطى كُتبت علينا ... ومن كُتبت عليه خطى مشاها
ومن قسمت منيته بأرض ... فليس يموت في أرض سواها
فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته ، كل وقت ينظر ما يفعل الله به ، فبهذا ينجو من التعب ، ويتحقق له الأدب . وبالله التوفيق .
(3/477)

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قلت : { أئذا } : ظرف ، والعامل فيه محذوف ، أي : أأُخرج إذا مت ، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، إلا أن يرخص في الظروف . واللام في { لَسَوْفَ } ليست للتأكيد ، فإنه مُنْكِرٌ ، وكيف يحقق ما ينكر ، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كأنه الذي قال : والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا ، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله ، فنُزلت الآية على ذلك ، قاله الجرجاني : و { الشياطين } : عطف على ضمير المنصوب ، أو مفعول معه . و { جثيًّا } : حال من ضمير { لنحضرنهم } البارز ، أي : لنحضرنهم جاثين ، جمع جاث ، من جثى إذا قعد على ركبتيه ، وأصله : " جثوو " بواوين ، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين ، فكسرت الثاء تخفيفًا ، وانقلبت الواو الأولى ياء؛ لانكسار ما قبلها ، فاجتمعت واو وياء ، وسبقت إحداهما بسكون ، فقُلبت الواو ياء ، وأدغمت الأولى في الثانية ، ومن قرأ بكسر الجيم : فعلى الإتْبَاعِ .
و { أَيُّهُم } : مبني على الضم عند سيبويه ، لأنه موصول ، فحقه البناء كسائر الموصولات ، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة ، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه ، وهو منصوب المحل بلننزعن ، وقرئ منصوبًا على الإعراب ، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء ، وخبره : { أشد } ، والجملة محكية ، والتقدير : لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد . . . الخ . وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ، و { عتيًّا } و { صليًّا } أصلهما : عتوى وصلوى ، من عتى وصلى ، بالكسر والفتح ، فاعلاً بما تقدم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويقول الإِنسانُ } أي : جنس الإنسان ، والمراد الكفرة ، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم ، وإن لم يقله الجميع ، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانًا ، وإنما القاتل واحد ، وقيل : القائل : أُبيُّ بن خَلَف ، فإنه أخذ عظامًا بالية ، ففتتها ، وقال : يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال ، فنزلت . أي : يقول بطريق الإنكار والاستبعاد : { أئذا ما متُّ لسوف أُخرج حيًّا } أي : أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى : { أولا يَذكُرُ الإِنسانُ } ، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر ، ولذلك قُرئ بالتشديد من التذكير . والإظهارُ في موضع الإضمار؛ لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين ، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم ، فهلاّ يذكر أصله! وهو { أنا خلقناه من قبلُ } أي : من قبل الحالة التي فيها ، وهي حالة حياته ، { ولم يكُ شيئًا } أي : والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً ، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر؛ لأن الإعادة أسهل من البدء .
قال تعالى : { فوربّك لنحشرنهم } أي : لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعدما أخرجتهم من الأرض .
(3/478)

وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام -؛ لتحقيق الأمر ، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ ، وتفخيم شأنه ، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم ، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده ، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به ، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال ، أي : حيث ذكر الحشر وما بعده . ولم يصرح بنفس البعث؛ لتحقق وضوحه ، وإنما قال : { فوربّك لنحشرنهم } أي : نجمعهم { والشياطينَ } المغوين لهم ، إلى المحشر ، وقيل : إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم ، كل منهم مع شيطانه في سلسلة ، { ثم لنحضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا } : باركين على ركَبِهم؛ لما يدهمُهم من هول المطلع ، والجثو : جلسة الذليل الخائف .
والآية كما ترى ، صريحة في الكفرة ، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم ، جُثاة؛ إهانة بهم ، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف . وأما قوله تعالى : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجَاثيَة : 28 ] فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب ، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام ، قلت : ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب ، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه ، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم ، كما في الحديث .
{ ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ } أي : من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان ، { أيُهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا } أي : من كان منهم أعصى وأعتى ، فيطرحهم فيها . قال ابن عباس : أي : أيهم أشد جرأة ، وقال مجاهد : فجورًا وكذبًا ، وقال مقاتل : علوًا ، أو غلوًا في الكفر ، أو كبرًا ، وقال الكلبي : قائدهم ورأسهم ، أي : فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب ، ثم الذي يليهم جرمًا . وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة ، إذا قلنا بعموم الآية ، وأما إذا خصصناها بالكفرة ، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب .
قال تعالى : { ثم لنَحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليًّا } أي : أولى بصليها وأحق بدخولها ، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا ، أو رؤوسهم ، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم .
{ وإِن منكم إِلا وارِدُها } ، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء ، وقرئ : " وإن منهم " . ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق ، أي : وإن منكم أيها الناس { إلا واردها } أي : واصلها وحاضرها ، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة ، وتنهار بغيرهم . وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال : " إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ : قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ " وأما قوله تعالى : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فالمراد به الإبعاد عن عذابها ، وقيل : ورودها : الجواز على الصراط بالمرور عليها .
وعن ابن مسعود : الضمير في { واردها } للقيامة ، وحينئذ فلا يعارض : { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } [ الأنبياء : 102 ] ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب ، ولا مرور على الصراط ، فضلاً عن الدخول فيها ، على أنه اختلف في الورود ، فقيل : الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن .
(3/479)

وقيل : المرور كما تقدم ، وقيل : الإشراف عليها والاطّلاع . قال القشيري : كلٌّ يَرِدُ النارَ ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات ، والزلل ، فأشدُّهم فيها انهماكًا : أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا ، وأما بريء الساحة ، نقي الجانب بعيد الذنوب ، فكما في الخبر : " إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن - أي : جامدة كجمود اللبن حين يسخن - فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم : عبرتم وما شعرتم " . ه .
{ كان على ربك حتمًا مقضيًّا } أي : كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته ، وقضى أنه لا بد من وقوعه . وقيل : أقسم عليه ، ويشهد له : " إلا تحلة القسم " .
{ ثم نُنَجِّي الذين اتقوا } الكفرَ والمعاصي ، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا ، على تفسير الورود بالدخول ، وعن جابر أنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الوُرودُ الدُّخولُ ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا ، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا ، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم ، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ " وإن فسرنا الورود بالمرور ، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها ، { ونذَرُ الظالمين فيها جِثيًّا } : باركين على ركبهم ، قال ابن زيد : الجثي شر الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به . ه .
الإشارة : من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها ، حتى تكون نصب عينيه ، فإنه يرد على الله كريمًا . ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها ، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . ومن أراد سرعة المرور على الصراط ، فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم ، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط ، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط .
قال في الإحياء ، لما تكلم على العدل في الكيل والوزن ، قال بعد كلامه : وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته ، فالويل له إن عدل عن العدل ، ومال عن الاستقامة ، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى : { وإن منكم إلا واردها . . . } الآية ، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة ، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا ، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص ، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم ، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين ، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل ، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه؛ فإنه أدق من الشعرة ، وأحدّ من السيف ، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار ، الذي من صفته أنه أدق من الشعر ، وأحدّ من السيف ، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط .
(3/480)

ه .
وقال الترمذي الحكيم : يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار ، قال الله تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] ، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم ، فهم يمضون في النار ، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض : أليس قد وُعدنا النار ، فذكر ما تقدم . ثم قال : فأما ضجة النار فمن بردهم ، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب ، فبالرحمة نالوا النور ، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم ، فكان نوره في قلوبهم ، والرحمة مظلة عليهم ، فخمدت النار من بردهم عندما لقُوهَا ، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة ، فخافت أن تضعف عن الانتقام . ولذلك رُوي أنها تقول : " جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي " . ه .
وقال الورتجبي : إذا كان جمال الحق مصحوبهم ، فلا بأس بالوقوف في النيران ، فإن هناك أهل الجنان .
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها ... زلال وسَلسال وسيحانها وِرْدُ
. . ه .
وقال جعفر الصادق : لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار ، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم ، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار ، ألا ترى الله يقول : { ثم نُنجي الذين اتقوا } . ه . قلت : وقد تقدم أن من لا حساب عليهم - وهم المقربون - يمرون على الصراط ولا يحسون به ، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه ، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه ، آمين .
(3/481)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قلت : { هم أحسن } : صفة لِكَمْ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإِذا تُتلى عليهم } ؛ على الكفرة { آياتُنا } الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم ، والناطقة بحسن عاقبة المؤمنين ، حال كونها { بيناتٍ } : واضحات في نفسها ، أو بينات الإعجاز ، أو بينات المعاني ، { قال الذين كفروا } أي : قالوا ، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يُتلى عليهم رادين له ، أو : قال الذين تمرَّدوا في الكفر والعتو؛ وهم النضر بن الحارث وأتباعه ، قالوا { للذين آمنوا } ، اللام للتبليغ ، أي : قالوا مبلغين الكلام لهم ، وقيل : لام الأجل ، كقوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] أي : لأجلهم وفي حقهم ، والأول أولى؛ لأن الكلام هنا كان معهم بدليل قوله : { أيُّ الفريقين } أي : المؤمنين والكفار ، { خيرٌ } كأنهم قالوا : أينا { خيرٌ مقامًا } أي : مكانًا : نحن أو أنتم ، وقرئ بالضم ، أي : موضع إقامة ومنزل ، { وأحسنُ نَدِيًّا } ؛ مجلسًا ومجتمعًا ، أو : أينا خير منزلاً ومسكنًا ، وأحسن مجلسًا؟
يُروَى أنهم كانوا يُرجلون شعورهم ويدهنونها ، ويتزينون بالزينة الفاخرة ، ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين ، يريدون بذلك أن خيريتهم ، حالاً ، وأحسنيتهم ، مقالاً ، مما لا يقبل الإنكار ، وأنَّ ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده ، وأنَّ الحال التي عليها المؤمنون ، من الضرورة والفاقة ورَثَاثَةِ الحال؛ لقصور حظهم عند الله . وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جَهلةً لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا ، وذلك مبلغهم من العلم ، فردَّ عليهم بقوله : { وكم أهلكنا قبلهم من قَرْنٍ هم أحسنُ أثاثًا } : مالاً ومتاعًا { ورِءْيًا } ؛ منظرًا ، أي : كثيرًا من القرون التي كانوا أفضل منهم ، فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية ، كعاد وثمود وأضرابهم العاتية قبل هؤلاء ، أهلكناهم بفنون العذاب ، ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، لما فعلنا بهم ما فعلنا ، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى ، كأنه قيل : فلينتظر هؤلاء أيضًا مثل ذلك .
و { أثاثًا } : تمييز ، وهو متاع البيت ، أو ما جد منه ، و { رِءْيًا } : كذلك ، فِعْل من الرؤية بمعنى المنظر ، قال ابن عزيز : " رءيا " بهمزة ساكنة : ما رأيت عليه من شارة حسنة وهيئة ، وبغير همز : يجوز أن يكون على معنى الأول ، ويجوز أن يكون من الريّ . أي : منظرهم مُرتو من النعمة . وَزِيًّا ، بالزاي المعجمة ، في قراءة ابن عباس ، يعني هيئة ومنظرًا . ه .
الإشارة : رفعة القدر والمقام لا تكون بالتظاهر بمفاخر اللباس والطعام ، ولا بحسن الهيئة ومنظر الأجسام ، وإنما يكون باحتظاء القلوب بمعرفة الله ، وتمكين اليقين من القلوب ، واطلاعها على أسرار الغيوب ، مع القيام بوظائف العبودية ، أدبًا مع عظمة الربوبية ، ونسيان النفوس والاشتغال عنها بالعكوف في حضرة القدوس ، فأهل القلوب لا يعبأُون بظواهر الأشباح ، وإنما يعتنون بحياة الأرواح .
كمل حقيقتك التي لم تَكْمُلِ ... والجسم دعه في الحضيض الأسفل
فقوت قلوبهم التواجد والأذكار ، وحياة أرواحهم العلوم والأسرار ، وأنشدوا :
بالقوت إحياءُ الجسوم وذكره ... تحيا به الألباب والأرواح
هو عيشهم ووجودهم وحياتهم ... حقًا ورَوْح نفوسهم والرَّاح
وأما من عَظُمَ جهلُه ، وكَثُفَ حجابه ، فإنما ينظر إلى بهجة الظواهر وتزيينها بأنواع المفاخر ، أو إلى من عظم جاهه وكثرت أتباعه ، وهذه نزعة جاهلية ، حيث قالوا حين يُتلى عليهم الوعظ والتذكير : ( أي الفريقين خير مقامًا وأحسن نديًا ) ، { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } [ الرُّوم : 7 ] . وبالله التوفيق .
(3/482)

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قلت : { ويزيد } : عطف على { فليَمدُد } ؛ لأنه في معنى الخبر ، أي : من كان في الضلالة يمده الله فيها ، ويزيد في هداية الذين اهتدوا مددًا لهدايتهم ، أو عطف على { فسيعلمون } ، وجمع الضمير في { رَأَوا } وما بعدها؛ باعتبار معنى { مَنْ } ، وأفرد أولاً باعتبار لفظها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قُلْ } يا محمد { مَنْ كان } مستقرًا { في الضلالة } مغمورًا في الجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، مشتغلاً بالحظوظ الفانية ، { فليَمْدُدْ له الرحمنُ مَدَّا } أي : يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ ، إما استدراجًا ، كما نطق به قوله تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عِمرَان : 178 ] ، أو قطعًا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّر } [ فاطر : 37 ] ، أو : { فليمدد له } : يدعه في ضلاله ، ويمهله في كفره وطغيانه ، كقوله تعالى : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] . والتعرّض لعنوان الرحمانية؛ لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك .
وكأنه جلّ جلاله لما بيَّن عاقبة الأمم المهلَكة ، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لَهُم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين ، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم ، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم ، كما بيَّن ذلك بقوله : { حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون } ، فهو غاية للحد الممتد ، أي : نمد لهم في الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون؛ { إِمَّا العذاب } الدنيوي بالقتل ، والأسر ، وغلبة أهل الإيمان عليهم ، { وإِمَّا الساعةَ } ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان ، و " إما " هنا : لمنع الخُلو ، لا لمنع الجمع؛ فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال .
{ فسيعلمون } حينئذ { مَن هو شرٌّ مكانًا } من الفريقين ، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يُقدّرون ، فيعلمون أنهم شر مكانًا ، لا خير مقامًا ، { و } يعلمون أنهم { أضعفُ جندًا } أي : جماعة وأنصارًا ، لا أحسن نَدِيًّا ، كما كانوا يدعونه ، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندًا سيَضعف ، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وإنما ذكر ذلك ردًّا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانًا وأنصارًا ، يفتخرون في الأندية والمحافل ، فردَّ ذلك بأنه باطل وظل آفل ، ليس تحته طائل .
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال : { ويزيدُ اللهُ الذينَ اهتدوا هُدَىً } أي : كما يمد لأهل الضلالة؛ زيادة في ضلالهم ، كذلك يزاد في هداية أهل الهداية؛ ثوابًا على طاعتهم؛ لأن كلا يجزي بوصفه ، فلا تزال الهداية تنمو في قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم ، أمَّا في الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب ، فما كانوا يؤمنون به غيبًا صار عيانًا ، وأمَّا في الآخرة فبنعيم الحور والقصور ، ورؤية الحليم الغفور .
(3/483)

فقد بيَّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين ، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله ، وإن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه ، بل قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا الفانية ، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية ، قال تعالى : { والباقياتُ الصالحاتُ } ؛ كأنواع الطاعات ، { خيرٌ عند ربك } ؛ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها . . . وقد تقدم تفسيرها .
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه ، أي : فهي أفضل { ثوابًا } أي : عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية ، التي يفتخرون بها؛ لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم ، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم في دار الدوام ، كما أشير إليه بقوله : { وخيرٌ مَرَدًّا } أي : مرجعًا وعاقبة ، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها في التفضيل ، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة ، ففيه نوع تهكم بهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الحق - جلّ جلاله - يرزق العبد على قدر نيته ، ويمده على قدر همته ، فمن كانت همته في الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية ، أمده الله فيها ، ومتعه بها ما شاء ، على حسب القسمة ، ثم أعقبه الندم والحسرة ، ومن كانت همته الآخرة ، أمده سبحانه في الأعمال التي تُوصله إلى نعيمها ، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم ، وأذاقه من حلاوتها ما يُهون عليه مرارتها ، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور ، وأنواع الطيبات ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .
ومن كانت همته الله - أي : الوصول إلى حضرته دون شيء سواه - أمده الله في الأعمال التي توصله إليه ، وهي أعمال القلوب؛ من التخلية والتحلية ، كالتخلية من الرزائل والتحلية بالفضائل ، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات ، ورأس ذلك أن يُوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، قد سلك الطريق على شيخ كامل ، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل . وبالله التوفيق .
(3/484)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في حق العاص بن وائل : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا } : القرآن المشتمل على البعث والحساب قال خبَّاب بن الأرَت : كان لي على العَاصِ بن وَائِل دِيْنٌ ، فاقْتَضيتُه ، فقَالَ : لاَ ، والله لا أَقْضيكَ حتى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ ، فَقُلْتُ : لا والله لا أَكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثم تُبعثَ ، قال العاص : فإذا مِتُّ ثم بُعثتُ ، جئتني وسيكون لي ثمَّ مالٌ وولدٌ ، فأعطيك ، لأنكم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة - استهزاء واستخفافًا - وفي رواية البخاري : " كُنت قَيْنَا في الجاهلية ، فصنعتُ للعاصي سيفًا فجئتُ أتَقَاضَاهُ . . . " فذكر الحديث . فالهمزة للتعجيب من حاله ، للإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يقضي منها العجب ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، أي : أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي من حقها أن يؤمن بها كل من شاهدها
{ وقال } مستهزءًا بها ، مصدّرًا باليمين الفاجرة : والله { لأُوتَينَّ } في الآخرة { مالاً وولدًا } أي : انظر إلى حاله فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة ، { أَطَّلَع الغيبَ } أي : أبلغ من عظمة الشأن إلى أن يرتقي إلى علم الغيب ، الذي استأثر به العليم الخبير ، حتى ادعى أن يُؤتى في الآخرة مالاً وولدًا ، وأقسم عليه ، { أم اتخذ عند الرحمن عَهْدًا } بذلك ، فإنه لا يتوصل إلى العلم بذلك إلا بأحد هذين الطريقين ، وهذا رد لكلمته الشنعاء ، وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إلى التعجب منها .
والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بِعِلِّية الرحمة للإيتاء ، فإن الرحمة تقتضي الإعطاء على الدوام . والعهد : قيل : كلمة الشهادة ، أو العمل الصالح ، فإن وعده تعالى بالثواب عليها كالعهد ، قال القشيري : { أَطَّلَع الغيبَ } فقال بتعريف له منا ، { أم اتخذ عند الرحمن عهدًا } أي : ليس الأمر كذلك . ثم قال : ودليل الخطاب يقتضي أن المؤمن إذا أمَّلَ من الله شيئًا جميلاً ، فالله تعالى يحققه له؛ لأنه على عهد مع الله تعالى ، والله لا يُخلف الميعاد . ه .
ثم أبطل ما أمله الكافر فقال : { كلا } أي : انزجر عن هذه المقالة الشنيعة ، فهو ردع له عن التفوه بتلك العظيمة ، وتنبيه على خطئه ، قال تعالى : { سنكتبُ ما يقول } أي : سنظهر ما كتبنا عليه ، فهو كقول الشاعر :
إذَا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... أي : تبين أني لم تلدني لَئِيمَةٌ ، أو : سنحفظ عليه ما يقول فنجازيه عليه في الآخرة ، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمةً في الحال ويجازى عليها في المآل ، فإن نفس الكتابة لم تتأخر عن القول لقوله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] ، قال ابن جزي : إنما جعله مستقبلاً؛ لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل . ه .
قلت : والظاهر إنما أبرزه بصورة المستقبل ، تنبيهًا على عدم نسخه ، وأنه ماض نافذ .
(3/485)

قاله في الحاشية .
{ ونَمُدُّ له من العذاب مَدًّا } ، مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والأولاد ، أي : نطول له من العذاب ونمد له فيه ما يستحقه ، أو نزيد في مضاعفة عذابه ، لكفره وافترائه على الله سبحانه ، واستهزائه بآياته العظام ، ولذلك أكده بالمصدر ، دلالةً على فرط الغضب والسخط .
{ ونَرِثُه ما يقولُ } ، قال مكي : حرف الجر محذوف ، أي : نرث منه ما يقول . ه . والظاهر أن { ما } : بدل من الضمير ، وهو الهاء ، أي : نرث ما يقول وما يدعيه لنفسه اليوم من المال والولد . وفيه إيذان بأنه ليس لما يقول مصداق موجود سوى القول ، أي : ننزع منه ما آتيناه ، { ويأتينا } يوم القيامة { فرْدًا } لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا ، فضلاً أن يؤتى ثمَّةَ مالاً وولدًا زائدًا . وقال القشيري : فردًا بلا حجة على قوله وقَسَمِه : { لأوتين مالاً وولدًا } ، وذلك منه استهزاء ومحض كفر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يُفهم من الآية أن الإنسان إذا آمن بآيات الله وعمل بما أمره الله يكون له عهد عند الله ، فإذا تمنى شيئًا أو منَّاه غيره لا يخيبه الله ، ويتفاوت الناس في العهد عند الله ، على قدر تفاوتهم في طاعته ومعرفته ، وسيأتي في قوله : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريَم : 87 ] زيادة بيانه . والله تعالى أعلم .
(3/486)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
يقول الحقّ جلّ جلاله : واتخذ المشركون الأصنام { آلهةً } يعبدونها من دون الله { ليكونوا لهم عِزًّا } يوم القيامة ، ووصلة عنده يشفعون لهم ، { كلا } لا يكون ذلك أبدًا ، فهو ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل ، وإنكارٌ لوقوع ما علَّقوا به أطماعَهم ، { سيكفرون بعبادتهم } أي : تجحد الآلهة عبادتَهم لها ، بأن يُنطقهم الله تعالى وتقول ما عبدتمونا ، أو : سيكفر الكفرة عبادتهم لها حين شاهدوا سوء عاقبة عبادتهم لها ، كقوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعَام : 23 ] ، { ويكونون عليهم ضِدًا } أي : تكون الآلهة ، التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزًا ، ضدًا للعز ، أي : ذلاً وهوانًا؛ لأنهم تعززوا بمخلوق بسخط الخالق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من طلب رضا المخلوق بمعصية الخالق عاد حامده من الناس ذامًّا " وتكون عونًا عليهم ، وآلة لعذابهم ، حيث تجعل وقود النار وحَصَب جهنم ، أو تكون الكفرة ضدًا وأعداء للآلهة ، كافرين بها ، بعد أن كانوا يُحبونها كحب الله ، ويعبدونها من دون الله ، وتوحيد الضد؛ لتوحيد المعنى الذي عليه تدور مضادتهم ، فإنهم بذلك كشيء واحد ، كقوله عليه الصلاة والسلام : " وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " .
وسب عبادتهم للأصنام تزيين الشيطان ، وَفَاء بقوله : { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض } [ الحِجر : 39 ] ، كما قال تعالى : { ألم تَرَ أنا أرسلنا الشياطينَ على الكافرين } أي : سلطهم عليهم ومكنهم من إغوائهم ، بقوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ } [ الإسرَاء : 64 ] الآية .
وهذا تعجيب لرسوله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة عن هؤلاء الكفرة ، العتاة المردة ، من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل ، والتمادي في الغي ، والانهماك في الضلال ، والتصميم على الكفر ، من غير صارف يلويهم ، ولا عاطف يثنيهم ، وإجماعهم على مدافعة الحق بعد اتّضاحه ، وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم ، لا أن له مسوغًا في الجملة ، أي : ألم تر ما فعلت الشياطين بالكفرة حتى صدر منهم ما صدر من تلك القبائح والعظائم ، وليس المراد تعجيبه عليه السلام من مطلق إرسال الشياطين عليهم ، كما يوهمه تقليل الرؤية ، بل عما صدر عنهم من حيث إنها من آثار إغواء الشياطين ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { تَؤُزهُم أزًّا } أي : تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجًا شديدًا ، بأنواع الوساوس والتسويلات . فالأز والاستفزاز أخوان ، معناهما : شدة الانزعاج ، وجملة { تؤزّهم } : حال مقدرة من الشياطين ، أو استئناف وقع جوابًا عن صدر الكلام ، كأنه قيل : ماذا تفعل بهم الشياطين؟ قال : { تؤزّهم أزًّا } .
{ فلا تعجل عليهم } بأن يهلكوا حسبما تقتضي جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم ، وتطهرُ الأرض من فسادهم ، { إِنما نعدّ لهم عَدًّا } أي : لا تستعجل بهلاكهم ، فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس قلائل نعدها عدًا ، ثم نأخذهم أخذًا . والله تعالى أعلم .
(3/487)

الإشارة : كل من اتخذ شيئًا يتعزز به من دون الله وطاعته انقلب عليه ذُلاً وهوانًا ، ولذلك قيل : " من تعزز بمخلوق مات عزه " . فإن أردت عزًا لا يفنى فلا تتعزز بعز يفنى ، وهو التعزز بالمال أو الجاه ، أو غير ذلك مما يفنى ، وسيأتي عند قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } [ فاطر : 10 ] . { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنَافِقون : 8 ] زيادة بيان . وكما أرسل الحق تعالى الشياطين على الكافرين تزعجهم إلى المعاصي أرسل الملائكة والواردات الإلهية إلى المؤمنين تنهضهم إلى طاعة الله ، وتزعجهم إلى السير لمعرفة الله . فالملائكة تحرك العبد إلى الطاعة ، والواردات تزعجه إلى الحضرة ، تخرجه عن عوائده وتدمغ له مِن علائقه ، وعوائقه ، حتى ينفرد لحضرة الحق : وفي الحكم : " الوارد يأتي من حضرة قهار ، لأجل ذلك لا يصادمه شيء إلا دمغه؛ { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } . وقال أيضًا : " متى وردت الواردات الإلهية عليك هدمت العوائد لديك؛ " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها " .
وقال القشيري على قوله : { تؤزهم أزًّا } : أي : تزعجهم إزعاجًا ، فخاطر الشيطان يكون بإزعاج وظلمة ، وخاطر الحقِّ يكون بَروْحٍ وسكون ، وهذه إحدى الفوارق بينهما . ه . قلت : ومن الفوارق أيضًا : أن خاطر الحق لا يأمر إلا بالخير مع برودة وانشراح في القلب وسكون وأناة . . . وفي الحديث : " العجلة من الشيطان ، والأناة من الرحمن " ه . بخلاف خاطر الشيطان؛ فإنه لا يأمر إلا بالشر ، وقد يأمر بالخير إذا كان يجرُّ به إلى الشر ، وعلامته أن يكون فيه ظلمة ودَخن وعجلة وبطش ، وقد استوفى الكلام عليهم في النصيحة الكافية . وبالله التوفيق .
(3/488)

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
قلت : { يوم نحشر } : إما ظرف لفعل مؤخر؛ للإشعار بضيق العبارة عن حصره؛ لكمال جماله أو فظاعته ، والتقدير : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن ، ونسوق المجرمين ، نفعل بالفريقين ما لا يفي به نطاق المقال ، أو ظرف لاذكر ، و { وفْدًا } و { وِرْدًا } : حالان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يوم نحشرُ المتقين } : نجمعهم { إلى الرحمن } أي : إلى ربهم يغمرهم برحمته الواسعة ، { وَفْدًا } : وافدين عليه ، كما يفد الوفود على الملوك ، منتظرين لكرامتهم وإنعامهم . وعن عليّ كرم الله وجهه : ( لما نزلت هذه الآية ، قلت : يا رسول الله ، إني قد رأيت الملوك ووفودهم ، فلم أر وفدًا إلا راكبًا ، فما وفد الله؟ قال : " يا عليّ؛ إذا حان المنصَرَفُ من بين يدي الله ، تلقت الملائكة المؤمنين بنُوقٍ بيض ، رِحالُهَا وأزِمَّتُها الذَهَبُ ، على كل مركب حُلة لا تُساويها الدنيا ، فيلبس كل مؤمن حلّة ، ثم يستوون على مراكبهم ، فتهوي بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } " . { ونَسُوقُ المجرمين } كما تُساق البهائم { إِلى جهنم وِرْدًا } : عطاشًا ، فإن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش ، أو كالدواب التي ترد الماء ، أي : يوم نحشر الفريقين نفعل ما نفعل مما لا يفي به نطاق العبارة ، لما يقع فيه من الدواهي الطامة ، أو الكرائم العامة ، أو : اذكر يوم نحشر الفريقين ، على طريق الترغيب والترهيب .
وقوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة } : استئناف مبين لما فيه من الأمور الدالة على هوله ، وضمير الواو : إما لجميع العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيها ، أو إلى المتقين فقط ، أو إلى المجرمين .
و { مَن اتخذ } : منصوب على الاستثناء ، أو بدل من الواو ، أي : لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى ، ففيه ترغيب للعباد في تحصيل الإيمان والتقوى ، المؤدي إلى نيل هذه الرتبة العليا . أو لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام والعمل الصالح ، أو لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلمًا ، فيشفع في مثله . فَمَن ، على هذا الثالث ، بدل من الواو فقط . والأول أحسن؛ لعمومه .
قال ابن مسعود رضي الله عنه : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " أما يَعْجزُ أَحدكُمْ أَنْ يتَّخِذَ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَساءٍ عَهدًا عِند اللهِ ، يَقُولُ كُلَّ صَبَاحٍ ومَساءٍ : اللهُمَّ فَاطِرَ السماوَاتِ والأرْض ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادةِ ، إنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ في هذهِ الحياةَ الدنيا ، بأَنِي أشْهَدُ أنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أنتَ ، وَحْدكَ لا شَرِيكَ لَكَ ، وأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ ورَسُولُكَ ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإِنَكَ إنْ تَكلْنِي إلى نَفسْي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشرِّ وتُبَاعِدْنِي مِنَ الخَيْرِ ، وإنّي لاَ أَثِقُ إلاَّ بِرَحْمَتِكَ ، فاجَْلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوفِّينِيه يَوْمَ القِيامَةِ ، إنَّكَ لا تُخْلفُ المِيعادَ . فإذا قالَ ذَلِكَ طُبعَ عَلَيْهِ طابَع ووُضِعَ تَحْتَ العَرْشِ ، فَإذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَىَ مُنَادٍ : أَيْنَ الذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الجنَّة "
(3/489)

ه .
الإشارة : ورود العباد على الله يوم القيامة يكون على قدر ورودهم إليه اليوم في الدنيا ، فبقدر التوجه إليه اليوم تعظم كرامة وروده في الآخرة ، فمن ورد على الله تعالى من باب الطاعة الظاهرة حملته صور الطاعات إلى الآخرة ، ومن ورد من باب الطاعات القلبية حملته الأنوار إلى الفراديس العالية ، ومن ورد من باب الطاعات السرية - كالفكرة والنظرة في مقام المشاهدة - حمله الحق إلى الحضرة القدسية ، فيكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف في قوله تعالى : { وفدًا } : قيل : ركبانًا على نجائب طاعتهم ، وهم مختلفون ، فمن راكب على صور الطاعات ، ومن راكب على نجائب الهمم ، ومن راكب على نجائب الأنوار ، ومن محمول يحمله الحق في عقباه ، كما يحمله اليوم في دنياه ، وليس محمول الحق كمحمول الخلق . ه .
وقوله تعالى : { لا يملكون الشفاعة . . . } الآية ، اعلم أن العهد الذي تكون به الشفاعة يوم القيامة هو الطاعة وتربية اليقين والمعرفة ، فتقع الشفاعة لأهل الطاعات على قدر طاعتهم وإخلاصهم ، وتقع لأهل اليقين على قدر يقينهم ، وهم أعظم من أهل المقام الأول ، وتقع لأهل المعرفة على قدر عرفانهم ، وهم أعظم من القسمين ، حتى إن منهم من يشفع في أهل عصره كلهم ، وقد سَمِعْتُ من شيخنا الفقيه ، شيخ الجماعة سيدي التاودي بن سودة ، أن بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفعني في أهل زماني ، فقال له الحق تعالى - من جهة الهاتف - : لم يبلغ قدرك هذا ، فقال : يا رب إن كان ذلك من جهة عملي واجتهادي فَلَعَمْرِي إنه لم يبلغ ذلك ، وإن كان من جهة كرمك وجودك فوعزتك وجلالك لهو أعظم من هذا ، فقال له : إني شفعتك في أهل عصرك . ه . بالمعنى . فمن رجع إلى كرم الله وجوده ، ودخل من هذا الباب ، وجد الإجابة أقرب إليه من كل شيء . وبالله التوفيق .
(3/490)

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
قلت : { هَدًّا } : مصدر مؤكد لمحذوف ، هو حال من الجبال ، أي : تهد هدًا . و { أن دعوا } : على حذف اللام ، أي : لأن دعوا ، وفيه احتمالات أُخر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا اتخذ الرحمنُ ولدًا } هذه المقالة صدرت من اليهود والنصارى ، ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله ، لعن الله جميعهم ، فسبحان الله وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا ، فحكى جنايتهم إثر جناية عَبَده الأصنام ، وعطف القصة على القصة لاشتراكهم في الضلالة ، قال تعالى في شأنهم : { لقد جئتم شيئًا إِدًّا } أي : فعلتم أمرًا منكرًا شديدًا ، لا يقادر قدره ، فهو رد لمقالتهم الباطلة ، وتهويل لأمرها بطريق الالتفات المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب ، المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح ، وتسجيل عليهم بغاية الوقاحة والجهل . و { جاء } يستعمل بمعنى فعل ، فيتعدى تعديته ، والإد - بكسر الهمزة وفتحها ، وقُرئ بهما في الشاذ - : العظيم المنكر ، الإدُّ : الشدة ، قيل : الأدُّ : في كلام العرب : أعظم الدواهي .
ثم وصفه وبيّن هوله فقال : { تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه } : يتشققن مرة بعد أخرى ، من عظم ذلك الأمر وشدة هوله ، وهو أبلغ من " ينفطرن " كما قرئ به ، { وتنشقُّ الأرضُ } أي : وتكاد تنشق وتذهب ، { وتخرُّ الجبالُ } أي : تسقط وتنهدم { هَدًّا } بحيث لا يبقى لها أثر . والمعنى : أن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها ، بحيث لو تصورت بصورة محسوسة ، لم يُطق سمعها تلك الأجرام العظام ، ولتفتتت من شدة قبحها ، أو : إن فظاعتها واستجلاب الغضب والسخط بها بحيث لولا حلمه تعالى ، لخر العالم وتبددت قوائمه ، غضبًا على من تفوه بها . قال محمد بن كعب : كاد أعداء الله أن يقيموا علينا الساعة ، يعني : لأن ما ذكر أوصاف الساعة .
وذلك { أن دَعَوا للرحمنِ ولدًا } أي : تكاد تنفطر السماوات وتنشق الأرض ، وتنهدم الجبال؛ لأجل أن دعوا ، أي : نسبوا أو سموا للرحمن ولدًا ، { وما ينبغي للرحمنِ أن يتخِذَ ولدًا } أي : قالوا اتخذ الرحمن ولدًا ، أو دعوا له ولدًا ، والحال أنه مما لا يليق به تعالى اتخاذ الولد؛ لاستحالته عليه تعالى . ووضع الرحمن موضع الضمير؛ للإشعار بعلية الحكم؛ لأن كل ما سواه تعالى منعَّم عليه برحمته ، أو نعمة من أثر الرحمة ، فكيف يتصور أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولى أصولها وفروعها ، حتى يتَوهم أن يتخذه ولدًا ، وقد صرح به قوله عزّ قائلاً : { إِن كل من في السماوات والأرض } أي : ما منهم من أحد من الملائكة أو الثقلين { إِلا آتي الرحمنِ عبدًا } ؛ مملوكًا لله في الحال بالانقياد وقهرية العبودية . { لقد أحصاهم } أي : حصرهم وأحاط بهم ، بحيث لا يخرج أحد من حيطة علمه ، وقبضة قدرته وقهريته ، ما وجد منهم وما سيوجد ، وما يقدر وجوده لو وجد ، كل ذلك في علمه وقضائه وقدره وتدبيره ، لا خروج لشيء عنه ، وفي ذلك تصوير لقيام ربوبيته على كل شيء ، وأنه عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً ، { وكلهم آتيه يومَ القيامةِ فردًا } أي : وكل واحد منهم يأتي يوم القيامة فردًا من الأموال والأنصار والأتباع ، متفردًا بعمله ، فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كذلك فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئًا منهم ولدًا؟! .
(3/491)

وفي الحديث القدسي : " قال الله تعالى : كذَّبني عبدي ، ولم يكن له ذلك ، وشَتمني عبدي ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبُهُ إيايَ؛ فأن يقولَ : من يُعيدُنا كما بَدأنا؟ وأما شَتمُه إياي؛ فأن يقول : اتخذ الله ولدًا ، وأنا الأحدُ الصمدُ ، لم أَلِد ولم أُولدَ ، ولم يكن لي كُفوًا أحد " وهو في البخاري . وفي صيغة اسم الفاعل في قوله : { آتيه } من الدلالة على إتيانهم كذلك ألبتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا علمت أيها المؤمن أن الحق جلّ جلاله يغضب هذا الغضب الكلي على من أشرك مع الله ، أو اعتقد فيه ما ليس هو عليه من التنزيه وكمال الكمال ، فينبغي لك أن تخلص مَشربَ توحيدك من الشرك الجلي والخفي ، علمًا وعقدًا وحالاً وذوقًا ، حتى لا يبقى في قلبك محبة لشيء من الأشياء ولا خوف من شيء ، ولا تعلق بشيء ، ولا ركون لشيء ، إلا لمولاك ، وحينئذ يصفي مشرب توحيدك ، وتكون عبدًا لله خالصًا حرًا مما سواه ، ومهما بقي فيك شيء من محبة الهوى نقص توحيدك بقدره ، ولم تصل إليه ما دمت تميل إلى شيء سواه . وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
إنْ تُرِدَ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
فكن عبدًا لله حقيقة ، وانخرط في سلك قوله : { إِن كل من في السماوات والأرض إِلا آتي الرحمن عبدًا } . فحينئذ تكون حرًا مما سواه ، وَيملكك الوجود بأسره ، يكون عند أمرك ونهيك . وفي ذلك يقول القائل :
دَعَوْني لملكهم فلما أجبتهم ... قالوا دعوناك للمُلك لا للمِلك
وإذا فتحت عين القدرة وعين الحكمة وضعت كل شيء في محله ، فتتنزه بعين القدرة في رياض الملكوت وبحار الجبروت ، وتتنزه بعين الحكمة في بهجة الملك وأسرار الحكمة . فعين القدرة تقول : كل من في السماوات والأرض عبد مملوك تحت قهرية ذاته ، فاعرف الضدين ، وأنزل كل واحد في محله ، تكنْ عارفًا بالله ، فإن أردت أن تعرفه بضد واحد بقيت جاهلاً به . فالحكمة تثبت العبودية صورة؛ صونًا لكنز الربوبية ، والقدرة تغيبك عنها بشهود أسرار الربوبية ، وفي الحكم : " سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية " .
فالعبودية لازمة من حيث العبد ، والغيبة عنها واجبة من حيث الرب ، فإثبات العبودية ، حكمةً ، فرق ، والغيبة عنها في شهود أنوار الربوبية : جمع ، فالعارف مجموع في فرقه ، مفروق في جمعه .
(3/492)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قلت : لما استحقر الكفرةُ أحوالَ المؤمنين حتى قالوا : { أينا خير مقامًا وأحسن نديًّا } ، أخبر الله تعالى المؤمنين وبشرهم أنهم سيعزهم ويلقى مودتهم في قلوب عباده .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعلُ لهم الرحمن } في قلوب الناس مودة وعطفًا ، حتى يحبهم كل من سمع بهم ، فيحبهم ويحببهم إلى عباده من أهل السماوات والأرض ، أي : سيحدث لهم في القلوب مودةً من غير تعرض لأسبابها ، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح ، أو { وُدًّا } فيما بينهم ، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله .
قال القشيري : يجعل في قلوبهم ودًّا لله ، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة ، وفي الخبر : " لا يزال العبد يتقرب إليَّ بالنوافل حتى يحبني وأحبه " . والتعرض لعنوان الرحمانية؛ لِمَا أنَّ الموعود من آثارها ، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ رضي الله عنه : " قل اللهُمَّ اجْعَلْ لِي عِنْدكَ عَهْدًا ، واجعل لِي في صُدُورِ المؤمِنِينَ مَوَدَّةً " فنزلت الآية . وفي حديث البخاري وغيره : " إِذا أحَبَّ اللهُ عبدًا قال لجبْريل : إني أُحبُ فُلانًا فأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جَبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادي في أَهْلِ السَّماءِ إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلانًا فأَحبُّوهُ ، فَيُحبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يَضع لَهُ المحبة فِي الأرْض " .
وقال قتادة : { سيجعل لهم الرحمن ودًا } قال : أي والله ودًا في قلوب أهل الإيمان . وإن هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبدٌ بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم . قلت : ولفظ الحديث : " ما أقْبَلَ عبدٌ بقلْبهِ إلى اللهِ عزّ وجلّ إلا جَعلَ الله قلوبَ المؤمنينَ تَفِدُ إليه بالودِّ والرحمَةِ ، وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرَعَ " نقله في الترغيب . وفي حديث آخر : " يُعطي المؤمنُ ودًّا في صدور الأبرار ، ومهابة في سدور الفجار " فَتَوَدُّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه . أنتم شهداء الله في أرضه . وفي بعض الأثر : " لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يُحب ، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره " . بالمعنى .
وأتى الحقّ جلّ جلاله بالسين؛ لأن السورة مكية ، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة ، فوعدهم ذلك ، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام ، فعَزوا وانتصروا ، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب ، كما هو مسطر في تواريخهم . وقيل : الموعود في القيامة ، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين ما لهم من الكرامات السنية؛ لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : سُنَّة الله تعالى في أوليائه ، في حال بدايتهم ، أن يُسلط عليهم الخلق ، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده ، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم ، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم؛ لئلا تسكن إلى غيره . قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا . . . الخ . فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا ، وتمكنوا من معرفة الحق ، أعزهم وألقى مودتهم في قلوب عباده ، هذا دأبه معهم في الغالب ، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك ، ولا يكون ذلك نقصًا في حقه بل كمالاً ، وهم شهداء الملكوت ، لم يأخذوا من أجرهم شيئًا . والله تعالى أعلم .
(3/493)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قلت : الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم ، كأنه قيل - بعد إيحاء السورة الكريمة - : بلغ هذا المنزّل عليك ، وبشر به ، وأنذر؛ فإنما يسرناه . . . الخ ، قاله أبو السعود .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فإِنما يسرناه } أي : القرآن { بلسانك } بأن أنزلناه على لغتك ، والباء بمعنى " على " وقيل : ضَمَّنَ التيسيرَ معنى الإنزال ، أي : يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك { لتُبشّر به المتقين } أي : السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي ، { وتُنذرَ به } أي : تخوف به { قومًا لُدًّا } لا يؤمنون به ، لجاجًا وعنادًا ، واللُّدُّ : جمع أَلَد ، وهو الشديد الخصومة ، اللجوج المعاند .
{ وكم أهلكنا قَبْلَهم من قَرنٍ } أي : كثيرًا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، فهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك ، وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار ، أي : دُم على إنذارك لهم ، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون ، { هل تُحِسُّ منهم أحدٍ } أي : هل تشعر بأحد منهم ، وترى له من باقية { أو تَسْمَعُ لهم رِكْزًا } أي : صوتًا خفيًا ، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم ، وخربت قصورهم وديارهم ، وكذلك نفعل بغيرهم ، والمعنى : أهلكناهم بالكلية ، واستأصلناهم بحيث لا يُرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت خفي ولا جلي . وجملة : { هل تحس } : استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، وأصل الرِّكز : الخفاء ، ومنه : رَكَزَ الرمحَ؛ إذا غيب طَرفه في الأرض ، والرِّكاز : المال المدفون المخفي . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير ، فأمر اللهُ رسوله في حياته بالبشارة والإنذار به ، وبقي الأمر لخلفائه ، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير ، ولا يكفي عنه تعليم رسوم الشريعة ، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير ، كما قال تعالى : { لتُبشر به المتقين وتُنذر به قومًا لُدًّا } .
لكن لا يتصدى للوعظ إلا من له نور يمشي به في الناس ، فيسبقه نورُ قلبه إلى القلوب المستمعة ، فيقع كلامهم في قلوب السامعين . قال في الحكم : " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم ، فحيثما صار التنوير وصل التعبير " . هذا النور هو نور المعرفة الذي هي مقام الفناء ، ويشترط فيه أيضًا : أن يكن مأذونًا له في الكلام من شيخ كامل ، أو وحي إلهامي حقيقي ، فحينئذ يقع كلامه في مسامع الخلق . وفي الحكم : " من أُذن له في التعبير حسنت في مسامع الخلق عبارته ، وجُليت إليهم إشارته " .
وقال أيضًا : " ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار ، إذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار " . وفي أمثال هؤلاء المتصدين للوعظ والتذكير ورد الخبر القدسي : " إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليّ من يُحببني إلى عبادي ، ويُحبب عبادي إليّ ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " . . جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه آمين . وصلَّى اللهُ على سيدنا محمد وآله وصحبه ، وسلَّم تسليمًا .
(3/494)

طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
قلت : عن ابن عباس أن " طه " من أسماء الله تعالى ، وقيل : معناه : طوبى لمن هدى ، وقيل : يا طاهر يا هادي ، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس ، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه ، وهدايته غيره إلى حضرة القدس .
ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لي عشرة أسماء . . . " فذكر أن منها " طه ويس " ، وقيل : معناه : طِئ الأرض بقدمك؛ لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده ، فأبدل الهمزة ألفًا ، والضمير للأرض ، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف ، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم . وقيل : معناه : يا رجل . وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم ، وهو عندهم على اللغة النبطية ، أو السريانية . قيل : من جعل معنى " طه " يا رجل ، لم يقل على طه ، وكذا من جعله اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحًا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة ، وقف عليها ، إلا في قول من جعلها قَسَمًا ، فإنه لا يقف عليها؛ لأن قوله : { ما أنزلنا . . . } الخ جواب قسم .
قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : { ما أنزلنا } : إما القسم أو النداء ، فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من أسمائه صلى الله عليه وسلم . وأمَّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على " طه " . قاله في الحاشية .
و { إلاَّ تذكرة } : مفعول لأجله . والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و { تنزيلاً } : مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلاً ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص في معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من " القرآن " ، و { الرحمن } : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا ، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ؛ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته . وقرئ بالجر؛ صفةً للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي ، أو { الرحمن } : مبتدأ ، و { على العرش } : خبره . و { على } : متعلقة باستوى ، قُدمت للفواصل . و { إن تجهر } : شرط ، والجواب محذوف دل عليه { فإنه . . . } الخ ، أي : فالله غني عن جهرك ، فإنه .
(3/495)

. . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو ترويحًا له من التعب : يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة .
رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام : " أبْق عَلى نَفْسِكَ ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا " . أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضَات الشاقة ، و الشدائد الفادحة ، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة . أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشُّعَرَاء : 3 ] ، بل للتبليغ ، وقد فعلت . وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مُهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقي ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردَّ اللهُ ذلك عليهم . والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة .
{ إِلا تذكرةً لمن يخشى } أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عزّ وجلّ - ، ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ؛ لأنهم المنتفعون بها .
{ تنزيلاً } أي : أنزل تنزيلاً ، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً ، أي : منزلاً { ممّن خلق الأرض والسماوات العلى } ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : { ما أنزلنا } ؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير . وتخصيص خلقهما بالذكر؛ لتضادهما . وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السماوات بالعُلى ، وهو جمع " عليا "؛ لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل . وكل ذلك إلى قوله : { له الأسماء الحسنى } ، مسوق لتعظيم المنزل - عزّ وجلّ - المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان .
ثم قال تعالى : { الرحمنُ } أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية؛ للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامَه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضًا من رحمته - تعالى - ، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرَّحمن : 1 ، 2 ] . أو : { الرحمن على العرش استوى } : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه ، غني عن الإخبار صريحًا .
(3/496)

والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك؛ مرادًا به مَلَك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلاً ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام .
وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء مَنْ غَلَبَ وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر . وسئل عنه مالك والشافعي - رضي الله عنهما - فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك .
وقال الجنيد رضي الله عنه : خلق الله العرش فوق سبع سماوات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات . ه . وقد تقدم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا .
{ له ما في السماوات وما في الأرضِ } ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، { وما بينهما } من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريًا؛ كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركةً ولا استقلالاً ، كل ما ذكر هو له؛ ملكًا وتصرفًا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادًا وإعدامًا ، { وما تحت الثرى } : وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى . وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع . وعن السدي : أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة ، وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض؛ لزيادةِ التقرير . { وإِن تجهر بالقول } أي : وإن تجهر بذكره تعالى - أو دعائه - ، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك؛ { فإِنه يعلمُ السرَّ وأخْفَى } أي : ما أسررته إلى غيرك ، وشيئًا أخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، من غير أن تتفوه به أصلاً أو : : السر : ما أسررته في نفسك ، وأخفى منه : ما ستُسره في المستقبل . وهو إمّا نهي عن الحركة ، كقوله تعالى : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [ الأعرَاف : 205 ] ، وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى؛ بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها ، ومنعها من الاشتغال بغيره ، وقطع الوسوسة عنها ، وهضمها بالتضرع والجؤار . هذا والغرض من الآية : بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء ، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات .
ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات ، فقال : { الله } أي : ما ذكر من صفات الكمال ، موصوفها الله المعبود بالحق ، { لا إِله إِلا هو } أي : لا معبود بحق إلا هو ، ولا مستحق للعبادة إلا هو . وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه ، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات ، ومن الرحمانية والمالكية للكل ، والعلم الشامل ، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية ، وقوله تعالى : { له الأسماء الحسنى } بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته ، من غير تعدد في ذاته تعالى؛ فالأسماء والصفات كثيرة ، والمسمى والموصوف واحد .
(3/497)

و { الحسنى } : تأنيث الأحسن ، فُعلى ، يُوصف به الواحد المؤنث ، والجمع المذكر والمؤنث ، ك { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] ، و { آيَاتِنَا الكبرى } [ طه : 23 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من تأمل القرآن العظيم ، وما جاء به الرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب ، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء ، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب ، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب ، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه ، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب ، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح ، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان ، وجنة ورضوان ، أعني جنة العرفان . ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : " ليس شيخك من يدلك على تعبك ، إنما شيخك من يريحك من تعبك " ، كما في لطائف المنن .
وقال شيخنا القطب ابن مشيش : وقد سُئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : " يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا " فقال : دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دَلَّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلَّك على الله فقد نصحك . ه . فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك ، وهي السعادة العظمى ، كما تقدم في سورة هود . فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب ، ولم يُرحله من مقام إلى مقام ، فاعلم أنه غير صالح للتربية .
وقوله تعالى : { إِلا تذكرة لمن يخشى } ، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : قيل : أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال؛ لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها ، فأنزل الله القرآن تأنيسًا؛ لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه . وقال جعفر الصادق : أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين ، ورحمة للمؤمنين ، وأنسًا للمحبين . وايضًا : القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته ، فهو مُذهب للغفلة . ثم قال : وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة ، ووجدان الراحة بالطاعة ، لكونه يصير محمولاً ، وقد قال : { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا } [ طه : 14 ] ، أي : لشهودي فيها ، وفي ذلك قرة عين ، وراحةً ، وأنس ، وتشابه حال المصلي بحال موسى ، بجامع النجوى ، فلذلك ذكر في سياقه . والله أعلم . ه .
وقوله تعالى : { الرحمنُ على العرش استوى } ، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله : " يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبًا في رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه ، مَحَقْتَ الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار . وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته؛ فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته ، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار ، ومحت كل شيء ، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء ، وليس معه شيء ، وهو السميع البصير . وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء . والله تعالى أعلم وأعظم .
(3/498)

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قلت : قال القشيري : أجرى الله سنته في كتابه أن يذكر قصة موسى في أكثر المواضع التي يذكر فيها حديث نبينا - عليه الصلاة والسلام - يتبعه بذكر موسى ، تنبيهًا على علو شأنه ، لأنه كما أن التخصيص بالذكر يدل على شرف المذكور ، فالتكرير في التفصيل يوجب التفضيل ، في الوصف؛ لأن القضية الواحدة إذا أعيدت مرارًا كثيرة كانت في باب البلاغة أتم ، ولا سيما في كل مرة فائدة زائدة . ه .
قلت : ولعل وجه تناسقهما في الذكر قرب المنزلة ، ومشاركة الصفة ، وذلك باعتبار المعالجة وهداية الأمة ، فإن أمة موسى عليه السلام كانت انتشرت فلم يقع لنبي هداية على يديه لقومه مثله ، إلا لنبينا - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - فإن أمته انتشرت وشاعت مسير الشمس والقمر ، وفي حديث البخاري ما يدل على هذا ، حين عرضت عليه الأمم صلى الله عليه وسلم مرة ، فرأى أمة موسى عليه السلام كثيرة ، ثم رأى أمته قد سدت الأفق . فانظر لفظه فيه .
وقال أبو السعود : المناسبة إنما هي تقرير أمر التوحيد الذي إليه انتهى مَسَاق الحديث ، وبيان أنه مستمر فيما بين الأنبياء ، كابرًا عن كابر ، وقد خوطب به موسى عليه السلام ، حيث قيل له : { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا فاعبدني } ، وبه ختم عليه السلام مقاله ، حيث قال : { إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ } [ طه : 98 ] ، ثم ردَّ مناسبة التسلية بأن مساق النظم الكريم إنما هو لصرفه عليه السلام عن اقتحام المشاق . فانظره . و { هل } : لفظة استفهام ، والمراد به التشويق لما يخبره به ، أو التنبيه . و { إذ رأى } : ظرف للحديث؛ لأن فيه معنى الفعل ، أو لمضمر مؤخر ، أي : حين رأى كان كيت وكيت ، أو : لاذكر ، أي : اذكر وقت رؤيته . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهل أتاك حديثُ موسى } : أي : قصته في معالجة فرعون ، فإنا سنذكرها لك تسلية وتقريرًا لأمر التوحيد ، { إِذْ راى نارًا } تلمع في الوادي ، وذلك أنه عليه السلام استأذن شعيبًا عليه السلام في الخروج إلى أمه وأخيه ، فخرج بأهله ، وأخذ على غير الطريق ، مخافةً من ملوك الشام ، فلما وافى وادي طُوى ، وهو بالجانب الغربي من الطور ، وُلد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة ، وكانت ليلة الجمعة ، وقد ضل عن الطريق ، وتفرقت ماشيته ، ولا ماء عنده ، فقدحَ النار فلم تُورِ المِقْدَحة .
فبينما هو في ذلك { إِذْ رأى نارًا } على يسار الطريق من جانب الطور ، { فقال لأهله امكثوا } أي : أقيموا مكانكم . أمرهم عليه السلام بذلك؛ لئلا يتبعوه ، كما هو المعتاد من النساء . والخطاب للمرأة والخادم والولد ، وقيل : لها وحدها ، والجمع للتعظيم ، { إِني آنستُ } أي : أبصرت { نارًا } ، وقيل : الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به .
(3/499)

{ لعلّي آتيكم منها بقَبَس } أي : بشعلة مقتبسة من معظم النار ، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص ، وبالشهاب القبس ، { أو أجدُ على النار هُدىً } ؛ هاديًا يدلني إلى الطريق ، فهو مصدر بمعنى الفاعل ، و { أوْ } في الموضعين : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع؛ إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا . ومعنى الاستعلاء في قوله : { على النار } ؛ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء ، ولما كان الإيتاء بها غير محقق ، صدَّر الجملة بكلمة الترجي .
{ فلما أتاها } أي : النار التي آنسها . قال ابن عباس رضي الله عنه : رأى شجرة خضراء ، حفت بها ، من أسفلها إلى أعلاها ، نارٌ بيضاء ، تتَقِدُ كأضوء ما يكون ، فوقف متعجبًا من شدة ضوئها ، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة ، وقيل : سَمُرَة . . . بينما هو ينظر ، { نُودي } فقيل : { يا موسى إِني أنا ربك } ، أو بأني أنا ربك ، وتكرير الضمير؛ لتأكيد الدلالة ، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . يروى أنه لما نودي يا موسى ، قال عليه السلام : مَن المتكلم؟ فقال الله عزّ وجلّ : { أنا ربك } ، فوسوس إليه الخاطر : لعلك تسمع كلام شيطان ، قال : فلما قال : { إنني أنا } ، عرفت أنه كلام الله عزّ وجلّ . قيل : إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء .
ثم قال له : { فاخلع نعليك } ؛ لأنه أليق بحسن الأدب ، ومنه أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر ، وقيل : ليباشر الوادي المقدس بقدميه ، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد ، بخلعها ولو طاهرة ، وقيل : إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ . وقيل : النعلين : الكونين ، أي : فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا . وقوله تعالى : { إِنك بالوادِ المقدَّس } : تعليل لوجوب الخلع ، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك . رُوي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي ، و { طُوى } : بدل من الوادي ، وهو اسم له . وقُرئ منونًا؛ لتأوله بالمكان ، وغير المنون؛ لتأوله بالبقعة .
{ وأنا اخترتُك } أي : اصطفيتُكَ للنبوة والرسالة ، وقرأ حمزة : { وإنَّا اخترناك } بنون العظمة ، { فاستمع لما يُوحى } أي : للذي يُوحى إليك ، أو لوحينا إليك ، وهو : { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا } ، فالجملة بدلَ من " ما " . { فاعبدني } ؛ أَفردني بالعبادة والخضوع ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن اختصاص الألوهية به سبحانه من موجبات تخصيص العبادة به تعالى . { وأقم الصلاة لذكري } : لتذكرني فيها؛ لاشتمالها على الأذكار ، وأُفردت بالذكر ، مع اندراجها في الأمر بالعبادة؛ لفضلها على سائر العبادات؛ لما نيطت به من ذكر المعبود ، وشغل القلب واللسان بذكره ، فإنَّ الذكر كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة .
أو { لذكري } : لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي ، بحيث لا تُرائي بها غيري . وقيل : لذكري إياها ، وأمري بها في الكتب ، أو لأن أذكرك فيها بالمدح والثناء ، وقيل : لأوقات ذكري ، وهي مواقيت الصلوات ، وقيل : لذكر صلاتي إذا نسيتها ، لما رُوِيَ أنه عليه الصلاة والسلام قال :
(3/500)

" مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَة ، أَوْ نَسِيَها ، فَلْيُصلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا؛ لأنَّ الله تَعالى يَقُول : " وأقم الصلاة لذكري "
قال بعضهم : أصول العمل ثلاثة : أقوال وأفعال وأحوال ، فأفضل الأقوال : لا إله إلا الله ، وأفضل الأفعال : الصلاة لله أو بالله ، وأفضل الأحوال : الطمأنينة بشهود الله .
{ إِن الساعة آتيةٌ } : كائنة لا محالة ، وهو تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة ، وإنما عبَّر بالإتيان؛ تحقيقًا لحصولها ، بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين . { أكادُ أُخفيها } أي : لا أظهرها ، بأن أقول : آتية فقط ، فلا تأتي إلا بغتة ، أو أكاد أظهرها بإيقاعها ، مِنْ أخفاه ، إذا أظهره ، فأخفى - على هذا - من الأضداد . وردّه ابن عطية ، فإن الذي بمعنى الظهور هو : " خفى "؛ الثلاثي ، لا " أخفى " . وقال الزمخشري : قد جاء في بعض اللغات : أخفى بمعنى خفى ، أي : ظهر ، فلا اعتراض .
ونقل الثعلبي عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن المعنى : أكاد أخفيها عن نفسي ، فكيف عن غيري؟ وكذلك هو في مصحف أُبي ، وفي مصحف عبد الله : فكيف يعلمها مخلوق ، وفي بعض القراءات : وكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب : فإن قيل : كيف يُخفي الله تعالى عن نفسه ، وهو خَلَق الأشياء؟ قلنا : إن الله تعالى كلم العرب بكلامهم الذي يعرفونه . انظر بقية كلامه .
وظهور علاماتها لا يزيل إخفاءها . قال ابن عرفة في تفسيره : وإذا ظهرت عند وقوع الأشراط لم ينسلخ عنها معنى الخفاء المتقدم ، غاية الأمر أنها بذكر الأشراط وسط بين الإخفاء والإظهار ، فتكون مقاربة لكل واحد منهما . ه .
وقوله تعالى : { لتُجزى كُلُّ نفس بما تسعى } متعلق بآتية ، أو بأُخفيها - على معنى : أظهرها - ، لتُجزى كل نفس بسعيها ، أي : بعملها خيرًا كان أو شرًا . { فلا يَصُدَّنك عنها } أي : عن ذكر الساعة ومراقبتها والاستعداد لها { مَن لا يؤمن بها } حتى تكسَل عن التزود لها . والنهي - وإن كان بحسب الظاهر متوجهًا للكافر عن صدر موسى عليه السلام - لكنه في الحقيقة نهى له عليه السلام عن الانصداد عنها ، على أبلغ وجه ، فإنَّ النهي عن أسباب الشيء المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني ، كقوله تعالى : { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي } [ هُود : 89 ] ، أي : لا تتبع في الصد عنها من لا يؤمن بها { واتَّبعَ هواه } أي : ما تهواه نفسه من اللذات الفانية ، { فَتَرْدَى } : فتهلك؛ فإنَّ الإغفال عنها ، وعن تحصيل ما يُنجي من أهوالها ، مستتبع للهلاك لا محالة . وبالله التوفيق .
الإشارة : وهل أتاك أيها العارف حديث موسى ، كيف سار إلى نور الحبيب ، ومناجاة القريب ، إذ رأى نارًا في مرأى العين ، وهو نورُ تَجَلِّي الحبيب بلا بين ، فقال لأهله ومن تعلق به : امكثوا ، أقيموا في مقام الطلب ، واصبروا وصابروا ورابطوا على قلوبكم ، في نيل المُطَّلَبِ ، إني آنست نارًا ، وهو نور وجه الحبيب في مرائي تجلياته ، وهذا مقام الفناء ، لعلي آتيكم منها بقبس ، تقتبسون منه أنوارًا لقلوبكم وأسراركم .
(4/1)

أو أجد على النار هدى يهديني إلى مقام البقاء والتمكين ، فلما أتاها ، وتمكن من شهودها ، نودي يا موسى : إني أنا ربك ، فلا نار ولا أثر ، وإنما وجه الحبيب قد تجلى وظهر ، في مرأى الأثر ، فاخلع نعليك ، أي : اخرج عن الكونين إن أردت شهود حضرة المكون ، كما قال القائل :
واخلع النعلين إن جئتَ إلى ... ذلك الحي ففيه قدسنا
وعن الكونين كن منخلعا ... وأزل ما بيننا من بَيْنِنَا
إنك بالواد المقدس ، أي : بحر حضرة القدس ومحل الأنس ، قد طويت عنك الأكوان ، وأبصرت نور الشهود والعيان ، وأنا اخترتك لحضرتي ، واصطفيتك لمناجاتي ، فاستمع لما يوحى إليك مني ، فأنا الله لا إله إلا أنا وحدي ، فإذا تمكنت من شهودي ، فانزل لمقام العبودية؛ شكرًا ، وأقم الصلاة لذكري ، إن الساعة آتية لا محالة ، فأُكرم مثواك ، وأُجل منصبك ، وأرفعك مع المقربين ، فلا يصدنك عن مقام الشهود أهلُ العناد والجحود ، فتسقط عن مقام القرب والأنس ، وتصير في جوار أهل حجاب الحس ، ولعل هذا المنزع هو الذي انتحى ابنُ الفارض ، حيث قال في كلام له :
آنسْتُ في الحَيّ نارًا ... لَيْلاً فَبَشّرْتُ أهلي
قُلْتُ امْكُثُوا فلَعلّي ... أجِدْ هُدايَ لَعَلّي
دَنَوْتُ مِنها فكانَتْ ... نار التكلم قبلي
نودِيتُ منها كفاحًا ... رُدّوا لَياليَ وَصْلي
حتى إذا مال تَدانَى ال ... ميقاتُ في جَمْعِ شَملي
صارَتْ جِباليّ دكًا ... منْ هيبَةِ المُتَجَلّي
ولاحَ سرًّ خَفيٌ ... يدْرِيه مَنْ كَانَ مِثْلي
فالموتُ فِيهِ حياتي ... وفي حَياتيَ قَتلي
وصِرْتُ مُوسَى زَمَاني ... مذ صار بَعْضِيَ كُلي
قوله : " صارت جبالي دكًّا " أي : جبال وجوده ، فحصل الزوال من هيبة نور المتجلي ، وهو الكبير المتعال . وهذا إنما يكون بعد موت النفس وقهرها ، فإنها حينئذ تحيا بشهود ربها ، حياة لا موت بعدها . وقوله : " مذ صار بعضي كلي " ، يعني : إنما حصلت له المناجاة والقرب الحقيقي حين فنيت دائرة حسه ، فاتصل جزء معناه بكل المعنى المحيط به ، وهو بحر المعاني المُفني للأواني . وبالله التوفيق .
(4/2)

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قلت : { وما } : استفهامية ، مبتدأ ، و { تلك } : خبر ، أو بالعكس ، فما : خبر ، وتلك : مبتدأ ، وهو أوفق بالجواب . و { بيمينك } : متعلق بالاستقرار؛ حالاً ، أي : وما تلك قارةً أو مأخوذة بيمينك ، والعامل معنى الإشارة . وقيل : { تلك } : موصولة ، أي : وما التي هي بيمينك ، والاستفهام هنا : إيقاظ وتنبيه له عليه السلام على مما سيبدُو له من العجائب ، وتكرير النداء؛ لزيادة التأنيس والتنبيه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما تلك بيمينك يا موسى } ، إنما سأله؛ ليريه عظيم ما يفعل بها؛ من قلبها حية ، فمعنى السؤال : تقريره على أنها عصي ، ليتبين له الفرقُ بين حالها قبل قلبها وبعده ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه وينبسط معه ، فأجابه بقوله : { هي عَصَايَ } ، نسبها لنفسه تحقيقًا لوجه كونها بيمينه ، رُوي أنها كانت عصا آدم عليه السلام ، فأعطاها له شعيب ، حين قدمه لرعي غنمه ، على ما يأتي في سورة القصص . وكان في رأسها شُعبتان ، وفي أسفلها سنان ، واسمها نبعة ، في قول مقاتل .
{ أتوكأ عليها } أي : أعتمد عليها إذا مشيت ، وعند الإعياء ، والوقوف على رأس قطيع الغنم ، { وأهشُّ } أي : أخبط { بها } الورق من الشجر؛ ليسقط { على غنمي } فتأكله . وقرئ بالسين ، وهو زجر الغنم ، تقول العرب : هَس هَس ، في زجرها ، وعداه بعلى؛ لتضمنه معنى الإقبال والتوجه . { ولِيَ فيها مآرِبُ أُخرى } أي : حاجات أخرى من هذا الباب . قال ابن عباس : كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تأتيه وتحرسه ، ويضرب بها الأرض فتخرج ما يأكل يومَه ، ويركز بها فيخرج الماء ، فإذا رفعها ذهب ، وكان يرد بها عن غنمه ونعمه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد الاستسقاء من البئر أَدْلاَهَا ، فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدول فيستقي بها ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل فيستضيء بها ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتغصّنت غصن تلك الشجرة ، وأورقت وأثمرت . فهذه المآرب .
وكأنه عليه السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها ، وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء ، فلذلك أطنب في كلامه ، فلما بدت منها خوارق بديعة عَلِمَ أنها آية باهرة ومعجزات قاهرة ، وأيضًا : الإطناب في مناجاة الأحباب محمود .
{ قال } له تعالى : { ألْقِهَا يا موسى } لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك ، قيل : إنما أُمِر بإلقائها؛ قطعًا للسكون إليها ، لِمَا كان فيها من المآربِ ، وبالغ الحق تعالى في ذلك بقلبها حية ، حتى خاف منها ، وحين قطعه عنها ، وأخرجها من قلبه ، بالفرار منها ردها إليه بقوله : { خذها ولا تخف } ؛ { فألقاها } على الأرض { فإِذا هي حيةٌ تَسْعَى } ، رُوي أنه عليه السلام ألقاها فانقلبت حية صفراء ، في غلظ العصا ، ثم انتفخت وعظمت ، فلذلك شبهت بالجان تارة ، وبالثعبان مرة أخرى ، وعبَّر عنها هنا بالاسم العام للحالين ، وقيل : انقلبت من أول الأمر ثعبانًا ، وهو أليق بالمقام ، كما يفصح عنه قوله عزّ وجلّ :
(4/3)

{ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } [ الأعرَاف : 107 ] ، وإنما سميت بالجان في الجلادة وسرعة المشي ، لا في صغر الجثة . وقيل : الجان عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان عن انتهائه .
{ قال } تعالى : { خُذها } يا موسى ، { ولا تخفْ } ، قال ابن عباس رضي الله عنه : انقلبت ثعبانًا ذَكَرًا ، يبتلع كل شيء من الصخر والشجر ، فلما رآه كذلك خاف ونفر ، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع ، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية . { سنعيدُها سِيرَتَها الأولى } أي : سنعيدها ، بعد الأخذ ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصًا ، قيل : بلغ عليه السلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ، ويأخذ بلَحْيَيْهَا . فلما أخذها عادت عصًا ، وحكمة قلبها وأخذها هنا؛ ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون ، وطمأنينةٍ من أمره ، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل . والسيرة : فعلة من السير ، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة ، وانتصابها على نزع الخافض .
ثم أراه معجزة أخرى ، فقال : { واضممْ يدكَ إِلى جناحك } أي : أدخلها تحت عضدك ، فجناح الإنسان : جنباه ، مستعار من جناح الطير ، { تخرجْ بيضاءَ } : جواب الأمر ، أي : إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية ، { من غير سُوءٍ } أي : حال كونها كائنة من غير عيب بها؛ كبرص ونحوه . رُوي أنه عليه السلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، تضيء حال كونها { آيةً أخرى } أي : معجزة أخرى غير العصا ، { لنُرِيَك من آياتنا الكبرى } أي : فعلنا ما فعلنا ، لنريك بعض أياتنا العظمى ، أو : لنريك الكبرى من آياتنا . قال ابن عباس : " كانت يد موسى أكبر آياته " . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقال للفقير : وما تلك بيمينك أيها الفقير؟ فيقول : هي دنياي أعتمد عليها في معاشي وقيام أموري ، وأُنفق منها على عيالي ، ولي فيها حوائج أخرى؛ من الزينة والتصدق وفعل الخير ، فيقال له : ألقها من يدك أيها الفقير ، واخرج عنها ، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها ، فألقاها وخرج عنها ، فيلقيها ، فإذا هي حية كانت تلدغه وتسعى في هلاكه وهو لا يشعر . فلما تمكن من اليقين ، وحصل على غاية التمكين ، قيل له : خذها ولا تخف منها ، حيث رفضت الأسباب ، وعرفت مسبب الأسباب ، فاستوى عندك وجودها وعدمها ، ومنعها وإعطاؤها ، سنعيدها سيرتها الأولى ، تأخذ منها مأربك ، وتخدمك ولا تخدمها . يقول الله تعالى : " يا دنياي ، اخدمي من خدمني ، وأتبعي من خدمك " .
وأما قوله تعالى : في حديث آخر مرفوعًا : " تمرري على أوليائي ولا تحلو لهم فتفتنهم عني " ، فالمراد بالمرارة : ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار ، وإيذاء الفجار وغير ذلك .
(4/4)

وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفًا لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " الفقر فخري وبه أفتخر " ، أو كما قال عليه السلام إن صح . وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : الحديث الأول : في الصالحين المتوجهين من أهل الظاهر ، والثاني - يعني تمرري . . . الخ - في الأولياء العارفين من أهل الباطن . ه . ويقال له أيضًا - إن تجرد وألقى الدنيا من يده وقلبه - : اضمم يدَ فكرتك إلى قلبك ، تخرج بيضاء نورانية صافية ، لا تخليط فيها ولا نقص ، هي آية أخرى ، بعد آية التجريد والصبر على مشاقه .
وقال في اللباب : اليد : يدَ الفكر ، والجيب : جيب الفهم ، وخروجها بيضاء بالعرفان . ه . قال الورتجبي : أرى الله موسى من يده أكبر آية ، وذلك أنه ألبس أنوار يد قدرته يد موسى ، فكان يَدُ موسى يدَ قدرة الله ، من حيث التخلق والاتصاف ، كما في حديث : " كنت له سمعًا وبصرًا ولسانًا ويدًا " ه . وبالله التوفيق .
(4/5)

اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قلت : { هارون } : مفعول أول ، و { وزيرًا } : مفعول ثان ، قُدّم؛ اعتناء بشأن الوزارة ، و { لِي } : صلة ، لا جعل ، أو متعلق بمحذوف؛ حال من { وزيرًا } ؛ لأنه صفة له في الأصل . و { من أهلي } : إما صفة وزيرًا ، أو صلة لا جعل ، وقيل : إن { لي وزيرًا } : مفعولاً اجعل ، و { هارون } : عطف بيان لوزير . و { أخي } في الوجهين : بدل من هارون ، أو عطف بيان آخر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه موسى عليه السلام : { اذهبْ إِلى فرعونَ } بما رأيته من الآيات الكبرى . وادعه إلى عبادتي وحدي ، وحذره من نقمتي ، { إِنه طغى } أي : جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر ، حتى تجاسر على دعوى الربوبية . { قال } موسى عليه السلام مستعينًا بربه عزّ وجلّ : { ربِّ اشرح لي صدري } أي : وسعه حتى لا يضيق بحمل أعباء الرسالة ، { ويسِّرْ لي أمري } أي : سهِّله حتى لا يصعب عليَّ شيء أقصده . والجملة استئنافية بيانية ، كأن سائلاً قال : فماذا قال عليه السلام ، حين أُمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير؟ فقيل : قال رب اشرح لي صدري . . . الخ .
كأنه ، لما أُمر بهذا الخطاب الجليل ، تضرع إلى ربه الجليل ، وأظهر عجزه وضعفه ، وسأل ربه تعالى أن يوسع صدره ، ويَفْسَح قلبه ، ويجعله عليمًا بشؤون الناس وأحوالهم ، حليمًا صفوحًا عنهم ، ليلتقي ما عسى أن يرد عليه من الشدائد والمكاره ، بجميل الصبر وحسن الثبات ، فيلقاها بصدر فسيح ، وجأش رابط ، وأن يسهل عليه مع ذلك أمره ، الذي هو أجلّ الأمور وأعظمها ، وأصعب الخطوب وأهولها بتيسير الأسباب ورفع الموانع . وفي زيادة كلمة { لي } ، مع انتظام الكلام بدونها ، تأكيد لطلب الشرح والتيسير؛ بإبهام المشروح والميسّر أولاً ، ثم تفسيرهما ثانيًا ، وفي تقديمهما وتكريرهما : إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين ، وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما .
ثم قال : { واحْلُلْ } أي : امشط وافسح { عقدة من لساني } ، رُوي أنه كان في لسانه رتة من أثر جمرة أدخلها فاه في صغره . وذلك أنه كان في حجر فرعون ذات يوم ، فلطمه ونتف لحيته ، فقال فرعون لآسية امرأته : هذا عدو لي ، فقالت آسية : على رسلك ، إنه صبي لا يفرق بين الجمر والياقوت ، ثم جاءت بطستين في أحدهما الجمر ، وفي الآخر الياقوت ، فأخذ جبريل بيد موسى فوضعها على النار ، حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه ، فبقيت له رتة في لسانه ، واختلف في زوال العقدة بكمالها؛ فمن قال به تمسك بقوله تعالى : { قال قد أوتيت سؤلك يا موسى } ، ومن لم يقل به احتج بقول : { هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القَصَص : 34 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزّخرُف : 52 ] .
وأجاب عن الأول : بأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل حلّ عقدة تمنع الإفهام ، فخفف بعضها لدعائه ، لا جميعها ، ولذلك نكّرها ووصفها بقوله : { من لساني } أي : عقدة كائنة من عُقد لساني ، { يفقهوا قولي } أي : إن تحلل عقدة لساني يفقهوا قولي .
(4/6)

{ واجعل لي وزيرًا } أي : مُعينًا ومُقويًا { مِنْ أهلي هارونَ أخي } ؛ ليعينني على تحمل ما كلفتني به من أعباء التبليغ . { أُشدد به أزري } أي : قِّ به ظهري ، { وأَشركه في أمري } ؛ واجعله شريكاً لي في أمر الرسالة ، حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي ، { كي نُسبحك كثيرًا } ، هو غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة ، من قوله : { واجعل لي وزيرًا . . . } الخ ، ولا شك أن الاجتماع على العبادة والذكر سبب في دوامهما وتكثيرهما . وفي الحديث : " يد الله مع الجماعة " ، ولذلك ورد الترغيب في الاجتماع على الذكر : والجمع في الصلاة؛ ليقوى الضعيف بالقوي ، والكسلان بالنشيط ، وقيل : المراد بكثرة التسبيح والذكر ما يكون منها في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة ، لأنه هو الذي يختلف في حالتي التعدد والانفراد ، فإن كُلاًّ منهما يصدر منه ، بتأييد الآخر ، من إظهار الحق ، ما لا يصدر منه حال الانفراد . والأول أظهر .
و { كثيرًا } : وصف لمصدر أو زمن محذوف ، أي : ننزهك عما لا يليق بجلالك وجمالك ، تنزيهًا كثيرًا ، أو زمنًا كثيرًا ، ومن جملة ذلك : ما يدعيه فرعونُ الطاغية ، وتقبله منه الفئة الباغية من ادعاء الشرك في الألوهية . { ونذكُرَك } ؛ بأن نصِفك بما يليق بك من صفات الكمال ، ذكرًا { كثيرًا إِنكَ كنت بنا بَصِيرًا } أي : عالمًا بأحوالنا ، وبأن ما دعوناك به مما يصلحنا ويقوينا على ما كلفتنا من أداء الرسالة ، و { بنا } : متعلق ببصيرًا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : فإذا انخلعت أيها الفقير عن الكونين ، وألقيت عصاك بوادي البيْن ، فاذهب إلى فرعون نفسك ووجود حسك ، إنه طغى عليك ، حيث حجبك عن شعود ربك ، فلا حجاب بينك وبين ربك ، إلا حِجاب نفسك ، ووقوفك مع شهود حسك ، فهو أكبر الفراعين في حقك ، فاهدم وجوده ، وأَغْرِقْ في بحر الحقيقة شهودَه ، وذلك بالغيبة عنه في شهود مولاه ، فإذا تعسر الأمر عليك فاستعن بمولاك ، وقل : اللهم اشرح لي صدري ، ووسعه لمعرفتك ، ويسر لي أمري في السير إلى حضرة قدسك ، واحلل عقدة الكون من قلبي ولساني ، حتى لا أعقد إلا على محبتك ، ولا أتكلم إلا بذكرك وشكرك ، كما قال الشاعر :
فإن تكلمتُ لم أنطق بغيركم ... وإن صَمَتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري
واجعل لي وزيرًا من أهلي ، وهو شيخي ، اشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، حتى يتوجه بكلية همته إلى سري ، كي ننزهك تنزيهًا كثيرًا ، بحيث لا نرى معك غيرك ، ونذكرك كثيرًا ، بحيث لا نفتر عن ذكرك بالقلب أو الروح أو السر ، إنك كنت بنا بصيرًا . قال الورتجبي : قوله تعالى : { اذهب إلى فرعون . . . } الخ ، لما علم موسى مراد الحق منه بمكابدة الأعداء ، والرجوع من المشاهدة إلى المجاهدة ، سأل من الحق شرح الصدر ، وإطلاق اللسان ، وتيسير الأمر ، ليطيق احتمال صحبة الأضداد ومكابدتهم .
(4/7)

ثم قال : فطلب قوةَ الإلهية وتمكينًا قادريًا بقوله : { ربِّ اشرح لي صدري } ، عرف مكان مباشرة العبودية أنها حق الله ، وحق الله في العبودية مقام امتحان ، وفي الامتحان حجاب عن مشاهدة الأصل ، فخاف من ذلك ، وسأل شرح الصدر ، أي : إذا كنتُ في غين الشريعة عن مشاهدة غيب الحقيقة ، اشرح صدري بنور وقائع المكاشفة ، حتى لا أكون محجوبًا بها عنك . ألا ترى إلى سيد الأنبياء والأولياء صلوات الله عليه ، كيف أخبر عن ذلك الغين ، وشكى من صحبة الأضداد في أداء الرسالة ، بقوله : " إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سبعين مرة " . ه . وفيه مقال ، إذ هو غين أنوار لا غين أغيار ، فتأمله . والله تعالى أعلم .
(4/8)

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
قلت : { مرة } : منصوب على الظرفية الزمانية ، وأصله : فعلة ، من المرور ، اسم للمرور الواحد ، ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد أمثاله ، ويقرب منها الكرة والرجعة . و { إِذْ } : ظرف لمننّا ، و { أنِ اقذفيه } : مفسرة ، أو مصدرية ، و { يأخذه } : جواب " أن اقذفيه " . و { لتُصنع } : متعلق بألقيتُ ، عطف على علة مضمرة ، أي : ليتعطف عليك ولتربى على حفظي ورعايتي . و { إذ تمشي } : ظرف { لتصنع } على أن المراد وقت مشيها إلى بيت فرعون ، وما يترتب عليه من القول والرجع إلى أمه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } الله تعالى لموسى عليه السلام : { قد أُوتيتَ سُؤْلك } أي : أعطيت مسؤولك ، وبلغنا لك مأمولك في كل ما طبلت منا . والإيتاء ، هنا ، عبارة عن تعلق الإرادة بوقوع تلك المطالب وحصولها ، وإن كان وقوع بعضها مستقبلاً ، ولذلك قال : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القَصَص : 35 ] ، وإعادة النداء في قوله : { يا موسى } تشريفًا له بتوجيه الخطاب بعد تشريفه بإجابة المطلب .
ثم ذكَّره بنعمة أخرى قد سلفت ، فقال : { ولقد مَنَنَّا عليك مرة أخرى } قبل أن يكون منك لنا طلب ، فكيف لا نجيبك بعد الطلب؟ وتلك المنة : { إِذْ أوحينا إِلى أمك } حين تحيرت في أمرك ، وخافت عليك من عدوك ، فأوحينا إليها وحي منام أو إلهام أو بملك كريم - عليهما السلام - فقلنا لها : { أنِ اقْذِفيه في التابوت } أي : ضعيه فيه ، وأغلقي عليه حتى لا يصل الماء عليه ، { فاقذفيه في اليمِّ } أي : ألقيه في البحر بتابوته ، { فليُلقَه اليمُّ بالساحل } أي : فسيرميه البحرُ بالساحل ، ولمّا كان إلقاء البحر له بالساحل أمرًا واجب الوقوع؛ لتعلُق الإرادة الربانية به ، جعل البحر كأنه مأمور بإلقائه ، ذو تمييز ، مطيع ، فإنْ يُلْقه { يأْخُذُه عدوٌ لي وعدوٌ له } وهو فرعون . ولا تخافي عليه؛ { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القَصَص : 7 ] . وتكرير عداوته والتصريح بها؛ للإشعار بأن عداوته له ، مع تحققها ، لا تضره ، بل تؤدي إلى محبته ، لأن الأمر بما فيه الهلاك؛ من القذف في البحر ، ووقوعه في يد العدو ، مشعر بأن هناك ألطافًا خفية ، ومننًا كامنة مندرجة تحت قهر صوري .
وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ ، بل ما يقابل الوسط ، وهو ما يلي الساحل من البحر ، حيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون ، لِمَا رُوي أنها جعلت في التابوت قطنًا محلوجًا ، ووضعته فيه ، ثم قيَّرته وألقته في اليم . وقيل : كان التابوت من البردى ، صنعته أمه . وقال مقاتل : صنعه لها رجل مؤمن اسمه " حزقيل " ، ثم طلته بالقار - أي : الزفت - وألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فدفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة في البستان ، وكان فرعون جالسًا ثمَّ مع آسية بنة مزاحم ، فأمر به فأُخرج ، فإذا فيه صبي أصبح الناس وجهًا ، فأحبه فرعون حبًا شديدًا لا يكاد يتمالك الصبر عنه ، وذلك قوله تعالى : { وألقيتُ عليك محبةً مني } ، قال ابن عباس : " أحبه وحبَّبَه إلى خلقه " .
(4/9)

وقال قتادة : " ملاحة كانت في عيني موسى ، ما رآه أحد إلاَّ عشقه " ، أي : وألقيتُ عليك محبة عظيمة كائنة مني ، قد زرعت في القلوب ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، ولذلك أحبك عدو الله وأهله ، وذلك ليتعطف عليك .
{ ولتُصنع على عيني } أي : ولتربّى بالحنو والشفقة ، وتغذى بمرأى مني ، مصحوبًا برعايتي وحفظي ، في أحسن تربية ونشأة . وكان ابتداء ذلك : { إِذ تمشي أختك } تتبع تابوتك ، فلما أُخرجتَ التمسوا لك المراضع ، { فتقولُ } لفرعون وآسية ، حين رأتهما يَطْلُبَانِ له مُرضعة يقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثديًا . وصيغة المضارع في الفعلين؛ لحكاية الحال الماضية ، والأصل : إذ مشت فقالت : { هل أدلُّكم على مَن يكفله } ؟ يضمه إلى نفسه ويربيه ، وذلك إنما يكون بقبول ثديها . رُوِيَ أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلامًا في النيل لا يرتضي ثدي امرأة ، واضطروا إلى تتبع النساء ، فخرجت أختُه مريم لتتعرف خبره ، فجاءت متنكرة ، فقالت ما قالت ، وقالوا : نعم ، فجاءت بأمه فقبِل ثديها .
قال تعالى : { فرَجَعْناك إِلى أمك } ؛ وفاء بعهدنا ، { كي تقرَّ عينُها } بلقائك ، { ولا تحزن } أي : ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك ، { وقتلتَ } بعد ذلك { نفسًا } ، وهي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه . قال كعب : كان إذ ذاك ابن ثنتي عشرة سنة ، { فنجيناك من الغَمِّ } أي : غم قتله ، خوفًا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ، ومن اقتصاص فرعون ، بوحينا إليك بالمهاجرة ، { وفتناك فتونًا } أي : ابتليناك ابتلاءً عظيمًا ، وخلصناك مرة بعد أخرى ، حتى صَلَحْتَ للنبوة والرسالة ، وهو تحمل ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الأحباب ، والمشي راجلاً ، وفقد الزاد ، بعد ما خلصه من الذبح ، ثم من البحر ، ثم من القصاص بالقتل . وسُئل عنها ابن عباس ، فقال : خلَّصناك من محنة بعد محنة ، ولد في عام كان يقتل فيه الغلمان ، فهذه فتنة ، وألقته أمه في البحر ، وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطيًا ، وأجَرَّ نَفسه عشر سنين ، وضل الطريق ، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة ، فكل واحدة من هذه فتنة . ه . لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون؛ لأن المراد : ما وقع له قبل وصوله إلى مدين ، بدليل قوله تعالى : { فلبثتَ سنينَ في أهل مَدْيَنَ } ، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين ، أي : لبثت عشر سنين في أهل مدين .
وقال وَهْب : لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة ، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب ، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له .
(4/10)

وأشار باللبث في مدين ، دون الوصول إليها ، إلى ما أصابه في تضاعيفها ، من فنون الشدائد والمكاره ، التي كل واحد منها فتنة . و " مدين " : بلدة شعيب عليه السلام ، على ثماني مراحل من مصر ، ولم تبلغها مملكة فرعون ، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أو يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه .
{ ثم جئتَ } إلى المكان الذي آنستَ فيه النار ، ورأيتَ فيه الخوارق ، وخُصصتَ فيه بالرسالة ، { على قَدَرٍ } قدرته لك في الأزل ، ووقت عينته لك ، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون ، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر ، غير متقدم ولا متأخر ، وقيل : على مقدار من الزمان ، يُوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة . { واصْطنعتُكَ لنفسي } أي : اختصصتك بالرسالة والمحبة و المناجاة ، وهو تذكير لقوله : { وأنا اخترتك } ، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه ، حسبما طلب ، بعد تذكيره المنن السالفة ، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة ، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى : { وفتناك } إلى تاء المتكلم؛ لمناسبتها للنفس؛ فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير ، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك ، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك . ولقد مننا عليك مرة أخرى ، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين ، فقذفناك في تابوت الإسلام ، ثم في نهر الإيمان ، ثم رميناك في بحر العرفان ، وألقينا عليك محبة منا ، فأحببناك وأحببتنا ، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا ، فتربيت في حفظنا ورعايتنا ، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان ، في طلب تحقيق العرفان ، رددناك إليهم بعد التمكين ، لتنهضهم إلى الله ، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين ، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك ، فنجيناك من غم الحجاب ، وأخرجناك من سجن الأكوان ، إلى فضاء الشهود والعيان ، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا ، فتنة الفقر ، ثم فتنة الذل ، ثم فتنة هجر الأوطان ، حتى تخلصت من حبس الأكوان ، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك ، ووقت عيناه لفتحك ، فاصطنعتك لنفسي ، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي ، من غير حول منك ولا قوة ، فعِنايتنا فيك سابقة ، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا ، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال ، ولا وجود أحوال ، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال ، كما في الحكم . وأنشدوا :
فَلاَ عَمَلٌ مِنِّي إِلَيْك اكْتَسبْته ... سِوَى مَحْضِ فَضْلٍ لا بِشَئ يُعَلَّلُ
وقال آخر :
قَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أنَّ وَصْلَكَ يُشْتَرَى ... بَنَفائِسِ الأَمْوَالِ والأرْباحِ
وَظَنَنْتُ جَهْلاً أنَّ حُبَّكَ هَيِّنٌ ... تُفْنَىَ عَلَيْه كَرَائِمُ الأرْوَاحِ
حَتَّى رَأَيْتُكَ تَجتبي وَتَخُصُّ مَنْ ... تَخْتارُهُ بلَطَائِفِ الإِمْنَاحِ
فَعَلِمْتُ أنَّكَ لا تُنالُ بِحيلَةٍ ... فَلَوَيْتَ رَأسِي تحت طَيِّ جَنَاحِ
وَجَعَلْتُ في عُشِّ الغَرَامِ إِقَامَتِي ... أبدًا وفيه تَوطُني ورَوَاحِ
(4/11)

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لسيدنا موسى عليه السلام : { اذهب أنت وأخوك } أي : ليذهب معك أخوك { بآياتي } : بمعجزاتي التي أريتكَهَا ، من اليد والعصا ، فإنهما وإن كانتا اثنتين ، لكن في كل واحدة منهما آيات ، فإنَّ في انقلاب العصا حيوانًا : آية ، وكونها ثعبانًا عظيمًا : آية ، وسرعة حركته ، مع عِظَمِ جرمه : آية ، وكذلك اليد؛ فإنَّ بياضها في نفسه آية ، وشعاعها آية ، ثم رجوعها إلى حالَتها الأولى آية . والباء للمصاحبة ، أي : اذهبا مصحوبَيْنِ بمعجزاتنا ، مستمسكَيْنِ بها ، { ولا تَنِيَا } : لا تفترا ولا تقصرا { في ذكري } عند تبليغ رسالتي ، ولا يشغلكما معاناة التبليغ عن ذكري ، بما يليق بحالكما؛ من ذكر لسان أو تفكر أو شهود ، فلا تغيبا عن مشاهدتي باشتغالكما بأمري ، حتى لا تكونا فاترين في عيني .
{ اذهبَا إِلى فرعون إِنه طغى } : تجبر وعلا . ولم يكن هارون حاضرًا وقت هذا الوحي ، وإنما جمعهما؛ تغليبًا . رُوي أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى - عليهما السلام - ، وقيل : سمع بإقباله فتلقاه .
{ فقولا له قولاً لينًا } ؛ لأنَّ تليين القول مما يكسر ثورة عناد العتاة ، ويلين عريكة الطغاة . قال ابن عباس : أي : لا تعنفا في قولكما . وقيل : القول اللين : { هل لك إِلى أن تزكى . . . } الخ ، ويعارضه قوله بعد : { فقولا إِنا رسولا ربك } وقيل : كنِّياه ، وكان له ثلاثة كنى : أبو العباس ، وأبو الوليد ، وأبو مرة . وقيل : عِدَاه على قبول الإيمان شبابًا لا يهرم ، ومُلكًا لا ينزع منه إلا بالموت ، وتبقى عليه لذة المطعمَ والمشرب والمنكح إلى الموت ، وقيل : اللطافة في القول؛ فإنه رباك وأحسن تربيتك ، وله عليك حق الأبوة ، { لعله يتذكَّر } بما بلغتماه من ذكر ، ويرغب فيما رغبتماه فيه ، { أو يخشى } عقابي .
ومحل الجملة : النصب على الحال من ضمير التثنية ، أي : فقولا له قولاً لينًا ، رَاجِيَيْنِ تذكرته ، أي : باشرا وعظه مباشرةَ من يرجو ويطمع أن يُثمر علمُه ولا يخيب سعيُه . وفائدة هذا الإبهام : الحَثُّ على المبالغة في وعظه . هذا جواب سيبويه عن الإشكال ، وهو أنه تعالى عَلِمَ أنه لا يؤمن ، وقال : { لعله يتذكَّر } ، فصرف الرجاء إلى موسى وهارون ، أي : اذهبا على رجائكما . وقال الوراق : قد تذكر حين ألجمه الغرق . وقال الزجاج : خاطبهم بما يعقلون . قلت : كونه تعالى علم أنه لا يؤمن هو من أسرار القدر الذي لا يكشف في هذه الدار ، وهو من أسرار الحقيقة ، وإنما بُعثت الرسل بإظهار الشرائع ، فخاطبهم الحق تعالى بما يناسب التبليغ في عالم الحكمة ، والله تعالى أعلم . وجدوى إرسالهما إليه ، مع العلم بإحالته ، إلزام الحجة وقطع المعذرة .
{ قالا ربنا إِننا نخاف أن يَفْرُطَ علينا } أي : يعجل علينا بالعقوبة ، ولا يصبر إلى تمام الدعوة وإظهار المعجزة . وهو من " فَرطَ " إذا تقدم ، ومنه : الفارط ، للوليد الذي مات صغيرًا .
(4/12)

وقرئ بضم الياء ، من " أفرط " إذا حَمله على العجلة ، أي : نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار والخوف على المُلك أو غيرهما ، على المعاجلة والعقاب ، { أو أن يطغى } ؛ يزداد طغيانًا ، كأن يقول في شأنك ما لا ينبغي ، لكمال جرأته وقساوته ، وإظهار " أن "؛ لإظهار كمال الاعتناء بالأمر ، والإشعار بتحقيق الخوف من كل منهما ، وهذا القول يحتمل أن يكون قاله موسى ودخل هارون بالتبع ، إيذانًا بأصالة موسى عليه السلام في كل قول وفعل ، وتبعية هارون عليه السلام ، أو يكون هارون قال ذلك بعد تلاقيهما ، فحكى الله قولهما عند نزول الآية ، كما في قوله تعالى : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] ، فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع ، مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد؛ لاستحالة جمعهم في الوجود ، فكيف باجتماعهم في الخطاب؟
{ قال } تعالى لهما : { لا تخافا } ، وهو استئناف بياني ، كأن قائلاً قال : فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه؟ فقيل : قال : لا تخافا ما توهمتما من الأمرين ، { إِنني معكما } بحفظي ورعايتي ونصري ومعونتي ، { أسمعُ وأرى } ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل ، فأفعل في كل حال ما يليق بها؛ من دفع ضر وشر ، وجلب نفع وخير .
{ فأتياهُ } ، أمر بإتيانه ، الذي هو عبارة عن الوصول إليه ، بعد ما أمر بالذهاب إليه ، فلا تكرار ، { فقولا } له : { إِنّا لاسولا ربك } إليك ، أمر بذلك من أول الأمر ، ليعرف الطاغية شأنهما ، ويبني جوابه على ذلك ، { فأرسِلْ معنا بني إِسرائيل } أي : أطلقهم من الأسر والقهر ، وأخرجهم من تحت يدك العادية . وليس المراد إرسالهم معه إلى الشام ، بدليل قوله : { ولا تعذِّبْهم } بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب ، فإنهم كانوا تحت مملكة القبط ، يستخدمونهم في الأعمال الصعبة ، من الحفر ونقل الأحجار ، وضرب اللبن والطين ، وبناء المدائن ، وغير ذلك من الأعمال الشاقة ، ويقتلون ذكور أولادهم عامًا دون عام ، فكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وحده ، وتسريح بني إسرائيل . رُوي أنه لمّا رغبه في الإيمان بذكر ما أعد الله لأهله من الخلود في الجنة ولملك الدائم ، أعجبه ، فقال : حتى أستشير هامان ، وكان غائبًا ، فقَدِم ، فأخبره ، فقال هامان : قد كنتُ أرى لك عقلاً ، بينما أنت رب تصيرُ مربوبًا ، وبينما أنت تُعبد تصير تعبد غيرك ، فغلبه على رأيه .
فقال له موسى : { قد جئناك بآيةِ من ربك } ، قال فرعون : وما هي؟ فأدخل يده في جيب قميصه ثم أخرجها بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب منها ، ولم يُره العصا إلا بعد ذلك ، يوم الزينة . قاله الثعلبي . قلت : والذي يظهر من سورة الشعراء - بل هو صريح فيها - أنه أراه العصا واليد . وإنما أفردت في اللفظ ، هنا؛ لأن المراد إثبات الحجة بصحة الرسالة ، لا تَعدد الآية ، وكذلك قوله تعالى :
(4/13)

{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عِمرَان : 49 ] ، { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } [ الشُّعَرَاء : 30 ] ، وأما قوله تعالى : { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعرَاف : 106 ] ؛ فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات .
ثم قال له : { والسلامُ على مَن اتبعَ الهُدى } أي : وسلام الله وملائكته والمؤمنين المقتضي سلامة الدارين ، على من اتبع الهدى ، بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق ، دون من اتبع الغي والهوى ، وفيه من الترغيب ، في اتباعها على ألطف وجه ، ما لا يخفى . { إِنا قد أُوحي إِلينا } من جهة ربنا ، { أنَّ العذابَ } الدنيوي والأخروي { على مَن كذَّب } بآيات الله { وتولى } أي : أعرض عن قبولها ، وفيه من التلطف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به ما لا مزيد عليه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي لأهل العلم ولأهل الوعظ والتذكير أن يتعاونوا على نشر العلم ووعظ العباد ، ويتوجهوا إليهم في أقطار البلاد ، فإن ذلك فرض كفاية على أهل العلم ، ولا يشغلهم نشر العلم عن ذكر الله ، ولا تذكير العباد عن شهود الله ، كما قال الله تعالى : { ولا تنيا في ذكري } أي : ولا تغفلا عن شهودي وقت إرشاد عبادي ، فإن توجهوا إلى الجبابرة والفراعنة فليلينوا لهم المقال ، وليدعوهم إلى أسهل الخلال ، فإن ذلك أدعى إلى الامتثال ، خلافًا لمن قال هذه ملة موسوية ، وأما الملة المحمدية فقال تعالى فيها : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ؛ فإنَّ بيان الحق لا ينافي أن يكون بملاطفة وإحسان ، فإن خاف الواعظ من صولة المتجبر فإن الله معه ، يحفظه ويرعاه ، ويسمعه ويراه ، فإن لم يسمع لقوله ولم يتعظ لوعظه ، فقد بلغ ما عليه ، وليقل بلسان الحال أو المقال : ( والسلام على من اتبع الهدى ) . وبالله التوفيق .
(4/14)

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قلت : { خَلْقَه } : يحتمل أن يكون اسمًا بمعنى المخلوق ، فيكون مفعولاً أولاً ، و { كل شيء } : مفعولاً ثانيًا ، أو يكون مصدرًا بمعنى الخلقة ، فيكون مفعولاً ثانيًا ، أي : أعطى كل شيء خِلقتَه وصُورته التي هو عليها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } فرعونُ في جواب موسى ، لما أتاه مع أخيه وبلغا الرسالة ، وقالا له ما أمرهما به ربهما ، وإنما حذفه للإيجاز ، وللإشعار بأنهما لما أُمرا بذلك سارعا إلى الامتثال من غير تلعثم ، أو بأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به ، فقال لهما فرعون : { فمن ربكما يا موسى } ؟ لم يضف الرب إلى نفسه؛ لغاية عتوه وطغيانه ، بل أضافه إليهما ، وفي الشعراء : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشُّعَرَاء : 23 ] ، والجمع بينهما تَعدد الدعوة ، ففي كل مرة حكى لنا ما قال . وتخصيص النداء بموسى ، مع توجيه الخطاب إليهما؛ لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون وزيره .
{ قال } موسى عليه السلام مجيبًا له : { ربُنا الذي أعطى كُلَّ شيءٍ خلقه } أي : ربنا هو الذي أعطى كل شيء خلقه ، أي : مخلوقاته؛ مما يحتاجون إليه ويرتفقون به في قوام أبدانهم ومعايشهم ، أو أعطى كل شيء خِلْقته وصُورته التي يختص بها ، ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان . ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرًا . أو أعطى كل شيء فعله وتصرفه ، فاليد للبطش ، والرجل للمشي ، واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، أو أعطى كل شيء شكله من جنسه ، للإنسان زوجةً ، وللبعير ناقةً ، وللفرس رَمْكةً ، وللحمار أتَانًا . { ثم هَدى } إلى طريق الانتفاع والارتقاء ، بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله ، فألهمه الرضاع والأكل والشرب والجماع ، وطلب الرعي وتوفي المهالك ، وكيف يأتي الذكرُ الأنثى .
ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدمًا على الهداية ، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام ، عطف بثم المفيدة للتراخي . ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق ، وأسلوب لائق؛ حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات ، خالق لجميع الكائنات ، منعم عليهم بجميع النعم السابغات ، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات .
{ قال } فرعون : { فما بالُ القرونِ الأُولى } أي : ما حالها بعد الموت ، وما فعل الله بها؟ فقال له موسى : هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله ، وهو معنى قوله : { علمها عند ربي } ، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة ، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ . وكأنَّ عدو الله ، لما خاف أن يُبهت ، ويُفتضح ، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام ، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني ، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة؛ فلذلك أعرض عنه ، و { قال علمها عند ربي } ، وهذا أحسن من الأول؛ لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له : من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم ، ومن تولى فقد عُذب وتألّم ، حسبما نطق به قوله تعالى : { والسلام على مَن اتبع الهدى } .
(4/15)

وقيل : فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى ، أو : ما بالها لم تكن على دينك ، أو : ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب ، وكلها بعيدة .
قلت : والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى : { ثم هدى } أي : إلى الإيمان ، فاعترض بقوله : فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله : { علمها عند ربي } ، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى . وقوله : { في كتاب } أي : اللوح المحفوظ ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها ، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله - عزّ وجلّ - تمكن من استحفظ الشيء ، وقيده بالكتابة ، كما يَلوحُ به قوله تعالى : { لا يَضِلُّ ربي } أي : لا يخطئ ابتداء ، { ولا ينسى } فيتذكر . وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا . وإظهار { ربي } في موضع الإضمار ، للتلذذ بذكره ، وللإشعار بعلّية الحكم؛ فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان .
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع ، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها ، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى ، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها ، لا حقيقة ولا مجازًا ، ولو قال له : هو الخالق الرازق ، وشبه ذلك ، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه .
ثم تخلص إليه؛ حيث قال : بطريق الحكاية عن الله عزّ وجلّ ، أو من كلامه عليه السلام : { الذي جعل لكمُ الأرضَ مهادًا } أي : كالمهد تتمهدونها بالسكن والقرار ، أي : جعل كل موضع منها مهدًا لكل واحد منكم . { وَسَلَكَ لكم فيها سُبُلاً } أي : طُرقًا تتوصلون بها من قطر إلى قطر ، لتقضوا منها مآربكم ، وتنتفعوا بمرافقها ومنافعها ، ووسطها بين الجبال والأودية لتعرف أمارات سُبلها . { وأنزل من السماء ماءً } هو المطر ، { فأخرجنا به } ، يحتمل أن يكون من كلام الله ، وما قبله من كلام موسى ، أو كله من كلام الله تعالى ، حكاه موسى عليه السلام ، وإنما التفت إلى التكلم؛ للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة ، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ، أي : فأخرجنا بذلك الماء { أزواجًا } : أصنافًا ، سميت أزواجًا؛ لازدواجها ، واقتران بعضها ببعض ، كائنة { من نباتٍ شتى } : متفرقة ، جمع شتيت : أي : متفرق ، وهو ، في الأصل ، مصدر ، يستوي فيه الواحد والجمع ، يعني : أنها مختلفة في الشكل واللون والطعم والرائحة والنفع ، وبعضها صالح للناس على اختلاف صلاحها لهم ، وبعضها للبهائم .
(4/16)

ومن تمام نعمته تعالى أن أرزاق عباده ، لمَّا كان تحصيلها بعمل الأنعام ، جعل عَلفَها مما يفضل عن حاجتهم ، ولا يليق بكونه طعامًا لهم ، وهو معنى قوله : { كُلوا وارْعَوا أنعامكم } ، والجملة : حالٌ ، على إرادة القول ، أي : أخرجنا منها أصناف النبات ، قائلين : كلوا وارعوا أنعامكم ، آذنين في ذلك لكم .
{ إِن في ذلك } المذكور ، من شؤونه تعالى ، وأفعاله وأنعامه ، { لآياتٍ } جليلة واضحة الدلالة على عظيم شأنه تعالى ، في ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى صحة نبوة موسى وهارون - عليهما السلام- ، { لأُولي النُّهَى } أي : العقول الصافية ، جمع " نُهْيَة " ، سمى بها العقل ، لنهيه عن اتباع الباطل ، وارتكاب القبيح ، أي : لذوي العقول الناهية عن الأباطيل ، التي من جملتها ما يدعيه الطاغية وما يقبله منه الفئة الباغية . وتخصيص كونها آيات لهم ، مع أنها آية للعالمين؛ لأنهم المنتفعون بها .
{ منها خلقناكم } أي : من الأرض الممهدة لكم ، خلقناكم بخلق أبيكم آدم عليه السلام ، وأنتم في ضمنه ، إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه عليه السلام ، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس ، انطواء إجماليًا ، فكان خلقه عليه السلام منها خلقًا لكل منها ، وقيل : خلقت أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض . وقال عطاء : إن المَلَك الموكل بالرحم ينطلق ، فيأخذ من تراب المكان الذي يُدفن فيه العبد ، فيذره على النطفة ، فتخلق من التراب ومن النطفة . ه .
{ وفيها نُعيدكم } بالإماتة وتفريق الأجزاء ، والكلام على الأشباح دون الأرواح ، فإنها ، بعد السؤال ، تصعد إلى السماء ، كما يأتي عند قوله تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين } [ الواقِعَة : 88 ] الآية . ولم يقل : وإليها نُعيدكم؛ إشارة إلى استقرار العبد فيها ، { ومنها نُخرجكم تارةً أخرى } بتأليف أجزائكم المتفتتة ، المختلطة بالتراب ، على الهيئة السابقة ، ورد الأرواح إليها . وكون هذا الإخراج تارة أخرى : باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها ، وإن لم يكن على التارة الثانية . والتارة في الأصل : اسم للتور ، وهو الجريان ، فالتارة واحدة منه ، ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتحدة ، كما مر في المرة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ، مما سبق لهم في أزله ، ثم هدى إلى الأسباب الموصلة إليه ، فمنهم من كان حظه في الأزل قوت الأشباح ، هداه إلى أسبابها ، وهم أهل مقام البعد ، ومنهم من كان حظه قوت القلوب ، فهداه إلى أسبابها من المجاهدة في الطاعات وأنواع القربات ، وهم أنواع :
فمنهم من شغلهم بتدريس العلوم وتدقيق الفهوم ، وتحرير المسائل وتمهيد النوازل ، وهداهم إلى أسباب ذلك ، وهم حملة الشريعة ، إن صحت نيتهم وثبت إخلاصهم . ومنهم من شغلهم بتوالي الطاعات وتعمير الأوقات ، وهداهم إلى أسبابها ، وقواهم على مشاقها ، وهم العباد والزهاد .
(4/17)

ومنهم من شغلهم بإطعام الطعام والرفق بالأنام ، وتعمير الزوايا وقبول الهدايا ، وهداهم إلى أسباب عمارتها والقيام بها ، وهم الصالحون . ومنهم : من كان حظه قوت الأرواح ، وهم المريدون السائرون ، أهل الرياضة والتصفية ، والتخلية والتحلية ، والتهذيب والتدريب ، وهداهم إلى أسبابها ، ووصلهم إلى شيخ كامل يُبينها ويسلّكها ، وهم في ذلك مقامات متفاوتة ، على حسب صدقهم وجدهم ، ومنهم من كان حظه قوت الأسرار ، وهم العارفون الكبار ، السابقون المقربون ، أهل الفناء والبقاء ، أهل الرسوخ والتمكين ، فهداهم إلى ما أمّلوا ، ووصلهم إلى ما طلبوا . نفعنا الله بهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين .
وقوله : { فما بال القرون الأولى . . . } الآية ، فيه زجر للمريد عن الاشتغال بالحكايات الماضية ، لأن في ذلك شُغُلاً عن الله ، إلا ما كان فيه زيادة إلى الله ، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . وقوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض مهادًا } أي : جعل أرض النفوس مهادًا للقيام برسم العبودية ، وسلك فيها سبلاً توصل إلى مشاهدة الربوبية ، لمن سلكها بالرياضة والمجاهدة ، وأنزل من سماء الملكوت ماء الواردات الإلهية ، تحيا به الأرواح ، فتخرج أصنافًا من العلوم والحكم شتى ، كُلوا برعي القلوب في نِوار تجلياتها ، وارعوا لقوت أشباحكم من ثمار حسياتها ، إن في ذلك لآيات لأولي النُهى . { منها خلقناكم } : من أرض نفوسكم أخرجناكم ، بشهود عظمة الربوبية ، وفيها نُعيدكم؛ للقيام برسم العبودية ، ومنها نُخرجكم؛ لتكونوا لله ، لا لشيء دونه . أو منها خلقناكم ، أي : أخرجناكم من شهود ظلمتها إلى نور خالقها ، بالفناء عنها ، وفيها نُعيدكم بالرجوع إلى الأثر في مقام البقاء ، { ومنها نُخرجكم تارة أخرى } ؛ بعقد الحرية في مقام البقاء ، فتكونوا عبيدًا شُكَّرًا . وبالله التوفيق .
(4/18)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قلت : { موعدًا } : مصدر ، مفعول أول ل { اجعل } . و { مكانًا } : مفعول بفعل محذوف ، أي : تعدنا مكانًا سُوى ، لا بموعد ، لأنه وصف ، ويجوز نصبه على إسقاط الخافض ، و { يوم الزينة } : على حذف مضاف ، أي : مكان يوم الزينة ، و { أن يحشر } : عطف على يوم ، أو الزينة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد أريناه } أي : فرعون ، { آياتنا } ، حين قال له : { فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } [ الشُّعَرَاء : 31-33 ] ، وعبّر بالجمع ، مع كونهما اثنتين ، باعتبار ما في تضاعيفهما من الخوارق ، التي كل واحدة منها آية . وقد رأى فرعونُ من هاتين الآيتين أمورًا دواهي ، فإنه روى أنه عليه السلام ، لما ألقى العَصا ، انقلبت ثعبانًا أشعر ، فاغرًا فاه ، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا من قومه ، فصاح فرعون : يا موسى أُنشدك الذي أرسلك إلا أخذته ، فأخذه ، فعاد عصًا . ورُوي أنها ، لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مُرني بما شئت ، ويقول فرعون : أنشدك . . . الخ . ونزع يده من جيبه ، فإذا هي بيضاء بياضًا نورانيًا خارجًا عن العادة . ففي تضاعيف كُلٍّ من الآيتين آيات جمة ، لكنها لما كانت غير مذكورة بالصراحة ، أكدت بقوله تعالى : { كلَّها } ، كأنه قيل : أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها ، قصدًا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر .
وقيل : أريناه آياتنا التسع ، وهو بعيد؛ لأنها إنما ظهرت على يده عليه السلام بعد ما غلبت السحرة على مَهَل ، في نحو من عشرين سنة ، والكلام هنا قبل المعارضة ، اللهم إلا أن يكون الحق تعالى أخبرنا أنه أراه الآيات التسع كلها ، فأبى عن الإيمان ، ثم رجع إلى إتمام القصة .
وأبعد منه : من عَدّ في الآيات ما جُعِل لإهلاكهم ، لا لإرشادهم إلى الإيمان؛ من فلق البحر ، وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل؛ من نتق الجبل والحجر ، وغير ذلك ، وكذلك من عَدّ منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء - عليهم السلام -؛ حيث حكاها موسى عليه السلام لفرعون ، بناء على أن حكايته إياها له في حكم إظهارها بين يديه؛ لاستحالة الكذب عليه ، فإنَّ حكايته إياها لفرعون مما لم يجر ذكره هنا ، فكل هذا بعيد من سياق النظم الكريم .
قال تعالى : { فَكَذَّبَ } فرعونُ موسى ، { وأَبَى } الإيمان والطاعة ، مع ما شاهد على يده من الشواهد الناطقة بصدقه . جحودًا وعنادًا؛ لعتوه واستكباره ، وقيل : كذَّب بالآيات جميعًا ، وأبَى أن يقبل شيئًا منها .
(4/19)

{ قال أجئتنا لتُخْرِجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى } ، هذا استئناف مُبين لكيفية تكذيبه وإبائه . والمجيء إما على حقيقته ، أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له ، أي : أجئتنا من مكانك الذي كنتَ فيه ترعى الغنم؛ لتُخرجنا من أرضنا؟ أو : أقبلت إلينا؛ لتُخرجنا من مصر؛ بما أظهرت لنا من السحر ، فإن ذلك مما لا يصدر عن عاقل؛ لكونه من باب محاولة المحال ، وإنما قاله؛ تحريضًا لقومه على مقت موسى والبعد عنه ، بإظهار أن مراده عليه السلام إخراج القبط من وطنهم ، وحيازة أموالهم ، وإهلاكهم بالكلية ، حتى لا يميل أحد إليه ، { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } [ يوسف : 21 ] . وسمى ما أظهره عليه السلام من المعجزة الباهرة سحرًا ، ثم ادعى أنه يعارضه ، حيث قال : { فَلنَأْتينك بسحرٍ مثله } أي : وإذا كان الأمر كذلك ، فوالله لنأتينك بسحر مثل سحرك ، { فاجعلْ بيننا وبينك موعدًا } أي : وعدًا { لا نُخلفه } أي : لا نخلف ذلك الوعد ، ولا نجاوزه { نحنُ ولا أنت } ، بل نجتمع فيه وقت ذلك الموعد ، وإنما فوض اللعينُ أمرَ الوعد إلى موسى عليه السلام؛ للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب ودخول الرعب إليه ، وإظهار الجلادة ، بإظهار أنه متمكن من تهيئَة أسباب المعارضة ، طال الأمر أو قصر ، كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السلام ، وتوسيط كلمة " النفي " بينهما؛ للإيذان بمسارعته إلى عدم الاختلاف .
وقوله تعالى : { مكانًا سُوىً } أي : يكون ذلك الوعد - أي : وعد الاجتماع - في مكان مستوٍ ، تستوي مسافته بيننا وبينك ، عدلاً ، لا ظلم على أحد في الإتيان إليه ، منا ومنك ، وفيه لغتان : ضم السين وكسرها .
{ قال } لهم موسى عليه السلام : { موعدُكُم يومُ الزينة } أي : مكان الزينة؛ لأن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم ، وهو يوم عيد لهم ، في كل عام يتزينون ويجتمعون فيه ، وقيل : يوم النيروز ، وقيل : يوم عاشوراء ، وقيل : يوم سوق لهم . { وأن يُحشر الناسُ ضحًى } أي : موعدكم يوم الزينة ، وحشرُ الناس ضحى ، أو يوم حشر الناس في وقت الضحى ، يجتمعون نهارًا جهارًا ، أراد عليه السلام أن يكون أبلغ في إظهار الحجة وإدحاض الباطل ، بكونه على رؤوس الأشهاد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من سبق له البعد عن الرحمن ، لا ينفع فيه خوارق معجزاتٍ ، ولا قاطع برهان ودليل ، أبعده التكبر والطغيان ، ودفعُ الحق بالباطل . نعوذ بالله من موارد الخذلان .
(4/20)

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
قلت : { إن هذان لساحران } : مَنْ خَفَّفَ { إن } : جعلها نافية ، أو مخففة ، واللام فارقة . ومَنْ ثَقَّلها وقرأها : { هذان } ؛ بالألف ، فقيل : على لغة بلحارث بن كعب وخثعم وكنانة ، فإنهم يَلْزَمُونَ الألف؛ رفعًا ونصبًا وجرًا ، ويُعرِبُونَها تقديرًا ، وقيل : اسمها : ضمير الشأن ، أي : إنه الأمر والشأن هاذان لهما ساحران . وقيل : " إن " بمعنى " نعم " ، لا تعمل ، وما بعدها : جملة من مبتدأ وخبر . وقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنه خطأ من الكُتاب ، مثل قوله : { والمقيمين الصلاة } [ النِّساء : 162 ] ، { والصابئون } [ المائدة : 69 ] ، في المائدة ، ويرده تواتر القراءة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فتولَّى فرعونُ } أي : انصرف عن المجلس ، ورجع إلى وطنه ، { فجمعَ كيده } أي : حِيلَه وسَحرته؛ ليكيد به موسى عليه السلام ، { ثم أتى } الموعد ، ومعه ما جمعه من كيده وسحرته ، وسيأتي عددهم .
{ قال لهم موسى } ، حيث اجتمعوا من طريق النصيحة : { ويلَكُم } أي : ألزمَكم اللهُ الويل ، إن افتريتم على الله الكذب ، { لا تفتروا على الله كذبًا } بإشراك أحد معه ، كما تعتقدون في فرعون ، أو بأن تحيلوا الباطل حقًا ، { فَيُسْحِتَكم } أي : يستأصلكم ، بسببه ، { بعذابٍ } لا يُقَادَر قدره ، وقرئ رباعيًا وثلاثيًا ، يقال : سحت وأسحت . فالثلاثي : لغة أهل الحجاز ، والرباعي : لغة بني تميم ونجد . { وقد خاب } وخسر { مَن افترى } على الله ، كائنًا من كان ، بأي وجه كان ، فيدخل الافتراء المنهي عنه دخولاً أوليًا ، أو : قد خاب فرعون المفتري على الله ، فلا تكونوا مثله في الخيبة .
{ فتنازعوا } أي : السحرة ، حين سمعوا كلامه عليه السلام ، { أمرَهُم } أي : في أمرهم الذي أريد منهم؛ من مغالبته عليه السلام ، وتشاوروا وتناظروا { بينهم } في كيفية المعارضة ، وتشاجروا ، ورددوا القول في ذلك ، { وأسَرُّوا النجوى } أي : من موسى عليه السلام؛ لئلا يقف عليه فيدافعه ، ونجواهم على هذا هو قوله : { قالوا إِنْ هذان } أي : موسى وهارون ، { لساحران } عظيمان { يُريدان أن يُخرجاكم من أرضكم } ؛ مصر ، بالاستيلاء عليها { بسحرهما } الذي أظهره قبل ، { ويَذْهبا بطريقتكُمُ المثلى } أي : بمذهبكم ، الذي هو أفضل المذاهب وأمثلُها ، بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما .
قال ابن عطية : والأظهر ، في الطريقة هنا ، أنه السيرة والمملكة . والمُثلى : تأنيث الأمثل ، أي : الفاضلة الحسنة . ه . وقيل : الطريقة هنا : اسم لوجوه القوم وأشرافِهم ، لأنهم قدوة لغيرهم ، والمعنى : يريدان أن يصرفا وجوه الناس وأشرافَهم إليهما ، ويُبطلان ما أنتم عليه . وقال قتادة : ( طريقتهم المثلى يومئذ : بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددًا وأموالاً ، فقال فرعون : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما ) . ولا شك أن حمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل من بينهم ، مع بقاء قوم فرعون على حالهم آمِنين في ديارهم بعيد ، مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله .
وقوله تعالى : { فأجْمِعُوا كيدكم } : تصريح بالمطلوب ، أي : إذا كان الأمر كما ذكر ، من كونهما ساحرين يُريدان إخراجكم من بلادكم ، فأجمعوا كيدكم ، أي : اجعلوه مُجمعًا عليه ، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم ، وارموه عن قوس واحدة .
(4/21)

وقرأ أبو عمرو : { فاجْمَعُوا } ، من الجمع ، أي : فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي ، { ثم ائْتُوا صفًّا } أي : مصطفين ، أمروا بذلك؛ لأنه أَهْيَبُ في صدور الرائين ، وأَدْخَلُ في استجلاب الرهبة من المشاهدين . قيل : كانوا سبعين ألفًا ، مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين ساحرًا؛ اثنان من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وقيل : تسعمائة؛ ثلاثمائة من الفُرس ، وثلاثمائة من الروم ، وثلاثمائة من الإسكندرية ، وقيل : خمسة عشر ألفًا . والله تعالى أعلم . ولعل الموعد كان مكانًا متسعًا ، خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره ، وتنازعوا أمرهم في قطر آخر ، ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الوجه المذكور .
ثم قالوا في آخر نجواهم : { وقد أفلح اليوم مَن استعلى } ؛ فاز بالمطلوب مَنْ غلب ، يريدون بما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب ، أو بالرئاسة والجاه والذكر الحسن في الناس . وقيل : كان نجواهم أن قالوا - حين سمعوا مقاله موسى عليه السلام - : ما هذا بقول ساحر ، وقيل : كان ذلك أن قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه ، وقيل : قالوا فيها : إن كان ساحرًا غلبناه ، وإن كان من السماء فله أمر . فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون ، ويحمل قولهم : { إِن هذان لساحران . . . } الخ ، على أنهم اختلفوا فيما بينهم على الأقاويل المذكورة ، ثم أعرضوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر ، واستقرت آراؤهم على المغالبة والمعارضة . والله تعالى أعلم بما كان .
ثم طلبوا المعارضة ، فقالوا : { يا موسى إِما أن تُلقي } ما تلقيه أولاً ، { وإِما أن نكون أول من ألقى } ما نلقيه . خيروه عليه السلام فيما ذكر؛ مراعاة للأدب ، لما رأوا عليه من مخايل الخير ، وإظهارًا للجلادة ، { قال بل أَلْقُوا } أنتم أولاً ، مقابلة لأدبهم بأحسن منه ، فَبَتَّ القول بإلقائهم أولاً ، وإظهارًا لعدم المبالاة بسحرهم ، ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء ، وليستفرغوا أقصى جهدهم وسعيهم ، ثم يُظهر اللهُ سبحانه سلطانه ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه كما تعودَ من ربه .
فألقوا ما عندهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِم أَنَّهَا تَسْعَى } أي : ففوجئ موسى ، وتخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم ، وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق ، فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت ، فخيل إليه أنها تتحرك . قلت : هكذا ذكر كثير من المفسرين . والذي يظهر أن تحريكها إنما كان من تخييل السحر الذي يقلب الأعيان في مرأى العين ، كما يفعله أهل الشعوذة ، وهو علم معروف من علوم السحر ، ويدل على ذلك ما ورد أنها انقلبت حيات تمشي على بطونها ، تقصد موسى عليه السلام ، فكيف يفعل الزئبق هذا؟ قال ابن جزي : استدل بعضهم بهذه الآية أن السحر تخييل لا حقيقة له .
(4/22)

ه .
{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً } أي : خوفًا ، { موسى } : أي : أضمر في نفسه بعض خوف ، من جهة الطبع البشري المجبول على النفرة من الحيات ، والاحتراز من ضررها . وقال مقاتل : إنما خاف موسى ، إذ صنع القوم مثل صنيعه ، بأن يشكُّوا فيه ، فلا يتبعوه ، ويشك فيه من تابعه . { قلنا لا تخف } ما توهمت ، { إِنك أنت الأعلى } ؛ الغالب عليهم ، والجملة : تعليل لنهيه عن الخوف ، وتقرير لغلبته ، على أبلغ وجه ، كما يُعرب عنه الاستئناف ، وحرف التحقيق ، وتأكيد الضمير ، وتعريف الخبر ، ولفظ العلو .
ثم قال له : { وأَلْقِ ما في يمينك } أي : عصاك ، وإنما أبهمت؛ تفخيمًا لشأنها ، وإيذانًا بأنها ليست من جنس العصا المعهودة ، بل خارجة عن حدود أفراد الجنس ، مبهمة الكنه ، مستتبعة لآثار غريبة ، وأما حملُ الإبهام على التحقير ، بمعنى : لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم ، وألق العُوَيْد الذي في يدك ، فإنه بقدرة الله تعالى يتلقفُها مع وحدته وكثرتها ، وصغره وكبرها ، فيأباه ظهور حالها ، وما وقع منها فيما مر من تعظيم شأنها .
وقوله تعالى : { تَلْقَفْ ما صنعوا } : جواب الأمر ، من لقفه ، إذا ابتلعه والتقمه بسرعة ، أي : تبتلع ، وتلتقم بسرعة ، ما صنعوا من الحبال والعصي ، التي تخيل إليك ، والجملة الأمرية معطوفة على النهي عن الخوف ، موجبة لبيان كيفية غلبته عليه السلام وعلوه ، وإدحاض الخوف عنه ، فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم ، التي منها أوجس في نفسه ما أوجس ، مما يقلع مادته بالكلية . وهذا ، كما ترى ، صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن - كما قال مقاتل - من خوف شك الناس وعدم اتباعه له عليه السلام ، وإلا لعلله بما يزيله من الوعد بالنصر الذي يُوجب اتباعه . فتأمله . قاله أبو السعود . وفيه نظر بأن قوله : { تلقف ما صنعوا } صريح في عدم الالتباس؛ إذ لا ينبغي التباس مع ابتلاع عصاه لعصيهم ، فتأمله . { إِنما صنعوا كَيْدُ ساحرٍ } أي : إن الذي صنعوه كيد ساحر وحِيلَهُ . وقرأ أهل الكوفة : { سِحْر } ؛ بكسر السين ، فالإضافة للبيان ، كما في " علم فقه " ، أو : كيد ذي سحر ، أو يسمى الساحر سحرًا؛ مبالغة . والجملة تعليل لقوله : { تلقف } أي : تبتلعه؛ لأنه كيد ساحر ، { ولا يُفلح الساحرُ حيث أتى } أي : حيث وُجد ، وأين أقبل ، وهو من تمام التعليل . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يقال للفقير ، المتوجه إلى الله تعالى ، من قبل الحق : إمَّا أن تُلقي الدنيا من يدك ، وإمَّا أن نكون أول من ألقاها عنك ، أي : إما أن تتركها اختيارًا ، أو تزول عنك اضطرارًا؛ لأن عادته تعالى ، مع المتوجه الصادق ، أن يدفع عنه كل ما يشغله من أمور الدنيا فيقول - إن كان صادق القلب - : بل ألقها ، ولا حاجة لي بها ، فألقاها الحق تعالى ، وأخرجها من يده ، عناية به ، فإذا أشغالها وعلائقها كانت تسعى في هلاكه وخراب قلبه وتضييع عمره ، فأوجس في نفسه خيفة من العيلة ولحوق الفاقة ، قلنا : لا تخف ، حيث توجهت إلى مولاك ، فإن الله يرزق بغير حساب وبلا أسباب ، وأَلقِ ما في يمين قلبك من اليقين ، تلقف ما صنعوا ، أي : ما صنعت بِكَ خواطر السوء والشيطان ، لأنه يَعدِ بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وإنما صنعوا ذلك؛ تخويفًا وتمويهًا ، لا حقيقة له ، كما يفعل الساحر ، { ولا يفلح الساحر حيث أتى } .
(4/23)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قلت : { في جذوع النخل } ، قال المحلي : أي : عليها ، وهو مذهب كوفي ، وأما مذهب البصريين فيقولون : ليست " في " بمعنى " على " ، ولكن شبه المصلوب ، لتمكنه في الجذع ، بالحالّ في الشيء ، وهو من الاستعارة التعبيرية ، و { من خلاف } : في موضع الحال ، أي : مختلفات .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فلما ألقى موسى عصاه انقلبت حية عظيمة ، فابتلعت تلك الحبال والعصي ، { فألقي السحرةُ سُجّدًا } لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر ، وإنما هي آية من آيات الله . رُوي أن رئيسهم قال : كنا نغلب أعين الناس ، وكانت الآلات تُبقى علينا ، فلو كان هذا سحرًا ، فأين ما ألقينا من الآلات؟ فاستدلوا بما رأوا على صحة رسالة موسى . فألقاهم ما شاهدوه على وجوههم ، فتابوا وآمنوا ، وأتوا بما هو غاية الخضوع ، قيل : لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ، والثواب والعقاب . وعن عكرمة : لما خروا سُجدًا ، أراهم الله تعالى ، في سجودهم ، منازلهم في الجنة . ولا ينافيه قولهم : { إِنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } ، لأن كون تلك المنازل منازلهم هو السبب في صدور هذا القول منهم .
{ قالوا آمنا بربّ هارون وموسى } ، قدّموا هارون؛ إما لكبر سنه ، أو للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون ، حيث كان ربَّى موسى عليه السلام في صغره ، فلو قدّموا موسى لربما توهم اللعين وقومه ، من أول الأمر ، أن مرادهم فرعون ، فأزاحوا تلك الخطرة من أول مرة . { قال آمنتم له } أي : لموسى ، واللام؛ لتضمن الفعل معنى الانقياد والخضوع ، أي : أذعنتم له { قبل أن آذن لكم } أي : من غير أن آذن لكم ، { إِنه } أي : موسى { لكبيرُكُم } أي : أستاذكم وأعلمُكم في فنكم ، { الذي عَلّمكُمُ السحرَ } ، فتواطأتم على ما فعلتم ، وهذه منه شبهة واهية؛ أين كان موسى عليه السلام ، وأين كان السحرة ، حتى علمهم؟ ولكن صدر منه هذا؛ خوفًا على الناس أن يتبعوا موسى عليه السلام ، ويقتدوا بالسحرة ، فأوهم عليهم ، مع ما سبق في علم الله من ضلالتهم .
ثم اقبل على السحرة بالوعيد ، فقال : { فلأقَطِّعَنّ أيديَكم } أي : فوالله لأقطعن أيديَكم { وأرجُلَكم من خلافٍ } أي : اليد اليمنى والرجل اليسرى . وتعيين تلك الحال؛ للإيذان بتحقيق هذا الأمر وإيقاعه لا محالة ، فتعيين تلك الحالة المعهودة من باب السياسة ، أو لأنها معهودة لمن خرج عن حكم طاعته . { ولأصلبَنَّكم في جذوع النخل } أي : عليها ، وإتيان كلمة " في "؛ للدلالة على إبقائهم عليها زمنًا مديدًا ، تشبيهًا في استمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه ، وقيل : هو أول من صلب . { ولتعلمنّ أيُّنا } ، يريد نفسه أو موسى عليه السلام ، حيث خافوا من عصاه فأسلموا ، فَهِم اللعين أن إيمانهم لم يكن للمعجزة ، إنما كان خوفًا ، حيث رأوا عصاه ابتلعت حبالهم وعصيهم ، أو يريد { أينا } أي : أنا أو رب موسى وهارون ، الذي آمنتم به ، { أشدُّ عذابًا وأبقى } أي : أدوم .
(4/24)

قالوا : لم يثبت في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ، ولم يثبت في الأخبار ، لكن رُوي عن ابن عباس ، وغيره ، أنه أنفذه . ورُوي أن امرأة فرعون كانت تسأل : من غلب؟ فيقال لها : موسى ، فقالت : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون يُهددها ، وقال : انظروا أعظم صخرة ، فإن استقرت على قولها فألقوها عليها ، فلما ألقوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة ، فمضت على قولها ، وانتزعت روحها منها ، وألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه . قاله الثعلبي . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من سبقت له العناية ، لا تضره الجِنَايَة . هؤلاء السحرة جاؤوا يحادون الله ورسوله ، فأضحوا أولياء الله . رُوي أن موسى عليه السلام لما قال لهم : { ألقوا ما أنتم ملقون } ، سمع هاتفًا يقول : ألقوا يا أولياء الله ، فتحير موسى عليه السلام ، وأوجس في نفسه خيفة ، وقال : كيف أعارض أولياء الله ، فلما ألقى عصاه ظهرت ولايتهم . فكم من لصوص خرج منهم الخصوص . ففي أمثال هؤلاء تقوية لرجاء أهل الجناية ، إذا طلبوا من الله سِرَّ العناية ، وإدراك مقام الولاية ، ولذلك ابتدأ القشيري في رسالته بذكر من تقدم له جنايات من الأولياء ، كالفضيل ، وابن أدهم ، وأضرابهم - رضي الله عن جميعهم - .
(4/25)

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قلت : { هذه الحياة الدنيا } : نصب على إسقاط الخافض . اتساعًا ، لا نصب على الظرفية؛ لأن الظرف المختص لا ينتصب على الظرفية ، على المشهور ، و { الذي فطرنا } : عطف على { ما جاءنا } ، أو قَسَمٌ حُذف جوابه ، أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن السحرة ، لمَّا خوفهم فرعونُ : { قالوا } غير مكترثين بوعيده : { لن نُؤْثِرَكَ } أي : لن نختارك ، باتباعك { على ما جاءنا } من الله تعالى على يد موسى عليه السلام { من البينات } أي : المعجزات الظاهرة؛ لأن ما ظهر من العصا كان مشتملاً على معجزات جمة ، كما تقدم . { والذي فَطَرَنَا } : خلقنا وخلق سائر المخلوقات ، أي : لن نختارك على ما ظهر لنا من دلائل صحة نبوة موسى ، ولا على الذي خلقنا ، حتى نتبعك ونترك الحق ، وكان ما شاهدوه آية حسية ، وهذه آية عقلية . وإيراده بعنوان فاطريته تعالى؛ للإشعار بعِلِّية الحكم ، فإن خالقيته تعالى لهم ولفرعون - وهو من جملة مخلوقاته - مما يوجب عدم إيثارهم له عليه سبحانه ، أو : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا ، { فاقض ما أنت قاضٍ } أي : فاصنع ما أنت صانعه ، أو : فاحكم ما أنت حاكمه . وهو جواب لقوله : { لأقطعن أيديكم . . . } الخ . { إنما تقضي هذه الحياةَ الدنيا } أي : إنما تصنع ما تهواه ، أو تحكم ما تراه في هذه الحياة الدنيا الفانية ، ولا رغبة لنا في البقاء فيها ، رغبة في سكنى الدار الدائمة ، بسبب موتنا على الإيمان .
{ إِنّا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا } التي اقترفنا ، من الكفر والمعاصي ، ولا يؤاخذنا بها في الآخرة ، فلا نغتر بتلك الحياة الفانية ، حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب ، { و } يغفر لنا أيضًا { ما أكرهتنا عليه من السحر } الذي عملناه في معارضة موسى عليه السلام ، بإكراهك وحشرك لنا من المدائن القاصية ، وخصوه بالذكر ، مع اندراجه في خطاياهم؛ إظهارًا لغاية نفرتهم عنه ، ورغبة في مغفرته ، وفي ذكره الإكراه : نوع اعتذار؛ لاستجلاب المغفرة ، وقيل : أرادوا الإكراه على تعلم السحر ، لما رُوي أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين؛ اثنان منهم من القبط ، والباقي من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر ، وقيل : إنه أكرههم على المعارضة ، حيث رُوي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائمًا ، ففعل ، فوجدوه تحرسه عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر ، فإن الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى إلا أن يعارضوه . لكن يأباه تصديهم للمعارضة بالرغبة والنشاط ، كما يُعرب عنه قولهم : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً . . . } [ الأعرَاف : 113 ] الخ ، وقولهم : { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشُّعَرَاء : 44 ] ، إلا أن يُقال : لما رأوا جدَّهُ طمعوا وطلبوا الأجر . { والله خيرٌ وأبقى } أي : وثواب الله خير من إيثار الدنيا الفانية ، وأبقى في الدار الباقية ، أو : والله في ذاته خير ، وجزاؤه أبقى ، نعيمًا كان أو عذابًا .
(4/26)

ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا : { إِنه مَن يأت ربه مجرمًا } بأن يموت على الكفر والمعاصي ، { فإِنّ له جهنمَ لا يموتُ فيها } فيستريح وينتهي عذابه ، وهذا تحقيق لقوله : { وأبقى } ، { ولا يحيا } حياة ينتفع بها ، وضمير { إنه } : للشأن ، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة؛ لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره ، مع ما فيه من زيادة التقرير ، فإن الضمير لا يفهم منه أول الأمر إلا شأنٌ مبهَمٌ له خطر ، فيبقى الذهن مترقبًا لما يعقبه ، فيتمكن ، عند وروده ، فَضل تمكن ، كأنه قيل الشأن الخطير هذا .
{ ومَن يأتِهِ مؤمنًا } به تعالى ، وما جاء من عنده من المعجزات ، التي من جملتها ما شهدناه ، حال كونه { قد عمل الصالحات } أي : الأعمال الصالحات ، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا ، { فأولئك } أي : من يأت مؤمنًا . . . الخ . وجمع الإشارة؛ باعتبار معنى " مَن " ، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم ، أي : فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات ، { لهم } بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات { الدرجات العُلى } أي : المنازل الرفيعة ، وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب؛ لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى ، لا بالثواب مطلقًا .
ثم فسر تلك الدرجات ، فقال : { جناتُ عَدْنٍ } أي : إقامة على الخلود ، حال كونها { تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها وذلك جزآء من تزكى } الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى . والبعد في الإشارة؛ للتفخيم ، أي : ما تقدم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي ، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة ، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى . وتقدم ذكر حال المجرم ، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه ، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله : { أينا أشدُ عذابًا وأبقى } ، هذا وقد قيل : إن قوله : { إِنه من يأت . . . } الخ ، ابتداء كلام من الله عزّ وجلّ . والله تعالى أعلم .
الإشارة : في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال ، على الثبوت في طريق السلوك ، وعدم الرجوع عنها ، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد ، والتخويف بأنواع العذاب ، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون ، وليقولوا كما قال سحرة فرعون : { لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقضِ ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . . . } الآية . وقد جرى هذا على كثير من الصوفية ، أُوذوا على النسبة ، فمنهم من قُتل ، ومنهم من طُوف ، ومنهم من أُجلى عن وطنه ، إلى غير ذلك مما جرى عليهم ، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه ، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا . وما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا ، ولو قُطع إربًا إربًا . والله ولي المتقين .
(4/27)

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد أوحينا إِلى موسى أنْ أسرِ بعبادي } بعد ما لبث يدعو فرعون إلى الله تعالى ويُريه الآيات المفصلات ، بعد غلبة السحرة ، نحوًا من عشرين سنة ، كما فصّل ذلك في الأعراف ، فلما أيس من إيمانهم أوحى الله بالخروج عنهم ، أي : والله لقد أوحينا إلى موسى أن أسر ، أو بأن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من يد فرعون ، أي : سر بهم من مصر ليلاً إلى بحر القلزم . والتصدير بالقسم؛ لإبراز كمال العناية بمضمونها ، والتعبير عنهم بعبادي؛ لإظهار الرحمة والاعتناء بهم ، والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون ، حيث استعبدهم ، وهم عباده عزّ وجلّ ، وفعل بهم من فنون العذاب ما فعل . { فاضربْ لهم } أي : اجعل لهم ، أو اتخذ لهم { طريقًا في البحر يبسًا } أي : يابسًا لا ماء فيه ، { لا تخاف دَرَكًا } أي : حال كونك آمنًا من أن يُدرككم العدو ، { ولا تخشى } الغرق ، وقرأ حمزة : " لا تخف " بالجزم ، جوابًا للأمر ، فيكون { ولا تخشى } : إما استئناف ، أي : وأنت لا تخشى ، أو عطف عليه ، والألف للإطلاق ، أو يقدر الجزم ، كقوله :
ألَمْ يأتِكَ والأنْباءُ تَنْمِي ... . . الخ .
وتقديم نفي خوف الدرك ، للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف ، حيث قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشُّعَرَاء : 61 ] . { فَأَتْبَعَهُمْ فرعونُ بجنوده } أي : تبعهم ومعه جنوده حتى لحقهم ، يقال : اتبعتهم ، أي : تبعتهم ، إذا كانوا سبقوك ولحقتهم ، ويؤيده قراءة : { فاتَّبَعَهُمْ } بالشد . وقيل : الباء زائدة ، والمعنى : فأتبعهم فرعون جنودَه ، أي : ساقهم خلفهم ، وأيًا ما كان ، فالفاء فصيحة مُعْربة عَن مضمر قد طوى ذكره ، ثقة بظهوره ، وإيذانًا بكمال مسارعة موسى إلى الامتثال ، أي : فَفَعل ما أُمر به من الإسراء بهم ، وضرب الطريق في البحر وسلكوه ، فأتبعهم بجنوده برّا وبحرًا .
رُوِيَ أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل ، وكانوا ستمائة وسبعين ألفًا ، فأخبر فرعون بذلك ، فأتبعهم بعساكره ، وكانت مقدمته سبعمائة ألف ، فقص أثرهم فلحقهم ، بحيث تراءى الجمعان ، فلما أبصروا رهجَ الخيل ، قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشُّعَرَاء : 61 ، 62 ] . فلما قربوا ، قالوا : يا موسى أين نمضي ، البحر أمامنا ، وخيل فرعون خلفنا ، فعند ذلك ضرب موسى عصاه البحر فانفلق على ثنتي عشرة فرقة ، { كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشُّعَرَاء : 63 ] أي : كالجبل العظيم من الماء ، وكانوا يمرون به ، وكلهم بنو أعمام ، لا يرى بعضُهم بعضًا ، فقالوا : قد غرق إخواننا ، فأوحى الله إلى أطواد الماء : أن اشتبكي ، وصارت شبابك ، يرى بعضهم بعضًا ، ويسمع بعضهم كلامَ بعض ، فلما أتى فرعونُ الساحلَ ، وجد البحر منفلقًا ، فقال : سحر موسى البحر ، فقالوا : إن كنت ربًا فادخل كما دخل ، فجاء جبريلُ على رَمَكةٍ ودَيِقٍ ، أي : تحب الفحل ، وكان فرعون على حصان ، فاقتحم جبريل بالرمكة الماء ، فلم يتمالك حصان فرعون ، فاقتحم البحر على إثره ، ودخل القبط كلهم ، فلما لَجَّجُوا ، أوحى الله تعالى إلى البحر أن أغرقهم ، فعلاهم البحر وأغرقهم .
(4/28)

فَعبَر موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ، وأما فرعون وجنوده { فغَشِيَهم من اليمِّ ما غشيهم } أي : علاهم منه وغمرهم من الأمر الهائل ، الذي لا يُقادر قدره ولا يبلغ كنهه . قال القشيري : فغرقوا بجملتهم ، وآمن فرعونُ لما ظهر له البأس ، فلم ينفعه إقراره ، وكان ينفعه لو لم يكن إصرارُه ، وقد أدركته الشقاوةُ التي سَبَقَتْ له من التقدير . ه . وقال الكواشي : { وغشيهم } من الغضب والغرق ، وغير ذلك ، ما لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى . ه . فإبهام الصلة؛ للتهويل والتفخيم ، وقيل : { غشيهم من اليم } ما سمعتَ قصته في غير هذه السورة ، وليس بشيء؛ فإن مدار الإبهام على التهويل والتفخيم ، بحيث يخرج عن حدود الفهم والوصف ، لا سماع قصته فقط .
{ وأضلّ فرعونُ قومَه } أي : أتلفهم وسلك بهم مسلكًا أدى بهم إلى الخيبة والخسران ، حيث ماتوا على الكفر ، وأوصلهم إلى العذاب الهائل الدنيوي ، المتصل بالعذاب الدائم الأخري ، { وما هدَى } أي : ما أرشدهم قط إلى طريق توصلهم إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية . وهو تقرير لإضلاله وتأكيد له ، وفيه نوع تهكم به في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غَافر : 29 ] ، فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة ، وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : انظر عاقبة من شدّ يده على دينه ، وصبر على شدائد زمانه ، كيف خرقت له العوائد ، وجاءه العز والنصر فأنساه تلك الشدائد ، وأهلك الله من كان يؤذيه من الأعداء ، وسلك به سبيل النجاة والهدى ، وهذه عادة الله مع أوليائه ، يُشدد عليهم أولاً بضروب البلايا والمحن ، ثم يعقبهم العز والنصر وضروب المنن .
(4/29)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لبني إسرائيل ، بعد ما أنجاهم من الغرق ، وأفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية : { يا بني إِسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم } ؛ فرعون وقومه ، حيث كانوا { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } [ البَقَرَة : 49 ] ، { ووعدناكم جانبَ الطُّورِ الأيمنِ } أي : واعدناكم بواسطة نبيكم ، إتيان جانب الطور ، الجانب الأيمن منه للمناجاة وإنزال التوراة . وهل هو الطور الذي أبصر فيه النار ووقعت فيه الرسالة ، أو غيره؟ خلاف . ونسبة المواعدة إليهم ممع كونه لموسى عليه السلام خاصة ، أو له وللسبعين المختارين ، نظرٌ إلى ملابستها إياهم ، وسراية منفعتها إليهم ، وإعطاء لمقام الامتنان حقه . كما في قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعرَاف : 11 ] ؛ حيث نسب الخلق والتصوير للمخاطبين ، مع أن المخلوق كذلك هو آدم عليه السلام .
ثم قال تعالى : { ونزَّلنا عليكم } حين تُهتم ، { المنَّ والسَّلْوى } أي : الترنجبين والطير السُّماني ، حيث كان ينزل عليهم المنَّ وهم في التيه ، مثل الثلج ، من الفجر إلى الطلوع ، لكل إنسان صالح ، ويبعث الجنوب عليهم السُّماني ، فيذبح الرجل منه ما يكفيه . وقلنا لهم : { كُلوا من طيباتِ ما رزقناكم } أي : من لذائده ، أو حلاله . وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن الترتيب ما لا يخفى . { ولا تطغَوا فيه } أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره ، والتَعدي لما حَدَّ لكم فيه ، كالترفه والبطر والمنع من المستحق . وقال القشيري : مجاوزة الحلال إلى الحرام ، أو بالزيادة على الكفاف وما لا بُدَّ منه ، فأزاد على سدِّ الرمق ، أو بالأكل على الغفلة والنسيان . ه . وقيل : لا تدخروا ، فادَّخروا فتعودوا ، وقيل : لا تنفقوه في المعصية ، { فيَحِلَّ عليكم غضبي } بفعل شيء من ذلك ، أي : ينزل ويجب ، من حَلَّ الدين؛ إذا وجب . { ومَن يَحْلِلْ عليه غضبي فقد هَوَى } أي : تردَّى وهلك ، أو وقع في المهاوي .
{ وإِني لغفارٌ } أي : كثير الغفران { لمن تابَ } عن الشرك والمعاصي ، التي من جملتها الطغيان فميا ذكر ، { وآمن } بما يجب الإيمان به ، { وعَمِلَ صالحًا } أي : عملاً صالحًا مستقيمًا عند الشرع ، وفيه ترغيب وحث لمن وقع في زلَّة أو طغيان على التوبة والإيمان ، { ثم اهتدى } أي : استقام على الهدى ودام عليها حتى مات . وفيه إشارة إلى أن من لم يستمر عليها بمعزل عن الغفران . قال الكواشي : { ثم اهتدى } أي : علم أن ذلك بتوفيق من الله تعالى . ه .
الإشارة : إذا ذهبت عن العبد أيام المحن ، وجاءت له أيام المنن ، فينبغي له أن يتذكر ما سلف له من المحن ، وينظر ما هو فيه الآن من المنن ، ليزداد شكرًا وتواضعًا ، فتزداد نعمه ، وتتواتر عليه الخيرات . وأما إن نسي أيام المحن ، ولم يشكر ما هو فيه من المنن ، فحقيق أن تزول عنه ، ويرجع إلى ما كان عليه .
(4/30)

وتَذَكَّرْ حديث الأبرص والأقرع والأعمى ، حسبما في الصحيح . فإن الأبرص والأقرع ، حين شفاها الله وأغناهما ، أنكرا ما كانا عليه ، فرجعا إلى ما كانا عليه ، والأعمى حين أقر بما كان عليه ، وشكر الحال الذي حال إليه ، دامت نعمته وكثر خيره . فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود . فيقال لأهل النعم ، إن قاموا بشكرها : كُلوا من طيبات ما رزقناكم ، ولا تطغوا فيه ، بأن تصرفوه في غير محله ، أو تمنعوه عن مستحقه ، { فيحلَّ عليكم غضبي . . . } الآية .
وقوله تعالى : { وإِني لغفار لمن تاب . . . } الخ ، قال القشيري : { وإني لغفار لمن تاب } من الزَّلَّة { وآمن } فلم يَرَ أعماله من نَفْسه ، بل جميع الحوادث من الحقِّ ، { وعمل صالحًا } فلم يُخِلّ بالفرائض ، { ثم اهتدى } للسُّنَّةِ والجماعة ، وقال أيضًا : ثم اهتدى بنا إلينا . ه .
قال الورتجبي : التائب : المنقطعُ إلى الله ، والمؤمن : العارف بالله ، والعمل الصالح : تركه ما دون الله ، فإذا كان كذلك ، فاهتدى بالله إلى الله ، ويكون مغمورًا برحمة الله ، ومعصومًا بعصمة الله . ه .
(4/31)

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
يقول الحقّ جلّ جلاله لموسى عليه السلام ، لما ذهب إلى الطور ، لموافاة الميقات ، للعهد الذي عهد إليه ، واختار سبعين من بني إسرائيل ، يحضرون معه؛ لأخذ التوراة بأمره تعالى ، فلما دنا من الجبل حمله الشوق ، فاستعجل إلى الجبل ، وترك قومه أسفله ، فقال له الحق جلّ جلاله : { وما أعجَلَكَ عن قومك يا موسى } أي : ما حملك على العَجَلَة ، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك ، وقد أمرتك باستصحابهم ، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم؟ فأجاب عليه السلام بقول : { هُمْ أُولاءِ على أَثَري } أي : هم هؤلاء قريبًا مني ، فهُم معي ، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة ، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية ، ولا تقدح في الاستصحاب ، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة .
قال الكواشي : ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين : أحدهما : إنكار العَجَلة ، والثاني : السؤال عن السبب والحامل عليها ، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه ، فاعتل أن قال : إن ما وُجدَ مني تقدم يسير ، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه ، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم ، ثم عقبه بجواب السؤال فقال : { عَجِلْتُ إِليك رَبِّ لِترضَى } ؛ لتزداد عني رضا؛ لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك ، واعتنائي بالوفاء بعهدك؛ لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه . وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء - عليهم السلام - والمعنى : لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك . ه .
وقال القشيري : { هم أولاء على أثري } ؛ ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم ، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى . قال : يا موسى ، رضائي في أن تكون مَعهم ، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم ، وكونُكَ مع الضعفاءِ ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي ، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم . ه .
{ قال } له تعالى : { فإِنا فتنَّا قومَك من بعدِك } أي : ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم . رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة ، بعد ذهابه ، فحسبوها مع أيامها أربعين ، وقالوا : قد أكملنا العدة ، وليس من موسى عين ولا أثر ، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا ، واستخلف هارون على من بقي منهم ، وكانوا ستمائة ألف ، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم ، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا . وهذا معنى قوله تعالى : { وأضلَّهُمُ السامريُّ } ، حيث كان هو السبب في فتنتهم ، فقال لهم : إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم؛ لِمَا معكم من حُليّ القوم ، فهو حرام عليكم ، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله . فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام ، قبل وقوعها ، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى ، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع ، كما في قوله تعالى :
(4/32)

{ ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعرَاف : 44 ] ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام ، وتصدى لها بترتيب مبادئها ، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها .
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل ، يقال لها : سامرة ، وقيل : كان رجلاً من كرمان . وقال ابنُ عباس : كان من قرية يعبدون البقر ، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام ، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقرة ، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل ، واسمه : موسى بن ظفر .
{ فرجع موسى إلى قومه } بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة ، لا عقب الإخبار بالفتنة ، كما يتوهم من قوله تعالى : { غضبانَ أسِفًا } ، فإن كون الرجوع بعد الأربعين أمر مقرر مشهور ، يرفع كون الرجوع عقب الفتنة . والأسف : أشد الغضب ، وقيل : أسفًا : حزينًا جزعًا على ضلال قومه . { قال يا قوم ألم يَعِدْكُم ربُّكم وعدًا حسنًا } ؛ بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى ، { أَفَطَالَ عليكم العهدُ } أي : مدة مفارقتي إياكم . والهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف ، أي : أوَعَدَكم ذلك فطال زمان الإنجاز ، فأخطأتم بسببه ، { أم أردتم أن يَحِلَّ عليكم غضبٌ } شديد كائن { من ربكم } أي : من مالك أمركم ، { فأخلفتم موعدي } أي : وعدي إياكم بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات ، أو وعْدَكم إياي بأن تثبتُوا على ما أمرتكم به ، على إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله ، والفاء ، لترتيب ما بعدها ، كأنه قيل : أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموني خطأ { أم أردتم } حلول الغضب عليكم فأخلفتموه؛ عمدًا .
{ قالوا ما أخلفنا موعدك } أي : وعدنا إياك بالثبات على ما أمرتنا به ، { بمَلْكنا } أي : بسلطاننا وقدرتنا ، ونحن نملك أمرنا . وفيه لغتان : فتح الميم وكسرها . يعنون : لو خلينا وأُمورَنا ، ولم يسوِّل لنا السامريُّ ما سوله ، ما أخلفنا ، ولكن غلبنا على أمرنا ، واستغوانا السامري مع مساعدة الأحوال .
وقال القشيري : أي : لم نكن في ابتداء حالنا قاصدين إلى ما حَصَلَ مِنَّا ، ولا عالمين بما آلَتْ إليه عاقبة أمرِنَا ، وإنَّ الذي حملنا عليه حُلِيّ القبط ، صاغَ السامريُّ منه العجلَ ، فآل الأمر إلى ما بلغ من الشر ، وكذلك الحرامُ لا يخلو شؤمُه من الفتنة والشر . ه .
وقوله تعالى : { ولكِنَّا حُمِّلْنَا أوزارًا من زينةِ القوم } ، استدراك عما سبق ، واعتذار ببيان منشأ الخطأ ، أي : حملنا أحمالاً من حُليّ القبط ، التي استعرناها منهم ، حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس . وقيل : كانوا استعاروها لعيد كان لهم ، ثم لم يردوها إليهم ، مخافة أن يقفوا على أمرهم . وقيل : لما رمى البحر أجساد القبط ، وكان غالب ثيابهم الذهب والفضة ، التقطها بنو إسرائيل ، فهي زينة القوم التي صيغ منها العجل ، ولعل تسميتها أوزارًا؛ لأنها تبعات وآثام ، حيث لم تحل الغنائم لهم .
{ فقذفناها } أي : في النار رجاء الخلاص من عقوبتها ، أو قذفناها إلى السامري وألقاها في النار ، { فكذلك ألقى السامريُّ } ما كان معه منها كما ألقيناه ، أو ألقى ما كان معه من تراب حافر فَرس جبريل ، كان قد صرَّه في عمامته ، وكان ألقى إليه الشيطان : أنه ما خالط شيئًا إلا حيى ، فألقاه في فمه فصار يخور .
(4/33)

رُوِيَ : أنه قال لهم : إنما تأخر موسى عنكم ، لما معكم من الأوزار ، فالرأي أن نحفر حفرة ويُسجر فيها نار ، ونقذف فيها كل ما معنا ، ففعلوا ، { فأخرج لهم } من ذلك الحليّ المذاب { عِجْلاً } أي : صورة عجل { جَسدًا } أي : جثة ذات لحم ودم ، أو جسدًا من ذهب لا روح فيه ، { له خُوار } أي : صوت عِجْل ، { فقالوا } أي : السامري ومن افتتن به : { هذا إِلهكم وإِله موسى فَنَسِيَ } أي : غفل عنه وذهب يطلبه في الطور . فقوله تعالى : { فَأخْرجَ لهم . . . } الخ . . . هو من كلام الله تعالى ، حكاية لنتيجة فتنة السامري ، قولاً وفعلاً ، قصدًا إلى زيادة تقريرها ، وتمهيدًا للإنكار عليهم ، وليس من كلام المعتذرين ، وإلا لقال : فَأَخْرجَ لنا . . . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي لرئيس القوم ، إذا كان في سفر ، أن يكون وسَطهم ، أو سائقًا لهم ، ولا يتقدمهم أو يستعجل لأمر عنهم ، فإن التأني كله من الله ، والعَجَلة كلها من الشيطان ، والخير كله في الاجتماع مع الضعفاء والمساكين ، حتى يكون كأحدهم ، فإن فارقهم ، لأمر مهم ، فليستخلف عليهم من يثق به في دينه ، وليكن اعتماده في ذلك على ربه ، ونظره كله إلى رعايته وحفظه . قال الكواشي : عن ابن عطاء : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أتدري من أين أُتيت؟ - يعني في فتنة قومه - قال : لا يا رب ، قال : حين قلت لهارون : اخلفني في قومي ، أين كنتُ أنا حين اعتمدتَ على هارون؟ . ه .
فكل فتنة أو ضلال يُصيب الفقراء ، فإنما ذلك من عدم الاجتماع مع أهل الفن ، أو قلة الاستماع لهم ، فإن أصابتهم فتنة الأسباب ، والركون إلى شيء من الدنيا في غيبة الشيخ ، فليرجع إليهم غضبان أسفًا ، وليقل لهم : ألم يعدكم ربكم وعدًا حسنًا ، وهو الفتح الكبير لو صبرتم على السير والتجريد ، أفطال عليكم العهد ، فقد كانت الرجال تمكث في خدمة الأشياخ العشرين والثلاثين سنة ، أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، بالإبعاد وإسْدَال الحجاب ، حيث خالفتم عهود أشياخكم ، فإن اعتذروا فليقبل عذرهم ، وإن ركنوا إلى عبادة شيء من عجل الدنيا فليخرجه من أيديهم ، وليقل : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا ، لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفًا . وبالله التوفيق .
(4/34)

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
قلت : { ألا يرجع } : " أن " مخففة ، لأنَّ الناصبة لا تقع بعد أفعال اليقين ، ومن قرأ بالنصب جعل الرؤية بصرية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : مُنكرًا على عبدة العجل ومقبحًا لرأيهم : { أفلا يَرَوْنَ } أي : أفلا يتفكرُ هؤلاء الضالون المضلون فيعلمون { أن } الأمر والشأن : { لا يرجع إِليهم } العجل كلامًا ، ولا يرد عليها جوابًا ، وإنما هو جماد لا روح فيه؟ فكيف يتوهمونه أنه إله؟ وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه عدميًا؛ للتنبيه على كمال ظهوره ، المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم . { و } هو أيضًا { لا يملك لهم ضرًّا ولا نفعًا } أي : أفلا يرون أيضًا أن العجل لا يقدر أن يدفع عنهم ضرًا ، أو يجلب لهم نفعًا؟ أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه ، أو ينفعهم إن عبدوه .
{ ولقد قال لهم هارونُ من قبلُ } أي : والله لقد نصحهم هارون ونبههم على الحق ، من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم ، وقال لهم : { يا قوم إِنما فُتنتم به } أي : وقعتم في الفتنة بالعِجْل أو ضللتم به ، والمعنى : إنما فعل بكم الفتنة ، لا الإرشاد إلى الحق ، { وإِنَّ ربكم الرحمنُ } وحده ، لا العِجْل ، أرشدهم إلى الحق بعد أن زجرهم عن الباطل . والتعرض لعنوان الرحمانية؛ للاعتناء باستمالتهم إلى الحق المُفضي إلى الرحمة الشاملة ، أي : إن ربكم الذي يستحق أن يُعبد هو الرحمن لا غير . { فاتبعوني } على الثبات على الدين ، { وأطيعوا أمري } من ترك عبادة ما علمتم شأنه .
{ قالوا } في جواب هارون عليه السلام : { لن نبرحَ عليه عاكفين } أي : لن نزال على عبادة العجل مقيمين { حتى يرجع إلينا موسى } ، جعلوا رجوعه عليه السلام غاية لعكوفهم على عبادة العجل ، لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه ، بل بطريق التعلل والتسويف ، وقد دسُّوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين لإبطالها ، تعويلاً على مقالة السامري .
رُوِيَ أنهم ، لما قالوا ذلك ، اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفًا ممن لم يعبد العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجَلَبة ، وكانوا يرقصون حول العجل ، قال للسبعين الذين كانوا معه : هذا صوت الفتنة ، فلما وصل إليهم قال لهم ما قال من قوله : { ألم يعدكم . . . } الخ . وسمع منهم ما قالوا من قولهم : { ما أخلفنا . . . } الخ . فلما رأى هارونَ أخذ شعره بيمينه ، ولحيته بشماله ، غضبًا ، { قال يا هارونُ } ، وإنما جرده من الواو؛ لأنه استئناف بياني ، كأنه قيل : ماذا قال موسى لهارون حين سمع جوابهم له؟ وهل رضي بسكوته بعدما شهد منهم ما شهد؟ فقيل : { قال يا هارونُ ما منعك إِذْ رأيتَهم ضلّوا } بعبادة العجل ، وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء ، { ألا تتَّبعنِ } أي : أن تتبعني .
(4/35)

على أن " لا " مزيدة ، أيْ : أيّ شيء منعك ، حين رأيت ضلالتهم ، من أن تتبعني فميا أمرتك ، وتعمل بوصيتي فتقاتلهم بمن معك؟ قال ابن عطية : والتحقيق : أن " لا " غير مزيدة ، ويُقدر فعل ، أي : ما منعك مجانبتهم وسوّل لك ألا تتبعن . ه . قلت : وفيه نظر؛ لأن مجانبة هارون عليه السلام للقوم كانت حاصلة ، وإنما أنكر عليه عدم مقاتلتهم ، أو عدم لحوقه ليخبره ، فتأمله . وقيل : المعنى : ما حملك على ألا تتبعن ، فإن المنع من الشيء مستلزم للحمل على مقابله ، وقيل : ما منعك أن تلحقني وتُخبرني بضلالهم ، فتكون مفارقتك زجرًا لهم ، وهذا أظهر .
{ أفعَصَيتَ أمري } بالصلابة في الدين والمحاماة عليه ، فإن قوله : { اخلفني في قومي } متضمن للأمر بهما حتمًا ، فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرًا ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف ، أي : أخالفتني فعصيت أمري .
{ قال يا ابن أمَّ } ، خص الأم بالذكر؛ استعطافًا لحقها ، وترقيقًا لقلبه ، لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه ، فإن الجمهور على أنهما شقيقان . قال له : { لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي } أي : بشعر رأسي . وقد كان عليه السلام أخذ بهما كما تقدم ، من شدة غيظه وفرط غضبه لله ، وكان حديدًا متصلبًا في كل شيء ، فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ، حتى فعل ما فعل . ثم اعتذر له أخوه بقوله : { إِني خشيتُ } إن قاتلتُ بعضهم ببعض وتفرقوا ، { أن تقول فرقتَ بين بني إِسرائيل } برأيك ، مع كونهم أبناء رجل واحد ، كما يُنبئ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه . وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق : الذي لا يُرى بعده اجتماع ، فخشيتُ أن تقول : فرقت بينهم ، { ولم ترقبْ قولي } أي : قوله : { اخلفني في قومي وأصلح . . . } الخ ، يعني : إني رأيت أن الأصلح هو في حفظ الدماء والمداراة معهم ، إلى أن ترجع إليهم ، فلذلك استأنيتك؛ لتكون أنت المتدارك للأمر بما رأيت ، لا سيما وقد كانوا في غاية القوة ، ونحن على القلة والضعف ، كما يُعرب عنه قوله : { إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } [ الأعرَاف : 150 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من اعتمد على غير الله ، أو مال بمحبته إلى ما سوى الله ، فهو في حقه عجل بني إسرائيل ، فيقال له : كيف تركن إليه وهو لا يملك لك ضرًا ولا نفعًا ، وإنما فُتنت به عن السير إلى ربك ، وانطمست به حضرة قدسك ، فربك الرحمن الكريم المنان ، فاتبع ما أمرك به من الطاعات ، وكن عبدًا له في جميع الحالات ، تكن خالصًا لله ، حُرًا مما سواه . وبالله التوفيق .
(4/36)

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } موسى عليه السلام في توبيخ السامري : { فما خطبُك يا سامريُّ } أي : ما شأنك ، وما مطلوبك فميا فعلتَ من فتنة القوم؟ خاطبه بذلك؛ ليظهرَ للناس بطلانُ كيده باعترافه ، وليفعل به وبما صنع من العقاب ما يكون نكالاً للمفتونين به ، ولمن خلفهم من الأمم من بعده ، { قال } السامري في جوابه : { بَصُرْتُ بما لم يَبْصُرُوا به } أي : علمت ما لم يعلمه القوم ، وفطِنت لما لم يفطنوا به ، أو رأيتُ ما لم يروه ، وهذا أنسب ، وقد كان رأى جبريل عليه السلام ، جاء راكبًا فرسًا ، وكان كلما رفع الفرسُ يده أو رجله عن الطريق اليبس ، اخضر ما تحت قدمه بالنبات ، فعرف أن له شأنًا ، فأخذ من موطئه شيئًا من التراب . وذلك قوله تعالى : { فقبضتُ قبضةً من أَثَرِ الرسولِ } أي : أثر فرس الرسول ، وهو جبريل ، الذي أرسل إليك ليذهب بك إلى الطور .
وقال في اللباب : كان السامري من المقربين لموسى عليه السلام ، فرأى جبريلَ راكبًا على فرس ، وقد دخل البحر فانفلق ، فأخذ من أثره ، ولم ير ذلك إلا من كان مع موسى . ه . وقال قتادة : كان السامري عظيمًا في بني إسرائيل ، من قبيلة يقال لها : سامرة ، ولكن عدو الله نافق ، بعدما قطع البحرَ مع بني إسرائيل ، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة ، وهم يعكفون على أصنام لهم ، وكانوا يعبدون البقر ، { قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعرَاف : 138 ] . فاغتنمها السامري فاتخذ العجل . ه .
وقال الكواشي : وإنما عرف السامريُّ جبريلَ من بين سائر الناس؛ لأن أمه ولدته في السنة التي يُقتل فيها الغلمان ، فوضعته في كهف؛ حذرًا عليه ، فبعث الله تعالى جبريل؛ ليربيه لِمَا قضى على يديه من الفتنة . ه . وضعّفه ابن عطية . قلت : ولعل تضعيفه من جهة النقل ، وأما القدرة فهي صالحةَ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً .
ثم قال : فأخذت تلك القبضة { فنبذتُها } في فم تلك الصورة المذابة من الحُليّ ، فصارت تخور ، { وكذلك سَوَّلَتْ لي نفسي } ؛ أي : زينت . والإشارة : نعت لمصدر محذوف ، أي : سَوَّلَتْ لي نفسي تسويلاً كائنًا مثل ذلك التسويل البديع .
وحاصل جوابه : أن ما فعله إنما صدر منه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة وإغوائها ، لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي ، فند ذلك { قال } له موسى عليه السلام : { فاذهبْ } أي : اخرج من بين الناس ، { فإِنَّ لك في الحياة } أي : في مدة حياتك ، { أن تقولَ لا مِسَاس } والمعنى : أن لك في مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية ، لا بحسب الاختيار ، بل بحسب الاضطرار الملجئ إليه ، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام ، لا يكاد يَمَسُّهُ أحد ، أو يمسُّ أحدًا ، إلا حُمّ من ساعته حمى شديدة ، فتحامَى الناسَ وتحاموه ، وكان يَصيح بأقصى طوقه : لا مساس .
(4/37)

وقيل : إن موسى عليه السلام نفاه من قومه ، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه . قال الحسن : ( جعل الله عقوبة السامري ألا يمَاس الناسَ ولا يماسوه . جعل ذلك له ولمن كان منه إلى يوم القيامة ) . فكأن الله تعالى شدَّد عليه المحنة ، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا . ويقال : ابتلي بالوسواس ، وأصل الوسواس من ذلك الوقت . وقال قتادة : بقاياه اليوم يقولون ذلك : لا مساس . ويقال : إن موسى همّ بقتل السامري ، فقال الله تعالى له : لا تقتله؛ فإنه سخي . ولعل الحكمة في عقابه بهذه العقوبة : أن مخالطته للناس نشأت من هذه الفتنة ، فعوقب بالطرد والبعد عنهم .
ثم قال له الله : { وإِنَّ لك موعدًا } أي : في الآخرة ، { لن تُخْلَفه } أي : لن يُخلفك الله ذلك الوعد ، بل يُنجزه لك أَلبتةَ ، بعد ما عاقبك في الدنيا . أو لن تجاوزه ولن تخطئه ، بل لا بد لك من ملاقاته . { وانظر إِلى إِلهك } العجل ، { الذي ظَلْتَ عليه عاكفًا } ؛ مقيمًا على عبادته ، { لنُحَرِّقنه } أي : والله لنحرقنه بالنار ، وقيل بالمبْرد ، مبالغةً في الحرق ، ويعضده قراءة : " لنحْرُقنه " ، { ثم لنَنْسِفَنَّه } أي : لنذرينه بالريح { في اليمِّ } ؛ في البحر ، رمادًا ، أو مبرودًا كأنه هباء ، { نَسْفًا } بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ، وقد فعل عليه السلام ذلك كله حينئذ ، كما يشهد بذلك الأمرُ بالنظر ، وإنما لم يصرح به؛ تنبيهًا على كمال ظهوره ، واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين .
ثم نبَّه على الحق فقال : { إِنما إِلهُكم الله } أي : إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله . والجملة : استئنافية مسوقة لتحقيق الحق ، إثر إبطال الباطل ، بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل ، ثم وصفه بقوله : { الذي لا إِله إِلا هو } وحده ، من غير أن يُشاركه في الألوهية شيء من الأشياء ، { وَسِعَ كل شيءٍ علمًا } أي : وسع علمه كل ما من شأنه أن يُعلم . وجملة : { وسع } : بدل من الصلة ، أي : إنما إلهكم : الذي وسع كل شيء علمًا لا غيره كائنًا ما كان ، فيدخل فيه العجل دخولاً أوليًا . وهذا ختم كلام موسى عليه السلام ، بتقرير أمر التوحيد ، كما كان افتتاح الوحي إليه به بقوله : { إِنني أنا الله لا إِله إِلا أنا } . والله تعالى أعلم .
الإشارة : انظر أثر حافر فرس جبريل : كيف حييت به الأشباح ، فكيف لا تحيا بتقبيل أثر وطء العارفين بالله ، أو بتقبيل أقدامهم ، بل كل من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه ، وشعشعت أنواره ، وتحقق عرفانه ، كما هو معلوم؛ لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله؛ لأنهم يدلون على الله ، ويبعدون عن كل ما سواه . وانظر السامري؛ حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد ، حتى صار مثلاً في الناس . فقالت الصوفية : ينبغي للفقير أن يفر من أبناء جنسه ، ويكون كالسامريِ ، إذا رأى أحدًا قال : لا مساس ، وأنشدوا :
(4/38)

وخَفْ أبناءَ جنسك واخش منهم ... كما تخشى الضراغم والسُّنْبَتا
وخالِطْهم وزايلهم حِذارًا ... وكن كالسامري إذا لُمِسْتَ
والسنبتاء : كل حيوان جريء ، وقيل : اسم للنمر .
ويقال ، لمن ركن إلى شيء دون الله تعالى؛ مِنْ علم ، أو عمل ، أو حال ، أو مقام ، أو فني في مخلوق : ( وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفًا لنُحرقنه ثم لننسفنّه في اليم نسفًا ) . وفي بعض الأثر : يقول الله : " يا عبدي ، لا تركْن لشيء دوني ، فإنْ ركنتَ إلى علم جهّلناك فيه ، وإن ركنت إلى عمل رددناه عليك ، وإن ركنتَ إلى حال وقفناك معه ، وإن ركنتَ إلى معرفة نكرناها عليك . فأي حيلة لك أيها العبد ، فكن لنا عبدًا أكن لك ربًّا " أو كما قال . وإليه الإشارة بقوله : { إنما إلهكم الله . . . } الآية .
(4/39)

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ . . . }
قلت : محل الكاف : نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك قصًا مثل ذلك القص المارّ . وما في الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان بعلو درجته - عليه الصلاة والسلام - وبُعد منزلته في الفضل . و { من أنباء } : في محل النصب ، إما على أنه مفعول { نقُصّ } ؛ باعتبار معناه ، أي : نقص عليك بعض أنباء ، وإما على أنه متعلق بمحذوف؛ صفة للمفعول ، أي : نقص عليك خبرًا كائنًا من أخبار ما قد سبق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { كذلك } أي : مثل ذلك القصص البديع الذي سمعته { نقصُّ عليك من أنباء ما قد سبق } أي : من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية؛ ليكون تبصرة لك ، وزيادة في علمك ، وتذكيرًا لغيرك ، وعبرة لمن يقف عليه ممن يأتي بعدك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : حكايات الصالحين وسِيَر العارفين جند من جنود القلب ، فيها تنشيط لمن يريد اللحوق بهم ، وتشويق لمقاماتهم ، وتسلية لمن يُصاب في ذات الله بمثل ما أصابهم . وبالله التوفيق .
ثم ذكر وعيد مَن أعرض عن القرآن المشتمل على هذه الأنباء الحسان ، فقال :
{ . . . وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } قلت : { مَن أعرض } : شرطية أو موصولة ، وعلى كلٍّ فهي صفة لذِكْرًا ، و { خالدين } : حال من فاعل { يحمل } ، أو الجمع ، باعتبار معنى " مَن " ، و { حِمْلاً } : تمييز ، تفسير لضمير { ساء } ، والمخصوص محذوف ، أي : ساء حملاً وزرهم ، و { يوم يُنفخ } : بدل من { يوم القيامة } ، أو منصوب باذكر . و { يتخافتون } : استئناف مُبين لحالهم يومئذ ، أو حال أخرى من { المجرمين } . و { قاعًا } : حال من ضمير { يذرها } ، أو مفعول ثان ليذر . و { صفصفًا } : حال ثانية ، أو بدل من المفعول الثاني ، وجملة : { لا ترى } : استئناف مبين لما سبق من القاع الصفصف ، أو حال أخرى ، و { يومئذ } : ظرف ليتبعون ، أو بدل من { يوم القيامة } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقد آتيناك } يا محمد { من لَّدُنا } ؛ خصوص عنديتنا { ذِكْرًا } عظيمًا وقرآنا كريمًا ، جامعًا لكل كمال ، مُخبرًا بعجائب القصص والأمثال .
(4/40)

{ مَنْ أعْرَضَ عنه } أي : عن ذلك الذِكْر العظيم الشأن ، المستتبع لسعادة الدارين ، بأن لم يؤمن به ، { فإِنه يحملُ يومَ القيامة وِزْرًا } أي : عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنوبه . وتسميتها وزرًا لتشبيهها في ثقلها على المعاقَب ، وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يُثقل الحامل ويُنقِضُ ظهره ، وقيل : يُجسّم ، ويُجعل على ظهره في طريق الحشر ، والأول أنسب لقوله : { خالدين فيه } أي : في ذلك الوزر ، وهو العذاب ، أو في ذلك الحمل الثقيل؛ لاستمراره فيه بعد دخول النار ، { وساء لهم يوم القيامة حِمْلاً } أي : بئس حملهم هذا يوم القيامة ، وإعادة يوم القيامة؛ لزيادة التهويل .
{ يوم يُنفخُ في الصُّور } أي : ذلك اليوم هو يوم يُنفخ في الصور ، أو : اذكر يوم ينفخ في الصور نفخة البعث ، { ونَحشُر المجرمين } أي : المشركين { يومئذٍ } أي : يوم ينفخ في الصور ، وأعاده ، تهويلاً ، حَال كونهم { زُرقًا } أي : زُرق العُيون . وإنما جُعلوا كذلك؛ لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب ، وكانت تتشاءم بزرقة العين ، كما قال الشاعر :
لَقَدْ زَرِقَتْ عَيْنَاكَ يا ابنْ مُكَعْبَرٍ أَلاَ كُلُّ ضَبِّيِّ مِنَ اللؤْم أزرقُ
وقيل زرقًا ، أي : عُميًا؛ لأن حدقة العين تزرق من شدة العمى . وقيل : عِطاشًا؛ لأن سواد العين يتغير من شدة العطش ويرزق .
{ يَتخَافَتُون بينهم } أي : يخفضون أصواتهم ويخفونها؛ لِمَا علا صدورهم من الرعب والهول . يقول في تلك المخافتة بعضهم لبعض : { إِن لبثتم إِلا عَشْرًا } أي : ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال؛ استقصارًا لمدة لبثهم فيها ، لزوالها ، أو لتأسفهم عليها ، لما شهدوا الشدائد والأهوال ، أو في القبر ، وهو الأنسب بحالهم ، فإنهم ، حيث يُشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحال لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك؛ اعترافًا به ، وتحقيقًا لسرعة وقوعه ، كأنهم قالوا : قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة . وقيل : ما بين النفختين ، وهو أربعون سنة . رُوي أنه يرفع العذاب عن الكفار في تلك المدة ، فيستقصرون تلك المدة إذا عاينوا أهوال يوم القيامة ، لأنهم في طول مدتهم في عذاب القبر لا يعقلون .
قال تعالى : { نحن أعلم بما يقولون } ، وهو مدة لبثهم ، أو نحن عالمون اليوم بما يقولون في ذلك الوقت قبل وقوعه ، { إِذْ يقولُ أمثلُهم طريقةً } أي : أعدلهم رأيًا وأوفاهم عقلاً : { إِن لبثتم إلا يومًا } ، ونسبة هذا القول إلى أمثلهم : استرجاع منه تعالى ، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق ، بل لكونه أدل على شدة الهول .
{ ويسألونك عن الجبال } أي : عن مآل أمرها ، وقد سأل عنها رجل من ثقيف ، وقيل : مشركو مكة ، على طريق الاستهزاء ، { فقلْ } لهم : { يَنْسِفُهَا ربي نَسْفًا } أي : يجعلها كالرمل ، ثم يُرسل عليها الرياح فتفرقها ، أو يقلعها ويطرحها في البحار كالهباء المنثور ، { فيَذرُها } أي : يترك ما كان تحتها من الأرض { قاعًا صفصفًا } أي : أرضًا مستوية؛ لأن الجبال إذا سُويت ، وجُعل سطحها مساويًا لسائر أجزاء الأرض ، فقد جعل الكل سطْحًا واحدًا .
(4/41)

فالضمير في { يذرها } إما للجبال ، باعتبار أجزائها السافلة ، الباقية بعد النسف ، وهي مقارها ومراكزها ، وإما للأرض ، المدلول عليها بقرينة الحال؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال .
والقاع والقيعة : ما استوى من الأرض وصلُب ، وقيل : السهل ، وقيل : ما لا نبات فيه . والصفصف : الأرض المستوية الملساء ، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة ، { لا ترى فيها } أي : في الأرض الذي نسفت جبالُها { عِوَجًا } أي : اعوجاجًا وانخفاضًا ، { ولا أمْتًا } ؛ نتوءًا وارتفاعًا . قال ابن عباس : العوج : الأودية ، والأمت : الروابي . وقال مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع؛ والمعنى : أنك ، إن تأملت بالمقاييس الهندسية ، وجدتها مستوية الجهات . والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية .
{ يومئذ } أي : يوم إذ نسفت الجبال ، { يتبعون الداعيَ } أي : يتبع الناسُ داعي الله تعالى إلى المحشر ، وهو إسرافيل عليه السلام ، يدعو الناس بعد النفخة الثانية ، قائمًا على صخرة بيت المقدس : أيها الناس هلموا إلى ربكم ، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم ، قائلاً : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتمزقة ، واللحوم المتفرقة؛ قوموا إلى العرض والحساب ، فَيُقبلون من كل جانب منتشرين ، كأنهم جراد منتشر ، لا يدرون أين يذهبون ، فَيُنادي حينئذ من الصخرة للجمع للحساب . هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار .
وقوله تعالى : { لا عِوَجَ له } أي : لا يعوجُ له مدعو ولا يعدل عنه ، فلا يزيغ عنه ، بل كلهم يقصدون صوته ، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها . والتقدير : لا عوج للصوت عن أحد ، بل يصل إليه أينما كان ، ويتوجه إليه حيث كان ، { وخشعتِ الأصواتُ للرحمن } أي : خضعت وسكنت لهيبته { فلا تسمع إلا همسًا } أي : صوتًا خفيًا . والهمس : صوت وطء الأقدام في نقلها إلى المحشر ، أي ، انقطعت أصوات اللسان ، فلا تسمع إلا همس الأقدام في مشيها إلى المحشر ، من شدة الهيبة والخوف .
{ يومئذٍ لا تنفعُ الشفاعة } أي : يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد ، { إِلا من أَذِنَ له الرحمن } في الشفاعة ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء ، { وَرَضِيَ له قولاً } أي : ورضي قوله في المشفوع له بحيث يقبل شفاعته . وقيل : { ورضي له قولاً } في الدنيا ، وهو : لا إله إلا الله ، مخلصًا من قلبه . . . أو : إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه ، ورضي لأجله قولاً من الشافع . وهذا أليق بمقام التهويل . وأما من عداه فلا تنفع ، وإن وقعت؛ لقوله تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } [ المدَّثِّر : 48 ] . { يعلم ما بين أيديهم } أي : ما تقدمهم من الأحوال ، أو من أمر الدنيا ، { وما خلفهم } : وما بعدهم مما يستقبلونه ، أو من أمر الآخرة ، { ولا يُحيطون به علمًا } أي : لا تُحيط علومهم بذاته المقدسة ، بحيث يدركون كنه الربوبية ، أو : لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى . قال القشيري : الكناية في قوله : { به } ، يحتمل أن تعود إلى { ما بين أيديهم وما خلفهم } ، ويحتمل أن تعود إلى الحقِّ - سبحانه - وهو طريقة السَّلفَ ، يقولون : يُعلَم الحق ولا يحيط به العلم ، كما قالوا : إنه يُرى ولا يُدْرَك .
(4/42)

ه .
الإشارة : وقد آتيناك من لدُنَّا ذِكْرًا ، أي : قرآنًا يجمع القلوبَ على الله ، ويدل على مشاهدة الله . من أعرض عنه - أي : عن الله - ولم يتوجه إليه بكليته ، فإنه يحمل وِزرًا ، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين ، فيبقى مُخلدًا في حضيض الغافلين ، وذلك في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، فيُكرم المتقين ، ويُهين المجرمين ، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة ، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة .
ويسألونك ، أيها العارف ، عن جبال العقل ، حين تطلع على نور قمره شمسُ العرفان ، فقل ينسفها ربي نسفًا ، فيذر أرض النفس ، حين استولت عليها أسرار المعاني ، قاعًا صفصفًا ، لاتصالها بفضاء المعاني ، حين ذهبت أغيار الأواني ، لا ترى فيها انخفاضًا ولا ارتفاعًا . وإنما ترى وجودًا متصلاً ، وبحرًا طامسًا ، ليس فيه بُعدٌ ولا قُرب ، ولا علو ولا سفل ، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَن أبصر الخلق كالسرابِ ... فقد ترقى عن الحجابِ
إلى وجود تراه رَتْقًا ... بلا ابتعاد ولا اقتراب
ولم يشاهد به سواه ... هناك يُهدى إلى الصواب
فلا خطاب به إليه ... ولا مشير إلى الخطاب
والمراد بالخلق : جميع الكائنات ، فلا خطاب من العبد إلى ربه ، لمحو العبد من شدة القرب ، ولم تبق له إشارة ولا عبارة . وفي الحِكَم : " ما العارفُ مَنْ إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته ، بل العارف من لا إشارة له؛ لفنائه في وجوده وانطوائه في شهوده " . وقالوا : من عرف الله كلّ لسانه ، وإليه الإشارة بقوله : { وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا } . وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته ، من غير عوج عنه ، ولا خروج عن رأيه ، حتى يقول له : ها أنت وربك . فحينئذ تحصل الهيبة والتعظيم ، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته ، وهو في حضرة الملك الكريم ، وهذا شأن الصوفية ، كلامهم كله تخافت وتسارر؛ لغلبة الهيبة عليهم .
قوله تعالى : { يومئذ لا تنفع الشفاعة } أي : في دخول الحضرة ، { إلا من أذن له الرحمن } في التربية والترقية ، { ورضي له قولاً } ، وهو ذكر الله ، يأمر به من أراد شفاعته فيه ، حتى تستولي عليه أنوار الذكر ، فيدخل مع الأحباب ، ويجلس على بساط الاقتراب ، فحينئذ يحصل له العلم بالله ، على نعت الذوق والوجدان ، وشهود العيان ، لا على نعت الدليل والبرهان .
وقوله تعالى : { ولا يُحيطون به علمًا } إشارة إلى عدم الإحاطة بكُنْه الربوبية لمن دخل الحضرة ، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنْه لم يبق لهم تَرَقِّ ، وكيف؟ وهم يترقون في أسرار الذات وأنوار الصفات دائمًا سرمدًا ، في هذه الدار وفي تلك الدار! ففي كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات ، ما تعجز عنه العقول ، وتكِلُّ عنه طروس النقول . نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية ، ويُشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها ، وتسرح فكرتهم في بحر الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى ، ويخوضون في بحار الأحدية ، ويتفكرون في قاموس كنه الربوبية ، فلا خوف ولا ملل ، من غير إحاطة ، كما تقدم . والله تعالى أعلم .
(4/43)

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قلت : { وقد خاب ... } الخ : استئنافٌ ، تعليلُ ما لأجله عنت وجوههم ، أو اعتراض ، كأنه قيل : خابوا وخسروا ، أو حال من الوجوه ، و { مَنْ } : عبارة عنها ، مُغنية عن ضميرها ، أي : خضعت الوجوه ، والحال أنها خابت حين حملت ظلمًا . وقيل : { الوجوه } على العموم ، فالمعنى حينئذ : وقد خاب من حمل منهم ظلمًا ، ومن قرأ : " فلا يخف " : فعلى النهي ، وهو جواب ، ومن قرأ بالرفع : فعلى الخبر ، أي : فهو لا يخاف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وعَنَتِ الوجوهُ للحيّ القيّوم } أي : ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي : الأسارى في يد الملك القهار ، ومنه قيل للأسير : " عانٍ " ، أي : خاضع ذليل ، وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت :
مَليكٌ عَلَى عَرْشِ السماءِ مُهَيْمنٌ ... لِعزَّتِه تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ
ولعلها وجوه المجرمين ، كقوله تعالى { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ المُلك : 27 ] ، ويؤيده وصله بقوله : { وقد خابَ من حَمَلَ ظلمًا } أي : وعنت الوجوه؛ لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلمًا .
قال ابن عباس رضي الله عنه : ( خسر من أشرك بالله ولم يتب ) ، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله ، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله : { ومن يعمل من الصالحات ... } الخ ، فهو قسيمٌ لقوله : { ومن خاب من حمل ظلمًا } ، لا لقوله : { وعنت الوجوه } .
وإذا حملنا { عَنَت } على مطلق الخضوع أو السجود كان عامًا ، لأن الخلائق كلها تخضع لله في ذلك الوقت . ثم فصلهم : فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر ، { ومن يعمل من الصالحات } أي : بعضها ، { وهو مؤمن } ، فالإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات ، { فلا يخاف ظُلمًا } أي : منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد ، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته ، { ولا هضمًا } أي : كسرًا ونقصًا من ثواب حسناته ، وأصل الهضم : النقص والكسر؛ يقال : هضمت لك من حقك ، أي : حططت ، وهضمت الطعام : حططته إلى أسفل المعدة ، وامرأة هضيمة الكشح : أي : ضامرة البطن ، فالحق تعالى إنما تعرض لنفي الظلم والهضم عن عامل الصالحات ، لأن نفي ذلك إنما يكون مع العمل ، ففيه يتوهم الهضم والنقص ، وأما بدونه فلا ... نعم ، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة ، لكن صاحبه على خطر في نفوذ الوعيد ، ولو غفر له ، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات ، كما علم شرعًا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا سرحت الفكرة ، وجالت في أقطار الملكوت وأسرار الجبروت ، وتحققت بعدم الإحاطة ، رجعت إلى عش العبودية ، وخضعت للحي القيوم ، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام ، حين حمل ظلمًا بالميل إلى الشيء من السِّوى ، بغلبة الطبع والهوى ، وأما من نهض إلى مولاه ، واشتغل بالعمال التي تقربه إلى حضرته ، فلا يخاف ظلمًا ولا هضمًا؛ فإن الله يرفع العبد على قدر همته ، وينعمه على قدر طاعته . وبهذا جاء الوحي والتنزيل .
(4/44)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قلت : { وكذلك } : عطف على قوله : { كذلك نقصّ } ، و " ذلك " : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد ، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك } أي : ومثل ذلك الإنزال المتقدم ، { أنزلناه } أي : القرآن كله ، وإضماره ، من غير سبقية ذكره؛ للإيذان بنباهة شأنه ، وكونه مركوزًا في العقول ، حاضرًا في الأذهان ، حال كونه : { قرآنًا عربيًّا } ؛ ليفهمه العرب ، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز ، الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر ، نازلاً من عند خلاّق القوى والقُدَر . { وصرَّفْنا فيه من الوعيد } أي : كررنا فيه بعض الوعيد ، أو من جنس الوعيد ، { لعلهم يتقون } أي كي يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل ، { أو يُحْدِثُ لهم ذِكْرًا } ؛ اتعاظًا واعتبارًا يؤديهم إلى الارتقاء ، { فتعالى الله } أي : تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة ، وتهاون العصاة ، الذين لم يُحدث فيهم القرآن زجرًا ولا وعظًا ، أي : ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله ، { الملكُ } لها ، النافذ أمره ونهيه ، الحقيق بأن يُرجى وعده ، ويُخشى وعيده ، { الحقُّ } في ألوهيته لذاته ، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه ، أزلاً وأبدًا .
{ ولا تَعْجَلْ بالقرآنِ من قبل أن يُقضى إِليك وحيُه } أي وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا ، وصرفنا فيه من الوعيد ، فَأَمْهِلْ عند نزوله ، حتى يقرأه عليك الملك ، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه ، ويفرغ من قراءته عليك . كان صلى الله عليه وسلم ، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة ، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ ، فنهى عن ذلك؛ لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها ، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها ، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال : { وقل ربِّ زِدْني علمًا } أي : وقل في نفسك ، أو بلسانك : رب زدني علمًا ، والمراد : سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه؛ إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته ، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا ، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته ، وصرفنا فيه من الوعيد ، لمن تخلف عن شهوده ، بعد كمال ظهوره ، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته ، أو يُحدث لهم ذكرًا ، أي : شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته ، والوصول إليه ، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء ، أو يتصل به شيء ، وإنما الوصول إليه : العلم بإحاطته ووحدة ذاته .
ولا تعجل ، أيها العارف ، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام ، من قبل أن يُقضى إليك وحيه ، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة ، وبعد الوعي يكون البيان ، { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } ، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية ، أي : لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها ، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها ، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم ، والوصول للحي القيوم . وبالله التوفيق .
(4/45)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى فَقُلْنَا ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة . . . }
قلت : يقال : عهد إليه الملك ، وأوعد إليه ، وتقدم إليه : إذا أمره ووصاه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } الله { لقد عَهدنا } وتقدمنا { إِلى آدم } من غرور الشيطان وعداوته ، ووصيناه ألا يغتر به ، { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } ، فلا تغتر بنصحه { فَنَسِيَ } ذلك العهد ولم يحتفل به ، حتى غفل عنه ، واغتر بإظهار نصحه ، حتى أكل من الشجرة ، متأولاً أن النهي للتنزيه ، أو عن عين الشجرة ، لا عن جنسها ، فأكل من غيرها ، { ولم نَجِدْ له عَزْمًا } أي : ثبات قدم ، وحزمًا في الأمور ، إذ لو كان كذلك لما غرّه الشيطان بوسوسته ، وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره ، قبل أن يجرب الأمور؛ ويتولى حارها وقارها ، ويذوق شرِّيها وأريها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو وُزنت أحلام بني آدم - أي : عقولهم - بحلم آدم ، لرجح حلمه "
وقيل : { ولم نجد له عزمًا } على الذنب ، فإنه أخطأ ، أو تأول ، ولم يتعمد ، وأما قوله : { وعصى ... } ؛ فلعلو شأنه وقُربه عُد عصيانًا في حقه ، " حسنات الأبرار سيئات المقربين " .
ثم شرع في بيان المعهود ، وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه ، فقال : { وإذ قلنا } أي : واذكر وقت قولنا { للملائكة اسجدوا لآدم } ، وتعليق الذكر بالوقت ، مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث؛ للمبالغة في إيجاب ذكرها ، فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه ، فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه بالطريق البرهاني ، أي : اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه ، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه ، فقد أمرنا الملائكة بالسجود { فسجدوا } كلهم { إِلا إبليس آَبَى } السجود واستكبر ، أو فعل الإباء وأظهره .
{ فقلنا } عقب ذلك ، اعتناء بنصحه ، وهو العند الذي عهدناه إليه : { يا آدمُ إِنَّ هذا } الذي رأيته فَعَلَ ما فعل { عدوٌّ لك ولزوجك } ؛ حيث لم يرض بالسجود لك ، { فلا يُخرجكما من الجنة } أي : لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة ، والمراد : نهيهما عن الاغترار به ، { فتشقى } : جواب النهي ، أي : فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا ، من الجوع والعطش ، والفقر والضر ، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس ، فيكون عيشك من كد يمينك .
(4/46)

قال ابن جبير : ( اهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يَحرث عليه ، ويمسح العرق عن جبينه ، فهو شقاؤه ) . ولم يقل : فتشقيا؛ لأنه غلَّب الذِّكَرَ؛ لأن تعبه أكثر ، مع مراعاة الفواصل .
قال تعالى له : { إِنَّ لك } يا آدم { أن لا تجوع فيها ولا تَعْرى } من فقد اللباس ، { وأنك لا تظمأ } : لا تعطش { فيها ولا تضحى } ؛ تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها ، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النعم من المآكل والمشارب ، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية - مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى - إلى ما ذكر من نفي نقائضها ، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو؛ لتنفير تلك الأمور المنكرة؛ ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها ، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها ، سوى ما استثنى من الشجرة ، حسبما نطق به قوله تعالى : { يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [ البَقَرَة : 35 ] ، وقد طوي ذكرها هنا؛ اكتفاءً بما في موضع آخر ، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب ، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا ، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر ، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه ، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة .
قال تعالى : { فوسوس إِليه الشيطانُ } أي : أنهى إليه وسوسته ، أو أسرها إليه ، { قال } فيها : { يا آدمُ هل أدلُّكَ على شجرة الخُلْدِ } ؟ أي : شجرة من أكل منها خلد ، ولم يمت أصلاً ، سواء كان على حاله ، أو بأن يكون ملكًا ، { و } أدلك على { مُلكٍ لا يَبْلَى } أي : لا يفنى ولا يزول ، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه ، { فأكلا منها فبدتْ لهما سوآتُهما } قال ابن عباس رضي الله عنه : عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما ، حتى بدت فروجهما . { وطفِقَا يَخْصِفَان } ؛ يَرْقََعانِ { عليهما من ورقِ الجنة } ، وقد تقدم في الأعراف .
الإشارة : ولقد عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، وألا يغيب عن شهودنا بمُتْعَةِ جنتنا ، فنسي شهودنا ، ومال إلى زخارف جنتنا ، فأنزلناه إلى أرض العبودية ، حتى يتطهر من البقايا ، وتكمل فيه المزايا ، فحينئذ نُسكنه في جوارنا ، ونكشف له عن حضرة جمالنا ، على سبيل الخلود في دارنا .
قال جعفر الصادق : عهدنا إلى آدم ألا ينسانا ، فنسي واشتغل بالجنة ، فابتلى بارتكاب النهي ، وذلك أنه ألهاه النعيم عن المنعم ، فوقع من النعمة في البلية ، فأُخرج من النعيم والجنة؛ ليعلم أن النعيم هو مجاورة المنعم ، لا الالتذاذ بالأكل والشرب . فلا ينبغي لأحد أن ينظر إلى ما سواه ، نسأل الله تعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والعناية . ه . قال بعض الحكماء : إنما نسي آدم العهد؛ لأنه لما خلقت له زوجته أوقع الله في قلبه الأنس بها ، وابتلاه بشهوات النفس فيها ، فرأى في وجهها شجرة الحسن بادية ، وشهوة الوقاع عليه غالبة .
(4/47)

ه . أي : فترك النظر إلى جمال المعاني ، واشتغل بحس الأواني ، فأفضى به إلى ترك الأدب ، ولزمه التعب ، فليحذر المريد جهده من الميل إلى الحظوظ ، وليكن على حذر من الغفلة حين تناولها ، والعصمةُ من الله .
وقوله تعالى : { ولم نجد له عزمًا } ، قال الحاتمي : أي : على انتهاك الحرمة ، بل وقع بمطالعة قدَر سابق ، أنساه ما توجه على التركيب من خطاب الحِجْر . ه . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وبما أشار إليه من مطالعة القدر يتضح لك قوله عليه السلام : " فحج آدمُ موسى " ، وليس ذلك لغيره إن لم يكن مجبورًا ومأخوذًا عنه ، وهذا القدر هو الفارق بين ما يجري من المخالفة على الولي وغيره . وقد نبه على ذلك الجنيد بقوله : { وكان أمر الله قدرًا مقدورًا } ، فأشار لغلبة القدر وقهره ، من غير وجود عزم من العبد . ه . قلت : احتجاج آدم وموسى - عليهما السلام - لم يكن في عالم الأشباح ، الذي هو محل التشريع ، إنما كان في عالم الأرواح ، الذي هو محل التحقيق ، فالنظر في ذلك العالم الروحاني ، إنما هو لسر الحقيقة ، وهو ألا نسبة لأحد في فعل ولا ترك ، فمن احتج بهذا غَلب ، بخلاف عالم الأشباح ، لا يصح الاحتجاج بالقدر؛ لأن فيه خرق رداء الشريعة . فتأمله .
وقال في التنوير : اعلم أن أكل آدم من الشجرة لم يكن عنادًا ولا خلافًا ، فإما أن يكون نسي الأمر ، فتعاطى الأكل وهو غير ذاكر ، وهو قول بعضهم ، ونحمل عليه قوله سبحانه : { فَنَسِيَ } ، وإن كان تناوله ، ذاكرًا للأمر ، فهو إنما تناول لأنه قيل له : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة . . . } [ الأعرَاف : 20 ] الآية ، فلحبه في الله ، وشغفه به ، أحب ما يؤديه إلى الخلود في جواره والبقاء عنده ، أو ما يؤديه إلى الملَكِية؛ لأن آدم عليه السلام عاين قُرب الملائكة من الله ، فأحب أن يأكل من الشجرة؛ ليتناول الملَكِية ، التي هي في ظنه أفضل ، لا سيما وقد قال سبحانه : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعرَاف : 21 ] ، قال آدم عليه السلام : ( ما ظننتُ أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا ) ، فكان كما قال الله سبحانه : { فدلاهما بغرور } . ه .
وسُئل ابن عطاء عن قوله تعالى : { هل أدلك على شجرة الخلد } ؟ فقال : قال آدم عليه السلام : يا رب لِمَ أدَّبتني ، وإنما أكلتُ من الشجرة طمعًا في الخلود في جوارك؟ فقال الله : يا آدم طلبتَ الخلود من الشجرة لا مني ، والخلود بيدي وملكي ، فأشركْتَ بي ، وأنت لا تعلم ، ولكن نبهتك بالخروج من الجنة حتى لا تنساني في وقت من الأوقات . ه . والحاصل : أنه إمَّا أن يُحمل النسيان على حقيقته ، ويكون معه وقوع الأكل بمطالعة القدر وقبضة الجبر ، ولا يُعارضه : { ما نهاكما عن هذه الشجرة } ؛ لأنه اتفق ذلك صورة وظاهرًا ، مع شهود الجبر بانًا ، وإمّا أن يُحمل النسيان على الترك ، بتأويل أن النهي ليس على التحتم ، فتركه لما أمل من جوار الحق وقربه في الأكل ، فقدمه؛ لأنه أرجح عنده .
(4/48)

قاله المحشي .
وقوله تعالى : { فوسوس إِليه الشيطان . . . } الآية ، يؤخذ منه سد باب التأويلات والرخص في الأمر الممنوع شرعًا ، فإن أُبيح بعضه ومُنع البعض فلا توسعة ، فلأن تترك مباحًا خير من أن تقع في محرم ، وقد كان السلف يتركون مائة جزء من المباح ، خوفًا من الوقوع في المحرم . والله الهادي إلى سواء الطريق .
ثم قال تعالى :
{ . . . وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وعصى آدمُ ربَّه } بما ذكر من أكل الشجرة { فَغَوى } أي : ضل عن مطلوبه ، الذي هو الخلود ، بل ترتب عليه نقيضه ، فكان تأميل ذلك باطلاً فاسدًا؛ لأنه خلاف القدر ، أو عن الرشد ، حيث اغتر بقول العدو . وقال الكواشي : فعل فعلاً لم يكن له فعله ، أو أخطأ طريق الحق ، حيث طلب الخلد بأكل المنهي عنه ، فخاب ولم ينل مراده . ه . وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية ، مع صغر زلته ، تعظيم لها ، وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها .
{ ثم اجتباه ربُّه } أي : اصطفاه وقرّبه إليه ، بالحمل على التوبة والتوفيق لها . وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ، مزيد تشريف له عليه السلام ، يعني : آدم . { فتاب عليه } أي : قَبِلَ توبته حين تاب هو وزوجته ، قائلين : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعرَاف : 23 ] الآية . { وهَدَى } أي : هداه إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة . وإفراد آدم عليه السلام بقبول توبته واجتبائه؛ لأصالته في الأمور ، واستلزام قبول توبته لقبول توبتها . { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } [ النِّساء : 34 ] .
{ قال اهبطا منها جميعًا } ، وهو استئناف بياني ، كأنَّ سائلاً قال : فما قال تعالى بعد قبول توبته؟ فقيل : قال له ولزوجته : { اهبِطَا منها } أي انزلا من الجنة إلى الأرض ، حال كونكم { بعضُكم لبعض عدوٌّ } أي متعادين في أمر المعاش ، كما عليه الناس من التجاذب والتحارب والاختلاف في الدين . والجمع؛ لأنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد وفي اللباب : ولما أُهبطوا إلى الأرض ألقى آدمُ يده تحت خده ، وبكى مائة سنة ، وألقت حواءُ يدها على رأسها ، وجعلت تصيح وتصرخ ، فبقيت سنَّة في النساء . ولم يزل آدم يبكي حتى صار بخديه أخاديد من كثرة الدموع ، وجرى من عينيه على الأرض جدولان ، يجريان إلى قيام الساعة .
(4/49)

وأُهبط آدم على ورقة من ورق الجنة ، كان يتستر بها ، وفي يده قبضة من ريحان الجنة ، فلما اشتغل بالبكاء أدارتها الرياحُ في أرض الهند ، فصار أكثر نباتها طيبًا . انظر بقية كلامه .
{ فإِمّا يأتينكم مني هُدًى } أي : هداية من رسول وكتاب يهدي إلى الوصول إليَّ ، أي : سيأتيكم مني رسل وكتاب . والخطاب لهما بما اشتملا عليه من ذريتهما . { فمن اتبع هُدايَ } بأن آمن بالرسل وبما جاؤوا به من عند الله { فلا يضل } في الدنيا { ولا يشقى } في الآخرة . ووضع الظاهر موضع المضمر يعني : من اتبع هداي ، مع الإضافة إلى ضميره تعالى؛ لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( من قرأ الفرقان ، واتبع ما فيه ، هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك لأن الله تعالى يقول : { فمن اتبع هداي } ؛ أي : كتابي ورسولي ، { فلا يضل } في الدنيا ، { ولا يشقى } في الآخرة ) . وفي لفظ آخر : ( أجار الله تابع القرآن أن يضل في الدنيا ويشقى في الآخرة ) . قال ابن عرفة : والعطف بالفاء في قوله : { فإما ... } الخ ، إشارة إلى أن العداوة سبب في أن يبعث لهم الرسل يهدونهم إلى طريق الحق ، فضلاً منه تعالى ، ولذلك أتى " بإن " ، دون " إذا " المقتضية للتحقيق الموهم للوجوب . فانظره .
{ ومَنْ أعرَضَ عَن ذِكْرِي } ؛ عن القرآن ، أو عن الهُدى الذاكر لي والداعي إليّ ، { فإِنَّ له معيشةً ضنكًا } : ضيقًا ، مصدر وصف به ، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث ، يقال : منزل ضنك وعيشة ضنك . وقرئ : " ضنكى " كسكرى . وإنما كان عيشُهُ ضيقًا؛ لأن مجامع همته ، ومطامح نظره مقصورة على أغراض الدنيا ، وهو متهالك على ازديادها ، وخائف من انتقاصها ، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة ، فإنَّ نور الإيمان يُوجب له القناعة ، التي هي رأس الغنى وسبب الراحة ، فيحيى حياة طيبة ، وقيل : هو عذاب القبر . ورُوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أبو سعيد الخدري : " يُضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ... " الحديث ، وقيل : الصبر على الزقوم والضريع والغسلين .
{ ونحْشُره يومَ القيامةِ أعمى } : فاقد البصر كقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً } [ الإسراء : 97 ] . لا أعمى عن الحجة كما قيل . { قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا } في الدنيا؟ { قال كذلك } أي : مثل ذلك فعلتَ أنتَ؛ { أتتك آياتُنا } أي : حجتنا النيرة على أيدي رسلنا { فنسيتَها } أي : عميتَ عنها ، وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر قط ، { وكذلك اليومَ تُنسى } : تُترك في العمى والعذاب ، جزاء وفاقًا . وحشره أعمى لا يدل على دوامه ، بل يزيله عنه فيرى أهوال الموقف ومقعده ، وكذلك الصمم والبكم يزيلهما الله تعالى عنهم .
(4/50)

{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريَم : 38 ] ، فيومُ القيامة ألوان . ثم قال تعالى : { وكذلك } أي : مثل ذلك الجزاء الموافق للجنايات . { نجزي من أسْرَف } وتَعدى؛ بالانهماك في الشهوات ، { ولم يُؤمن بآياتِ ربه } ، بل كذّب بها وأعرض عنها ، { ولعذابُ الآخرة } على الإطلاق ، أو عذاب النار ، { أشدُّ وأبقى } من ضنك العيش ، أو منه ومن الحشر أعمى ، عائذًا بالله من جميع ذلك .
الإشارة : قوله تعالى : { وعصى آدمُ ربَّه } ، اعلم أن العصيان الحقيقي هو عصيان القلوب ، كالتكبر على عباد الله وتحقير شيء من خلق الله ، وكالاعتراض على مقادير الله ، وعدم الرضا بأحكام الله . قال بعض الصوفية : ( أذنبتُ ذنبًا فأنا أبكي منه أربعين سنة ، قيل : وما هو؟ قال : قلت لشيء كان : ليته لم يكن ) . وأما معصية الجوارح ، إن لم يكن معها إصرار ، فقد تُوجب القرب من الكريم الغفار؛ " معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا خير من طاعة أورثت عزّا واستكبارًا " ، وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول وتأمل معصية إبليس حيث كانت من القلب أورثت طردًا وإبعادًا ، ومخالفة آدم؛ حيث كانت الجوارح أورثت قُربًا واجتباء .
والحاصل : أن كل ما يَردُّ العبد إلى مولاه ، ويحقق له العبودية والانكسار ، فهو شرف له وكمال ، وكل ما يُقوي وجود النفس ورفعتها فهو نقص وإبعاد ، كائنًا ما كان ، فالعصمة والحِفظة إنما هي من المعاصي القلبية ، أو من الإصرار ، وأما معاصي الجوارح فيجري على العبد ما كتب ، ولا تنقصه ، بل تكمله ، كما تقدم فالتنزيه إنما يكون من النقائص ، وهي التي تُوجب البعد عن الحق ، لا مما يؤدي إلى الكمال ، وبهذا تفهم أن ما وقع من الأنبياء - عليهم السلام - مما صُورته المعصية ، ليس بنقص ، إنما هو كمال . وكذا ما يصدر من الأولياء ، على سبيل الهفوة ، فتأمله ، ولا تبادر بالاعتراض ، حتى تصحب الرجال ، فيعلموك النقص من الكمال .
قال الواسطي : العصيان لا يُؤثر في الاجتبائية ، وقوله : { وعصى } أي : أظهر خلافًا ، ثم أدركته الاجتبائية فأزالت عنه مذمة العصيان ، ألا ترى كيف أظهر عذره بقوله : { فنسي ولم نجد له عزمًا } . ه . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ( نعمت المعصية أورثت الخلافة ) .
واعلم أن آدم عليه السلام قد أهبط إلى الأرض قبل أن يخلق ، قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البَقَرَة : 30 ] ؛ فقد استخلفه قبل أن يخلقه ، لكن حكمته اقتضت وجود الأسباب ، فكان أكله سببًا في نزوله للخلافة والرسالة وعمارة الأرض ، فهو نزول حسًا ، ورفعة معنى ، وكذلك زلة العارف تنزله لشرف العبودية ، فيرتفع قدره عند الله .
وقوله تعالى : { بعضكم لبعض عدو } ، هذا فيمن غلبت عليها الطينية الإمشاجية ، وأما من غلبت عليه الروحانية فهم إخوان متحابون ، أخلاء متقون ، قال تعالى : { 1649;لأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزُّخرُف : 67 ] .
وقوله تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى } أي : داع يدعو إليَّ ، ويهدي إلى معرفتي ودخول حضرتي ، فمن تبعهم دخل تحت تربيتهم ، فلا يضل ولا يشقى ، بل يهتدي ويسعد السعادة العظمى .
(4/51)

ومن أعرض عن ذكرهم ووعظهم ، وتنكب عن صحبتهم ، فإن له معيشة ضنكًا ، مصحوبة بالحرص والطمع ، والجزع والهلع ، ونحشره يوم القيامة أعمى عن شهود ذاتنا ، فلا يرى إلا الأكوان الحسية ، والزخارف الحسية دون أسرار الذات القدسية . قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى عن شهود أسرار المعاني ، عند رؤية الأواني ، وقد كنتُ بصيرًا في الدنيا ببصر الحس؟ قال : كذلك أتتك آياتنا ، وهم الأولياء العارفون ، فنسيتها ولم تحتفل بشانها ، وكذلك اليوم تُنسى؛ لأن المرء يموت على ما عاش عليه ، ويُبعث على ما مات عليه .
قال الورتجبي : ونحشره يوم القيامة أعمى ، يعني : جاهلاً بوجود الحق ، كما كان جاهلاً في الدنيا ، كما قال عليّ - كرم الله وجهه - : من لم يعرف الله في الدنيا لا يعرفه في الآخرة . وقيل : عن رؤية أوليائه وأصفيائه . ه . وقال القشيري : في الخبر : " مَنْ كان بحالة لقي الله بها " فَمن كان في الدنيا أعمى القلب ، يُحشرُ على حالته ، يعيش على ما جهل ، ويُحشر على ما جهل ، ولذلك يقولون : { من بعثنا من مرقدنا } ؟ إلى أنْ تصيرْ معارفُهم ضرورية ، كما يَتركون التَدبُّرَ في آياتهِ يُتركون غدًا في العقوبة من غير رحمةٍ على ضعفِ حالاتهم . ه .
وكذلك نجزي من أسرف بالعكوف على شهواته ، واغتنام أوقات لذاته ، حتى انقضت أيام عمره في البطالة ، نجزيه غم الحجاب والبعد عن حضرة الأحباب ، حيث لم يصدق بوجود آيات ربه؛ وهم الدعاة إلى الله . ولعذاب حجاب الآخرة أشد وأبقى؛ لدوامه واتصاله ، نعوذ بالله من غم الحجاب وسوء الحساب ، والتخلف عن حضرة الأحباب . وبالله التوفيق .
(4/52)

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قلت : { أفلم } الهمزة للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أغْفَلوا فلم يهد لهم . وعدى الهداية باللام لتضمنها معنى التبيين ، والفاعل مضمونُ { كم أهلكنا } ، أي : أفلم يُبين لهم مآل أمرهم كثرة إهلاكنا للقرون الأولى؟ وقيل : الفاعل ضمير عائد إلى الله . و { كم ... } الخ : مُعلق للفعل سد مسد مفعوله . أي : أفلم يُبين الله لهم كثرة إهلاك القرون من قبلهم؟ والأوجه : أنْ لا يُلاحظ له مفعول ، كأنه قيل : أفلم يفعل الله لهم الهداية ، ثم قيل بطريق الالتفات : كم أهلكنا ... الخ؛ بيانًا لتلك الهداية . و { مِنَ القُرون } : في محل نصب ، نعت لمفعول محذوف ، أي : قرنًا كائنًا من القرون .
وجملة { يمشون } : حال من القرون ، أي : أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم ، أو من الضمير في " لهم " ، مؤكد للإنكار ، والعامل : " يهد " ، والمعنى : أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة ، كقوم نوح ولوط وأصحاب الأيكة ، حال كونهم ، أي : قريش - ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام - ، و { أجل مسمى } : عطف على { كلمة } ، أو استئناف ، أي : وأجل مسمى حاصل لهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أفَلَمْ يَهْدِ لهم } أي : أو لم يُبين لهم عاقبة أمرهم { كم أهلكنا قبلَهم من القرون } أي : كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، وهم { يمشون في مساكنهم } إذا سافروا إلى الشام ، كأصحاب الحجر ، وثمود ، وفرعون ، وقوم لوط ، مشاهدين لآثار ديارهم خاربة ، مع علمهم بما جرى عليهم ، بسبب تكذيبهم ، فإنَّ ذلك مما يُوجب أن يهتدوا إلى الحق ، فيعتبروا ، لئلا يحل بهم مثل ما حلّ بأولئك ، أو : { أفلم يهد لهم } كثرة إهلاكنا للقرون السالفة قبلهم ، حال كونهم آمنين ، { يمشون } في ديارهم ويتقلبون في رباعهم { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [ الأعراف : 78 ] .
{ إِنّ في ذلك } الإهلاك الفظيع { لآياتٍ } كثيرة عظيمة واضحة الهداية ، دالة على الحق { لأُولي النُّهى } ؛ لذوي العقول الناهية عن القبائح ، التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله ، والتعامي عنها ، وغير ذلك من فنون المعاصي .
{ ولولا كلمةٌ سبقتْ من ربك } ، وهو تأخير العذاب عن هذه الأمة إلى الآخرة؛ لحكمة ، لعجلنا لهم الهلاك كما عجلنا لتلك القرون المهلكة ، التي يمرون عليها ولا يعتبرون ، فأصروا على الكفر والعصيان ، فلولا تلك العِدّة بتأخير العذاب { لكان لزامًا } أي : لكان عقاب جناياتهم لازمًا لهؤلاء الكفرة ، بحيث لا يتأخرون عن جناياتهم ساعة ، لزوم ما أنزل بأولئك الغابرين ، وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - تلويح بأن ذلك التأخير تشريف له صلى الله عليه وسلم ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . واللزام : مصدر لازم ، وصف به؛ للمبالغة ، { وأجَلٌ مسمىً } أي : لولا كلمة سبقت بتأخيرهم ، وأجل مسمى لأعمارهم أو عذابهم ، وهو يوم القيامة ، أو يوم بَدْرٍ ، لَمَا تأخر عذابهم أصلاً .
(4/53)

وإنما فصله عما عطف عليه ، للمسارعة إلى بيان جواب " لولا " ، وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب المعجل ، ومراعاة فواصل الآية الكريمة .
{ فاصبر على ما يقولون } أي : إذا كان الأمر على ما ذكرنا؛ من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال ، بل إمهال ، وأنه لازم لهم ألبتة . فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر؛ فإن علمه صلى الله عليه وسلم بأنهم هالكون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر ، أو اصبر على ما يقولون ، واشتغل بالله عنهم ، ولا تلتفت إلى هلاكهم ولا بقائهم ، فالله أدرى بهم . { وسَبِّحْ بحمدِ ربك } أي : نزّهه عما ينسبون إليه ، ما لا يليق بشأنه الرفيع ، حامدًا له على ما خصك به من الهدى ، معترفًا بأنه مولى النعم كلها .
قال الورتجبي : سماع الأذى يُوجب المشقة ، فأزال عنه ما كان قد لحقه من سماع ما يقولونه بقوله : { وسبح بحمد ربك } أي : إن كان سماع ما يقولون يُوحشك ، فتسبيحنا يُروحك . ه . أو : صَلِّ وأنت حامد لربك ، الذي يبلغك إلى كمال هدايتك ، ويرجح هذا قوله : { قبل طُلوع الشمس وقبل غُروبها } ، فإن توقيت التنزيه غير معهود ، فإنَّ المراد بقبل طلوع الشمس : صلاة الفجر ، وقبل غروبها : صلاة الظهر والعصر ، وقيل : العصر فقط .
{ ومن أناء الليل } أي : ساعاته { فسبِّح } أي : صَلِّ ، والمراد به المغرب والعشاء ، وآناء : جمع " إنَى " ، بالكسر والقصر ، أو " أناء " بالفتح والمد . وتقديم المجرور في قوله تعالى : { ومن آناء الليل فسبح } ؛ لاختصاصها بمزيد الفضل ، فإن القلب فيها أجمع ، والنفس إلى الاستراحة أميل ، فتكون العبادة فيها أشق ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المُزمّل : 6 ] . { و } سبح أيضًا ، { أطراف النهار } وهو تكرير لصلاتي الفجر والمغرب؛ إيذانًا باختصاصهما بمزيد مزية . وجمع ( أطراف ) بحسب اللفظ مع أمن اللبس ، أو يراد بأطراف النهار : الفجر والمغرب والظهر؛ لأنها نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الثاني ، أو يريد التطوع في أجزاء النهار .
قلت : وإذا حملناه على التنزيه - وهو أن يقول : سبحان الله ، أو : لا إله إلاّ الله ، أو كل ما يدل على تنزيه الحق - يكون تخصيص هذه الأوقات بالذكر؛ لشرفها . فقد وردت أحاديث في الترغيب في ذكر الله أول النهار وآخره ، وآناء الليل حين ينتبه من نومه ، بحيث يكون كلما تيقظ من نومه سبَّح الله وهلّله وكبّره ، قبل أن يعود إلى نومه . وهكذا كان أهل اليقظة من السلف الصالح . وقوله تعالى : { لعلك ترضى } أي : بما يعطيك من الثواب الجزيل ، بالتسبيح في هذه الأوقات . أو ترضى بالشفاعة في جميع الخلائق ، فتقر عينك حينئذ .
(4/54)

وفي صحيح البخاري : " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشمس ليس دونها سحاب ، فَإِنِ استَطَعْتُم أَلا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غروبِها فافْعَلُوا " ، ثُم تَلا هذه الآية : { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } ، ففيه ترجيح من فسرها بالصلاة ، وفيه إشارة إلى أن الصلاة ذكر وإقبال على الله وانقطاع إليه ، وذلك مزرعة المشاهدة والرؤية في الآخرة . وقد جاء في أهل الجنة : " أنهم يرون ربهم بكرة وعشيًا " ، هذا في حق العموم ، وأما خصوص الخصوص ، ففي كل ساعة ولحظة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أفَلَم يَهد لأهل الإيمان والاعتبار ، وأهل الشهود والاستبصار ، كم أهلكنا قبلهم من القرون الخالية ، والأمم الماضية ، فهم يمشون في مساكنهم الدارسة ، ويُشاهدون آثارهم الدائرة ، كيف رحلوا عنها وتركوها ، واستبدلوا ما كانوا فيه من سعة القصور بضيق القبور ، وما كانوا عليه من الفُرش الممهدة بافتراش التراب وتغطية اللحود الممددة ، فيعتبروا ويتأهبوا للحوق بهم ، فقد كانوا مثلهم أو أشد منهم ، قد نما ذكرهم ، وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم . فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، وأفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا؛ قهرًا ، إلى القضاء وسلموا ، ففي ذلك عِبَر وآيات لأولي النُهى . لكن القلوب القاسية لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير ، فلولا كلمة الرحمة والحلم بتأخير العذاب ، وأجل مسمى لأعمارهم ، لعجل لهم العقاب .
فاصبر ، أيها المتوجه إلى الله ، المنفرد بطاعة مولاه ، على ما يقولون ، مما يُكدر القلوب ، واشتغل بذكر ربك وتنزيهه ، مع الطلوع والغروب وآناء الليل والنهار ، حتى تغيب في حضرة علام الغيوب ، لعلك ترضى بمشاهدة المحبوب . وبالله التوفيق .
(4/55)

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
قلت : { زهرة } : مفعول بمحذوف ، يدل عليه { مَتَّعْنَا } أي : أعطينا ، أو على الذم ، وفيه لغتان : سكون الهاء وفتحها .
يقول الحقّ جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { ولا تمدنَّ عينيك } أي لا تطل نظرهما ، بطريق الرغبة والميل { إلى ما متّعنا به } من زخارف الدنيا { أزواجًا منهم } أي : أصنافًا من الكفرة ، والمعنى : لا تنظر إلى ما أعطيناه أصناف الكفرة من زخارف الدنيا الغرارة ، ولا تستحسن ذلك ، فإنه فانٍ ، وهو من { زهرة الحياة الدنيا } أي بهجتها ، ثم يفنى ويبيد ، كشأن الزهر ، فإنه فائق المنظر ، سريع الذبول والذهاب .
متعناهم بذلك ، وأعطيناهم الأموال والعز في الدنيا؛ { لنفتنهم فيه } أي : لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم ، هل يقومون بشكره فيؤمنوا بك ، ويصرفوه في الجهاد معك ، وينفقوه على من آمن معك ... أم لا؟ أو لنعذبهم في الآخرة بسببه ، فلا تهتم بذلك . { ورزقُ ربك } أي : ما ادخر لك في الآخرة { خيرٌ } ، أو : ورزقك في الدنيا من الكفاف مع الهُدى ، خير مما منحهم في الدنيا ، لأنه مأمون الغائلة؛ بخلاف ما منحوه ، فعاقبته الحساب والعقاب . { وأبقى } ؛ فإنه لا ينقطع نفْسُه أو أثره ، بخلاف زهرة الدنيا ، فإنها فانية منقطعة .
فالواجب : الاشتغال بما يدوم ثوابه ، ولذلك قال له صلى الله عليه وسلم : { وَأْمُرْ أهْلَكَ بالصلاةِ } ، أمره بأن يأمر أهل بيته ، أو التابعين له من أمته ، بالصلاة ، بعد ما أمر هو بقوله : { وسبح بحمد ربك } على ما مر؛ ليتعاونوا على الاستعانة على الخصاصة ، ولا يهتموا بأمر المعيشة ، ولا يلتفتوا لغنى أرباب الثروة . { واصْطَبر عليها } ؛ وتكلف الصبر على مداومتها ، غير ملتفت لأمر المعاش ، { لا نسألك رزقًا } أي : لا نُكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك ، { نحن نرزقك } وإياهم ، ففرغ قلبك لمشاهدة أسرارنا ، { والعاقبةُ } المحمودة { للتقوى } أي : لأهل التقوى . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أَهْلَه ضُر أو خصاصة أَمَرهُمْ بِالصّلاة ، وتلا هذه الآية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما خوطب به نبينا صلى الله عليه وسلم خوطب به خاصة أمته ، فلا تمدن عينيك ، أيها الفقير ، إلى ما متع به أهل الدنيا ، من زهرتها وبهجتها ، بل ارفع همتك عن النظر إليها ، واستنكف عن استحسان ما شيدوا وزخرفوا ، فإن ذلك حمق وغرور . كان عروة بن الزبير رضي الله عنه إذا رأى أبناء السلاطين وشاراتهم دخل داره وتلا : { ولا تمدن عينيك ... } الآية . وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء زمانه : يا علماء السوء؛ دياركم هامانية ، ومراكبكم قارونية ، وملابسكم فرعونية ، فأين السنة المحمدية؟
ولا تشتغل بطلب رزق فرزق ربك - وهو ما يبرز لك في وقتك من عين المنة ، من غير سبب ولا خدمة - خير وأبقى - ، أما كونه خيرًا؛ فلِمَا يصحبه من اليقين والفرح بالله وزيادة المعرفة ، وأما كونه أبقى؛ لأن خزائنه لا تنفد ، مع بقاء أثره في القلب من ازدياد اليقين ، والتعلق برب العالمين . { وأْمر أهلك بالصلاة } واصطبر أنت عليها ، فإن رزقنا يأتيك لا محالة ، في الوقت الذي نريده ، { لا نسألك رزقًا } لك ولا لأهلك ، { نحن نرزقك } ، لكن رزق المتقين ، لا رزق المترفين ، { والعاقبة للتقوى } . وبالله التوفيق .
(4/56)

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } أي : كفار مكة : { لولا } : هلاّ { يأتينا بآية من ربه } تدل على صدقه ، أو بآية مما اقترحوها؛ من تفجير الأرض وتسيير الجبال ، ولم يعدوا ما شهدوا من المعجزات التي تخر لها الجبال من قبيل الآيات؛ مكابرة وعنادًا . قال تعالى : { أوَلَمْ تَأْتِهِم بينةُ ما في الصُّحف الأولى } أي : أوَ لَمْ يأتهم القرآن الذي فيه بيان ما في الصحف الأولى؛ التوراة والإنجيل والزبور ، وسائر الكتب السماوية لاشتماله على ما فيها ، وزيادة علوم وأسرار . وهذا رد من جهته تعالى لمقالتهم ، وتكذيب لهم فيها دسوا تحتها ، من إنكار إتيان الآية ، بإتيان القرآن الكريم ، الذي هو أبهر الآيات ، وأسنى المعجزات ، وأعظمها ، وأبقاها؛ لأن حقيقة المعجزة : اختصاص مدّعي النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادة ، أيّ أمر كان ، ولا ريب في أن العلم أجلْ الأمور وأعلاها؛ إذ هو أصل الأعمال ، ولقد ظهر ، مع حيازته لعلوم الأولين والآخرين ، على يد أمي ، لم يمارس شيئًا من العلوم ، ولم يدارس أحدًا من أهلها أصلاً ، فأيّ معجزة تراد بعد وروده؟ وأيّ آية ترام مع وجوده؟! وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى ، أي : شاهدًا بحقية ما فيها من العقائد والأحكام ، التي أجمعت عليها كافة الرسل ، ما لا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه ، ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه . وقال بعض أهل المعاني : أو لم يأتهم بيان ما في الكتب الأولى ، من أنباء الأمم الذين أهلكناهم ، لما سألوا الآيات ، فأتتهم ، فكفروا بها ، كيف عجلنا لهم الهلاك؟ فما يُؤمن هؤلاء ، إن أتتهم البينة ، أن يكون حالهم كأولئك .
{ ولو أنَّا أهلكناهم } في الدنيا { بعذابٍ } مستأصل ، { من قَبْلِه } أي : من قبل إتيان البينة ، وهو نزول القرآن ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، { لقالوا ربنا لولا أرسلتَ إِلينا رسولاً } يدعونا مع كتاب يهدينا ، { فنتّبعَ آياتك } التي جاءنا بها ، { من قبل أن نَّذِلَّ } بالعذاب في الدنيا ، { ونخْزَى } بدخول النار يوم القيامة ، ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها ، فانقطعت حجتهم ، فإذا كان يوم القيامة { قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ } [ المُلك : 9 ] .
{ قُلْ } لأولئك الكفرة المتمردين : { كُلٌّ } أي : كل واحد منكم ومنا ، { متربصٌ } : منتظر ما يؤول إليه أمرنا وأمركم ، { فتربصوا } فانتظروا . أو كُلٌّ منتظر دوائر الزمان ، ولمن يكون النصر ، { فتربصوا فستعلمون } عن قريب { من أصحابُ الصراطِ السَّوِيِّ } أي : المستقيم ، أو السواء ، أي : الوسط الجيد ، { ومن اهتدى } من الضلالة ، هل نحن أو أنتم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا يُشترط في الولي العارف بالله ، الداعي إلى الله ، إظهار الآيات ، ويكفي ، برهانًا عليهم ، كونهم على بينة من ربهم ، وهداية الخلق على أيديهم ، وما أظهروه من علم أسرار التوحيد ، ومن فنون علم الطريق ، مع كون بعضهم أميين ، لم يتقدم له مدارسة علم قط ، كما شهدناهم ، بعثهم الله في كل عصر ، يُعرفون بالله ، ويدلون على أسرار ذاته وأنوار صفاته ، على سبيل العيان ، لتقوم الحجة على العباد ، فإذا بُعثوا يوم القيامة جاهلين بالله محجوبين عن شهود ذاته ، متخلفين عن مقام المقربين ، يقولون : لولا أرسلت إلينا رسولاً يُعرفنا بك ، فنتبع آياتك حتى نصل إليك ، من قبل أن نذل بالانحطاط عن درجة المقربين ، أو نخزى بإسدال الحجاب .
(4/57)

يقول الحق تعالى : قد بعثتهم ، فأنكرتموهم ، فإذا اغتروا اليوم ، واحتجوا بقول من قال : انقطعت التربية ، فقل : كلٌّ متربص فتربصوا ، فستعلمون من أصحاب الصراط السَّوي ومن اهتدى . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلَّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وعلى آله وصحبه ، وسلَّمَ تسليمًا .
(4/58)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ . . . }
قلت : { وهم } : مبتدأ ، و { في غفلة } : خبر ، و { معرضون } : خبر بعد خبر ، والجملة : حال من الناس . و { من ذِكْر } : فاعل بيأتي . و { مِن } : صلة ، و { من ربهم } : صفة لذكر ، أي : حاصل من ربهم ، أو متعلق بيأتيهم ، أو صفة لذكر ، وجملة { استمعوه } : حال من مفعول " يأتيهم " ، بإضمار { قد } أو بدونه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال . و { هم يلعبون } : حال أيضًا من فاعل " استمعوه " ، و { لاهية } : حال من واو " يلعبون " ، و { قلوبهم } : فاعل بلاهية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { اقتربَ للناس حسابُهُم } أي : قَرُبَ قيام الساعة التي هي محل حسابهم . قال ابن عباس : " المراد بالناس : المشركون " وهو الذي يُفصح عنه ما بعده ولم يقل تعالى : " اقترب حساب الناس " ، بل قدّم لام الجر على الفاعل؛ للمسارعة إلى إدخال الروعة ، فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجًا ، كما أن تقديم اللام في قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البَقَرَة : 29 ] ؛ لتعجيل المسرة؛ لأن كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة وشوقًا إليه تعالى .
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب المنبئ عن التوجه نحوهم ، مع صحة إسناد الاقتراب إليهم بأن يتوجهوا نحوه ، من تفخيم شأنه ، وتهويل أمره ، ما لا يخفى ، لِمَا فيه من تصويره بشيء مقبل عليهم ، لا يزال يطلبهم حتى يصيبهم لا محالة . ومعنى اقترابه : دنوه منهم شيئًا فشيئًا حتى يلحقهم؛ لأن كل آت قريب ، أي : دنا حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب .
{ وهم في غفلةٍ } تامة منه ، ساهون بالمرة عنه ، غير ذاكرين له ، لا أنهم غير مبالين به ، مع اعترافهم بإتيانه ، بل هم منكرون له ، كافرون به ، { معرضون } عن الآيات والنُذر المنبهة لهم عن سِنة الغفلة . { ما يأتيهم من ذكر } أي : من طائفة نازلة من القرآن ، تذكر ذلك الحساب ، وتنبههم عن الغفلة عنه ، كائن أو نازل { من ربهم } ، أو ذاكر ومذكر من ناحية ربهم . وفي إضافته إليه سبحانه دلالة على شرفه ، وكمال شناعة ما فعلوه من الإعراض عنه ، وفي التعبير بعنوان الربوبية تشنيع لكمال عتوهم ، ومِنْ صفة ذلك الذكر { مُّحْدَث } تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة ، بمعنى أنه نزل شيئًا فشيئًا ، أو قريب عهد بالنزول ، فمعاني القرآن قديمة ، وإظهاره بهذه الحروف والأصوات حادث . وقال ابن راهويه : قديم من رب العزة ، محدث إلى أهل الأرض .
فما ينزل عليهم شيء من القرآن يذكرهم ويعظهم { إِلا استمعوه وهم يلعبون } ؛ لا يتعظون به ، ولا يتدبرون في معانيه ، { لاهيةً قلوبُهم } ؛ ساهية ، معرضة عن التفكر والتدبر في معانيه .
(4/59)

وتقدير الآية : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، في حال من الأحوال ، إلا حال استماعهم إياه كانوا لاعبين مستهزئين به ، لاهين عنه ، حال كون قلوبهم لاهيةً عنه؛ لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر والتفكر في عواقب الأمور . والله تعالى أعلم .
الإشارة : حمل الآية على العموم هو الظاهر عند الصوفية . وقد ورد عن رجل من الصحابة أنه كان يبني ، فلقي بعض الصحابة فقال : ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال له : { اقترب للناس حسابهم } ، فنفض التراب ، وقال : والله لا بنيتُ . ه . أي : اقترب للناس حسابهم على النقير والقطمير ، وهم في غفلة عن التأهب والاستعداد ، معرضون عن اتخاذ الزاد ، ما يأتيهم من ذكر من ربهم ، يعظهم ويُوقظهم ، إلا استمعوه بآذانهم ، وهم يلعبون ساهون عنه بقلوبهم؛ لحشوها بالوساوس الشيطانية والعلائق النفسانية . لاهية قلوبهم عن التفكر والاعتبار والتدبر والاستبصار .
قال القشيري : ويقال : الغفلة على قسمين؛ غافلٍ عن حسابه؛ لاستغراقه في دنياه ، وغافلٍ عن حسابه؛ لاستهلاكه في مولاه ، فالغفلة الأولى سِمَةُ الهجر ، والثانية صِفَةُ الوصل ، فالأولون لا يستفيقون من غفلتهم إلا في عسكر الموتى ، وهؤلاء لا يرجون عن غيبتهم أبَدَ الأبد؛ لفنائهم في وجود الحق . ه .
قلت : القسمة ثلاثية : قوم غفلوا عن حسابهم؛ لاشتغالهم بحظوظهم وهواهم ، وهم : الغافلون الجاهلون ، وقوم ذكروا حسابهم ، وجعلوه نصب أعينهم ، وتأهبوا له ، وهم : الصالحون والعباد والزهاد ، وقوم غفلوا عنه ، وغابوا عنه؛ لاستغراقهم في شهود مولاهم ، وهم : العارفون المقربون . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
ثم ذكر المنهمكين في الغفلة ، فقال :
{ . . . وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض وَهُوَ السميع العليم بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }
قلت : { الذين ظلموا } : بدل من الواو ، مُنبئ عن كونهم موصوفين بالظلم فيما أسروا به . وقال الكلبي : فيه تقديم وتأخير ، أراد الذين ظلموا أسروا النجوى . فيكون { الذين } : مبتدأ و { أسروا } : خبر مقدم .
وقال قطرب : على لغة بعض العرب ، يقولون : أكلوني البراغيث ، وهي بلغة بلحارث وغيرهم . وقال الفراء : بدل من الناس ، أي : اقترب للناس وهم الذين ظلموا . و { هل هذا . . . } الخ : بدل من النجوى ، أو مفعول بقول مضمر ، كأنه قيل : ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل : قالوا : هل هذا . . . الخ و { أنتم تبصرون } : حال من واو " تأتون "؛ مقررة للإنكار ، مؤكدة للاستبعاد . و { من قرية } : فاعل آمنت ، و " من " : صلة للعموم . و { أهلكناها } : صفة لقرية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأسَرُّوا النجوى } : أخفوا تناجيهم بحيث لم يشعر أحد بما قالوا ، وهم { الذين ظلموا } بالكفر والطغيان ، قائلين في تلك النجوى الشنيعة : { هل هذا } أي : ما هذا الرجل الذي يزعم أنه رسول { إلا بشرٌ مثلكم } أي : من جنسكم ، وما أتى به سحر ، { أفتأتون السحر وأنتم تُبصرون } أي : تعلمون ذلك فتأتونه ، وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول ، وأنتم تعاينون أنه سحر؟ قالوا ذلك ، بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ ، أن الرسول لا يكون إلا مَلَكًا ، وأنَّ كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق هو من قبيل السحر ، وغاب عنهم أن إرسال البشر إلى البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية .
(4/60)

قاتلهم الله أنى يؤفكون . وإذا أسروا ذلك ولم يعلنوه؛ لأنه كان على طريق توثيق العهد؛ خفية ، وتمهيدًا لمقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة ، وإطفاء نور الدين . { والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ الصف : 8 ] .
ثم فضح الله سرهم ونجواهم بقوله : { قل ربي يعلم القولَ في السماء والأرض } أي : قل يا محمد : ربي يعلم القول ، سرًا كان أو جهرًا ، سواء كان في السماء أو الأرض ، فلا يخفى عليه ما تناجيتم به ، فيفضحكم به ويجازيكم عليه . وقرأ أكثر أهل الكوفة : ( قال ) ؛ على الخبر ، وهو حكاية من جهته تعالى لِمَا قاله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم؛ بيانًا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ، وإيثار القول المشتمل على السر والجهر؛ للإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة ، لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء ، كما في علوم الخلق .
{ وهو السميعُ العليم } أي : المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ، التي من جملة ما أسروه من النجوى ، فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم . { بل قالوا أضغاثُ أحلام } ، هو إضراب من جهته تعالى ، وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب في مضارب البطلان ، أي : لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه - عليه الصلاة والسلام - : هل هذا إلا بشر ، وفي حق ما ظهر على يديه من القرآن الكريم : إنه السحر ، بل قالوا : هو تخاليط أحلام وأباطيلها ، فهو أشبه شيء بالهذيان ، ثم أضربوا عنه ، وقالوا : { بل افتراه } من تلقاء نفسه ، من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل . ثم قالوا : { بل هو شاعر } ، وما أتى به شعر يُخيل إلى السامع ، لا حقيقة لها . وهكذا شأن المبطل المحجوج ، متحير ، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ، ويتذبذب بين فاسد وأفسد .
فالإضراب الأول ، كما ترى ، من جهته تعالى ، والثاني والثالث من قِبلهم . وقد قيل : الكل من قِبلهم ، حيث أضربوا عن قولهم : هو سحر ، إلى أنه تخاليط أحلام ، ثم إلى أنه كلام مفترى ، ثم إلى أنه قول شاعر ، وهو بعيد؛ لأنه لو كان كذلك لقال : قالوا : بل أضغاث أحلام . . . الخ .
ثم قالوا : { فلْيأتِنا بآيةٍ } ؛ وهو جواب عن شرط محذوف ، يُفصح عنه السياق ، كأنه قيل : وإن لم يكن كما قلنا ، بل كان رسولاً من الله تعالى ، فليأتنا بمعجزة ظاهرة { كما أُرسل الأولون } أي : مثل الآية التي أُرسل بها الأولون؛ كاليد ، والعصا ، و الناقة وشبه ذلك .
(4/61)

فالكاف : صفة لمصدر محذوف ، أي : إتيانًا مثل إتيان الأولين .
قال تعالى : { ما آمنت قبلَهم من قرية أهلكناها } أي : أهلكنا أهلها ، { أَفَهُمْ } أي : هؤلاء المقترحون عليك الآيات ، { يُؤمنون } أي : قد اقترحت الأمم السالفة الآيات على رُسلها ، فأعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، فأهلكناهم ، فكيف يؤمن هؤلاء ، وهم أعتى منهم؟ فالهمزة : لإنكار الوقوع ، والفاء : للعطف على مقدر ، فأفادت إنكار وقوع إيمانهم . والمعنى : لم تُؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يُؤمنون ، لو أُجيبوا إلى ما سألوا وأُعطوا ما اقترحوه من الآيات ، أهم لم يؤمنوا ، فهؤلاء يُؤمنون ، لو أُجيبوا إلى ما سألوا وأُعطوا ما اقترحوه ، مع كونهم أعتى منهم وأطغى؟ فهم في اقتراح الآيات كالباحث على حتفه فطلبه ، وفي ترك إجابتهم إبقاء عليهم ، كيف لا ، ولو أعطوا ما اقترحوا ، مع عدم إيمانهم قطعًا ، لوجب استئصالهم ، بجريان سُنَّةِ الله تعالى من الأمم السالفة أن المقترحين ، إذا أُعطوا ما اقترحوا ، فلم يؤمنوا ، نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة ، وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هؤلاء لا يُعذبون بعذاب الاستئصال ، فلذلك لم يُظهر لهم ما اقترحوا من الآيات . والله تعالى أعلم .
الإشارة : العلماء بالله ، الداعون إلى الله ، هم ورثة الأنبياء والرسل ، فما قيل في الأصل قد قيل في الفرع ، فكل عصر يُوجد من يُنكر على خواص ذلك العصر ، ويرميهم بالسحر والجنون . والافتراء على الله سُنة ماضية . غير أن أولياء هذه الأمة على قدم نبيهم ، رحمة للعالمين ، فمن آذاهم لا يُعاجَل بالعقوبة في الغالب ، وقد تكون باطنية ، كقسوة القلوب ، والخذلان ، والشكوك ، والأوهام . وهذا الوصف في العارفين الكملة ، وأما الزهاد والعباد والصالحون : فمن آذاهم عُوجل بالعقوبة في الغالب؛ لنقص كمالهم ، وعدم اتساع دائرة معرفتهم . وبالله التوفيق .
(4/62)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
يقول الحقّ جلّ جلاله في جواب قول الكفرة : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الأنبيَاء : 3 ] بعد تقديم الجواب عن قولهم : { فليأتنا بآية } ؛ لأنهم قالوه بطريق التعجيز ، فلا بد من المسارعة إلى رده ، كما تقدم مرارًا في الكتاب العزيز ، كقوله : { إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله . . . } [ هُود : 33 ] الآية ، { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } [ الحجر : 8 ] الآية . إلى غير ذلك ، فقال جلّ جلاله : { وما أرسلنا قَبلك } في الأمم السالفة { إِلا رجالاً } ؛ بشرًا من جنس القوم الذين أُرسلوا إليهم؛ لأن مقتضى الحكمة أن يُرسل البشر إلى البشر ، والملَك إلى الملَك ، حسبما نطق به قوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسرَاء : 95 ] ، فإن عامّة البشر لا تطيق المفاوضة مع الملك؛ لتوقفها على التناسب بين المفاوض والمستفيض؛ فبعث لكل جنس ما يناسبه؛ للحكمة التي يدور عليها فلك التكوين والتشريع ، والذي تقتضيه الحكمة الإلهية أن يبعث الملك إلى خواص البشر المختصين بالنفوس الزكية ، المؤيدين بالقوة القدسية ، المتعلقين بالعالم الروحاني والجسماني ، ليتلَقوا من جانب العالم الروحاني ، ويلقوا إلى العالم الجسماني ، فبعث رجالاً من البشر يوحي إليهم على أيدي الملائكة أو بلا واسطة .
والمعنى : وما أرسلنا إلى الأمم ، قبل إرسالك إلى أمتك ، إلا رجالاً مخصوصين من أفراد الجنس ، متأهلين للاصطفاء والإرسال ، { نوحي إليهم } ، بواسطة الملك ، ما يُوحي من الشرائع والأحكام ، وغيرهما من القصص والأخبار ، كما يُوحي إليك من غير فرق بينهما ، { فاسألوا أهل الذِّكر إٍن كنتم لا تعلمون } أي : فاسألوا ، أيها الجهلة ، أهلَ العلم؛ كأهل الكتب الواقفين على أحوال الرسل السالفة - عليهم الصلاة والسلام - لتزول شبهتكم إن كنتم لا علم لكم بذلك . أُمروا بذلك؛ لأن إخبار الجم الغفير يُوجب العلم الضروري ، لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين عداوته صلى الله عليه وسلم ، ويشاورونهم في أمورهم ، فإذا أخبروهم أن الرسل إنما كانوا بشرًا ، ولم يكونوا ملائكة ، حصل لهم العلم بالحق ، وقامت الحجة عليهم .
وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال ، بعد توجيهه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - في الإرسال؛ لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة ، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام .
ثم بيَّن كون الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية ، فقال : { وما جعلناهم جسدًا } أي : أجسادًا ، فالإفراد لإرادة الجنس ، أو ذوي جسد ، { لا يأكلون الطعامَ } أي : وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين ، أغنياء عن الطعام والشراب ، بل مُحتاجين إلى ذلك؛ لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم . { وما كانوا خالدين } ؛ لأن كل من يفتقر إلى الغذاء لا بدّ أن يتحلل بدنه بسرعة ، حسبما جرت العادة الإلهية ، والمراد بالخلود : المكث المديد ، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية .
(4/63)

وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون . والمعنى : بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم ، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية .
{ ثم صَدَقْناهم الوعد } بالنصر وإهلاك أعدائهم ، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم ، كأنه قيل : أوحينا إليهم ما أوحينا ، ثم صدقناهم في الوعد ، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي ، بإهلاك أعدائهم ، { فأنجيناهم ومَنْ نشاء } من المؤمنين وغيرهم ، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه ، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه ، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال . أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ؛ فإن أمته لا تستأصل ، وإن بقي فيها من يكفر بالله؛ لعل الله يُخرج من أصلابهم من يُوحد الله تعالى . { وأهلكنا المسرفين } أي : المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي .
ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول - عليه الصلاة والسلام - ذكر حقية القرآن المنزل عليه ، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته ، فقال : { لقد أنزلنا إِليكم } ، صدّره بالقسم؛ إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه ، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير ، أي : والله لقد أنزلنا إليكم ، يا معشر قريش ، { كتابًا } عظيم الشأن نيّر البرهان . فالتنكير للتفخيم ، أي : كتابًا جليل القدر { فيه ذِكْرُكم } أي : شرفكم وحسن صيتكم ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزّخرُف : 44 ] ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم ، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم ، أو ما تطالبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق ، { أفلا تعقلون } فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته . فالهمزة للإنكار التوبيخي . وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب ، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر ، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة ، والمعطوف : محذوف ، أي : أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم .
الإشارة : ثبوت الخصوصية لا ينافي وصفَ البشرية ، فنسبة أهل الخصوصية من البشر كاليواقيت بين الحجر . ولا فرق بين خصوصية النبوة والولاية في الاتصاف بأوصاف البشرية ، التي لا تُؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية . وتتميز خصوصية النبوة من الولاية بوحي الأحكام ، وتتميز خصوصية الولاية من العمومية بالتطهير من الرذائل والتحلي بالفضائل ، وبالغيبة عن رؤية الأكوان ، بإشراق شمس العرفان ، وذلك بالفناء عن الأثر بشهود المؤثِر ، ثم بالبقاء بشهود الأثر؛ حكمةً ، مع الغيبة عنه ، قدرةً ، ولا يعرف هذا إلا أهل الذكر الحقيقي ، فلا يعرف مقام الأولياء إلا من دخل معهم ، ولا يُسأل عنهم إلا أمثالُهم؛ { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . فلا يشترط في الولي استغناؤه عن الطعام والشراب؛ إذ لم يكن للأنبياء ، فكيف بالأولياء؟ ولا استغناؤه عن النساء ، قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } [ الرّعد : 38 ] ، نعم؛ صاحب الخصوصية مالك لنفسه من غلبة الشهوة عليه ، ينزل إلى أرض الحظوظ بالإذن والتمكين ، والرسوخ في اليقين . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه . وتقدم الكلام على قوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } في سورة النحل . وبالله التوفيق .
(4/64)

وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
قلت : { كم } : خبرية مفيدة للتكثير ، ومحلها نصب ، مفعول بقصمنا ، و { من قرية } : تمييز ، و { كانت . . . } الخ : صفة لقرية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكم قَصَمْنَا من قرية } أي : كثيرًا أهلكنا من أهل قرية { كانت ظالمةً } بآيات الله تعالى ، كافرين بها . وفي لفظ القصم - الذي هو عبارة عن الكسر؛ بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية - من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى . { وأنشأنا } أي : أحدثنا { بعدها } أي : بعد إهلاكها { قومًا آخرين } ليسوا منهم نسبًا ولا دينًا ، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية . { فلما أحسُّوا بأسنا } أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهدَ المحسوس { إِذا هم منها } أي : من القرية { يركُضُون } : يهربون مدبرين راكضين دوابهم . فقيل لهم ، بلسان الحال أو المقال من الملَك ، أو ممن حضرهم من المؤمنين ، بطريق الاستهزاء والتوبيخ : { لا تركُضُوا وارجعوا إِلى ما أُتْرفْتُم فيه } من النعم والتلذذ { و } إلى { مساكِنِكُم } التي كنتم تفتخرون بها ، { لعلكم تُسألون } ؛ تقصدون للسؤال ، إذ كانوا أغنياء ، أو للتشاور والتدبر في المهمات والنوازل ، أو تُسألون الفداء فَتُفتدَوْا من العذاب ، أو تُسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه .
قيل : نزلت في أهل حاضُورا قرية باليمن ، وكان أهلها العرب ، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه ، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ ، فقتلهم وسباهم ، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة : لا تركضوا ، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم؛ استهزاءً بهم ، وأتبعهم بُختنصر ، فأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من السماء : يا لَثَارات الأنبياء ، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم ، فقالوا : { يا ويلنا } ؛ يا هَلاَكنا؛ { إِنّا كنا ظالمين } مستوجبين العذاب . وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك .
{ فما زالتْ تلك دعواهم } أي : فما زالوا يُرددون تلك الكلمة ، ويدعون بها ، ويقولون : يا ويلنا ، { حتى جعلناهم حصيدًا } أي : مثل الحصيد ، وهو المحصود من الزرع والنبات ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، فلذلك لم يجمع ، كجريح وقتيل . وجعلناهم { خامدين } ؛ ميتين ، من خمدت النار إذا طفئت . وهو ، مع " حصيدًا " ، في حيز المفعول الثاني لجعل ، كقولك : جعلته حلوًا حامضًا ، والمعنى : جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود ، أو حال من الضمير المنصوب في " جعلناهم " ، ولفظ الآية يقتضي العموم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وكم من قرية من قرى القلوب قصمنا أهلها ، أي : ما فيها من الشكوك والأوهام ، كانت ظالمة بتلك الخواطر ، فأخرجناهم منها ، وأنشأنا بعدها أنوارًا وأسرارًا وعلومًا آخرين . فلما حسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها ، التي تأتي من حضرة القهار ، إذا هم منها يركضون؛ لأن الواردات الإلهية تأتي من حضرة القهار ، لأجل ذلك لا تصادم شيئًا من الظلمات إلا دمغته ، فيقال لتلك الظلمات ، التي هي الشكوك والأوهام : لا تركضوا ، ولكن ارجعوا أنوارًا ، وانقلبوا وارداتٍ وأسرارًا ، وتنعموا في محلكم بشهود الحق ، لعلكم تُسألون ، أي : تُسْتَفْتَوْنَ في الأمور ، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى في العلوم ، وفي الأمور التي تعرض ، قالوا بلسان الحال - أي تلك الظلمات - : يا ويلنا إنا كنا ظالمين؛ بحجب صاحبنا عن الله ، فما زالت تلك دعواهم حتى صاروا خامدين ، هامدين ، ساكنين تحت مجاري الأقدار ، مطمئنين بالله الواحد القهار ، وهذه إشارة دقيقة ، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم . وبالله التوفيق .
(4/65)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
قلت : { لاعبين } : حال من فاعل خلق ، و " إن كنا " : شرط حُذف جوابه ، أي : إن كنا فاعلين اتخذناه من لّدُنا ، وقيل : نافية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما خلقنا السماءَ والأرضَ وما بينهما } من المخلوقات التي لا تُحصى أجناسها ، ولا تُعد أفرادها ، ولا تُحصر أنواعها وآحادها ، على هذا النمط البديع والأسلوب الغريب ، { لاعبين } ؛ خالية عن الحِكم والمصالح ، بل لحِكَم بديعة ومصالح عديدة ، دينية تَقْضي بسعادة الأبد أو بشقاوته ، ودنيوية لا تُعد ولا تُحصى ، وهذا كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] ، فالمراد من الآية : إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم ، وإبداع بني آدم ، مؤسس على قواعد الحِكَم البالغة ، المستتبعة للغايات الجليلة ، وتنبيه على أن ما حكي من العذاب الهائل ، والعقاب النازل بأهل القُرى ، من مقتضيات تلك الحِكم ، ومتفرع عليها حسبما اقتضته أعمالهم . وإنما فعل ذلك؛ عدلاً منه ، ومجازاة على أعمالهم ، وأن المخاطبين المتقدمين - وهم قريش - على آثارهم؛ لأن لهم ذنوبًا مثل ذنوبهم . وإنما عبَّر عن نفي الحكمة باللعب ، حيث قال : { لاعبين } ؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخاليِ عن الحكمة ، بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره منه سبحانه ، وهو اللهو واللعب ، بل إنما خلقناهما ، وما بينهما؛ لتكون مبدأ الوجود الإنساني وسببًا لمعاشه ، ودليلاً يقوده إلى تحصيل معرفتنا ، التي هي الغاية القصوى والسعادة العظمى .
ثم قرر انتفاء اللعب واللهو عنه ، فقال : { لو أردنا أن نتخذ لهوًا } أي : ما يلهى به ويلعَب ، { لاتَّخذناه من لدُنَّا } أي : من أنفسنا؛ لعلمنا بحقائق الأشياء ، واستغنائنا عن جلب المصالح ودرء المفاسد . والمعنى : لو أردنا أن نخلق شيئًا ، لا لتحصيل مصلحة لكم ، ولا لدرء مفسدة عنكم ، لفعلنا ذلك في أنفسنا؛ بأن نخلق عوالم ومظاهر عارية عن الحكمة والمصلحة؛ لأنا أحق منكم بالاستغناء عما يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة ، لكن من عادتنا ربط الأسباب بمسبباتها ، وأنا لم نخلق شيئًا عبثًا ، بل خلقنا كل نوع من النبات والحيوانات والجمادات؛ لمصلحة ومنفعة ، عَلِمها ، من عَلِمها وجَهِلَها من جَهِلَها ، فحصل من هذا نفي التحسين والتقبيح؛ عقلاً ، بهذه الشرطية ، وإثباته سمعًا .
أو : { لاتخذناه من لدُنَّا } مما يليق بشأننا من المجردات ، لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة ، كعادة الجبابرة؛ مِنْ رفع العروش وتحسينها ، وتمهيد الفرش وتزيينها ، لأغراض عِراض ، لكن يستحيل إرادتنا لذلك؛ لمنافاته للحكمة الإلهية المنزهة عن الأغراض . ه . من أبي السعود ، وأصله للزمخشري . وفيه تكلف .
وسأل طاوسُ ومجاهدُ الحسنَ عن هذه الآية؟ فقال : اللهو : المرأة . وقال ابن عباس : " الولد " . ومعنى { لاتخذناه من لدُنَّا } : بحيث لا يطلعون عليه ، وما اتخذنا نساءًا وولدًا من أهل الأرض . نزلت في الذين قالوا : اتخذ الله ولدًا .
(4/66)

وتكون الآية ، حينئذ تتميمًا لِما قبلها ، أي : ليس اللعب واللهو من شأننا ، إذ لو أردنا أن نتخذ لهوًا لاتخذناه من لدنا . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : حمل الآية على الزوجة غير مفيد ، إلا أن يراد بذلك مجرد الرحمة والشفقة ، مما يمكن عقلاً ، فيصح دخول النفي الشرعي عليه . انظر ابن عرفة ، فقد جوّز ، عقلاً ، اتخاذه على معنى الرحمة . وكذا ابن عطية في آية الزمر . ومنع ذلك القشيري . قلت : وكأنه لِما يشير إليه قوله تعالى : { هُوَ الله الواحد القهار } [ الزُّمَر : 4 ] ، فإن القهر لا يناسب التبني بوجه ، وقد يقال : إنه مانع سمعي شرعي ، لا عقلي ، فلا يخالف ما قاله ابن عرفة ولا ابن عطية . وفيه نظر؛ لأنه يُؤدي إلى تعطيل اسمه القهار ونحوه ، وهو محال ، والله أعلم . ه .
قلت : قد حمل النسفي الآية على الولد ، فقال : { لو أردنا أن نتخذ لهوًا } أي : ولدًا ، أو امرأة ، رد على من قال عيسى ابنه ، ومريم صاحبته ، { لاتخذناه من لدُنَّا } من الولدان أو الحور ، { إِن كنا فاعلين } أي : إن كنا ممن يفعل ذلك ، ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا . ه . قلت : والذي تكلف الحمل الأول رأى أن حمله على الولد يقتضي جواز الاتخاذ عقلاً؛ وإنما منعه عدم الإرادة . وأجاب ابن عرفة : بأن يحمل الاتخاذ على معنى الرحمة ، لا على حقيقة البنوة . قلت : من خاض بحار التوحيد الخاص وحاز مقام الجمع ، لا يتوقف في مثل هذا؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، لكن لم يوجد منها ، ولم تتعلق إرادته إلا بما هو كمال في حقه تعالى في باب القدرة ، وأما باب الحكمة ، فهي رداء لمحل النقائص ، فافهم ، وأصحب أهلَ الجمع حتى يفهموك ما ذكرتُ لك ، والسلام .
ثم قال تعالى : { بل نقذفُ بالحق على الباطل } أي : نرمي بالحق ، الذي هو الجد ، على الباطل ، الذي من جملته اللهو ، وهو إضراب عن اتخاذ الولد ، بل عن إرادته ، كأنه قيل : لكنا لا نريده ، بل شأننا أن نقذف بالحق على الباطل { فيدْمَغُه } : فيمحقه بالكلية ، كما فعلنا بأهل القُرى المحكية وأمثالهم ، وقد استعير ، لإيراد الحق على الباطل ، القذف ، الذي هو الرمي الشديد ، وللباطل الدمغ ، الذي هو تشتيت الدماغ وتزهيق الروح ، فكأنَّ الباطل حيوان له دماغ ، فإذا تشتت دماغه مات واضمحل ، { فإِذا هو زاهق } أي : فإذا الباطل ذاهب بالكلية ، متلاش عن أصله . وفي { إذا } الفجائية والجملة الاسمية من الدلالة على كمال السُرعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى .
ثم ردَّ على أهل الباطل فقال : { ولكم الويلُ مما تصفون } أي : وقد استقر لكم الويل والهلاك؛ من أجل ما تصفونه ، سبحانه ، بما لا يليق بشأنه الجليل ، من الولد والزوجة ، وغير ذلك مما هو باطل . وهو وعيد لقريش ومن دان دينهم ، بأنَّ لهم أيضًا مثل ما لأولئك القرى المتقدمة من الهلاك ، إن لم ينزجروا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها كائنات ، بل لتراها أنوارًا وتجليات ، الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته ، فالغير والسِّوى عند أهل الحق باطل ، والباطل لا يثبت مع الحق . قال تعالى : { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } . قال القشيري : نُدْخِلُ نهارَ التحقيق على ليالي الأوهام ، أي : فتمحى ، وتبقى شمس الأحدية ساطعة . ه . وبالله التوفيق .
(4/67)

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وله من في السماوات والأرض } أي له جميع المخلوقات ، خلقًا ومِلكًا ، وتدبيرًا وتصرفًا ، وإحياء وإِماتة ، وتعذيبًا وإثابة ، من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ، لا استقلالاً ولا استتباعًا ، ولا فرق بين أهل العالم العلوي والسفلي ، { ومَنْ عنده } وهم الملائكة - عليهم السلام - عبَّر عنهم بذلك إثر ما عبَّر عنهم بمن في السماوات؛ تنزيلاً لهم - لكرامتهم عليه ، وزلفاهم عنده - منزلة المقربين عند الملك ، وهو مبتدأ وخبره : { لا يستكبرون عن عبادته } أي : لا يتعاظمون عنها ، ولا يَعُدون أنفسهم كبراء ، { ولا يستحسرون } أي : لا يكِلُّون ولا يَعْيون ، { يُسبِّحُون الليلَ والنهار } أي : ينزهونه في جميع الأوقات ، ويُعظمونه ويمجدونه دائمًا . وهو استئناف بياني ، كأنه قيل : ماذا يصنعون في عبادتهم ، أو كيف يعبدون؟ فقال : يُسبحون . . الخ . { لا يَفْتَرُون } أي : لا يتخلل تسبيحَهم فترة أصلاً ، ولا شغل آخر .
ولمّا برهن على وحدانيته تعالى في ملكه بأنه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة ، وأنهم قاطبة تحت ملكه وقهره ، وأنَّ عباده مذعنون لطاعته ، ومثابرون على عبادته ، ومنزهون له عن كل ما لا يليق بشأنه ، أنكر على من أشرك معه بعد هذا البيان ، فقال : { أم اتخذوا آلهة } يعبدونها { من الأرض } أي : اتخذوها من جنس الأرض ، أحجارًا وخشبًا ، { هم يُنْشِرُون } أي : يبعثون الموتى . وهذا هو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع ، لا نفس الاتخاذ ، فإنه واقع لا محالة ، أي : بل اتخذوا آلهة من الأرض ، هم مع حقارتهم ، ينشرون الموتى ، كلا . . . فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك ، وهم ، وإن لم يقولوا بذلك صريحًا ، لكنهم حيث ادعوا لها الألوهية ، فكأنهم ادعوا لها الإنشار ، ضرورة؛ لأنه من خصائص الإلهية ، ومعنى التخصيص في تقديم الضمير في : { هم يُنشِرون } : التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار ، الموجبة لمزيد الإنكار ، كما في قوله تعالى : { أَفِي الله شَكٌّ } [ إبراهيم : 10 ] . وفي قوله تعالى : { أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } [ التّوبَة : 65 ] ، فإنَّ تقديم الجار والمجرور؛ للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به .
ثم أبطل الاشتراك في الألوهية ، فقال : { لو كان فيهما آلهةً إِلا الله } أي : لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله ، كما هو اعتقادهم الباطل ، { لفسدَتَا } أي : لفسد نظامهما بما فيهما ، لوجود التمانع ، كعادة الملوك ، أو لبطلتا بما فيهما ، ولم يوجد شيء منهما؛ للزوم العجز لهما ، بيان ذلك : أن الألوهية مستلزمة للقدرة على الاسْتِبْدَادِ بالتصرف فيهما على الإطلاق ، تغييرًا وبديلاً ، وإيجادًا وإعدامًا ، وإحياء وإماتة ، فبقاؤهما على ما هما عليه من غير فساد ، إما بتأثير كل منها ، وهو محال؛ لاستحالة وقوع الأثر الواحد بين مؤثرين ، وإما بتأثير واحد منها ، فالباقي بمعزل عن الإلهية ، والمسألة مقررة في علم الكلام .
(4/68)

و { إلا } : صفة لآلهة ، كما يُوصف بغير ، ولمَّا كانت حرفًا ، ظهر إعرابها في اسم الجلالة ، ولا يصح رفعه على البدل؛ لعدم وجود النفي . ثم قال تعالى : { فسبحان الله } أي : فسبحوا سُبحان الله اللائق به ، وننزهوه عما لا يليق به من الأمور ، التي من جملتها : أن يكون له شريك في الألوهية . وإيراد الجلالة في موضع الإضمار ، حيث لم يقل فسبحانه؛ للإشعار بعلية الحكم ، فإنَّ الألوهية مناط لجميع صفات كماله ، التي من جملتها : تنزهه تعالى عما لا يليق به ، ولتربية المهابة وإدخال الروعة . ثم وصفه بقوله : { ربِّ العرش } ، وخصه بالذكر ، مع كونه رب كل شيء؛ لعظم شأنه؛ لأنَّ الأكوان في جوفه كلا شيء ، أي : تنزيهًا له عما يصفونه عن أن يكون من دونه آلهة .
ثم بيَّن قوة عظمته وعز سلطانه القاهر ، فقال : { لا يُسأل عما يَفعل } أي : لا يمكن لأحد من مخلوقاته أن يناقشه أو يسأله عما يفعل؛ هيبةً وإجلالاً ، { وهم يُسألون } أي : وعباده يُسألون عما يفعلون ، نقيرًا وقطميرًا؛ لأنهم مملوكون له تعالى ، مستعبدون ، ففيه وعيد للكفرة ، فالآية تتميم لقوله : { لاعبين } ، بل خلقنا الأشياء كلها لحكمة ، فمنها ما أدركتم حكمته ، ومنها ما غاب عنكم ، فكِلُوا أمره إلى الله ، ولا تسألوه عما يفعل ، فإنه لا يُسأل عن فعله ، وأنتم تُسألون .
ثم قال تعالى : { أم اتخذوا من دونه آلهة } ، هو إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة؛ بإظهار خلوها من خصائص الألوهية ، التي من جملتها إنشار الموتى ، وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعد الإله ، إلى إظهار بُطلان اتخاذهم تلك الآلهة ، مع عرائها عن تلك الخصائص ، وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة . والهمزة : لإنكار ما اتخذوه واستقباحه ، أي : بل اتخذوا من دونه - أي : متجاوزين إياه تعالى ، مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية - آلهة ، مع ظهور خلوهم عن خصوص الإلهية بالكلية .
{ قلْ } لهم ، بطريق التبكيت : { هاتُوا برهانكم } على ما تَدَّعونَه ، من جهة العقل والنقل؛ فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية ، لا سيما في هذا الأمر الخطير ، فإن بُهتوا فقل لهم : { هذا ذكر مَنْ معي وذكر مَنْ قبلي } أي : بهذا نطقت الكتب السماوية قاطبة ، وشهدت به سُنَّة الرسل المتقدمة كافة . فهذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع { ذُكر من معي } من أمتي ، أي : عظتهم ، { وذكرُ مَن قبلي } من الأمم السالفة ، أي : بهذا أمَرنا ربُنا ووعظنا ، وبه أمر مَنْ قبلنا ، يعني : انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه بها .
وقيل : المعنى : هذا كتاب أُنزل على أمتي ، وهذا كتاب أُنزل على أمم الأنبياء - عليهم السلام - قبلي ، فانظروا : هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ، ففيه تبكيت لهم .
(4/69)

{ بل أكثرهم لا يعلمون الحقَّ } أي : لا يفهمونه ، ولا يميزون بينه وبين الباطل ، فهو إضراب وانتقال من تبكيتهم بمطالبة البرهان ، إلى بيان أنه لا ينجع فيهم المحاججة؛ لجهلهم وعنادهم ، ولذلك قال : { فهم معرضون } أي : فهم لأجل جهلهم وعتوهم مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول ، لا يَرْعَوُونَ عما هم عليه من الغي والضلال ، وإن كررت عليهم البينات والحجج . أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية؛ لانهماكهم .
{ وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ من رسولٍ إِلا يوحى إِليه أنه لا إِله إِلا أنا فاعبدون } ، هذا مقرر لما قبله؛ من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية ، وأجمعت عليه الرسل - عليهم السلام - قاطبة . وصيغة المضارع في ( يوحى ) ؛ لحكاية الحال الماضية؛ استحضارًا لصورة الوحي العجيبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته } ، العندية ، هنا ، عندية اصطفاء وتقريب ، وهذه صفة العارفين المقربين ، لا يستكبرون عن عبادته ، بل خاضعون لجلاله وقهريته على الدوام ، ولا يستحسرون : لا يملُّون منها ولا يشبعون ، غير أنهم يتلونون فيها؛ من عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب؛ كالتفكر والاعتبار ، إلى عبادة الأرواح؛ كالشهود والاستبصار ، إلى عبادة الأسرار؛ كالعكوف في حضرة الكريم الغفار ، يُنزهون الله تعالى في جميع الأوقات ، لا يفترون عن تسبيحه بالمقال أو الحال .
وقوله تعالى : { أم اتخذوا آلهة . . . } الخ ، تَصْدُق على من مال بقلبه إلى محبة الأكوان ، أو ركن إلى الحظوظ والشهوات ، وقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إِلا الله لفسدتا } ، اعلم أن ثلاثة اشياء إذا تعدد مدبرها فسد نظامها؛ أولها : الألوهية ، فلو تعددت لفسد نظام العالم ، وثانيها : السلطنة ، إذا تعددت في قُطْر واحد فسدت الرعية ، وثالثها : الشيخوخة ، إذا تعددت على مريد واحد فسدت ترتبيته ، كالطبيب إذا تعدد على مريض واحد فسد علاجه . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } قال الكواشي : يعني : لا يُسأل عن فعله وحُكمه؛ لأنه الرب ، وهم يُسألون؛ لأنهم عبيده . وبعض الناس يقول : هذه آية الدبوس . قلت : وقد تقلب السين زايًا ، ومعناها : أن كل ما تحكم به القدرة يجب حنو الرأس له ، من غير تردد ولا سؤال . ثم قال : ولو نظر النظر الصحيح لرآها أنصف آية في كتاب الله تعالى؛ وذلك لأنه جمع فيها بين صفة الربوبية وصفة العبودية . ه .
وقوله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إِلا نُوحيَ إِليه أنه لا إله إلا أنا } يعني : أن التوحيد مما أجمعت عليه الرسل والكتب السماوية . والفناء فيه على ثلاثة أقسام : فناء في توحيد الأفعال ، وهو ألا يرى الفعل إلا من الله ، ويغيب عن الوسائط والأسباب ، وفناء في توحيد الصفات ، وهو أن يرى ألا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم إلا الله ، وفناء في توحيد الذات ، وهو أن يرى ألا موجود إلا الله ، ذوقًا ووجدًا وعقدًا . كما قال صاحب العينية :
هُوَ الموجِدُ الأشْيَاءِ وَهْوَ وُجُودُهَا ... وعَيْنُ ذَوَاتِ الكُلِّ وَهْوَ الجَوَامِعُ
وقد أشار بعضهم إلى هذه الفناءات ، فقال :
فيفنى ثم يفنى ثم يفنى ... فكان فناؤه عين البقاءِ
وهنا - أي : في مقام الفناء والبقاء - انتهت أقدام السائرين ، ورسخت أسرار العارفين ، مع ترقيات وكشوفات أبد الآبدين ، جعلنا الله من حزبهم . آمين .
(4/70)

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا } ، حكى الله تعالى جناية أخرى لبعض المشركين ، جيء بها؛ لبيان بطلانها . والقائل بهذه المقالة حيٌ من خزاعة ، وقيل : قريش وجهينة وبنو سلمة وبنو مليح ، يقولون : الملائكة بنات الله ، وأمهاتهم سروات الجن ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا . والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه مربوباً له تعالى ، نعمة أو منعمًا عليه؛ لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة ، { سبحانه } أي : تنزه تنزيهًا يليق بكمال ذاته ، وتقدَّس عن الصاحبة والولد ، { بل } هم { عبادٌ } لله تعالى ، و " بل " إبطال لما قالوا ، أي : ليست الملائكة كما قالوا ، { بل عبادٌ مكرمون } ؛ مقربون عنده ، { لا يسبقونه } أي : لا يتقدمونه { بالقول } ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم به . وهذه صفة أخرى لهم ، منبهة على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى ، أي : لا يقولون شيئًا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به . وأصله : لا يسبق قولُهم قولَه ، ثم أسند السبق إليهم؛ لمزيد تنزههم عن ذلك ، { وهم بأمره يعملون } أي : لا يعملون إلا ما أمرهم به ، وهو بيان لتبعيتهم له تعالى في الأفعال ، إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال ، فإن نفي سبقيتهم له تعالى بالقول : عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه ، كأنه قيل : هم بأمره يقولون وبأمره يعملون ، لا بغير أمره أصلاً .
{ يعلمُ ما بين أيديهم وما خلْفَهم } أي : ما عملوا وما هم عاملون ، وقيل : ما كان قبل خلقهم وما يكون بعد خلقهم . وهو تقرير لتحقق عبوديتهم؛ لأنهم إذا كانوا مقهورين تحت علمه تعالى وإحاطته انتفت عنهم أوصاف الربوبية المكتَسبَة من مجانسة البنوة ، { ولا يشفعون إِلا لمن ارتضى } أن يشفع له ، مهابة منه تعالى . قال ابن عباس : " هم أهل لا إله إلا الله " ، { وهم من خشيته } عزّ وجلّ { مشفقون } : خائفون مرتعدون . قال بعضهم : أصل الخشية : الخوف مع التعظيم ، ولذلك خص بها العلماء ، وأصل الإشفاق : الخوف مع الاعتناء ، فعند تعديته بمن : يكون معنى الخوف فيه أظهر ، وعند تعديته بعلى : ينعكس الأمر؛ فيكون معنى الإشفاق فيه أظهر .
{ ومن يَقُلْ منهم } أي : من الملائكة؛ إذ الكلام فيهم ، { إِني إِلهٌ من دونه } أي : متجاوزًا إياه تعالى ، { فذلك } الذي فرض أنه قال ذلك فرض المحال ، { نَجْزِيه جهنم } كسائر المجرمين ، ولا ينفي هذا عنهم ما ذكر قبلُ من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية؛ لأنه فرض تقدير ، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى ، وعزة جبروته ، واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة ، ما لا يخفى ، { كذلك نجزي الظالمين } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين ، الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ، ويتعدون أطوارهم .
(4/71)

قال الكواشي : هذا القول وارد على سبيل التهديد والوعيد الشديد على ارتكاب الشرك ، كقوله : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعَام : 88 ] . ه . فالقصد : تفظيع أمر الشرك ، وأنه لو صدر ممن صدر لأحبط عمله ، وكان جزاء صاحبه جهنم ، ومثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين ، وهم الكافرون ، والحاصل : أنه على سبيل الفرض ، مع علمه تعالى أنه لا يكون من الملائكة ، فهو من إخباره عما لا يكون كيف يكون ، لعلمه بما لا يكون ، مما جاز أن يكون ، كيف يكون . ه . من الحاشية الفاسية ببعض اختصار .
فالكاف من " كذلك " : في محل مصدر تشبيهي ، مؤكد لمضمون ما قبله . والقصر ، المستفاد من التقديم للمصدر ، معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة ، أي : لا جزاء أنقص منه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أنوار الملكوت متدفقة من بحر أسرار الجبروت ، من غير تفريع ، ولا تولد ، ولا علاج ، ولا امتزاج ، بل : كن فيكون ، لكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأشياء وتفريع بعضها من بعض ، ليبقى السر مصونًا والكنز مدفونًا . فأسرار الذات العلية منزّهة عن اتخاذ الصاحبة والولد ، بل القدرة تُبرز الأشياء بلا علاج ولا أسباب ، والحكمة تسترها بوجود العلاج والأسباب . فكل ما ظهر في عالم التكوين قد عَمَّتْهُ قهرية العبودية ، وانتفت عنه نسبة البُنوة لأسرار الربوبية ، فأهل الملأ الأعلى عباد مكرمون ، مقدّسون من دنس الحس ، مستغرقون في هَيَمَان القرب والأنس ، وأهل الملأ الأسفل مختلفون ، فمن غلب عقلُه على شهوته ، ومعناه على حسه ، وروحانيته على بشريته ، فهو كالملائكة أو أفضل . ومن غلبت شهوته على عقله ، وحسه على معناه ، وبشريته على روحانيته ، كان كالبهائم أو أضل . ومن التحق بالملأ الأعلى ، من الأولياء المقربين ، انسحب عليه ما مدحهم به تعالى من قوله : { يُسبحون الليل والنهار لا يَفْتُرون } ، ومن قوله : { لا يسبقونه بالقول } ، بأن يدبروا معه شيئًا قبل ظهور تدبيره ، وهم بطاعته يعملون ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، وهم من خشية هيبته مشفقون ، { ومَن يقل منهم إني إله من دونه } ؛ بأن يدّعي شيئًا من أوصاف الربوبية ، كالكبرياء ، والعظمة على عباده ، فذلك نجزيه جهنم ، وهي نار القطيعة ، كذلك نجزي الظالمين . وفي الحِكَم : " منعك أن تدّعي ما ليس لك مما للمخلوقين ، أفيبيح لك أن تدّعي وصفه وهو رب العالمين "؟
(4/72)

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قلت : { فِجَاجًا } : حال من " سُبل " ، وأصله : وصف له ، فلما تقدم أُعرب حالاً . وقيل { سُبُلاً } : بدل من { فجاجًا } . وفي إتيانه : إيذان أن تلك الفجاج نافذة؛ لأن الفج قد يكون نافذًا وقد لا . قاله المحشي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أوَ لَمْ يَر الذين كفروا } رؤية اعتبار { أنّ السماواتِ والأرضَ } أي : جماعة السماوات وجماعة الأرض { كانتا } ، ولذلك لم يقل كُنَّ ، { رَتْقًا } أي : ملتصقة بعضها ببعض . والرتق : الضم والالتصاق . وهو مصدر بمعنى المفعول ، أي : كانتا مرتوقتين ، أي : ملتصقتين ، { ففتقناهما } ؛ فشققناهما ، فالفتق ضد الرتق . قال ابن عباس رضي الله عنه : " كانتا شيئًا واحدًا متصلتين ، ففصل الله بينهما ، فرفع السماء إلى حيث هي ، وأقرّ الأرض " . وفي رواية عنه : أرسل ريحًا فتوسطتهما ففتقتهما . وقال السدي : ( كانت السماوات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها ، فجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض ، كانت طبقة واحدة ، ففتقها ، فجعلها سبع أرضين ) .
فإِن قيل : متى رأوهما رتقًا حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : مصب الكلام والتقرير هو فتق السماوات ورفعها ، وهو مشاهد بالأبصار ، وهم متمكنون من النظر والاعتبار ، فيعلمون أن لها مدبرًا حكيمًا ، فَتَقَهَا ورفعها ، وهو الحق جلّ جلاله ، وذكر الرتق زيادة إخبار ، فكأنه قال : ألم يروا إلى فتق السماوات ورفعها؟ وقال الكواشي : لَمّا كان القرآن معجزًا ، كان وروده برتقهما كالمشاهد المرئي ، أو : لمّا كان تلاصق السماوات والأرضين ، وما بينهما ، وتباينهما ، جائزًا عقلاً ، وجب تخصيص التلاصق من التباين ، وليس ذلك إلا لله تعالى . ه .
وقيل : كانت السماوات صلبة لا تمطر ، والأرض رتقًا لا تنبت ، ففتق السماء بالأمطار ، والأرض بالنبات . ورُوي هذا عن ابن عباس أيضًا ، وعليه أكثر المفسرين ، وعِلْمُ الكفرةِ الرتقِ والفتق ، بهذا المعنى ، مما لا خفاء فيه . والرؤية على الأول رؤية علم ، وعلى الثاني رؤية عين .
{ وجعلنا من الماء كل شيءٍ حيٍّ } أي : خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } [ النُّور : 45 ] ، وذلك لأنه من أعظم مواده ، أو لفرط احتياجه إليه ، وحبه له ، وعدم صبره عنه ، وانتفاعه به ، ويدخل في ذلك : النبات؛ مجازًا دون الملائكة ، فأَلْ فيه للحقيقة والماهية ، إلا أنه صرفه عن ذلك إلى العهد الذهني قرينةُ الجعل ، كما في آية : { فَأَكَلَهُ الذئب } [ يُوسُف : 17 ] ، فإن القرينة تخلص ذلك للبعضية وإرادة الأشخاص . وقيل المراد به : المَنِيُّ . فأَلْ فيه ، حينئذ ، للعهد الذهني فقط . قال القشيري : كُلُّ مخلوقٍ حيٍّ فَمِنَ الماء خَلْقُه ، فإنَّ أصلَ الحيوان الذي يحصل بالتناسل النطفةُ ، وهي من جملة الماء . ه . وتقدم أن الملائكة لا تناسل فيها . { أفلا يؤمنون } بالله وحده ، وهو إنكار لعدم إيمانهم ، مع ظهور ما يُوجبه حتمًا من الآيات الآفاقية والأنفُسية ، الدالة على تفرده تعالى بالألوهية .
(4/73)

{ وجعلنا في الأرض رواسِيَ } أي : جبالاً ثوابت ، من رسا الشيءُ؛ إذا ثبت ورسخ ، { أن تميد بهم } أي : كراهية أن تتحرك وتضطرب بهم ، أو لئلا تميد بهم - بحذف اللام - ، و " لا "؛ لعدم الإلباس . { وجعلنا فيها } أي : في الأرض ، وتكرير الجعل؛ لاختلاف المجعولين ، ولتوفية مقام الامتنان حقه ، أو في الرواسي؛ لأنها المحتاجة إلى الطرق ، { فِجاجًا } : جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، نفذ أم لا ، أي : جعلنا في الأرض مسالك واسعة ، و { سُبُلاً } نافذة : فالسبل هي الفجاج مع قيد النفوذ . فإن قيل : أيّ فرق بين هذا وبين قوله : { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نُوح : 20 ] ؟ فالجواب : أنه هُنا بيَّن أنه خلقها على هذه الصفة ، وهناك بيَّن أنه جعل فيها طُرقًا واسعة ، وليس فيه بيان أنه خلقها كذلك ، فما هنا تفسير لما هناك . انظر النسفي .
وقوله تعالى : { لعلهم يهتدون } أي : إلى البلاد المقصودة بتلك السبل ، أو إلى مصالحهم ومهماتهم . { وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا } من السقوط ، كقوله : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحَجّ : 65 ] ، أو من الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم ، أو من استراق السمع بالشهب ، كما قال : { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [ الصَّافات : 7 ] . { وهم } أي : الكفار { عن آياتها } أي : عن الأدلة التي فيها ، كالشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك مما فيها من العجائب الدالة على وحدانيته تعالى وقدرته وحكمته ، التي بعضها محسوس ، وبعضها معلوم بالبحث في علمي الطبيعة والهيئة ، { مُعْرِضُون } لا يتدبرون فيها ، فيقفون على ما هم عليه من الكفر والضلال ، فيؤمنون .
{ وهو الذي خلق الليلَ } لتسكنوا فيه ، { والنهارَ } لتتصرفوا فيه ، { والشمسَ } لتكون سراجَ النهار ، { والقمرَ } ليكون سراج الليل ، وهذا بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون . وقوله : { كلٌّ } أي : كلهم ، والمراد : جنس الطوالع ، { في فَلكٍ يَسْبَحُون } أي : يسيرون سير العائم في الماء . عن ابن عباس رضي الله عنه : الفلك السماء ، وقيل : موج مكفوف تحت السماء ، يجري فيه الشمس والقمر والنجوم . وجمهور أهل الهيئة أن الفلك : جسم مستدير ، وأنهن تسعة ، وهل هي السماوات السبع ، فيكون الكرسي ثامنًا ، والعرش تاسعًا ، أو غيرهن ، فتكون تحت السماوات أو فوقها؟ قولان لهم . والمراد هنا : الجنس ، كقولك : كَسَاهُمُ الأميرُ حلةٌ ، أي : حُلة حُلةً ، وجعل الضمير واو العقلاء؛ لأن السباحة حالُهم .
قال في المستخرج من كتاب الغزنوني : " كلٌّ " أي : كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارة ، وإن لم تُذْكرون؛ لأنه جمعَ قوله : { يَسْبَحُون } والمعنى : يجرون كالسابح أو يدورون ، والسيارة تجري في الفلك على عكس جري الفلك ، ولها تسعة أفلاك ، فالقمر في الفلك الأدنى ، ثم عطارد ، ثم الزهرة ، ثم الشمس ، ثم المريخ ، ثم المشتري ، ثم زُحل ، والثامن : فلك البروج ، والتاسع : الفلك الأعظم . ه . وقال في سورة يس : خص الشمس والقمر هنا ، وفي سورة الأنبياء؛ لأن سيرهما أبدًا على عكس دور الفلك ، وسَيْر الخمسة قد يكون موافقًا لسيره عند رجوعها .
(4/74)

ه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أوَ لَم ير الذين كفروا بوجود التربية أن سماوات الأرواح وأرض النفوس كانتا رتقًا صلبة ، ميتة بالجهل ، ففتقناهما بالعلوم وأسرار التوحيد؟ والمعنى : أن بعض الأرواح والنفوس تكون ميتة صلبة ، فإذا صَحِبَتْ أهل التربية ، انفتقت بالعلوم والأسرار ، فهذا شاهد بوجود أهل التربية ، ومن قال بانقطاعها فقوله مردود بالمشاهدة . وجعلنا من ماء الغيب - وهي الخمرة الأزلية - كلَّ شيء حي ، أفلا يؤمنون بوجود هذا الماء عند أربابه؟ وجعلنا في أرض النفوس جبالاً من العقول؛ لئلا تميل إلى الهوى فتموت ، وجعلنا فيها طُرقًا يسلك منها إلى الحضرة ، وهي كيفية الرياضة وأنواع المجاهدة ، وهي طرق كثيرة ، والمقصد واحد ، وهو الوصول إلى الفناء والبقاء ، التي هي معرفة الحق بالعيان ، وهو قوله تعالى : { لعلهم يهتدون } إلى الوصول إلى حضرتنا .
وجعلنا السماء ، أي : سماء القلوب الصافية ، سقفًا محفوظًا من الخواطر والوساوس والشكوك والأوهام والشياطين ، قال بعضهم : " إذا كان الحق تعالى قد حفظ السماء بالشهب من الشياطين ، فقلوب أوليائه أولى بالحفظ ) . وهم عن آياتها ، أي : عن دلائل حفظها وصيانتها معرضون؛ لانهماكهم في الغفلة . وهو الذي خلق ليل القبض ونهار البسط وشمس العرفان وقمر توحيد الدليل والبرهان ، كلٌّ في موضعه ، لا يتعدى أحد على صاحبه ، ولكل واحد سير معلوم وأدب محتوم . وبالله التوفيق .
ولمّا قامت الحجة على الكفرة بما ذكرَ من الآيات والدلائل القاطعة ، وانقطعوا ، قالوا : ننتظر به ريب المنون ، فنستريح منه .
(4/75)

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { وما جعلنا لبشرٍ من قبلكَ الخُلدَ } أي : البقاء الدائم؛ لكونه مخالفًا للحكمة التكوينية والتشريعية ، { أَفإِن مِّتَّ } بمقتضى حكمتنا { فهُم الخالدون } بعدك؟ نزلت حين قالوا : نتربص به رب المنون ، فنفى عنه الشماتة بموته ، فإن الشماتة بالموت مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ، أي : قضى الله ألا يخلد في الدنيا بشرًا ، فإن مِّتَّ - يا محمد - أيبقى هؤلاء الكفرة؟ كلا؛ { كلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموت } أي : ذائقة مرارة مفارقتها جسدها ، فتستوي أنت وهم فيها ، فلا تتصور الشماتة بأمر عام .
{ ونبلُوكم } ، الخطاب : إما للناس كافة بطريق التلوين ، أو للكفرة بطريق الالتفات ، وسمي ابتلاء ، وإن كان عالمًا بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم؛ لأنه في صورة الاختبار ، أي : نختبركم { بالشر والخير } ، أي : بالفقر والغنى ، أو بالضر والنفع ، أو بالعطاء والمنع ، أو بالذل والعز ، أو بالبلاء والعافية ، { فتنةً } ؛ اختبارًا ، هل تصبرون وتشكرون ، أو تجزعون وتكفرون . و { فتنة } : مصدر مؤكد { لنبلوكم } ، من غير لفظه . { وإِلينا تُرجعون } لا إلى غيرنا ، فنجازيكم على حسب ما يُؤخذ منكم؛ من الصبر والشكر ، أو الجزع والكفران . وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الدنيا : الابتلاء والتعرض للثواب والعقاب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا بد لهذا الوجود بما فيه أن تنهد دعائمه ، وتُسلَب كرائمه ، ولا بد من الانتقال من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار التعب إلى دار الهناء ، ومن دار العمل إلى دار الجزاء . فالعاقل من أعرض بكليته عن هذه الدار ، وصرف وجهته إلى دار القرار ، فاشتغل بالتزود للرحيل ، وبالتأهب للمسير ، فلا مطمع للخلود في هذه الدار ، وقد رحل منها الأنبياء والصالحون والأبرار ، وتأمل قول الشاعر :
صبرًا في مجال الموت صبرًا ... فما نيل الخلود بمستطاع
وقوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } ، اعلم أن تخالف الآثار وتنقلات الأطوار على العبد من أفضل المنن عليه ، إن صَحِبَتْه اليقظة ، فيرجع إلى الله تعالى في كل حال تنزل به ، إن أصابته ضراء رجع إلى الله بالصبر والرضا ، وإن أصابته سراء رجع إليه بالحمد والشكر ، فيكون دائمًا في السير والترقي ، وهذا معنى قوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإِلينا تُرجعون } أي : بهما . فالرجوع إلى الله في السراء والضراء من أركان الطريق ، والرجوع إلى الله في الضراء بالصبر والرضا ، وفي السراء بالحمد والشكر ، ورؤية ذلك من الله بلا واسطة . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " من ابتلي فَصَبَرَ ، وأُعطِي فَشَكَرَ ، وظُلِم فغفر أو ظلَم فاسْتَغْفَرْ " ، ثم سكت - عليه الصلاة والسلام - فقالوا : ما له يا رسول الله؟ قال : { أولئك لَهُمُ الأمْنُ وهم مُهْتَدُونَ }
(4/76)

وقال صلى الله عليه وسلم : " عجبًا لأمرِ الْمُؤْمِن ، إِنَّ أمرهُ كُلَّهُ خيرٌ ، ولَيْسَ ذلِكَ لأحَد إلاَّ للمُؤْمنِ ، إن أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَر ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وإنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فكَانَ خَيرًا لَهُ " .
والرجوع إلى الله في الضراء أصعب ، والسير به أقوى؛ لِمَا فيه من التصفية والتطهير من أوصاف البشرية ، ولذلك قدَّمه الحق تعالى . وفي الحديث : " إذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا ابْتَلاَهُ ، فإن صبر اجتباه ، وإن رضي اصطفاه " وفي الخبر عن الله تعالى : " الفقر سجني ، والمرض قيدي ، أحبس بذلك من أحببتُ من عبادي " وبه يحصل على عمل القلوب؛ الذي هو الصبر والرضا والزهد والتوكل ، وغير ذلك من المقامات ، وذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح ، ومن أعمال القلوب يُفضي إلى أعمال الأرواح والأسرار ، كفكرة الشهود والاستبصار . وفكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة ، بل من أَلْفِ سنة ، كما قال الشاعر :
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ ... قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّهْ
لأن المقصود من الطاعات وأنواع العبادات : هو الوصول إلى مشاهدة الحق ومعرفته ، فالفكرة والنظرة لا جَزاء لها إلا زيادة كشف الذات وأنوار الصفات ، منحنا الله من ذلك ، الحظ الأوفر . آمين .
(4/77)

وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
قلت : { أهذا الذي } : مقول لحال محذوفة ، أي : قائلين : أهذا الذي ، وحذف الحال ، إذا كان قولاً ، مطردٌ . { وهم بذكر الرحمن } : حال ، و { بل تأتيهم } : عطف على { لا يكُفُّون } أي : لا يكفونها ، بل تأتيهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإِذا رآك الذين كفروا } أي : المشركون { إِن يتخذونك } ؛ ما يتخذونك { إِلا هُزُوًا } ؛ مهزوءًا بك؛ على معنى قصر معاملتهم معه - عليه الصلاة والسلام - على اتخاذهم إياه هزوًا ، كأنه قيل : ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا . نزلت في أبي جهل - لعنه الله - ، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك وقال : هذا نبيُّ بني عبد مناف . قال القشيري : ( لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص ، وما رقَّاه الله من المنزلة ، لظلوا له خاضعين ، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته ، وعاينوا فيه جسمه وصورته ) . فاستهزؤوا بما لم يُحيطوا بعلمه ، حَال كونهم يقولون : { أهذا الذي يَذْكُرُ } أي : يعيب { آلهتكم } ، فالذكر يكون بخير وبضده ، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء . وإن كان عدوًا فهو ذم . { وهم بذكر الرحمن } أي : بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية ، { هم كافرون } ؛ لا يصدقون به أصلاً ، فهم أحق بالهزء والسخرية منك؛ لأنك مُحق وهم مُبطلون . والمعنى أنهم يعيبون - عليه الصلاة والسلام - أن يذكر آلهتهم ، التي لا تضر ولا تنفع ، بالسوء ، والحال : أنهم بذكر الرحمن ، المنعم عليهم بأنواع النعم ، التي هي من مقتضيات رحمانيته ، كافرون ، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال ، أو : بما أنزل من القرآن؛ لأنه ذكر الرحمن ، { هم كافرون } ؛ جاحدون ، فهم أحقاء بالعيب والإنكار . وكرر لفظ " هُم " للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر ، فأعيد المبتدأ .
ثم قال تعالى : { خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَل } ، العَجَل والعَجَلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته . والمراد بالإنسان : الجنس ، جُعل لفرط استعجاله ، وقلة صبره ، كأنه خُلق من العَجَلة ، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء : خُلق منه ، تقول لمن يكثر منه الكرم : خُلق من الكرم . ومن عجلته : مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد . رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث ، حين استعجل العذاب بقوله : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا . . . } [ الأنفَال : 32 ] الآية ، كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل ، فإنه مجبول على ذلك ، وطبعُه ، وسجيته .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام ، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم . ورُوي : أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام ، فكانت العجلة من سجيته ، وسرت في أولاده . وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه ، ليتكمل بعد النقص ، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه؛ لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة .
(4/78)

قال القشيري : العَجَلةُ مذمومةٌ ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ . والفرق بينهما : أن المسارعة : البِدارُ إلى الشيء في أول وقته ، والعَجَلة : استقباله قبل وقته ، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان ، والمسارعةُ قضية التوفيق . ه .
وقال الورتجبي : خلقهم من العَجَلة ، وزجرَهم عن التعجيل؛ إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق ، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه . وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة . ه . قلت : ما زالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين ، وبها عُرفوا ، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين ، وبها وصفوا .
وقيل : العَجَل الطين ، بلغة حِمْير ، ولا مناسبة له هنا .
قال تعالى ، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين : { سأُوريكم آياتي } : نَقَماتي ، كعذاب النار وغيره ، { فلا تستعجلون } بالإتيان بها ، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم؛ ليقهروها عن مرادها من الاستعجال .
{ ويقولون متى هذا الوعد } : إتيان العذاب ، أو القيامة ، { إِن كنتم صادقين } في وعدكم بأنه يأتينا ، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء ، والإنكار ، لا طلبًا لتعيين وقته ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة . قال تعالى : { لو يعلمُ الذين كفروا } ، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه ، وفظاعة ما فيه من العذاب ، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه . وقوله تعالى : { حين لا يَكُفُّون عن وجوههم النارَ ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون } : مفعول { يعلم } ، وهو عبارة عن الوقت الموعود ، الذي كانوا يستعجلونه . وقوله : { لو يعلمُ الذين كفروا } أي : حين يرون ويعلمون حقيقة الحال ، وهو معاينة العذاب . وجواب " لو " : محذوف ، أي : لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم : متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم ، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم ، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم .
{ بل تأتيهم بغتة } أي : بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة ، { فتَبهتُهُم } : فتُحيِّرهم أو تغلبهم ، { فلا يستطيعون ردَّها } ؛ فلا يقدرون على دفعها عنهم ، أي : النار أو الساعة ، { ولا هم يُنظرون } : يُمهلون؛ ليستريحوا طرفة عين .
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم ، فقال : { ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاقَ } : نزل أو أحاط أو حلّ { بالذين سخروا منهم } أي : من أولئك الرّسل - عليهم السلام - جزاء { ما كانوا به يستهزئون } ، وهو العذاب الدائم . نسأل الله العافية .
الإشارة : كل من خرق عوائد نفسه ، وخرج عن عوائد الناس ، أو أمر بالخروج عن العوائد ، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا ، سنة الله التي قد خلت من قبل ، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي ، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية؛ من علم لدني ، أو هداية خلق على يده ، استعجلوه بإظهار الكرامة ، كما هو شأن الإنسان ، خُلق من عَجَل ، فيقول : سأوريكم آياتي ، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لا بد أن تظهر أنواره وأسراره ، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص ، حين ترهقهم الحسرة ، وتُحيط بهم الندامة ، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاؤوا ، وجوههم كالشموس الضاحية ، لبادروا إلى الانقياد لهم ، وتقبيل التراب تحت أقدامهم ، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون .
(4/79)

ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد : ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق ، فأُوذوا ، وضُربوا ، وأُخرجوا من بلادهم ، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ، إما في الدنيا أو في الآخرة .
(4/80)

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قلْ } لهم يا محمد : { مَن يكلؤكُم } : يحفظكم { بالليل والنهار من } بأس { الرحمنِ } الذي تستحقونه ، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا . قال الواسطي : من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء : من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن ، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟ وتقديم الليل؛ لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا . وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة . { بل هم عن ذِكْرِ ربهم معرضون } أي : بل هم معرضون عن ذكره ، ولا يُخطِرونه ببالهم ، فضلاً أن يخافوا بأسه ، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ ، وصلحوا للسؤال عنه .
والمعنى : أنه أمر رسوله - عليه الصلاة والسلام - بسؤالهم عن الكالئ ، ثم أضرب عنه ، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك ، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم . هكذا للزمخشري ومن تبعه . وقال ابن جزي : والمعنى : أنه تهديد وإقامة حجة عليهم؛ لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى - يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم - ثم قال : وجاء قوله : { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } ، بمعنى أنهم ، إذا سُئلوا ذلك السؤال ، لم يجيبوا عنه ، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله . ه . أي : يعرضون عن أن يقولوا : كالأنا الله عتوًا وعنادًا . وهو معنى قوله : { بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون } ، كأنه قال : لو سُئلوا ، لم يجدوا جوابًا ، إلا أن يقولوا : هو الله ، لكنهم يعرضون عن ذكره؛ مكابرة . قلت : وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه ، وأقرب .
ثم قال تعالى : { أم لهم آلهةٌ تمنعُهم من دوننا } ، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى ، أو إعراضهم عن ذكره ، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم . والمعنى : ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا ، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع ، لا إلى نفس الصفة ، بأن يقال : أم تمنعهم آلهتهم . . . الخ . من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود ، فضلاً عن رتبة المنع ، ما لا يخفى . ثم قال تعالى : { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصْحَبُون } أي : يُجَارون . والصاحب : المُجِير الوافي ، يعني : أن الأصنام لا تُجير نفسها ، ولا نُجيرهم نحن ، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا ، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا ، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟
{ بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العُمُرُ } ، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم ، أي : ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا ، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً ، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم ، وظنوا أنهم دائمون على ذلك ، وهو أمل كاذب .
(4/81)

{ أفلا يَرَوْن أنَّا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها } أي : ألا ينظرون فيرون أنَّا نأتي أرض الكفرة فننقصها من أطرافها؛ بإدخالها في أيدي المسلمين ، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا . وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي المسلمين ، ويضيفها إلى دار الإسلام . وفي التعبير بنأتي : إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم ، ناقصة من أطراف أرضهم . { أفهم الغالبون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي : أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم؟ أي : ليس كذلك ، بل يغلبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام ، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده ، والله غالب على أمره .
الإشارة : قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن ، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان؟ فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها ، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، لا يعتمدون على عمل ولا حال ، ولا على علم ولا مقال ، وفي الحكم : " إلهي ، حكمك النافذ ، ومشيئتك القاهرة ، لم يتركا لذي حال حالاً ، ولا لذي مقال مقالاً " . وقال أيضًا : " إلهي كم من طاعة بنيتُها وحالة شيدتُها ، هدم اعتمادي عليها عدلك ، بل أقالني منها فضلك " . وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى ، بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون .
قال الورتجبي : قوله تعالى : { قل من يكلؤكم . . . } الآية ، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق ، وتنزيهه عن العَجَلة بمؤاخذتهم ، كأنه يقول : أنا بذاتي تعاليت ، أدفع بلطفي القديم عنكم قهري القديم ، ولولا فضلي السابق وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم ، من يدفعه بالعلة الحدثانية؟ وهذا من كمال لطفي عليكم وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفا ، وذلك قوله : { بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون } . ه . بلفظه مع تصحيف في النسخة .
وقوله تعالى : { بل متعنا هؤلاء . . . } الآية ، تمتيع العبد بطول الحياة ، إن كان ذلك في طاعة الله ، وازدياد في معرفته ، فهو من النعم العظيمة . وفي الحديث : " خَيرُكُم مَنْ طَال عُمُرهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ " لكن عند الصوفية : أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم ، فقد كان بعض الشيوخ يقول : لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد . قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : معنى كلامه : أنه لا ينبغي للفقير أن يعدكم له في طريق القوم ، ليقول : أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم . ه . بالمعنى . ولعل علة النهي؛ لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح ، فقد قالوا : هي لمن صدق لا لمن سبق .
وقوله تعالى : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } قال القشيري : فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين ، وتطاول العمر ، فإن آخر الأمر كما قيل :
آخِرُ الأمر ما تَرَى ... القبرُ واللَّحدُ والثرى
وكما قيل :
طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني ... فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ
أراني كلَّ يوم في انتقاصٍ ... ولا يبقى مع النقصان شيُّ
وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة . والله تعالى أعلم .
(4/82)

قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ، ونهاية سوء حالهم ، عند إتيانه ، ونعى عليهم جهلهم بذلك ، وإعراضهم عند ذكر ربهم ، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار ، أمَرَ نبيه - عليه الصلاة والسلام - بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به ، مما يستعجلونه ، إنما هو بالوحي ، لا من عنده .
قلت : مَن قرأ : { يَسمع } بفتح الياء ، فالصُّم : فاعل ، والدعاء : مفعول ، ومن قرأ بضم التاء ، رباعي؛ فالصم : مفعول أول ، والدعاء : مفعول ثان . ومن قرأ : { مثقال } ؛ بضم اللام ، فكان تامة ، وبالنصب : خبر كان ، أي : وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد { إِنما أُنذِرُكُم } وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه ، أو بالساعة الموعودة ، { بالوحي } القرآني الصادق ، الناطق بإتيانه ، وفظاعة شأنه ، أي : إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به ، لا بإتيانه؛ فإنه مخالف للحكمة الإلهية؛ إذ الإيمان برهاني لا عياني ، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية ، دون من سبق له الشقاء ، ولذلك قال تعالى : { ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ } أي : الإنذار ، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ { إِذا ما يُنذَرُون } ؛ يُخوَّفون ، واللام في للعهد ، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل : ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون ، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا ، وتسجيلاً عليهم بذلك . وفي التعبير بالدعاء ، دون الكلام في الإنذار ، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار ، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه ، فإذا لم يسمعوا ، مع هذه الحالة ، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها .
{ ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ } أي : دفعة يسيرة { من عذاب ربك } أي : كائنة منه ، { ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين } ، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب ، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به ، لانهماكهم في الغفلة ، أي : والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به ، لذلوا ، ودَعوا بالويل على أنفسهم ، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا . وقد بُولغ في الكلام ، حيث عبَّر بالمس والنفح؛ لأن النفح يدل على القلة ، فأصل النفح : هبوب رائحة الشيء ، يُقال : نفحه بعطية ، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا ، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها .
ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه ، فقال : { ونضع الموازينَ القِسْطَ } أي : نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال ، وهو جمع ميزان ، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته . وعن الحسن : " هو ميزان له كفتان ولسان " ، وإنما جمع الموازين؛ لتعظيم شأنها ، والوزن لصحائف الأعمال في قول ، وقيل : وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل ، والجزاء على حسب الأعمال .
(4/83)

وإفراد القسط؛ لأنه مصدر وصف به؛ للمبالغة ، كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوات القسط . وقوله : { ليوم القيامة } أي : لأهل يوم القيامة ، أي : لأجلهم ، أو في يوم القيامة ، { فلا تُظلم نفسٌ شيئًا } من الظلم ، ولا تنقص حقًا من حقوقها ، بل يُؤتى كل ذي حق حقه ، إن خيرًا فخيرٌ ، وإن شرًّا فشر .
{ وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ } أي : وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل ، { أتينا بها } : أحضرناها وجازينا عليها ، وأنث ضمير المثقال؛ لإضافته إلى حبة ، { وكفى بنا حاسبين } ، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا ، أو عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه ، قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - .
الإشارة : كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي ، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي ، موافقُا للتنزيلي ، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية ، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم ، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم ، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون ، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال ، ولا ينفع الندم وقد جف القلم ، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال ، فتثقل أعمال المخلصين ، وتخف أعمال المخلَّطين ، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة ، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه ، لفنائه في شهوده ، وانطوائه في وجوده ، فلا ينصب له ميزان؛ إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا ، وإنما الفعل كله للواحد القهار . ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه . آمين .
ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } ، [ الأنبياء : 7 ] إلى قوله : { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } [ الأنبيَاء : 9 ] .
(4/84)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد آتينا موسى وهارون الفرقانَ وضياءً وذِكْرًا للمتقين } ، هذه الأوصاف كلها للتوراة ، فهي فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ، ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذِكْرًا ، أي : شرفًا ، أو وعظًا وتذكيرًا . وتوكيده بالقسم؛ لإظهار كمال الاعتناء به ، أي : والله لقد آتيناهما وحيًا ساطعًا وكتابًا جامعًا بين كونه فارقًا بين الحق والباطل ، وضياء يُستضاء به في ظلمات الجهل والغواية ، وذكرًا ينتفع به الناس ، أو شرفًا لمن عمل به ، وتخصيص المتقين بالذكر؛ لأنهم المستضيئُون بأنواره ، المغتنمون لمغانم آثاره ، أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام ، ودخلت الواو في الصفات ، كقوله تعالى { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً } [ آل عِمرَان : 39 ] ، وتقول : مررت بزيد الكريم والعالم والصالح .
ثم وصف المتقين أو مدحهم بقوله : { الذين يخشَون ربهم } ، حال كونهم { بالغيب } أي : يخافون عذابه تعالى ، وهو غائب عنهم غيرُ مشاهَدٍ لهم ، ففيه تعريض بالكفرة ، حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يُشاهدوا ما أنذروه . أو يخافون الله في الخلاء كما يخافونه بين الناس ، أو يخافونه بمجرد الإيمان به غير مشاهدين له ، { وهُمْ من الساعة مشفقون } أي : خائفون معتنون بالتأهي لها . وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر ، بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق؛ للإيذان بكونها أعظم المخلوقات ، وللتنصيص على الاتصاف بضد ما اتصف به الكفرة الغافلون عنها ، وإيثار الجملة الاسمية؛ للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه لهم .
{ وهذا } أي : القرآن الكريم ، أشير إليه بهذا؛ إيذانًا بغاية وضوح أمره ، { ذِكْرٌ } يتذكر به من تذكر ، وصفه ببعض أوصاف التوراة؛ لموافقته له في الإنزال ، ولما مرّ في صدر السورة من قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ } [ الأنبيَاء : 2 ] الخ ، { مباركٌ } ؛ كثير الخير ، غزير النفع ، يتبرك به على الدوام . قال القشيري : وصْفُه بالبركة هو إخبارٌ عن ثباته ، من قولهم : بَرَكَ البعيرُ ، وبَرَكَ الطائرُ على الماءِ ، أي : داومَ . وهذا الكتاب دائم ، لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خَلْفِه ، وهو دال على كلامه القديم ، فلا انتهاء له ، كما لا ابتداء له ولا انتهاء لكلامه . ه . { أنزلناه } على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو صفة ثانية للكتاب { أفأنتم له منكرون } ؛ استفهام توبيخي ، أي : جاحدون أنه منزل من عند الله ، والمعنى : أبَعْدَ أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة ، في الإنزال والإيحاء ، أنتم منكرون؛ لكونه منزلاً من عندنا؛ فإن ذلك ، بعد ملاحظة التوراة ، مما لا مساغ له أصلاً . وبالله التوفيق .
الإشارة : كل ما وصف به التوراة وصف به كتابنا العزيز ، قال تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } [ الفرقان : 1 ] ٍ ، وقال : { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [ النِّساء : 174 ] ، وقال هنا : { وهذا ذكر مبارك } ، فزاده البركة؛ لعموم خيره ودوام نفعه ، وخصوصًا للمتقين الذين يخشون ربهم بالغيب : قال القشيري : والخشية بالغيب : إطراقُ السريرة في أول الحضور ، باستشعار الوَجَلِ من جريان سوء الأدب ، والحذَرُ من أنْ يبدوَ من الغيبِ بَغَتَات التقدير ، مما يوجِبُ حجبة العبد . ه .
(4/85)

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
قلت : { إذ قال } : ظرف لآتينا ، أو لرُشْدَه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد آتينا إِبراهيم رُشدَه } أي : الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل ، وهو الاهتداء الكامل ، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي ، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي ، { من قبلُ } أي : من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة ، وتقديم ذكرهما ، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام . وقيل : من قبل إنزال القرآن ، أو من قبل استنبائه ، أو من قبل بلوغه ، { وكُنا به عَالمين } أي : بأنه أهل لما آتيناه ، أو عالمين برُشده ، وما خصصناه به من الهداية الخاصة . { إذ قال لأبيه وقومه } أي : آتيناه ذلك حين قال لأبيه ، أو اذكر وقت قوله لهم : { ما هذه التماثيلُ } أي : الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل بهم؛ تحقيرًا لها ، مع علمه بتعظيمهم لها؛ توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع ، { التي أنتم لها عاكفون } أي : لأجل عبادتها مقيمون ، فلما عجزوا عن الدليل { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فقلدناهم ، فأبطله عليه السلام ، على طريقة التوكيد بالقسم ، فقال : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم } الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة ، { في ضلال مبين } : ظاهر بيِّن ، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، أي : والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر؛ لعدم استناده إلى دليل ، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة ، لا فيما اتضح بطلانه ، سيما في أمر التوحيد .
{ قالوا أجئتنا بالحق } أي : بالجد ، { أم أنت من اللاعبين } ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح . والمعنى : أجادٌ أنتَ ، أم لاعب فيما تقول؟ قالوا ذلك؛ استعظامًا منهم لإنكاره ، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال ، وتعجيبًا من تضليله إياهم .
ثم أضرب عنهم؛ مخبرًا بأنه جاد فيما قال ، غير لاعب ، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال : { بل ربُّكم ربُّ السماواتِ والأرض الذي فطرهنَّ } ، لا التماثيل التي صورتم . وقيل : هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم؛ من اعتقاد كونها أربابًا لهم ، كما يُفصح عنه قولهم : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [ الشُّعَرَاء : 71 ] ، كأنه قال : ليس الأمر كذلك ، بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن ، فالضمير للسماوات والأرض ، وصفَه تعالى بإيجادهن ، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن؛ تحقيقًا للحق ، وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية ، أي : أنشأهن بما فيهن من المخلوقات ، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه ، من غير مثالٍ يُحتَذِيه ، ولا قانون ينتحيه . وقيل : الضمير للتماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم ، وأظهر في إلزام الحجة عليهم؛ لِمَا فيه من التصريح المُغني عن التأمل في كون ما يعبدونه من المخلوقات ، والأول أقرب .
(4/86)

ثم قال عليه السلام : { وأنا على ذلكم } الذي ذكرتُ : من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض ، دون ما عداه ، كائنًا ما كان ، { من الشاهدين } أي : العالمين به على سبيل الحقيقة ، المبرهنين عليه ، فإن الشاهد على الشيء : مَنْ تحققه وبرهن عليه ، كأنه قال : وأنا أعلم ذلك ، وأتحققه ، وأُبرهن عليه ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : زخارف الدنيا وبهجتها ، من تشييد بناء ، وتزويق سقف وحيطان ، وإنشاء غروس وبساتين ، وجمع أموال ، وتربية جاه ، كلها تماثيل لا حقيقة لها ، فانية لا دوام لها . فمن عكف عليها ، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها ، كان عابدًا لها ، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر ، الذي تحرر منها ، أن يُنكر عليهم ، ويقول لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، فإن قالوا : وجدنا أباءنا يفعلون هذا ، وعلماءنا مثلنا ، فليقل لهم : لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين ، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح . فإن قالوا : أجادٌّ أنت أم لا؟ فليقل : بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة ، وهو رب السماوات والأرض ، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها ، وأنا على ذلكم من الشاهدين .
(4/87)

وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
قلت : { مَن فَعَلَ } : استفهام ، وقيل : موصولة ، و { إنه } : خبرها ، أي : الذي فعل هذا معدود من الظلمة ، و { يذْكُرهم } : إما مفعول ثان لسمع؛ لتعلقه بالذات ، على قول ، أو صفة لفتى . و { يُقال } : صفة أخرى لفتى . و { إبراهيم } : نائب فاعل يُقال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن خليله عليه السلام : { وتالله لأكيدنّ أصنامكم } أي : لأمكرنّ بها ، وأجتهد في كسرها ، وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز ، وتوقفه على الحيل والسياسة ، وذلك الكيد { بعد أن تُولُّوا مُدبرين } ؛ بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم . قال مجاهد : إنما قاله سرًا ، ولم يسمعه إلا رجلٌ فأفشاه عليه ، وقال : سمعت فتى يذكرهم . وقال السدي : كان لهم في كل سنة مجمعٌ وعيد ، فإذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم فسجدوا لها ، وقال أبو إبراهيم : يا إبراهيم ، لو خرجتَ معنا إلى عيدنا لأعجبك ، فخرج إلى بعض الطريق ، وقال : إني سقيم ، أَشتكي رجلي . فلما مضوا نادى في آخرهم - وقد بقي ضعفاء الناس - : { تالله لأكيدنَّ أصنامكم بعد أن تُولُّوا مدبرين } فسمعوه ، ثم دخل بيت الأصنام ، فوجد طعاماً كانوا يضعونه عندها للبركة ، فإذا رجعوا أكلوه ، فقال : { ألا تأكلون } ؟ استهزاءً بها ، فلم يجبه أحد ، فقال : ما لكم لا تنطقون { فَرَاغَ } ؛ مال { عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } [ الصَّافات : 93 ] .
{ فجعلهم جُذاذًا } أي : قطعًا ، جمع جذيذ . وفيه لغتان : الكسر ، كخفيف وخِفاف ، والضم؛ كحطيم وحُطام . رُوي أنها كانت سبعين صنمًا مصطفة . وثَمَّ صنم عظيم مستقبل الباب ، وكان من ذهب ، وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل ، فكسر الكل بفأس كان بيده ، ولم يُبق إلا الكبير ، علّق الفأس في عنقه ، وذلك قوله تعالى : { إِلا كبيرًا لهم } أي : للأصنام { لعلهم إِليه } أي : إلى إبراهيم عليه السلام { يرجعون } ؛ فيحاجهم بما سيأتي فيغلبهم ، أو إلى دينه؛ إذا قامت الحجة عليهم . وقيل : إلى الكبير يسألونه عن الكاسر؛ لأن من شأن الكبير أن يرجع إليه في الملمات . وقيل : إلى الله تعالى وتوحيده ، عند تحققهم بعجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم .
فلما رجعوا من عيدهم ، ورأوا ما صُنِع بآلهتهم ، { قالوا مَن فعلَ هذا بآلهتنا } ، على طريق الإنكار والتوبيخ ، { إِنه لَمِنَ الظالمين } أي : لشديد الظلم؛ لجرأته على الآلهة ، التي هي عندهم في غاية التوقير والتعظيم . أو لَمِنَ الظالمين حيث عَرَّض نفسه للهلكة ، { قالوا } أي : بعضٌ منهم ، وهو من سمع مقالته : { سمعنا فتىً يذكرهم } أي : يعيبهم ، فلعله فعل ذلك بها ، { يُقال له إِبراهيم } أي : يقال له هذا الاسم . { قالوا } أي : السائلون : { فأْتُوا به على أعين الناس } أي : بمرأى منهم ، بحيث يكون نصبَ أعينهم ، لا يكاد يخفى على أحد ، { لعلهم يشهدون } عليه بما سُمع منه ، أو بما فعله ، كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة ، أو يَحضرون عقوبتنا له .
(4/88)

فلما أحضروه { قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إِبراهيم } ؟ واختصر إحضاره؛ للتنبيه على أن إتيانهم به ، ومسارعتهم إلى ذلك ، أمر محقق غني عن البيان { قال } إبراهيم عليه السلام : { بل فعله كبيرُهُم هذا } ، غار أن يُعبدوا معه ، مشيرًا إلى الذي لم يكسره . وعن الكسائي : أنه يقف على { بل فعله } أي : فعله من فعله ، ثم ابتدأ : كبيرهم هذا يُخبركم فسلوه . . . الخ ، والأكثر : أنه لا وقف ، والفاعل : كبيرهم . و " هذا " : بدل ، أو وصف ، ونسبَ الفعل إلى كبيرهم ، وقصده تقريره لنفسه وإسناده لها ، على أسلوب تعريضي؛ تبكيتًا لهم ، وإلزامًا للحجة عليهم ، لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح عَلِموا عجز كبيرهم ، وأنه لا يصلح للألوهية ، وهذا كما لو كتبت كتابًا بخط أنيق ، وأنت شهير بحسن الخط ، ومعك صاحب أُميّ ، فقال لك قائل : أأنت كتبت هذا؟ فتقول : بل كتبه هذا ، وهو يعلم أنه أُميّ لا يُحسن الكتابة ، فهو تقرير لإثبات الكتابة لك على أبلغ وجه .
قال الكواشي : ومن الجائز أن يكون أَذِنَ الله تعالى له في ذلك كما أَذِنَ ليوسف حين نادى على إخوته : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } [ يُوسُف : 70 ] ، ولم يكونوا سارقين؛ لِمَا في ذلك من المصلحة؛ لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح ، وسألوا عَلِمُوا أن كبيرهم لم يفعل شيئًا ، وأنه عاجز عن النطق ، فضلاً عن الفعل ، فلا يجوز أن يُعبد ، ولا يستحق العبادة إلا القادر الفعال . ه .
وقيل : اسند الفعل إلى كبيرهم؛ لأنه الحامل له على كسرها ، حيث رآه يُعظَّم أكثر منها ، ويُعبد من دون الله ، فاشتد غضبه حتى كسرها ، وهو بعيد؛ إذ لو كان كذلك لكسره أولاً ، فتحصل أنه عليه السلام إنما قصد التعريض بعبادتهم ، لا الإخبار المحض ، حتى يكون كذبًا . فإن قلت : قد ورد في الحديث أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات؟ فالجواب : أن معنى ذلك : أنه قال قولاً ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر . قاله ابن جزي .
ثم قال لهم : { فاسْألوهم } عن حالهم ، { إِن كانوا ينطقون } فتجيبكم بمن كسرهم ، وأنتم تعلمون عجزهم عنه ، { فَرَجعوا إِلى أنفسهم } أي : رجعوا إلى عقولهم ، وتفكروا بقلوبهم ، وتذكروا أنَّ ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإخبار بمن كسره ، فكيف يستحق أن يكون معبودًا؟ { فقالوا } أي : قال بعضهم لبعض : { إِنكم أنتم الظالمون } على الحقيقة ، حيث عبدتم من لا ينطق ولا يضر ولا ينفع؛ لأنَّ من لا يدفع عن رأسه الفأس ، فكيف يدفع عن عابده البأس! فأنتم الظالمون بعبادتها؛ لا من ظلمتموه بقولكم : { إنه لمن الظالمين } . أو : أنتم الظالمون لا من كسرها ، { ثم نُكِسُوا على رؤوسهم } ، وردّوا إلى أسفل سافلين ، أُجري الحقُّ على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة ، أي : انقلبوا إلى المجادلة ، بعدما استقاموا بالمراجعة ، شَبَّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه ، قائلين : { لقد علمتَ } يا إبراهيم { ما هؤلاء ينطقون } ، فكيف تأمرنا بسؤالها؟
{ قال } ؛ مبكتًا لهم وتوبيخًا : { أفتعبدون من دون الله } أي : متجاوزين عبادته تعالى إلى { ما لا ينفعكم شيئًا } من النفع ، { ولا يضُركُم } إن لم تعبدوه ، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته ، { أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله } ، أُفّ : اسم صوت تدل على التضجر ، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل ، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق ، فأفَّف بهم وبأصنامهم ، أي : لكم ولأصنامكم هذا التأفف ، { أفلا تعقلون } أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا .
(4/89)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه ، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية ، حتى تنقلب حقوقًا ربانية ، فحينئذ يريه الحق ملكوتَ السماواتِ والأرض ، ويكون من الموقنين . ، وأمُّ الشهوات : حب الدنيا ، ورأسها : حب الرئاسة والجاه ، وأكبر الأصنام : وجودك الحسي ، فلا حجاب أعظم منه ، ولذلك قيل :
وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ ... فإن غبتَ عنه ، وكسرته ، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية ، وشهدت أسرار المعاني القدسية ، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات ، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضي الله عنه بقوله :
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتتَامُهُ ... وَلاَحَ صَبَاحُ كُنْتَ أنْتَ ظَلاَمُهُ
فَأنْتَ حِجَابُ القَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيبهِ ... وَلَوْلاَكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
فَإنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ ... عَلَى مَوْكبِ الكَشْفِ المصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاء حَدِيثٌ لا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إليْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إذَا سَمِعَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُهَا ... وَزَالَ عَنِ القَلْبِ المُعَنَّى غَرامُهُ
فالغيبة عن وجود العبد فناء ، والرجوع إليه لوظائف العبودية بقاء ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : { إلا كبيرًا لهم لعلهم إليه يَرجعون } أي : إلا كبير الأصنام ، وهو وجودك الوهمي ، فلا ينبغي الغيبة عنه بالكلية حتى يترك وظائف العبودية والقيام بحقوق البشرية ، فإنَّ هذا اصطلام ، بل ينبغي ملاحظته ، لعله يقع الرجوع إليه في مقام البقاء ، والله تعالى أعلم .
(4/90)

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قالوا حرِّقوه } أي : قال بعضهم لبعض ، لَمَّا عجزوا عن المحاججة ، وضاقت عليهم الحيل ، وعييت بهم العلل ، وهذا دَيْدنُ المبطل المحجوج ، إذا قُرعَت شبهه بالحجة القاطعة وافتضح ، لم يبق له حينئذ إلا المناصبة والمعاداة ، فناصبوا إبراهيم عليه السلام ، وقالوا حرِّقوه بالنار؛ لأنه أشد العقوبات ، { وانصُروا آلهتكم } بالانتقام لها { إن كنتم فاعلين } للنصر ، أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرًا مؤزرًا ، فاختاروا له أهول المعاقبات ، وهو الإحراق ، وإلاَّ فقد فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بالإحراق نمرود ، أو رجل من أكراد فارس ، اسمه " هيزن " ، وقيل : " هدير " ، خسفت به الأرض ، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة .
رُوِيَ أنهم ، لما أجمعوا على حرقه عليه السلام ، بنوا له حظيرة بكُوثَى - قرية من قرى الأنباط بالعراق - فجمعوا صلاب الحطب من أصناف الخشب ، مدة أربعين يومًا ، وقيل : شهرًا ، حتى إن المرأة تنذر : لَئِنْ أصابت حاجتها لتَحِطَبنَّ في نار إبراهيم . ثم أوقدوا نارًا عظيمة ، لا يكاد يحومُ حولها أحد ، حتى إن كانت الطير لتمرُ بها ، وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ، ولم يقدر أحد أن يقربها ، فلم يعلموا كيف يُلقونه عليه السلام فيها ، فأتى إبليس وعلمهم علمَ المنجنيق ، فعملوه . وقيل : صنعه لهم رجل من الأكراد ، فخسف الله تعالى به في الأرض مثل الآخر ، ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام ، فوضعوه فيه مغلولاً مقيدًا مجردًا ، فصاحت السماءُ والأرضُ ومن فيها من الملائكة : يا ربنا ، إبراهيم ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيرُه ، يُحرق فيك ، فَأذَنْ لنا في نصرته ، فقال لهم : إن استغاث بواحد منكم فأغيثوه ، فرموا به فيها من مكان شاسع ، فقال له جبريل عليه السلام ، وهو في الهواء : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . فقال : حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فرفع همته عن الخلق ، واكتفى بالواحد الحق ، فجعل الله الخطيرةَ روضة . وهذا معنى قوله : { قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إِبراهيم } أي : كوني ذات برد وسلام ، أي : ابردي بردًا غير ضار .
قال ابن عباس : لو لم يقل { وسلامًا } لمات إبراهيم من بردها ، ولم تبق يومئذ نار إلا طفئت ، ظنت أن الخطاب توجه لها ، فما انتفع أحد من أهل الأرض يومئذ بنار ، ولم تبق دابة إلا أتت تطفئ عنه النار ، إلا الوزغ . فلذلك أمر نبيُنا صلى الله عليه وسلم . بقتلها ، وسماها فويسقا . قال السدي : فأخذت الملائكة بضَبْعَي إبراهيم وأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس . قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه . ورُوي أنه عليه السلام مكث فيها سبعة أيام ، وقيل : أربعين ، وقيل : خمسين ، والأول أقرب .
(4/91)

قال إبراهيم عليه السلام : ما كنتُ أيامًا قط أنعم مني من الأيام التي كنتُ فيها . قال ابن بسار : وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يُؤنسه ، قالوا : وبعث الله بقميص من حرير الجنة . قلت : وقد تقدم ذكره في سورة يوسف . وأتاه جبريل فقال : إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبائي . فنظر نمرود من صرحه ، فأشرف عليه ، فرآه جالسًا في روضة مونقة ، ومعه جليسٌ على أحسن ما يكون من الهيئة ، والنار محيطة به ، فنادى : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم ، قال : فاخرج ، فقام يمشي فخرج منها ، فاستقبله نمرود وعظَّمه . وقال : من الرجل الذي رأيتُه معك؟ قال ذلك ملك الظل ، أرسله ربي ليؤنسني ، فقال : إني مُقرب إلى إلهك قربَانًا لِمَا رأيته من قدرته وعزته فيما صنع بك . فقال عليه السلام : لا يقبل الله منك ما دُمتَ على دينك هذا ، حتى تفارقه إلى ديني ، قال : لا استطيع ترك ملكي ، ولكن سأذبح له أربعة آلاف بقرة ، فذبحها ، وكف عن إبراهيم عليه السلام .
قال شعيب الجبائي : أُلقِي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة ، ولَمَّا علت ما أراد من ذبحه بقيت يومين وماتت في الثالث . ه . وهذا كما ترى من أكبر المعجزات ، فإنَّ انقلاب النار هواء طيبًا ، وإن لم يكن بدعًا من قدرة الله ، لكنه من أكبر الخوارق ، واختلف في كيفية برودتها؛ فقيل : إن الله تعالى أزال ما فيها من الحر والإحراق ، وقيل : دفع الله عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع تَرْكِ ذلك فيها ، والله على كل شيء قدير .
قال تعالى : { وأرادوا به كيدًا } ؛ مكرًا عظيمًا في الإضرار ، { فجعلناهم الأخسرين } أي : أخسر من كل خاسر ، حيث جاء سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق ، وهم على الباطل ، وموجبًا لارتفاع درجته واستحقاقهم للهلاك ، فأرسل الله على نمرود وقومه البعوض ، فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ، ودخلت بعوضة في دماغ نمرود فأهلكته بعد المحنة الشديدة ، وبالله التوفيق .
الإشارة : أجرى الله تعالى عادته في المتوجه الصادق ، إذا أراد الوصول إلى حضرته ، أن يبْتَليه قبل أن يُمكنه ، ويمتحنه قبل أن يُصافيه؛ لأنَّ محبته تعالى مقرونة بالبلاء ، والداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور . فإذا رُمِيَ الولي في منجنيق الابتلاء ، وألقي في نار الجلال ، وتعرضت له الأكوان : ألك حاجة؟ فيقول - إن كان مؤيَدًا - : أمَّا إليك فلا ، وأما إلى الله فبلى ، فإذا قيل له : سله ، فيقول : علمه بحالي يغني عن سؤالي . فلا جرم أن الله تعالى يقول لنار الجلال : كوني بردًا وسلامًا على وليي ، فينقلب حرها بردًا وسلامًا ، فلا يرى أيامًا أحلى من تلك الأيام التي ابتُلي فيها .
(4/92)

وهذا أمر مجرب مَذُوق ، وأما إن التفت إلى التعلق بغير الله تعالى ، فإنَّ البلاء يُشدد عليه ، أو يخرج من دائرة الولاية ، والعياذ بالله . فالولي هو الذي يقلب الأعيان بهمته ، وبالنور الذي في قلبه ، حسية كانت أو معنوية ، فيقلب الخوف أمنًا ، والحزن سرورًا ، والقبض بسطًا ، والفاقة غنًى ، وهكذا . . . فحينئذ تنفعل له الأشياء وتطيعه ، وتخرق له العوائد ، حتى لو ألقي في النار الحسية لبردت . قال الورتجبي : كان الخليل منُورًا بنور الله ، وكان فعل النار من فعل الله ، فغلب نور الصفة على نور الفعل ، ولو بقيت النار حتى وصل إليها الخليل لصارت مضمحلة ، فعلم الحق ذلك ، فقال لها : { كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم } حتى تبقى لظهور معجزته وبيان كرامته . ه . ومصداق ما ذكره : قول النار يوم القيامة للمؤمن : جُز فقد أطفأ نورك لهبي ، كما ورد . والله أعلم .
(4/93)

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
قلت : { إلى الأرض } : يتعلق بحال محذوفة ، ينساق إليها الكلام ، أي : ذاهبًا بهما إلى الأرض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ونجيناه } أي : إبراهيم { ولوطًا } ابن أخيه هاران ، ذاهبًا بهما من العراق { إِلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } ، وهي أرض الشام . وبركاته العامة : أنَّ أكثر الأنبياء بُعثوا فيها ، فانتشرت في العالمين شرائعهم ، التي هي مبادئ الخيرات الدينية والدنيوية ، وهي أرض المحشر ، فيها يجمع الناس ، وفيها ينزل عيسى عليه السلام ، وقال أُبي بن كعب : ما من ماء عذب إلاَّ وأصله من تحت صخرة بيت المقدس ، وهي أرض خِصب ، يعيش فيها الفقير والغني .
قال ابن إسحاق : خرج إبراهيم من كُوثى من أرض العراق ، وخرج معه لوط وسارة ، فنزل حَرّان ، ثم خرج منها إلى مصر ، ثم خرج منها إلى الشام ، فنزل السَّبُعَ من أرض فلسطين بزوجه سارة ، بنت عمه هاران الأكبر ، ونزل لوط عليه السلام بالمؤتفكة ، وبينهما مسيرة يوم وليلة ، وكلاهما من الشام .
{ ووهبنا له إسحاق ويعقوبَ نافلةً } أي : وهبنا له إسحاق ولدًا من صلبه ، وزاد يعقوب ، ولد ولده ، نافلة؛ لأنه سأل ولدًا بقوله : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } [ الصَّافات : 100 ] فأُعطيه ، وأُعطى يعقوب نافلة ، زائدًا على ما سأل؛ لأنه أعطى من غير سؤال ، فكأنه تبرعًا . قال ابن جزي : واختار بعضهم - على هذا - الوقف على " إسحاق " لبيان المعنى ، وهذا ضعيف؛ لأنه معطوفٌ على كل قول . ه . وقيل : { نافلة } يرجع لهما معًا ، أي : أعطيناه ولدًا وولد ولد ، عطيةً ، فيكون حالاً منهما معًا ، قيل : هو مصدر ، كالعاقبة من غير لفظ الفعل ، الذي هو { وهبنا } وقيل : اسم ، { وكُلاًّ } أي : كل واحد من هؤلاء الأربعة ، { جعلنا صالحين } ؛ بأن وفقناهم لصلاح الظاهر والباطن ، حتى استحقوا الخصوصية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الهجرة سُنَّة من سُنن الأنبياء والأولياء ، فكل من لم يجد في بلده من يعينُه على دينه ، يجب عليه الانتقال إلى بلدٍ يجد فيها ذلك . وكذلك المريد إذا لم يجد قلبه في محل؛ لكثرة عوائده وشواغله بحيث يشوش عليه قلبه فلينتقل إلى بلد تقل فيها العلائق والشواغل ، إن وجد فيها من يحرك معهم فنَّه ، كان بادية أو حاضرة . والغالب أن الحاضرة تكثر فيها العوائد والحظوظ والشهوات ، فلا يدخلها المريد حتى يتقوى ويملك نفسه ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولا ينقص من نصيبه شيء ، وقد تقدم هذا مرارًا . وبالله التوفيق .
(4/94)

وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وجعلناهم } أي : إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، { أئمةً } يُقتدى بهم في أمور الدين؛ إجابة لدعوته بقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } [ البَقَرَة : 124 ] أي : فاجعل أئمة ، { يَهدُون } الخلق إلى الحق ، { بأمرِنَا } لهم بذلك ، وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين ، أو يهدون الخلق بإرادتنا ومشيئتنا . { وأوحينا إِليهم فعلَ الخيرات } وهي جميع الأعمال الصالحة ، أي : أمرناهم أن يفعلوا جميع الخيرات ، ليتم كمالهم بانضمام العمل الصالح إلى العلم ، وأصله : أن يفعلوا الخيرات ، ثم فعلَ الخيرات ، { وإِقامَ الصلاةِ وإِيتاءَ الزكاة } ، وهو من عطف الخاص على العام؛ دلالة على فضله وشرفه ، وأصله : وإقامة الصلاة ، فحذفت التاء المعوضة من إحدى الألفين؛ لقيام المضاف إليه مقامها . { وكانوا لنا عابدين } : قانتين مُطيعين ، لا يخطر ببالهم غير عبادتنا ومشاهدتنا . وأنتم يا معشر العرب والعجم من ذريتهم ، فاتبعوهم في ذلك . وبالله التوفيق .
الإشارة : إنما يعظم جاه العبد عند الله بثلاثة أمور : انحياشه بقلبه إلى الله ، ومسارعته إلى ما فيه رضا الله ، وإرشاد العباد إلى الله ، بدعائهم إلى الله بالحال والمقال ، فبقدر ما يقع من هداية الخلق على يديه يعلو مقامه عند الله ، إن حصلت المعرفة بالله ، وبهذا تعرف شرف مرتبة مشيخة الصوفية ، الدالين على الله ، الداعين إلى حضرة الله ، إن تكلموا وقع كلامهم في قلوب الخلق ، فيرجعون إلى الله من ساعتهم ، مجالسهم كلها وعظ وتذكير ، حالهم يُنهض إلى الله ، ومقالهم يدل على الله ، ففي ساعة واحدة يتوب على يديهم من الخلق ما لا يتوب على يد العالم في سنين؛ وذلك لإنهاض الحال والمقال ، فلا جَرَمَ أنهم أعز الخلق إلى الله ، وأعظمهم قدرًا عند الله .
قال السهروردي في العوارف : ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس محمد بيده لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد الله إلى الله يُحَبِّبُونَ الله إلى عباده ، ويُحبِّبُون عباد الله إلى الله ، ويمشون في الأرض بالنصيحة " وهذا الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رتبة المشيخة والدعوة؛ فإن الشيخ يُحبب الله إلى عباده حقيقة ، ويحبب عباد الله إلى الله .
فأما كونه يُحبب عباد الله إلى الله؛ لأن الشيخ يسلك بالمريد طريق الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأخلاقه . ومن صح اقتداؤه واتباعه أحبه الله ، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عِمرَان : 31 ] ، ووجه كونه يُحبب الله إلى عباده؛ لأنه يسلك بالمريد طريق التزكية ، وإذا تزكت النفس انجلت مرآة القلب ، ودخل فيها نور العظمة الإلهية ، ولاح فيها جمال التوحيد ، وذلك ميراث التزكية ، قال الله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشّمس : 9 ] ، وفلاحها : الظفر بمعرفة الله ، فإذا عرفه ، قطعًا ، أحبه وفنى فيه .
(4/95)

فرتبة المشيخة من أعلى الرتب؛ لأنها خلافة النبوة في الدعوة إلى الله .
ثم قال : فعلى المشايخ وقار لله ، وبهم يتأدب المريد ظاهرًا وباطنًا ، قال الله تعالى : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعَام : 90 ] ، فالمشايخ ، لَمَّا اهتَدْوا ، أُهِّلُوا للاقتداء بهم ، وجُعِلوا أئمة للمتقين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حاكيًا عن الله عزّ وجلّ : " إذا كان الغالبُ على عبدي الاشتغال بي ، جعلت همته ولذَّتهُ في ذكري ، فإذا جعلت همته ولذته في ذكري ، أحبني وأحببته ، ورفعتُ الحجابُ فيما بيني وبينه ، لا يسهو إذا سَهَا الناسُ ، أولئك كلامُهُم كلام الأنبياءِ ، أولئك الأبطالُ حقًا ، أولئك الذين إذا أردتُ بأهلِ الأرضِ عقوبةً أو عذابًا ، ذكرتُهم فصرفتُه بهم عنهم " انتهى كلامه رضي الله عنه .
ومن كلام ذي النون المصري - لمّا تكلم على الأبدال - قال : فهمُهم إليه ثائرة ، وأعينهم إليه بالغيب ناظرة ، قد أقامهم على باب النظر من رؤيته ، وأجلسهم على كراسي أطباء أهل معرفته ، ثم قال لهم : إن أتاكم عليل من فقدي فداووه ، أو مريض من فراقي فعالجوه ، أو خائف مني فانصروه ، أو آمن مني فحذّروه ، أو راغب في مواصلتي فمنوه ، أو راحل نحوي فزودوه ، أو جبان في متاجرتي فشجعوه ، أو آيس من فضلي فرجُّوه ، أو راجٍ لإحساني فبشروه ، أو حسن الظن بي فباسطوه ، أو مُعظَّم لقدري فعظموه ، أو مسيء بعد إحساني فعاتبوه ، أو مسترشد فأرشدوه . ه . وهذه صفة مشايخ التربية على ما شهدناهم ، وما شهدنا إلا بما علمنا . وبالله التوفيق .
(4/96)

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قلت : { ولوطًا } : إما مفعول بمحذوف يُفسره قوله : { آتيناه } أي : وآتينا لوطًا ، أو : باذكر . و { نوحًا } : مفعول باذكر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولوطًا آتيناه حُكمًا } أي : حكمة ، أو نبوة ، أو فصْلاً بين الخصوم بالحق ، { وعلمًا } بِنَا وبما ينبغي علمه للأنبياء - عليهم السلام - من علم السياسة ، { ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائثَ } ؛ اللواطة ، وقذف المارة بالحصى ، وغيرها ، وصفت بصفة أهلها ، وأسندت إليها على حذف مضاف ، أي : من أهل القرية ، بدليل قوله : { إِنهم كانوا قوم سَوْءٍ فاسقين } : خارجين عن طاعة الله ورسوله . { وأدخلناه في رحمتنا } أي : في أهل رحمتنا ، أو جنتنا ، { إنه من الصالحين } الذين صلحت ظواهرهم وبواطنهم ، فنجيناه؛ جزاء على صلاحه ، كما أهلكنا قريته؛ عقابًا على فسادهم .
{ و } اذكر { نوحًا } ، وقدّم هؤلاء عليه؛ لتعلقهم بإبراهيم ، أي : خبره ، { إِذْ نادى } أي : دعا الله تعالى على قومه بالهلاك ، أي : اذكر نبأه الواقع وقت دعائه ، { من قبلُ } هؤلاء المذكورين ، { فاستجبنا له } دعاءه الذي من جملته قوله : { أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القَمَر : 10 ] ، { فنجيناه وأهله } المؤمنين به ، من ولده وقومه ، { من الكرب العظيم } ، وهو الطوفان وتكذيب أهل الطغيان . وأصل الكرب : الغم الشديد ، { ونصرناه } نصرًا مستتبعًا للانتقام ، { من القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي : منعناه من إذايتهم ، { إِنهم كانوا قومَ سَوْءٍ } ، تعليل لما قبله ، { فأغرقناهم أجمعين } ، صغيرهم وكبيرهم ، ذكرهم وأنثاهم؛ لأن الإصرار على تكذيب الحق ، والانهماك في الشر والفساد ، مما يُوجب الإهلاك العام . والله تعالى أعلم .
الإشارة : نبي الله لوط عليه السلام لمَّا هاجر من أرض الظلمة إلى الأرض المقدسة ، أعطاه الله العلم والحكمة . فكل من هاجر من الغفلة إلى محل الذكر واليقظة ، وهجر ما نهى الله عنه عوَّضه الله علمًا بلا تعلم ، وأجرى على لسانه ينابيع الحكمة . قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : إذا اعتقدت النفس على ترك الآثام ، جالت في الملكوت ، وعادت إلى ذلك العبد بطرائف الحكمة ، من غير أن يُؤدِّيَ إليها عالمٌ علمًا . ومصداقه الحديث : " من عمل بما يعلم ، ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم "
ولمَّا أجهد نفسه في تغيير المنكر نجّاه الله من أذاهم وما لحق بهم ، وكذلك نبيه نوح عليه السلام؛ لما دعا قومه إلى الله ، وأجهد نفسه في نصحهم ، نجاه الله من شرهم وجعل النسل من ذريته ، فكان آدم الأصغر . وهذه عادة الله تعالى في خواصه ، يُكثر فروعهم ، ويجعل البركة في تركتهم . وبالله التوفيق .
(4/97)

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قلت : { وداود } : عطف على { نوحًا } ، أو معمول لاذكر ، و { إذ يحكمان } : ظرف للمضاف المقدر ، أي : اذكر خبرهما ، و { إذ نفشت } : ظرف للحكم . { ففهمناها } : عطف على { يحكمان } ؛ فإنه في حكم الماضي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر خبر { داودَ وسليمانَ إِذْ يحكمان } أي : وقت حكمهما { في الحرث } أي : في الزرع ، أو في الكرم المتدلي عناقيده ، والحرث يطلق عليهما ، { إِذ نَفَشَتْ } : دخلت { فيه غنمُ القوم } فأفسدته ليلاً ، فالنفش : الرعي بالليل ، والهمَلُ بالنهار ، وهما الرعي بلا راع . { وكنا لحُكمِهم } أي : لهما وللمتحاكمين إليهما ، أو على أنَّ أقل الجمع اثنان ، { شاهدين } ، كان ذلك بعلمنا ومرأى منا ، لم يغب عنا شيء منه ، { ففهمناها } أي : الحكومة ، أو الفتوى ، { سليمانَ } ، وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان .
وقصتهما على ما قال ابن عباس وغيره : أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما : صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : إنَّ هذا نفشت غنمه ليلاً ، فوقعت في حرثي ، فلم تُبق منه شيئًا ، فقال له داود : اذهب فإن الغنم لك ، ولعله استوت قيمتاهما - أي : قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث - فخرج الرجلان على سليمان ، وهو بالباب ، وكان ابن إحدى عشرة سنة ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه ، فقال : يا نبي الله؛ لو حكمت بغير هذا لكان أرفق بالفريقين ، قال : وما هو؟ قال : يأخذ صاحبُ الغنم الأرضَ ليُصلحها ، حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ ينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا كمل الزرع ، رُدت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال داود : وُفقت يا بُني ، وقضى بينهم بذلك .
والذي يظهر : أن حكمهما - عليهما السلام - كان باجتهاد ، ففيه دليل على أن الأنبياء يجتهدون فيما لم ينزل فيه وحي ، فإنَّ قول سليمان عليه السلام : " هذا أرفق " ، وقوله : " أرى أن تدفع . . . " الخ ، صريح في أنه ليس بطريق الوحي ، وإلا لبت القول بذلك ، ولعله وجه حكم داود عليه السلام قياس ذلك على جناية العبد ، فإنَّ العبد فيما جنى . وإذا قلنا : كان بوحي ، يكون حكم سليمان ناسخًا لحكم داود عليه السلام .
وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا : فقال مالك والشافعي : يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار؛ للحديث الوارد في ذلك ، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار . وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار " ، ما لم يكن معها سائق أو قائد ، فيضمن عنده .
قال تعالى : { وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا } أي : كل واحد منهما آتيناه حكمًا ، أي : نبوة ، وعلمًا : معرفة بمواجب الحكم ، لا سليمان وحده .
(4/98)

وفيه دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد .
ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات ، فقال : { وسخَّرنا } أي : ذللنا { مع داود الجبالَ } ، حال كونها { يُسَبِّحْنَ } أي : مسبحات؛ ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال ، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام . { و } سخرنا له { الطير } ؛ كانت تسبح معه . وقدَّم الجبال على الطير؛ لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز؛ لأنها جماد . قال الكواشي : كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير ، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر ، وكان إذا فتَر من التسبيح ، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير؛ لينشط في التسبيح ويشتاق إليه . ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة ، قال قتادة : " يُسبحن " ، أي : يصلين معه إذا صلى ، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى . وفي الأثر : " كان داود يمرُّ ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه ، والطير تساعده " . { وكنا فاعلين } بالأنبياء أمثال هذا وأكثر ، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا .
{ وعلّمناه صنعةَ لَبُوسٍ } أي : صنعة الدروع . واللبوس لغة في اللباس ، والمراد : الدرع ، { لكم } أي : نافع لكم ، { ليُحْصِنَكُم } أي : اللبوس ، أو داود . وقرئ بالتأنيث ، أي : الصنعة ، أو اللبوس بتأويل الدرع . وقرئ بنون العظمة ، أي : الله تعالى ، وهو بدل اشتمال من " لكم " . وقوله : { من بأسكم } أي : من حرب عدوكم ، أو من وقع السلاح فيكم ، { فهل أنتم شاكرون } الله على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر؛ للمبالغة والتقريع .
ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال : { ولسليمان الريحَ } أي : وسخرنا له الريح . وإيراد اللام هنا ، دون الأولى؛ للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت ، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه ، بخلاف تسخير الجبال ، لم يكن بهذه المثابة ، بل بطريق التبعية والاقتداء . حال كون الريح { عاصفةً } شديدة الهبوب ، من حيث إنها كانت تقطع مسافة بعيدة في مدة يسيرة ، وكانت رُخاء في نفسها ، طيبة ، وقيل : كانت رُخاء تارة ، وعاصفة أخرى ، على حسب ما أراد منها . أو رُخاء في ذهابه وعاصفة في رجوعه؛ لأن عادة المسافرين : الإسراع في الرجوع ، أو عاصفة إذا رفعت البساط ورخاء إذا جرت به .
{ تجري بأمره } ؛ بمشيئة سليمان ، { إِلى الأرض التي باركنا فيها } بكثرة الأنهار والأشجار والثمار ، وهي الشام . وكان منزله بها ، وتحمله إلى نواحيها . قال وهب : كان سليمان إذا خرج من منزله عكفت عليه الطير ، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره ، وكان غزّاءً؛ لا يقصر عن الغزو ، فإذا أراد غزوًا أمر فضرب له بخشب ، ثم يُنصب له على الخشب ، ثم حَمَلَ عليه الناس والدواب وآلة الحرب ، فإذا حمل معه ما يريد أمر العاصف فدخلت تحت الخشب فاحتملته ، فإذا استقلت ، أمر الرخاء فمرت به شهرًا في روحته وشهرًا في غدوته ، إلى حيث أراد .
(4/99)

ه . { وكُنَّا بكل شيء عالمين } أي : أحاط علمنا بكل شيء ، فنُجري الأشياء على ما سبق به علمنا ، واقتضته حكمتنا .
{ ومن الشياطين } ، قيل : لمَّا ذكر تسخير الريح - وهي شفافة لا تعقل - ذكر ما هو شفاف يعقل ، وهم الشياطين ، مع سرعة الحركة في الكل ، أي : وسخرنا له من الشياطين { مَن يغوصون } في البحار ، ويستخرجون { له } من نفائسه ، كالدر والياقوت ، { ويعملون عملاً دون ذلك } أي : غير ما ذكر؛ من بناء المدن والقصور والمحاريب والتماثيل والقدور الراسيات ، وقيل : الحمام ، والنورة ، والطاحون ، والقوارير ، والصابون ، مما استخرجوه له ، { وكنا لهم حافظين } أن يزيغوا عن أمره ، أو يُبدلوا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه ، على ما هو مقتضى جبلتهم . وقال الزجاج : كان يحفظهم من أن يُفسدوا ما عملوا ، وكان دأبهم أن يُفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار . وقيل : وكَّل بهم جمعًا من الملائكة ، وجمعًا من مؤمني الجن . رُوي أن المُسَخَّر له عليه السلام : كفارهم ، لا مؤمنهم؛ لقوله تعالى : { ومن الشياطين } . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { ففهمناها سليمان } ، قال الورتجبي : بيَّن ، سبحانه ، أن الفضل متعلق بفضله ، لا يتعلق بالصغر والكبر والشيخوخة والاكتساب والتعلم ، إنما الفهم تعريف الله أحكام ربوبيته بنور هدايته ، وإبراز لطائف علومه الغيبية ، فحيث يظهر ذلك فهناك مواضع الفهوم من العلوم ، فهو سبحانه منَّ على سليمان بعلمه ، ولم يمنّ عليه بشيء خارج عن نفسه؛ من الملك ، والحدثان أفضل من العلم؛ فإنَّ العلم صفة من صفاته تعالى ، فلمَّا جعله متصفًا بصفاته منَّ عليه بجلال كبريائه . ه . وقال في قوله : { وكُلاًّ آتينا حُكمًا وعلمًا } : حُكمًا؛ معرفة بالربوبية ، وعلمًا بالعبودية . ه .
وقوله تعالى : { وسخرنا مع داود الجبال . . . } الخ . { ولسليمان الريح . . . } الآية ، لمّا كانا - عليهما السلام - مع المُكَوِّنِ كانت الأكوان معهما ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوان معك " ، وذكر في القوت : أن سليمان عليه السلام لبس ذات يوم قميصًا رفيعًا جديدًا ، ثم ركب البساط ، وحملته الريح ، فبينما هو يسير إذ نظر إلى عطفه نظرةً ، فأنزلته الريح ، فقال : لِم أنزلتني ولم آمرك؟! فقالت : نطيعك إذا أطعت الله ، ونعصيك إذا عَصَيْتَه . فاستغفر وحملته . ه بالمعنى . والله تعالى أعلم .
(4/100)

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر خبر { أيوبَ } عليه السلام { إِذْ نادى ربَّه } : دعاه : { إني } أي : بأني { مسَّنيَ الضرُّ } وهو بالضم : ما يصيب النفس من مرض وهزال ، وبالفتح : الضرر في كل شيء ، { وأنت أرحمُ الراحمين } ، تلطف في السؤال؛ حيث ذكر نفسَه بما يوجب الرحمة ، وذكر ربه بغاية الرحمة ، ولم يصرح بالمطلوب؛ من كمال أدبه ، فكأنه قال : أنت أهل أن تَرحم ، وأيوب أهل أن يُرحَم ، فارحمه ، واكشف عنه ضره الذي مسه . عن أنس : أنه أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ، ولم يشتك ، وكيف يشكو ، والله تعالى يقول : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد } [ ص : 44 ] .
وقيل : إنما اشتكى إليه؛ تلذذًا بالنجوى ، لا تضررًا بالشكوى ، والشكاية إليه غاية في القُرب ، كما أن الشكاية منه غاية في البُعد ، وسيأتي في الإشارة تكميله ، إن شاء الله . رُوي أن أيوب عليه السلام ، كان من الروم ، وهو أيوب بن أمُوص ابن تارَح بن رعويل بن عيص بن إسحاق . وكانت أمه من ولد لوط عليه السلام اصطفاه الله للنبوة والرسالة ، وبسط عليه الدنيا؛ فكان له ثلاثة آلاف بعير ، وسبعة آلاف شاة ، وخمسمائة فدان ، يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ، وكان له سبعة بنين ، وسبع بنات . قاله النسفي .
زاد الثعلبي : وكانت له المشيئةُ من أرض الشام كلها ، وكان له فيها من صنوف المال ما لم يكن لأحد؛ من الخيل والبقر والغنم والحُمُر وغيره ، وكان برًا تقيًا رحيمًا بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ، ويُكرم الضيف ، ويُبلغ ابن السبيل ، شاكرًا لأنعم الله ، لا يصيب منه إبليس ما يصيب من أهل الغنى من الغفلة والغِرَّة ، وكان معه ثلاثةً قد آمنوا به : رجل من اليمن واثنان من بلده ، كُهُولا . قال وهب : فسمع إبليس تَجَاوُبَ الملائكة بالصلاة عليه في السماء فحسده ، فقال : إلهي ، عبدك أيوب أنعمتَ عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ولم تجرّبه بشدّة ولا بلاء ، فلو جربته بالبلاء ليكفرنّ بك وبنعمتك ، فقال له تعالى : انطلق ، فقد سلطتك على ماله ، فجمع عفاريته وأخبرهم ، فقال عفريت من الجن : أُعطيتُ من القوة ما إذا تحوّلت إعصارًا من نار أحرقتُ كل شيء آتي عليه ، فقال له إبليس : دونك الإبل ورعاتها ، فجاءها حتى وثبت في مراعيها ، فأثار من تحت الأرض إعصارًا من نار فأحرقها وأحرق رعاءها . فلما فرغ منها تمثل إبليس براعيها ، وجلس على قَعُودٍ منها ، فأتاه ، وقال : يا أيوب ، إن ربك الذي عبدته قد أحرق إبلك ورُعَاءَها ، فقال أيوب : هو ماله ، أعارنيه ، يفعل فيه ما يشاء ، فرجع إبليس خاسئًا ، حين حمد أيوبُ ربه ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا صِحتُ لم يسمع صوتي ذو رُوح إلا خرجت روحه ، قال له إبليس : ائت الغنم ورعاءَها ، فأتى ، فصاح ، فصارت أمواتًا ورعاتها ، ثم خرج إبليس متمثلاً بقهرَمَان الرعاة ، فقال له كمقالته في الإبل ، فأجابه أيوب بمثل ما أجابه فيها ، فرجع خاسئًا ، فقال عفريت آخر : عندي من القوة ما إذا تحولتُ ريحًا عاصفًا نسفتُ كل شيء أتيت عليه ، قال إبليس : فأتِ الفدادين والحرث ، فجاءها ، فَهبَّتْ ريح عاصفة فنسفت كل شيء ، حتى كأنه لم يكن ثَمَّ شيء ، فخرج إبليس متمثلاً بقهْرَمَان الحرث ، فقال له مثل قوله الأول ، وردَّ عليه مثل رده ، حتى أتى على جميع ماله ، وأيوب يحمد الله تعالى .
(4/101)

فقال إبليس : إلهي؛ إن أيوب يقول : إنك ما متعْتَهُ إلا بنفسه وولده ، فهل تسلطني على ولده ، فإنها الفتنة؟ قال الله تعالى : قد سلطتك على ولده ، فجاء إبليس فقلب عليهم القصر منكسين ، وانطلق إلى أيوب متمثلاً بالمُعلم الذي يُعلمهم الحكمة ، وهو جريح ، فقال : يا أيوب؛ لو رأيت بنيك كيف عُذبوا؟ ونُكِّسوا على رؤوسهم ، وسال دماغهم من أنوفهم ، فلم يزل من قوله حتى رقَّ أيوبُ وبكى ، وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، فصعد إبليس مسرورًا ، ثم ذهب أيوب ، فلما أبصر ذلك استغفر ، وصعد قرناؤه من الملائكة ، بتوبته فبادروا إلى الله تعالى ، وهو أعلم ، فوقف إبليس خاسئًا ، فقال : إلهي؛ إنما هوّن أيوب خطر المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ، فإني لك زعيم إن سَلَّطَّني على جسده ليكفرنّ بك ، قال الله تعالى : قد سلطتك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه وقلبه وعقله ، فجاءه إبليس فوجده ساجدًا ، فجاء من قِبل الأرض ، فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده ، فَوهِلَ ، وخرج من قرنه إلى قدمه تآليل مثل آليَاتِ الغنم ، ووقعت به حكة لا يملكها ، فحك بأظفاره ، ثم بالمسُوح الخشنة ، ثم بالحجارة ، حتى نغل لحمه ، وتغير ، ونش ، وتدود ، فأخرجه أهل القرية ، وجعلوه على كناسة ، وجعلوا له عريشًا ، ورفضه الخلق كلهم ، إلا { رحمةً } ؛ امرأته بنت إفراثيم بن يوسف عليه السلام ، فقامت عليه بما يصلحه .
روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ أيُّوبَ نبي الله لَبث به بَلاؤُه ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَة ، فَرَفَضه الْقَرِيبُ والبَعِيدُ " الحديث ، وقال كعب : سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وما قاله - عليه الصلاة والسلام - إن ثبت ، هو الصحيح . وقال الحسن : مكث أيوب مطرودًا على كناسة ، في مزبلة بني إسرائيل سبع سنين وشهرًا ، يختلف فيه الدود . ويمكن الجمع بين الأقوال بأن الشدة كانت سبعًا والباقي مقدمات لها .
رُوِيَ أن امرأته قالت له يومًا : لو دعوتَ الله عزّ وجلّ؟ فقال لها : كم كانت مدة الرخاء؟ قالت : ثمانين سنة . فقال : إني أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي . ه . ورُوي أن الدود أكل جميع جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، وهو مع ذلك لا يفتر عن ذكر الله وحمده وشكره ، فصرخ إبليس صرخة ، وقال : أعياني هذا العبد الذي سألتُ ربي أن يسلطني عليه ، قالت له العفاريت : أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ، ما أتيته إلا من قِبَلِ امرأته ، فتمثل بها بصورة رجل طيب ، وفي رواية الحسن : في هيئة ليست كهيئة بني آدم ، في أحسن صورة ، فقال لها : أين بعلك يا أمة الله؟ فقالت : هو ذاك ، يحك قروحه ، ويتردد الدود في جسده ، فقال لها : أنا إله الأرض الذي صنعتُ بصاحبك ما صنعت؛ لأنه عبد إله السماء وتركني ، فلو سجد لي سجدة واحدة لرددت لكما ما كان لكما .
(4/102)

وقال وهب : قال لها : لو أكل طعامًا ولم يسمّ عليه لعُوفيَ من البلاء ، فأخبرت أيوب ، فقال : أتاك عدوُ الله ليفتنك عن دينك ، ثم أقسم ، إن عافه الله ، ليضربنها مائة ضربة . ثم حلف لا يأكل لها طعامًا ، فبقي مهملاً لا يأتي إليه أحد ، وقال عند ذلك : { مسّني الضر } من طمع إبليس في سجودي له ، { وأنت أرحم الراحمين } ، فقيل له : { اركض برجلك } فركض ، فنبعت عين ماء ، فاغتسل منها ، فلم يبق من دائه شيء ، وسقطت الدود من جسده ، وعاد شبابه وجماله . ثم ضرب برجله فنبعت عين أخرى ، فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج ، وكانت امرأته " رحمة " حين حلف ، تركته مدة ، ثم ندمت وعادت ، فوجدته في أحسن هيئة ، فلم تعرفه ، فقالت له : أين الرجل المبتلى الذي كان هنا؟ قال : أنا هو ، شفاني الله ، ثم عرفته بضحكه ، فتعانقا ، ثم أمره الله تعالى أن يأخذ جماعة من القضبان فيضربها ضربة واحدة ليبرّ في يمينه . ه .
قلت : تسليط الشيطان على بشرية الأنبياء الظاهرة : جائز وواقع . وأما الأمراض المنفرة ، فإن كانت بعد التبليغ وتقرير الشرائع ، فجائز عند بعضهم ، وهو الصواب ، جمعًا بين ما ثبت في الأخبار عن السلف وبين الدلائل العقلية في تنزيه الأنبياء - عليهم السلام - ، لأن العلة هي تنفير الخلق عنهم ، وبَعْد التبليغ فلا يضر ، وقد ورد أن شُعيبًا عليه السلام عَمى في آخر عمره ، وكذلك يعقوب ، وكان بعد تبليغ الرسالة ، فلم يضر .
ثم قال تعالى في حق أيوب عليه السلام : { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرّ } ؛ إنعامًا عليه ، فلمّا قام من مرضه جعل يلتفت فلا يرى شيئًا مما كان له من الأهل ، والمال ، ثم أحيا الله أولاده بأعيانهم ، ورزقه مثلهم ، ورد عليه ماله ، بأن أخلف له مثله ، وذلك قوله تعالى : { وآتيناه أهلَه ومثلهم معهم } وقيل : كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان له . وقال عكرمة : آتيناه أهله في الآخرة ، ومثلهم معهم في الدنيا ، والأول هو ظاهر الآية ، ردهم الله تعالى بأعيانهم؛ إظهارًا لكمال قدرته تعالى .
ثم قال { رحمةً من عندنا } : مفعول من أجله ، أي : آتينا ما ذكر لرحمتنا أيوب ، { وذكرى للعابدين } أي : وتذكرة لغيره من العابدين؛ ليصبروا كما صبر ، ويُثابوا كما أُثيب ، أو لرحمتنا العابدين ، الذين من جملتهم أيوب ، وذكرنا إياهم بالإحسان ، وعدم نسياننا لهم .
(4/103)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما ينزل بالمؤمن من الأوجاع والأسقام والشدائد والنوائب ، في النفس أو في الأهل ، كله رحمة ، عظيمة ، ومنَّة جسيمة ، ويقاس عليه : مفارقة الأحباب والأوطان ومشاق الأسفار والمتاعب البدنية ، ويُسمى عند الصوفية : التعرفات الجلالية؛ لأن الله تعالى يتعرف إليهم بها؛ ليعرفوه عيانًا ، ولذلك تجدهم يفرحون بها ، وينبسطون عند ورودها؛ لما يتنسمون فيها ، ويجدون بعدها ، من مزيد الاقتراب وكشف الحجاب ، وطي مسافة البُعد بينهم وبين رب الأرباب ، فهم يؤثرونها على الأعمال الظاهرة؛ لِمَا يتحققون بها من وجود الأعمال الباطنية؛ كالصبر والزهد والرضا والتسليم ، وما ينشأ عنها ، عند ترقيق البشرية ، من تشحيذ الفكرة والنظرة ، وغير ذلك من أعمال القلوب .
وفي الحكم : " إذا فتح لك وجهة من التعرف ، فلا تُبالي معها إن قلَّ عملك؛ فإنه ما فتحها لك إلاَّ وهو يريد أن يتعرف إليك منها ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك؟ " . قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : معرفة الله تعالى هي غاية المطالب ، ونهاية الأماني والمآرب ، فإذا واجه اللهُ عبده ببعض أسبابها ، وفتح له باب التعرّف له منها ، فذلك من النعم الجزيلة عليه ، فينبغي ألا يكترث بما يفوته بسبب ذلك من أعمال البر ، وما يترتب عليها من جزيل الأجر ، وليعلم أنه سلك به مسلك الخاصة المقرّبين ، المؤدي إلى حقائق التوحيد واليقين ، من غير اكتساب من العبد ولا تَعَمُّلٍ ، والأعمالُ التي من شأنها أن يتلبس بها هي باكتسابه وتعمله ، وقد لا يسلم من دخول الآفات عليها ، والمطالبة بوجود الإخلاص فيها ، وقد لا يحصل له ما أمّله من الثواب عند مناقشة الحساب ، وأين أحدهما من الآخرة .
ومثاله : ما يُصاب به الإنسان من البلايا والشدائد التي تُنَغِّصُ عليه لذات الدنيا ، وتمنعه من كثير من أعمال البر ، فإنَّ مرادَ العبد أن يستمر بقاؤه في الدنيا ، طيَّبَ العيش ناعمَ البال ، ويكون حاله في طلب سعادة الاخرة حال المترفين؛ فلا تسخو نفسه إلا بالأعمال الظاهرة ، التي لا كثير مُؤْنَةٍ عليه فيها ولا مشقة ، ولا تقطع عنه لذة ، ولا يفوته شهوة ، ومراد الله منه أن يُطهره من أخلاقه اللئيمة ، ويحول بينه وبين صفاته الذميمة ، ويُخرجه من أَسْرِ وجوده إلى متسع شهوده ، ولا سبيل إلى الوصول إلى هذا المقام على غاية الكمال والتمام ، إلا بما يُضادُ مراده ، ويشوّش عليه معتادَه ، وتكون حاله حينئذ المعاملة بالباطن ، ولا مناسبة بينها وبين الأعمال الظاهرة ، فإذا فَهِمَ هذا عَلِمَ أن اختيار الله له ، ومرادَه منه ، خيرٌ من اختياره لنفسه ومراده لها .
(4/104)

وقد رُوِيَ أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه : " إني إذا أنزلت بعبدي بلائي ، فدعاني ، فماطلتُه بالإجابة ، فشكاني ، قلت : عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك " ؟ وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : إذا ابتليت عبدي المؤمن فلم يشكني إلى عُوّاده ، أنشطته من عقالي ، وبدَّلته لحمًا خيرًا من لحمه ، ودمًا خيرًا من دمه ، ويستأنف العمل "
ثم نقل عن أبي العباس ابن العريف رضي الله عنه قال : كان رجل بالمغرب يُدعى أبا الخيَّار ، وقد عمّ جسده الجذامُ ، ورائحة المسك تُوجد منه على مسافة بعيدة ، لقيه بعضُ الناس ، فقال له : يا سيدي كأن الله تعالى لم يجد للبلاء مَحلاً من أعدائه حتى أنزله بكم ، وأنتم خاصة أوليائه!! فقال لي : اسكت ، لا تقل ذلك؛ لأنا لمّا أشرفنا على خزائن العطاء ، لم نجد عند الله أشرف ولا أقرب من البلاء ، فسألناه إِيّاه ، وكيف بك لو رأيت سيّد الزهّاد ، وقطبَ العباد ، وإمام الأولياء والأوتاد ، في غار بأرض طرطوس وجبالها ، ولحمُه يتناثر ، وجلده يسيل قيحًا وصديدًا ، وقد أحاط به الذباب والنمل ، فإذا كان الليل لم يقنع بذكر الله وشكره على ما أعطاه من الرحمة ، حتى يشدّ نفسه بالحديد ، ويستقبل القبلة عامَّةَ ليله حتى يطلع الفجر . ه .
وقد تكلم الصوفية في قول أيوب عليه السلام : { مسّني الضر } ؛ هل شكى ضرر جسمه ، أو ضرر قلبه من جهة دينه؟ قال بعضهم : قيل : إنه أراد النهوضِ إلى الصلاة فلم يستطع ، فقال : { مسّني الضر } ، وقيل : إنه أكل الدود جميع جسده ، حتى بقي عظامًا ، فلما قصد الدودُ قلبَه ولسانَه غار على قلبه؛ لأنه موضع المعرفة والتوحيد ، والنبوة والولاية ، وأسرار الله تعالى ، وخاف انقطاع الذكر ، فقال : { مسّني الضر } ، وقيل : خاف تبدد همه وتفرق قلبه ، وليس في العقوبة شيء أشد من تبدد الهم ، فتارة يقول : لعلي ببلائي مُعاقب ، وتارة يقول : بضري مُستدرج ، فلما خاف تشتيت خاطِره عليه ، قال : { مسّني الضر } . ه .
قلت : هذا المقام لا يليق بالأنبياء ، وإنما يجوز على غيرهم؛ إذ الأولياء يترقون عن هذا المقام فكيف بالأنبياء! وقال بعضهم : قال : مسني الضر من شماتة الأعداء ، واقتصر عليه ابنُ جُزي ، وفيه شيء؛ إذ كثير من الأولياء سقط الناس من عينهم ، فلا يُبالون بخيرهم ولا شرهم ، ولا مدحهم ولا ذمهم ، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام -؟!
وقال القشيري " كان ذلك منه إظهارًا للعجز ، لا اعتراضًا ، فلا يُنافي الصبر ، مع ما فيه من التنفيس عن الضعفاء من الأمة ، ليكون أسوة . وقال : إن جبريل أمره بذلك ، وقال له : إن الله يغضبُ إن لم يُسأل ، وسيان عنده البلاء والعافية ، فسَله العافية .
(4/105)

ويقال : إن أيوب كان مُكَاشَفًا بالحقيقة ، مأخوذًا عنه ، وكان لا يُحِسُّ بالبلاء ، فَسَتَر عليه ، فردَّه إليه ، فقال : مَسني الضُّرُّ ، وقيل : أَدْخَل على أيوب تلك الحالة ، فاستخرج منه تلك المقالة؛ ليظهر عليه سمة العبودية . ه .
وقال الورتجبي : سُئل الجنيد عن قوله : { مسّني الضر } ، فقال عرّفه فاقة السؤال ، ليمنّ عليه بكرم النوال ، وفي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه جاء إليه رجل فسأله عن قول أيوب { مسّني الضر } فبكى - عليه الصلاة والسلام - وقال : والذي بعثني بالحق نبيًا ما شكى فقرًا نزل من ربه ، ولكن كان في بلائه سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات ، فلما كان في بعض الساعات وثب ليُصلي ، فلم يستطع النهوض ، فقال : { مسني الضر } الخ . ثم قال : - عليه الصلاة والسلام - : أكل الدود عامة جسده حتى بقي عظامًا نخرة ، فكادت الشمس تطلع من قُبله وتخرج من دُبره ، وما بقي إلا قلبه ولسانه ، وكان قلبه لا يخلو من ذكر الله ، ولسانه لا يخلو من ثنائه على ربه ، فلما أحب الله له الفرج ، بعث إليه الدودتين؛ إحداهما إلى لسانه والأخرى إلى قلبه ، فقال : يا رب ما بقي إلا هاتان الجارحتان ، أذكرك بهما ، فأقبلت هاتان الدودتان إليهما ليشغلاني عنك ويطلعان على سري ، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين . ه .
وفي قوله تعالى : { رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } : تسلية لمن أصيب بشيء من هذه التعرفات الجلالية ، وقد تقدم في أول الإشارة الكلام على هذا . والله تعالى أعلم .
(4/106)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إِسماعيلَ } بن إبراهيم ، وكان أكبر من إسحاق ، { وإِدريسَ } واسمه : أخنوخ بن شيث بن آدم . قاله النسفي { وذا الكفل } وهو إلياس ، أو زكريا ، أو يوشع بن نون ، قلت : كونه زكريا بعيد؛ لأنه سيذكره بخصُوصه بعدُ . وسُمي ذا الكفل؛ لأنه ذو حظ من الله ، والكفل : الحظ . أو تكفل بضعف عمل أنبياء زمانه ، أو بصيام النهار وقيام الليل . وقال أبو موسى الأشعري : إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيًا ، ولكنه كان عبدًا صالحًا ، تكفل بعمل رجل صالح عند موته ، وكان يُصلي لله تعالى ، في كل يوم ، مائة صلاة ، فأحسن الله عليه الثناء . ه . وقال عمر بن عبد الله بن الحارث : إن نبيًا من الأنبياء قال : من تكفل لي أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب؟ فقال شاب : أنا ، فمات ذلك النبي ، فجلس ذلك الشاب يقضي بين الناس ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان؛ ليُغضبه وهو صائم ، فضرب الباب ضربًا شديدًا ، فقال : من هذا؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل له رجلاً ، فلم يرض ، ثم أرسل معه آخر ، فلم يرض ، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه إلى السوق ، ثم خلاه وذهبَ ، فسُمي ذا الكفل . ه .
{ كلٌّ من الصابرين } أي : كل واحد من هؤلاء موصوف بالصبر التام على مشاق التكليف وشدائد النوب ، { وأدخلناهم في رحمتنا } ؛ في النبوة ، أو في الآخرة ، { إنهم من الصالحين } أي : الكاملين في الصلاح الذي لا تحوم حوله شائبة الفساد ، وهم الأنبياء ، فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد مدح الله هؤلاء السادات بخصلتين ، من تحقق بهما : التحق بهم ، وانخرط في سلكهم : الصبر على مشاق الطاعة ، وعلى ترك المعصية ، وفي حال البلية . والصلاح ، وهو : إصلاح الظاهر بالشريعة ، وإصلاح الباطن بنور الحقيقة . فمن تحقق بهاتين الخصلتين كان من المقربين مع النبيين والصديقين . وبالله التوفيق .
(4/107)

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { ذا النُّون } أي : صاحب الحوت ، وهو يونس عليه السلام ، { إِذ ذهبَ مغاضِبًا } أي : مراغمًا لقومه ، فارًا عنهم ، وغضب من طول دعوته إياهم ، وشدة شكيمتهم ، وتمادي إصرارهم ، فخرج مهاجرًا عنهم ، قبل أن يُؤمر ، وقيل : وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم؛ لأجل توبتهم ، ولم يشعر بها ، فظن أنه كذبهم ، فغضب من ذلك ، فهو من باب المغالبة؛ للمبالغة؛ أو لأنه غضب لما رأى منهم من الإصرار ، وغضبوا لمفارقته إياهم ، وكان من حقه عليه السلام أن يصبر وينتظر الإذن الخاص من الله تعالى ، فلما استعجل ابتلي ببطن الحوت ، وقال ابن عباس : قال جبريلُ ليونس عليه السلام : انطلق إلى أهل نِينَوى فأنذرهم أن العذاب قد حضرهم ، قال : ألتمس دابة ، قال : الأمر أعجل من ذلك ، فانطلق إلى السفينة فركبها ، فاحتبست السفينة فساهموا فسهم ، فجاءه الحوت يبصبص بذنبه ، فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقًا ، إنما جعلناه لك حِرزًا ، فالتقمه ، ومرّ به على الأبُلة ، ثم على دجلة ، ثم مَرَّ به حتى ألقاه بنينَوَى . ه .
وقال وهب بن منبه رضي الله عنه : إنَّ يونس كان عبدًا صالحًا ضَيِّق الخلق ، فلما حمل أثقال النبوة تفسخ منها تفسُّخَ الرّبَع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها وخرج هاربًا عنها ، ولذلك أخرجه الله من أولي العزم ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ، وقال : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القَلَم : 48 ] ، أي : لا تلق أمري كما ألقاه . ه . وأما قول الحسن : مغاضبًا لربه ، فلا يليق بمقام الأنبياء - عليهم السلام - إلا أن يحمل على أن خروجه بلا إذن كأنه مغاضب . والله تعالى أعلم .
ثم قال تعالى : { فظنَّ أن لن نقْدِرَ عليه } أي : لن نضيق عليه ، أو لن نقدر عليه بالعقوبة ، فهو من القدرة ، ويؤيده قراءة من شدَّد ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : دخلت يومًا على معاوية ، فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلا أرى لنفسي خلاصًا إلا بك ، قال : وما هي؟ فقرأ الآية . . . فقال : أو يظن نبي الله ألا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة . ه .
وقيل : إنه على حذف الاستفهام . أي : أيظن أن لن نقدر عليه ، وقيل : هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن يقدر عليه ، أي : تعامل معاملة من ظن أن لن نقدر عليه؛ حيث استعجل الفرار . قلت : لإعلاء مقامه كثرت مطالبته بالأدب ، فحين خرج من غير إذن خاص؛ عُدَّ خروجه كأنه ظن ألا تنفذ فيه القدرة ، وتمسك عليه السلام بالإذن العام ، وهو الهجرة من دار الكفر ، وهو لا يكفي في حق أمثاله ، فعوقب بالسجن في بطن الحوت .
(4/108)

{ فنادى في الظلمات } أي : في الظلمة الشديدة المتكاثفة كقوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ . . . } [ البَقَرة : 17 ] ، أو في ظلمة بطن الحوت والبحر والليل : { أن لا إِله إِلا أنتَ } أي : بأنه لا إله إلا أنت ، أو تفسيرية ، أي : قال : لا إله إلا أنت ، { سبحانك } أي : أنزهك تنزيهًا لائقًا بك من أن يعجزك شيء ، أو : تنزيهًا لك عما ظننتُ فيك ، { إِني كنتُ من الظالمين } لنفسي؛ بخروجي عن قومي قبل أن تأذن لي ، أو من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للهلكة ، وعن الحسن : ما نجاه ، والله ، إلا إقراره على نفسه بالظلم .
{ فاستجبنا له } أي : أجبنا دعاءه الذي دعا في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مَكْرُوبٍ يَدْعُو بِهَذا الدُّعَاءِ إلاّ اسْتُجِيبَ لَهُ " { ونجيناه من الغم } : الذلة والوحشة والوحدة ، وذلك بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات ، وقيل : بعد ثلاثة أيام ، { وكذلك نُنجي المؤمنين } أي : مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنجي المؤمنين من غمومهم ، إذا دعوا الله ، مخلصين في دعائهم . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اسم الله الذي إذا دُعي به أجب ، وإذا سُئل به أعطى " دعوة يونس بن متى ، قيل : يا رسول الله ، أليونس خاصة؟ قال : " بل هي عامة لكل مؤمن ، ألم تسمع قول الله تعالى : { وكذلك ننجي المؤمنين } " وهنا قراءات في { نُنجي } ، مذكورة في كتب القراءات ، تركتها لطول الكلام فيها .
الإشارة : من تحققت له سابقة العناية لا تُبعده الجناية ، ولا تُخرجه عن دائرة الولاية ، بل يؤدب في الدنيا بالابتلاء في بدنه أو ماله ، على قدر الجناية وعلو المقام ، ثم يُرد إلى مقامه . وها هنا حكايات للصوفية - رضي الله عنهم - من هذا النوع ، مِنْهَا : حكاية خير النساج رضي الله عنه ، قيل له : أكان النسج صنعتك؟ قال : لا ، ولكن كنتُ عاهدت الله واعتقدت ألا آكل الرطب ، فغلبتني نفسي واشتريت رطلاً منه ، فجلستُ لآكله ، فإذا رجل وقف عليّ ، وخنقني ، وقال : يا عبد السوء ، أتهرب من مولاك - وكان له عبد اسمه : " خير " أَبَقَ مِنْه ، أَلقى الله شبهه عليَّ - فحملني إلى حانوته ، وقال : اعمل عملك ، أمرني بعمل الكرباس - وهو القطن - فدليت رجلي لأنسجه ، فكأني كنت أعمله سنين ، فبقيت معه أشهرًا ، فقمتُ ليلة إلى صلاة الغداة ، وقلت : إلهي لا أعود ، فأصبحت ، فإذا الشبه قد زال عني ، وعُدتُ إلى صورتي التي كُنتُ عليها ، فأُطلقت ، فثبت عليّ هذا الاسم ، فكان سببُه اتباع شهوتي .
ومنها قضية أبي الخير العسقلاني رضي الله عنه قال : اشتهيتُ السمك سنين ، ثم ظهر له من وجه حلال ، فلما مد يده ليأكل ، أخذت شوكة من عظامه إصبعَه ، فذهبت في ذلك ، فقال : إلهي هذا لمن مد يده لشهوة من حلال ، فكيف بمن مد يده لشهوة من حرام .
(4/109)

ومنها : قضية إبراهيم الخواص رضي الله عنه قال : كنت جائعًا في الطريق ، فوافيت الرِّي - اسم بلدة - فخطر ببالي أن لي بها معارف ، فإذا دخلتها أضافوني وأطعموني ، فلمَّا دخلت البلد رأيت فيها مُنكرًا احتجت أن آمر فيه بالمعروف ، فأخذوني وضربوني ، فقلتُ في نفسي : من أين أصابني هذا ، على جوعي؟ فنُوديت في سري : إنك سكنت إلى معارفك بقلبك ، ولم تسكن إلى خالقك .
وأمثال هذا كثير بأهل الخصوصية ، يُؤدبون على أقل شيء من سوء الأدب؛ لشدة قربهم ، ثم يُردون إلى مقامهم . ومن هذا النوع قصة سيدنا يونس عليه السلام؛ حيث خرج من غير إذن خاص ، فأدَّبه ، ثم رده إلى النبوة والرسالة ، وقد كنتُ سمعت من بعض الأشياخ أن أيوب عليه السلام إنما أصيب في ماله ، لأنه كان بجوار ماله كافر ، فكان يداريه؛ لأجل ماله ، فأصيب فيه وفي بدنه؛ تأديبًا وتكميلاً له . و الله تعالى أعلم .
(4/110)

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر خبر { زكريا إِذ نادى ربَّهُ } في طلب الولد ، وقال : { ربِّ لا تذرني فَرْدًا } ؛ وحيدًا بلا ولد يرثني ، ثم ردّ أمره إليه؛ مستسلمًا ، فقال : { وأنت خيرُ الوارثين } ، فحسبي أنت ، وإِنْ لم ترزقني وارثًا فلا أبالي؛ فإنك خير وارث ، { فاستجبنا له } دعاءه ، { ووهبنا له يحيى } ولدًا { وأصلحنا له زوجه } أي : أصلحناها للولادة بعد عُقمها ، أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلْقها . وكانت قبل سيئة الخلق ، { إنهم } أي : ما تقدم من الأنبياء ، { كانوا يُسارعون في الخيرات } أي : إنما استحقوا الإجابة إلى مطالبهم ، وأسعفناهم فيما أمَّلوا؛ لمبادرتهم أبواب الخير ، ومسارعتهم إلى تحصيلها ، مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير كله ، وهو السر في إتيان : { في } ، دون " إلى " ، المشعرة بخلاف المقصود؛ من كونهم خارجين عن أصل الخيرات ، متوجهين إليها ، كما في قوله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عِمرَان : 133 ] .
{ و } كانوا { يدعوننا رغَبًا ورَهَبًا } ؛ طمعًا وخوفًا ، وهما مصدران في موضع الحال ، أو المفعول له ، أي : راغبين في الثواب أو الإجابة ، وراهبين من العقاب أو الخيبة ، أو للرغبة والرهبة ، { وكانوا لنا خاشعين } : متواضعين خائفين ، أي : إنما نالوا هذه المراتب العلية ، واستحقوا هذه الخصوصية؛ لاتصافهم بهذه الأوصاف الحميدة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الغالب في وراثة الخصوصية الحقيقية أن تكون لغير ورثة النسب ، وأما الخصوصية المجازية ، التي هي مقام الصلاح أو العلم ، فقد تكون لورثة النسب ، وتكون لغيرهم . والخصوصية الحقيقية هي مقام الفناء والبقاء ، والتأهل للتربية النبوية ، ولا بأس بطلب وارث هذه الخصوصية ، لئلا ينقطع النفع بها . وقد قيل ، في قول الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه : اسمع ندائي بما سمعت به نداء عبدك زكريا ، إنه أشار إلى طلب الوارث الروحاني . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } ، فيه إشارة إلى بيان سبب حصول الخصوصية؛ لأن بابها هو المسارعة إلى عمل الخيرات وأنواع الطاعات ، وأوكدها ثلاثة : دوام ذكر الله ، وحسن الظن بالله ، وبعباد الله . وفي الحديث : " خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير : حسن الظن بالله ، وحسن الظن بعباد الله " وقوله : { ويدعوننا رَغَبًا ورهبًا } ، هذه حالة الطالبين المسترشدين المتعطشين إلى الله ، يدعونه رغبًا في الوصول ، ورهبًا من الانقطاع والرجوع ، وقد تكون للواصلين؛ رغبًا في زيادة الترقي ، ورهبًا من الوقوف أو الإبعاد . وقال بعضهم : الرغب والرهب حاصلتان لكل مؤمن ، إذ لو لم تكن رغبة لكان قنوطًا ، وهو كفر ، ولو لم تكن رهبة لكان أمنًا ، والأمن كفر . والله تعالى أعلم .
(4/111)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { التي أحصنت فرْجَها } على الإطلاق من الحلال والحرام ، والتعبير عنها بالموصول؛ لتفخيم شأنها ، وتنزيهها عما زعموه في حقها . { فنفخنا فيها من رُّوحِنَا } أي : أجرينا روح عيسى فيه وهو في بطنها ، أو نفخنا في درع جيبها من ناحية روحنا ، وهو جبريل عليه السلام ، فأحدثنا بذلك النفخ عيسى عليه السلام ، وإضافة الروح إليه تعالى؛ لتشريف عيسى عليه السلام ، { وجعلناها وابنها } أي قضيتهما ، أو حالهما ، { آية للعالمين } ، فإن من تأمل حالهما تحقق بكمال قدرته تعالى . وإنما لم يقل آيتين ، كما قال : { وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ } [ الإسرَاء : 12 ] ؛ لأن مجموعهما آية واحدة ، وهي ولادتها إياه من غير فحل . وقيل : التقدير : وجعلناها آية وابنها كذلك ، فآيةٌ مفعول المعطوف عليه ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : مَنْ حَصَّلَ التقوى في صغره ، كان آية في كِبَرِهِ . تقول العامة : الثور الحراث في الربك يبان ، وتقول الصوفية : البداية مجلاة النهاية . وقالت الحكماء : الصغر يخدم على الكبر . وبالله التوفيق .
(4/112)

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
قلت : { أمة } : حال من { أمتكم } أي : متحدة أو متفقة ، والعامل فيه ومعنى الإشارة ، والإشارة إلى طريق الأنبياء المذكورين قبلُ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِنّ هذه } الطريق والسيرة التي سلكها الأنبياء المذكورون ، واتفقوا عليها ، وهو التوحيد ، هي { أُمتكم } أي : ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها ، ولا تخرجوا عنها ، حال كونها { أمةً واحدةً } ، غير مختلفة فيما بين الأنبياء - عليهم السلام - وإن اختلفت شرائعهم . وفي الحديث : " الأنْبِيَاءُ أبناء عَلاَّتٍ ، أُمهَاتُهمْ شتَّى ، وأبوهم واحد " والعلات : الضرائر ، أي : شرائعهم مختلفة ، وأبوهم واحد ، وهو التوحيد . قال القشيري : { وأنا ربكم فاعبدون } أي : ربيتكم؛ اختيارًا ، فاعبدوني؛ شكرًا وافتخارًا . ه . والخطاب للناس كافة .
{ وتقطعوا أمرهم } ، أصل الكلام : وتقطعتم في أمر دينكم وتفرقتم . إلاَّ أن الكلام صرف إلى الغيبة ، على طريقة الالتفات؛ ليَنْعي عليهم ما أفسدوه في الدين ، والمعنى : فجعلوا أمر دينهم فيما { بينهم } قِطَعًا ، وصاروا أحزابًا متفرقة ، كأنه يُنْهِي إلى أهل التوحيد قبائح أفعالهم ، ويقول : ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله ، الذي أجمعت عليه كافة الأديان؟ ثم توعدهم بقوله : { كُلٌّ إِلينا راجعون } أي : كل واحد ، من الفرق المتقطعة ، راجع إلينا بالبعث ، فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم .
ثم فصَّل الجزاء فقال : { فمن يعملْ } شيئًا { من الصالحات وهو مؤمنٌ } بالله ورسله وبما يجب الإيمان به . قال القشيري : ( وهو مؤمن ، أي : في المآل بأن يختم له به ) ، وكأنه يشير إلى الخاتمة؛ لأن من لم يختم له بالإيمان لا ثواب لأعماله ، والعياذ بالله ، { فلا كُفْرَانَ لسَعْيِهِ } أي : لا حرمان لثواب عمله ، بل سعيُه مشكور مقبول ، فالكفران مَثلٌ في حرمان الثواب ، كما أن الشكر مثلٌ في إعطائه ، وعبّر عن ذلك بالكفران ، الذي هو ستر النعمة وجحدها؛ لبيان كمال تنزهه تعالى عنه . وعبّر عن العمل بالسعي؛ لإظهار الاعتداد به ، { وإِنّا له } أي : لسعيه { كاتبون } ؛ مُثبتون في صحائف أعمالهم ، نأمر الحفظة بذلك ، لا نغادر من ذلك شيئًا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الصوفية - رضي الله عنهم - ، في حال سيرهم إلى الحضرة وسلوكهم في طريق التربية ، مختلفون بحسب الأزمنة والأمكنة والأشخاص . وفي حال نهايتهم - وهو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان ، وإشراق شمس العرفان ، الذي هو مقام الإحسان ، ويُعبِّرون عنه بالفناء والبقاء ، وهو التوحيد الخاص - متفقون ، وفي ذلك يقول القائل :
عباراتنا شتى وحسْنُك واحد ... وكُلٌّ إلى ذاك الجَمَالِ يُشير
لأن ما كان ذوقًا ووجدًا لا يختلف ، بل يجده كل من له ذوق سليم . نعم تتفاوت أذواقهم على حسب مشاربهم ، ومشاربُهم على حسب إعطائهم نفوسَهم وبيعها لله ، وتتفاوت أيضًا بحسب التخلية والتفرغ ، وبحسب الجد والاجتهاد ، وكلهم على بصيرة من الله وبينة من ربهم : نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم ، آمين .
(4/113)

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
قلت : { حرام } : مبتدأ ، وفيه لغتان : حرام وحِرْم ، كحلال وحِلّ . و { أنهم . . . } الخ : خبر ، أو فاعل سد مسده ، على مذهب الكوفيين والأخفش . والجملة : تقرير لقوله : { كُلٌّ إلينا راجعون } ، و { لا } نافية ، أي : ممتنع على قرية أهلكناها عدمُ رجوعهم إلينا بالبعث ، بل كل إلينا راجعون . وقيل : { لا } زائدة ، والتقدير : ممتنع رجوع قرية أردنا إهلاكها عن غيهم ، { فإنهم } : على هذا : فاعل بحرام . قاله القصار . و { حتى } : ابتدائية ، غاية لما يدل عليه ما قبلها ، أي : يستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ، ويقولون : { يا ويلنا } . وقال أبو البقاء : { حتى } : متعلقة في المعنى بحرام ، أي : يستقر الامتناع ، أي : هذا الوقت . و { فإذا هي } : جواب { إذا } . وفي الأزهري : وقد يجمع بين الفاء وإذا الفجائية؛ تأكيدًا ، خلافًا لمن منع ذلك . قال تعالى : { فإذا هي شاخصة } ، فإنه لو قيل : إذا هي ، أو فهي شاخصة لصح . ه . وقيل : { يا ويلنا } : على حذف القول ، أي : إذا فتحت قالوا : يا ويلهم . و { اقترب } : عطف على فُتحت .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وحرامٌ } أي : ممتنع { على } أهل { قريةٍ أهلكناها } ؛ قدرنا هلاكها ، أو حكمنا بإهلاكها؛ لعتوهم ، { إنهم إلينا لا يَرجعون } بالبعث والحشر ، بل لا بد من بعثهم وحشرهم وجزائهم على أعمالهم . وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع للكل؛ لقوله : { كُلٌ إلينا راجعون } ؛ لأنهم المنكِرون للبعث والرجوع دون غيرهم . وقيل : المعنى : وممتنع على قرية ، أردنا إهلاكها ، رجوعهم إلى التوبة ، أو ممتنع على قرية ، أهلكناها بالفعل ، رجوعهم إلى الدنيا . وفيه رد على مذهب القائلين بالرجعة من الروافض وأهل التناسخ ، على أن " لا " صلة . وقُرئ بالكسر ، على أنه تعليل لما قبله ، فحرام ، على هذا ، خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : ذلك العمل الصالح حرام على قرية أردنا إهلاكها؛ لأنهم لا يرجعون عن غيرهم .
وقال الزجاج : المعنى : وحرام على قرية ، أردنا إهلاكها ، أن يُتَقَبَّلَ منهم عمل؛ لأنهم لا يرجعون ، أي : لا يتوبون ، ويجوز حمل المفتوحة على هذا بحذف اللام ، ويستمرون على ما هم عليه من الهلاك ، أو : فليستمر امتناعهم من الرجوع .
{ حتى إذا فُتحت يأجوجُ ومأجوج } ونُفخ في الصور ، وقامت القيامة ، فيرجعون ، ولا ينفعهم الرجوع . ويأجوج ومأجوج قبيلتان ، يقال : الناس عشرة أجزاء ، تسعة منها يأجوج ومأجوج . والمراد بفتحها : فتح سدها ، على حذف مضاف؛ أي : حتى إذا فُتح سد يأجوج ومأجوج ، { وهم } أي : يأجوج ومأجوج ، وقيل : الناس بعد البعث ، { من كل حَدَبٍ } أي : نشز ومرتفع من الأرض ، { يَنسِلُونَ } : يسرعون ، وأصل النسل : مقاربة الخطو مع الإسراع . ويدل على عَود الضمير ليأجوج ومأجوج : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " ويفتح ردم يأجوج ومأجوج ، فيخرجون على الناس ، كما قال الله تعالى : { من كل حدب ينسلون . . . } "
(4/114)

الحديث ، ويؤيد إعادتَه على الناس قراءة مجاهد : " من كل جدث "؛ بالجيم ، وهو القبر .
ثم قال تعالى : { واقتربَ الوعدُ الحقُّ } أي : ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب ، { فإِذا هي شاخصةٌ } أي : فإذا القصة أو الشأن ، وهو { أبصارُ الذين كفروا } شاخصة ، أي : مرتفعة الأجفان ، لا تكاد تطرق من شدة الهول ، حال كونهم يقولون : { يا ويلنا } ؛ يا هلكتنا ، هذا أوانك ، فاحضري ، { قد كُنَّا في غفلةٍ } تامة { من هذا } الذي دهَمنا؛ من البعث ، والرجوع إليه تعالى ، للجزاء ، ولم تعلم ، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنُذر ، أنه حق ، { بل كنا ظالمين } بتلك الآيات والنذر ، مُكذبين بها ، أو ظالمين أنفسنا؛ بتعريضها للعذاب المخلد . وهو إضراب عما قبله ، من وصف أنفسهم بالغفلة ، أي : لم نكن غافلين عنه ، حيث نُبِّهْنَا عليه بالآيات والنذر ، بل كنا ظالمين بتكذيبهم ، والله تعالى أعلم .
تذييل : رَوى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أولا الآية : الدَّجال ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قرن عدن ، تسوق النار إلى المحشر - أي الشام - تقيل معهم إذا قالوا ، والدُّخان ، والدَّابة ، ثم يأجوج ومأجوج " قلت : وبعد موت يأجوج ومأجوج ، تبقى مدة عيسى عليه السلام ، في أَمَنَةٍ ورَغَدِ عَيْشٍ . قيل : سبع سنين ، وقيل : أربعون . ثم يُقبض عيسى ، ويُدفن في روضته صلى الله عليه وسلم ، ثم تهب ريح تقبض المؤمنين ، فلا يبقى من يقول الله الله ، قيل : مائة سنة ، وقيل : أقل ، ثم تخرب الكعبة ، ثم يُنفخ في الصور للصعق ، واقترب الوعد الحق . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الحضرة محرمة على قلبٍ خراب ، أهلكه الله بالوساوس والخواطر ، وفتحت عليه من الشواغل والشواغب والخواطر يأجوج ومأجوج ، فأفسدته وخربته وجعلته مزبلة للشياطين . فحرام عليه رجوعه إلى الحضرة حتى يتطهر من هذه الوساوس والخواطر ، ومن الشواغل والعلائق . قال بعض الصوفية : ( حضرة القدوس محرمة على أهل النفوس ) . فإذا اقترب وعد الحق ، وهو أجل موته ، قال : يا ويلنا إنا كنا عن هذا غافلين ، لم نتأهب للقاء رب العالمين ، حتى لقيتُه بقلب سقيم . والعياذ بالله .
(4/115)

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِنكم } ، يا كفار قريش ومن دان دينكم ، { وما تعبدون من دون الله } من الأصنام والشياطين؛ لأنهم ، لطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم ، في حكم عبادتهم ، ويدخل فيه الشمس والقمر والنجوم ، وكل ما عُبد من دون الله ممن لا يعقل ، للحديث الوارد في دخولهم النار ، تبكيتًا لمن عبدهم؛ لأنهم لا يتضررون بالنار . وأما من يعقل فلا يدخل؛ حيث عبَّر بما . وقيل : يدخل ، ثم استثناه بقوله : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى . . . } ، فكل من عبد شيئًا من دون الله فهو معه ، { حَصَبُ جهنم } أي : حطبها ، وقرئ بالطاء ، أي : وقودها { أنتم لها واردون } أي : فيها داخلون .
{ لو كان هؤلاء آلهةً } كما زعمتم { ما وردوها } ؛ ما دخلوا النار ، { وكلٌّ فيها خالدون } أي : وكل من العابد والمعبود في النار خالدون . { لهم فيها زفير } أي : للكفار في النار أنينٌ وبكاء وعويل ، { وهم فيها لا يسمعون } شيئًا؛ لأن في سماع بعضهم بعضًا نوع أُنس . قال ابن مسعود رضي الله عنه : يُجعلون في توابيت من نار ، ثم جعلت التوابيت في توابيت أُخَر لها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئًا .
رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ الحَرام ، وصَنَادِيدُ قُريشٍ في الحَطِيمِ ، وَحَوْلَ الكَعْبَةِ ثلاثمائة وَسِتونَ صَنَمًا ، فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ ، فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ ، فكلَّمهُ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى أفْحَمَهُ ، ثُمَّ تلا عليه وعليهم : { إِنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم . . . } الآيات الثلاث . ثم أقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزِبَعْرَى فرآهم يتساهمون ، فقال : فيم خوضكم؟ فأخفى الوَلِيدُ ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أخبره بعضهم بما قاله ، عليه الصلاة والسلام ، فقال ابن الزبعرى للنبي صلى الله عليه وسلم : أأنت قلت : { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } ؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك ، ورب الكعبة ، أَلَيْست اليَهُودُ تعبد عُزَيرًا ، والنصارى تعبد المَسِيحَ ، وبَنُو مُلَيْحٍ يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشياطِينَ الّتي أَمَرَتْهُم بِهذا ، فأنزل الله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى . . . } " .
قلت : كل من عَبَدَ شيئًا من دون الله فإنما عَبَدَ في الحقيقة الشيطان؛ لأنه أمر به وزينه له ، ويدل على ذلك أنهم يتبرؤون يوم القيامة ، حين تتحقق الحقائق ، من عبادتهم ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } [ الفُرقان : 17 ، 18 ] مع قوله تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } [ العَنكبوت : 38 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من أحب شيئًا حُشر معه ، من أحب أولياء الله حُشر معهم ، ومن أحب الصالحين حُشر معهم ، ومن أحب الفجار حُشر معهم ، ومن أحب الدنيا بُعث معها ، ثم بعث إلى النار ، وهكذا . . . المرء مع من أحب .
(4/116)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين سبقت لهم منا الحسنى } أي : الخصلة الحسنى ، أو المشيئة الحسنى ، وهي السعادة ، أو التوفيق للطاعة ، أو البُشرى بالثواب ، { أولئك عنها } : عن جهنم { مبعدون } ؛ لأنهم في الجنة ، وشتان ما بنيهما . قال القشيري : لم يقل متباعدون؛ ليَعْلَم العابدون أن المدارَ على التقدير وسبق الحكم من الله ، لا على تَبَاعد العبد وتَقَرُّبه . ه . وكأنه يشير لقوله : " هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي " ، أي : بأعمالهم .
{ لا يسمعون حَسِيسَهَا } أي : صوتها الذي يحس ، وحركة تلهبها ، وهذه مبالغة في الإبعاد ، أي : لا يقربوها حتى لا يسمعوا صوتها أو صوت من فيها . قال الكواشي : لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة . ه . وقال ابن عطية : وذلك بعد دخولهم الجنة؛ لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا خرَّ على ركبتيه . ه . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : محمل الحديث ، إن صح في حق الأنبياء والأكابر ، على شهود الجلال والإجلال لله تعالى ، ولذلك يقولون : " نفسي نفسي " ، لا من خوف النار . ه .
قلت : أما كون الناس يُصعقون يوم القيامة ، فيكون المصطفى أول من يفيق ، فثابت في الصحيح ، أما سبب الصعقة فقد ورد في غير البخاري : " أنه يُؤتى بجهنم ، ولها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ثم تزفر زفرة ، فلا يبقى نبي ولا ملك إلا خرّ " . . الحديث ، ويؤيده قوله تعالى : { وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } [ الفَجر : 23 ] والأنبياء - عليهم السلام - بَشَر عبيد ، قد تعمهم القهرية ، ولا تقدح في منصبهم ، وليس صعقهم خوفًا ، لكن غلبة ودهشًا ، كما صعق موسى - عليه السلام - عند الرؤية ، ونبينا - عليه الصلاة والسلام - حين تجلى له جبريل على صورته . والله أعلم . وقال جعفر الصادق : وكيف يسمعون حسيسها ، والنار تخمد بمطالعتهم ، وتتلاشى برؤيتهم؟ ثم ذكر حديث قول النار للمؤمن : جُز . . . الخ .
ويدل على أن هذه الحالة إنما هي بعد دخولهم الجنة ، قوله تعالى : { وهم فيما اشتهت أَنفُسُهُم } من النعيم { خالدون } : دائمون ، والشهوة : طلب النفس للذة . وهو بيان لفوزهم بالمطالب ، إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب ، أي : دائمون في غاية التنعم ، { لا يحزنهم الفزعُ الأكبر } ، وهو القيام من القبور عند صيحة البعث ، بدليل قوله : { وتتلقاهم الملائكةُ } . قال ابن عباس : " تتلقاهم الملائكة بالرحمة ، عند خروجهم من القبور " ، قائلين : { هذا يومُكم الذي كنتم تُوعدون } بالكرامة والثواب ، والنعيم المقيم فيه ، أي : بعد دخولكم الجنة .
وقال الحسن : الفزع الأكبر : الانصراف إلى النار . وعن الضحاك : حين يُطبق على أهل النار . وقيل : حين نفخة الصعق ، وقيل : حين يُذبح الموت .
(4/117)

قلت : من سبقت له الحسنى ينجو من جميعها . وقيل : تتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة ، مُهنئين لهم قائلين : { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } في الدنيا ، ويُبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات . وهذا ، كما ترى ، صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى : كافةُ المؤمنين الموصوفين بالإيمان والأعمال الصالحة ، لا من ذكر؛ من المسيح ، وعُزير ، والملائكة ، كما قيل . قاله أبو السعود ، قلت : وقد يجاب بأنها نزلت في شأنهم وتعم غيرهم؛ لأن سبب النزول لا يخصص . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال الجنيد رضي الله عنه : { إن الذين سبقت لهم منّا الحسنى } أي : سبقت لهم منا العناية في البداية ، فظهرت لهم الولاية في النهاية . ه . { أولئك عنها } أي : عن نار القطيعة ، وهي أغيار الدنيا ، مُبعدون ، لا يسمعون حسيسها ، ولا ما يقع فيها من الهرج والفتن ، لغيبتهم عنها بالكلية في الشغل بالله تعالى ، فهم فيما اشتهت أنفسهم؛ من لذة الشهود ، والقُرب من الملك الودود ، خالدون دائمون ، لا يحزنهم الفزع الأكبر في الدنيا والآخرة ، وتتلقاهم الملائكة بالبُشرى بالوصول ، هذا يومكم الذي كنتم توعدون ، وهو يوم ملاقاة الحبيب والعكوف في حضرة القريب ، عند مليك مقتدر . منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر بمنّه وكرمه .
(4/118)

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
قلت : { يوم } : ظرف لاذكر ، أو لقوله : { لا يحزنهم الفزع } ، أو لتتلقاهم . والسجل : الصحيفة ، والكتاب : مصدر ، و { كما بدأنا } : منصوب بمضمر ، يُفسره ما بعده ، و { ما } : موصولة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { يوم نَطْوِي السماءَ } ؛ وذلك يوم الحشر والناس في الموقف ، فتجمع وتُكوّر وتُطوى { كطَيِّ السِّجِلِّ } ؛ الصحيفة { للكتاب } أي : لأجل الكتابة فيها؛ لأن الكاتب يطوي الصحيفة على اثنين؛ ليكتب فيها . فاللام للتعليل ، أو بمعنى " على " ، أي : كطي الصحيفة على الكتابة التي فيها ، لتُصان ، وقرأ أبو جعفر : " تُطوى "؛ بالبناء للمفعول . وذلك بمحو رسومها وتكوير نجومها وشمسها وقمرها . وأصل الطي : الدرج ، الذي هو ضد النشر . وقرأ الأخوان وحفص : { للكُتُبِ } بالجمع ، أي : للمكتوبات ، أي : كطي الصحيفة؛ لأجل المعاني الكثيرة التي تكتب فيها ، أو كطيها عليها؛ لتُصان . فالكتاب أصله مصدر ، كالبناء ، ثم يوقع على المكتوب . وقيل : السجل : ملك يطوي كتب ابن آدم ، إذا رفعت إليه ، فالكتاب ، على هذا ، اسم للصحيفة المكتوب فيها ، والطي مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : إلى المفعول .
{ كما بدأنا أول خَلقٍ نُعيده } أي : نعيد ما خلقنا حين نبعثهم ، كما بدأناهم أول مرة ، فالتنوين في { خَلقٍ } مثله في قولك : أول رجلٍ جاءني ، تريد أول الرجال والتقدير : كما بدأنا أول الخلائق ، نعيدهم حفاةً عراة غُرلاً . قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّكُمْ تَحْشَرُونَ يَوْمَ القيَامَة حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً . وأول مَنْ يُكْسَى إبْرَاهِيمُ خليلُ الله " ، أي : لأنه جرد في ذات الله ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : واسوءتاه! فلا يحتشم الناس بعضهم من بعض؟ فقال : " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه " ثم قرأ - عليه الصلاة والسلام - : { كما بدأنا أول خلق نعيده } .
كما بدأناه من الماء نعيده كيوم ولدته أمه . قلت : قد استدل بعضهم ، بظاهر الآية والحديث ، أن أهل الجنة ليس لهم أسنان ، ولا دليل فيه؛ لأن المقصود من الآية : الاستدلال على كمال قدرته تعالى ، وعلى البعث الذي تُنكره الكفرة ، لا بيان الهيئة ، وعدمُ وجودها نقصان ، ولا نقص في الجنة .
ثم أكد الإعادة بقوله : { وعدًا علينا } أي : نُعيده وعدًا ، فهو مصدر مؤكد لغير فعله؛ بل لِمَا في " { نعيده } من معنى العِدة ، أي : وعدنا ذلك وعدًا واجبًا علينا إنجازه؛ لأنا لا نُخلف الميعاد ، { إِنا كنا فاعلين } لما ذكرنا لا محالة ، فاستعدوا له ، وقدِّموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال . وبالله التوفيق .
الإشارة : إذا أشرقت على القلب شموسُ العرفان ، انطوت عن مشهده وجودُ الأكوان ، وأفضى إلى فضاء العيان ، فلا سماء تظله ولا أرض تحمله ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
لقد تجلى ما كان مخبى ... والكون كُلٌّ طويت طي
(4/119)

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد كتبنا في الزَّبور } كتاب داود عليه السلام ، { من بعْدِ الذِّكْرِ } : التوراة ، أو اللوح المحفوظ ، { أنَّ الأرض } أي : جنس الأرض ، يعني : مشارقها ومغاربها ، { يرثُها عبادي الصالحون } وهم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي الآية ثناء عليهم وبشارة لهم ، وإخبار بظهور غيب تحقق ظهوره في الوجود؛ مِن فَتْح الله على هذه الأمة مشارقَ الأرض ومغاربها ، كقوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } [ النُّور : 55 ] . وقال القشيري : على قوله : { عبادي الصالحون } : هم أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهم بجملتهم قوم صالحون لنعمته ، وهم المطيعون ، وآخرون صالحون لرحمته وهم العاصون . ه .
قال في الحاشية الفاسية : والظاهر أن حديث : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " ، مفسر للآية ، وموافق لوعدها . قيل : وهذه الطائفة مُفْتَرَقَةً من أنواع المؤمنين ، ممن فيه عائدة على الدين ونفع له؛ من شجعان مقاتلين ، وفقهاء ومحدِّثين ، وزهاد وصالحين ، وناهين وآمرين بالمعروف . ه . قلت : وعارفين متمكنين ، علماء بالله ربانيين . ثم قال : وغير ذلك من أنواع أهل الحسنى ، ولا يلزم اجتماعهم ، بل يكونون متفرقين في أقطار . ه . قلت " : وفيه نظر؛ لأن مراد الآية الأمة كلها ، كما قال القشيري ، ومراد الحديث بعضها ، فلا يليق أن يكون تفسيرًا لها ، وهي أعم منه . وقيل : المراد بالأرض : أرض الشام ، وقيل : أرض الجنة .
ثم قال تعالى : { إِنَّ في هذا } أي : ما ذكر في السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة ، والوعد والوعيد ، والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة ، { لبلاغًا } أي : كفاية ، أو سبب بلوغ إلى البغية ، من رضوان الله تعالى ، ومحبته ، وجزيل ثوابه ، فمن تبع القرآن وعمل به ، وصل إلى ما يرجو من الثواب العظيم ، فالقرآن زادُ الجنة كبلاغ المسافر ، فهو بلاغ وزاد { لقومٍ عابدين } أي : لقومٍ همتُهُم العبادة دون العادة . وبالله التوفيق .
الإشارة : قد أورث الله أرضه وبلاده لأهل التوجه إلى الله ، والإقبال عليه . فوراثة كل أحد على قدر توجهه وإقباله على مولاه . والمراد بالوراثة : التصرف بالهمة ونفوذ الكلمة في صلاحَ الدين وهداية المخلوقين ، وهم على قسمين : قسم يتصرف في ظواهر الخلق بإصلاح ظواهرهم ، وهم العلماء الأتقياء ، فهم يُبلغون الشرائع والأحكام ، لإصلاح نظام الإسلام ، وقد تقدم تفصيلهم في سورة التوبة عند قوله تعالى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ . . . } [ التّوبَة : 122 ] الخ ، وقسم يتصرفون في بواطنهم؛ وهم أهل التصرف العارفون بالله ، على اختلاف مراتبهم؛ من غوث وأقطاب وأوتاد ، وأبدال ، ونجباء ، ونقباء ، وصالحين ، وشيوخ مربين ، فهم يُعالجون بواطن الناس بالتربية بالهمة والحال والمقال ، حتى يتطهر مَنْ يصحبهم من الرذائل ، ويتحلى بأنواع الفضائل ، فيتأهل لحضرة القدس ومحل الأنس . وهؤلاء حازوا الوراثة النبوية كلها ، كما قال ابن البنا في مباحثه :
تَبِعَهُ العَالِم في الأقوال ... والعابد الزاهد في الأفعال
وبهما الصوفي في السباق ... لكنه قد زاد بالأخلاق
(4/120)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قلت : { رحمة } : مفعول لأجله ، أو حال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أرسلناك } يا محمد { إِلا رحمةً للعالمين } أي : ما أرسلناك بما ذكر من الشرائع والأحكام ، وغير ذلك؛ مما هو مناط سعادة الدارين ، لعلة من العلل ، إلا لرحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة . أو ما أرسلناك في حال من الأحوال ، إلا حال كونك رحمة لهم ، فإن ما بُعثتَ به سببٌ لسعادة الدارين ، ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين ، ومن لم يضرب له في هذه المغانم بسهم فإنما أُوتي من قِبل نفسه ، حيث فرط في اتّباعه ، وقيل : إنه رحمة حتى في حق الكفار في الدنيا؛ بتأخير عذاب الاستئصال ، والأمن من المسخ والخسف والغرق ، حسبما نطق به قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفَال : 33 ] .
{ قل إِنما يوحى إِليّ أَنما إِلهكم إِلهٌ واحد } أي : ما يوحى إليّ إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد؛ لأنه المقصود الأصلي من البعثة ، وأما ما عداه فإنما هو من الأحكام المتفرعة عليه ، لا يصح بدونه . و { إنما } الأولى : لقصر الحكم على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : إنما يُوحى إليّ وحدي أنما إلهكم واحد . { فهل أنتم مسلمون } أي : مخلصون العبادة لله { فإن تولوا } عن الإسلام ، ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من استماع الوحي ، { فقل آذنتُكم } أي : أعلمتكم ما أُمرت به ، أو بمحاربتي لكم ومخالفتي لدينكم ، فتكونوا { على سواءٍ } ، أو كائنين على سواء في الإعلام به ، لم أطوه عن أحد منكم ، أو مستوين أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به من الشرائع ، لم أظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره . وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية . قيل : وهذه من فصاحة القرآن وبلاغته .
{ وإِنْ أَدْرِي } أي : ما أدري { أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعدون } من البعث والحساب متى يكون؛ لأن الله تعالى لم يُطلعني عليه ، ولكن أنبأني أنه آت لا محالة ، وكل آت قريب . ولذلك قال : { واقترب الوعد الحق } [ الأنبيَاء : 97 ] ، أو : لا أدري متى يحل بكم العذاب ، أو ما توعدون من إظهار المسلمين وظهور الدين ، { إِنه يعلم الجهرَ من القول ويعلم ما تكتمون } أي : إنه عالم بكل شيء ، يعلم ما تجهرون به؛ من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات ، وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين ، فيجازيكم عليه نقيرًا وقطميرًا . { وإِنْ أدري لعله فتنةٌ لكم } أي : ما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم؛ لينظر كيف تعملون ، أو استدراج لكم ، وزيادة في افتتانكم ، { ومتاعٌ إلى حين } أي : تمتع لكم إلى حين موتكم؛ ليكون حجة عليكم ، أو إلى أجل مقدر تقتضيه المشيئة المبنية على الحِكَم البالغة .
(4/121)

{ قل ربِّ احكُم بالحق } أي : اقض بيننا وبين كفار مكة بالعدل ، المقتضي لتعجيل العذاب . فهو كقول شعيب عليه السلام : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعرَاف : 89 ] ، أو بما يحق عليهم من العذاب ، واشدد عليهم ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطأَتَكَ عَلَى مُضَرَ " ، وقد استجيب دعاؤه - عليه الصلاة والسلام - ، حيث عُذبوا ببدر أيّ تعذيب . وقرأ الكسائي وحفص : { قال } ؛ حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم . ثم استعان بالله على إبطال ما كانوا يؤملون من النصرة لهم ، وتكذيبهم في ذلك ، فقال : { وربنا الرحمن } ؛ كثير الرحمة على عباده ، { المستعان على ما تصفون } من كون الغلبة لكم . كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه ، وكانوا يطمعون أن تكون الشركة والغلبة لهم ، فكذب الله ظنونهم ، وخيّب آمالهم ، وغيّر أحوالهم ، ونصر رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وخذلهم؛ لكفرهم . وبالله التوفيق .
الإشارة : قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : الأنبياء - عليهم السلام - خُلقوا من الرحمة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو عين الرحمة ، قال تعالى : { وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين } . ه . وقال أيضًا : الأنبياء - عليهم السلام - لأممهم صدقة ، ونبينا صلى الله عليه وسلم لنا هدية . قال صلى الله عليه وسلم : " وأنا النعمة المهداة " ، فالصدقة للفقراء ، والهدية للكبراء . ثم إن غاية الرحمة : الوصول إلى التوحيد الخاص؛ لأنه سبب الزلفى من الله والاختصاص ، ولذلك أمره به ، بعد أن جعله رحمة ، فقال : { قل إنما يُوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد . . . } الخ . فمن أعرض عنه فقد أوذن بالبُعد والطرد . ولعل تأخير العقوبة عنه ، في الدنيا ، استدراج ومتاع إلى حين .
ثم إن الصارف عن الدخول إلى التوحيد الخاص - وهو توحيد العيان - : القواطع الأربع : النفس ، والشيطان ، والدنيا ، والهوى . زاد بعضهم : الناس - أي : عوام الناس ، فإذا حكم الله بين العبد وبين هذه القواطع ، وصل إلى صريح المعرفة . { قل ربِّ احكم بالحق } ؛ أي : احكم بيني وبين عدوي بحكمك الحق ، حتى تدفعه عني وتدمغَهُ ، { وربنا الرحمن المستعان } به { على ما تصفون } من التعويق والتشغيب . والله المستعان ، وعليه أتوكل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .
(4/122)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قلت : { زلزلة } : مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز ، أو إلى الظرف ، وهي الساعة . و { يوم } : منصوب بتذهل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } ، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول ، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة . ولفظ { الناس } يشمل الذكور والإناث . والمأمور به مطلق التقوى ، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا ، والتعرض لعنوان الربوبية ، مع إضافتها لضمير المخاطبين؛ لتأكيد الأمر ، وتأكيد إيجاب الامتثال به؛ لأن الربوبية دائمة ، والعبودية واجبة بدوامها ، أي : احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم .
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة ، فقال : { إِن زلزلة الساعة شيء عظيم } ، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته ، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها . والزلزلة : التحرك الشديد والإزعاج العنيف ، بطريق التكرير ، بحيث تزيل الأشياء من مقارها ، وتخرجها عن مراكزها ، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزّلزَلة : 1 ] الآية . واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها ، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق ، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضي الله عنه : إنها تكون يوم القيامة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : زلزلة الساعة : قيامها . وعن علقمة والشعبي : أنها قبل طلوع الشمس من مغربها ، فإضافتها إلى الساعة؛ لكونها من أشراطها . قال الكواشي : وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها . قالوا : ومن أشراط الساعة ، قبل قيامها ، ست آيات : بينما الناس في أسواقهم ، إذ ذهب ضوء الشمس ، ثم تناثرت النجوم ، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت الأرض ، ففزع الإنسُ والجن ، وماج بعض في بعض؛ خوفًا ودهشًا ، فقالت الجنُ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فذهبوا ، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا ، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة ، ثم جاءتهم الريح فماتوا . ه . وانظر ابن عطية . قاله المحشي . والتحقيق : ما قدمناه عند قوله : { واقترب الوعد الحق } [ الأنبيَاء : 97 ] ، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين ، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق . والله تعالى أعلم . وفي التعبير ب { شيء عظيم } إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها ، والعبارة ضيقة ، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام .
ثم هوَّل شأنها ، فقال : { يوم ترونها } أي : الزلزلة ، وتُشاهدون هول مطلعها ، { تذهل كل مرضعة } أي : مباشرة للإرضاع ، { عما أرضعت } أي : تغفل وتغيب ، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها ، الذي ألقمته ثديها . فالمرضعة ، بالتاء ، هي المباشرة الإرضاع بالفعل ، والمرضع - بلا تاء - لمن شأنها ترضع ، ولو لم تباشر الإرضاع . والتعبير عنه " بما " ، دون " من "؛ لتأكيد الذهول ، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه ، وقيل : " ما " مصدرية ، أي : تذهل عن إرضاعها .
(4/123)

والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج .
{ وتضع كل ذات حملٍ حملها } أي : تلقى جنينها من غير تمام ، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام . وهذا على قول من يقول : إنها قبل نفخة الصعق ظاهر ، وأما على من يقول ، إنها بعد قيام الساعة ، فقد قيل : إنه تمثيل؛ لتهويل الأمر وشدته . { وترى الناس سُكارى } أي : وترى أيها الناظر الناس سكارى ، على التشبيه ، من شدة الهول ، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية ، حتى قال كلُّ نبي : نفسي نفسي . { وما هم بسُكارى } على التحقيق ، { ولكنَّ عذاب الله شديد } ، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم ، وطيَّر تمييزهم ، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه . وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف ، وما هم بسكارى من الشراب . وقرئ : ( سكْرى ) ؛ كعطشى . والمعنى واحد ، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة ، كجرحى وقتلى ومرضى . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم ، حتى تُشرق على قلوبكم أنوار ربكم ، فتزلزل أرض نفوسكم ، وتدك جبال عقولكم ، عند سطوح شمس العرفان ، والاستشراف على مقام الإحسان . إن زلزلة الساعة ، التي تشرف فيها على أسرار الذات ، شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، لو كانت أنثى ، وتضع كل ذات حمل حملها كذلك ، أو تضع كل ذات حمل أثقالها؛ بالغيبة في ربها ، وترى الناس سكارى من خمر المحبة ، وما هم بسكارى من شراب الدَّوالي ، لكن من خمر الكبير المتعالي ، كما قال الششتري في الخمرة الأزلية - بعد كلام - :
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة ... خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة
ولكن عذاب الله - الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به ، وهي جنة المعارف - شديد ، ولكنه يحلو في جانب ما ينال بعده ، كما قال الشاعر :
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا ... والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ
يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته ... لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا
(4/124)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
قلت : { ومن الناس } : خبر ، و { مَن يجادل } : مبتدأ ، و { بغير علم } : حال من ضمير " يُجادل " ، و { أنه } : نائب فاعل { كُتب } ، أي : كتب عليه إضلال من تولاه ، و { فإنه } : مَنْ فتح : عنده خبر عن مبتدأ مضمر ، أي : فشأنه أن يضله ، والجملة جواب " مَن " ، إن جعلتها شرطية ، وخبر ، إنْ جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط ، ومن كسر : فخبر ، أو جواب " مَنْ " .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس من يُجادل } ويخاصم { في الله } أي : في شأنه ، ويقول ما لا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته ، ملابسًا { بغير علم } ، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل . نزلت في النضر بن الحارث ، وكان جَدلاً ، يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ولا بعث بعد الموت ، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا . وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين ، وكل من يخاصم في الدين بالهوى . { ويتَّبعُ } في ذلك { كلَّ شيطان مَرِيدٍ } ؛ عاتٍ متمرد ، مستمر في الشر . قال الزجاج : المَريد والمارد : المرتفع الأملس ، أي : الذي لا يتعلق به شيء من الخير ، والمراد : إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر ، وإما إبليس وجنوده .
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله : { كُتِبَ عليه } أي : قضى على ذلك الشيطان { أنه } أي : الأمر والشأن { مَن تولاه } أي : اتخذه وليًا وتبعه ، { فأنَّه } أي : الشيطان { يُضِلُّه } عن سواء السبيل ، { ويهديه إِلى عذاب السعير } أي : النار . والعياذ بالله .
الإشارة : ومِن الناس من تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية ، فجعل يجادل في طريق الله ، وينكر على المتوجهين إلى الله ، إذا حرقوا عوائد أنفسهم ، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله ، فيقول : انقطعت التربية النبوية ، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان ، وإنما يتبع في ذلك كُلَّ شيطان مريد ، سوَّل له ذلك وتبعه فيه . كُتب عليه أنه من تولاه ، وتبعه في ذلك ، فإنه يُضله عن طريق الخصوص ، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب ، ويهديه إلى عذاب السعير ، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان ، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته ، عائذًا بالله من ذلك .
(4/125)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } أي : إن شككتم في أمر البعث ، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم ، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء ، وليس سبب إنكاركم بالبعث إلا هذا ، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء ، فكما بدأكم منه يعيدكم منه ، كما قال تعالى : { فإِنّا خلقناكم } أي : أباكم { من تراب ، ثم } خلقناكم { من نطفة ثم من علقة } أي : قطعة دم جامدة ، { ثم من مضغة } أي : لحمة صغيرة ، بقدر ما يمضغ ، { مُخَلَّقةٍ } أي : مصورة الخلقة ، { وغيرِ مُخَلَّقةٍ } أي : لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ . والمراد : تفصيل حال المضغة؛ من كونها أولاً مضغة ، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا . وكان مقتضى الترتيب أن يُقدم غير المخلقة على المخلقة ، وإنما أخرت عنها؛ لأنها عدم الملكة ، والملكة أشرف من العدم .
وإنما فعلنا ذلك؛ { لنُبيِّنَ لكم } ، بهذا التدريج ، كمال قدرتنا وحكمتنا؛ لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ، ثم من نطفة ثانيًا ، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً ، والعلقة مضغة ، والمضغة عظامًا ، قدر على إعادة ما بدأ ، بل هو أهون في القياس { ونُقِرُّ } أي : نثبت { في الأرحام ما نشاء } ثبوته { إِلى أجلٍ مسمى } : وقت الولادة ، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام . { ثم نُخرِجُكم } من الرحم { طفلاً } ، أي : حال كونكم أطفالاً . والإفراد باعتبار كل واحد منهم ، أو بإرادة الجنس ، { ثم لتبلغوا أشدَّكم } أي : ثم نربيكم؛ لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم . والأشد : من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد . ووقته : قيل : ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون .
{ ومنكم مَن يُتوفى } قبل بلوغ الأشد أو بعده ، { ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر } أي : أخسه ، وهو الهرَمُ والخرف ، { لكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا } أي : لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم ، مبالغة في انتقاص علمه ، وانتكاس حاله ، أي : ليعود إلى : ما كان عليه في أوان الطفولية ، من ضعف البنية ، وسخافة العقل ، وقلة الفهم ، فينسى ما علمه ، وينكر ما عرفه ، ويعجز عما قدر عليه . قال ابن عباس : من قرأ القرآن ، وعمل به ، لا يلحقه أرذل العمر . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث ، فقال : { وترى الأرض هامدةً } : ميتة يابسة ، { فإِذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } ؛ تحركت بالنبات { ورَبَتْ } ؛ انتفخت { وأنبتتْ من كل زوج } : صنف { بهيج } : حسن رائق يسر ناظره .
{ ذلك بأن الله هو الحق } أي : ذلك الذي ذكرنا؛ من خلق بني آدم ، وإحياء الأرض ، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحِكم ، حاصل بهذا ، وهو أن الله هو الحق ، أي : الثابت الوجود . هكذا للزمخشري ومن تبعه ، وقال ابن جُزَي : والظاهر : أن الياء ليست سببية ، كما قال الزمخشري ، وهو أيضًا مقتضى تفسير ابن عطية ، وإنما يُقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى ، وذلك أن يكون التقدير : ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات ، شاهد بأن الله هو الحق ، وبأنه يحيي الموتى ، وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف { وأن الساعة } على ما قبله ، بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة ، بعد قوله : { ذلك } ، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات .
(4/126)

ه .
قال المحشي الفاسي : ويرد عليه : أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه ، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا ، فلا يقال : زيد في الدار ، وتريد ضاحكٌ مثلاً ، إلا أن يقال في الآية : دل عليه السياق ، فكأنه مذكور . وعند الكواشي : ليعلموا بأن الله هو الحق . وقال القرطبي : قوله : { ذلك بأن الله هو الحق } ، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه ، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره ، قال بعد ذلك : { ذلك بأن الله هو الحق } ، نبه بهذا على أن كل ما سواه ، وإن كان موجودًا؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر ومُصَرفٌ ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق ، الغني المطلق ، وإنَّ وجود كل موجود من وجوب وجوده ، ولهذا قال في آخر السورة : { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل } [ الحَجّ : 62 ] ، والحق هو الوجود الثابت ، الذي لا يزول ولا يتغير ، وهو الله تعالى . ثم قال عن الزجاج : { ذلك } في موضع رفع ، أي : الأمر ما وُصِفَ لكم وبُيِّن؛ لأن الله تعالى هو الحق ، ويجوز كونه في مَوْضِع نصب ، أي : فعل ذلك بأن الله هو الحق ، قادر على ما أراد . ه .
وذلك أيضًا شاهد بأنه { يُحيي الموتى } كما أحيا الأرض ، مرة بعد أخرى ، { وأنه على كل شيء قدير } أي : مبالغ في القدرة ، وإلاَّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر . وتخصيص إحياء الموتى بالذكر ، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها؛ للتصريح بما فيه النزاع ، وللطعن في نحور المنكرين . { وأنَّ الساعة آتيةً } : قادمة عليكم ، { لا ريبَ فيها } ، وإيثار اسم الفاعل على الفعل؛ للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره ألْبَتَّةَ . ومعنى نفي الريب عنها : أنها ، في ظهور أمرها ووضوح دلائلها ، بحيث ليس فيها مظنة الريب ، { وأنَّ الله يبعثُ من في القبور } ؛ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به ، وهو لا يخلف الميعاد ، والتعبير ب " من في القبور " : خرج مخرج الغالب ، وإلاَّ فهو يبعث كل من يموت . والله تعالى أعلم وأحكم .
الإشارة : يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية ، وظهور أهل الخصوصية في زمانهم ، الذين يحيي الله الأرواح الميتة ، بالجهل والغفلة ، على أيديهم؛ إن كنتم في ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم ، فمن فعل ذلك وقدر عليه ، قدر أن يحيي النفوس الميتة بالغفلة في كل زمان . وفي الحِكَم : " من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدرًا " . وجرت عادته أنه لا يحييها في الغالب إلا على أيدي أهل الخصوصية . وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة ، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة ، وهي الواردات الإلهية ، وأسقيناها الخمرة القدسية ، اهتزت فرحًا بالله ، وربت ، وارتفعت بالعلم بالله ، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم ، ما تَبْهَجُ منه العقول ، ذلك شاهد بوحدانية الحق ، وأن ما سواه باطل . وبالله التوفيق .
(4/127)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس من يُجادل في الله } أي : في شأنه ، فيصفه بغير ما هو أهله ، وهو أبو جهل ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه ، وقيل : هو من يتصدى لإضلال الناس ، كائنًا من كان . حال كونه { بغير علم } ، بل بجهل وهوىً . والمراد بالعلم : الضروري ، كما أن المراد بالهدى في قوله : { ولا هُدىً } : هو الاستدلال والنظر الصحيح ، الهادي إلى المعرفة . { ولا كتابٍ منير } أي : وحي يستند إليه ، والحجة إنما تقوم بأحد هذه الثلاثة ، أي : يجادل في شأنه تعالى ، من غير تمسك بمقدمة ضرورية ، ولا بحجة نظرية ، ولا برهان سمعي .
حال كونه { ثانِيَ عِطْفِه } أي : لاويًا عُنُقَهُ عن طاعة الله؛ كبرًا وعُتوًا ، أو عاطفًا بجانبه ، وطاويًا كَشْحَهُ ، معرضًا متكبرًا ، فثنْي العطف كناية عن التكبر . وقرأ الحسن بفتح العين ، أي : مانعًا تعطفه على المساكين؛ قسوةً . فعل ذلك الجدال { ليضلَّ عن سبيل الله } أي : ليضل الناس عن سبيل الله؛ فإنَّ غرضه بالمجادلة إضلال المؤمنين ، أو جميع الناس ، وقرأ المكي وأبو عمر : بفتح الياء ، أي : ليصير ضالاً عن سبيل الله . وجعل ضلاله غاية لجداله ، من حيث إن المراد به الضلال المبين ، الذي لا هداية بعده ، مع تمكنه منها قبل ذلك ، أي : ليرسخ في الضلالة أيّ رسوخ ، { له في الدنيا خِزيٌ } : هوان وذُل ، وهو القتل يوم بدر ، وهو بيانُ نتيجةِ ما سلكه من الطريقة ، أي : يثبت له ، بسبب ما فعل ، خزي وصغار ، وهو ما أصابه ببدر ، { ونُذِيقه يومَ القيامة عذابَ الحريق } أي : النار المحرقة .
{ ذلك } أي : ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي . وما في الإشارة من البُعد؛ للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة ، أي : ذلك العذاب الهائل { بما قدمتْ يداك } أي : بسبب ما اقترفْتَهُ من الكفر والمعاصي . وإسناده إلى يديه؛ لأن الاكتساب في الغالب بهما . والالتفات؛ لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد . أو يقال له يوم القيامة : { ذلك بما قدمت يداك وأنَّ الله ليس بظلام للعبيد } ، فلا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا بذنب غيره . وهو خبر عن مضمر ، أي : والأمر أنَّ الله ليس بمعذبٍ لعبيده بغير ذنب ، وأما عطفه على " بما " فغير سديد ، ولفظ المبالغة؛ لاقترانه بلفظ الجمع في العبيد ، ولأن قليل الظلم منه ، مع علمه بقبحه واستغنائه عنه ، كالكثير منا . قاله النسفي .
وقِيل : { ظلام } : بمعنى : ذي ظلم ، فتكون الصيغة للنَّسَبِ . والتعبير عن ذلك بنفي الظلم ، مع أن تعذيبهم بغير ذنب ، ليس بظلم قطعًا ، على ما تقرر في مذهب أهل السنة ، فضلاً عن كونه ظلمًا بالغًا؛ لأن الحق تعالى إنما يُظهر لنا كمال العدل ، وغاية التنزيه ، وإن كان في نفس الأمر جائز أن يعذب عباده بلا ذنب ، ولا يسمى ظلمًا؛ لأنه تصرف في ملكه ، لكنه تعالى لم يظهر لنا في عالم الشهادة إلا كمال العدل . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من يخاصم في طريق القوم ، وينفيها عن أهلها ، إما أن يكون تقليدًا ، وهو ما تقدم ، أو يكون تكبرًا وعتوًا ، بحيث لم يرض أن يحط رأسه لهم ، وهو ما أشير إليه هنا . ولا شك أن المتكبر لا بد أن يلحقه ذل ، ولو عند الموت . ويوم القيامة يُحشر صاغرًا كالذر ، كما في الحديث . والله تعالى أعلم .
(4/128)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قلت : { لَمَن ضره } : قال ابن عطية : جرى فيه إشكال؛ وهو دخول اللام على " مَنْ " ، وهو في الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول . وأجيب بثلاثة أوجه؛ أحدها : أن اللام متقدمة على موضعها ، والأصل أن يقال : يدعو مَنْ لَضَرُّهُ أقرب ، فموضعها الدخول على المبتدأ ، وثانيها : أنَّ { يدعوا } تأكيد ليدعو الأول ، وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : { لَمَن ضره } ، فمن مبتدأ ، وخبره : { لبئس المولى } - قلت - : وإياه اعتمد الهبطي في وقفه ، وثالثها : أن معنى { يدعو } : يقول يوم القيامة هذا الكلام ، إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام . ه .
قلت والأقرب ما قاله الزجاج ، وهو : أن مفعول { يدعو } محذوف ، ويكون ضميرًا يعود على الضلال ، وجملة : { يدعو } : حال ، والمعنى : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه ، أي : حال كونه مدعوًا له ، ويكون قوله : { لمن ضره } مستأنفًا مبتدأ ، خبره : { لبئس المولى } . نقله المحشي . وحكم المحلي بزيادة اللام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الناس من يعبد الله على حَرْفٍ } أي : على طرف من الدين لا ثبات له فيه ، كالذي ينحرف إلى طرف الجيش ، فإن أحس بظفر قرَّ ، وإلا فر . وفي البخاري عن ابن عباس : " كان الرجل يَقدمُ المدينة ، فإن ولدت امرأتُهُ غلامًا ونُتجَتْ خَيْلُه ، قال : هذا دينٌ صالح ، وإن لم تَلِد امرأته ، ولم تنتج خيلُه ، قال : هذا الدين سُوء " . وكأن الحق تعالى سلك في الآية مسلك التدلي ، بدأ بالكافر المصمم ، يجادل جدالاً مجملاً ، يتبع فيه كل شيطان مريد . والثاني : مقلد مجادل ، من غير دليل ولا برهان ، والثالث : كافر أسلم إسلامًا ضعيفًا . ثم قابل الأقسام الثلاثة بضدهم ، بقوله : { إن الله يدخل الذين آمنوا . . . } الآية .
ثم كمَّل حال المذبذب بقوله : { فإِن أصابه خيرٌ } أي : دنيوي؛ من الصحة في البدن ، والسعة في المعيشة ، { اطمأن به } أي : ثبت على ما كان عليه ظاهرًا ، لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين ، الذين لا يلويهم عنه صارف ، ولا يثنيهم عنه عاطف . { وإِن أصابته فتنةٌ } : بلاء في جسده ، وضيق في معيشته ، أو شيء يفتتن به ، من مكروه يعتريه في بدنه أو أهله أو ماله ، { انقلب على وجهه } أي : ارتد ورجع إلى الكفر ، كأنه تنكس بوجهه إلى أسفل . أو انقلب على جهته التي كان عليها . وتقدم عن ابن عباس أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة ، مهاجرين ، فكان أحدهم إذا صحَّ بدنه ونتجَتْ فَرَسُه مُهْرًا سريًا ، وولدت امرأته غلامًا سويًا ، وكَثُرَ مالُه وماشيته ، قال : ما أصبتُ ، مذ دخلت في ديني هذا ، إلا خيرًا ، واطمأن ، وإن كان الأمر خلافه ، قال : ما أصبتُ إلا شرًّا ، وانقلب عن دينه . وعن أبي سعيد رضي الله عنه : أَنَّ يهُوديًا أَسْلَمَ فَأَصابَتْهُ مَصَائبُ ، وتَشَاءَمَ بالإِسْلامِ ، فَأَتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَال : أَقِلْنِي ، فقال :
(4/129)

" إنَّ الإسْلاَمَ لا يُقالُ " فَنَزلت .
{ خَسِرَ الدنيا والآخرة } : فَقَدَهُما ، وضيعهما؛ بذهاب عصمته ، وحبوط عمله بالارتداد . وقرأ يعقوب : خاسر ، على حال . { ذلك هو الخسران المبين } ؛ الواضح ، الذي لا يخفى على أحد أنه لا خسران مثله .
ثم بيَّن وجه خسرانه بقوله : { يدعو } أي : يعبد { مِن دون الله } أي : متجاوزًا عنه تعالى ، { ما لا يضرُّه } إذا لم يعبده ، { وما لا ينفعه } إذا عبده . { ذلك } الدعاء { هو الضلالُ البعيد } أي : التلف البعيد عن الحق .
{ يدعو } أي : يعبد { لَمَن ضَرُّهُ } أي : الصنم الجامد الذي ضرره { أقربُ من نفعه } . وقرأ ابن مسعود : " يدعو من ضره " ، بحذف اللام . أو : ذلك هو الضلال البعيد يدعوه هذا المذبذب المنقلب على وجهه . قال ابن جزي : وهنا إشكال : وهو أنه تعالى وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضررها أكثر من نفعها ، فنفى الضر ثم أثبته؟ والجواب : أن الضر المنفي أولاً يُراد به ما يكون من فعلها ، وهي لا تفعل شيئًا ، والضر الثاني ، الذي أثبته لها ، يُراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره . ه . { لبئس المولى } أي : الناصر ، { ولبئس العَشِيرُ } أي : الصاحب . أو يدعو ويصرخ يوم القيامة ، حين يرى استضراره بالأصنام ، ولا يرى لها أثر الشفاعة ، ويقول لِمَنْ ضره أقرب من نفعه : لبئس المولى هو ولبئس العشير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ومن الناس من يعبد الله على حرف؛ على طرف من الدين ، غير متمكن فيه ، فإنه أصابه خير ، وهو ما تُسر به النفس من أنواع الجمال ، اطمأن به ، وإن أصابته فتنة ، وهو ما يؤلم النفس وينغص عليها مرادها وشهوتها من أنواع الجلال ، انقلب على وجهه . أو : ومن الناس من يعبد الله على طمع في الجزاء الدنيوي أو الأخروي ، فإن أصابه خير فرح واطمأن به وإن أصابته فتنة سخط وقنط وانقلب على وجهه . أو : ومن الناس من يعبد الله ويسير إليه على حرف ، أي : حالة واحدة ، فإن أصابه خير؛ كقوة ونشاط وورود حال؛ اطمأن به وفرح ، وإن أصابته فتنة؛ كضعف وكسل وذهاب حال ، انقلب على وجهه ، ورجع إلى العمومية ، أو وقف عن السير ، خسر الدنيا والآخرة . خسران الدنيا : ما يفوته من عزّ الله ونصره لأوليائه ، وحلاوة برد الرضا والتسليم ، ولذيذ مشاهدته . وخسران الآخرة : ما يفوته من درجة المقربين ودوام شهود رب العالمين - فالواجب على العبد أن يكون عبدًا لله في جميع الحالات ، لا يختار لنفسه حالاً على حال ، ولا يقف مع مقام ولا حال ، بل يتبع رياح القضاء ، ويدور معها حيث دارت ، ويسير إلى الله في الضعف والقوة .
قال بعضهم : سيروا إلى الله عَرْجَى ومكاسير . وفي الحكم : " إلهي؛ قد علمتُ ، باختلاف الآثار وتنقلات الأطور أن مرادك مني أن تتعرف إليّ في كل شيء ، حتى لا أجهلك في شيء " . وقال أيضًا : " لا تطلبن بقاء الواردات ، بعد أن بسطت أنوارها ، وأودعت أسرارها ، فلك في الله غنى عن كل شيء ، وليس يغنيك عنه شيء " . فكن عبد المحوِّل ، ولا تكن عبد الحال ، فالحال تَحُولُ وتتغير ، والله تعالى لا يحول ولا يزول ، فكن عبدًا لله ، ولا تكن عبدًا لغيره .
لِكَلِّ شَيء إن فارقْتَهُ عِوَضٌ ... وَلَيْسَ لله إنْ فَارقَْتَ مِنْ عِوَض
(4/130)

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الله يُدخلُ الذين آمنوا } ، وتمكنوا من الإيمان ، وعبدوا الله وحده في جميع الحالات ، ولم يعبدوه على حرف ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات } ، { جناتٍ تجري من تحتها } أي : من تحت قصورها { الأنهارُ } الأربعة . وهذا بيان حال المؤمنين العابدين له تعالى في جميع الحالات ، وأنَّ الله تفضل عليهم ، بما لا غاية وراءه ، إثر بيان سوء حال الكفرة ، من المجاهرين والمذبذبين ، وأنَّ معبودهم لا ينفعهم ، بل يضرهم مضرة عظيمة . ثم قال تعالى : { إِن الله يفعل ما يريد } من الأفعال المتقنة ، المبنية على الحِكَم البالغة الرائقة ، التي من جملتها : إثابة من آمن به ، وصدّق رسوله ، وعبده على كل حال ، وعقابُ من أشرك به ، وكذب رسول الله ، أو عبده على حرف . وبالله التوفيق .
الإشارة : إن الله يُدخل الذين آمنوا ، واطمأنوا به ، وعبدوه في جميع الحالات ، وقاموا بعمل العبودية في كل الأوقات ، جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم والحكم ، إن الله يفعل ما يريد؛ فيقرب هذا ، ويُبعد هذا ، بلا سبب؛ " جَلَّ حُكْمُ الأزلِ أن يُضَافَ إلى العِلَلِ " . وبالله التوفيق .
(4/131)

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة ، فمن كان { يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة } ، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده ، ويفعل ما يدفع ذلك؛ من الخدع والمكائد ، فليبالغ في استفراغ المجهود ، وليجاوز كل حد معهود ، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه ، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه . { فليمدد بسبب إِلى السماء } أي : فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته ، { ثم ليقطع } أي : ليختنق ، من قَطعَ : إذا اختنق؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه . أو : ليقطع من الأرض ، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف .
{ فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه } أي : فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله ، وسمى فعله كيدًا ، على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه . والمراد : ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه ، فَتَحَصَّل أن الضمير في { ينصره } يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يتقدم ذكره صراحة ، لكنه معهود؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه . وقيل : يعود على { مَن } ، والمعنى على هذا : من ظن - بسبب ضيق صدره ، وكثرة غمه - أن لن ينصره الله ، فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق ، على هذا ، القنوطُ والسخط من القضاء ، وسوء الظن بالله تعالى ، حتى يئس من نصره .
قال ابن جزي : وهذا القول أرجح من الأول؛ لوجهين : أحدهما : أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف؛ لأنه ، إذا أصابته فتنة ، انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن لن ينصره الله . ويؤيده من فسّر { أن لن ينصره الله } أي : لن يرزقه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ ، فيكون الكلام ، على هذا ، متصلاً بما قبله . ويؤيده أيضًا : قوله تعالى ، قبله : { إن الله يفعل ما يريد } أي : الأمور بيد الله ، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني : أن الضمير في " ينصره " ، على هذا ، يعود على ما تقدّمه ذكر ، دون الأول . ه . وانظر ابن عطية والكواشي ، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي ، ورده للأول ، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة .
ثم قال تعالى : { وكذلك أنزلناه آيات } أي : ومثل ذلك الإنزال البديع ، المنطوي على الحِكَم البالغة ، أنزلناه ، أي : القرآن الكريم كله ، حال كونه { آيات بيناتٍ } واضحات الدلالة على معانيها الرائقة ، { وأن الله يهدي } به { مَن يريد } هدايته؛ ابتداء ، أو يثبته على الهُدى دوامًا ، ومحل " أن " : إما الجار ، أي : ولأن الله يهدي ، أو الرفع ، أي : والأمر أن الله يهدي من يريد .
(4/132)

الإشارة : من غلبته نفسُه ، وملكته وأسرته في يدها؛ فدواؤه : الفزع إلى الله ، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار ، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها : هو الفزع إلى أولياء الله ، العارفين به ، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل ، فإذا ظفر بهم ، فليلزم صُحبتهم ، وليتبع طريقهم ، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه ، من غير تردد ولا توقف ، فهم معناه ، شرعًا ، أم لا ، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده ، ويظفر بنفسه في أسرع مدة . وليس الخبر كالعيان ، وجَرِّبْ . . . ففي التجريب علم الحقائق ، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد ، فليفزع إليه ، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام ، وتذهب عنه الأمراض والأسقام ، بإشراق شمس العرفان على قلبه ، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان ، وغير هذا عناء وتعب ، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك ، فلا يذهب عنه بالكلية ، فربما يهيج عليه في وقت الضعف ، عند الموت ، فلا يستطيع دفعه ، فيلقى الله بقلب سقيم . والعياذ بالله .
فإن قلت : هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب ، فقد دللتني على عَنقاء مغرب؟ قلت : والله ، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله ، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء ، لوجدته أقرب إليك من كل شيء . والله ، لقد وجدناهم وظفرنا بهم ، على مناهج الجنيد وأضرابه ، يُغنون بالنظر ، ويسيرون بالمريد حتى يقول له : ها أنت وربك . والمنة لله . فمن ترك ما قلنا له ، وآيس من الدواء ، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، فليمت غيظًا وقنطًا ، فلا يضر إلا نفسه؛ لأن الله يهدي من يريد ، فيوفقه للدواء ، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا . وبالله التوفيق .
(4/133)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قلت : إنَّ { الله يفصل } : خبر " إنَّ " الأولى .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين آمنوا } بما ذكر من الآيات البينات ، أو بكل ما يجب الإيمان به - فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا - أي : آمنوا بذلك ، بهداية الله وإرادته ، { والذين هادوا والصابئين } ، وهم قوم من النصارى ، اعتزلوهم ، ولبسوا المسوح ، وقيل : أخذوا من دين النصارى شيئًا ، ومن دين اليهود شيئًا ، وهم القائلون بأن للعالم أصلين : نورًا وظلمة ، ويعتقدون تأثير النجوم . { والمجوس } وهم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور ، والشر من الظلمة ، { والذين أشركوا } ، وهم عبدة الأصنام؛ من العرب وغيرهم ، فهذه ستة أديان ، خمسة للشيطان ، وواحد للرحمن . { إِن الله يفصِلُ بينهم يوم القيامة } ؛ في الأحوال والأماكن ، فلا يجازيهم جزاء واحدًا ، ولا يجمعهم في موطن واحد . أو يحكم بين المؤمنين ، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر ، بإظهار المحق من المبطل ، فيُكْرم المحق ويهين المبطل ، { إن الله على كل شيء شهيد } أي : عالم بكل شيء ، مراقب لأحواله ، حافظ له ، مطلع على سره وعقده . ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة : إجراء جزائه اللائق عليه ، وهو أبلغ وعيد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة؛ يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله ، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور ، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر ، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين ، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين ، أو مع عامة أهل اليمين . وبالله التوفيق .
(4/134)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم ترَ } ، أيها السامع ، أو من يتأتى منه الرؤية ، أي : رؤية علم واستبصار ، أو : يا محمد ، علمًا يقوم مقام العيان ، { أنَّ الله يسجد له } أي : ينقاد إليه انقيادًا تامًا { مَن في السماواتِ } من الملائكة ، { ومن في الأرض } من الإنس والجن والملائكة . ويحتمل أن تكون " من "؛ عامة للعاقل وغيره ، فيدخل كل ما في السماوات من عجائب المصنوعات ، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات . ويكون قوله : { والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ } ، من عطف الخاص على العام؛ لاستبعاد ذلك منها عادة . ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته ، ولكن لا نفقه ذلك ، كما لا نفقه تسبيحهم .
ونقل الكواشي عن أبي العالية : ( ما في السماء نجم ، ولا شمس ، ولا قمر ، إلا يقع ساجدًا حين تغيب ، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له ) . وذكر في صحيح البخاري : " أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن " وقال مجاهد : ( سجود الجبال والشجر والدواب : تَحَوُّلُ ظِلاَلِها ) . أو سجودُها : طاعتها؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى ، خاشع ، يُسبح له . شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه .
{ وكثيرٌ من الناس } يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة ، { وكثيرٌ حقَّ عليه العذابُ } ؛ حيث امتنع من هذا السجود ، الذي هو سجود عبادة؛ لكفره وعتوه . قال ابن عرفة قوله : { وكثير } : يحتمل كونه مبتدأ ، ويكون في الآية حذف المقابل ، أي : وكثير من الناس مثاب ، وكثير حق عليه العذاب . فلا يرد سؤال الزمخشري . ه . وقدَّره غيرُه : وكثير من الناس يسجدون ، وكثير يأبى السجود؛ فحق عليه العذاب . وقيل : وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة ، وإن سجد للصانع؛ كالفلاسفة واليهود والنصارى . ه .
{ ومَن يُهِنِ اللهُ } ؛ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي ، { فما له من مُكرمٍ } بالسعادة ، أو يوم القيامة ، بل يذل ويهان ، { إن الله يفعل ما يشاء } في ملكه؛ يُكرم من يشاء بفضله ، ويُهين من يشاء بعدله ، لا معقب لحكمه . اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك ، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك ، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك ، إنك على كل شيء قدير . هكذا يُدعى في هذه السجدة . وبالله التوفيق .
الإشارة : قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء ، وبأنوار صفاته لظاهرها ، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته ، فعرفه كلُّ شيء ، ولذلك سجد له وسبح بحمده . وفي الحِكَم : " أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء ، فما جَهِلَكَ شيءٌ " . فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني ، وخاضعة للكبير المتعالي ، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني ، ولم يقف مع حس الأواني ، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن ، إلا من أهانه الله من عُصاة بني آدم . ومن يُهن الله فما له من مكرم ، إن الله يفعل ما يشاء .
(4/135)

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
قلت : { خصمان } : صفة لمحذوف ، أي : فريقان خصمان ، والمراد : فريق المؤمنين ، وفريق الكفرة بأقسامه الخمسة . وقيل : اسم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد هنا : الجماعة ، بدليل قوله : { اختصموا } ؛ بالجمع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { هذان خصمان } أي : مختصمان { اختصموا } أي : فريق المؤمنين والكافرين . وقال ابن عباس رضي الله عنه : ( راجع إلى أهل الأديان المذكورة ) ؛ فالمؤمنون خَصْمٌ ، وسائرُ الخمسة خصمٌ ، تخاصموا { في ربهم } أي : في شأنه تعالى ، أو في دينه ، أو في ذاته وصفاته . والكل من شؤونه تعالى ، فكل فريق يصحح اعتقاده . ويُبطل اعتقاد خصمه . وقيل : تخاصمت اليهود والمؤمنون؛ فقالت اليهودُ : نحن أحق بالله وأقدمُ منكم كتابًا ، ونبيُّنا قبل نبيِّكم . وقال المؤمنون : نحن أحقُّ بالله منكم ، آمنا بنبينا ونبيكم ، وبما أنزل الله من كتاب ، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ، ثم كفرتم به؛ حسدًا . وكان أبو ذر يُقسِمُ أنها نزلَتْ في ستة نفر من قريش ، تبارَزوا يوم بَدر؛ حمزةُ وعليٌّ ، وعبيدة بن الحارث ، مع عتبة ، وشيبة ابني ربيعةَ ، والوليدُ . وقال عليّ رضي الله عنه : إني لأوَّلُ من يجثو بين يدَيِ الله يوم القيامة؛ للخُصومة . ه .
ثم بيَّن الفصل بينهم ، المذكور في قوله : { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } ، فقال : { فالذين كفروا } بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، { قُطِّعَت لهم ثيابٌ من نار } أي فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم ، تشتمل عليهم ، كما تقطع الثياب للبوس . وعبَّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه . { يُصَبُّ من فوق رؤوسهم الحميمُ } أي : الماء الحار . عن ابن عباس رضي الله عنه : " لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها " . { يُصهَرُ } : يُذاب { به } أي : بالحميم ، { ما في بطونهم } من الأمعاء والأحشاء ، { والجلودُ } تذاب أيضًا ، فيُؤثر في الظاهر والباطن ، كلما نضجت جلودهم بُدلت . وتقديم ما في الباطن؛ للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر ، مع أن ملابستها على العكس .
{ ولهم مقامعُ من حديدٍ } أي : ولتعذيب الكفرة ، أو لأجلهم ، مقامع : جمع مقمعة ، وهي آلة القمع ، أي : سيَاط من حديد ، يُضربون بها . { كُلما أرادوا أن يخرجوا منها } أي : أشرفوا على الخروج من النار ، ودنوا منه ، حسبما رُويَ : أنها تضربهم بلهبها فترفعهم ، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع ، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا . وقوله : { من غَمّ } : بدل اشتمال من ضمير { منها } ؛ بإعادة الجار ، والعائد : محذوف ، أي : كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها { أُعيدوا فيها } أي : في قعرها ، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها ، من غير أن يخرجوا منها ، { و } قيل لهم : { ذُوقوا عذابَ الحريق } أي : الغليظ من النار ، العظيم الإحراق .
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر ، وهم أهل الحق ، فقال : { إن الله يُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } ، وغيَّر الأسلوب فيه ، بإسناد الإدخال إلى الله عزّ وجلّ ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد؛ إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة ، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين ، { يُحلَّون فيها } من التحلية ، وهو التزين ، أي : تحليهم الملائكة بأمره تعالى { من أساورَ } أي : بعض أساور : جمع سوار ، { من ذهبٍ } للبيان ، أي يلبسون أساور مصنوعة من ذهب ، { ولؤلؤًا } ، من جَرَّهُ : عَطَفَهُ على { ذهب } ، أو { أساور } ، ومَنْ نَصَبَهُ : فعلى محل { من أساور } ، أي : ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا ، أو بفعل محذوف ، أي : ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا .
(4/136)

{ ولباسُهُم فيها حريرٌ } : أبريسِمْ ، وغيَّر الأسلوب ، فلم يقل : ويلبسون حريرًا؛ لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غَنِيُّ عن البيان ، إذ لا يمكن عراؤهم عنه ، وإنما المحتاج للبيان : أيُّ لباس هو ، بخلاف الأساور واللؤلؤ ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية ، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات . انظر أبا السعود .
{ وهُدُوا إِلى الطيب من القول } ، وهو كلمة التوحيد : لا إله إلا الله أو : الحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، بدليل قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فَاطِر : 10 ] . { وهُدُوا إِلى صراط الحميد } أي : المحمود ، وهو الإسلام . أو : ألهمهم اللهُ في الآخرة أن يقولوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وهداهم فيها إلى طريق الجنة . وقيل : إلى طريق الوصول إلى الله العزيز الحميد ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد اختصم أهل الظاهر مع أهل الباطن في شأن الربوبية ، فقال أهل الظاهر : الحق تعالى لا يُرى في دار الدنيا ، ولا تُمكن معرفته ، إلا من جهة الدليل والبرهان ، على طريق الإيمان بالغيب . وقال أهل الباطن من أكابر الصوفية : الحق تعالى يُرى في هذه الدار ، كما يرى في تلك الدار ، من طريق العرفان ، على نعت الشهود والعيان ، لكن ذلك بعد موت النفوس وحط الرؤوس لأهل التربية النبوية ، فلا يزال يحاذيه ويسير به ، حتى يقول : ها أنت وربك ، فحينئذ تشرق عليه شموسُ العرفان ، فتُغطى عنه وجود حس الأكوان ، فلا يرى حينئذ إلا المكون ، حتى لو كُلف أن يرى غيره لم يستطع؛ إذ لا غير معه حتى يشهده .
وقال بعضهم : ( مُحال أن تشهده ، وتشهد معه سواه ) . وفي مناجاة الحكم العطائية : " إلهي ، كيف يُسْتَدَلُّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك ، حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غِبْتَ ، حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! " . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : ( أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان ) . وهذه الطريق هي طريق التربية ، لا تنقطع أبدًا ، فمن كفر بها وجحدها قُطعت له ثياب من نار القطيعة ، فيبقى مسجونًا بسرادقات محيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، لا يَرى إلا ظلمة الأكوان ، يُصب من فوق رأسه ، إلى قلبه ، حَرُّ التدبير والاختيار ، وكلما أراد أن يخرج من سجن الأكوان وغم الحجاب ردته حَيْرَةُ الدَّهَشِ ، وهيبة الكبرياء والعظمة والإجلال؛ لأن فكرته مسجونة تحت أطباق الكائنات ، مقيدة بعلائق العوائد والشواغل والشهوات .
(4/137)

ويقال له : ذق عذاب الحريق ، وهو حِرْمانك من شهود التحقيق .
إن الله يدخل الذين آمنوا بطريق الخصوص ، جنات المعارف ، تجري من تحتها أنهار العلوم ، يُحلون فيها بأنواع المحاسن والفضائل ، ويتطهرون من جميع المساوئ والرذائل ، وهُدوا إلى الطيب من القول ، وهو الذكر الدائم بالقلب الهائم ، والمخاطبة اللينة من القلوب الصافية ، وهُدوا إلى طريق التربية والترقية ، حتى وصلوا إلى شهود الحبيب ، الحامد المحمود ، القريب المجيب . حققنا الله بمقامهم بمنِّه وكرمه .
(4/138)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
قلت : خبر { إن } : محذوف ، يدل عليه ما بعده ، أي : الذين كفروا نذيقهم من عذاب أليم؛ لأنه إذا كان الملحِدُ في الحرم مُعَدَّبًا فالجامع بين الكفر والصد أَولى . ومن رفع { سواء } جعله خبرًا مقدمًا . و { العاكف } : مبتدأ . ومن نصبه : جعله مفعولَ { جعل } ، و { العاكف } فاعل به .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الذين كفروا ويَصدون } الناس { عن سبيل الله } ، أي : واستمروا على الصد ، ولذلك حسن عطفه على الماضي ، { و } يصدون أيضًا عن { المسجد الحرام } والدخول فيه ، كأهل مكة مع المسلمين ، { الذي جعلناه للناس } أي : مقامًا ومسكنًا للناس ، كائنًا من كان ، لا فرق فيه بين مكي وآفاقي ، وضعيف وقوي ، حاضر وباد . فإن أُريد بالمسجد الحرام " مكة " ، ففيه دليل على أن دور مكة لا تُباع ، وأن الناس فيها سواء ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها مِلك . وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك وغيره : ليست الدور فيها كالمسجد ، بل هي مُتَمَلَّكَةٌ . وإن أريد به البيت كان نصًا في إباحته لجميع المؤمنين . وهو مجمع عليه .
{ سواءً العاكفُ فيه } أي : مستوٍ المقيم فيه { والباد } ، أي : المسافر من أهل البادية ، { من يُرِدْ فيه } أي : في المسجد ، إحداث شيء { بإِلحادٍ } أي : بسبب ميل عن القصد ، { بظُلم } ، وهما حالان مترادفان ، أي : ومن يرد فيه إحداث شيء؛ مائلاً عن الحق ، ظالمًا فيه ، { نذِقْهُ من عذابٍ أليم } في الآخرة . وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك .
{ و } اذكر يا محمد { إِذْ بوّأنا } : حين هيأنا { لإبراهيم مكانَ البيت } وعيناه له ، حتى بناه في مكانه مسامتًا للبيت المعمور ، حيث كان بناه آدم عليه السلام ، وقد كان رُفع إلى السماء الرابعة ، أيام الطوفان ، وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم اللهُ إبراهيم مكانه ، بريح أرسلها ، يقال لها : الخَجُوح ، فكنست مكان البيت ، وقيل : سحابة على قدر البيت ، وقيل : كلمته ، وقالت له : ابنِ على قَدري . ه . فبناه على أساسه القديم ، وفي ابن حجر : أنه جعل طوله في السماء تسعة أذرع ، ودوره في الأرض ثلاثين ذراعًا بذراعه . وأدخل الحِجْر في البيت ، وكان قبل ذلك لغنم إسماعيل . وبنى الحجارة بعضها على بعض ، أي : بلا تراب ، ولم يجعل له سقفًا ، وحفر له بئرًا ، عند بابه خزانة للبيت ، يُلقي ما يهدى له . ه .
رُوِيَ أن الكعبة الشريفة بُنيت خمس مرات ، إحداها : بنتها الملائكة ، وكانت من ياقوتة حمراء ، ثم رُفعت أيام الطوفان . والثانية : بناها إبراهيم عليه السلام ، وقيل : إن جُرهم كانت بنتها قبله ، ثم هدمت ، ويدل عليه : التجاء عادٍ إليها ، حين نزل بهم القحط . فأرسل الله عليهم الريح ، وكان ذلك قبل إبراهيم عليه السلام ، والثالثة : بنتها قريش ، وقد حضرها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة .
(4/139)

والرابعة : بناها ابن الزبير ، والخامسة : الحجاج .
ثم قال تعالى : { أن لا تُشرك } أي : وقلنا له : ألا تشرك { بي شيئًا } ، بل خلص عملك في بنائها وغيره ، من شوائب حظ النفس ، عاجلاً وآجلاً ، لا طَمَعًا في جزاء ، ولا خوفًا من عقوبة ، بل محبة وشكرًا وعبودية . قال القشيري : أي : لا تلاحظ البيت ولا بنيانك . ه . وقيل : في الآية طعن على من أشرك من قُطَّان البيت ، أي : هذا الشرط كان على أبيكم فمَنْ بعده وأنتم ، فلم تقبلوه ، بل أشركتم وصددتم وألحدتم ، فاستحققتم التوبيخ والذم على سلوككم على غير طريق أبيكم .
{ وطهِّرْ بيتيَ } من الأصنام والأقذار ، { للطائفين } به { والقائمين } للصلاة فيه ، أو المقيمين فيه ، { والركَّع السجود } أي : المصلين ، جمعًا من راكع وساجد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إن الذين كفروا بطريق الخصوصية ، ويصدون الناس عن الدخول فيها ، ويُعوقونهم عن مسجد الحضرة ، الذي جعله للناس محلاً تسكن فيه قلوبهم ، وتعشش فيه أرواحهم . فكل من قصده وباع نفسه وقلبه لله ، وصله ودخله ، وهو محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، محل شهود الحبيب والمساررة مع القريب ، محل نزهة الأفكار في فضاء الشهود والاستبصار ، فمن عاق عنها نُذقه من عذاب أليم . وقوله تعالى : { سواء العاكفُ فيه الباد } ، قال القشيري : فيه إشارة إلى أن التفاوت إنما يكون في الطريق ، وأما بعد الوصول ، فلا تفاوت . ثم إذا اجتمعت النفوس ، فالموضع الواحد مجمعها ، ولكن لكلٍّ حالٌ يُعرف به . ه . قلت : مقام التوحيد الخاص ، وهو الفناء ، هو محل الاجتماع ، وتتفاوت بعد ذلك أذواقهم ومواجيدهم ، وازدياد كشوفاتهم وترقياتهم ، تفاوتًا بعيدًا ، على حسب التفرغ والانقطاع ، والتأهب والاتباع ، حسبما سبقت به القسمة الأزلية .
وقال الورتجبي ، على قوله تعالى : { وإذ بوأنا . . . } الآية : هيأ لخليله وجميع أحبائه بيته ، ودلَّه إلى ما فيه من الكرامات والآيات ، وما ألبسه من أنوار حضرته؛ ليكون وسيلة لعبادته ، ومرآة لأنوار آياته . ه . قلت : الإشارة بالبيت إلى القلب؛ لأنه بيت الرب ، أي : هيأنا لإبراهيم مكان قلبه؛ لمشاهدة أسرار جبروتنا وأنوار ملكوتنا ، ليكون من المُوقنين بشهود ذاتنا ، وقلنا له : لا تشرك بنا شيئًا من السِّوى ، ولا ترى معنا غيرنا ، وطهِّر بيتي ، الذي هو القلب ، من الأغيار والأكدار ، ليكون محلاً للطائفين به من الواردات والأنوار ، والعاكفين فيه من المشاهدات والأسرار ، والركع السجود من القلوب التي تواجهك بالتعظيم والانكسار ، فإنَّ قلبَ العارف كعبة للواردات والأسرار ، ومحل حج قلوب الصالحين والأبرار . وفي بعض الأثر : " يا داود؛ طهر لي بيتًا أسكنه ، فقال : يا رب . . . وأيُّ بيت يسعك؟ فقال : لم يسعني أرضي ولا سمائي . ووسعني قلب عبدي المؤمن " . وفيه عند أهل الحديث كلام . ووسعه للربوبية بالعلم والمعرفة الخاصة . والله تعالى أعلم .
(4/140)

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ . . . }
قلت : { وعلى كل ضامر } : حال معطوفة على حال ، أي : يأتوك حال كونهم رجالاً وركبانًا . و { يأتين } : صفة لكل ضامر؛ لأنه في معنى الجمع . وقرأ عبد الله : " يأتون " ، صفة لرجال . و { رجال } : جمع راجل؛ كقائم وقيام .
يقول الحقّ جل جلاله : لإبراهيم عليه السلام : { وأذِّن في الناس بالحج } أي : نادِ فيهم ليحجوا . رُوي : أنه عليه السلام صعد أبا قبيس ، فقال : يا أيها الناس ، حجوا بيت ربكم ، فأسمعه الله تعالى الأرواح ، فأجاب من قُدِّر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك . { يأتوك } إن أذنت { رجالاً } أي : مشاةً { و } ركبانًا { على كل ضامر } أي : بعير مهزول ، أتعبه بُعدُ الشُقة ، فهزّله ، أو زاد هزاله . وقدّم الرجال على الركبان؛ لفضيلة المشاة ، كما ورد في الحديث { يأتين } تلك الضوامر بركبانها ، { من كل فج } ؛ طريق { عميق } ؛ بعيد . قال محمد بن ياسين : قال لي شيخٌ في الطواف : من أين أنت؟ فقلت : من خُراسان . فقال : كم بينك وبين البيت؟ فقلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة . قال : فأنتم جيران البيت . فقلتُ : وأنت من أين سَعيت؟ فقال : من مسيرة خمس سنوات ، وخرجت وأنا شاب ، فاكتهلت . فقلت : هذه واللهِ هي الطاعة الجميلة ، والمحبة الصادقة ، فضحك . وقال :
زُرْ مَن هَوَيْتَ وإن شطتْ بِكَ الدارُ ... وحالَ من دُونه حُجُبٌ وأستارُ
لا يَمْنََعَنَّكَ بُعْدٌ عنْ زِيارته ... إنَّ المُحب لمنْ يهواه زوَّارُ
{ ليشهدوا منافعَ لهم } أي : يأتوك ليحضروا منافع لهم ، دنيوية ودينية ، لا تُوجد في غير هذه العبادة؛ كالطواف ونظر الكعبة ، وتضعيف أمر الصلاة؛ لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال ، وقد اشتمل الحج عليهما ، مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال ، وقطع الأسباب وقطيعة الأصحاب ، وهجرة البلاد والأوطان ، ومفارقة الأهل والولدان . ولذلك ورد أنه يُكفر الذنوب كلها ، كما في الحديث : " مَنْ حَجَّ هَذا البَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، رَجعَ من ذُنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ "
{ ويذكروا اسمَ الله } عند ذبح الضحايا والهدايا { في أيام معدوداتٍ } ، وهي أيام النحر عند مالك ، وعند الشافعي : اليوم الأول والثاني والثالث؛ لأن هذه هي أيام الضحايا عنده . ولم يجز ذبحها بالليل؛ لقوله : { في أيام } . وقال أبو حنيفة : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ويوم النحر ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه ، وأما الأيام المعدودات ، فهي : الثلاثة بعد يوم النحر - فيوم النحر معلوم لا معدود - ، ورابعه : معدود لا معلوم ، واليومان بعده : معلومان ومعدودان .
(4/141)

فيذكروا اسم الله { على ما رزقهم } أي : على ذبح ما رزقهم { من بهيمة الأنعام } ، وهي الإبل والبقر والغنم ، { فكُلُوا منها } ؛ من لحومها ، والأمر : للإباحة ، ولإزاحة ما كانت عليه الجاهلية من التحرج .
قال ابن جزي : ويُستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ، ويتصدق بالأكثر . ه . وقال النسفي : ويجوز الأكل من هَدي التطوع والمتعة والقِران؛ لأنه دم نسك؛ لأنه أشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا . ه . وهو حنفي ، وفي مذهب مالك تفصيل يطول ذكره .
{ وأطعموا البائسَ } ، وهو الذي أصابه البؤس ، أي : ضرر الحاجة ، وقيل : المتعفف ، وقيل : الذي يظهر عليه أثر الجوع ، { الفقير } : المحتاج الذي أضعفه الإعسار .
{ ثم لْيَقْضُوا تَفَثَهم } أي : ليزيلوا عنهم أدرانهم ، قاله نفطويه . وقيل : قضاء التفث : قصُ الشارب والأظافر ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، وسائر خصال الفطرة . وهذا بعد أن يُحلوا من الحج؛ التحلل الأصغر بالنحر . { ولْيُوفُوا نذورَهم } أي : ما ينذرونه من البر في الحج وغيره ، وقيل : مواجب حجهم من فعل أركانه ، { وليَطّوفوا } طواف الإفاضة ، الذي هو ركن لا يُجبر بالدم ، وبه يتم الحج ، ويكون { بالبيت العتيق } : القديم؛ لأنه أول بيت وضع للناس ، بناه آدم ثم جدَّده إبراهيم ، أو الكريم ، ومنه : عتاق الخيل لكرائمها ، أو : لأنه عتق من الغرق ، أو من أيدي الجبابرة ، فكم من جبار رام هدمه فمنعه الله منه . وقيل : عتيق لم يملكه أحد قطُّ ، وهو مَطاف أهل الغبراء ، كما أن البيت المعمور مطاف أهل السماء .
{ ذلك } أي : الأمر ذلك ، وهذا من فضل الكلام ، كما يقدم الكاتبُ جملة من الكلام ، ثم يقول : هذا ، وقد كان كذا وكذا وكذا ، إذا أراد أن يخرج من كلام إلى كلام آخر ، وإن كان له تعلق بما قبله . والكلام هنا متصل بتعظيم حرمات البيت ، فقال : { ومن يعظِّم حُرمات الله } ، جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من الشريعة ، فيدخل ما يتعلق بالحج دخولاً أوليًا ، وقيل : حرمات الله : البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، والبلد الحرام ، والشهر الحرام . وقيل : المحافظة على الفرائض والسنن واجتناب المعاصي ، { فهو خيرٌ له } أي : فالتعظيم خير له ثوابًا { عند ربه } ، ومعنى التعظيم : العلم بوجوب مراعاتها ، والعمل بموجبه ، والاهتمام بشأنه والتأدب معه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم } ، قال القشيري : أي : حوائجهم ، ويحققوا عهودهم ، ويُوفوا نذورهم فيما عقدوه مع الله بقلوبهم ، فَمَنْ كان عقدُه التوبةَ؛ فوفاؤه ألاَّ يرجعَ إلى العصيان ، ومَنْ كان عَهْدُه اعتناقَ الطاعةِ ، فَشَرْطُ وفائه ترك تقصيره ، ومن كان عهدُه ألاَّ يرجع إلى طلب مقامٍ وتطلع إكرامٍ ، فوفاؤه استقامته على الجملة ، التي دخل عليها في هذه الطريق ، بألا يرجع إلى استعجال نصيبٍ واقتضاءِ حظ .
(4/142)

ه . قلت : ومن كان عقده الوصول إلى حضرة القدس ومحل الأنس ، فوفاؤه ألا يرجع عن صحبة من سقاه خمرة المحبة ، وحمله إلى درجة المعرفة . ثم قال : ومَنْ عاهد الله بقلبه ، ثم لا يفي بذلك ، فهو من جملة قول الزور . ه . وهو أيضًا ليس بمُعَظِّمٍ لحرمات الله ، حيث طلبها ثم تهاون وتركها . والله تعالى أعلم .
ولمّا كان الإحرام يُحرم لحوم الصيد ، فربما يتوهم أن اللحوم كلها تجتنب ، رفعَ ذلك الإبهام ، فقال :
{ . . . وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأُحِلتْ لكم الأنعامُ } أي : أكلها ، { إِلا ما يُتلىَ } أي : سيتلى { عليكم } منها في آية المائدة ، كالميتة والموقوذة وأخواتهما . والمعنى : إن الله قد أحل لكم الأنعام إلاَّ ما بيَّن في كتابه ، فحافظوا على حدوده ، ولا تُحرِّموا شيئًا مما أحلَّ لكم ، كتحريم البحيرة وما معها ، ولا تُحلوا ما حرَّم ، كإحلال المشركين الميتة والموقوذة وغيرهما .
ثم نهى عن الأوثان التي كانوا يذبحون لها ، فقال : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ؛ لأن ذلك من تعظيم حرمات الله ، و { من } : للبيان ، أي : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان . والرجس : كل ما يستقذر من الخبث ، وسمى الأوثان رجسًا على طريقة التشبيه ، أي : فكما تنفرون بطباعكم من الرجس ، فعليكم أن تنفروا عنها . والمراد : النهي عن عبادتها ، أو عن الذبح تقربًا لها . { واجتنبوا قولَ الزُّور } ، وهو تعميم بعد تخصيص ، فإنَّ عبادة الأوثان رأس الزور ، ويدخل فيه الكذب والبهتان وشهادة الزور . وقيل : المراد شهادة الزور فقط ، لِمَا رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " عَدلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللهِ تعالى " ثلاثًا ، وتلى هذه الآية . والزور من الزّور ، وهو الانحراف والميل؛ لأن صاحبه ينحرف عن الحق ، ولا شك أن الشرك داخل في الزور؛ لأن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة ، وهو باطل وزور .
ثم قال تعالى : { حنفاءَ لله } : مائلين عن كل دين زائغ إلى دين الحق ، مخلصين لله ، { غير مشركين به } شيئًا من الأشياء ، { ومن يُشرك بالله } ، أظهر الاسم الجليل؛ لإظهار كمال قبح الشرك ، { فكأنما خَرَّ } : سقط { من السماء } إلى الأرض؛ لأنه يسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر . وقيل : هو إشارة إلى ما يكون له حين يصعد بروحه عند الموت ، فتطرح من السماء إلى الأرض . قاله ابن البنا . { فتخطفه الطير } أي : تتناوله بسرعة ، فالخطف والاختطاف : تناول الشيء بسرعة؛ لأن الأهواء المردية كانت توزع أفكاره ، { أو تَهْوِي به الريحُ } أي : تسقطه وتقذفه . والهوى : السقوط . { في مكان سحيق } : بعيد؛ لأن الشيطان قد طرحه في الضلال والتحير الكبير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : جعل الحقُّ تعالى شكرَ النعم أمرين : طهارة الباطن من شرك الميل إلى السِّوى ، ولسانه من زور الدعوى ، وهو الترامي على مراتب الرجال قبل التحقق بها ، حنيفًا موحدًا ، شاكرًا لأنعمه يجتبيه ربه ، ويهديه إلى صراط مستقيم . ومن يشرك بالله؛ بأن يُحب معه غيره ، فقد سقط عن درجة القرب والتحقيق ، فتخطفه طيور الحظوظ والشهوات ، وتهوي به ريح الهوى ، في مكان سحيق . والعياذ بالله .
(4/143)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } أي : الأمر ذلك ، أو امتثلوا ذلك ، { ومن يُعَظِّمْ شعائرَ الله } أي : الهدايا ، فإنها معالم الدين وشعائره تعالى ، كما يُنبئ عنه : { والبدن جعلناها لكم من شعائر الله } وتعظيمها : اعتقاد التقرب بها ، وأن يختارها سِمَانًا حسانًا غالية الأثمان ، رُوي " أنه صلى الله عليه وسلم أَهْدَى مِائَةَ بَدَنَةِ ، فِيهَا جَمَلٌ لأَبِي جَهْلٍ ، في أنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَب " . وأن عمر رضي الله عنه - أهدى نجيبة طُلبت منه بثلاثمائة دينار - . وقيل : شعائر الله : مواضع الحج ، كعرفة ومنى والمزدلفة . وتعظيمها : إجلالها وتوقيرها ، والتقصد إليها . وقيل : الشعائر : أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها : القيام بها ومراعاة آدابها . { فإِنها } أي : فإن تعظيمها { من تقوى القلوب } أي : من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات . أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب؛ لأنها مراكز التقوى .
{ لكم فيها منافع } ؛ من الركوب عند الحاجة ، ولبنها عند الضرورة ، { إِلى أجل مسمى } ؛ إلى أن تُنحر . ومن قال : شعائر الله : مواضع الحج ، فالمنافع : التجارة فيها والأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة . { ثم مَحِلُّها } منتهية { إِلى البيت العتيق } ، قال ابن جزي : من قال : إن الشعائر الهدايا ، فمحلها موضع نحرها ، وهي مِنى ومكة . وخصّ البيت بالذكر؛ لأنه أشرف الحرم ، وهو المقصود بالهدي . و " ثم " ، على هذا ، ليست للترتيب في الزمان؛ لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجمل . ومن قال : إن الشعائر مواضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم ، أي : آخر ذلك كله : الطواف بالبيت ، أي : طواف الإفاضة؛ إذ به يحل المحرم . ه . أي : محل شعائر الحج كلها تنتهي إلى الطواف بالبيت ، طواف الإفاضة . ومثله في الموطأ .
{ ولكلِّ أمة } ؛ جماعة مؤمنة قبلكم ، { جعلنا منسَكًا } أي : مُتَعبدًا وقربانًا يتقربون به إلى الله - عزّ وجلّ - والمنسك - بالفتح - : مصدر ، وبالكسر : اسم موضع النُسك ، أي : لكلٍّ حعلنا عبادة يتعبدون بها ، أو موضع قربان ، يذبحون فيه مناسكهم ، { ليذكروا اسمَ الله } دون غيره ، { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } أي : عند نحرها وذبحها ، { فإِلهكم إِلهٌ واحدٌ } أي : اذكروا على الذبائح اسم الله وحده؛ فإن إلهكم إله واحد ، { فله أسلِمُوا } أي : فإذا كان إلهكم إلهًا واحدًا؛ فأخلصوا له التقرب ، أو الذكر خاصة ، واجعلوه له سالمًا ، لا تشوبوه بإشراك .
{ وبشر المخبتين } ؛ المطمئنين بذكر الله ، أو المتواضعين ، أو المخلصين ، فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم . والخَبْتُ : المطمئن من الأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا . وقيل : تفسيره ما بعده ، وهو قوله : { الذين إِذا ذُكرَ اللهُ وجِلَتْ قلوبُهم } : خافت منه؛ هيبة؛ لإشراق أشعة جلاله عليها .
(4/144)

{ والصابرين على ما أصابهم } من مشاق التكاليف ومصائب الزمان والنوائب ، { والمقيمي الصلاة } في أوقاتها ، { ومما رزقناهم يُنفقون } في وجوه الخيرات .
{ والبُدْنَ جعلناها لكم من شعائر الله } أي : من أعلام دينه ، وأضافها إلى نفسه؛ تعظيمًا لها ، وهي : جمع بدنة ، سميت به؛ لعظم بدنها ، ويتناول الإبل والبقر والغنم . { لكم فيها خيرٌ } أي : منافع دينية ودنيوية ، النفع في الدنيا ، والأجر في العقبى . { فاذكروا اسم الله عليها } بأن تقولوا عند ذبحها : بسم الله ، اللهم منك وإليك . حال كونها { صوافَّ } أي : قائمات ، قد صففن أيديهن وأرجلهن . { فإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } : سقطت على الأرض ، وسكنت حركتها ، من وجب الحائط وجبة : سقط ، وهي كناية عن الموت . { فكُلُوا منها } إن شئتم { وأطعِمُوا القانعَ } : السائل ، مِنْ : قنع إليه قنوعًا : إذا خضع ، { والمُعْتَرَّ } ؛ الذي يُعَرِّضُ ولا يسأل . وقيل : القانع : الراضي بما عنده وبما يُعطي من غير سؤال ، والمعترَّ : المتعرض للسؤال . { كذلك سخرناها لكم } أي : كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أي : ذللناها لكم ، مع قوتها وعظم أجرامها؛ لتتمكنوا من نحرها ، { لعلكم تشكرون } أي : لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
{ لن ينال اللهَ لحومُها } المُتَصَدَّقُ بها ، { ولا دماؤها } المهراقة بالنحر ، أي : لن يصل إلى الله اللحم والدم ، { ولكن ينالُه التقوى منكم } ؛ فإنه هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل الثواب . والمراد : لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى ، أي : الإخلاص لله ، وقصد وجه الله ، بما تذبحون وتنحرون من الهدايا . فعبَّر عن هذا المعنى بلفظ { ينال } ؛ مبالغةً وتأكيدًا ، كأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله ، وإنما يصل إليه التقوى منكم ، وقيل : كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قربانهم ، فهم المسلمون أن يفعلوا مثل ذلك ، فنزلت الآية .
{ كذلك سخرها لكم } أي : البدن ، وهو تكرير للتذكير والتعليل ، لقوله : { لتكبِّروا الله على ما هداكم } أي : لتعرفوا عظمة الله ، باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره ، فتوحدوه بالكبرياء؛ شكرًا على هدايته لكم . وقيل : هو التكبير عند الذبح { وبشر المحسنين } : المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم . وبالله التوفيق .
الإشارة : أعظم شعائر الله التي يجب تعظيمها أولياء الله ، الدالين على الله ، ثم الفقراء المتوجهون إلى الله ، ثم العلماء المعلمون أحكام الله ، ثم الصالحون المنتسبون إلى الله ، ثم عامة المؤمنين الذين هم من جملة عباد الله . ويجب تعظيم مَنْ نصبه الله لقيام خطة من الخطط؛ لإصلاح العباد؛ كالسلاطين ، ولو لم يعدلوا ، والقضاة والقواد ، والمقدمين لأمور العامة ، فتعظيم هؤلاء كله من تقوى القلوب . ويدخل في ذلك : الأماكن المعظمة؛ كالمساجد والزوايا ، وأما الفقير فَيُعَظِّمُ كل ما خلق الله حتى الكلاب ، ويتأدب مع كل مخلوق .
وقوله تعالى : { لكم فيها منافع } أي : لكم في هذه التجليات ، إن عظمتموها وعرفتم الله فيها ، منافع ، ترعَوْن من أنوارها وتشربون من خمرة أسرارها ، فتزدادوا معرفة وتكميلاً ، إلى أجل مسمى ، وهو مقام التمكين ، فحينئذ تواجهه أنوار المواجهة ، فتكون الأنوار له ، لا هو للأنوار ، لأنه لله لا لشئ دونه ،
(4/145)

{ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [ الأنعام : 91 ] . ثم محل هذه الأنوار إلى بيت الحضرة ، فحينئذ يستغني بالله عن كل ما سواه . وقوله تعالى : { ولكل أمة جعلنا منسكًا } أي : لكل عصر جعلنا تربية مخصوصة ، والوصول واحد؛ ولذلك قال : { فإلهكم إله واحد } . وقال القشيري : الشرائعُ مختلفةٌ فيما كان من المعاملات ، متفقة فيما كان من جملة المعارف . ثم قال : ذكّرهم الله بأنه هو الذي أمرهم ويُثيبهم ، { فله أسلموا } : اسْتَسلموا لحكمِه ، من غير استكراهٍ من داخل القلب ولا من اللفظ . ه .
وقوله تعالى : { والبدن . . . } الآية . قال الورتجبي : فيه إشارة إلى ذبح النفس بالمجاهدات ، وزمها بالرياضات عن المخالفات ، وفناء الوجود للمشاهدات ، حتى لا يبقى للعارف في طريقه حظ من حظوظه ، ويبقى لله مفردًا من جميع الخلائق . ه .
وفي قوله تعالى : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } ، إشارة إلى أن النفس لا تموت إلا بصحبة من ماتت نفسه ، فلا تموت النفس مع صحبة أهل النفوس الحية أبدًا . فإذا ماتت وسقطت جنوبها ، وظفرتم بها؛ فكلوا من أنوار أسرارها وعلومها؛ لأن النفس ، إذا ماتت ، حييت الروح ، وفاضت عليها العلوم اللدنية ، فكلوا منها ، وأطعموا السائل والمتعرض لنفحاتكم . وقوله تعالى : { لن ينال الله لحومها . . . } الآية ، قال الورتجبي : الإشارة فيه إلى جميع الأعمال الصالحة من العرش إلى الثرى ، لا يلحق الحق بحق المراد منه ، ولكن يصل إليه قلب جريح من محبته ، ذُبح بسيف شوقه ، مطروح على باب عشقه . قال سهل في قوله : { ولكن يناله التقوى } : هو التبري والإخلاص . ه .
قال القشيري : لا عِبْرةً بإظهار الأفعال ، سواء كانت بدنيةً أو ماليةً صِرْفًا ، أو مما يتعلق بالوجهين ، ولكن العبرة بقرائنها من الإخلاص ، فإذا انضَافَ إلى الجوارح إخلاص القصود ، وتَجَرَّدَتْ عن ملاحظة أصحابِها الأغيار ، صَلُحَتْ للقبول ، وينال صاحبها القرب ، بشهود الحق بنعت التفرد . ثم قال : { لتكبروا الله على ما هداكم } وأرشدكم إلى القيام بحقِّ العبودية على قضية الشرع ، { وبشر المحسنين } ، الإحسان ، كما في الخبر : " أنْ تعبد الله كَأنك تراه " وأمارةُ صحته : سقوطُ تعب القلب عن صاحِبهِ ، فلا يستثقلُ شيئًا ولا يتبرم بشيءٍ . ه . قلت : خواطر الاستثقال والتبرم لا تضر؛ لأنه طبع بشري ، وإنما يضر ما سكن في القلب .
وقال في الإحياء : ليس المقصود من إراقة دم القربان الدم واللحم ، بل ميل القلب عن حب الدنيا ، وبذلُها؛ إيثارًا لوجه الله تعالى ، وهذه الصفة قد حصلت عند جزم النية والهمة ، وإن عاق عن العمل عائق . فلن ينال الله لحومُها ولا دماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ، والتقوى ها هنا عمل القلب ، من نية القربة ، وإرادة الخير ، وإخلاص القصد لله ، وهو المقصود ، وعمل الظاهر مؤكد له ، ولذلك كانت نية المؤمن أبلغ من عمله؛ فإنَّ الطاعات غذاء القلوب ، والمقصود : لذة السعادة بلقاء الله تعالى ، والتنعم بها ، وذلك فرع محبته والأنس به ، ولا يكون إلاّ بذكره ، ولا يفرغ إلا بالزهد في الدنيا ، وترك شواغلها والانقطاع عنها . ه .
(4/146)

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إِن الله يُدافع } يدفع غائلة المشركين { عن الذين آمنوا } ؛ فلا يقدرون أن يعوقوهم عن شيء من عبادة الله ، بل ينصرهم ويؤيدهم كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ غَافر : 51 ] ، وصيغة المفاعلة : إمَّا للمبالغة ، أو للدلالة على تكرير الدفع ، فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين ، فيبقى تكرره من جانب واحد ، كما في المحارسة ، أي : يبالغ في دفع ضرر المشركين وشوكتهم ، التي من جملتها صدهم عن سبيل الله ، مبالغةَ مَن يغالَبُ فيه ، أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى ، بحسب تجرد قصد الإضرار بالمسلمين ، كما في قوله : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المَائدة : 64 ] . وقرأ المكي والبصري : " يدفع " .
ثم علّل ذلك الدفع بقوله : { إِن الله لا يُحب كل خَوّانٍ كفور } أي : لأنَّ الله يبغض كل خوان في أمانة الله تعالى ، وهي : أوامره ونواهيه ، ومن أعظمها : الإيمان بالله ورسوله . أو في جميع الأمانات ، كفورٌ لنعم الله . والمعنى : إن الله يدافع عنهم؛ لأنه يبغض أعداءهم ، وهم : الخونة الكفرة ، الذين يخونون الله والرسول ، ويخونون أماناتهم . وصيغة المبالغة فيها؛ لبيان أنهم كذلك فيهما ، لا لتقييد البعض بغاية الجناية؛ فإن الخائن ممقوت مطلقًا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إن الله يدفع عن أوليائه ، والمتوجهين إليه ، كل عائق وشاغل ، وغائلة كل غائل ، الذين حازوا ذروة الإيمان ، وقصدوا تحقيق مقام الإحسان . فمن رام صدّهم عن ذلك فهو خائن كفور ، { إن الله لا يحب كل خَوّانٍ كفور } .
(4/147)

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قلت : { إلا أن يقولوا } ، قيل : منقطع ، وقال الزمخشري : في محل الجر ، بدل من حق . ه . وهو على طريق قول الشاعر :
لاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِراعِ الكَتَائِبِ
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أُذِنَ } أي : رُخص وشرع ، أو أَذن اللهُ { للذين يُقاتَلون } أي : يُقاتلهم الكفارُ المشركون ، وحذف المأذون فيه؛ لدلالة " يُقاتَلون " عليه ، أي : في قتالهم ، { بأنهم ظُلموا } أي : بسبب كونهم مظلومين ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديدًا ، وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروبٍ ومشجوج ، فيتظلمون إليه ، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصبروا؛ فإني لم أومر بالقتال " حتى هاجر ، فنزلت هذه الآية . وهي أول آية نزلت في الجهاد ، بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية .
{ وإِنّ الله على نصرهم لقديرٌ } . وعدٌ لهم بالنصر ، وتأكيد لِما مرّ من العِدَة الكريمة بالدفع ، وتصريح بأن المراد ليس مجرد تخليصهم من يد المشركين ، بل بغلبتهم وإظهارهم عليهم . وتأكيده بكلمة التحقيق . واللام؛ لمزيد من تحقيق مضمونه ، وزيادة توطين نفوس المؤمنين .
ثم وصف الذين أَذن لهم ، أو فسرهم ، أو مدحهم بقوله : { الذين أُخرجوا من ديارهم } ، يعني مكة : { بغير حق } ؛ بغير ما يوجب إخراجهم { إلا أن يقولوا ربنا الله } أي : بغير موجب سوى التوحيد ، الذي ينبغي أن يكون موجبًا للإقرار لا للإخراج . ومثله : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله } [ المَائدة : 59 ] .
{ ولولا دفعُ اللهِ الناسَ } : لولا أن يدفع الله الناس { بعضهم ببعض } ؛ بتسليط المؤمنين على الكافرين في كل عصر وزمان ، وإقامة الحدود وكف المظالم ، { لهُدِّمت } أي لخربت؛ باستيلاء الكفرة على الملل ، { صَوَامِعُ } : جمع صومَعة - بفتح الميم - ، وهي : متعبد النصارى والصابئين منهم ، ويسمى أيضًا الدير . وسُمي بها موضع الأذان من الإسلام : { وَبِيَعٌ } : جمع بيعة - بكسر الباء - : كنائس النصارى ، { وصلوات } : كنائس اليهود ، سميت بما يقع فيها ، وأصلها : صلَوتا بالعبرانية ، ثم عُربت ، { ومساجد } للمسلمين ، { يُذْكَرُ فيها اسمُ الله كثيرًا } أي : ذكرًا كثيرًا ، أو وقتًا كثيرًا ، صفة مادحة للمساجد ، خُصت بها؛ دلالةً على فضلها وفضل أهلها . وقيل يرجع للأربع ، وفيه نظر؛ فإنَّ ذكر الله تعالى في الصوامع والبيع والكنائس قد انقطع بظهور الإسلام ، فَقَصْدُ بيانِه ، بعد نسخ شرائعها مما لا يقتضيه المقام ، ولا ترتضيه الأفهام . وقدمت الثلاثة على المساجد؛ لتقدمها وجودًا ، أو لقربها من التهديم .
{ ولينصرنّ اللهُ مَن ينصره } أي : وتالله ، لينصرن الله من ينصر دينه ونبيه - عليه الصلاة والسلام - وأولياءه . ومن نصرِه : إشهاره وإظهاره ، وتعليمه لمن لا يعلَمه ، وإعزاز حامل لوائه من العلماء والأولياء .
(4/148)

وقد أنجز الله وعده ، حيث سلط المهاجرين والأنصارعلى صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم ، وأورثهم أرضهم وديارهم ، { إِن الله لقوي عزيز } : غالب على ما يريد ، ومن جملته : نصرهم وإعلاؤهم .
ثم وصف الذين أُخرجوا من ديارهم بقوله : { الذين إِن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتُوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونَهوا عن المنكر } قلت : الصواب ما قاله مكي : أنه بدل مِن : " مَن ينصره " ، في محل نصب . قيل : المراد بهم : الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقيل : الأمة كلها . وقيل الخلفاء الأربعة؛ لأنهم هم الذين مُكِّنوا في الأرض بالخلافة ، وفعلوا ما وصفهم الله به . وفيه دليل صحة أمرِ الخلفاء الراشدين؛ لأن الله - عزّ وجلّ - أعطاهم التمكين ، ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة . وعن عثمان رضي الله عنه : ( هذا ، والله ، ثناء قبل بلاء ) ، يعني : أن الله تعالى أثنى عليهم قبل ظهور الشر من الهرج والفتن فيهم . { ولله عاقِبةُ الأمور } ؛ فإنَّ مرجعها إلى حكمه وتقديره فقط . وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته .
الإشارة : إذا اتصل الإنسان بشيخ التربية فقد أذن له في جهاد نفسه ، إن أراد الوصول إلى حضرة ربه؛ لأنها ظالمة تحول بينه وبين سعادته الأبدية . وإن الله على نصرهم لقدير؛ لأن هِمَّةَ الشيخ تحمله وتنصره بإذن الله . وأما إن لم يتصل بشيخ التربية ، فإن مجاهدته لنفسه لا تُصيب مَقاتلها؛ لدخولها تحت الرماية ، فلا يُصيبها ضربه ، وأما الشيخ؛ فلأنه يريه مساوئها ويعينه على قتلها .
وقوله تعالى : { الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق } ؛ هم الذين أُمروا بقتل نفوسهم ، فإنهم إذا خرقوا عوائد نفوسهم ، وخرجوا عن عوائد الناس ، رفضوهم وأنكروهم ، وربما أخرجوهم من ديارهم ، فقلَّ أن تجد وليًا بقي في وطنه الأول ، وما نقموا منهم وأخرجوهم إلا لقصدهم مولاهم ، وقولهم : ربُّنا الله دون شيء سواه ، فحيث خرجوا عن عوائدهم وقصدوا مولاهم ، أنكروهم وأخرجوهم من أوطانهم ، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض؛ بأن شفع خيارهم في شرارهم ، لهدمت دعائم الوجود؛ لأنَّ من آذى وليًا فقد آذن بالحرب .
قال القشيري : { ولولا دفع الله الناس } ، أي : يتجاوز عن الأصاغر لِقَدْرِ الأكابر؛ استبقاء لمنازل العبادة ، تلك سُنَّة أجراها . ثم قال : { الذين إن مكّناهم في الأرض } ، أي : لم يشتغلوا في ذلك بحظوظٍ ، ولكن قاموا لأداء حقوقنا . ه .
(4/149)

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن يُكذبوك } يا مُحمد ، أي : أهل مكة ، فلا تحزن؛ فلست بأول من كُذب ، { فقد كَذَّبت قبلهم } أي : قبل قومك { قومُ نوح } نوحًا ، { وعادٌ } هودًا ، { وثمودُ } صالحًا ، { وقومُ إِبراهيمَ } إبراهيم ، { وقومُ لوطٍ } لوطًا ، { وأصحابُ مدينَ } شعيبًا ، { وكُذِّب موسى } ؛ كذَّبه فرعونُ والقبط . ولم يقل : وقوم موسى؛ لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه القبطُ . أو : كأنه لمَّا ذكر تكذيب كلُّ قوم رسولهم ، قال : وكُذِّب موسى ، مع وضوح آياته وظهور معجزاته ، فما ظنك بغيره؟ { فأمليتُ للكافرين } : أمهلتهم وأخرت عقوبتهم ، { ثم أخذتُهم } : عَاقَبْتُهم على كفرهم ، أي : أخذت كل فريق من فِرَقِ المكذبين ، بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله ، { فكيف كان نكير } أي : إنكاري وتغييري؛ حيث أبدلتهم بالنعم نقمًا ، وبالحياة هلاكًا ، وبالعمارة خرابًا ، فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة .
{ فكأيِّن من قريةٍ أهلكناها } أي : كثيرًا من القرى أهلكناها وخربناها بإهلاك أهلها ، { وهي ظالمةٌ } أي : والحال أنها ظالمة بالكفر والمعاصي ، { فهي خاوية } : ساقطة على { عروشها } ، من خوى النجم : سقط . والمعنى أنها ساقطة على سقوفها ، أي : خربت سقوفُها على الأرض ، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف . ويجوز أن يكون { على عروشها } : خبرًا بعد خبر ، أي : فهي خالية من السكان ، وهي على عروشها ، أي : قائمة مشرفة على السقوف الساقطة . { وبئرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : وكم من بئر متروكة مهملة في البوادي والحواضر ، لا يستسقى منها؛ لهلاك أهلها مع توفير مائها ، { وقصْرٍ مَشيدٍ } : مرفوع البنيان ، من شاد البنيان : إذا رفعه ، أو مجصّص بالشيد ، أي : الجص ، أي : مبنيًا بالشيد والجندل .
وقال الضحاك : كانت هذه البئر المعطلة بحضرموت ، في بلدة يقال لها : حاضوراء ، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح ، ونجوا من العذاب ، أتوا حضرموت ، ومعهم صالح ، فلما حضروا ذلك الموضع ، مات صالح ، فسُمي حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضره مات ، فبنوا حاضوراء ، وقعدوا على هذه البئر ، فأقاموا دهرًا طويلاً ، وتناسلوا حتى كثروا ، ثم عبدوا الأصنام وكفروا ، فأرسل الله إليهم نبيًا يقال له : " حنظلة بن صفوان " ، فقتلوه فأهلكهم الله ، وعطلت بئرهم وخربت قصورهم . ه .
وحاصل المعنى : وكم قرية أهلكناها ، وكم بئر عطلناها عن سقاتها ، وقصر مشيد أخليناه عن ساكنه ، أي : أهلكنا البادية والحاضرة جميعًا ، فخلت القصور عن أربابها ، والآبار عن روادها . فالأظهر أن البئر والقصر على العموم .
الإشارة : ما سلّى به الرسل - عليهم السلام - تسلى به الأولياء - رضوان الله عليهم - فتكذيب أهل الخصوصية سُنَّة ماضية ، غير أن مُكذبي الرسل يُعاجَلون بالعقوبة ، ومكذبي الأولياء يعاقبون بالبعد والحجاب . وقال القشيري : { وبئر معطلة } ، الإشارة إلى العيون المفجرة من بواطنهم ، { وقصر مشيد } ؛ الإشارة إلى تعطيل أسرارهم عن ساكنيها ، من الهيبة والأنس وسائر المواجيد . ه . قلت : وكأنه فسر القرية بالقلب ، وهلاكه : خلاؤه من نور التوحيد ، فقلوب الغافلين خاوية على عروش عقولهم ، المطموس نورها ، وعيون بواطنهم معطلة من الفكرة ، وأسرارهم خاربة من نور النظرة . والله تعالى أعلم .
(4/150)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
قلت : { أفلم } : الفاء عطف على مقدار؛ أي أَغفلوا فلم يسيروا فيعتبروا ، { فإنها } : ضمير القصة ، أو مبهم يُفسره ما بعده . و { لن يخلف الله وعده } : حالية ، أي : ينكرون مجيء العذاب الموعود ، والحال : أنه تعالى لا يخلف وعده ، أو اعتراضية مُبينة لما ذكر ، و { إنَّ يومًا } : استئنافية ، إن كانت الأولى حالية ، ومعطوفة ، إن كانت اعتراضية سيقت لبيان خطئهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أَفَلَمْ يسيروا في الأرض } فيروا مصارعَ من أهلكهم اللهُ بكفرهم ، ويشاهدوا آثارهم الدارسة وقصورهم الخالية ، وديارهم الخربة ، فيعتبروا . وهو حث لهم على السفر ليشاهدوا ذلك . { فتكون لهم } ؛ بسبب ما شاهدوه من مظان الاعتبار ومواطن الاستبصار { قلوبٌ يعقلون بها } ما يجب أن يُعقل من التوحيد ونحوه ، { أو آذانٌ يسمعون بها } ما يجبُ أن يُسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورُهم من الناس؛ فإنهم أعرف بحالهم . قال ابن عرفة : لما تضمن الكلام السابق إهلاك الأمم السالفة ، وبقيت آثارهم خرابًا ، عقبه بذم هؤلاء في عدم اتعاظهم بذلك . والسير في الأرض : إمَّا حسي ، أو معنوي باعتبار سماع أخبارها من الغير ، أو قراءتها في الكتب . فقوله : { فتكون لهم قلوب } : راجع للسير الحسي ، وقوله : { أو آذان } للسير المعنوي . ه .
{ فإنها لا تعمى الأبصارُ } الحسية ، { ولكن تعمى القلوبُ } عن التفكر والاعتبار ، أي : ليس الخلل في مشاعرهم ، ولكن الخلل في عقولهم ، باتباع الهوى والانهماك في الغفلة . وذكر الصدور؛ للتأكيد ، ونفي توهم التجوز؛ لأن قلب الشيء : لبه ، فربما يقال : إن القلب يراد به هذا العضو ، ولكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه ، وعينان في قلبه ، وتسمى البصيرة ، فإن انفتح ما في القلب ، وعمي ما في الرأس؛ فلا يضر ، وإن انفتح ما في الرأس وانطمس ما في القلب لم ينفع ، والتحق بالبهائم ، بل هو أضل .
ثم ذكر علامة عمى القلوب ، وهو الاستهزاء بالوعد الحق ، فقال : { ويستعجلونك بالعذاب } المتوعد به؛ استهزاء وإنكارًا وتعجيزًا ، { ولن يخلف الله وعده } أي : يستعجلون به ، والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدًا ، وقد سبق الوعد به ، فمن لا يخلف وعده فلا بد من مجيئه ، ولو بعد حين . { وإِن يومًا عند ربك كألفِ سنةٍ مما تَعدُّون } أي : كيف يستعجلونك بعذاب من يومْ واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم؛ لأن أيام الشدة طُوال . وقيل : تطول حقيقة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " يَدْخُلُ الفُقَرَاءُ الجَنَّةَ قِبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْم ، وذَلِكَ خَمْسِمِائِةِ سَنَةٍ "
{ وكأيِّن من قريةٍ أمليت لها وهي ظالمةٌ ثم أخذتُها } أي كثيرًا من أهل قرية كانوا ظالمين مثلكم ، قد أمهلتهم حينًا وأمليت لهم ، كما أمليت لكم ، ثم أخذتهم بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال .
(4/151)

والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة . { وإِليَّ المصيرُ } أي : المرجع إليَّ ، فلا يفوتني شيء من أمر المستعجلين وغيرهم ، أو : إلى حكمي مَرجع الكل ، لا إلى غيري ، لا استقلالاً ولا شركة ، فأفعل بهم ما يليق بأعمالهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : عمى القلوب هو انطماس البصيرة ، وعلامة انطماسها أمور : إرسال الجوارح في معاصي الله ، والانهماك في الغفلة عن الله ، والوقيعة في أولياء الله ، والاجتهاد في طلب الدنيا مع التقصير فيما طلبه منه الله . وفي الحِكَم : " اجتهادك فيما ضمن لك ، وتقصيرك فيما طلب منك ، دليل على انطماس البصيرة منك " . وعلامة فتحها أمور : المسارعة إلى طاعة الله ، واستعمال المجهود في معرفة الله ، بصحبة أولياء الله ، والإعراض عن الدنيا وأهلها ، والأنس بالله ، والغيبة عن كل ما سواه . واعلم أن البصر والبصيرة متقابلان في أصل نشأتهما ، فالبصر لا يُبصر إلا الأشياء الحسية الحادثة ، والبصيرة لا تُبصر إلا المعاني القديمة الأزلية ، فإذا انطمست البصيرة كان العبد مفروقًا عن الله ، لا يرى إلا الأكوان الظلمانية الحادثة . وفي ذلك يقول المجذوب رضي الله عنه .
مَنَ نَظَرَ الكَوْن بِالْكَوْنِ غَرَّهُ في عمى البصيرة ... ومن نظر الكون بالمكون صادق علاج السريرة
وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر ، فانعكس نور البصر إلى البصيرة ، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية ، المفنية للأواني الحادثة ، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون . وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله ، يقدحها له بمرود التوحيد ، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال ، ثم توحيد الصفات ، ثم توحيد الذات ، حتى تنفتح . فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد ، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق ، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله : " شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق ، لا عدمك ولا وجودك . كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان " . فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون ، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون . وفي ذلك يقول الحلاج :
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ ... تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ ... إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي ... تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا
وقال الورتجبي : الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر ، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء ، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات ، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة . ه .
(4/152)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قُل } يا محمد : { يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ } أي : أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة ، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه ... وإنما لم يقل : نذير وبشير ، مع ذكر الفريقين بعده؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط . والمراد بالناس : الذين قيل فيهم : { أفلم يسيروا في الأرض } ، ووصفوا بالاستعجال ، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم؛ زيادة في غيظهم . { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة } لذنوبهم ، { ورزقٌ كريمٌ } أي : حسن ، وهي الجنة . والكريم من كل نعيم : ما يجمع فضائله ويجوز كمالاته .
{ والذين سَعَوا } ، يقال : سَعَى في أمر فلان : إذا أفسده بسعيه ، أي : أفسدوا { في آياتنا } أي : القرآن؛ بسعيهم في إبطاله ، { معاجزين } أي : مسابقين . وقرأ المكي والبصري : " معجّزين " . بالشد ، أي : مُثبطين الناس عن الإيمان . يقال : عاجزه : سابقه؛ لأنَّ كل واحد منهما يطلب عجز الآخر ، واللحوق به ، فإذا غلبه ، قيل : أعجزه وعجزه . والمعنى : سعوا في معناها بالفساد؛ من الطعن فيها ، حيث سمُّوها سحرًا وشعرًا وأساطير الأولين ، مسابقين في زعمهم وتقديرهم ، طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم . { أولئك أصحابُ الجحيم } أي : ملازمو النار الموقودة . وقيل : هو اسم دركة من دركاتها .
الإشارة : الدعاة إلى الله تعالى إنما شأنهم التحذير والتبشير ، ثم ينظرون ما يفعل الله في ملكه وخلقه ، من هداية أو إضلال ، وليس من شأنهم طلب ظهور المعجزات ، أو الكرامات ، ولا الحرص على هداية الخلق بالكد والاجتهاد ، إنما شأنهم التذكير ، ويردون الأمر إلى الملك القدير ، فلا يتأسفون على من تخلف عنهم .
وكان عليه الصلاة والسلام - يحرص على هداية قومه - ، فلما نهاه الحق تعالى عن ذلك ، رجع وتأدب بكمال العبودية ، وبه اقتدى خلفاؤه من بعده ، فكان صلى الله عليه وسلم في أول أمره يتمنى أن ينزل عليه ما يُقارب بينه وبين قومه ، لعلهم يتدبرون فيما ينزل عليه فيُسلموا ، فقرأ يومًا سُورَةَ النَّجْمِ ، فَأُلقِي في مسامعهم ما يدل على مدح آلهتهم ، فحزن - عليه الصلاة والسلام - حين نسبوا ذلك له .
(4/153)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قال ابن عباس وغيره من المفسرين الأولين - رضي الله عنهم - : لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم مباعدة قومه وتوليهم ، وشق عليه ذلك تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يُقارب بينه وبين قومه ، فجلس يومًا في جمع لهم ، فنزلت سورة النجم ، فقرأها عليهم ، فلما بلغ : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النّجْم : 19 ، 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العُلى وإنْ شفاعتهم لترجى . ه . قلت : بلى ، ألقى ذلك في مسامعهم فقط ، ولم ينطق بذلك - عليه الصلاة والسلام - فلما سمعت ذلك قريش فرحوا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم في آخر السورة ، وسجد المسلمون والمشركون ، إلا الوليد بن المغيرة ، رفع حفنة من التراب وسجد عليه ، فقالت قريش : ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يُحيي ويميت ، ويخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل محمد لها نصيبًا فنحن معه ، فلما أمسى أتاه جبريل . فقال يا محمد؛ ما صنعتَ فقد تلوتَ على الناس ما لم آتك به؟ فحزن النبي صلى الله عليه وسلم حزنًا شديدًا ، فنزلت الآية؛ تسلية له عليه الصلاة والسلام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أرسلنا من قبلك من رسول } ، يُوحى إليه بشرع ، ويُؤمر بالتبليغِ ، { ولا نبيٍّ } يُوحى إليه ، ولم يُؤمر بالتبليغ ، فالرسول مكلف بغيره ، والنبي مقتصر على نفسه ، أو الرسول : مَن بُعث بشرع جديد ، والنبي : مَنْ قرر شريعة سابقة ، ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم ، فالنبي أعم من الرسول ، وقد سئل - عليه الصلاة والسلام - عن الأنبِيَاءِ ، فقال : " مِائَةُ أَلْفٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفًا ، قِيل : فَكمِ الرُّسُلُ مِنْهُمْ؟ قال : ثَلاثُمِائةٍ وثلاثَةَ عَشَرَ ، جَمًّا غَفِيرًا "
{ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى } ؛ هيأ في نفسه ما يهواه؛ كهداية قومه ومقاربتهم له ، { ألقى الشيطانُ في أُمنيته } ؛ في تشهيه ما يُوجب حصول ما تمناه ، أو مقاربته ، كما ألقى في مسامع قريش ما يُوجب مقاربتهم له - عليه الصلاة والسلام - ثم ينسخ الله ذلك . أو { إذا تمنى } : قرأ ، كما قال الشاعر :
تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلَةٍ ... تَمَنَّى دَاوُدَ الزَّبُورَ علَى رِسْلِ
{ ألقى الشيطان في أُمنيته } : في قراءته ، حين قرأ سورة النجم بعد قوله : { ومناة الثالثة الأخرى } ، تلك الغرانيق العُلى ، كما تقدم .
قال القشيري : كانت لنبينا صلى الله عليه وسلم سكتات ، في خلال قراءته عند قراءة القرآن ، عند انقضاء كل آية ، فتلفظ الشيطان ببعض الألفاظ ، فمن لم يكن له تحصيل توهم أنه من ألفاظ الرسول . ه . وقال ابن البنا : التمني هو التلاوة التي يُتمنى فيها ، فيتلو النبي وهو يريد أن يفهم عنه معناها ، فيلقي الشيطان في فهوم السامعين غير المعنى المراد ، وما قال الزمخشري : قرأ تلك الغرانيق العلى ، على جهة السهو والغلط ، فباطل ، لقول الله العظيم :
(4/154)

{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النّجْم : 3 ، 4 ] ، فهو معصوم من السهو والغلط في تبليغ الوحي . ه .
قلت : فتحصل أنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينطق بتلك الكلمات قط ، لا سهوًا ولا عمدًا ، وإنما أُلقيت في مسامع الكفار ليحصل ما تمناه - عليه الصلاة والسلام - من المقاربة . ويدل على هذا أن من حضر من المسلمين لم يسمعوا من ذلك شيئًا . فإذا تقرر هذا علمت أن ما حكاه السلف الصالح من المفسرين وأهل السير من أصل القصة في سبب نزول الآية صحيح ، لكنه يحتاج إلى نظر دقيق وتأويل قريب ، فلا تَحْسُن المبادرة بالإنكار والرد عليهم ، وهم عدول ، لا سيما حبر هذه الأمة ، وإنما يحتاج اللبيب إلى التطبيق بين المنقول والمعقول ، فإن لم يمكن ، قدَّم المنقول ، إن ثبتت صحته ، وحكم على العقل بالعجز . هذا مذهب المحققين من الصوفية - رضي الله عنهم - ونسبة الإلقاء إلى الشيطان أدب وتشريع؛ إذ لا فاعل في الحقيقة سواه تعالى .
{ فينسخ اللهُ ما يُلقي الشيطانُ } أي : يَذهب به ويُبطله ، أو يُرشد إلى ما يزيحه ، { ثم يُحْكِمُ اللهُ آياته } أي : يُثبتها ويحفظها عن لحوق الزيادة من الشيطان ، { والله عليمٌ حكيم } أي : عليم بما يوحى إلى نبيه ، حكيم في وحيه ، لا يدع الباطل يأتيه من بين يديه ولا من خلفه .
ثم ذكر حكمة ذلك الإلقاء ، فقال : { ليجعل ما يُلقي الشيطانُ فتنةً } أي : محنة وابتلاء { للذين في قلوبهم مرضٌ } : شك وشرك ، { والقاسية قلوبهم } ؛ البعيدة من الخير ، الخاربة من النور ، واليابسة الصلبة ، لا رحمة فيها ولا شفقة؛ وهم المشركون المكذبون ، فيزدادون به شكًا وظلمة . { وإِنَّ الظالمين } وهم الكفرة المتقدمة ، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ تسجيلاً عليهم بالظلم ، { لفي شقاقٍ بعيد } أي : عداوة شديدة ومخالفة تامة بعيدة عن الحق .
{ وليعلم الذين أُوتوا العلم } بالله { أنه } أي : القرآن { الحقُّ من ربك } أي : النازل من عنده { فيُؤمنوا به } أي : بالقرآن { فتُخْبتَ } : تطمئن ، أو تخشع { له قلوبُهم } بالانقياد إليه والإذعان لما فيه ، { وإِنَّ الله لهادي الذين آمنوا إِلى صراط مستقيم } بالنظر الموصل إلى الحق الصريح ، فيتأولوا ما تشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ، ويطلبوا ، لما أشكل منه ، المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة ، حتى لا يلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا وقع التعبير من جانب الحق فكل واحد من المستمعين يسمع ما يليق بمقامه ويقويه فيه . فأهل الباطل يسمعون ما يليق بباطلهم ويمدهم فيه ، وأهل الحق يسمعون ما يليق بحقهم ويرقيهم ، فأهل الإيمان يسمعون ما يقوي إيمانهم ويزيدهم يقينًا ، وأهل الوصول يسمعون ما يليق بمقامهم ويرقيهم فيه ، وهكذا . وتأمل قضية الثلاثة الذين سمعوا قائلاً يقول : يا سعترا بري . فسمع أحدهم : اسْعَ تَر بري ، وسمع الآخر : الساعة ترى بري ... وسمع الثالث : ما أوسع بري ، فالأول : طالب للوصول ، فقال له : اسع ترى بري ، والثاني : سائر مستشرف على الوصول ، فقال له : الساعة ترى بري ، والثالث : واصل قد اتسع عليه ميدان النعم ، فقال له : ما أوسع بري . وكل من قَدِمَ على الأولياء فإنما يسمع حسب ما عنده؛ فمن قَدِمَ عليهم بالميزان لا يسمع إلا ما يُبعده ، ومن قَدِمَ بالتصديق والتعظيم لا يسمع ولا يرى إلا ما يُقربه من الكمالات والأنوار . والله تعالى أعلم .
(4/155)

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا يزال الذين كفروا في مريةٍ } : شك { منه } ؛ من القرآن ، أو الصراط المستقيم ، { حتى تأتيهم الساعةُ بغتةً } : فجأة ، { أو يأتيهم عذاب يومٍ عقيم } ، وهو عذاب يوم القيامة ، كأنه قيل : حتى تأتيهم الساعة أو عذابها ، فزاد " اليوم العقيم "؛ لمزيد التهويل . واليوم العقيم : الذي لا يوم بعده ، كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام ، فما لا يوم بعده يكون عقيمًا . وقيل : اليوم العقيم : يوم بدر ، فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فَرح أو راحة ، كالريح العقيم؛ لا تأتي بخير ، أو لأنه لا مثل له في عِظم أمره؛ لقتال الملائكة فيه ، ولكن لا يساعده ما بعده ، من قوله : { المُلكُ يومئذٍ لله } أي : السلطان القاهر ، والتصرف التام ، يومئذ لله وحده ، ولا منازع له فيه ، ولا تصرف لأحد معه ، لا حقيقة ولا مجازاً ، ولا صورة ولا معنىً ، كما في الدنيا ، فإنَّ للبعض فيه تصرفًا مجازيًا صُوريًا . { يحكم بينهم } أي : بين فريق أهل المرية وأهل الإيمان .
ثم بيّن حكمه فيهم ، فقال : { فالذين آمنوا } بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه ، { وعملوا الصالحات } امتثالاً لما أمر به في تضاعيفه { في جنات النعيم } ، { والذين كفروا } بالقرآن وشكوا فيه ، أو بالبعث والجزاء ، { وكذبوا بآياتنا } الدالة على كمال قدرتنا أو القرآن ، { فأولئك لهم عذابٌ مهين } ، يُهينهم ويُخزيهم .
ثم خص قومًا من الفريق الأول بفضيلة ، فقال : { والذين هاجروا في سبيل الله } : خرجوا من أوطانهم مجاهدين ، { ثم قتلوا } في الجهاد ، { أو ماتوا } حتف أنفهم ، { لَيَرزقنَّهم الله رزقًا حسنًا } ، وهو ما لا ينقطع من نعيم الجنان . ومراتب الحسن متفاوتة ، فيجوز تفاوت حال المرزوقين ، حسب تفاوت أرزاق الجنة . رُوي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نَبِي الله؛ هؤُلاَءِ الذين قُتِلُوا في سَبِيل اللهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أعْطَاهُمُ الله مِن الخَيْرِ ، ونَحْنُ نُجَاهِدُ مَعَكَ كَما جَاهَدُوا ، فَمَا لَنَا مَعَكَ؟ فنزلت : { والذين هاجروا ... } الآيتين . وقيل : نزلت في طوائف ، خرجوا من مكة إلى المدينة ، فتبعهم المشركون فقتلوهم .
ثم قال تعالى : { وإِن الله لهو خير الرازقين } ، فإنه يرزق بغير حساب ، مع أنَّ ما يرزقه لا يقدر عليه غيره ، { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } ، وهو الجنة؛ لأنَّ فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، قيل : لَمَّا ذكر الرزق ذكر المسكن ، { وإِن الله لعليمٌ حليمٌ } ، عليم بأحوال من قضى نحبه مجاهدًا ، وآمال من مات وهو ينتظره معاهدًا ، حليم بإمهال من قاتلهم معاندًا .
الإشارة : من لم يصحب العارفين أهل الرسوخ واليقين ، لا يمكن أن تنقطع عنه خواطر الشكوك والأوهام ، حتى يلقى الله بقلب سقيم ، فيُفضي إلى الهوان المقيم . والذين هاجروا في طلب محبوبهم لتكميل يقينهم ، ثم قتلوا قبل الوصول ، أو ماتوا بعد الوصول ، ليرزقنهم الله جميعًا رزقًا حسنًا ، وهو لذة الشهود والعيان ، في مقعد صدق مع المقربين ، { وإن الله لهو خير الرازقين } . والمدخل الذي يرضونه : هو القرب الدائم ، والشهود المتصل . جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه .
(4/156)

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قلت : { ذلك } : خبر ، أي : الأمر ذلك . و { مَن عاقب } : شرط سدّ مسد جوابه ، أي : من عاقب بمثل ما عُوقب به ينصره الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ذلك } أي : الأمر ذلك ، كما أخبرتك في بيان الفريقين ، ثم استأنف فقال : { ومن عاقب بمثل ما عُوقِبَ به } أي : لم يزد في القصاص على ما فُعل به ، وسمى الابتداء عقابًا؛ للمشاكلة ولملابسته له ، من حيث إنه سبب له وهو مسبب عنه . { ثم بُغِيَ عليه لينصُرَنَّه اللهُ } أي : من جازى بمثل ما فُعل به من الظلم ، ثم ظُلم ، بعد ذلك ، وبُغي عليه بعد ذلك ، فحق على الله أن ينصره؛ { إِنَّ الله لعفوٌّ } يمحو آثار الذنوب ، { غفورٌ } يستر أنواع العيوب .
ومناسبة الوصفين لما قبلهما : أن المعاقب مأمور بالعفو من عند الله ، بقوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] ، { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] ، فحين لم يفعل ذلك ، وانتصر لنفسه ، فكأنه مُذنب ، فمعنى العفو في حقه أنه لا يلزمه على ترك الفضل شيء ، وأنه ضامن لنصره في الكرة الثانية ، إذا ترك العفو وانتقم من الباغي عليه ، وعَرَّضَ ، مع ذلك ، بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين .
ثم ذكر دلائل قدرته على النصر وغيره بقوله : { ذلك بأن الله يُولج الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل وأنَّ الله سميع بصيرٌ } أي : ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء . ومن آيات قدرته أنه { يُولجُ الليلَ في النهار ويُولجُ النهارَ في الليل } أي : يُدخل أحدهما في الآخر ، فيدخل الليلَ في النهارِ إذا طال النهار ، ويُدخل النهارَ في الليل إذا طال الليلُ ، فيزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر . أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما ، بإدخال أحدهما على الآخر ، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر ، والبغي والإنصاف . { وأن الله سميع } لما يقولون ، لا يشغله سمع عن سمع ، وإن اختلفت في النهار الأصوات بفُنون اللغات ، { بصير } بما يفعلون ، فلا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي ، وإن توالت الظلمات .
{ ذلك بأن الله هو الحقُّ } الواجب لذاته ، الثابت في نفسه ، الواحد في صفاته وأفعاله ، فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مُبديًا لكل ما يوجد من الموجودات ، عالمًا بكل المعلومات . وإذا ثبت أنه الحق فدينُه حق ، وعبادته حق ، { وأن ما تدعون من دونه } إلهًا { هو الباطل } ي : المعدوم في حد ذاته . أو الباطل ألوهيته ، { وأن الله هو العليُّ الكبيرُ } أي : المتعالي عن مدارك العقول ، وعن سمات الحدوث ، أو المرتفع على كل شيء بقهريته ، أو المتعالي عن الأنداد والأشباه ، الكبير شأنًا وعظمةً وكبرياء؛ إذ كل شيء يصغر دون كبريائه ، فلا شيء أعلى منه شأنًا وأكبر سلطانًا؛ لأن له الوجود المطلق .
(4/157)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : ومن عاقب نفسه وجاهدها وأدَّبها في أيام اليقظة ، بمثل ما عاقبته وجنت عليه وطغت في أيام الغفلة ، ثم صرعته بعد ذلك وغلبته؛ لينصرنه الله عليها ، حتى يغلبها ويملكها ، فكلما هاجت عليه هجم عليها ، حتى يملكها؛ ذلك بأن الله يُولج ليلَ المعصية في نهار الطاعة ، ويولجُ نهارَ الطاعة في ليلِ المعصية ، أي : يدخل أحدهما على الآخر ، فلا يزال العبد يعصي ويطيع حتى يمنَّ عليه بالتوبة النصوح . أو يولج ليل المعصية في نفس الطاعة ، فتنقلب الطاعة معصية ، إذا صحبها علو واستكبار . ويولج نهار الطاعة في عين المعصية ، فتنقلب طاعة إذا صحبها ذل وافتقار . ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما دونه باطل .
(4/158)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
قلت : { فتصبح } : عطف على { أنزل } ، والعطف بالفاء أغنى عن الضمير ، وإيثار صيغة الاستقبال؛ للإشعار بتجدد أثر الإنزال ، وهو الاخضرار واستمراره ، أو لاستحضار صورة الاخضرار ، وإنما لم ينصب جوابًا للاستفهام؛ لأنه لو نصب لبطل الغرض؛ لأن معناه في الرفع إثبات الاخضرار ، فينقلب في النصب إلى نفيه ، كما تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن نصبته نفيت شكره ، وشكوت من تفريطه ، وإن رفعته أثبت شكره .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم تر } يا محمد ، أو يا من يسمع ، { أن الله أنزل من السماء ماءً } ؛ مطرًا { فتصبحُ الأرض مخضرةً } بالنبات ، بعدما كانت مسودة يابسةً ، { إِنَّ اللهَ لطيفٌ } بعباده ، أو في ذاته لا يدرك ، { خبيرٌ } بمصالح خلقه ومنافعهم ، أو اللطيف المختص بدقائق التدبير ، الخبير بكل جليل وحقير ، قليل وكثير . { له ما في السماوات وما في الأرض } ؛ مُلكًا ومِلْكًا ، قد أحاط بهم؛ قدرةً وعلمًا ، { وإِنَّ الله لهو الغني } عن كل شيء ، المفتقر إليه كل شيء ، { الحميد } : المحمود بنعمته ، قبل ثناء من في السماوات والأرض عليه ، أو المستحق للحمد ، أعطى أو لم يعط .
ثم ذكر موجب الحمد من عباده ، فقال : { ألم ترَ أن الله سخَّر لكم ما في الأرض } من الأنعام؛ لتأكلوا منها ، ومن البهائم؛ لتركبوها في البر ، { والفُلكَ تجري في البحر بأمره } : بقدرته وإذنه ، أي : وسخر لكم المراكب حال كونها جارية في البحر بإذنه ، { ويُمسكُ السماء أن تقعَ على الأرض } أي : يحفظها من السقوط ، بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك ، { إِلا بإِذنه } : إلا بمشيئته ، وذلك يوم القيامة ، وفيه رد لاستمساكها بذاتها؛ فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسمية ، فتكون قابلة للميل الهابط قبُولَ غيرها . { إِنَّ الله بالناس لرؤوفٌ رحيمٌ } ؛ حيث هيأ لهم هذه الأسباب لقيام معاشهم ، وفتح لهم أبواب المنافع ، ودفع عنهم أنواع المضار ، فأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية ، فله الحمد وله الشكر .
الإشارة : ألم تر أن الله أنزل من سماء المعاني ماء علم الغيوب ، وهو علم أسرار الذات وأنوار الصفات ، أعني : التوحيد الخاص ، فإذا نزل على أرض النفوس ، اهتزت وربت ، واخضرت بالعلوم والمعارف ، إن الله لطيف خبير ، لطيف؛ لسريان معانيه اللطيفة في كل شيء ، خبير ببواطن كل شيء ، فمن كوشف بلطيف معانيه وإحاطة علمه في كل شيء ، وبكل شيء ، حيي قلبه بمعرفة الله ، واخضرت أرض نفسه بأنواع العلوم والمعارف . ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ، يكون عند أمركم ونهيكم ، وفلك الفكرة تجري في بحر التوحيد بأمره ، ويُمسك سماء الأرواح أن تقع على أرض الحظوظ إلا بإذنه ، بعد الرسوخ في معرفته ، والتمكين من الفهم عنه ، إن الله بالناس لرؤوف رحيم؛ حيث فتح لهم باب العلوم ، وهيأ لهم أسباب الفهوم ، وهي الرياضة والتأديب .
(4/159)

وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي أحياكم } بعد أن كنتم جمادًا ، عناصر ونطفًا في الأصلاب والأرحام ، حسبما فُصل في صدر السورة ، { ثم يُميتُكم } عند مجيء آجالكم ، { ثم يُحييكم } عند البعث ، لإيصال جزائكم ، { إِنَّ الإِنسان لكفور } : لَجَحُود لِمَا أفاض عليه من ضُروب النعم ، ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإيجاد المُظهرة للوجود ، ولا نعمة الإمداد الممدة بعد الوجود ، ولا نعمة الإفناء المقربة إلى الموعود ، ولا نعمة الإحياء الموصلة إلى المقصود ، وهو التنعم في جوار الملك الودود ، فله الحمد دائمًا وله الشكر .
الإشارة : وهو الذي أحياكم باليقظة بعد الغفلة ، وبالعلم بعد الجهل ، ثم يميتكم عن حظوظ نفوسكم وهواها ، ثم يُحييكم بالمعرفة به ، حياةٌ لا موت بعدها ، فمن لم يعرف هذا فهو كنود .
(4/160)

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لكل أمةْ } من الأمم الخالية والباقية { جعلنا } أي : وضعنا ، وعَيَّنا { منسَكًا } : شريعة خاصة يتمسكون بها ، أي : عيّنا كل شريعة لأمة معينة من الأمم ، بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى ، لا استقلالاً ولا اشتراكًا ، فكل جيل لهم شرع مخصوص ، { هم ناسكوه } : عاملون به ، فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى - عليهما السلام - منسكهم التوراة ، هم عاملون به لا غيرهم . والتي كانت من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل ، هم ناسكوه وعاملون به . وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ فهم أمة واحدة ، منسكهم القرآن ، ليس إلا .
والفاء في قوله : { فلا ينازعنك في الأمر } لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإن تعيين كل أمة بشرع مخصوص ، يجب اتباعه ، يُوجب اتباع هؤلاء الموجودين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم له في أمر الدين ، أي : فلا يجادلنك في أمر الدين ، بل يجب عليهم الاستسلام والانقياد لكل أمر ونهي . أو : فلا تلتفت إلى قولهم ، ولا تمكنهم من أن ينازعوك في الأمر ، أي : أمر الدين أو أمر الذبائح . قيل : نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ، ولا تأكلون ما قتله الله؟ يعني : الميتة ، فأمر الله بالغيبة عنهم ، وعدم الالتفات إلى قولهم . { وادعُ إلى ربك } أي : دم على الدعاء إلى الله ، والتمسك بدينه القويم؛ { إِنك لعلى هُدىً مستقيم } : طريق قويم موصل إلى الحق .
{ وإن جادلوك } بعد ظهور الحق؛ مِراء وتعنتًا ، كما يفعله السفهاء ، بعد اجتهادك ألاَّ يكون بينك وبينهم تَنازع وجدال ، { فقل اللهُ أعلمُ بما تعملون } أي : فلا تجادلهم ، وادفعهم بهذا القول ، والمعنى : إن الله عالم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء ، فهو يُجازيكم به . وهذا وعيد وإنذار ، ولكن برفق ولين ، يُجيب به العاقلُ كلَّ متعنت سفيه . قال تعالى : { اللهُ يحكمُ بينكم يومَ القيامةِ فيما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين ، وهو خطاب من الله تعالى للمؤمنين والكافرين ، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم .
{ ألم تعلم أن الله يعلمُ ما في السماء والأرض } ، الاستفهام للتقرير ، أي : قد علمت أن الله يعلم كل ما يحدث في السماء والأرض ، ولا يخفى عليه شيء من الأشياء ، ومن جملتها : ما تقوله الكفرة وما يعملونه ، { إِنَّ ذلك في كتاب } ؛ في اللوح المحفوظ ، { إِنَّ ذلك على الله يسير } أي : علمه بجميع ذلك عليه يسير ، فلا يخفى عليه معلوم ، ولا يعسُر عليه مقدور . { ويعبدونَ من دون الله } أي : متجاوزين إياه ، مع ظهور دلائل عظمته وقدرته وتوحيده ، { ما لم يُنزل به سلطانًا } : حجة وبرهانًا ، { وما ليس لهم به علمٌ } أي : وما ليس لهم بجواز عبادته علم؛ من ضرورة أو استدلال ، أي : لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ، ولا حملهم عليها دليل عقلي ، بل لمجرد التقليد الرديء ، { وما للظالمين من نصير } أي : وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم من أحد ينصرهم ، أو يصوب مذهبَهم ، أو يدفع العذاب عنهم ، حين يعتريهم بسبب ظلمهم .
(4/161)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : كما اختلفت الشرائع باختلاف الملل ، اختلفت التربية باختلاف الأشخاص والأعصار ، وقد تقدم عند قوله { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] . وجملتها ترجع إلى الهمة والحال ، وبهما كانت التربية في الصدر الأول ، فكانت الملاقاة والصحبة تكفي ، ويحصل التهذيب والتصفية وكمال المعرفة . وذلك في زمان الصحابة والتابعين إلى القرن الثالث؛ لقربهم من النور النبوي . فلما بَعُد الأمر ، وأظلمت القلوب ، أحدثوا تربية الاصطلاح ، وهو التزيي بزي مخصوص ، كالمرقعة وحمل السبحة في العنق ، والركوة ، وغير ذلك من مسائل التجريد ، وترتيب أمور تموت بها النفوس وتعالج بها القلوب ، واستعمال أوراد مخصوصة ، فكانت التربية حينئذ بالهمة والحال والاصطلاح . وقد تحصل التربية لمن له الهمة والحال بغير اصطلاح ، إذا رآه ينجع فيه ذلك ، فبقي الأمر كذلك إلى القرن التاسع ، فتصدى للتربية بالاصطلاح قوم مُدَّعُون ، لا همة لهم ولا حال ، فقال الحضرمي حسمًا لهذه الدعوى : قد انقطعت التربية بالاصطلاح ، وما بقي إلا الهمة والحال ، فعليكم بالكتاب والسنة ، أي : بظاهر الكتاب والسنة من غير زيادة ولا نقصان ، يعني طريق الأحوال والاصطلاح . ومراده بذلك : قطع التربية بالاصطلاح من غير همة ولا حال . وأما من له الهمة والحال فلا يقصد الحضرمي قطع تربيته بالاصطلاح . والحاصل : أن الحضرمي ما حكم إلا على وقته؛ لِمَا رأى من الفساد الذي دخل في التربية . وق وُجد بعده رجال مُربون بالاصطلاح مع الهمة والحال . والمراد بالهمة : العلم بالله على نعت الشهود والعيان ، وبالحال : إنهاض القلوب عند رؤيته لذكر الله؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خَيْرُكُمْ مَنْ إِذا رُؤوا ذُكر اللهُ " ولا بد من إذن خاص من الشيخ ، أو من يقوم مقامه ، وإلا فلا تنجح تربيته ، ولا ينهض حاله . والله تعالى أعلم .
فإن تأهلتَ للتربية بإذن خاص ، فلا ينازعنك في الأمر ، أي : لا تلفت إلى من ينازعك ويحتج عليك بانقطاع التربية؛ تعنتًا وعنادًا . وادع إلى ربك ، إنك لعلى هدى مستقيم . قال القشيري : قوله : { وإن جادلوك ... } الخ ، أي : كِلْهُم إلينا ، عندما راموا أمر الجدال ، ولا تتكل على ما تختاره من الاحتيال ، واحذر جنوحَ قلبك إلى الاستغاثة بالأمثال والأشكال؛ فإنهم قوالبُ خاويةٌ . وأشباحٌ من رؤية المعاني خالية . ه . ويوم القيامة يظهر المحق من المبطل ، ويقال في شأن من يعبد هواه : { ويعبدون من دون الله ... } الآية .
(4/162)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قلت : { وإذا تُتلى } : عطف على { يعبدون } ، وصيغة المضارع؛ للدلالة على الاستمرار التجددي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإِذا تُتلى عليهم } أي : على المشركين { آياتُنا } القرآنية ، حال كونها { بيناتٍ } : واضحات الدلالة على العقائد الحقية ، والأحكام الصادقة ، { تعرِفُ في وجوه الذين كفروا المنكَر } أي : الإنكار بالعبوس والكراهة ، فالمُنكَر : مصدر بمعنى الإنكار . { يكادون يَسطُون } : يبطشون ، والسطو : الوثب والبطش ، أي : يثبون على الذين { يتلُون عليهم آياتنا } ؛ من فرط الغيظ والغضب ، والتالون هم : النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . { قلْ } لهم : { أفأنبئُكُم بشرٍّ من ذلكم } ؛ من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم ، أو مما أصابكم من الكراهة والضجر ، بسبب ما يتلى عليكم ، هو { النارُ وَعَدها اللهُ الذين كفروا } مثلكم ، { وبئس المصيرُ } النار ، التي ترجعون إليها مخلدين .
الإشارة : من شأن أهل العتو والتكبر أنهم إذا وعظهم الفقراء عنفوا واستنكفوا ، ويكادون يسطون عليهم من شدة الغضب ، فما قيل لكبراء الكفار يجرُ ذيله على من تشبّه بهم من المؤمنين .
(4/163)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس ضُرب مثلٌ } أي : يُبين لكم حالٌ مستغربة ، أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مَثَلاً ، وتنشر في الأمصار والأعصار ، { فاستمعوا له } ؛ لضرب هذا المثل؛ استماع تدبر وتفكر ، وهو : { إِنَّ الذين تدْعُون } ، وعن يعقوب : بياء الغيبة ، أي : إن الذين تدعونهم آلهة وتعبدونهم { من دون الله لن يخلقُوا ذُبابًا } أي : لن يقدروا على خلقه أبدًا ، مع صغره وحقارته . و { لن } : لتأبيد النفي ، فتدل على استحالته ، { ولو اجتمعوا له } أي : الذباب . ومحله : نصب على الحال ، كأنه قال : لا يقدرون على خلقه مجتمعين له ، متعاونين عليه ، فكيف إذا كانوا منفردين؟! وهذا أبلغ ما أنزل في تجهيل قريش ، حيث وَصَفوا بالألوهية - التي من شأنها الاقتدار على جميع المقدورات ، والإحاطة بكل المعلومات - صُورًا وتماثيل ، يستحيل منها أن تقدر على أضعف ما خلقه الله تعالى وأذله ، ولو اجتمعوا له .
{ وإِن يسلبْهُمُ الذبابُ شيئًا } من الطيب وغيره ، { لا يستنقذوه منه } أي : هذا الخلق الأرذل الأضعف ، لو اختطف منهم شيئًا فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه ، لم يقدروا وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنهم كانوا يطلُونها بالعسل والطيب ، ويغلقون عليها الأبواب ، فيدخل الذبابُ من الكُوِي فيأكله ، فتعجز الأصنام عن أخذه . { ضَعُفَ الطالبُ } : الصنمُ بطلب ما سُلب منه ، { والمطلوبُ } : الذباب بما سَلَب . وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ، ولو حققت لوجدت الطالب أضعفَ وأضعفَ؛ فإنَّ الذباب حيوان والصنم جماد .
{ ما قَدَروا الله حقَّ قدره } : ما عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذا الصنم الضعيف شريكًا له ، { إِن الله لقويٌّ عزيز } أي : قادر غالب ، فكيف يتجه أن يكون العاجز المغلوب شبيهًا له! أو لقوي ينصر أولياءه ، عزيز ينتقم من أعدائه . بَعْدَ أن ذكر تعالى أنهم لم يقدروا له قدرًا؛ حيث عبدوا معه من هو منسلخ من صفاته ، وسموه باسمه مع عجزه . ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم؛ وهي القوة والغلبة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من تعلق في حوائجه بغير الله أو ركن بالمحبة إلى شيء سواه ، فقد أشرك مع الله أضعف شيء وأقله . فماذا يجدي تعلقُ العاجزُ بالعاجز ، والضعيف بالضعيف ، ضَعف الطالبُ والمطلوب . فما قدر الله حقَ قدره من تعلق في أموره بغيره . قال الورتجبي : بيَّن سبحانه - بعد ذكر عجز الخلق والخليقة - جلال قدره الذي لا يعرفه غيره ، بقوله : ما قدروا الله حق قدره ، قال : وهذه شكاية عن إشارة الخلق إليه بما هو غير موصوف به ، فذكر غيرته؛ إذ أقبلوا إلى غير من هو موصوف بالقوة الأزلية والعزة السرمدية . ألا ترى كيف قال : { إن الله لقويٌ عزيزٌ } .
(4/164)

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الله يصطفي } : يختار { من الملائكة رُسلاً } يرسلهم إلى صفوة خلقه ، كجبريل وميكائيل وإسرافيل وغيرهم ، { ومن الناسِ } ، كإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يُعرِّفون بجلال الله ومعرفة قدره ، حتى يقدروه حق قدره باعتبارهم لا باعتباره؛ فإنَّ الله تعالى لا يمكن لأحد أن يقدرُه حق قدره . قال سيد العارفين : " لا أُحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " . وقيل : نزلت؛ ردًا لما أنكروه من أن يكون الرسول من البشر ، وبيانًا أن رُسل الله على ضربين : ملك وبشر . وقيل : نزلت في قولهم : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] . { إِن الله سميع بصير } أي : سميع لقولهم ، بصير بمن يختاره للرسالة . أو سميع لأقوال الرسل ، بصير بأحوال الأمم في الردِّ والقبول . { يعلم ما بين أيديهم } : ما مضى ، { وإِلى الله تُرجع الأمورُ } أي : إليه مرجع الأمور كلها ، وليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه وتدبيره واختياره مَن شاء من رُسلِه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : شرب الخمرة ، وهي المحبة الحقيقية والمعرفة الكاملة ، لا تكون إلاَّ على أيدي الوسائط ، والنادر لا حكم له ، فالأنبياء وسائطهم الملائكة ، والأولياء وسائطهم خلفاء الأنبياء ، وهم أهل العلم بالله الذوقي العِيَاني . وقال الورتجبي - إثر ما تقدم عنه - : فالملائكة وسائط الأنبياء ، والأنبياء وسائط العموم ، والأولياء للأولياء خاصة . ه . وتوسيط الأنبياء للعموم في مطلق المحبة ، وتعليم ما يقرب إليها ، وأما المحبة الحقيقية فهي خاصة بالأولياء للأولياء ، كما قال . وبالله التوفيق .
(4/165)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قلت : { ملة أبيكم } : منصوب بمحذوف ، أي : اتبعوا ملة إبراهيم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } في صلاتكم ، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان ، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ، قاله النسفي . { واعبدوا ربكم } أي : واقصدوا بعبادتكم وجه الله ، وأخلصوا فيها ، أو هو عطف عام على خاص؛ فإن العبادة أعم . { وافعلوا الخير } كله . قيل : لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص؛ لقوله : { وَأَقِمِ الصلاة لذكريا } [ طه : 14 ] ، ثم إلى العبادة بغير الصلاة ، كالصوم والحج ، ثم عم بالحث على سائر الخيرات . وقال ابن عرفة : وافعلوا الخير : راجع للعبادة المتعدية ، وما قبله يختص بالقاصرة . قال المحشي : وفيه نظر؛ لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع ، كتعليم العلم ، والصدقة ونحو ذلك ، بل أمر أولاً بالصلاة ، وهي نوع من العبادة ، وثانيًا بالعبادة ، وهي نوع من فعل الخير ، وثالثًا بفعل الخير ، وهو أعم من العبادة . فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم . ه . { لعلكم تُفلحون } : كي تفوزوا ، أي : افعلوا هذا كله ، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ، فلا تتكلوا على أعمالكم .
{ وجاهدوا في الله } أي : في ذات الله ومن أجله { حقَّ جهاده } ، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، ومنه : كلمة حق عند أمير جائر . قال - عليه الصلاة والسلام - : " أعمال البر كلها ، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنفثة إلى جنب البحر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر ، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي ، كنفثة في جنب بحر لجيّ " وهذا على معنى الخبر الذي جاء : " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " يعني : مجاهدة النفس . قاله في القوت .
قال القشيري : حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده . ه . قلت : موافقة القَدْر ، في جهاد النفس ، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط ، فالإفراط يُمل ، والتفريط يُخل ، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة؛ إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد . والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع ، لا بمحرم ولا مكروه . وقال في الحاشية : هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج ، بدليل ما بعده ، فهو موافق لقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التّغَابُن : 16 ] ، ومما هو ظاهر في الآية : الذب عن دينه وتغيير المناكر . ه .
{ هو اجتباكم } : اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه ، وهو تأكيد للأمر بالجهاد ، أي : وجب عليكم أن تجاهدوا؛ لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه ، { وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ } : ضيقٍ ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به ، من الطهارة ، والصلاة والصوم والحج ، بالتيمم والإيماء ، وبالقصر في السفر ، والإفطار لعذر ، وعدم الاستطاعة في الحج .
(4/166)

فاتبعوا { ملةَ أبيكم إِبراهيم } ؛ فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " جئتكم بالحنيفية السمحة " .
وسماه أبًا ، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها؛ لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته؛ لأن أمة الرسول في حكم أولاده . قال صلى الله عليه وسلم : " إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ " .
{ هو سماكم المسلمين } أي : الله ، بدليل قراءة أُبي : " الله سماكم " أو إبراهيم لقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البَقَرَة : 128 ] { من قبلُ } أي : سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة ، { وفي هذا } أي : القرآن ، فقد فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم الأكرم ، { ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم } أنه قد بلغكم رسالة ربكم ، { وتكونوا شهداء على الناس } بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم . وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة { فأقيموا الصلاة } بواجباتها ، { وآتوا الزكاة } لشرائطها ، { واعتصموا بالله } أي ثقوا به وتوكلوا عليه ، لا بالصلاة والزكاة . أو : ثقوا به في جميع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه . { هو مولاكم } : مالككم وناصركم ومتولي أموركم ، { فنعم المولى } ؛ حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ، { ونعمَ النصير } أي : الناصر؛ حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات ، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات ، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات ، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي ، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي . وكأنه يشير إلى قوله : " لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به . . . " الحديث .
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة ، من غير تشديد ولا تعقيد ، لقوله : { وما جعل عليكم في الدين من حَرج } ؛ لأن مبني الشرع الكريم على السهولة ، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته ، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه . " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدًا ، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونَعْتَكَ بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه " . كما في الحِكَم .
وقال الورتجبي : { وما جعل . . . } الآية ، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي ، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه . ألا ترى كيف قال : { ملة أبيكم إبراهيم } ، ومن ملته : الاستسلام والانقياد ، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم ، يا أسباط خليلي ، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم ، قبل وجودكم بنور النبوة ، فسماكم المسلمين ، أي : منقادين بين يديَّ ، عارفين بوحدانيتي .
(4/167)

وفيما ذكرنا من أوصافكم ، حبيبي شاهد عليكم ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم . ثم قال : اطلبوا الاعتصام مني ، استعينوا لأقويكم في طاعتي . ثم قال : { فنعم المولى } حيث لا مولى غيره ، { ونعم النصير } حيث لا يُخذل من نصره؛ فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص . قال جعفر في قوله : { حق جهاده } : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا ، كما لم يختر عليك؛ لقوله : { هو اجتباكم } . ه .
وقوله تعالى : { وتكونوا شهداء على الناس . . . } الآية ، أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين ، لتكونوا مرضيين عدولاً ، تشهدون على الأمم ، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم ، فهو كقوله تعالى : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ } [ البَقَرَة : 143 ] الخ . وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر ، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز ، ولذلك افتتح السورة التي تليها به . وبالله التوفيق . وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(4/168)

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
يقول الحق جل جلاله : { قد أفلح المؤمنون } أي : فازوا بكل مطلوب ، ونالوا كل مرغوب ، فالفلاح : الفوز بالمرام والنجاة من المكاره والآلام ، وقيل : البقاء في الخير على الأبد ، وقد تقتضي ثبوت أمر متوقع ، فهي هنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل ، وكان المؤمنون يتوقعون مثل هذه البشارة؛ وهي الإخبار بثبوت الفلاح لهم ، فخُوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه . والإيمان في اللغة : التصديق بالقلب ، والمؤمن : المصدِّق لِما جاء به الشرع ، مع الإذعان بالقلب ، وإلا . . فكم من كافر صدّق بالحق ولم يذعن ، تكبُّراً وعناداً ، فكل من نطق بالشهادتين ، مواطئاً لسانُه قلبَه فهو مؤمن شرعاً ، قال عليه الصلاة والسلام : " لَمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ ، قَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَقَالَتْ : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤمنُون - ثلاثاً - أنا حرامٌ على كلِّ بخيل مُرائي " ؛ لأنه بالرياء أبطل العبادات الدينية ، وليس له أعمال صافية .
ثم وصف أهل الإيمان بست صفات ، فقال : { الذين هم في صلاتهم خاشعون } : خاضعون بالقلب ساكنون بالجوارح ، وقيل : الخشوع في الصلاة : جمع الهمة ، والإعراض عما سواها ، وعلامته : ألا يجاوز بصرُه مصلاه ، وألاّ يلتفت ولا يعبث . وعن أبي الدرداء : ( هو إخلاص المقال ، وإعظام المقام ، واليقين التام ، وجمع الاهتمام ) . وأضيفت الصلاة إلى المصلين؛ لانتفاع المصلِّي بها وحده وهي عُدَّته وذخيرته وأما المُصلَّى له فَغَني عنها .
{ والذين هم عن اللغو مُعرضون } ، اللغو : كل كلام ساقط ، حقه أن يُلغَى ، كالكذب والشتم ونحوهما . والحق إن اللغو : كل ما لا يَعني من الأقوال والأفعال ، وصفهم بالحزم والاشتغال بما يعنيهم وما يقربهم إلى مولاهم في عامة أوقاتهم ، كما ينبىء عنه التعبير بالاسم الدال على الثبوت والاستمرار ، بعد وصفه لهم بالخشوع؛ ليجمع لهم بين الفعل والترك ، الشاقَّين على النفس ، اللذَيْن هما قاعدتا التكليف . { والذين هم للزكاة فاعلون } : مؤدون ، والمراد بالزكاة : المصدر ، الذي هو الإخراج ، لا المخرج . ويجوز أن يراد به العين ، وهو الشيء المُخْرج ، على حذف مضاف ، أي : لأداء الزكاة فاعلون . وصفهم بذلك ، بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة؛ للدلالة على أنهم بلغوا الغاية القصوى من القيام بالطاعة البدنية والمالية ، والتجنب عن النقائص ، وتوسيط الإعراض عن اللغو بينهما؛ لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة؛ لأن من لزم الصمت والاشتغال بما يعني عَظُم خشوعُه وأُنسه بالله .
{ والذين هم لفروجهم حافظون } : ممسكون لها ، ويشمل فرجَ الرجل والمرأة ، { إلا على أزواجهم } ، الظاهر أن " على " بمعنى " عن " أي : إلا عن أزواجهم ، فلا يجب حفظها عنهن ، ويمكن أن تبقى على بابها ، تقول العرب : احفظ عليّ عنان فرسي ، أي : أمسكه ، ويجوز أن يكون ما بعد الإستثناء حالاً ، أي : إلا والين على أزواجهم ، من قولك : كان زياد على البصرة ، أي : والياً عليها ، والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في حالة تزوجهم أو تسريهم .
(4/169)

أو يتعلق " على " بمحذوف يدل عليه : ( غير ملومين ) ، كأنه قيل : يُلامون إلا على أزواجهم ، أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أبيح لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، { أو ما ملكت أيمانهم } أي : سراريهم ، وعبَّر عنهن بما؛ لأن المملوك يجري مجرى غير العقلاء ، لأنه يباع كما تباع البهائم . وقال في الكشاف : وإنما قال " ما " ، ولم يقل " مَن "؛ لأن الإناث يجرين مجرى غير العقلاء . ه . يعني : لكونهن ناقصات عقل ، كما في الحديث . وفيه احتراس من الذكور بالملك ، فلا يباح إتيانهم والتمتع بهم للمالك ولا للمالكة ، بإجماع .
وقوله تعالى : { فإنهم غير مَلومين } أي : لا لوم عليهم في عدم حفظ فروجهم عن نسائهم وإمائهم . { فمن ابتغى وراء ذلك } ؛ طلب قضاء شهوته في غير هذين ، { فأولئك هم العادُون } : الكاملون في العدوان ، وفيه دليل على تحريم المتعة والاستمتاع بالكف لإرادة الشهوة؛ لأن نكاح المتعة فاسد ، والمعدوم شرعاً كالمعدوم حساً ، ويدل على فساده عدم التوارث فيه بالإجماع ، وكان في أول الإسلام ثم نُسخ .
{ والذين هم لأمانتهم وعهدهم } أي : لما يؤتمنون عليه ، ويُعَاهَدون عليه من جهة الحق أو الخلق ، { راعون } : حافظون عليها قائمون بها ، والراعي : القائم على الشيء بحفظ وإصلاح ، كراعي الغنم . { والذين هم على صلواتهم } المفروضة عليهم { يحافظون } : يداومون عليها في أوقاتها . وأعاد الصلاة؛ لأنها أهم ، ولأن الخشوع فيها زائد على المحافظة عليها ، وَوُحِّدَت أولاً؛ ليُفاد أَن الخشوع في جنس الصلاة أيَّةَ صلاة كانت ، وجُمعت ثانياً؛ ليُفاد المحافظة على أنواعها من الفرائض والواجبات والسنن والنوافل . قاله النسفي .
{ أولئك } الجامعون لهذه الأوصاف { هم الوارثون } الأحقاء بأن يُسَمَّوُا وارثين ، دون غيرهم ممن ورث رغائِب الأموال والذخائر وكرائمها ، وقيل : إنهم يرثون من الكفار منازلهم في الجنة ، حيث فوَّتُوها على أنفسهم ، لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار ، ففي الحديث : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مَنْزِلاَنِ : مَنْزِلٌ في الجنة ومَنْزِلٌ في النَّارِ ، فَإِن مَاتَ ودَخَلَ الجَنَّة ، وَرٍثَ أَهْلُ النَّارِ مَنْزِله ، وإِنْ مَات ودَخَلَ النَّارَ ، وَرثَ أَهْلُ الجَنَّةَ مَنْزِلَهُ " .
ثم ترجم الوارثين بقوله : { الذين يرثون الفردوس } ، هو في لغة الروم والحبشة : البستان الواسع ، الجامع لأصناف الثمر ، والمراد : أعلى الجنان ، استحقوا ذلك بأعمالهم المتقدمة حسبما يقتضيه الوعد الكريم ، { هم فيها خالدون } ، أنث الفردوس بتأويل الجنة ، أو لأنه طبقة من طبقاتها ، وهي العليا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قال القشيري : الفلاح : الفوزُ بالمطلوب ، والظَّفَرُ بالمقصود . والإيمان : انتسامُ الحقِّ في السريرة ، ومخامرة التصديق بخُلاصة القلب ، واستكمال التحقيق من تامور الفؤاد . والخشوع في الصلاة : إطراق السِّرِّ على بساط النَّجوى ، باستكمال نَعْتِ الهيبة ، والذوبانِ تحت سلطان الكشف ، والانمحاءِ عند غلبات التَّجلِّي .
(4/170)

ه .
قلت : كأنه فسر الفلاح والإيمان والخشوع بغايتهن ، فأول الفلاح : الدخول في حوز الإسلام بحصول الإيمان ، وغايته : إشراق شمس العرفان ، وأول الإيمان : تصديق القلب بوجود الرب ، من طرق الاستدلال والبرهان ، وغايته : إشراق أسرار الذات على السريرة ، فيصير الدليل محل العيان ، فتَبتَهج السريرة بمخامرة الذوق والوجدان ، وأوا الخشوع : تدبر القول فيما يقول ، وحضوره عندما يفعل ، وغايته : غيبته عن فعله في شهود معبوده ، فينمحي وجود العبد عند تجلي أنوار الرب ، فتكون صلاته شكراً لا قهراً ، كما قال سيد العارفين صلى الله عليه وسلم : " أفلا أكون عبداً شكوراً " .
ولا تتحقق هذه المقامات إلا بالإعراض عن اللغو ، وهو كل ما يشغل عن الله ، وتزكية النفوس ببذلها في مرضاة الله ، وإمساك الجوارح عن محارم الله ، وحفظ الأنفاس والساعات ، التي هي أمانات عند العبد من الله .
قال في القوت : قال بعض العارفين : إن الله - عز وجل - إلى عبده سرّيْن يُسِرهما إليه ، يُوجده ذلك بإلهام يُلهَمهُ ، أحدهما : إذا وُلِد وخرج من بطن أمه ، يقول له : " عبدي ، قد أخرجتك إلى الدنيا طاهراً نظيفاً ، واستودعتك عُمرك ، ائتمنتك عليه ، فانظر كيف تحفظ الأمانة ، وانظر كيف تلقاني كما أخرجتك ، " وسِرٌ عن خروج روحه ، يقول له : " عبدي ، ماذا صنعت في أمانتي عندك؟ هل حفظتها حتى تلقاني على العهد والرعاية ، فالقاك بالوفاء والجزاء؟ أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟ " فهذا داخل في قوله عز وجل : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } وفي قوله عز وجل : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] فعُمْر العبد أمانة عنده ، إن حفظه أدى الأمانة ، وإن ضيَّعه فقد خان ، { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } [ الأنفال : 58 ] . ه .
(4/171)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قلت : " خلق " : إن كان بمعنى اخترع وأحدث؛ تعدى إلى واحد ، وإن كان بمعنى صَيَّر؛ تعدى إلى مفعولين ، ومنه { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } ، ومن بعده .
يقول الحق جل جلاله : { ولقد خلقنا الإنسان } ؛ جنس الإنسان ، أو آدم ، { من سُلالةٍ } ؛ " من " : للابتداء ، والسلالة : الخُلاصة؛ لأنها تسل من بين الكدر ، وهو ما سُلَّ من الشيء واستخرج منه ، فإن ( فُعالة ) اسم لما يحصل من الفعل ، فتارة يكون مقصوداً منه ، كالخُلاصة ، وتارة غير مقصود ، كالقُلامة والكناسة ، والسلالة من قبيل الأول؛ فإنها مقصودة بالسَّل ، وقيل : إنما سمي التراب الذي خُلق من آدم سلالة ، لأنه سُلّ من كل تربة . وقوله : ( من طين ) ، بيان ، متعلقة بمحذوف ، صفة للسلالة ، أي : خلقناه من سلالة كائنة من طين .
{ ثم جعلناه } أي : الجنس ، باعتبار أفراده المتغايرة لآدم عليه السلام ، وجعلنا نسله ، على حذف مضاف ، إن أُريد بالإنسان آدم ، فيكون كقوله تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8 ، 7 ] أي : جعلنا نسله { نطفة } : ماءً قليلاً { في قرار مكين } أي : في مستقر - وهو الرحم - ( مكين ) : حصين ، أو متمكن فيه ، وَصف الرحم بصفة ما استقر فيه ، مثل طريق سائر ، أي : مسير فيه .
{ ثم خلقنا النطفة علقة } أي : دماً جامداً ، بأن جعلنا النطفة البيضاء علقة حمراء ، { فخلقنا العلقة مُضغة } أي : قطعة لحم لا استبانةَ ولا تمايز فيها { فخلقنا المضغة } أي : غالبها ومعظمها ، أو كلها { عظاماً } ، بأن صلبناها ، وجعلناها عَموداً على هيئةٍ وأوضاع مخصوصة ، تقتضيها الحكمة ، { فكسونا العظام } المعهودة { لحما } بأن أنبتنا عليها اللحم ، فصار لها كاللباس ، أو كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم ، على مقدار لائق به ، وهيئة مناسبة . وقرئ بالإفراد فيهما ، اكتفاء بالجنس ، وبتوحيد الأول فقط ، وبتوحيد الثاني فحسب . { ثم أنشأناه خلقاً آخر } أي : خلقاً مبايناً للخلق الأول ، حيث جعله حيواناً ، وكان جماداً ، وناطقاً وسميعاً وبصيراً ، وكان بضد هذه الصفات ، ولذلك قال الفقهاء : من غصب بيضة فأفرخت عنده ضمِّنَ البيضة ، ولم يَرُدّ الفرخ؛ لأنه خلق آخر سوى البيضة .
{ فتبارك الله أحسن الخالقين } أي : فتعالى أمره في قدرته الباهرة ، وعلمه الشامل . والالتفات إلى الإسم الجليل؛ لتربية المهابة ، وإدخال الروعة ، والإشعار بأنَّ ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية ، وللإيذان بأنَّ من حق كل من سمع ما فصَّل من آثار قدرته تعالى أو لاحظه ، أن يسارع إلى التكلم به ، إجلالاً وإعظاماً لشؤونه تعالى ، وقوله : ( أحسن الخالقين ) : بدل اسم الجلالة ، أو نعت ، على أنَّ الإضافة محضة؛ ليطابقه في التعريف ، أو خبر ، أي : هو أحسن الخالقين خلقاً ، أي : أحسن المقدرين تقديراً ، فحذف التمييز؛ لدلالة الخالقين عليه .
(4/172)

قيل : إنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي سَرْح كان يَكْتُبُ الوحيَ للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا انتهى - عليه الصلاة والسلام - إلى قوله : { خلقا آخَر } ، سَاَرَعَ عبدُ الله إلى النُطقِ بِذَلِكَ ، فَنَطَقَ بذلِكَ ، قبل إِمْلاَئِهِ ، فَقَالَ له رسُول الله صلى الله عليه وسلم " اكْتبْ ، هَكَذَا أُنْزِلَتْ " فَشَكَّ عبدُ الله ، فَقَالَ : إنْ كانَ مُحمدٌ يُوحَى إليْهِ ، فَأَنَا يُوحَى إليَّ ، فارتدَّ ولَحِق بمكَّةَ كافِراً ، ثم أَسْلَمَ يَوْمَ الفَتْحِ . وقيل : الحكاية غير صحيحة؛ لأن ارتداده كان بالمدينة ، والسورة مكية .
ثم قال تعالى : { ثم إنكم بعد ذلك } أي : بعد ما ذكر من الأمور العجيبة ، حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من البُعد ، المشعر بعُلُوِّ مرتبة المشار إليه وبُعد منزلته في الفضل ، { لميتون } : لصائرون إلى الموت لا محالة ، كما يؤذن به صيغة الصفة ، وقرئ " المائتون " ، { ثم إنكم يوم القيامة } أي : عند النفخة ، { تبعثون } في قبوركم للحساب والمجازاة ، فإن قلت : لِمَ أكدَّ الأول بإنّ واللام ، وعبَّر بالاسم دون الثاني ، الذي هو البعث ، والمتبادر للفهم العكس؛ لأن الموت لم ينكره أحد ، والبعث أنكره الكفار والحكماء؟ فالجواب كما قال ابن عرفة : إنه من حمَل اللفظ على غير ظاهره ، مثل :
جَاءَ شَقِيقٌ عَارضاً رُمْحَه ... إِنَّ بني عَمِّك فِيهِمْ رِمَاحُ
فَهُم ، لعصيانهم ومخالفتهم ، لم يعملوا للموت ، فحالهم كحال المنكر لها ، ولمّا كانت دلائل البعث ظاهرة صار كالأمر الثابت الذي لا يُرتاب فيه . ه .
الإشارة : اعلم أن الروح لها أطوار كأطوار البشرية ، من الضعف والقوة شيئاً فشيئاً ، باعتبار قوة اليقين ، والترقي إلى العلم بالله ومشاهدته ، فتكون أولاً صغيرة العلم ، ضعيفة اليقين ، تم تتربى بقوت القلوب وغذاء الأرواح؛ فقوتُ القلوب : العمل الظاهر ، وقوت الأرواح : العمل الباطن ، فلا تزال تتقوت بالعمل الظاهر شيئاً فشيئاً حتى تقوى على كمالِ غايته ، ثم تنتقل إلى قوت العمل الباطن؛ كالذكر القلبي ، والتفكر والاعتبار ، وجولان القلب في ميادين الأغيار ، ثم دوام حضور القلب مع الحق على سبيل الاستهتار ، ثم يفتح لها ميادين الغيوب ، ويوسع عليها فضاء الشهود ، فيكون قُوتها حينئذٍ رؤية المحبوب ، وهو غاية المطلوب ، فتبلغ مبلغ الرجال ، وتحوز مراتب الكمال ، ومن لم يبلغ هذا بقي في مرتبة الأطفال ، ولا يمكن حصول هذا إلا بصحبة طبيب ماهر ، يعالجها ويربيها ، وينقلها من طور لى طور ، وإلاَّ بقيت الروح مريضة لا تتقوت إلا بالمحسوسات ، وهي لا تُشبع ولا تُغني من جوع . وبالله التوفيق .
(4/173)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قلت : " سيناء " ، مَنْ فتحها : جعل همزتها للتأنيث ، فلم يصرفه؛ للتأنيث والوصف ، كحمراء ، أو لألف التأنيث ، لقيامه مقام علتين ، ومن كسرها : لم يصرفه؛ للتعريف والعجمة ، وهذا البناء ليس من أبنية التأنيث ، وإنما ألفُهُ ألف الإلحاق ، كعلِباء وجِرباء .
ونبت وأنبت : لغتان بمعنى واحد وكذلك سقى وأسقى .
يقول الحق جل جلاله : { ولقد خلقنا فوقكم سبعَ طرائق } ، وهي السموات السبع ، جمع طريقة؛ لأنها طرق الملائكة وتقلباتها ، وطرق الكواكب ، فيها مسيرها { وما كنا عن الخلق غافلين } ، أراد بالخلق السموات ، كأنه قال : خلقناها وما غفلنا عن حفظها وإمساكها ، أو الناس ، أي : خلقناها فوقكم؛ لنفتح عليكم منها الأرزاق والبركات ، وما كنا غافلين عنكم وعما يصلحكم ، أو : خلقناها فوقكم ، وما حالت بيننا وبينكم ، بل نحن أقرب إليكم من كل شيء ، فلا نغفل عن شيء من أمركم ، قلَّ أو جلَّ .
{ وأنزلنا من السماء ماءً } هو المطر ، وقيل : الأنهار النازلة من الجنة ، وهي خمسة : سَيْحُون نهر الهند ، وَجَيْحونُ نهر بلخ ، ودِجْلَةُ والفُراتُ نهرا العراق ، والنيل نهر مصر ، أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة . ه . وقوله تعالى؛ { بقدَرِ } أي : بتقدير ، يَسْلَمون معه من المضرة ، ويصلون إلى المنفعة ، أو بمقدار ما علمنا بهم من الحاجة ، أو : بقدر سابق لا يزيد عليه ولا ينقص ، { فأسكناه في الأرض } أي : جعلناه ثابتاً قاراً فيها ، كقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] ، فماء الأرض كله من السماء ، { وإنا على ذهاب به } أي : إزالته بالإفساد والتغوير ، حيث يتعذر استنباطه ، { لقادرون } كما كنا قادرين على إنزاله ، وفي تنكير " ذهاب " : إيماء إلى كثرة طرقه ، ومبالغة في الإيعاد به ، ولذلك كان أبلغ من قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] .
ثم ذكر نتائجه ، فقال : { فأنشأنا لكم به } أي : بذلك الماء { جنات من نخيلِ وأعنابِ لكم فيها } أي : في الجنات ، { فواكهُ كثيرةٌ } تتفكهون بها سوى النخيل والأعناب ، { ومنها تأكلون } أي من الجنات تأكلون تغذياً ، وتفكهاً ، أو تُرزقون وتحصِّلون معايشكم ، من قولهم : فلان يأكل من حرفته ، وهذه الجنة وجوه أرزاقكم منها ترزقون وتتمعشون ، ويجوز أن يكون الضميران للنخيل والأعناب ، أي : لكم في ثمرتها أنواع من الفواكه ، الرطب والعنب ، والتمر والزبيب ، والعصير والدِّبْسُ ، وغير ذلك وطعاماً تأكلونه .
{ و } أنبتنا به { شجرةً } هي الزيتون { تخرج من طُور سَيْناء } ، وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة ، وقيل : بفلسطين ، ويقال : فيه طور سنين ، فإمَّا أن يكون الطور اسم الجبل ، وسيناء اسم البقعة أضيف إليها ، أو المركب منهما عَلَمٌ له ، كامرئ القيس ، وتخصيصها بالخروج منه ، مع خروجها من سائر البقع ، إما لتعظيمها ، أو لأنه المنشأ الأصلي لها؛ لأن أصل الزيتون من الشام ، وأول ما نبت في الطور ، ومنه نُقل إلى سائر البلاد ، { تَنْبُتُ بالدُّهن } أي : متلبسة بالدهن ، أي : ما يدهن به ، وهو الزيت ، { وصِبْغِ للآكلين } أي : إدام لهم ، قال مقاتل : جعل الله في هذه إداماً ودُهناً ، فالإدام : الزيتون ، والدهن : الزيت .
(4/174)

وقيل : هي اول شجرة تنبت بعد الطوفان ، وخص هذه الأنواع الثلاثة؛ لأنها أكرم الشجر وأفضلها وأنفعها .
{ وإنَّ لكم في الأنعام } ، جمع نعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } تعتبرون بها ، وتستدلون بأحوالها على عظم قدرة الله تعالى ، وسابغ نعمته ، وتشكرونه عليه ، { نُسقيكم مما في بطونها } من الألبان سائغة للشاربين ، أو مما استقر في بطونها من العلَف؛ فإنَّ اللبن يتكون منه ، { ولكم فيها منافعُ كثيرةٌ } ، سوى الألبان ، وهي منافع الأصواف والأوبار والأشعار . { ومنها تأكلون } أي : من لحومها ، { وعليها } أي : على الأنعام في البر ، { وعلى الفُلك } في البحر { تُحملون } في أسفاركم ومتاجركم ، والمراد بالأنعام في الحمل الإبل؛ لأنها هي المحمول عليها في البر ، فهي سفائن العرب ، كما قال ذو الرمة :
سَفِنَةُ بَرِّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا ... يريد ناقته . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ولقد خلقنا فوق قلوبكم سبعة حجب ، فمن خَرقَها أفضى إلى فضاء شهود ذاتنا وأنوار صفاتنا ، وهي حجاب المعاصي والذنوب ، وحجاب النقائص والعيوب ، وحجاب الغفلات ، وحجاب العوائد والشهوات ، وحجاب الوقوف مع حلاوة المعاملات ، وحجاب الوقوف مع الكرامات والمقامات ، وحجاب حس الكائنات ، فمن خرق هذه الحجب بالتوبة والتزكية واليقظة والعفة والرياضة ، والأنس بالله والغيبة عما سواه ، ارتفعت عنه الحجب ، ووصل إلى المحبوب . قال الورتجبي : أوضح سبع طرائق لنا إلى أنوار صفاته السبعة . ه . وقال القشيري : الحق - سبحانه - لا يستتر من رؤيته مُدْرَكٌ ، ولا تخفى عليه من مخلوقاته خافية ، وإنما الحُجُبُ على أبصارِ الخَلْق وبصائرهم ، والعادةُ جاريةٌ أنه لا يخلق لنا الإدراك لِمَا وراء الحُجُب ، ولذلك أدخِلَت الغفلةُ القلوبَ ، واستولى عليها الذهول ، سدَّت بصائرها ، وغيبت فهومها ، ففوقها حجب ظاهِرة وباطنة ففي الظاهر : السموات حجبٌ تحول بيننا وبين المنازل العالية وعلى القلوب أغشية وأغطية ، كالشهوة والأمنية ، والإرادات الشاغلة والغفلة المتراكمة .
ثم ذكر أن طرائق المريدين الفَتْرَة ، وطرائق الزاهدين ترك عُروق الرغبة . قال : وأما العارفون فربما تظلهم في بعض أحيانهم وقفةٌ في تضاعيف سيرهم إلى ساحات الحقائق ، فيصيرون موقوفين ريثما يتفضّلُ الحقُّ - سبحانه - عليهم بكفاية ذلك ، فيجدون نفاذاً ، ويدفع عنهم ما عاقهم من الطرائق ، وفي جميع ذلك فالحق - سبحانه - غير تاركٍ للعبد ولا غافلٍ عن الخلق . ه .
وقوله : { وما كنا عن الخلق غافلين } أي : وما كنا غافلين عن إرسال من يخرجهم من تلك الحجب القهرية ، بل بعثنا الرسل ، وفي أثرهم العارفين الربانيين ، يُخرجون من تعلق بهم من تلك الطرائق ، ويوصلونهم إلى بحر الحقائق . وأنزلنا من سماء الغيوب ماء العلم اللدني ، فأسكناه في أرض النفوس والقلوب ، بقدر ما سبق لكل قلب منيب ، وإناعلى ذهاب به من القلوب والصدور لقادرون .
(4/175)

ولذلك كان العارفون لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، فأنشأنا بذلك العلم في قلوب العارفين جنات المعارف من نخيل الأذواق والوجدان ، وأعناب خمرة العيان ، لكم فيها فواكه كثيرة ، أي : تمتع كثير بلذة الشهود ، ومنها تتقوت أرواحكم وأسراركم ، وشجرة المعرفة تخرج من القلوب الصافية ، التي هي محل المناجاة ، كطور موسى ، أي : تنبت فيها ويخرج أغصانها إلى ظاهر الجوارح ، تنبت في القلب بدهن الذوق والوجد ، وصبغ للآكلين ، أي : المريدين الآكلين من تلك الشجرة ، فتصبغ قلوبهم بالمعرفة واليقين .
وقوله تعالى : { وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، قال القشيري : الإشارة فيه : أنّ الكدوراتِ الناجمةَ المتراكمةَ لا عِبْرَةَ بها ولا مبالاة ، فإنَّ اللَّبنَ الخالص السائغَ يخرجُ من أخلاف الإبل والأنعام ، من بين ما ينطوي حواياها عليها من الوحشة ، ولكنه صافٍ لم يؤثر فيها بُحكم الجِوار ، والصفا يوجد أكثره في عين الكُدروة؛ إذ الحقيقة لا يتعلق بها حق ولا باطل . ومَنْ أَشرف على سِرِّ التوحيد تحقَّقَ بأنَّ ظهور جميع الحدثان من التقدير ، فتسْقُط عنه كلفة التمييز؛ فالأسرارُ عند ذلك تصفو ، والوقت لصاحبه لا يجفو ، ( ولكم فيها منافع ) لازمةٌ لكم ، ومتعدية منكم إلى كلِّ متصلٍ بكم . انتهى على لحن فيه ، فتأمله .
(4/176)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قلت : ذكر في الحاشية وجوهاً من المناسبة ، فقال : لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره ، لقوله : ( اصنع الفلك ) ، وأيضاً : هو أبو البشر الثاني ، فَذُكِرَ كما ذكر أولاً آدم ، في ذكر خلق الإنسان ، وأيضاً في ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم ، فناسب صدر السورة ، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن ، كما صرح بذلك في قوله في آخرها : ( إنه لا يفلح الكافرون ) ، وفي النجاة في الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره . ه . ( وإن كنا لمبتلين ) : " إنْ " : مخففة ، واسمها : ضمير الشأن ، واللام فارقة .
يقول الحق جل جلاله : { ولقد أرسلنا } : وتالله لقد أرسلنا { نوحاً إلى قومه } ، وقد مرّ في الأعراف نسبه وكيفية بعثته ، { فقال } لقومه حين أُرسل إليهم ، متعطفاً عليهم ، ومستميلاً لهم إلى الحق : { يا قوم اعبدوا الله } وحده؛ إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها ، فلذلك لم يقيدها هنا ، وقيدها في هود ، بقوله : { أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } [ هود : 26 ] { ما لكم من إلهٍ غيرهُ } أي : ما لكم من الوجود إله يستحق أن يُعبد غيره ، فالرفع على المحل ، والجر على اللفظ . { أفلا تتقون } ؛ أفلا تخافون عقوبة الله ، الذي هو ربكم وخالقكم ، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء ، أو : أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه ، كما يُفصح عنه قوله تعالى : { إنى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 59 ] .
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي : أشرافهم لعوامهم : { ما هذا إلا بشرٌ مثلكُم } في الجنس والوصف ، يأكل ويشرب مثلكم ، من غير فرق بينكم وبينه ، { يُريد أن يتفضَّل عليكم } أي : يطلب الفضل عليكم ، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم ، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحَجَر ، ولم يرضوا بنبوة البشر . ثم قالوا : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } أي : لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلاً من الملائكة . وإنما قال : لأنزل ولم يقل : لأرسل؛ لأنَّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال ، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال ، أي : لو شاء ربنا إنزال شيء من الوحي لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا ، { ما سمعنا بهذا } أي بمثل هذا الكلام ، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده ، وترك عبادة ما سواه ، أو : ما سمعنا بأنَّ البشر يكون رسولاً ، أو بمثل نوح عليه السلام في دعوى النبوة ، { في آبائنا الأولين } أي : الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام ، وإنما قالوا ذلك؛ إما من فرط عنادهم ، أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة ، وقيل : معناه : ما سمعنا به أنه نبي ، { إنْ هو } أي : ما هو { إلا رجل به جِنَّةٌ } أي جنون ، أو جن يخبلونه ، ولذلك يقول ما يقول : { فتربصوا به حتى حين } أي : انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلي أمره ، فإن أفاق من جنونه ، وإلا قتلتموه .
(4/177)

{ قال ربّ انصرني بما كذَّبونِ } ، لمَّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم ، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال عليه السلام ، بعدما سمع هذه الأباطيل؟ فقيل : قال ، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب ، وتمادوا في الغواية والضلال ، حتى أيس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن : { رب انصرني } بإهلاكهم بالمرة ، فهو حكاية إجمالية لقوله : { لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . { بما كذَّبون } ؛ بسبب تكذيبهم إياي ، أو بدل تكذيبهم ، كقولك : هذا بذاك ، أي : بدل ذاك والمعنى : أبدلني من غم تكذيبهم سلَوة النصر عليهم .
{ فأوحينا إليه } ؛ أجببنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك { أَنِ اصنعِ الفُلكَ بأعيننا } أي : ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا ، كأنَّ معك حُفاظنا يكلؤونك بأعينهم ، لئلا يتعرض لك أحد ، يفسد عملك ، ومنه قولهم : عليه من الله عيون كالئة ، { ووَحْينا } أي : أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها . رُوي : أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جُؤْجؤ الطائر . وفي القاموس جُؤجؤ - كَهُدْهُد- : الصدرُ . { فإذا جاء أَمْرُنا } أي : عذابنا بأمرنا ، { وفار التنُّور } أي : فار الماء من تنور الخبز ، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق؛ ليكون أبلغ في الإنذار والإعتبار . رُوي أنه قيل لنوح : إذا رأيت الماء يفور من التنور؛ فاركب أنت وأهلك السفينة ، فلما نبع الماء من التنور؛ أخبرته امرأته ، فركب ، وكان التنور تنورَ آدم ، فصار إلى نوح ، وكان من حجارة . واختلف في مكانه ، فقيل : في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ، وقيل : بالشام ، وقيل : بالهند .
فإذا فار { فاسْلُكْ فيها } : فَأَدْخِلْ في السفينة { من كل زوجين اثنين } ؛ من كل أمة اثنين مزدوجين ، ذكر وأنثى . قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما البق والدود والزباب ، فلم يحمل منه شيئاً ، وإنما يخرج من الطير . ه . { و } احمل في السفينة { أهلَك } ؛ نساءك وأولادك ، أو من آمن معك ، { إلا من سبق عليه القولُ منهم } أي : القول من الله بهلاكه ، وهو ابنه وإحدى زوجتيه ، وإنما جيء بعلى؛ لكون السابق ضاراً ، كما جيء باللام في قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] ، { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } [ الصافات : 171 ] ؛ لكونه نافعاً ، ونحوه : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] ، { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } أي : لا تسألني نجاة الذين كفروا ، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة؛ لظلمهم بالإشراك والإصرار ، ومَنْ هذا شأنه لا يُشفع له ، وكأنه عليه السلام ندم على الدعاء عليهم ، حين تحقق هلاكهم ، فهَمَّ بمراجعة الحق فيهم؛ شفقة ورحمة ، فَنُهي عن ذلك .
ثم قال له : { فإِذا استويتَ أنت ومن معك على الفُلْك } ؛ فإذا تمكنتم عليها راكبين { فقل الحمد لله الذي نجَّانا من القوم الظالمين } ، أُمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق :
(4/178)

{ فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الأنعام : 45 ] . ولم يقل : فقولوا ، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه؛ لأنه نبيهم وإمامهم ، فكان قوله قولَهم ، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة .
{ وقل ربِّ أنزلني } في السفينة ، أو منها { مُنْزَلاً مباركاً } أي : إنزالاً مباركاً ، أو موضع إنزال يستتبع خيراً كثيراً ، { وأنت خير المُنزِلين } ؛ خير من ينزل في كل خير ، أُمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى ، توسلاً به إلى إجابة دعائه ، فالبركة في السفينة : النجاة فيها ، وبعد الخروج منها : كثرة النسل وتتابع الخيرات ، { إِنَّ في ذلك } فيما فعل بنوح وقومه { لآياتِ } : لعبراً ومواعظ ، { وإن كنا } أي : وإن الشأن والقصة كنا { لمبتلين } : مُصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ، أو : مختبرين بهذه الآيات عبادنا ، لننظر من يعتبر ويذكر ، كقوله : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 15 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : تقدمت إشارة هذه القصة مراراً بتكررها ، وفيها تسلية لمن أوذي من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم . وقال القشيري في قوله : { وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً } : الإنزال المبارك : أن تكون بالله ولله على شهود الله ، من غير غفلة عن الله ، ولا مخالفة لأمر الله . ه .
(4/179)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
يقول الحق جل جلاله : { ثم أنشأنا من بعدهم } ؛ من بعد قوم نوح { قرناً } أي : قوماً { آخرين } هم عادٌ قوم هود ، حسبما رُوي عن ابن عباس ، ويشهد له قوله تعالى : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } [ الأعراف : 69 ] ، ومجيء قصة هود على إثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء ، ونقل ابن عطية عن الطبري : أن المراد بهم ثمود قوم صالح ، قال : والترتيب يقتضي قوم عاد ، إلاَّ أنهم لم يُهلكوا بالصيحة ، بل بالريح ، قال في الحاشية : والظاهر أنهم صالح . كما قاله الطبري . وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب ، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود ، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد . ثم قال : وفي السيرة : عادٌ بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح ، وثمود بن عابر بن أرَم بن سام بن نوح . ه .
{ فأرسلنا فيهم } ، الإرسال يُعَدّى بإلى ، ولم يُعَدَّ بها هنا وفي قوله : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فى أُمَّةٍ } [ الرعد : 30 ] ، { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ } [ الأعراف : 94 ] ؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال ، إيذاناً بأن المرسَل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم ، بل إنما نشأ بين أظهرهم ، كما ينبىء عنه قوله : { رسولاً منهم } أي : من جملتهم نسباً ، وهو : هود أو صالح ، فإنهما - عليهما السلام - كانا منهم . قائلاً لهم : { أنِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهُ أفلا تتقون } عذابه ، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي .
{ وقال الملأُ من قومه } ، ذكر مقال قوم هود ، في جوابه ، في الأعراف وهود بغير " واو "؛ لأنه على تقدير سؤال سائل ، قال : فما قال قومه؟ فقيل : قالوا : كيت وكيت ، وهنا مع الواو؛ لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول؛ ومعناه : حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق ، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه ، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام؛ لأنه جواب لقوله ، واقعٌ عَقِبَه ، ، أي : وقال الأشراف من قومه { الذين كفروا } ، وُصفوا بالكفر؛ ذَماً لهم ، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه ، { وكذَّبوا بلقاء الآخرة } أي : بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك ، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية ، { وأترفناهم } : نَعَّمناهم { في الحياة الدنيا } بكثرة الأموال والأولاد ، أي : قالوا لأتباعهم ، مُضلين لهم : { ما هذا } النبي { إلا بشرٌ مثلُكم } في الصفة والأحوال ، والاحتياج إلى القِوام ، ولم يقولوا : مثلنا؛ تهويناً لأمره عليه السلام .
ثم فسر المثلية بقوله : { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } أي : منه ، فحذف؛ لدلالة ما قبله عليه ، { ولئن أطعتم بشراً مثلكم } فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، { إنكم إذاً لخاسرون } بالانقياد لمثلكم ، ومن حمقهم أنهم أبَوْا اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم .
{ أَيعدُكُمْ أنكم إِذا مِتُّم } - بالكسر والضم -؛ من مات يُمات ويموت ، { وكنتم تراباً وعظاماً } نخرة ، { أنكم مُخْرَجُون } ، فأنكم الثانية ، توكيد للأولى؛ للفصل بينهما ، والتقدير : أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً؟ { هيهات هيهاتَ } ، تكرير؛ لتأكيد البُعد ، وهو اسم فعل مبني على الفتح ، واقع موقع بَعُد ، فاعلها مضمر ، أي : بعد التصديق أو الوقوع { لِما تُوعدون } من العذاب ، أو فاعلها : " ما توعدون " ، واللام زائدة ، أي بَعُد ما تعدون من البعث ، وقيل : ما توعدون من البعث .
(4/180)

وقيل : مبتدأ ، وهما اسم للبعد ، و ( لما توعدون ) : خبر ، أي : بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون ، { إن } : ما { هِيَ إلا حياتنا الدنيا } ، والضمير لا يُعْلَمُ ما يُغْنَى به إلا بما بعده من بيانه ، وأصله : إن الحياةُ إلا حياتنا ، وأتى بالضمير؛ حذراً من التكرير ، أي : لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها ، ودنت منها ، { نموت ونحيا } أي : يموت بعضنا ويولد بعضٌ ، إلى انقراض العصر ، { وما نحن بمبعوثين } بَعد الموت ، { إن } ؛ ما { هو إلا رجل افترى على الله كَذِباً } فيما يدَّعيه من الإرسال ، وفيما يَعدنا من البعث ، { وما نحن له بمؤمنين } : بمصدِّقين بما يقول .
{ قال } هود ، أو صالح - عليهما السلام - بعدما سلك في دعوتهم كل مسلك ، متضرعاً إلى الله - عز وجل - : { ربِّ انصرني } عليهم ، وانتقم منهم { بما كذَّبونِ } أي : بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه ، { قال } تعالى؛ إجابة لدعائه : { عمَّا قليلٍ } أي : عن زمان قليل ، زيدت " ما " ، بين الجار والمجرور؛ لتأكيد معنى القلة ، أو نكرة موصوفة ، أي؛ عن شيء قليل { ليصبِحُنَّ نادمين } عما فعلوا عن التكذيب ، وذلك عند معاينتهم العذاب .
{ فأخذتهم الصيحةُ } ، لعلهم ، حين اصابتهم الريح العقيم ، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته . أو يراد بها : صرير الريح وصوته . وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم ، سار إليها بأهله ، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء ، فهلكوا ، وقيل : الصيحة : العذاب المصطلِم ، قال الشاعر :
صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيَحةً ... خَرُّوا؛ لشِدَّتها ، على اْالأَذْقَانِ
وإذ قلنا : هم قوم صالح ، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام ، صاح عليهم فدمرهم . وقوله : { بالحق } أي : بالعدل من الله ، يقال : فلان يقضي بالحق ، أي بالعدل ، أو : أخذتهم بالحق ، أي : بالأمر الثابت الذي لا دفاع له ، { فجعلناهم غُثاء } أي : كغثاء السيل ، وهو ما يحمله من الورق والحشيش ، شبههم في دمارهم بالغثاء ، وهو ما يرميه السيل ، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب . { فبُعداً } : فهلاكاً ، يقال بَعُدَ بُعْداً ، أي : هلك هلاكاً ، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها ، أي : فسحقاً { للقوم الظالمين } ، وهو إخبار ، أو دعاء ، واللام؛ لبيان من دُعي عليه بالبُعد ، كقوله : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من عادة الحق - سبحانه - ، إذا أكب الناس على دنياهم ، واتخذوا إلههم هواهم ، بعث من يذكرهم بالله ، فيقول لهم : اعبدوا الله ، ما لكم من إله غيره ، أي : أفردوه بالمحبة ، واقصدوه بالوجهة ، فما عبدَ الله من عبد هواه ، فيقول المترفون ، وهم المنهمكون في الغفلة ، المحجوبون بالنعمة عن المنعم ، الذين اتسعت دائرة حسهم : ما هذا الذي يعظكم ، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم ، ألا بشر مثلكم ، يأكل مما تأكلون ، ويشرب مما تشربون ، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية ، فإذا تمادوا في غفلتهم ، وأيس من هدايتهم ، ربما دعا عليهم ، فأصبحوا نادمين ، حين لا ينفعهم الندم ، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ . وبالله التوفيق .
(4/181)

ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قلت : القرن : أهل العصر ، سُموا به؛ لِقران بعضهم البعض ، و ( تترا ) : حال ، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى ، وهو من الوتر ، واحداً بعد واحد ، فالتاء الأولى بدل من الواو ، وأصله : وَترى ، كتراث وتقوى ، والألف للتأنيث ، باعتبار أن الرسل جماعة ، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى ، فيقال : أرطى ومعزى ، وقيل : مصدر بمعنى فاعل ، أي : متتابعين .
يقول الحق جل جلاله : { ثم أنشأنا من بعدهم } أي : من بعد قوم هود ، { قروناً آخرين } ؛ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم ، { ما تسبق من أمة } ، " مِنْ " صلة ، أي : ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة { أجلَها } الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل ، { وما يستأخرون } عنه ساعة . { ثم أرسلنا رسلَنا } ، عطف على " أنشأنا " ، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة ، وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به ، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم من أجلها المضروب لهلاكهم؛ للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجهٍ إجمالي .
وقوله : { تَتْرَى } أي : متواترين واحداً بعد واحد ، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضاً ، { كلما جاء أمةً رسولها كذبوه } ، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه ، والإضافة تكون بالملابسة ، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة ، وهنا إلى المرسل إليهم؛ للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم ، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها ، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء؛ للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى ، { فأتبعنا بعضَهم بعضاً } في الهلاك ، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب ، الذي هو سبب الهلاك ، { وجعلناهم أحاديثَ } ؛ أخبار ، يُسمر بها ويُتعجب منها ، أي : لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون ، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث ، ومنه : أحاديث النبي - عليه الصلاة والسلام - ويكون جمعاً للأحدوثة ، وهي ما يتحدث بها الناس؛ تلهياً وتعجباً ، وهو المراد هنا { فبعداً لقوم لا يؤمنون } به وبرسله اقتصر هنا على عدمإيمانهم وأما القرون الأولى فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفهم بالظلم . والله تعالى أعلم وأحكم .
الإشارة : كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة ، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية ، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك ، وإنهاض لها إلى العمل الصالح ، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم ، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية ، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده ، كما قال القائل :
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه ... فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا
وقال آخر :
ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضَوْؤهُ ... يَحورُ رَماداً بَعْدَما هو سَاطِعُ
ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ ... ولا بُدَّ يوماً أن تُردَّ الْودَائِعُ
وبالله التوفيق .
(4/182)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قلت : " هارون " : بدل من " أخاه " .
يقول الحق جل جلاله : { ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا } التسع؛ من اليد ، والعصا ، والطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ، والضفادع ، والدم ، ونقص الثمرات ، والطاعون . ولا مساغ لعدّ فلق البحر منها؛ إذ المراد الآيات التي كذبُوها واستكبروا عنها ، بدليل ما بعدها . { وسلطانٍ مبينٍ } ؛ وحجة واضحة مُلزِمَة للخصم الإقرار بما دُعي إليه ، وهي إمّا العصا ، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات؛ لأنها أبهر آياته عليه السلام ، وقد تضمنت معجزات شتى؛ من انقلابها ثعباناً ، وتلقفها ما أفكته السحرة ، كما تقدم . وأما التعرض لانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر؛ بضربها ، وحراستها ، وصيرورتها شمعة ، وشجرة خضراء مثمرة ، ودلْواً ورشاء ، وغير ذلك مما ظهر منها في غير مشهد فرعون وقومه ، فغير ملائم لمقتضى المقام ، وإمّا ما أتى به من الحجج الباهرة ، فيشمل ما تقدم وغيره .
{ إلى فرعون وملَئه } أي : أشراف قومه ، خصهم بالذكر؛ ليرتب عليه ما بعده من قوله : { فاستكبروا } عن الإنقياد وتمردوا . تكبراً وترفعاً ، { وكانوا قوماً عالين } : متكبرين ، متمردين ، { فقالوا } ، فيما بينهم ، على طريق المناصحة : { أنؤمن لبشَرَيْنِ مثلنا } ، " مثل " و " غير " يوصف بها الإثنان والجمع والمذكر والمؤنث ، والبشر يطلق على الواحد ، كقوله : { بَشَراً سَوِياًّ } [ مريم : 17 ] ، وعلى الجمع ، كقوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً } [ مريم : 26 ] ، وأراد به هنا الواحد ، فثناه ، أي : كيف نؤمن لبشرين مثلنا في العجز والافتقار ، { وقومهما لنا عابدون } أي : خادمون منقادون لنا كالعبيد ، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بهما - عليهما السلام - وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية ، بناء على زعمهم الفاسد ، من قياس الرئاسة الدينية على الرئاسات الدنيوية ، الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية ، من المال والجاه ، كدأب قريش ، حيث قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] . وعلى جهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية ، وإحراز الكمالات السنية ، جِبِلَّةً او اكتساباً ، { فكذبوهما } أي : فتمادوا على تكذيبهما ، وأصروا ، واستكبروا استكباراً ، { فكانوا من المهلَكِين } بالغرق في بحر القلزم .
{ ولقد آتينا } بعد إهلاكهم ، وإنجاء بني إسرائيل من مِلكِهم واسترقاقهم ، { موسى الكتابَ } : التوراة ، ولَمَّا نزلت لإرشاد قومه جُعلوا كأنهم أوتوها ، فقيل : { لعلهم يهتدون } إلى الحق بالعمل بما من الشرائع والأحكام ، وقيل : على حذف مضاف ، أي : آتينا قوم موسى ، كقوله : { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } [ يونس : 83 ] ، أي : من آل فرعون وملئهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من طُرد وأُبعد عن ساحة رحمة الله تعالى والوصول إليه ، فإنما سببه التكبر والعلو ، وكل من قرب ووصل إلى الله فإنما سببه التواضع والحنو ، ولذلك ورد :
(4/183)

" لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كان في قَلْبِه مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ " وحقيقة الكِبرِ : بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ ، أي : إنكار الحق واحتقار الناس ، وفي مدح التواضع والخمول ما لا يخفى . فمن تواضع ، دون قدره ، رَفَعَهُ الله فوق قدره ، فالتواضع مصيدة الشرف ، به يصطاد وينال ، ومن أوصاف أهل الجنة : " كل ضعيف مستضعف ، لو أقسم على الله لأبره في قسمه " ، إلى غير ذلك من الأخبار .
وكل من أنكر على أهل الخصوصية فسببه إما الحسد ، أو الجهل بأن الخصوصية لا تنافي أوصاف البشرية ، أو قياس الرئاسة الباطنية الدينية على الرئاسة الدنيوية ، فأسقط من لا رئاسة له في الظاهر ولا جاه ، أو لعدم ظهور الكرامة ، وهي غير مطلوبة عند المحققين . والله تعالى أعلم .
(4/184)

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
يقول الحق جل جلاله : { وجعلنا ابنَ مريَم وأمه آيةً } دالة على كمال قدرتنا؛ بولادته منها من غير مسيس بشر ، ووحَّدها؛ لأن الأعجوبة فيهما واحدة . أو المراد : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ، فحذفت الأولى؛ لدلالة الثانية عليها ، أي : وجعلنا ابن مريم وحده ، من غير أن يكون له أب ، آية ، وأمه ، من حيث أنها وَلدت من غير ذَكَر ، آية ، وتقديمه عليه السلام؛ لأصالته فيما ذَكَر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ، لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ .
{ وآويناهما } أي : جعلنا مأويهما ومنزلهما { إلى ربوةٍ } أي : أرض مرتفعة ، وهو بيت المقدس؛ فإنها كبد الأرض ، وأقرب الأرض إلى السماء ، بمعنى أنه يزيد علوها على علو الأرض ، فينتقصُ بُعدها عن السماء عن بُعد غيرها منها بثمانية عشر ميلاً ، كما جاء ، ولعل ذلك سر كونها أرض الحشر ، وكون الإسراء وقع منها . قاله المحشي ، وقيل : دمشق ، وقيل : فلسطين ، والرملة . { ذات قرارٍ } ؛ مستقر من الأرض ، مستوية منبسطة ، سهلة ، أو ذات ثمار ، يستقر؛ لأجل ثمارها ، ساكنوها فيها ، { ومَعِين } أي : ماء معين ، ظاهر ، جارٍ ، فقيل : من معن ، إذا جرى ، أو مدرك بالعين لظهوره من عانه إذا أدركه بعينه أو من الماعون وهو النفع؛ لأنه نفاع لظهوره وجريه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كان عيسى عليه السلام منقطعاً عن هذا العالم ، متبتلاً زاهداً ، لم يتخذ في هذه الدنيا قراراً ، ولم يبن فيها مسكناً ولا داراً ، فكان آية للعباد والزهاد من الرجال . كما أن أمه كانت آية للنساء العابدات ، في التبتل والانقطاع ، فآواهما إلى ربوة التقريب والاصطفاء ، ذات قرار وتمكين ومصافاة ووفاء ، وجعل ، جل جلاله ، أولياءه على قدم أنبيائه ، فمنهم على قدم نوح عليه السلام في القوة ونفوذ الهمة ، مهما دعا على أحد هلك . ومنهم على قدم إبراهيم عليه السلام في الشفقة والرحمة وعلو الهمة ، وتحقيق التوحيد ، وإمام أهل التفريد ، ومنهم على قدم موسى عليه السلام في المناجاة والمكالمة والقوة والعزم ، ومنهم على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع ، ومنهم على قدم نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ وهو الجامع لما افترق في غيره ، وهو قطب الدائرة ، نفعنا الله بهم جميعاً .
(4/185)

يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
قلت : ( وإن هذه ) : مَن كسره استأنف ، ومَن فتحه حذف اللام ، أي : فاتقون؛ لأنَّ هذه ، أو معطوف على ما قبله : ( بما تعملون عليم ) ، وبأن هذه ، أو بتقدير : واعلموا أن هذه . و ( زُبُراً ) : حال من : " أَمْرهم " ، أو من " واو " ( تقطعوا ) ، و ( نُسارع ) : خبر " أن " ، و " ما " : موصولة .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الرسل كُلوا من الطيبات } ، هذا النداء والخطاب ليسا على ظاهرهما؛ لأنهم أرسلوا متفرقين في أزمنة مختلفة ، وإنما المعنى : الإعلام بأنَّ كل رسول في زمانه نُودي بذلك ، ووصي به؛ للإيذان بأن إباحة الطيبات شرعٌ قديم ، جرى عليه جميع الرسل - عليه الصلاة والسلام - وَوُصّوا به ، أي : وقلنا لكل رسول : كُلْ من الطيبات واعمل صالحاً . فعبَّر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع؛ للإيجاز ، وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى . قاله أبو السعود . وقيل : خطاب لعيسى عليه السلام؛ لاتصال الآية به ، وكان يأكل من غزل أمه ، وهو من أطيب الطيبات ، وقيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لفضله وقيامه مقام الكل ، وكان يأكل من الغنائم ، وما رزقه الله من غير اختيار على الله ، والجمع : للتعظيم فيهما ، والطيبات : ما يُستطاب ويُستلذ من مباحات المآكل والفواكه ، حسبما يُنبىء عنه سياق النظم الكريم .
{ واعملوا } عملاً { صالحاً } ، فإنه المقصود منكم؛ شكراً لما أُسدي إليكم ، ولا تشتغلوا بالنعم عن طاعة المنعم وشهوده ، { إني بما تعملون } من الأعمال الظاهرة والباطنة ، { عليم } ، فأجازيكم عليه ، وفيه تهديد للمذكورين ، فما بالك بغيرهم ممن ألهته النعم عن شهود المنعم وشكره؟!
{ وإن هذه أمتكم } أي : ملتكم وشريعتكم التي أنتم عليها { أمةً واحدة } أي : ملة واحدة ، متحدة في أصول الشرائع ، التي لا تُبدل بتبدل الأعصار ، وهو التوحيد وما يتبعه من أصول العقائد . { وأنا ربكم } من غير أن يكون لي شريك في الربوبية ، { فاتقون } : فخافوا عتابي في مخالفتكم أمري ، أو في شق العصا ، والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي .
والخطاب للرسل والأمم جميعاً ، على أن الأمر في حق الرسل للتهييج ، وفي حق الأمم للتحذير . قيل : وجاء هنا : " فاتقون " ، الذي هو أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء : { فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] ؛ لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين ، وفي الأنبياء ، وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها ، فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام ، في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم ، فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته .
ثم قال تعالى : { فتقطَّعوا أمرهم } أي : فتفرقوا في أمر دينهم مع اتحاده ، وجعلوه قطعاً متفرقة ، وأدياناً مختلفة ، { بينهم زُبراً } أي : قطعاً - جمع زَبور ، بمعنى الفرقة ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( زُبَراً ) بفتح الباء ، جمع زُبْرة؛ كغُرْفة ، أي : قطعاً مختلفة ، كلٌّ ينتحل كتاباً ، وقيل : جمع زَبور ، بمعنى كتاب ، أي : كل فريق يزعم أن له كتاباً يتمسك به .
(4/186)

وعن الحسن : قطعوا كتاب الله قطعاً وحرَّفوه ، والأول أقرب ، أي : تفرقوا في أصل الدين فرقاً ، وتحزبوا أحزاباً ، { كل حزب } من أولئك المتحزبين { بما لديهم } من الدين الذي اختاروه ، أول من الهوى والرأي ، { فَرِحُون } : مُعجبُون ، يعتقدون أنه الحق .
{ فذَرهم في غمرتهم } ؛ في جهالتهم وغفلتهم ، شبَّه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة؛ لأنهم مغمورون فيها ، سابحون في بحر الجهالة ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ إيذاناً بأنهم مطبوع على قلوبهم ، أي : اتركهم على حالهم { حتى حين } : حتى نأمرك فيهم بما شئتُ من الجهاد أو غيره ، أو : إلى أن يُقتلوا أو يموتوا على الكفر ، أو : إلى وقت حلول العذاب بهم . فهو تهديد وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن استعجال عذابهم ، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل .
{ أيحسبون أنما نُمِدُّهم به } أي : نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم ، { من مالٍ وبنين } ؛ " من " : بيان ، أي : أيظنون أن الذي نمدهم به من الأموال والبنين ، { نُسارعُ لهم } بذلك { في الخيرات بل لا يشعرون } أنه استدراج ، قيل : استدراك لقوله : { أيحسبون } أي : بل هم أشباه البهائم ، لا شعور لهم حتى يتأملوا في ذلك ، هل هو استدراج أو مسارعة في الخيرات؟ وحاصل المعنى : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجاً لهم إلى المعاصي ، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات ، ومعاملة لهم بالثواب ، جزاء على حسن صنيعهم .
وهذه الآية حجة على المعتزلة في مسألة الأصلح؛ لأنهم يقولون : إن الله - تعالى - لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ، وقد أخبر أن ذلك لا خير لهم فيه ولا صلاح ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : تناول الطيبات وما تشتهيه النفس من أنواع الملذوذات ، مباح في الشرع قديماً وحديثاً ، إن كان من وجه مباح وقارنه الشكر؛ لأن الحق تعالى ما خلق ذلك إلا لعباده؛ ليشكروه ويحمدوه ، ويتذكروا بذلك نعيم الجنان ، الذي لا يفنى ولا يزول ، وما هذا النعيم الدنيوي إلا أنموذج من نعيم الآخرة ، قال تعالى : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِى الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] . هذا باعتبار عامة المسلمين ، وأما الخاصة؛ من العُبَّاد والزهاد والمريدين السائرين ، فهم يجتنبون ما تجنح إليه النفس ، ويتعلق به القلب؛ خوفاً من الإشتغال بذلك عن العبادة أو السير؛ لأن القلب إذا توجه لأمر أعرض عن الآخر ، فإذا توجه إلى طلب الشهوات أعرض عن الله ، وتَفَتَّر عن السير ، وتَكَبَّل عن النهوض إلى الحضرة . ولذلك قال في الحِكَم : " كيف يشرق قلب : صُورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته؟ أم كيف يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟ " وقال بعضهم : لَدغُ الزنابير على الأجسام المَقرحة ، أيسر من لدغ الشهوات على القلوب المتوجهة .
(4/187)

ه .
وأما خاصة الخاصة؛ وهم العارفون المتمكنون ، فهم مع مولاهم ، يأخذون من يده ما يعطيهم؛ لأن قلوبهم قد استغرقتها الأنوار ، فلم يبق فيها متسع للأغيار ، قد تهذبت نفوسهم ، واطمأنت بالله قلوبهم ، فلا تلتفت إلى غير مولاها . وبالله التوفيق .
وقوله تعالى : { فتقطعوا أمرهم بينهم . . . } إلخ ، الاختلاف ، إن كان التوحيد وما يرجع إليه من أصول العقائد ، فهو مذموم ، وهو الذي نعاه الله على الكفرة المتحزبة ، وأمَّا إن كان في الفروع فهو مشروع ، كاختلاف الشرائع والمذاهب ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام- : " اختلاف أمتي رحمة " ، وقال بعض الصوفية : ما زالت الصوفية بخير ما تنافروا ، فإن توافقوا فلا خير فيهم . ه . والمراد بالتنافر - في حقهم - التناصح ، وإنكار بعضهم على بعض؛ إذا رأى من أحد عيباً ، فإن سكتوا عن بعضهم ، وتوافقوا على مساوئ بعضهم بعضاً ، فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فهي متوافقة مؤتلفة .
وقوله تعالى : { كل حزب بما لديهم فرحون } ، أما أهل الحق فهم فرحون؛ لسلوكهم على المنهاج المستقيم ، المُفضي إلى رضوان الله ورحمته ، وأما أهل الباطل فزين لهم الشيطان أعمالهم؛ ليتمكنوا من التقرر عليه حتى ينفذ مراد الله فيهم ، ولو تحققوا أنهم على باطل لم يمكن قرارهم عليه ، فتبطل حكمته وقهريته ، وكل من أقامه الحق - تعالى - في حرفة أو خُطة ، زينها الله - تعالى - في قلبه حتى يقوم بها ، وكذلك أهل الأسباب من أرباب الدليل والبرهان ، مع أهل التجريد من أهل الشهود والعيان ، لو علموا بمقام أهل العيان ما أقاموا في الأسباب ، ولتجردوا كلهم ، فتبطل الحكمة الإلهية . وكان إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه يقول : ( لو يعلم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف ) : فسبحان من قرَّب قوماً وأبعد قوما ، { وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا } . والله تعالى أعلم وأحكم .
(4/188)

إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
قال في الحاشية : لمّا ذكر تعالى غفلةَ الكفار ووعيدهم ، عقَّب ذلك بوصف المؤمنين بضد ذلك ويقينهم بالرُّجْعَى ، وإشفاقهم من جلال الحق وقهره . ه .
يقول الحق جل جلاله : { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } أي : من عذابه خائفون حذرون ، { والذين هم بآيات ربهم } المنصوبة والمُنَزَّلة ، ( يؤمنون ) بتصديق مدلولها ، وبكتب الله كلها ، لا يُفرقون بين كتبه ، كالذين تقطعوا أمرهم بينهم - وهم أهل الكتاب وغيرهم ، { والذين هم بربهم لا يشركون } شركاً جلياً ولا خفياً ، بخلاف مشركي العرب والعجم .
{ والذين يُؤتون ما آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات . وقرئ : ( يأَتُونَ مَا أَتَواْ ) بالقصر ، أي : يفعلون من الطاعات ، { وقلوبهم وَجِلةٌ } : خائفة ألاَّ تُقبل منهم؛ لتقصيرهم؛ بأن لا يقع على الوجه اللائق ، فيُؤخذوا به ويُحرموا ثوابه؛ لأنهم { إلى ربهم راجعون } فيعاتبهم ، أو من مرجعهم إليه ، وهو يعلم ما يحيق عليهم ، والمصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر ، في حَيِّزِ صِلاتِهَا من الأوصاف الأربعة ، لا عن طوائف ، كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة ، كأنه قيل : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ، وبآيات ربهم يؤمنون . . . إلخ .
وإنما كرر الموصول؛ إيذاناً باستقلال كل واحد من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حِيالها ، وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها ، وخبر " إنّ " : { أولئك يسارعون } ، أشار إليهم بالجمع اعتبار اتصافهم بتلك النعوت ، مع أنَّ الموصول واقع على الجمع .
ومعنى البُعد؛ للإشعار ببُعد رُتبتهم في الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجليلة يسرعون { في الخيرات } أي : يرغبون في الطاعات أشد الرغبة ، فيبادرون إليها . أويسارعون في نيل الخيرات العاجلة والآجلة الموعودة على الأعمال الصالحات؛ كما في قوله تعالى : { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } [ آل عمران : 148 ] ، وقوله : { وَآتَيْنَاهُ فِى الدنيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ النحل : 122 ] ، فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم ، غير أنه غيّر الأسلوب ، حيث لم يقل : أولئك نسارع لهم في الخيرات؛ بل أسند المسارعة إليهم؛ إيماءاً إلى كمال استحقاقهم نيل الخيرات لمحاسن الأعمال . وإيثار كلمة " في " ، عن كلمة " إلى "؛ إيذانا بأنهم مُتَقلِّبون في فنون الخيرات ، لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما في قوله تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] الآية .
{ وهم لهم } أي : لأجل نيل تلك الخيرات ، { سابقون } الناس إلى الطاعات ، أو : وهم إياها سابقون ، واللام زائدة؛ لتقوية العامل ، كقوله : { وهم لها عاملون } أي : ينالونها قبل الآخرة ، فتُعجل لهم في الدنيا ، وعن ابن عباس : { هم لها سابقون } أي : سبقت لهم من الله السعادة ، فلذلك سارعوا في الخيرات . ه . فهو إشارة إلى تيسير كلِّ لما خُلِق له ، وأنه يَسَّرهمُ القدرُ لما وصفهم به من الخير ، كما أن الكفار أُمدوا بما يدعو للغفلة والإعجاب ، مما هو استدراج ومكر من حيث لا يشعرون .
(4/189)

قال تعالى : { ولا نُكلِف نفساً إلا وُسْعَها } أي : طاقتها ، فهو تحريض على تحصيل ما وُصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات؛ ببيان سهولته ، وأنه غير خارج عن حد الوسع والطاقة ، أي : عادتنا جارية بأنْ لا نكلف نفساً من النفوس إلا ما في طاقتها ، فإن لم يبلغوا في فعل الطاعة مراتب السابقين ، فلا عليهم ، بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم .
{ ولدينا كتابٌ } أي : صحائف الأعمال التي يرونها عند الحساب ، حسبما يُعرب عنه قوله : { ينطِق بالحق } ، كقوله : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] أي : عندنا كتاب أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هو عليه ، أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعاً ، وقوله : ( بالحق ) : يتعلق بينطق ، أي : يُظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ، أو يظهره للسامع ، فيظهر هناك جلائل أعمالهم ودقائقها ، ويرتب عليها أجزيتها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرٌ ، وقيل : المراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، وهو مناسب لتفسير ابن عباس بسبق السعادة ، وقوله : { وهم لا يظلمون } ، بيان لفضله تعالى وعدله في الجزاء ، إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال ، أي : لا يظلمون في الجزاء؛ بنقص الثواب أو بزيادة عذاب ، بل يُجزون بقدر أعمالهم التي كُلّفوها ، ونطقت بها صحائف أعمالهم ، أو : لا يُظلمون بتكليف ما لا وسع فيه ، أو : لا ينقصون مما سبق لهم في اللوح المحفوظ شيئاً ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : ذكر في هذه الآية أربعة أوصاف من أوصاف المقربين ، أولها : الخوف والإشفاق من الطرد والإبعاد ، والثاني : الإيمان الذي لا يبقى معه شك ولا وَهْم ، بما تضمنته الآيات التنزيلية من الوعد والإيعاد ، والثالث : التوحيد الذي لا يبقى معه شرك جلي ولا خفي ، والرابع : السخاء والكرم ، مع رؤية التقصير فيما يعطي . فمن جمع هذه الخصال كان من السابقين في الخيرات ويُسارع لهم في تعجيل الخيرات ، وكل ذلك بقدر ما يطيق العبد ، مع بذل المجهود في فعل الخيرات .
قال في الحاشية : والمسارعة إلى الخيرات إنما هو بقطع الشرور وأول الشرور : حب الدنيا؛ لأنها مزرعة الشيطان ، فمن طلبها وعمرها فهو حراثه وعبده ، وشر من الشيطان من يُعين الشيطان على عمارة داره ، وما ذلك إلا أنه لم يهتم بأمر معاده ومنقلبه ، لما جرى عليه في السابقة من الحكم ، ولا كذلك من وصفه في الإشفاق من المؤمين؛ إجلالاً لربهم ، ورجوعاً لحكمه فيهم غيباً ، فلا يأمنون مكره بحال ، ولا يركنون إلى أعمال ، بل عمدتهم ربهم ورحمته في كل حال . والله أعلم . والحاصل : أنهم مع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئاً ، ويودون طاعته ، يخافون عدم قبوله لهم عند الرجوع إليه ، ولقائهم له؛ لأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأحكامه لا تعلل ، ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده . ه .
قوله : " ومن استغرق فيه لم يقف مع وعده " ، أي : لأنه قد يرتب ذلك على شروط أخفاها عنه ، ليدوم خوفه واضطراره ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، وليس خوف العارف من السابقة ولا من الخاتمة؛ لأنه شغله استغراقه في الحق والغيبة فيه عن الشعور بالسابقة واللاحقة ، إنما خوفه من الإبعاد بعد التقريب ، أو الافتراق بعد الجمع ، وهذا أيضاً قبل التمكين ، وإلا فالكريم إذا أعطى لا يرجع . والله تعالى أعلم .
(4/190)

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قلت : " بل " إضراب عما قبله من أوصاف المؤمنين ، وانتقال إلى أضدادهم من الكافرين ، والضمير للكفرة ، و " حتى " : ابتدائية مختصة بالدخول على الجُمل .
يقول الحق جل جلاله : { بل قلوبُهم } أي : الكفرة المستدرج بهم ، وهم لا يشعرون ، { في غَمْرَةٍ } ؛ في غفلة غامرة لها ، مما عليه هؤلاء الموصوفون بما تقدم من الخشية وما بعده ، أو مما بيَّن في القرآن من أن لديه كتاباً ينطق بالحق ، ويُظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد ، فيُفضحون بها ، كما ينبئ عنه ما بعده من قوله { قد كانت آياتي تتلى عليكم . . } . { ولهم أعمال من دون ذلك } أي : ولهم أعمال خبيثة كثيرة ، متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون ، من الأعمال الصالحات ، وهي فنون كفرهم ومعاصيهم ، { هم لها عاملون } ، وعليها مقيمون ، مستمرون عليها ، حتى يأخذهم الله بالعذاب ، كما قال : { حتى إذا أخذنا مُتْرَفِيهم } أي : منعميهم { بالعذاب } أي : عذاب الدنيا ، وهو القحط سبع سنين ، حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " اللهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنِينَ كَسِنيِّ يُوسُفَ " ، فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام . أو : القتل يوم بدر . والحق : إنه العذاب الأخروي؛ إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار ، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر ، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } [ المؤمنون : 76 ] فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي . وأما الجوع فإن أبا سفيان ، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليه بالإقناط ، بل دعا لهم فكشف عنهم . وقوله تعالى : { إذا هم يجأرون } أي : يصرخون؛ استغاثة ، والجؤار : الصراخ باستغاثة . فيقال لهم : { لا تجأروا اليوم } ؛ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم ، { إنكم منا لا تُنصرون } أي : لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم .
{ وقد كانت آياتي } القرآنية { تُتلى عليكم } في الدنيا ، { فكنتم على أعقابكم تَنكصُونَ } أي : ترجعون القهقرى ، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلاً عن تصديقها والعمل بها والنكوص : الرجوع القهقرى وهي أقبح المشية؛ لأنه لا يرى ما وراءه ، { مستكبرين به } ، الظاهر أن الضمير للقرآن؛ لتقدم ذكر آياته ، والباء بمعنى " عن " أي : متكبرين عن سماعه والإذعان له ، أو سببية ، أي : فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله ، وعمن جاء به ، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين ، وقيل : يعود إلى البيت الحرام ، أو الحرم ، وأضمر ولم يذكر؛ لأنه من السياق . والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام؛ لأنهم أهله وأهل ولايته ، وكانوا يقولون : لا يظهر علينا أحد؛ لأن أهل الحرم ، وقيل : تتعلق بالباء بقوله : { سامراً } أي : تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون ، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه ، وفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به ، و " سامراً " : مفرد بمعنى الجمع ، وقرئ سُمَّاراً ، { تهجرون } ، إما من الهَجر بالفتح ، بمعنى الهذيان ، أي : تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران .
(4/191)

أو من الترك ، أي : تتركونه وتفرون منه ، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أو من " الهجر " بالضم ، وهو الفحش ، ويؤيده قراءة من قرأ : " تُهجِرون " ، من أهجر في منطقة : إذا أفحش . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه ، عاكفاً على جمع دنياه ، لا يطمع في دخول حضرة مولاه ، ولو صلى وصام ألف سنة . قال القشيري : لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها ، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة ، فأمَّا من شُغل بدنياه ، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه ، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه . ه . وفي الحديث : " نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس : الِّصحَّةُ والفَرَاغُ " .
(4/192)

أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قلت : الهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على محذوف ، أي : أَفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار فلم يتدبروا القرآن ، و " أم " : منقطعة ، فيها معنى الإضراب والتوبيخ في الجميع .
يقول الحق جل جلاله : { أَفَلَمْ يدّبروا القولَ } ؛ يتدبروا القرآن ليعرفوا ، بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول ، والإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة ، أنه الحق ، فيؤمنوا به ، ويُذعنوا لمن جاء به ، { أم جاءهم } ؛ بل أَجاءهم من الكتاب { ما لم يأتِ آباءهم الأولين } ، حتى استبعدوه واستبدعوه ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال ، { أم لم يعرفوا رسولهم } أي : بل ألم يعرفوه - عليه الصلاة والسلام - بالأمانة والصدق ، وحسن الأخلاق ، وكمال العلم من غير تعلم ولا مدارسة ، وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء قبله ، بل عرفوه بذلك { فهم له منكِرون } بغياً وحسداً .
{ أم يقولون جِنَّة } ؛ جنون ، وليس كذلك؛ لأنهم يعلمون أنه أرجحهم عقلاً ، وأثقبهم ذهناً ، وأتقنهم رأياً ، وأوفرهم رزانة ، ولقد شهد له بذلك كل من رآه من الأعداء والأحباب ، { بل جاءهم بالحق } أي : ليس الأمر كما زعموه في حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وما جاء به من القرآن ، بل جاءهم بالحق الأبلج والصراط المستقيم ، وبما خالف أهواهم ، من التوحيد الخالص والدين القيم ، ولم يجدوا له مرداً ولا مدفعاً ، فلذلك نسبوه إلى الجنون ، { وأكثرُهُم للحقِّ } من حيث هو حق ، لا لهذا بعينه ، فلذلك أظهر في موضع الإضمار ، { كارهون } ؛ لِمَا في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل؛ ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج ، وزاغوا عن الطريق الأبهج ، وفي التعبير بالأكثر دليل على أن أقلهم ما كان كارهاً للحق بل كان تاركاً للإيمان به ، أنفةً واستنكافاً من توبيخ قومه ، أو لقلة فطنته وعدم تفكره ، كأبي طالب وأضرابه . قال ابو السعود : وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق ، مع اتفاق الكل على الكفر به ، مما لا يساعده المقام أصلاً . ه . فحمل الأكثر على الكل .
{ ولو اتبع الحقُّ أهواءهم } بأن كان في الواقع آلهة شتى؛ { لفسدتِ السمواتُ والأرضُ ومن فيهن } كما تقدم في قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] ، فالاتباع هنا مجاز ، أي : لو جاء الوحي على ما يشتهون لفسدت السموات ، فالحق هنا هو المذكور في قوله : { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } ، والمعنى : لو كان ما كرهوه من الحق ، الذي من جملته ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، موافقاً لأهوائهم الباطلة؛ لفسد نظام العالم ، وتخصيص العقلاء بالذكر حيث عبَّر بمن؛ لأنَّ غيرهم تبع .
{ بل أتيناهم بذكْرهم } : بشرفهم ، وهو القرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }
(4/193)

[ الزخرف : 44 ] ؛ لأن الرسول منهم ، والقرآن لغتهم ، أو بتذكيرهم ووعظهم ، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ، ويقولون : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين } [ الصافات : 168 ] ، { فهم عن ذِكْرِهم معرضون } أي : فهم ، بما فعلوا من النكوص ، عن فخرهم وشرفهم معرضون ، وهذا مما جُبِلَتْ عليه النفوس الأَمّارة؛ الإعراض عما فيه خيرها ، والرغبة فيما فيه هلاكها ، إلا من عصم الله ، وفي إسناد الإتيان إلى نون العظمة ، بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ، ومن التنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى . انظر أبا السعود .
{ أم تسألُهُم خَرْجاً } ، هذا انتقال من توبيخهم بما ذكر من قولهم : { أم يقولون به جِنَّة } ، إلى التوبيخ بوجه آخر ، كأنه قال : أم يزعمون أنك تسألهم عن أداء الرسالة { خَرْجا } أي : جُعلاً ، فيتهمونك ، أو يثقل عليهم فلذلك لا يؤمنون ، { فخراجُ ربك خيرٌ } أي : رزقه في الدنيا ، وثوابه في الآخرة ، خير لك من ذلك؛ لدوامه وكثرته ، أي : لا تسألهم ذلك؛ فإن ما رزقك الله في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك؛ وفي التعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .
والخَرْج والخراج واحد ، وهو : الأجر المأخوذ على العمل ، ويطلق على الغلة والضريبة كخراج العبد والأرض ، وقال النضر بن شُميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفراق بين الخراج والخَرْج ، فقال : الخراج ما لزمك ، والخرج مَا تَبَرَّعْتَ به ، وقيل : الخرج أخص من الخراج؛ لأنَّ الخراج يطلق على كل ما يستفيده المرء من غلة ، أو أجرة ، أو زكاة ، والخرج خاص بالأجرة ، وفي الخراج إشعار بالكثرة ، فلذلك عبَّر به في جانبه - تعالى - والمعنى : أم تسألهم ، على هدايتك لهم ، قليلاً من عطاء الخلق ، فالكثير من عطاء الخالق خير ، { وهو خير الرازقين } : أفضل المعطين .
{ وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } تشهد العقول السليمة باستقامته ، ليس فيه شائبة اعوجاج ، توجب اتهامهم لك بوجه من الوجوه ، ولقد ألزمهم الله - تعالى - الحجة ، وأزاح عِللهم في هذه الآيات ، حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام من قوله : { أم لم يعرفوا رسولهم . . . } إلى هنا ، وبيَّن انتفاءها ، ولم يبق إلا كراهة الحق وعدم الفطنة أو العناد أو المكابرة ، { وإنَّ الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط } ؛ عن طريق الحق { لناكِبُون } أي : لعَادلون عن هذا الصراط المذكور ، وهو الصراط المستقيم ، وصفهم بعدم الإيمان بالآخرة ، تشنيعاً لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا ، وزعمهم ألاَّ حياة إلاَّ حياة الدنيا ، وإشعاراً بعِلّيّة الحُكم؛ فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أمور الدعاوي إلى طلب الحق وسلوك سبيله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من أنكر على أهل الخصوصية ، ولم يعرف خصوصيتهم؛ فسببه ثلاثة أمور : إما أنه لم يصحبهم ولم يتدبر ما يقولون ، ولا ما يأمرون به وينهون عنه ، وإنما يرميهم رجماً بالغيب ، وإما أنه حسدهم وخاف على جاهه أن يتنقل لغيره ، وإما أنهم أتوا بخرق عوائد النفوس التي لم تكن لآبائهم الأولين ، فقالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمِ مُّقْتَدُونَ } ، وإنما جاءهم بالحق ، وأكثرهم للحق كارهون ، وكيف تُخرق للعبد العوائد ، وهو لم يخرق من نفسه العوائد؟ .
(4/194)

{ وَلَوِ اْتَّبَعَ اْلحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } ، بأن كانت التربية على طريق العوائد ، والاستمرار معها لفسد النظام ، ولبقي الكون كله ظلمة لجميع الأنام؛ إذ لا يمكن أن يصير الكون نوراً ، بظهور الحق فيه ، إلا بخرق عوائد النفوس ، وإخراجها عن هواها ، فحينئذٍ تخرق له ظلمة الكَون ، فيفضي إلى شهود المكَوّن ، ( بل أتيناهم بذكرهم ) أي : بشرفهم ، بمعرفة الحق على نعت العيان ، ( وهم عن ذكرهم معرضون ) ؛ حيث انهمكوا في عوائدهم ، ولم يقبلوا من يخرجهم عنها ويعرفهم بالله لله ، من غير خراج ولا طمع .
قال تعالى لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } . قال القشري : أي : إنَّكَ لا تُطالبهم على تبليغ الرسالة بأجرة ، ولا بإعطاءِ عِوَض ، حتى تكون في موضع التهمة فيما تأتيهم به من الشريعة ، أم لعلك تريد أن يَعْقدُوا لك الرئاسة ، ثم قال : والذي لَكَ من الله - سبحانه - من جزيل الثواب ، وحسن المآب ، يُغْنيك عن التصدي لنيلِ ما يكون في حصوله منهم مطمع . هذه كانت سُنَّة الأنبياء والمرسلين - عليهم السلام -؛ عملوا لله فلم يطلبوا عليه أجراً من غير الله ، والعلماء ورثة الأنبياء في التنزه من التَّدَنُّس بالأطماع ، والأكل بالدين ، فإنه ربا مُضِرٌّ بالإيمان ، إن كان العملُ لله فالأجر مُنتظرٌ من الله ، وهو موعودٌ مِن قبل الله . ه . وراجع ما تقدم في سورة هود؛ فإنه أوفى من هذا .
وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وهو طريق الوصول إلى شهود الذات الأقدس ، من طريق التربية ، التي هي مخالفة الهوى والخروج عن العوائد . وقال القشيري : الصراطُ المستقيمُ : هو شهودُ الحقِّ بنعت الإنفراد في جميع الأشياء ، والإيجاف ، والاستسلام لقضايا الإلزام ، بمواطأة القلب من غير استكراها الحُكمْ . ه . وقال الورتجبي عن بعضهم : لولا أن الله - تعالى - أمر بمخالفة النفوس ومباينتها ، لاتَّبع الخلق أهواءهم في شهوات النفوس ، ولو فعلوا ذلك لضلوا عن طريق العبودية ، وتركوا أوامر الله ، وأعرضوا عن طاعته ، ولزموا المخالفة ، ألا ترى الله يقول : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن } .
ثم بيَّن سبحانه أن حبيبه - عليه الصلاة والسلام - يدعوهم إلى تلك المشاهدة بقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : مما أوضحه أنوار جماله وشاهَدْتَه ، وهي طريق معرفته في قلوب الصِّدّيقين للأرواح القدسية . وتلك الطريقة منتهاها المحبة ، وبدايتها الأسوة والمتابعة؛ لقوله :
(4/195)

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عمران : 31 ] . ه . قلت : المراد بالمحبة محبة الحق لعبده؛ بدليل الآية التي ذكر . وقال ابن عطاء : إنك لتحملهم على مسالك الوصول ، وليس كل أحد يصلح لذلك السلوك ، ولا يوفق له إلا أهل الإستقامة ، وهم الذين استقاموا مع الله ولم يطلبوا معه سواه ، ولم يروا لأنفسهم درجة ولا مقاماً . ه .
قوله تعالى : { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } أي : لا يؤمنون بالحياة الآخرة ، وهي حياة النفوس بالمعرفة العيانية ، بعد موتها بالجهل والوقوف مع الحس والعوائد ، ممن لا يصدق بهذه الحياة ، وأنكر وجود من يوصل إليها عن طريق الحق الموصلة إليه ، لناكبون ، فهم في الحيرة والتلف تائهون ، عائذاً بالله من ذلك .
(4/196)

وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
يقول الحق جل جلاله : { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضُرّ } ، كقحط وجدب ، { لَلَجُّوا } : لتمادَوا { في طغيانهم } : إفراطهم في الكفر والعتو والإستكبار وعداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين ، { يعمهون } : يترددون عامهين عن الهدى . قال ابن عباس : لما أَسْلَمَ ثُمَامَةُ بن أَثالٍ الحنفي ، ورجع إلى اليَمَامَةِ ، مَنَعَ المِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّة ، وَأَخَذَهُمُ الله تعالى بالسنين حَتَّى أَكلَّوا العِلْهِزَ ، جَاءَ أبو سُفْيانَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال له : أَنْشدُك الله والرَّحِمَ ، ألسْتَ تزعمُ أَنّك بُعثْتَ رَحْمَة للعالَمين؟ قال : بَلَى ، قال : قتلتَ الآباءَ بالسَّيف ، والأبنَاءَ بالجوعِ ، فنزلت . قال ابن جُزي : وفيه نظر؛ فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة ، حسبما ورد في الحديث . ه .
قلت : والتحقيق : أن القحط نزل بهم مرتين ، أحدهما قبل الهجرة ، حين دعا عليهم - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " اللهم أَعنِّي عليهم بسبع كسبع يوسف " ، فأخذتهم سَنَةٌ حصدت كل شيء ، حتى أكلوا الميتة والعظام ، وكانوا يرون كهيئة الدخان من الجوع ، فجاء أبو سفيان فقال : يا محمد ، جئت تأمر بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا ، فادعُ الله يغيثنا ، فدعا لهم . . الحديث . وفيه نزل الله تعالى : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] الآية ، وقوله هنا : { ولو رحمناهم وكشفنا . . . } الآية . ومرة أخرى بالمدينة؛ حين استغاثوا به عليه السلام وهو يخطب ، ولعله هو الذي ذكره ابن عباس في إسلام ثمامة ، ولعل قوله : " فنزلت الآية " سهو؛ لأنها نزلت قبل الهجرة ، إلاّ أن تكون الآية مدنية في السورة المكية ، وقول ابن جزي : " دعا عليهم بعد الهجرة " ، التحقيق ، أنه دعا عليهم قبلُ وبعدُ . والله أعلم .
والمعنى : لو رحمناهم ، وكشفنا ما بهم من القحط والهزال؛ برحمتنا إياهم ، ووجدوا الخصب ، لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والاستكبار ، ولذهب عنهم هذا الخلق والتعلق بك ، وهذا كقوله تعالى في الدخان : { إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } [ الدخان : 15 ] ، قيل : المراد بالضر : العذاب الأخروي ، فيكون كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
{ ولقد أخذناهم بالعذاب } ، وهو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وهو قوله - تعالى - في الدخان { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } [ الدخان : 16 ] . { فما استكانُوا لربهم } بذلك ، أي : لم يخضعوا ولم يتذللوا . و " استكانوا " : افتعل من السكون ، والألف زائدة ، أو استفعل من الكون ، أي : انتقل من كون إلى كون ، كاستحال ، إذا انتقل من حالٍ إلى حال؛ لأن الخاضع ينتقل من كون إلى كون { وما يتضرعون } أي : وليس من حالهم التضرع إليه تعالى ، وعبَّر بالمضارع ، ليدل على الاستمرار ، أي : ليس شأنهم التضرع في هذه الحالة وغيرها ، أو : فما استكانوا فيما مضى ، وما يتضرعون فيما ينزل بهم في المستقبل ، والمعنى : تالله لقد أخذناهم بالعذاب ، وقتلناهم بالسيوف ، وما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم ، فما وُجدت ، بعد ذلك ، منهم استكانة ولا تضرع .
(4/197)

{ حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذابٍ شديد } ، وهو عذاب الآخرة ، { إذا هم فيه مبلسون } : متحيرون آيسون من كل خير ، وهذا هو الصواب من حمل العذاب على عذاب الآخرة ، بدليل وصفه بالشدة والإياس . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أهل الغفلة والبُعد لا يرجعون إلى الله في السراء ولا في الضراء؛ لانهماكهم في الغفلة والقساوة ، وأهل اليقظة يرجعون إلى الله في السراء والضراء ، في السراء بالحمد والشكر ، وفي الضراء بالصبر والرضا والتسليم ، مع التضرع والابتهال؛ عبوديةً ، والمقتصدون يرجعون إليه - تعالى - في الضراء ، ويغفلون عن الشكر في السراء ، والأول ظالم لنفسه ، والثاني سابق ، والثالث مقتصد . وبالله التوفيق .
(4/198)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
يقول الحق جل جلاله : { وهو الذي أنشأ } : خلق { لكم السمع والأبصار } ؛ لتشاهدوا بها عجائب مصنوعاته ودلائل قدرته ، أو لتتوصلوا إلى شهود آياته الكونية والتنزيلية ، { والأفئدة } ؛ لتتفكروا بها فيما تشاهدونه منها وتعتبروا ، وخصها بالذكر؛ لأنه يتعلق بها من بالمنافع ما لا يتعلق بغيرها ، وقدَّم السمع؛ لأنَّ أكثر العلوم إنما تُنال به ، { قليلاً ما تشكرون } أي : شكراً قليلاً غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة؛ لأن العمدة في الشكر : صرف تلك القوى - التي هي في أنفسها نِعمَ باهرة - إلى ما خلقت له ، وأنتم تنتحلون بها ضلالاً عظيماً . { وهو الذي ذرأكم في الأرض } أي : خلقكم وبثكم فيها بالتناسل ، { وإليه تُحشرون } أي : تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم ، فيجازيكم على إحسانكم وإساءتكم .
{ وهو الذي يُحيي ويميت } ، من غير أن يشاركه في ذلك أحد ولا شيء من الأشياء ، { وله اختلافُ الليل والنهار } أي : المؤثر في اختلافهما ، { أفلا تعقلون } فتعرفون بالنظر والتأمل أن الكل منا ، وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات ، التي من جملتها البعث والحساب ، وقُرئ " يعقلون "؛ بالغيب ، على الالتفات؛ لحكاية سوء حال المخاطبين ، { بل قالوا } عطف على مضمر يقتضيه المقام ، أي : فلم يعقلوا { بل قالوا مثلَ ما قال الأولون } أي : آباؤهم ومن دان دينهم ، { قالوا أئذا مِتْنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون } ، هو تفسير لما أبهم قبله ، أي : قالوا : أُنبعث بعد هذه الحالة ، { لقد وُعِدْنَا نحن وآباؤنا هذا } البعث { من قبل } : متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم ، أي : وُعِدَ هذا آباؤنا من قبلُ ، أو حال من آبائنا ، أي : كائنين من قبل ، { إنْ هذا } أي : ما هذا { إلا أساطير الأولين } أي : أكاذيبهم التي سطروها ، وهي جمع أسطورة كأُحدوثة وأُعجوبة ، أو جمع أسطار ، جمع سطر ، فيكون جمع الجمع . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ذكر في الآية خمس نِعَم ، يجب على العبد شكر كل واحدة منها ، فشُكْر نعمة السمع : أن تسمع به ما ينفع ، وتكفه عما لا ينفع ، وإذا سمعت خيراً أفشيته ، وإذا سمعت شراً دفنته . وشكر نعمة البصر : أن تنظر به في ملكوت السموات والأرض وما بينهما ، فتعرف عظمة الصانع ، أو تشاهده وتوحده فيها . وشكر نعمة القلوب : أن تعرف بها علام الغيوب ، وتُفرده بالوجود في كل مرغوب ومرهوب . وشكر نعمة الإيجاد : أن تكون له عبداً في كل حال . وشكر نعمة الإعادة : أن تتأهب للقائه في كل لحظة وساعة . ( وهو الذي يحيي ويميت ) ؛ يحيي قلوباً بالمعرفة بعد الجهل ، ويميت قوباً بالغفلة والجهل بعد العلم واليقظة ، وذلك بالسلب بعد العطاء والعياذ بالله . وله اختلاف ليل القبض ونهار البسط على العبد ، ثم يُخرجه عنهما؛ ليكون مع الله لا مع شيء سواه . وبالله التوفيق .
(4/199)

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
يقول الحق جل جلاله : { قل } يا محمد لمن أنكر البعث : { لِمن الأرضُ ومن فيها } من المخلوقات؛ عاقلاً أو غيره ، أي : من أوجدها ، ودبر أمرها ، { إن كنتم تعلمون } شيئاً؟ والجواب محذوف ، أي : فأخبروني؛ فإن ذلك كاف في الجواب ، { سيقولون لله } ؛ لأنهم مُقرُّون بأنه الخالق ، فإن أقروا بذلك { فقل أفلا تذكرون } فتعلمون أنَّ من قدر على خلق السموات والأرض وما فيهن ، كيف لا يقدر على إعادة الخلق بعد عدومها؟ فإن الإعادة أهون من البدء . { قل من ربُّ السموات السبع وربُّ العرش العظيم } ، أعيد الرب؛ تنويهاً لشأن العرش ، ورفعاً لمحله؛ لئلا يكون تبعاً للسموات والأرض ، وجوداً وذكراً ، ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، فإن سألتهم ( سيقولون لله ) أي : هي لله ، كقولك : مَن رب هذا الدار؟ فتقول : هي لفلان ، وقال الشاعر :
إذَا قِيل : مَن رَبُّ الْمَزالِفِ والْقِرَى ... ورَبُّ الْجِياد الجُرْدِ؟ قيل : لخَالِدِ
وقال الأخَفش : اللام زائدة ، أي : هو الله ، وبعدمه قرأ أهل البصرة ، فيه وفيما بعده ، واتفقوا على إثباته في الأول ، ليطابق السؤال ، فإن أجابوا بذلك { فقل أفلا تتقون } أي : أتعلمون ذلك ، ولا تتقون عذابه في كفركم وجحودكم قدرته على البعث؟
{ قل من بيده ملكوت كل شيء } أي : التصرف التام في كل شيء بقهره وسلطانه ، فالملكوت ، في أصل اللغة ، مبالغة في الملك ، زيدت الواو والتاء؛ للمبالغة ، كالجبروت؛ مبالغةً في الجبر ، وفي عرف الصوفية ، الملكوت : ما بطن من أسرار المعاني القائمة بالأواني ، أو نقول : ما غاب في عالم الشهادة من أسرار الذات ، فحس الأواني مُلك ، ومعانيها ملكوت ، والجبروت : ما خرج عن دائرة الأكوان من بحر الأسرار ، الفائض بأنوار الملكوت ، وهذه أسماء لمسمى واحد ، وهو بحر الوحدة .
ثم قال تعالى : { وهو يُجير } أي : يغيث ، يقال : أجرت فلاناً على فلان : إذا أغثته منه ، يعني : وهو يغيث من شاء ممن شاء ، { ولا يُجار عليه } : ولا يغيث أحد عليه ، أي : لا يمنع أحدٌ أحداً بالنصر عليه . { إن كنتم تعلمون } شيئاً ما ، أو تعلمون ذلك ، فأجيبوني؟ { سيقولون لله } أي : لله ملكوت كل شيء ، وهو يُجير ولا يُجار عليه ، { قلْ فأنى تُسحرون } أي : فمن أين تُخدعون وتُصرفون عن الرشد ، وعن توحيد الله وطاعته؟ فإنَّ من لا يكون مسحوراً مختل العقل لا يكون كذلك ، قال تعالى : { بل أتيناهم بالحق } الذي لا محيد عنه؛ من التوحيد والوعد بالبعث ، { وإنهم لكاذبون } فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث . وبالله التوفيق .
الإشارة : قل : لمن أرض النفوس ، وما فيها من الأهوية والحظوظ والعلائق؟ سيقولون : هي لله يتصرف فيها كيف يشاء ، فتارة يُملِّكها لعبده ، فتكون تحت قهره وسلطانه ، فيكون حراً من رق الأشياء ، وتارة يُملّكه لها بعدله ، فيكون تحت قهرها وسلطانها ، تتصرف فيه كيف تشاء ، ويكون مملوكاً لها ، ينخرط في سلك من اتخذ إلهه هواه ، قل : من رب سماوات الأرواح وعرش الأسرار والأنوار ، وهو القلب الذي هو بيت الرب ، قل : سيقولون : لله ، يظهرها متى شاء ، ويوصلها إلى أصلها كيف شاء ، قل : من بيده ملكوت كل شيء ، فيتصرف في النفوس والأرواح؛ بالتقريب والتبعيد ، وهو يُجير مِن الحظوظ والأهوية مَن يشاء ، ويسلطها على مَن يشاء ، ولا يُجار عليه ، لا يمينع من قهره أحد ، فأنَّى تسحرون .
(4/200)

قال القشيري : أولاً قال : ( أفلا تذكرون ) ، ثم قال بعده : ( أفلا تتقون ) ؛ قدَّمَ التذكرَ على التقوى؛ لأن بتذكيرهم يَصلُون إلى المعرفة ، وبعد أن عرفوه ، علموا أنه يجب عليهم اتقاءُ مخالفته ، ثم بعد ذلك قال : ( فأنى تُسْحَرون ) ؟ أي : بعد وضوح الحجة ، أيُّ شَكٍّ بَقِيَ حتى تَنْسِبُوه إلى السِّحر؟ . ه .
(4/201)

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
يقول الحق جل جلاله : { ما اتخذَ الله من ولدٍ } ، خلاف ما يقوله النصارى ، والعرب التي قالت : للملائكة بنات الله ، تعالى عن قولهم علواً كبيراً ، { وما كان معه من إلهٍ } يُشاركه في ألوهيته ، كما يقول عبدة الأوثان وغيرهم ، { إذاً لذهب كل إله بما خلق } أي : لو كان معه آلهة ، كما يزعمون ، لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به؛ ليتميز ملكه من ملك الآخر ، ووقع بينهم التغالب والتحارب ، كما هو الجاري بين الملوك ، { ولعلا بعضُهم على بعضٍ } : ولغلب بعضهم على بعض ، وارتفع عليه ، كما ترون حال ملوك الدنيا؛ ممالكهم متمايزة وهم متغالبون ، وحين لم تروا أثراً لتمايز الممالك والتغالب؛ فاعلموا أنما هو إله واحد .
قال ابن جُزَيّ : وليس هذا البرهان بدليل التمانع ، كما فهم ابن عطية وغيره ، بل بدليل آخر . وقال في قوله : { لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا } : قال كثير من الناس : إنه دليل التمانع الذي أورده المتكلمون ، والظاهر من اللفظ أنه استدلال آخر أصح منه . ه قال النسفي : ولا يقال : " إذاً " لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، وهو هنا وقع لذهب؛ جزاءً وجواباً ، ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل؛ لأن الشرط هنا محذوف ، تقديره : لو كان معه آلهة كما يزعمون لذهب . . . إلخ ، دل عليه : ( وما كان معه من إله ) ، وهو جواب لمن حاجّه من المشركين . ه .
{ سبحان الله عما يصفون } من الأنداد والأولاد ، { عالِمِ الغيبِ والشهادةِ } أي : السر والعلانية ، أو ما ظهر من حس الأكوان ، وما غاب فيها وعنها ، فمن جرّ " عالم "؛ فبدل من الجلالة ، او صفة له ، ومن رفعه؛ فخبر عن مضمر ، أي : هو عالم . { فتعالى عمّا يُشركون } من الأصنام وغيرها ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ فإنَّ تفرده تعالى بالألوهية والعلم المحيط ، موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ثلاثة إذا تعددت فسد النظام : الإله والسلطان والطبيب؛ فلو تعدد الإله لفسد نظام العالم ولو تعدد الْملك لفسدت الرعية بالهرج والفتن ولو تعدد الطبيب لفسد العلاج . والطبيب على قسمين : طبيب الأبدان وطبيب القلوب وهو شيخ التربية فإذا تعدد على مريد واحد فسدت تربيته؛ لانقسام محبته واختلاف علاجه فالمريد إذا علق قلبه بغير شيخه لا ينهض نهوض من جمع همته على شيخه بل لا يجيء منه شيء . والله تعالى أعلم .
قال القشيري : كل أمر نِيطَ بين اثنين انتفى عنه النظام وصحةُ التربية . ه . وقال الورتجبي : نزه الحق - سبحانه - ذاته عن مخايل الزنادقة ، وكان منزهاً عن أباطيل إشارة المشبهة ، وذاته ممتنعة بكمال أحديته ، عن زعم الثنوية ، كيف يجوز أن يكون القِدم محل الحوادث؛ إذ القديم المنزه ، إذا تجلى بنعت القدم للحدثان ، صار معدوماً كالعدم ، تعالى الله عن كل وهْم وإشارة . ه .
(4/202)

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
يقول الحق جل جلاله : { قل ربّ إِما تُرِيَنَّي } أي : إذا كان لا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل في الدنيا أو عذاب الآخرة ، { ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين } أي : قريباً لهم فيما هم فيه من العذاب ، وفيه إيذان بفظاعة ما وُعدوه من العذاب ، وأنه يجب أن يستعيذ منه مَن لا يكاد أن يحيق به ، وردٍّ لإنكارهم إياه واستعجالهم على طريقة الاستهزاء ، وقيل : أمر به صلى الله عليه وسلم هضماً لنفسه ، وقيل : إن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم؛ كقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً . . . } [ الأنفال : 25 ] إلخ ، ورُوي عن الحسن ( أنه - تعالى - أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن في أمته نقمة ، ولم يطلعه على وقتها ، فأمر بهذا الدعاء ) ويجوز أن يسأل النبيُّ المعصوم ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله؛ إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه . والفاء : جواب " إما " الشرطية ، أي : إن نزلت بهم النقمة فاجعلني خارجاً عنهم ، وتكرير النداء ، وتصدير كل من الشرط والجزاء به - أي : بالدعاء -؛ لإبراز كمال الضراعة والابتهال .
قال تعالى : { وإِنا على أن نُّرِيَكَ ما نَعِدُهم } من العذاب { لقادرون } ، ولكنا نؤخره؛ لعلمنا بأن بعضهم ، أو بعض أعقابهم ، سيؤمنون ، أو : لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل : قد أراهم ذلك ، وهو ما أصابهم يومَ بدر وفتح ومكة ، وهو بعيد؛ لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذاباً هائلاً مستأصلاً لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم ؛ للحكمة الداعية إليه ، وكانوا يضحكون ، استهزاءً بهذا الوعد ، وإنكاراً له ، فقال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ } أي : ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هي أحسن ، وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها ، لكن بحيث لا يؤدي إلى وَهَنٍ في الدين وإهانةٍ له . وقيل : السيئة : الشرك ، والتي هي أحسن : كلمة التوحيد ، وقيل : السيئة : المنكر ، والتي هي أحسن : النهي عنه ، وقيل : هي منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة؛ إذ المداراة مأمور بها . قال ابن عطية : أمر بمكارم الأخلاق ، وما كان منها بهذا المعنى ، فهو محكم باق في الأمة أبداً ، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال . ه .
وهذا التركيب أبلغ من " ادفع بالحسنة السيئة "؛ لما فيه من التنصيص على التفضيل ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول؛ للاهتمام . { نحن أعلم بما يصفون } من الشرك والولد ، أو بما يصفك به ، مما أنت على خلافه ، من السحر وغيره ، فسنجازيهم عليه ، وفيه وعيد لهم ، وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه .
{ وقل ربِّ أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطين } أي : وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن ، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة ، وأصل الهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابَّ على الإسراع والوثب .
(4/203)

وجَمَعَ همزات؛ لتنوُّع الوساوس وتعدد المضاف إليه ، { وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون } ، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، والتعوذ من أن يحضروه أصلاً في حال من الأحوال؛ مبالغة في التحذير من ملابستهم ، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة ، أو عند النزع؛ تشريعاً . وإعادة الفعل ، مع تكرير النداء؛ لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به .
ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك ، { حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ } أي : لا يزالون مشركين حتى يموتوا ، فحتى ، هنا ، ابتدائية ، دخلت على جملة الشرط ، وهي متعلقة بيصفون ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء ، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه؛ لفساد المعنى ، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك ، أي : تنزيهاً له تعالى عما يصفون ، ويستمرون على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحداً منهم الموت الذي لا مرد له ، وظهرت له أحوال الآخرة ، { قال } ؛ تحسراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمان والطاعة : { ربِّ ارجعون } أي : ردني إلى الدنيا ، والواو؛ لتعظيم المخاطب ، كخطاب الملوك ، { لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت } أي : في الإيمان الذي تركته ، أو في الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة؛ وهو الدنيا؛ لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى .
قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ، ولكن ليتدارك ما فرط .
وعنه ، صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا عَايَنَ المؤمن المَلائِكَةَ قَالُوا له : نُرجِعُكَ إلى الدُّنْيا؟ فَيَقُولُ : إِلَى دارِ الهُمومِ والأحْزانِ؟ بَلْ قُدُوماً إلى اللهِ تبارك ، وتعالى ، وأمَّا الكافر فَيقُولُ : ارجعون لعلي أعملَ صالحاً . . . " وقال القرطبي : ليس سؤالُ الرجعة مختصاً بالكافر ، فقد يسألها المؤمن ، كما في آخر سورة المنافقين ، ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف : أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه . ه . قال المحشي الفاسي : ولعل محمل الحديث في المؤمن الكامل غير المقصِّر ، والآية في غيره . والله أعلم . ه .
{ كَلاَّ } أي : لا رجوع له أصلاً ، وهو ردع عن طلب الرجعة ، واستبعاد لها ، { إِنها } أي : قوله : ( رب ارجعون ) ، { كلمةٌ } ، والمراد : طائفة من الكلام ، وهو ( ربِّ ارجعون . . . ) إلخ ، { هو قائلها } ، ولا فائدة له فيها ، ولا حقيقة لها؛ لعدم حصول مضمونها ، أو هو قائلها لا محالة؛ لتسليط الحسرة والندم عليه ، فلا يقدر على السكوت عليها ، ( ومن ورائهم ) أي : أمامهم ، والضمير للجماعة؛ لأن أحدهم بمعنى كلهم ، { برزخٌ } : حائل بينهم وبين الرجعة ، { إلى يوم يُبعثون } : يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا ، لما علِم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخرية .
(4/204)

والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما قاله صلى الله عليه وسلم في تضرعه إلى الله تعالى - كما أمره الحق تعالى - يقوله كل عارف ومتيقظ ، فيقول : ربِّ إما تُريني ما يُوعدهُ أهل الغَفلة والبطالة من التحسر والندم ، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة ، فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أي : لا تسلك بي مسلكهم حتى أتحسر معهم فإذا أوذي في الله - كما هو شأن أهل الخصوصية - يقال له : ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ ، وقابل الإساءة بالإحسان ، وإياك والانتصار لنفسك ، وتعوذ بالله من همزات الشياطين ، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار ، كما هو شأن أهل الغفلة ، في كونهم منهمكين في الغفلة ، مملوكين في أيدي أنفسهم ، مستمرين على ذلك ، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة ، هيهات هيهات ، { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] ، وفي الأثر : " ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت ، إن كان محسناً أن لو زاد ، وإن كان مسيئاً أن لو تاب " أو كما قال .
ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحُزُم ، وشمروا عن ذراعهم في طاعة مولاهم ، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم ، وتنافسوا في ذلك أيَّ تنافس ، وفي ذلك يقول القائل :
السِّباقَ ، السِّباقَ ، قولاً وفِعْلاً ... حَذِّرِ النَّفْس حَسْرَة المسْبُوقِ
وكان بعض العباد حفر قبراً في بيته ، فإذا صلى العشاء دخل فيه ، وقرأ : { قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً . . . } الآية ، فيقول لنفسه : ستطلبين الرجعة ولا تُمكنين منها ، وأنت اليوم متمكنة من الرجوع ، قومي إلى خدمة مولاك ، قبل أن يحال بينك وبينها ، فيبيت قائماً يُصلي . وهكذا شأن اهل اليقظة؛ يُقدمون الندم والجد قبل فوات إبَّانِهِ . أعاننا الله على اغتنام طاعته ، وما يقربنا إلى حضرته . آمين .
(4/205)

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
يقول الحق جل جلاله : { فإذا نُفخ في الصور } لقيام الساعة ، وهي نفخة البعث والنشور ، وقيل : فإذا نفخ في الأجسادِ أرواحها ، على أن الصور جمع صورة ، ويؤيده القراءة بفتح الواو مع الضم ، وبه مع كسر الصاد . { فلا أنساب بينهم يومئذٍ } تنفعهم ، لزوال التراحم والتعاطف بينهم؛ من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة ، بحيث يفر المرءُ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه . قال ابن عباس : ( لا يفتخرون بالأنساب والأحساب في الآخرة ، كما كانوا يفتخرون في الدنيا ) { ولا يتساءلون } لا يسأل بعضهم بعضاً؛ لاشتغال كل منهم بنفسه ، ولا يناقضه قوله تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] ؛ لأن هذا - أي : سكوتهم - عند ابتداء النفخة الثانية ، وذلك بعدها؛ لأن يوم القيامة ألوان ، تارة يبهتون ولا يتساءلون ، وتارة يفيقون ، فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
وقال ابن عباس : إنما عنى النفخة الأولى ، حين يصعق الناس ، ( فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون ) ، { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] ، { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } . نقله الثعلبي .
{ فمن ثَقُلَتْ موازينهُ } أي : موزونات حسناته من العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة ، { فأولئك هم المفلحون } ؛ الفائزون بكل مرغوب ، الناجون من كل مرهوب ، { ومن خفت موازينهُ } أي : ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ما يوزن - وهم الكفار - لقوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، وتقدم ما فيه . { فأولئك الذين خسروا أنفسهم } : ضيعوها بتضييع زمان استكمالها ، وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها ، { في جهنم خالدون } ، وهو خبر ثان لأولئك ، أو بدل من الصلة ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( يؤخذ بيد العبدِ أو الأمة يوم القيامة ، فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ، ثم ينادي مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على ابنها ، أو على زوجها ، أو على أبيها ، أو على أخيها ، ثم قرأ ابن مسعود : { فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون } ، ثم يقول الرب تعالى : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول ربِّ ، فنيت الدنيا؛ فمن أين آتيهم؟ فيقول للملائكة : خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلْبته . . . ) إلخ الحديث ، انظر النسفي .
قال تعالى : { تلفح وجوهَهُم النار } ؛ تحرقها ، واللفح كالنفخ ، إلاَّ أنه أشد تأثيراً منه ، وتخصيص الوجوه بذلك؛ لأنها أشرف الأعضاء . { وهم فيها كالحون } : عابسون من شدة الإحراق ، والكلوح : تقلص الشفتين من الإنسان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم في كالحون : " تَشْوِيهِ النَّارُ فَتَقلَّص شَفَتَهُ العُلْيَا ، حَتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأَسِهِ ، وَتَسْتَرخِي السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّته " فيقال لهم - تعنيفاً وتذكيراً لما به استحقوا ما ابتلوا به : { ألم تكن آياتي } أي : القرآن { تُتْلَى عليكم } في الدنيا { فكنتم بها تُكذِّبون } حينئذٍ ، فذوقوا وبال ما كنتم به تكذبون .
(4/206)

نسأل الله التوفيق والهداية .
الإشارة : قال الترمذي الحكيم : الأنساب كلها منقطعة إلا من كانت نسبته صحيحة في عبودية ربه ، فإن تلك نسبة لا تنقطع أبداً ، وتلك النسبة المفتخر بها ، لا نسبة الأجناس من الآباء والأمهات والأولاد . ه . وقال الورتجبي : عند المعاينة والمشاهدة بوجوده ونشر جوده ، نسبهم هناك نسب المعرفة والمحبة الأزلية ، واصطفائيته القدسية ، لا يفتخرون بشيء دونه ، من العرش إلى الثرى ، ولا يتساءلون؛ شغلاً بما هم فيه . ه .
ومعنى كلام الشيخين : أن العبد ، إذا صحت نسبته إلى مولاه ، وانقطع بكليته إليه ، ورفض كل ما سواه ، اتصلت نسبته ، ودامت محبته وأنسه ، ومن تعلق بغيره ، وتودد إلى سواه ، انقطع ذلك وانفصل ، ومن النسب التي تتصل وتدوم ، النسبة إلى أولياء الله ، والتحبب إليهم وخدمتهم ، وهي في الحقيقة من نسبة الله تعالى؛ لأنها سبب معرفته والتحقق بعبوديته ، فهي عينها ، فمن انتسب إليهم فقد انتسب إلى الله ، ومن أحبهم فإنما أحب الله ، فمحبتهم ، والاجتماع معهم يؤدي إلى محبة الله ورضوانه ، وهم الذين يكونون عن يمين الرحمن ، يغشى نورُهُم الناس يوم القيامة ، يغبطهم النبيون والشهداء؛ لمنزلتهم عند الله . قال عليه الصلاة والسلام : لما سئل عنهم : " هم رجال من قبائل شتى ، يجتمعون على ذكر الله ومحبته " أو كما قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث . والله تعالى أعلم .
(4/207)

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
يقول الحق جل جلاله : { قالوا } أي : أهل النار { ربنا غلبت علينا } أي : ملكتنا { شِقْوَتُنا } : شقاوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا ، كما يُنبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم ، أي : شقينا بأعمالنا السيئة التي عملناها ، ولا يصح حمله على الشقاوة الأزلية؛ لأنهم غير مكلفين بصرفها عنهم؛ إذ ليس في اختيارهم . { وكنا قوماً ضالِّين } عن الحق ، ولذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب ، وهذا ، كما ترى ، اعتراف منهم بأن ما أصابهم إنما أصابهم بسوء صنعهم ، وأمَّا ما قيل : من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية ، فلا يصح؛ لأن الله تعالى ما كتب عليهم الشقاء حتى علم أنهم يفعلونه باختيارهم ، لا بما كتب عليهم .
ثم قالوا : { ربنا أَخْرِجْنَا منها فَإِن عُدْنا فإِنا ظالمون } أي : أخرجنا من النار ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي ، فإنا متجاوزون الحد في الظلم ، ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ، ولما وَعَدوا بالطاعة والإيمان . قال القرطبي : طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت .
ثم يجيبهم الحق تعالى ، بعد ألف سنة ، بقوله : { قال اخسؤوا فيها } أي : اسكتوا في النار سكوت ذل وهوان ، وانزجروا انزجار الكلاب ، يقال : خسأت الكلب ، إذا زجرته ، فخسأ ، أي : انزجر . { ولا تُكَلِّمونِ } باستدعاء الإخراج من النار والرجوع إلى الدنيا ، أو في رفع العذاب عنكم؛ فإنه لا يرفع ولا يخفف ، روي أنه آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلاَّ الشهيق والزفير ، ويصير لهم عُواء كعُواء الكلاب لا يفهمون ولا يُفهمون . قيل : ويرده الخطابات الآتية ، وقد يجاب : بأن قبل هذه الكلمة .
ثم علل استحقاقهم لذلك العذاب بقوله : { إنه } أي : الأمر والشأن { كان فريق من عبادي } وهم المؤمنون ، او الصحابة ، أو أهل الصفة - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - { يقولون } في الدنيا : { ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا } أي : هزواً ، وهو مصدر سخر ، زيدت فيه ياء النسب؛ للمبالغة ، وفيه الضم والكسر . وقال الكوفيون : المكسور بمعنى الهزء ، والمضموم من السخرة ، بمعنى الانقياد للخدمة ، ولذلك اتفق عليه في الزخرف ، أي : اتخذتموهم؛ مهزواً بهم ، وتشاغلتم بهم { حتى أَنْسَوْكم ذكري } ، من فرط اشتغالكم بالاستهزاء بهم ، ولم تخافوني في أوليائي ، { وكنتم منهم تضحكون } ، وذلك غاية الاستهزاء .
قال تعالى : { إني جَزَيْتُهُم اليوم } جزاء على صبرهم على أذاكم ، { أنهم همُ الفائزون } بكل مطلوب دونكم ، فأنهم : مفعول " جزيتهم "؛ لأنه يتعدى إلى مفعولين ، وقرأ حمزة بالكسر؛ على الإستئناف؛ تعليلاً للجزاء ، وبياناً أنه في غاية الحسن ، { قال كم لبثتم } ، القائل هو الله تعالى ، أو الملك ، وقرأ المكي وحمزة : " قل "؛ التي بلفظ الأمر للملك ، يسألهم : كم لبثوا ، { في الأرض } التي دعوا الله أن يردهم إليها ، { عدد سنين } ، وهو تمييز ، أي : كم لبثتم في الأرض عدد السنين ، { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } ، استقصار لمدة لبثهم فيها بالنسبة إلى خلودهم ، ولِمَا هم فيه من عذابها؛ لأن الممتحن يستطيل أيام محنته ، ويستقصر ما مر عليه من أيام الدعة ، { فاسْئَل العادِين } أي : المتمكنين من العد؛ فإنا بما دُهمنا من العذاب بمعزل من العد ، أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم .
(4/208)

{ قال } الله تعالى ، أو الملك ، تصديقاً لهم في مقالهم : { إن لبثتم إلاَّ قليلاً } : ما لبثتم إلا زماناً قليلاً أو لبثاً قليلاً بالنسبة لما بعده ، { لو أنكم كنتم تعلمون } شيئاً ، أو : لو كنتم من أهل العلم لعلمتم قلة لبثكم فيها ، فالجواب محذوف . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا تميز المتحابون في الله ، المجتمعون على ذكر الله ومحبته وطلب معرفته ، وعُرفوا بأنوارهم وأسرارهم ، وانحازوا إلى ظل العرش ، يوم لا ظل إلا ظله ، ورآهم البطالون المنكرون عليهم ، وهم في حسرة الحساب ، يقولون بلسان الحال أو المقال : ( ربنا غلبت علينا شقوتنا ) ؛ حيث لم نصحب هؤلاء الأولياء ، وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا من هذه الحسرة ، وردنا إلى الدنيا ، فإن عدنا إلى البطالة والإنكار عليهم فإنا ظالمون ، فيقال لهم : اخسؤوا فيها؛ فقد فات الإبان ، إنه كان فريق من عبادي ، وهم المنتسبون من أهل التجريد ، المتزيون بزي الصوفية أهل التفريد ، يقولون : ربنا آمنا بطريق الخصوصية ودخلنا فيها ، فاغفر لنا ، أي : غط مساوئنا ، وارحمنا رحمة تضمنا إلى حضرتك ، وأنت خير الراحمين ، فاتخذتموهم سخرياً ، وانشغلتم بالوقوع فيهم ، حتى أنسوكم ذكري ، وكنتم منهم تضحكون ، إني جزيتهم اليوم ، بما صبروا ، أنهم هم الفائزون بشهود ذاتي ، والقرب من أحبابي ، المتنزهون في كمال جمالي ، في درجات المقربين من النبيين والصديقين .
قال القشيري : الحق ينتقم من أعدائه بما يُطَيَّبُ به قلوبَ أوليائه ، وتلك خَصْمَةُ الحق ، فيقول لهم : كان فريقٌ من أوليائي يُفْصِحون بمدحي وإطرائي ، فاتخذتموهم سخرياً ، فأنا اليوم أُجازيهم ، وأنتقم ممن كان يناويهم . ه .
قوله تعالى : { قال كم لبثتم . . . } إلخ ، اعلم أن أيام الدنيا كلها تقصر عند انقضاء عمر العبد ، فتعود كيوم واحد ، أو بعض يوم ، فإن أفضى إلى الراحة بعد الموت نسي أيام التعب ، وغاب عنها ، فتصير كأضغاث أحلام ، وإن أفضى إلى التعب ، نسي أيام الراحة كأنها طيف منام . قال في الحاشية : الأشياء وإن كانت كثيرة فقد تنقص وتقل بالإضافة إلى ما يرجّى عليها كذلك مدة مقامهم تحت الأرض إن كانوا في الراحة فقد تقل ، بالإضافة إلى الراحات التي يلقونها في القيامة ، وإن كانت شديدة فقد تتلاشى في جنب رؤية ذلك اليوم؛ لما فيه من أليم تلك العقوبات المتوالية . ه .
(4/209)

أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قلت : ( أفحسبتم ) : المعطوف محذوف ، أي : ألم تعلموا شيئاً فحسبتم ، و ( عبثاً ) : حال ، أو مفعول من أجله .
يقول الحق جل جلاله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } أي : عابثين ، أو للبعث من غير حكمة في خلقكم وإظهاركم حتى أنكرتم البعث ، { وأنكم إلينا لا ترجعون } للحساب والجزاء ، بل خلقناكم للتكليف ، ثم للرجوع إلينا ، فنُثيب المحسن ، ونعاقب المسيء .
{ فتعالى الله } أن يخلق شيئاً عبثاً ، وهو استعظام له نعالى ولشؤونه التي يُصَرِّف عليهاعباده؛ من البدء والإعادة ، والإثابة والعقاب ، بموجب الحكمة ، أي : ارتفع بذاته ، وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحِكَم والمصالح والغايات الحميدة .
{ الملك الحق } ؛ الذي يحق له الملك على الإطلاق ، إيجاداً وإعداماً ، وإحياء وإماته ، عذاباً وإثابة ، وكل ما سواه مملوك له ، مقهور تحت ملكوته ، { لا إله إلا هو } ، فإنَّ كل ما عداه عبيده ، { ربُّ العرش الكريم } ، فكيف بما تحته من الموجودات ، كائناً ما كان ، ووصفه بالكرم : إمّا لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم ، والخير والبركة ، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين .
{ ومن يدعُ مع الله إلهاً آخر } ، يعبده فرداً أو اشتراكاً ، من صفته { لا برهان له به } على صحة عبادته . وفيه تنبيه على أن التدين بما لا دليل عليه باطل ، فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه؟ { فإنما حسابُه عند ربه } ، . فهو مُجازٍ له على قدر ما يستحقه ، { إنه } أي : الأمر والشأن { لا يُفلح الكافرون } ؛ لا فوز لهم ولا نجاة .
بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين ، وختمت بنفي فلاح الكافرين؛ تحريضاً على الإيمان ، وعلى ما يوجب بقاءه وتنميته ، من التمسك بما جاء به التنزيل ، وبما جاء به النبي الجليل ، ليقع الفوز بالفلاح الجميل .
ثم علَّمنا سؤال المغفرة والرحمة؛ لأن شؤم المعاصي يؤدي إلى سوء الختام ، فقال : { وقل ربِّ اغفرْ وارحمْ وأنت خير الراحمين } ، وفيه إيذان بأنهما من أهم الأمور الدينية ، حيث أمر به من قد غفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فكيف بمن عداه؟ نسأل الله - تعالى - المغفرة الشاملة ، والرحمة الكاملة ، لنا ولإخواننا ولجميع المسلمين . . آمين .
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه مرَّ بمصابٍ مبتلى ، فقرأ في أذنه : ( أفحسبتم أنما . . . ) إلخ السورة ، فبرئ من حينه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ماذا قرأت في أذنه؟ " فأخبره ، فقال : " والذي نفسي بيده لو أن رجلاً مؤمناً قرأها على جبل لزال " .
الإشارة : ما أظهر الله الكائنات إلا ليُعرف بها ، ويُظْهِرَ فيها أسرار ذاته وأنوار صفاته ، وفي الأثر القدسي : " كنت كنزاً لم أُعرف ، فأحببتُ أن أعرف ، فخلقت الخلق ، فتعرفت لهم ، فبي عرفوني " .
(4/210)

وفي إيجاد المخلوقات حِكَم بليغه وأسرار عجيبة ، لا يحصيها إلا من خلقها ودبّرها . فمن المخلوقات من خلقهم ليظهر فيهم أثر رحمته وكرمه وإحسانه ، وهم أهل الإيمان والطاعة ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم حلمه وعفوه ، وهم أهل العصيان ، ومنهم من خلقهم ليظهر فيهم عدله وقهره ونقمته ، وهم أهل الكفر والطغيان . وقال الحكيم الترمذي رضي الله عنه : إن الله خلق الخلق عبيداً ليعبدوه ، فيثيبهم على العبادة ، ويعاقبهم على تركها ، فإنْ عبدوه فهم اليوم له عبيد ، أحرار كرام من رق الدنيا ، ملوك في دار السلام ، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُباق ، سُقاط ، لئام ، أعداء في السجون بين أطباق النيران . ه .
وقال بعضهم : إنما أظهر الله الكون لأجل نبينا صلى الله عليه وسلم تشريفاً له ، فهو من نوره . قال ابن عباس رضي الله عنه : أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام : يا عيسى ابن مريم؛ آمن بمحمد ، ومُر أمتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمد ما خلقت آدم ، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار . . . الحديث .
قال القشيري : حسابُه على الله في آجله ، وعذابُه من الله له في عاجله ، وهو ما أودعَ قلبَه حتى رَضِيَ أنْ يَعْبُدَ معه غيره ، لقوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ، كلامٌ حاصلٌ عن غير دليل عقل ، ولا شهادة خبرٍ ونقل ، فما هو إلا إفك وبهتان ، وقولٌ ليس يساعده برهان . ه وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق - وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه وسلم تسليماً ، والحمد لله رب العالمين .
(4/211)

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قلت : " سورة " : خبر ، أي : هذه سورة ، وأشير لها ، مع عدم تقدم ذكره؛ لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ . وقرئ بالنصب على الاشتغال ، وجملة : ( أنزلناها ) ، وما عطف عليه : صفة لسورة ، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة . و ( الزانية ) : مبتدأ ، والخبر ( فاجلدوا ) ، ودخلت الفاء؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط؛ إذ اللام موصولة ، أي : والتي زنت والذي زنى فاجلدوا ، هذا مذهب المبرد وغيره ، والاختيار عند سيبويه : الرفع على الابتداء ، والخبر : محذوف ، أي : فيما فرض عليكم ، أو : مما يُتلى عليكم : حكم الزانية والزاني ، وقدَّم الزانية؛ لأنها الأصل في الفعل ، والداعية فيها أوفر ، ولوال تمكينها منه لم يقع . وقيل : لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر ، بخلاف السرقة ، ففي الرجال أكثر ، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما .
يقول الحق جل جلاله : هذه { سورةٌ } ، وهي الجامعة لآيات ، بفاتحة لها وخاتمة ، مشتقة من سور البلد . من نعت تلك السورة : { أنزلناها } عليك ، { وفرضْنَاها } أي : فرضنا الأحكام التي فيها . وأصل الفرض : القطع ، أي : جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب .
وقرأ المكي وأبو عمرو : بالتشديد؛ للمبالغة في الإيجاب وتوكيده ، أو : لأن فيها فرائض شتى ، أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم .
{ وأنزلنا فيها } أي : في تضاعيفها { آيات بينات } أي : دلائل واضحات؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها؛ فإنها كسائر السور . وتكرير ( أنزلنا ) ، مع أن جميع الآيات عين السورة؛ لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر؛ إبانة لخطرها ، ورفعاً لقدرها ، كقوله تعالى : { وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ] ، بعد قوله : { نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } . { لعلكم تذكَّرون } أي : لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها . وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم ، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها .
ثم شرع في تفصيل أحكامها ، فقال : { الزانيةُ والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائةَ جلدةٍ } ؛ إذا كانا حُرَّيْن ، بالغين ، غَيْر مُحْصَنَيْنِ ، وألا تكون المرأة مكرَهة . وظاهر الآية : عموم المحصن وغيره ، ثم نسخ بالسُنة المشهورة . وقد رجم - عليه الصلاة والسلام - مَاعزاً وغيره . وعن علي رضي الله عنه : جلدتهما بكتاب الله ، ورجمتهما بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة ، وهي : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما أَلْبَتَّةَ؛ نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) ، ويأباه ما رُوي عن علي رضي الله عنه . ه . قاله أبو السعود .
وشرط الإحصان : العقل ، والحرية ، والإسلام ، والبلوغ ، والتزوج بنكاح صحيح ، ودخول معتبر . وفي التعبير بالجلد ، دون الضرب؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم ، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر . والخطاب للأئمة؛ لأن إقامة الحدود من الدِّين ، وهو على الكل ، إلا أنه لا يمكن الاجتماع ، فيقوم الإمام مقامهم ، وزاد مالك والشافعي مع الجلد : تغريب عام ، أخذاً بالحديث الصحيح .
(4/212)

وقال أبو حنيفة : إنه منسوخ بالآية .
{ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ } أي : رحمة ورقة . وفيها لغات : السكونُ ، والفتح مع القصر والمد ، كالنشأة والنشاءة ، وقيل : الرأفة في دفع المكروه ، والرحمة في إيصال المحبوب . { في دين الله } أي : طاعته وإقامة حدوده ، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله . { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، هو من باب التهييج ، وإلهاب الغضب لله ، ولدينه ، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته ، والاجتهاد في إجراء أحكامه . وذكر اليوم الآخر؛ لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة . وجواب الشرط : مضمر ، أي : إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد .
قيل لأبي مجلز في هذه الآية : والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده ، فقال : إنما ذلك في السلطان ، ليس له أن يدعهم رحمة لهم . وجَلَدَ ابن عمر جارية ، فقال للجلاد : ظهرَها ورجليها وأسفلها ، وخفّف ، فقيل له : أين قوله : { ولا تأخذكم بهما رأفة } . . . ؟ فقال : أأقتلها؟ ، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها ، ولم يأمرني أن أقتلها . ه . ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة .
{ وليشهدْ عذابَهما } أي : وليحضر موضع حدِّهما { طائفةٌ من المؤمنين } ؛ زيادة في التنكيل ، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب . قال بعض العلماء : ينبغي أن يقام بين يدي الحكام ، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية ، وقُربة تعبدية ، يجب المحافظة على فعلها ، وقدرها ، ومحلها ، وحالها ، بحيث لا يتعذر شيء من شروطها وحرمتها ، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة ، فيجب مراعاته بكل ما أمكن ، فلا يقصر عن الحد ، ولا يزاد عليه . ويطلب الاعتدال في السوط ، فلا يكون ليناً جداً ، ولا يابساً جداً ، وكذلك في الضرب ، فلا يرفع يده حتى يرى إبطه ، ولا يخفف فيه جداً ، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره .
وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة . و " الطائفة " : فرقة ، يمكن أن تكون حافة حول الشيء ، من الطوْف ، وهو الإدارة ، وأقلها : ثلاثة ، وقيل : أربعة إلى أربعين .
وعن الحسن : عشرة ، والمراد : جمع يحصل به التشهير . والله تعالى أعلم .
الإشارة : التقوى أساس الطريق ، وبها يقع السير إلى عين التحقيق . فمن لا تقوى له لا طريق له ، ومن لا طريق له لا سير له ، ومن لا سيرله لا وصول له . وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج ، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ما تَرَكْتُ بَعْدِي أضَرّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(4/213)

" يا معشر الناس اتقوا الزنا ، فإن فيه ستَّ خصال : ثلاثاً في الدنيا ، وثلاثاً في الآخرة : فأما اللاتي في الدنيا؛ فيُذهب البهاء ، ويورثُ الفقرَ ، وينْقُصُ العمرَ ، وأما اللاتي في الآخرة؛ فيوجب السخطَة وسوءَ الحسابِ والخلودَ إلى النار " والمراد بنقص العمر : قلة بركته ، وبالخلود : طول المكث . وفي حديث آخر : " إن أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني " ، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين ، فاشتد غضب الله على الزناة " وقال وهب بن منبه : ( مكتوب في التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقواد لا يموت حتى يعمى ) .
وفي بعض الأخبار القدسية : " يقول الله عز وجل : أنا الله لا إله إلا أنا ، خلقت مكة بيدي ، أُغني الحاج ولو بعد حين ، وأُفقر الزاني ولو بعد حين ، هذا وباله في الدنيا والآخرة ، وأما في عالم البرزخ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار ، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار ، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها ، هكذا حتى تقوم الساعة ، كما في حديث البخاري . وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب ، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب . وبالله التوفيق .
وقوله تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } : قال في الإحياء : في الحديث : " خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا " يعني : في الدين؛ قال تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة } ، فالغيرة على الحُرَمِ ، والغضب لله وعلى النفس ، بكفها عن شهوتها وهواها ، محمود ، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ . ه . وبالله التوفيق .
(4/214)

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
يقول الحق جل جلاله : من شأن { الزاني } الخبيث : أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله ، أو في مشركة ، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها ، من الفسقة أو المشركين ، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد ، جيء به؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني ، بعد زجرهم عن الزنا بهن؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح ، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن ، وهو نظير قوله : { الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } [ النور : 26 ] .
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة ، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل ، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات ، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة ، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن؛ لحسنهن ، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت ، فنفرهم الله تعالى عنه ، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين ، فلا تحوموا حوله؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم .
قيل : كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا } [ النور : 32 ] . وقيل : المراد بالنكاح : الوطء ، أي : الزاني لا يزني إلا بزانية مثله ، وهو بعيد ، أو باطل .
وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها . فقال : " أَوَّلُهُ سِفَاحٌ ، وآخره نكاح " و " الحرام لا يُحرم الحلال " .
ومعنى الجملة الأولى : وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف ، ولكن في الفواجر . ومعنى الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن الزناة ، وهما معنيان مختلفان . وقدّم الزاني هنا ، بخلاف ما تقدم في الجلد؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا ، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية ، كما تقدم ، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح ، والرجل اصل فيه .
ثم ذكر الحُكْم فقال : وحُرِّم ذلك على المؤمنين } أي : نكاح الزواني بقصد التكسب ، أو : للجمال؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة ، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب ، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل ، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟ ، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم ، مبالغة في الزجر ، وقيل : النفي بمعنى النهي ، وقرئ به . والتحريم : إما على حقيقته ، ثم نسخ بقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ وا } [ النور : 32 ] إلخ ، أو : مخصوص بسبب النزول . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع ، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل ، وفي ذلك يقول القائل :
عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ ، فَمَنْ غَدَا ... مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ ... فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا
فالمرء على دين خليله ، ومن تحقق بحالة لا يخلوا حاضروه منها ، والحكم للغالب ، فإن كان النورُ قوياً غلب الظلمةَ ، وإن كانت الظلمة قوية غلبت النور ، وصيرته ظلمة ، ولذلك نهى الله تعالى عن نكاح الزواني ، فإنه وإن كان نور الزوج غالباً - إذا كان ذا نور - فإن العِرْقَ نَزَّاعٌ ، فيسرى ذلك في الفروع ، فلا تكاد تجد أولاد أهل الزنا إلا زناة ، ولا أولاد أهل العفة إلا أعِفَّاء ،
(4/215)

{ والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] .
وفي الحديث : " إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ ، قيل : وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء " قال ابن السكيت : شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله ، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب . فيجيب على اللبيب - إن ساعفته الأقدار - أن يختار لزراعته الأرض الطيبة ، وهي الأصل الطيب ، لتكون الفروع طيبة . وفي الحديث : " تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ " ه . وبالله التوفيق .
(4/216)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قلت : " ثمانين " : مفعول مطلق ، و " جلَدة " : تمييز . " إلا الذين تابوا " : إما استثناء من ضمير " لهم " ، فمحله : الجر ، او : من قوله : " الفاسقون " ، فمحله : النصب؛ لأنه بعد مُوجَبٍ تام .
يقول الحق جل جلاله ، في بيان شأن العفائف ، بعد بيان شأن الزواني : { والذين يرمُون } أي : يقذفون بالزنا { المحصناتِ } ؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات ، بأن يقول : يا زانية ، أو : يا مُحبة ، ولا فرق بين التصريح والتعريض ، ولا بين النساء والرجال ، قاذفاً أو مقذوفاً . والتعبير بالرمي ، المنبئ عن صلابة الآلة ، وإيلام المرمى ، وبعده عن الرامي؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن ، وكونه رجماً بالغيب . والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا ، لا غير .
{ ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء } يشهدون عليهن بما رموهن به ، وفي كلمة " ثم "؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود ، كما أن في كلمة " لم " : تحقق الإتيان بهم . وشروط إحصان القذف : الحرية ، والعقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والعفة عن الزنا ، فإن توفرت الشروط { فاجلدوهم } أي : القاذفين { ثمانينَ جلدة } ؛ لظهور كذبهم وافترائهم؛ لقوله تعالى : { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } [ النور : 13 ] ، وتخصيص رميهن بهذا الحكم ، مع أن رمي المحصنين أيضاً كذلك؛ لخصوص الواقعة ، وشيوع الرمي فيهن . والحدود كلها تشطر بالرق ، فعلى العبد في الزنا خمسون ، وفي القذف أربعون .
{ ولا تقبلوا لهم } بعد ذلك { شهادةً أبداً } ؛ زجراً لهم؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم ، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم . وقد آذى المقذوف بلسانه ، فعوقب بإهدار شهادته ، جزاء وفاقاً . والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات ، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي ، أبداً ، مدة حياتهم ، فالرد من تتمه الحدّ ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم ، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والبرد . { وأولئك هم الفاسقون } ، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء ، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد ، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق ، والخروج عن الطاعة ، والتجاوز عن الحد ، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم ، دون غيرهم .
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك } القذف ، { وأَصلحوا } أحوالهم ، فهو استثناء من الفاسقين ، بدليل قوله : { فإن الله غفور رحيم } أي : يغفر ذنوبهم ويرحمهم ، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين . فعلى هذا لا تُقبل شهادته مطلقاً فيما حدّ فيه وفي غيره؛ لأن رد شهادته وُصلت بالأبد ، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي . وقيل : الاستثناء راجع لقوله : { ولا تقبلوا لهم شهادة } ، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقاً؛ لأنه زال عنه اسم الفسق ، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقاً ، فينتهي بالتوبة ، وبه قال الشافعي وأصحابه ، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار .
(4/217)

وفصل مالك ، فقال : لا تجوز فيما حدّ فيه ، ولو تاب ، وتجوز فيما سواه ، وكأنه جمع بين القولين . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب ، وهو من شيم ذوي الألباب ، وبه السلامة من الهلاك والعطَب ، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب ، وأقبح العيوب ، ولله در القائل :
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم ... وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ
لِسَانَكَ ، لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرىءٍ ... فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ
وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيباً فقل لها : ... أيا عَيْنُ لا تنظري؛ فللناس أعيُنُ
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى ... وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ
فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه ، ولا يرى في المملكة سواه ، يذكر الله على الأشياء ، فتنقلب نوراً؛ لحسن ظنه بالله ، ويلتمس المعاذر لعباد الله؛ لكمال حسن ظنه بهم . وبالله التوفيق .
(4/218)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قلت : ( إلا أنفسهم ) : بدل من ( شهداء ) ، أو صفة له ، على أن ( إلا ) بمعنى غير . و ( فشهادة ) : مبتدأ ، والخب محذوف ، أي : واجبة ، أو : تدرأ عنه العذاب ، أو : خبر عن محذوف ، أي : فالواجب شهادة أحدهم ، و ( أنَّ ) ، في الموضعين : مخففة ، وَمَنْ شَدَّدَ؛ فعلى الأصل . و ( الخامسة ) : مبتدأ و ( أنَّ غَضَبَ ) : خبر ، وقرأ حفص بالنصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة .
يقول الحق جل جلاله : { والذين يرمون أزواجهم } أي : يقذفون زوجاتهم بالزنا ، { ولم يكن لهم شهداءُ } أي : لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به { إلا أنفسهُمُ } ، جُعِلوا من جملة الشهداء؛ إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة ، { فشهادةُ أحدهم } أي : فالواجب شهادة أحدهم { أربعُ شهادات بالله } يقول أشهد بالله { إنه لمن الصادقين } فيما رماها به من الزنا . { والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه } أي : إنه لعنة الله عليه ، أي : يقول فيها : لعنة الله عليه { إن كان من الكاذبين } فيما رماها به . فإذا حلف دُرِىءَ عنه العذاب ، أي : دفع عنه الحد ، وَإِنْ نَكَلَ : حُدَّ؛ لقذفها .
{ ويدرأُ عنها العذابَ } أي : يدفع عنها الحدَّ { أن تشهدَ أربعَ شهاداتٍ بالله إِنه } أي : الزوج { لمن الكاذبين } فيما رماها به من الزنا ، { والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان } الزوج { من الصادقين } فيما رماها به من الزنا . وذكر الغضب في حق النساء؛ تغليظاً؛ لأن النساء؛ يستعملن اللعن كثيراً ، كما ورد به الحديث : " يُكْثِرْنَ اللعْنَ " ، فربما يجترئن على الإقدام ، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن ، وسقوط وقعه عن قلوبهن ، فذكر الغضب في جانبهن؛ ليكون ردعاً لهن .
فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن ، عند مالك والشافعي ، على سبيل التأبيد ، وقال أبو حنيفة : حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب .
رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقام عاصم بن عدي الأنصاري ، فقال : جعلني الله فداءك ، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً ، فأخبر بما رأى ، جُلِدَ ثمانين ، وسماه المسلمون فاسقاً ، ولا تقبل شهادته أيضاً ، فكيف لنا بالشهداء ، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته ، وإن ضربه بالسيف قُتل؟ اللهم افتح ، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية - وقيل : عُوَيْمِر - فقال : ما وراءك؟ فقال : الشر ، وجدت على امراتي خولة - وهي بنت عاصم - شريكَ بن سحماء - فقال عاصم : والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به ، فرجعا ، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلم خولة : فأنكرت ، فنزلت هذه الآية ، فتلاعنا في المسجد ، وفرَّق بينهما ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ارقبوا الولد ، إن جاءت به على نعت كذا وكذا ، فما أراه إلا كذب عليها ، وإن جاءت به على نعت كذا ، فما أراه إلا صدق "
(4/219)

فجاءت به على النعت المكروه .
قال تعالى : { ولولا فضلُ الله عليكم } أي : تفضله عليكم { ورحمتُه } ؛ ونعمته { وأنَّ الله تواب حكيم } ، وجواب " لولا " : محذوف؛ لتهويله ، والإشعار بضيق العبارة عن حصره ، كأنه قيل : لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة ، حكيم في جميع افعاله وأحكامه ، التي من جملتها : ما شرع لكم من حكم اللعان ، لكان ما كان ، مما لا يحيط به نطاق العبارة ، من حد الزوج مع الفضيحة ، أو قتل المرأة ، أو غير ذلك من العقوبة . قال القشيري : لبقيتم في هذه المعضلة ولم تهتدوا إلى الخروج من هذه الحالة المشكلة . ه .
الإشارة : النفس إذا تحقق فناؤها ، وكمل تهذيبها ، رجعت سراً من أسرار الله ، فلا يحل رميها بنقص؛ لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص ، فإن رماها بشيء فليبادر بالرجوع عنه . والله تعالى أعلم .
(4/220)

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قلت : ( عُصْبة ) : خبر " إن " ، و ( لا تحسبوه ) : استئناف .
يقول الحق جل جلاله : { إن الذين جاؤوا بالإِفْكِ } ؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء ، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك . والمراد : مَا أُفِك على الصديقة عائشة - رضي الله عنه - ، وفي لفظ المجيء إشارة إلا أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل .
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائِه ، فأيَّتهُنَّ خرجت قُرعتها استصحبها ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها - قيل : هي غزوة بني المصطلق ، وتُسمى أيضاً : غزوة المريسيع ، وفيها أيضاً نزل التيمم - فَخَرّج سهمي ، فخرجتُ معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب ، فحُملت في هودج ، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة؛ نزلنا منزلاً ، ثم نُودي بالرحيل ، فقمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش ، فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي ، فلمسْتُ صدري فإذا عِقْدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظفارٍ قد انقطعَ ، فرجعتُ فالتمسته ، فحبسني التماسه . وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلوني ، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري ، وهم يحسبون أنِّي فيه؛ لخفتي ، فلم يستنكروا خفة الهودج ، وذهبوا بالبعير ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب ، فتيممت منزلي ، وظننت أن سيفقدونني ويعودُون في طَلَبي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني ، فنمت ، وكان صَفْوَانُ بن المعطِّل قد عرّس من وراء الجيش ، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي ، فلما رآني عرفني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاسترجع ، فاستيقظت باسترجاعه ، فخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي ، والله ما تكلمنا بكلمة ، ولا سمعتُ منه كلمة ، غير استرجاعه ، فأناخ راحلته ، فوطئ على يدها ، فقمت إليها فركبتها ، وانطلق يقود بي الراحلة ، حتى أتينا الجيش مُوغرين في نَحْرِ الظهيرة ، وهم نزول ، وافْتَقَدني الناسُ حين نَزَلُوا ، وماج الناس في ذِكْرِي ، فبينما الناس كذلك إذ هَجَمْتُ عليهم ، فخَاضَ الناس في حديثي ، فهلك مَنْ هلك . والحديث بطوله مذكور في الصحيحين والسّيَر .
وقوله تعالى : { عُصْبَةٌ منكم } أي : جماعة من جلدتكم ، والعصبة : من العشرة إلى الأربعين ، وكذا العصابة ، يقال : اعصوصبَوا : اجتمعوا . وهم عبد الله بن أُبّي رأس المنافقين ، وزيد بن رفاعة ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، ومن ساعدهم . واختلف في حساب بن ثابت ، فمن قال : كان منهم ، أنشد البيت المروي في شأنهم ممن جلدوا الحد :
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الذي هُو أَهْلُهُ ... وَحِمْنَةُ؛ إذ قالا هجَيْراً ، وِمسْطَحُ
ومن برَّأ حَسان من الإفك قال : إنما الرواية في البيت : ( لقد ذاق عبد الله ما كان أهله ) ، والمشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد عبد الله بن أُبّي ، حين حدّ الرامين لعائشة ، تأليفاً له؛ قال البرماوي في حاشيته علىلبخاري في فوائد حديث الإفك : وفيه ترك الحد لما يخشى من تفريق الكلمة ، كما ترك عليه الصلاة والسلام حدّ ابن سلول .
(4/221)

ه . وقد رَوى ابن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقد أنكر حسانُ أن يكون قال فيها شيئاً في أبياته ، التي من جملتها :
حَصَانُ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ
إلى أن قال :
فَإنْ كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي قُلْتُه ... فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنامِلي
ويجمع بين قوله هنا ذلك ، وبين قولها له عند قوله : وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ : " لكنك لست كذلك "؛ بأنه لم يقل نصاً وتصريحاً ، ولكن عرّض وأومأ ، فنُسب ذلك إليه . والله أعلم أيُّ ذلك كان .
ثم قال تعالى : { لا تحسَبُوه شَرَّا لكم } ، والخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وأبي بكر ، وعائشة ، وصفوان؛ تسلية لهم من أول الأمر ، { بل هو خيرٌ لكم } ؛ لاكتسابكم به الثواب العظيم ، وظهور كرامتكم على الله عز وجل؛ بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم ، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم ، والثناء على من ظن خيراً بكم ، مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله ، والافتقار إليه ، والإياس مما سواه .
ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله : { لكل امرىءٍ منهم } أي : من أولئك العصبة { ما اكتسبَ من الإثم } أي : له من الجزاء بقدر ما خاض فيه ، وكان بعضهم ضحك ، وبعضهم تكلم ، وبعضهم سكت . { والذي تولى كِبْرَهُ } أي : معظمه وجُله { منهم } أي : من العصبة ، وهو عبد الله بن أُبَيّ { له عذابٌ عظيم } في الآخرة ، إن كان كافراً ، كابن أُبّي ، وفي الدنيا إن كان مؤمناً ، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم . وقد رُوي أن مسطح كُف بصره ، وكذلك حسان ، إن ثبت عنه الخوض فيه ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : كلام الناس في أهل الخصوصية مَقَاذِفُ لسير سفينتهم ، ورياح لها ، فكلما قوي كلام الناس في الولي قَوِيَ سَيْرُهُ إلى حضرة ربه ، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حَطاَّبَة . وفي الحِكَم : " إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم ، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء " .
والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه ، لا يحب أن تركن إلى غيره ، فمهما ركنت إلى شيء شوش ذلك عليه ، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه حين أمر بذبحه ، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السلام مع ابنه حين غيّبه عنه . وكانت عائشة رضي الله عنها - قد استولى عليها حبه - عليه الصلاة والسلام - ، فكادت تحجب بالواسطة عن الموسوط ، فردها إليه تعالى بما أنزل بها ، تمحيصاً وتخليصاً وتخصيصاً ، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود ، فقالت : بحمد الله ، لا بحمد أحد . وكذا شأنه تعالى مع أحبائه؛ يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا حتى لا يكونوا لغيره . وبالله التوفيق .
(4/222)

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
قلت : قال ابن هشام : وقد يلي حرف التخصيص اسم معلق بفعل ، إما بمضمر ، نحو : " فهَلاَّ بكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك " أي : فهلا تزوجت ، أو مؤخراً نحو : ( لولا إذ سمعتموه قلتم . . ) أي : فهلا قلتم إذ سمعتموه . ه . وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ ... عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ
يقول الحق جل جلاله : { لولا إذْ سمعتموه } أي : الإفك { ظنَّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً } بالذين هم منهم؛ لأن المؤمنين كنفس واحدة ، كقوله : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] أي : هلا ظنوا بإخوانهم خيراً : عَفَافاً وصلاحاً ، وذلك نحو ما يُروى عن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنا قاطع بكذب المنافقين؛ لأن الله تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك ، لئلا يقع على النجاسات فَتُلَطَّخَ بها ، فإذا عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة ) ! . وقال عثمان رضي الله عنه : ( ما أوقع ظلك على الأرض؛ لئلا يضع إنسان قدمه عليه؛ فلَمَّا لم يُمكِّن أحداً من وضع القدم على ظلك ، فكيف يُمكِّن أحداً من تلويث عرض زوجتك! ) .
وكذا قال عليّ رضي الله عنه : ( إن جبريل أخبرك أنَّ على نَعْلِك قذراً ، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك ، بسبب ما التصق به من القذر ، فكيف لا يأمرك بإخراجها ، على تقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش ) ؟ قال النسفي .
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال في عائشة؟ فقالت : لو كُنْتَ بدل صفوان أَكُنْتَ تخُون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا ، قالت : ولو كنتُ أنا بدل عائشة مَا خُنْتُ رسول الله ، فعائشة خير مني ، وصفوان خير منك . وفي رواية ابن إسحاق : قالت زوجة أبي أيوب لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال : بلى ، وذلك الكذب . أَكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ، فقال : عائشة خير منك ، سبحان الله ، هذا بهتان عظيم ، فنزل : { لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } . . . الآية .
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير الظاهر ، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيراً ، وقلتم؛ ليبالغ في التوبيخ بطرق الالتفات ، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسيء الظن بأحد من المؤمنين .
{ وقالوا } عند سماع هذه الفرية : { هذا إفكٌ مبين } ؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق . { لولا جاؤوا عليه بأربعةِ شهداءَ } ؛ هلاَّ جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا { فإِذْ لم يأتوا بالشهداءَ } ، ولم يقل : " بهم "؛ لزيادة التقرير ، { فأولئك } الخائضون { عند الله } أي : في حُكمه وشرعه { هم الكاذبون } ؛ الكاملون في الكذب ، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : حُسن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله ، ولا سيما ما فيه حرمة من حُرَم الله . قال القشيري على الآية : عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وتَرْكِ الإعراضِ عن حُرمة بيت نبيهم . ثم قال : وسبيلُ المؤمن ألا يستصغر في الوفاق طاعة ، ولا في الخلاف زَلَّةً ، فإِنَّ تعظيمَ الأمْرِ بتعظيم الآمرِ ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه ، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول - عليه الصلاة والسلام - فذلك أعظم عند الله ، ولذلك بالغ في التوبيخ على ما أقدموا عليه ، مما تأذى به الرسول ، وقلوب آل الصدِّيق ، وقلوب المخلصين من المؤمنين . ه .
(4/223)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
قلت : ( لولا ) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة؛ فإنها تحضيضية ، و ( إذ سمعتموه ) : معمول لقُلتم ، و ( إذْ تلقونه ) : ظرف لمسَّكم .
يقول الحق جل جلاله : { ولولا فضلُ الله عليكم } أيها السامعون { ورحمتُهُ في الدنيا } ؛ من فنون النِعَم ، التي من جملتها : الإمهال والتوبة ، { و } في { الآخرةِ } ؛ من ضروب الآلاء ، التي من جملتها : العفو والمغفرة ، { لمسَّكم } عاجلاً { فيما أفَضْتُم } أي : بسبب ما خضتم { فيه } من حديث الإفك { عذابٌ عظيمٌ } يُستحقر دونه التوبيخ والجَلْدُ ، يقال أفاض في الحديث ، وفاض ، واندفع : إذا خاض فيه .
{ إذْ تلقَّوْنه } أي : لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له ، يقال : تلقى القول ، وتلقنه ، وتلقفه ، بمعنى واحد ، غير أن التلفق : فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة ، أي : إذ تأخذونه { بألسنتكم } ؛ بأن يقول بعضُكم لبعض : هل بلغك حديث عائشة ، حتى شاع فيما بينكم وانتشر ، فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طارفيه . { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علمٌ } أي : قولاً لا حقيقة له ، وقيّده بالأفواه ، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم؛ لأن الشيء المعلوم يكون في القلب ، ثم يترجم عنه اللسان ، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور فيه الأفواه ، من غير ترجمة عن علم به في القلب . { وتحسبونه هيِّناً } أي : وتظنون أن خوضكم في عائشة سَهْلٌ لا تبعة فيه ، { وهو عند الله عظيم } أي : والحال أنه عند الله كبير ، لا يُقادر قدره في استجلاب العذاب . جزع بعض الصالحين عند الموت ، فقيل له في ذلك ، فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال ، وهو عند الله عظيم .
{ ولولا إذْ سَمِعْتُموه } من المخترعين والشائعين له { قُلتم ما يكونُ لنا } ؛ ما يمكننا { أن نتكلَّمَ بهذا } ، وما ينبغي أن يصدر عنا ، وتوسيط الظروف بين " لولا " و " قلتم " إشارة إلى أنه كان الواجب أن يُبادروا بإنكار هذا الكلام في أول وقت سمعوه ، فلما تأخر الإنكار وبَّخهم عليه ، فكان ذكرُ الوقت أَهَمَّ ، فقدّم ، والمعنى : هلاَّ قُلتم إذ سمعتم الإفك : ما يصح لنا أن نتكلم بهذا ، { سبحانك } ؛ تنزيهاً لك ، وهو تعجبٌ مِنْ عِظَمِ ما فاهوا به . ومعنى التعجب في كلمة التسبيح : أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى ، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه . أو : تنزيهاً لك أن يكون في حرم نبيك فاجرة ، { هذا بهتانٌ عظيم } ؛ لعظمة المبهوت عليه ، واستحالة صدقه ، فإنَّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها . وقال فيما تقدم : { هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } [ النور : 12 ] . ويجوز أن يكونوا أُمروا بهما معاً ، مبالغة في التبري .
{ يَعِظُكُمُ الله } أي : ينصحكم { أن تعودوا لمثله } أي : كراهة أن تعودوا ، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع ، { أبداً } ؛ مدة حياتكم ، { إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة .
(4/224)

وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود ، وهو الإيمان الصادُّ عن كل قبيح .
{ ويُبيِّن الله لكم الآياتِ } الدالة على الشرائع ومحاسن الأدب ، دلالة واضحة؛ لتتعظوا وتتأدبوا ، أي : ينزلها كذلك ظاهرة مبينة ، { والله عليمٌ حكيمٌ } ؛ عليم بأحوال مخلوقاته ، حكيم في جميع تدابيره وأفعاله ، فَأَنَّى يصحُّ ما قيل في حرمة من اصطفاه لرسالته ، وبعثه إلى كافة الخلق ، ليرشدهم إلى الحق ، ويزكيهم ويطهرهم تطهيراً؟ والله تعالى أعلم .
الإشارة : الكلام في الأولياء سم قاتل؛ لأن الله ينتصر لأوليائه لا محالة ، فمنهم من ينتصر لهم في الدنيا بإنزال البلايا والمحن في بدنه أو ولده أو ماله ، ومنهم من يؤخر عقوبته إلى الآخرة ، وهو أقبح . ومنهم من تكون عقوبته دينية قلبية؛ كقساوة القلب وجمود العين ، وتعويق عن الطاعة ، ووقوع في ذنب ، أو فترة في همة ، أو سلب لذاذة خدمة أو معرفة ، وهذه أقبح العقوبة ، والعياذ بالله .
(4/225)

إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
يقول الحق جل جلاله : { إن الذين يُحبون } ؛ يريدون { أن تشيعَ الفاحشةُ } أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح ، وهو الرمي بالزنا ، أو نفس الزنا ، والمراد بشيوعها : شيوع خبرها ، أي : يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها . وإنما لم يصرح به؛ اكتفاء بذكر المحبة؛ فإنها مستلزمة له لا محالة ، وهم : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن تبعهم . { لهم عذابٌ أليم في الدنيا } ؛ بالحدّ والفضيحة والتكذيب . ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة . وتقدم الخلاف في ابن أُبي ، فقيل : حدَّه ، وقيل : تركه؛ استئلافاً له .
{ و } لهم العذاب في { الآخرة } بالنار وغيرها ، إن لم يتوبوا . { والله يعلم } جميع الأمور ، التي من جملتها : المحبة المذكورة ، { وأنتم لا تعلمون } ما يعلمه تعالى ، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة ، فابنوا أمركم على ما تعلمونه ، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة ، والله يتولى السرائر ، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور .
{ ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه } ؛ التكرير؛ لتعظيم المِنَّةِ بترك المعاجلة؛ للتنبيه على كَمَالِ عِظَمِ الجريمة ، { وأنَّ الله رؤوف رحيم } عطف على ( فضل الله ) ، أي : لولا فضله ورأفته لعاَجلكم بالعقوبة ، وإظهار إسم الجليل؛ لتربية المهابة ، والإشعار باستتباع صفة الأولوهية للرأفة والرحمة ، وتصديره بحرف التأكيد؛ لأن المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة التي هي كمال الرحمة وبالرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوام والاستمرار . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من شأن أهل الُبعد والإنكار : أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب في أهل النِّسْبَةِ وأهل الخصوصية فرحوا ، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم؛ قصداً لغض مرتبتهم؛ حسداً وعناداً ، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، ولولا فضل الله ورحمته لعاجلهم بالعقوبة . والله تعالى أعلم وأحلم .
ولما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئاً؛ غضباً لعائشة ، وكان يُنفق عليه؛ لقرابته .
(4/226)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطواتِ الشيطان } أي : لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل ، والتي من جملتها : منع الإحسان إلى من أساء إليكم؛ غضباً وحَمِيَّةً ، { ومن يتبع خُطُوات الشيطان } ، وضع الظاهر موضع المضمر ، حيث لم يقل : ومن يتبعها ، أو : ومن يتبع خطواته؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير ، { فإنه } أي : الشيطان { يأمرُ بالفحشاء } ؛ كالبخل والشح ، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ ، { والمنكر } ؛ كالغضب ، والحمية ، وكل ما ينكره الشرع؛ لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما . فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره .
{ ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه } بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ ، { ما زَكَى منكم } أي : ما طَهُرَ من أَدْناسِ العيوب ولوث الفواحش { من أحدٍ أبداً } ؛ إلى ما لا نهاية له ، وإذا كان التطهير والعصمة بيد الله فلا تروا لأنفسكم فضلاً عمن لم يعصمه الله؛ فإنه مقهور تحت مجاري الأقدار ، { ولَكِنَّ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } ؛ يطهر من يشاء من عباده؛ بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه؛ بالحفظ والرعاية ، أو بالتوبة بعد الجناية ، { والله سميعٌ عليم } ؛ سميع لأقوالكم وإن خفيت ، ومن جملتها : الحلف على ترك فعل الخير ، عليم بنياتكم وإخلاصكم .
وهذا الكلام مقدمة لقوله : { ولا يأْتَل } ، من قولك : أليت : إذا حلفت ، أي : لاَ يَحْلِفْ { أولو الفضل منكم } أي : في الدين ، وكفى به دليلاً على فضل الصِّدِيقِ رضي الله عنه ، { والسَّعَةِ } . أي : والسعة في المال { أن يُؤتوا } أي : لا يحلف على ألا يُعطوا { أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيلِ الله } ؛ كمسطح ، فإنه كان ابن خالته ، وكان من فقراء المهاجرين . وهذه الأوصاف هي لموصوف واحد ، جيء بها ، بطريق العطف؛ تنبيهاً على أن كلاًّ منها علة مستقلة لا ستحقاقه الإيتاء . وحذف المفعول الثاني؛ لظهوره ، أي : على ألاّ يؤتوهم شيئاً ، { وليعفُوا } عما فرط منهم { وليصفحُوا } بالإغضاء عنه ، فالعفو : التستر ، والصفح : الإعراض ، أي : وليتجاوزوا عن الجفاء ، وليُعرضوا عن العقوبة .
{ ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم } ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم ، مع كثرة خطاياهم ، { والله غفور رحيم } ؛ مبالغ في المغفرة والرحمة ، مع كثرة ذنوب العباد ، فتأدبوا بآداب الله ، واعفوا ، وارحموا . ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال : بل أُحب أن يغفر الله لي . ورد إلى مسطح نفقته ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .
وبالله التوفيق .
الإشارة : كل ما يصد عن مكارم الأخلاق؛ كالحلم ، والصبر ، والعفو ، والكرم ، والإغضاء ، وغير ذلك من الكمالات ، فهو من خطوات الشيطان ، تجب مجانبته ، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر؛ كالغضب ، والانتصار ، والحمية ، والحقد ، والشح ، والبخل ، وغير ذلك من المساوئ ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له ، والتعلق بأذيال فضله وكرمه .
(4/227)

ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ، فإذا تعلق بالله ، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه ، إما بلا سبب ، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل ، يُربيه ويهذبه بإذن الله ، وهذا هو الكثير ، والكل منه وإليه .
قال الورتيجبي قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم رحمته . . . } إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية ، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً ، فالمعلول لا يُطَهِّرُ ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف ، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله . قال السياري : قال الله : { ولولا فضل الله عليكم } ، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد؛ ليعلم أن العبادات ، وإن كثرت ، فإنها من نتائج الفضل . ه .
قال في الحاشية : وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله : { ولا يأتل أولو الفضل منكم } ، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه ، وعنايةٌ سابقةٌ ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف ، فليشهدْ ذلك ، ولا يأتل على من لم يجد ذلك ، حتى وقع فيما وقع من القذف ، بل يعذره ، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك ، مع كون المحل قابلاً ، ولكن الله خَصَّصَهُ . ه .
قال الورتجيبي على قوله : { ولا يأتل . . . } إلخ : في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات ، من المريدين ، ويتخلقوا بخلق الله ، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي ، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم . ثم قال : فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً . ه .
(4/228)

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قلت : " يوم تشهد " : ظرف للاستقرار ، في " لهم " ، أو : معمول لا ذكر .
يقول الحق جل جلاله : { إن الذين يرمون } ؛ يقذفون { المحصَنَاتِ } ؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة ، { الغافلاتِ } عنها على الإطلاق ، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها ، أو السليمات الصدور ، النقيات القلوب ، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر؛ لأنهن لم يُجربن الأمور ، { المؤمنات } ؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به ، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره . عن ابن عباس : هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : جميع المؤمنات؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقيل : أريدت عائشة وحدها ، وإنما جمع؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ .
ثم ذكر الوعيد ، فقال : { لُعِنُوا في الدنيا والآخرة } ، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً ، { ولهم } مع ذلك { عذابٌ عظيم } ، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية ، إن لم يتوبوا ، فيعذبون .
{ يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون } أي : بما أَفكوا وبَهَتُوا { يومئذٍ يُوفّيهم الله دينَهُم } أي : يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم { الحقَّ } أي : الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة ، أو الذي هم أهله ، والحق : صفة لدينهم ، أو لله ، ونصب على المدح . { ويَعْلَمُونَ } عند ذلك { أن الله هو الحقُّ } الثابت الواجب الوجود { المبين } ؛ الظاهر البين؛ لارتفاع الشكوك ، وحصول العلم الضروري؛ لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً .
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة - رضي الله عنها - فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ ، وفَصَّل ، وأَجَمَلَ ، وأَكَّدَ ، وكَرَّرَ ، وما ذلك إلا لأمر عظيم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته ، إلا مَن خاض في أمر عائشة - رضي الله عنها ) ، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك ، وقد برّأ الله تعالى أربعة؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها ، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه : أنه آدر ، بالحجر الذي ذهب بثوبه ، ومريم بنطق ولدها ، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز ، المتلوّ على وجود الدهر ، بهذه المبالغات . فانظر : كم بينها وبين تبرئة أولئك؟! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله ، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم .
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك ، فقال : كيف تبقى زوجة نبيكم ، مع رجل أجنبي؟ فقال له من كان يناظره من العلماء : قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم فبُهت الذي كفر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد مدح الله تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أوصاف ، هي من أكمل الأوصاف : العفة ، والتغافل ، وتحقيق الإيمان؛ أما العفة : فهي حفظ القلب من دخول الهوى ، والجوارح من معاصي المولى ، وأما التغافل : فهو الغيبة عما سوى الله ، والتغافل عن مساوئِ الناس .
(4/229)

وفي الحديث : " المؤمن ثلثاه تغافل " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " المومنُ غِرٌّ كَرِيمٌ ، والمنافقُ خَبٌّ لَئِيمٌ " وأما تحقيق الإيمان فيكون بالتفكر والاعتبار ، وبصحبة الصالحين الأبرار ، ثم يصير الإيمان ضرورياً بصحبة العارفين الكبار .
قال القشيري : قوله تعالى : { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } : تصير المعارف ضروريةً ، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر ، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه ، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره . ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق ، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق ، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه ، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم ، من غير أن يردهم عليهم . ه . وبالله التوفيق .
(4/230)

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
يقول الحق جل جلاله : { الخبيثاتُ } من النساء { للخبيثين } من الرجال ، { والخبيثون } من الرجال { للخبيثات } من النساء . وهذه قاعدة السنة الإلهية ، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل ، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله ، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله . وهو معنى قوله تعالى : { والطيباتُ } من النساء { للطيبين } من الرجال { والطيبون } من الرجال ، { للطيباتِ } من النساء ، فهذا هو الغالب .
وحيث كان - عليه الصلاة والسلام - أطيب الأطيبين ، وخيرة الأولين والآخرين ، تبين كون الصديقة - رضي الله عنها - من أطيب الطيبات ، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات ، حسبما نطق به قوله تعالى : { أولئك مبرؤون مما يقولون } ، على أن الإشارة إلى أهل البيت ، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً ، وقيل : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان ، وما في أسم الإشارة معنى البُعد ، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم ، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل ، أي : أولئك الموصوفون بعلو الشأن : مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة .
وقيل : ( الخبيثات ) من القول تقال ( للخبيثين ) من الرجال والنساء ، أي : لائقة بهم ، لا ينبغي أن تقال إلا لهم . ( والخبيثون ) من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول . ( والطيبات ) من الكلم ( للطيبين ) من الفريقين ، مختصة بهم ، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم . { أولئك } الطيبون { مبرؤون } مما يقول الخبيثون في حقهم .
فمآله تنزيه الصديقة أيضاً . وقيل : الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين ، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين ، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث ، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ ، { لهم مغفرة } لما لا يخلو عنه البشر من الذنب ، { ورزق كريم } ؛ هو نعيم الجنان .
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة - رضي الله عنها - في مرضها ، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل ، فقال : لا تخافي ، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم ، وتلى الآية ، فغشي عليها : فرحاً بما تلا . وقالت رضي الله عنها - : ( قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة : نزل جبريل بصورتي في راحته ، حين أمر- عليه الصلاة والسلام - أن يتزوجني ، وتزوجني بكراً ، وما تزوج بكراً غيري ، وتوفي - عليه الصلاة والسلام - ورأسه في حِجْري ، وقبره في بيتي ، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه ، وأنا ابنة خليفته وصديقه ، ونزل عذري من السماء ، وخُلقت طيبة عند طيب ، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً ) .
الإشارة : الأخلاق الخبيثة؛ مثل الكبر ، والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد ، والحسد ، وحب الجاه والمال ، للخبيثين ، والخبيثون للخبيثات ، فهم متصفون بها ، وهي لازمة لهم ، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير ، فيتطهرون بإذن الله ، والأخلاق الطيبات؛ كالتواضع ، والإخلاص ، وسلامة الصدور ، والزهد ، والورع ، والسخاء ، والكرم ، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة ، للطيبين ، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات . أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم ، لهم مغفرة؛ ستر لعيوبهم ، ورزق كريم لأرواحهم؛ من قوت اليقين ، وشهود رب العالمين . وبالله التوفيق .
(4/231)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم } أي : بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها ، { حتى تستَأْنسوا } ؛ تسأذنوا ، وقُرىءَ به ، والاستئناس : الاستعلام ، والاستكشاف ، استفعال ، من أنَس الشيء : أبصره ، فإن المستأذن مستعلم للحال ، مستكشف له ، هل يؤذن له أم لا ، ويحصل بذكر الله جهراً ، كتسبيحة أو تكبيرة .
أو تَنَحْنُحٍ ، { وتُسلِّموا على أهلها } ، بأن يقول : السلام عليكم ، أَأَدْخُلُ؟ ثلالث مرات ، فإذا أُذن له ، وإلا رجع ، فإن تلاقيا ، قدّم التسليم ، وإلا ، فالاستئذان . { ذلكم } أي : التسليم { خيرٌ لكم } من أن تدخلوا بغتة ، أو من تحية الجاهلية .
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول : حُييتم صباحاً ، حييتم مساءاً ، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف . رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أَأَسْتأذنُ على أمي؟ قال : " نَعَم " قال : ليس لها خادم غيري ، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " أتحُبُّ أن تراها عريانة . . . ؟ " { لعلكم تذكَّرون } أي : أمرتكم به ، أو : قيل لكم هذا؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه .
{ فإن لم تجدوا فيها } ؛ في البيوت { أحداً } ممن يستحق الإذن ، من الرجال البالغين وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء ، { فلا تدخلوها } ، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية؛ لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه ، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى؛ لما فيه الاطلاع على الحريم وعورات النساء . فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا ، واصبروا { حتى يُؤْذَنَ لكم } من جهة من يملك الإذن ، أو : فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها ، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه .
{ وإن قيل لكم ارجِعُوا } أي : إذا كان فيها قوم ، وقالوا : ارجعوا { فارجعوا } ولا تُلحُّوا في طلب الإذن ، ولا تقِفُوا بالأبواب ، ولا تخرقوا الحجاب؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة ، وإذا نهى عن ذلك؛ لأدائه إلى الكراهية؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها؛ من قرع الباب بعنف ، والتصييح بصاحب الدار ، وغير ذلك . وعن أبي عبيد : " ما قرعت باباً على عالم قط " . فالرجوع { وهو أزْكَى لكمْ } أي : أطيب لكم وأطهر؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة ، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة . { والله بما تعملون عليم } ؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه ، فيجازيكم عليه . وهو وعيد للمخاطبين .
{ ليس عليكم جُنَاحٌ } في { أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونةٍ } أي : غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة ، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها ، من غير أن يتخذها مسكناً؛ كالرُّبَطِ ، والخانات ، والحمامات ، وحوانيت التجار .
(4/232)

{ فيها متاعٌ لكم } أي : منفعة؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد ، وإيواء الرجال والسلع ، والشراء والبيع ، والاغتسال ، وغير ذلك ، فلا بأس بدخولها بغير استئذان . روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان ، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات ، فلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت . وقيل : هي الخرابات ، يُتَبَرَّزُ فيها ، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره ، والظاهر : أنها من جملة ما ينتظم في البيوت ، لا أنها المرادة فقط . { والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون } ، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات . والله تعالى أعلم .
الإشارة : التصوف كله آداب ، حتى قال بعضهم : اجعل عملك مِلْحاً وأدبك دقيقاً .
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم ، ودخولهم وخروجهم ، فهم أَولى بالأدب ، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم؛ برفع صوتهم بذكر الله ، أو بالتسبيح ، أو بالسلام قبل الدخول . وكذا عند دخول منزل غيرهم ، أو منزل بعضهم بعضاً . وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج ، تأدباً بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } [ الحجرات : 5 ] ، فلا يقرعون بابه ، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة .
(4/233)

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلك أزكى لَهُمْ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ . . . } .
يقول الحق جل جلاله : { قل للمؤمنين } ، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً ، أي : قل لهم : { يغضُّوا مِنْ أبصارهم } ، و " مِن " : للتبعيض ، والمراد : غض البصر عما يحرم ، والاقتصار على ما يحل . ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة ، إلا خوف الفتنة ، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة . وفي الموطأ : هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم ، أو مع غلامها؟ قال مالك : لا بأس بذلك ، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال ، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله . ه . وقال ابن القطان : فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي ، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا ، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره وقال عياض : ليس بواجب أت تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها ، وعلى الرجل غض بصره . ثم قال في الإكمال : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . ه .
{ و } قل لهم أيضاً : { يحفظوا فُرُوجَهُم } ، إلا على أزواجهم ، أو ما ملكت إيمانهم ، وتقييد الغض بمن التبعيضية ، دون حفظ الفروج؛ لِما في النظر من السَّعَة ، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها ، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين . قاله النسفي . قلت : ومذهب مالك : حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم ، فإن تعذر التحرر مِنْهُ ، كشغل البنات في الدار ، باديات الأرجلِ ، فليتمسك بقول الحنفي ، إن لم يقدر على غض بصره . قاله شيخنا الجنوي .
{ ذلك أَزْكَى لهم } أي : أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة ، { إن الله خبير بما يصنعون } ، وفيه ترغيب وترهيب ، يعني : أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم ، فكيف يجيلون أبصارهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟! فعليهم ، إذا عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على حَذر .
{ وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن } ؛ بالتستر والتصون عن الزنا ، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء ، وهي من الرجل : ما عدا الوجه والأطراف ، ومن النساء : ما بين السرة والركبة ، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف ، أو بشهوة .
(4/234)

وقيل : إن حصل الأمن من الشهوة جاز ، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة .
{ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ } من الزنا والمساحقة . وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج؛ لأن النظر بريد الزنا ، ورائد الفجور ، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ . { ولا يُبدينَ زينتَهُن } ؛ كالحُلي ، والكحل ، والخِصاب ، والمراد بالزينة : مَوَاضِعُها ، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة ، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا ، وهي : الرأس ، والأُذن ، والعنق ، والصدر ، والعضدان ، والذراع ، والساق . والزينة هي : الإكليل ، والقرط ، والقلادة ، والوِشاح ، والدملج ، والسوار والخلخال . { إلا ما ظهرَ منها } ؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها ، وهو الوجه والكفان ، إلا لخوف الفتنة ، زاد أبو حنيفة : والقدمين ، ففي ستر هذه حرج؛ فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها ، ولا سيما الفقيرات منهن . قاله النسفي .
{ وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ } أي : وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ ، جمع خمار ، وهو ما يستر الرأس ، { على جيوبهن } ، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر ، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن ، وكانت واسعةً ، يبدو منها صدورهن وما حواليها ، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن؛ ستراً لما يبدو منها . وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع ، فَعُدِّيَ بعلى .
{ ولا يُبدين زينتهنَّ } أي : مواضع الزينة الباطنة؛ كالصدر ، والرأس ، ونحوهما ، كرره : ليستثني منه ما رخص فيه ، وهو قوله : { إلا لِبُعُولَتِهِنَّ } ؛ لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ، { أو آبائِهنَّ } ، ويدخل فيهم الأجداد ، { أو آباء بُعُولَتِهنَّ } ؛ فقد صاروا محارم ، { أو أبنائهن } ، ويدخل فيهم الأحفاد ، { أو أبناء بُعولتِهِنَّ } ؛ لأنهم صاروا محارم أيضاً ، { أو إِخوانهن } الشقائق ، أو لأب ، أو لأم ، { أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ } وإن سفلوا ، ويدخل سائر المحارم ، كالأعمام ، والأخوال ، وغيرهم؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم ، فإن تحققت؛ حيل بينهم ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال ، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم؛ حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم ، { أو نسائهنّ } ؛ يعني جميع المؤمنات؛ فكأنه قال : أو صنفهن؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال ، { أو ما ملكت أيمانُهنّ } ، يعني : الإماء المؤمنات أو الكتابيات ، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم ، وهو قول الشافعي ، والجواز ، وهو قول ابن عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً ، وهو قول مالك .
قال البيضاوي : رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - أتى فَاطِمَةَ بعبد ، وَهَبَهُ لها ، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها ، فقال - عليه الصلاة والسلام : " إنه ليس عليك بأسٌ ، إنما هو أبوكِ وغلامُك " ، فانظر من أخرجه .
(4/235)

واختلف : هل يجوز أن يراها عبد زوجها ، وعبد الأجنبي ، أم لا؟ على قولين .
{ أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ } أي : الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ، أو لخدمة ، أو لشيء يُعْطَاهُ ، كالوكيل والمتصرف . وقال بعضهم : هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ ، أي : حاجة وشهوة إلى النساء؛ كالخَصِيِّ ، والمُخَنَّثِ ، والشيخ الهَرِم ، والأحمق ، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين : أن يكونوا تابعين ، ولا إربة لهم في النساء . { أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء } ، أراد بالطفل : الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال فيه : " طفل " ما لم يراهق الحلُمُ . و ( يظهروا ) معناه : يطلعون بالوطء على عورات النساء ، مِنْ : ظهر على كذا : إذا قوي عليه ، فمعناه : الذين لم يطيقوا وطء النساء ، أو : لا يدرون ما عورات النساء؟ .
{ ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ } ، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها ، فيعلم أنها ذات خُلْخال ، فنُهين عن ذلك؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها ، فيورث ميل الرجال إليهن . ويوهم أن لهن ميلاً إليهم . قال الزجاج : سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها . ه .
الإشارة : غض البصر عما تُكره رؤيته : من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان . وفي الحديث : " من غض بصره عن محارم الله ، عوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه " وفي إرسال البصر : مِنْ تشتيت القلب ، وتفريق الهم ، ما لا يخفى ، وفي ذلك يقول الشاعر :
وإِنَّكَ ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً ... لِقَلْبِكَ ، يَوْماً ، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ
تَرَى ، ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ ... عَلَيْهِ ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ
فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا ، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى ، فلا يرون إلا تجليات المولى . قال الشبلي : { قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : أبصار الرؤوس عن المحارم ، وأبصار القلوب عما سِوَى الله . ه .
وقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير؛ من إظهار حال مع الله ، مما هو زينة السريرة ، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله ، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه ، ولا قصدَ غير صالح . ه . فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس؛ من حقائق أسرار التوحيد ، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة ، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته . وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها . والله تعالى أعلم .
ثم أمر بالتوبة؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب . فقال :
{ . . . وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يقول الحق جل جلاله : { وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون } ؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط ، وَلاَ سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية ، فإنه ، وإن جُبّ بالإسلام ، لكن يجب الندم عليه ، والعزم على الكف عنه ، كلما يُتَذَكَّرُ ، ويَخْطِرُ بالبال .
(4/236)

وفي تكرير الخطاب بقوله : { أية المؤمنون } : تأكيد للإيجاب ، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال ، حَتْماً . قيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة . وظاهر الآية : أن العصيان لا ينافي الإيمان ، فبادروا بالتوبة { لعلكم تفلحون } ؛ تفوزون بسعادة الدارين . وبالله التوفيق .
الإشارة : التوبة أساس الطريق ، ومنها السير إلى عين التحقيق ، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ ، كمن يبني على غير أساس . والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدىء والمتوسط والمنتهي ، فتوبة المبتدىء من المعاصي والذنوب ، وتوبة السائر : من الغفلة ولوث العيوب ، وتوبة المنتهي : من النظر إلى سوى علام الغيوب .
قال ابن جزي : التوبة واجبة على كل مكلف ، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة .
وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال ، لا من حيث أضر ببدن أو مال . والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان ، من غير تأخير ولا توان ، والعزم ألا يعود إليها أبداً . ومهما قضى الله عليه بالعود ، أضحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً . وآدابها ثلاث : الاعتراف بالذنب ، مقروناً بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار . ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر ، وتوبة العابدين من الفترات ، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات . والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، وتعظيم المقام ، وشكر الإنعام . ه .
(4/237)

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ . . . } .
قلت : الأيامى : جَمْعُ أَيِّمٍ ، وأصله : أيايم ، فقلبت الياء؛ لآخِر الكلمة ، ثم قلبت ألفاً ، فصارت أيامى . والأيم : من لاَ زوج له من الرجال والنساء .
يقول الحق جل جلاله : { وَأَنْكِحُوا } أي : زَوِّجُوا { الأيامى منكم } أي : مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء ، بِكراً كان أو ثيباً . والمعنى : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر . والخطاب للأولياء والحكام ، أمرهم بتزويج الأيامى ، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن . وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح ، واشتراط الولي فيه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، خلافاً لأبي حنيفة .
{ والصالحين } أي : الخيّرين ، أو : مَنْ يصلح للتزوج ، { من عِبَادِكم وإمائِكم } أي : من غلمانكم وجواريكم ، والأمر : للندب؛ إذ النكاح مندوب إليه ، والمخاطبون : ساداتهم . ومذهب الشافعي : أن السيد يُجبَر على تزويج عبيده ، لهذه الآية ، خلافاً لمالك ، ومذهب مالك : أن السيد يَجْبُر عبدَه على النكاح ، خلافاً للشافعي . واعتبار الصلاح في الأَرِقَّاءِ : لأن مَنْ لاَ صَلاَحَ له بمعزلٍ من أن يكون خليقاً بأن يَعْتَنِيَ مولاه بشأنه ، وأيضاً : فالتزويج يحفظ عليه صَلاَحَهُ الحاصل ، وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر؛ لأن الغالب فيهم الصلاح ، على أنهم مستبدون بالتصرف في أنفسهم وأموالهم ، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم .
وقيل : المراد بالصلاح : صلاحهم للتزوج ، والقيام بحقوقهم ، فإن ضَعُفُوا؛ لم يُزَوَّجُوا . ونفقة العبد على سيده؛ إن زَوَّجَه ، أو أَذن له ، وإلا خُيِّر فيه .
ثم قال تعالى : { إن يكونوا فقراءَ } من المال { يُغْنِهِمُ الله من فضله } بالكفاية والقناعة ، أو باجتماع الرزقين . وفي الحديث : " التمسوا الرزق بالنكاح " وقال ابن عجلان : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة ، فقال : " عليك بالباءة " ، أي : التزوج . وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ ، متمسكين بقوله تعالى : { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم } ، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة . فالغِنَى ، للمتزوج ، مقيد بالمشيئة ، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج ، وقيل : مقيد بحسن القصد ، وهو مغيب . والله تعالى أعلم .
الترغيب في النكاح : قال صلى الله عليه وسلم : " تناكحوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط " وقال صلى الله عليه وسلم : " من أحب فطرتي فليستن بسنتي ، وهي النكاح ، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده " ، وقال سمرة رضي الله عنه : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل ) . وقال - عليه الصلاة والسلام - :
(4/238)

" من كان له ما يتزوج به ، فلم يتزوج ، فليس منا " وقال عليه الصلاة والسلام : " من أدرك له ولد ، وعنده ما يزوجه به ، فلم يزوجه ، فأحدث ، فالإثم بينهما " وقال أبو هريرة : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " شراركم عُزَّابُكُم ، إذا تزوج أحدكم عَجَّ شيطانه : يا ويله عَصَمَ ابنُ آدَمَ ثلثي دِينِهِ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مسكين ، مسكين ، رجل ليست له امرأة ، ومسكينة ، مسكينة؛ امرأة ليست لها زوج ، قالوا : يا رسول الله! وإن كانت غنية من المال؟ قال : وإن " .
وقال أبو أمامة : ( أربعة لعنهم الله من فوق عرشه ، وأمَّنت عليهم ملائكته : الذي يحصر نفسه عن النساء ، فلا يتزوج ولا يتسرى؛ لئلا يولد له ، والرجل يتشبه بالنساء ، والمرأة تتشبه بالرجال ، وقد خلقها الله أنثى ، ومُضلل المساكين ) . وقال سهل بن عبد الله : لا يصح الزهد في النساء؛ لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين . ووافقه ابن عُيَيْنَةَ ، فقال : ليس في كثرة النساء دنيا؛ لأن أزهد الصحابة كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً . ه . من القوت .
وقال عطية بن بُسْر المازني : أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له : " يا عكاف؛ ألك زوجة؟ قال : لا ، يارسول الله ، ولا أمة؟ قال : لا . قال : وأنت صحيح موسر؟ قال : نعم ، والحمد لله . قال : فإنك ، إذاً ، من إخوان الشياطين ، إما أن تكون من رهبان النصارى ، وإما تكون مؤمناً ، فاصنع ما بدا لك . فإن سنتنا النكاح ، شراركم عزابكم ، وأرذال موتاكم عزابكم ، ما للشيطان ، في سلاح ، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا " انظر الثعلبي .
قال تعالى : { ولْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يجدون نكاحاً } أي : ليجتهد في العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجد الاستطاعة على النكاح؛ من المهر والنفقة ، { حتى يُغْنِيَهُم الله من فضلِهِ } ؛ حتى يقدرهم الله على المهر والنفقة ، قال عليه الصلاة والسلام : " يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر ، وأحصنُ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجَاءٌ " ، فانظر كيف رتَّب الحق تعالى هذه الأمور؟ أَمَرَ ، أولاً ، بما يَعْصِمُ من الفتنة ، ويُبعد عن مواقعة المعصية ، وهو غض البصر ، ثم بالنكاح المُحَصَّنِ للدين ، المغني عن الحرام ، ثم بعزف النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة ، عند العجز عن النكاح ، إلى أن يقدر عليه . وبالله التوفيق .
الإشارة : الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نِتَاجُها حتى ينعقد النكاح بينها وبين شيخ كامل ، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ ، قذف نطفة المعرفة في الروح أو القلب أو النفس ، ثم يربيها في مشيمة الهِمَّة ، ثم في حَضَانة الحفظ والرعاية ، فَيَظْهَرُ منها نِتاجُ اليقين والعلوم والأسرار والمعارف ، وأما إن بقيت أيامَى؛ لا زوج لها ، فلا مطمع في نِتَاجها ، قال تعالى : { وأَنْكِحوا الأيامى منكم } ، وهي الأرواح ، والصالحين من قلوبكم ، ونفوسكم ، إن يكونوا فقراء؛ من اليقين ، والمعرفة بالله ، يغُنهم الله من فضله؛ بمعرفته ، والله واسع عليم ، وليتعفف ، عن المناكر ، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم ، حتى يغنيهم الله من فضله؛ بالسقوط على شيخ كامل؛ فإنه من فضل الله ومنته ، لا يسقط عليه إلا من اضْطُرَّ إليه ، وصَدَقَ الطلبَ في الوصول إليه .
(4/239)

وبالله التوفيق .
ولما أمر بتزوج العبيد ، أمر بمكاتبتهم ، فقال :
{ . . . والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى آتَاكُمْ . . . } .
قلت : الكتاب هنا : مصدر ، بمعنى الكتابة . وهي : مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ ، فإذا أداه؛ خرج حراً ، وإن عجز ، ولو عن نصف درهم ، بقي رقيقاً .
يقول الحق جل جلاله : { والذين يَبْتَغُون الكتابَ } أي : والمماليك الذين يطلبون الكتابة { مما ملكتْ أيمانُكم } ؛ من عبيدكم { فكاتِبُوهُم } ، والأمر للندب ، عند مالك والجمهور ، وقال الظاهرية وغيرهم : على الوجوب ، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك ، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة ، فأبى عليه أنس ، فقال له عمر : لتكاتبنه ، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ . وإنما حمله مالك على الندب؛ لأن الكتابة كالبيع ، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها .
واختلف : هل يُجْبِرُ السيدُ عَبْدَهُ عليها ، أم لا؟ قولان في المذهب . ونزلت الآية بسبب حُوَيْطب بن عبد العُزَّى ، سأل مولاه أن يكاتبه ، فأبى عليه . وحكمها عام ، فأمر الله سادات العبيد أن يُكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة . والكتابة : أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا ، فإن أدى ذلك عُتِقَ ، ومعناه : كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال ، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك . وتجوز حَالَّةً ، وتسمى : القطاعة ، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ .
وقوله تعالى : { إنْ علمتمْ فيهم خيراً } ، أي : قدرة على الكسب ، وأمانة وديانة ، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط ، فالخير هنا : القوة على الأداء بأي وجه كان ، وقيل : هو المال الذي يؤدي منه كتابته ، من غير أن يسأل أموال الناس ، وقيل : الصلاح في الدين .
{ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } ، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته ، واخْتُلِف : مَنِ المُخَاطَبُ بذلك؟ فقيل : هو خطاب للناس أجمعين ، وقيل : للولاة ، والأمر على هذين القولين للندب ، وقيل : للسادات المُكَاتِبينَ ، وهو على هذا القول ، ندب عند مالك ، ووجوب عند الشافعي . فإن كان الأمر للناس ، فالمعنى : أن يعطوهم صدقة من أموالهم ، وإن كان للولاة : فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال ، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم ، وقيل : يعطوهم من أموالهم ، من غير الكتابة ، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ ، فقيل : الربع ، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل الثلث ، وقال مالك : لا حد قي ذلك ، بل أقل ما يطلق عليه شيء ، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ، ولا يجبره مالك .
(4/240)

وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك ، وقيل : في أول نَجْمٍ . قاله ابن جزي .
الإشارة : العبيد على أربعة أقسام : عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة ، وعبد مأذون له في التجارة ، وعبد مُكَاتبٌ ، وعبد آبق . فمثال الأول ، وهو العبد القن : أهل الخدمة ، وهم العباد والزهاد ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته ، أهل الصيام والقيام ، وأهل السياحة والهيام . ومثال الثاني ، وهو المأذون له : العارفون بالله ، يتصرفون في ملك سيدهم بالله ، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء ، قد سخرّ لهم كل شيء ، ولم يُسَخَّرُوا لشيء ، سُلَِطُوا على كل شيء ، ولم يُسَلَّطْ عليهم شيء ، يخالطون الناس بجسمهم ، ويباينونهم بسرهم ، فالدنيا سوق تجارتهم ، والمعرفة رأس بضاعتهم ، والعدل في الغضب والرضا مِيزانُهم ، والقصد في الفقر والغنى عُنْوانهم ، والعلم بالله مفزعهم ومنجاهم ، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم ، والفهم عن الله مرجعهم ومأواهم .
ومثال الثالث ، وهو المُكَاتَب : الصالحون من المؤمنين؛ يعملون على فك رقبتهم من النار ، فإذا أدوا ما فرض عليهم؛ حررهم بعد موتهم ، وأسكنهم فسيح جنانه . ومثال الآبق : هم العصاة والفجار ، استمروا على عصيانهم ، حتى قدموا على الملك الجبار ، فهم تحت حكم المشيئة ، إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عاقبهم . والله تعالى أعلم .
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا ، فقال :
{ . . . وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } .
يقول الحق جل جلاله : { ولا تُكْرهُوا فتياتكم } أي : إِمَاءَكُمْ ، يقال للعبد : فتى ، وللأمة : فتاة . والجمع : فتيات ، { على البغاء } أي : الزنا ، وهو خاص بزنا النساء . كان لابن أُبيِّ ست جوار : مُعَاذَة ، ومُسَيْكَة ، وأميمة ، وعَمْرَة ، وأَرْوَى ، وقُتَيْلَة ، وكان يكرههن ، ويضرب عليهن الضرائب لذلك ، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية .
وقوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } أي : تعففاً ، ليس قيداً في النهي عن الإكراه ، بل جرى على سبب النزول ، فالإكراه : إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة ، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب ، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف ، وكذلك الأمر بالزنا ، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد ، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا . وفيه توبيخ للموالي؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن؛ فأنتم أولى بذلك ، ثم علل الإكراه بقوله : { لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا } أي : لتبتغوا بإكراهن على الزنا أجورهن وأولادهن ، جيءَ به؛ تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير ، أي : لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال ، الوشيك الاضمحلال .
(4/241)

{ ومن يُكْرِههُنَّ } ؛ على ما ذُكِرَ من البغاء ، { فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ } لهن { رحيمٌ } بهن ، وفي مصحف ابن مسعود كذلك . وكان الحسن يقول : لهن والله . وقيل : للسيد إذا تاب . واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم : إما اعتبار أنهن - وإن كن مُكْرَهَاتٍ - لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما ، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية ، وإما لغاية تهويل أمر الزنا ، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه ، والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة ، لولا أن تداركهن المغفرة ، الرحمة ، مع قيام العذر في حقهن ، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب؟
{ ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مُبَيِّنَاتٍ } ؛ مُو ضِّحَات ، أو : واضحات المعنى ، والمراد : الآيات التي بُينت في هذه السورة ، وأوضحت معاني الأحكام والحدود . وهو كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة؛ لبيان جلالة شأنها ، المقتضي للإقبال الكلي على العمل بمضمونها . وصُدر بِالْقَسَمِ الذي تُعرب عنه اللام؛ لإبراز كمال العناية بشأنها . أي : والله ، لقد أنزلنا إليكم ، في هذه السورة الكريمة ، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه؛ من الحدود وسائر الأحكام ، وإسناد البيان إليها : مجازي ، أو : آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة ، على أن " مُبَيِّنات " ، مِنْ بيَّن ، بمعنى تبين ، كقولهم في المثل : " قد بيَّن الصبح لذي عينين " ، أي : تبين . ومن قرأها بالبناء للمفعول ، فمعناه : قد بيَّن الله فيها الأحكام والحدود .
{ ومثلاً من الذين خَلَوا مِن قبلكم } أي : وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم ، من القصص العجيبة ، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة ، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء ، فتنتظم قصة عائشة - رضي الله عنها - المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة ، انتظاماً واضحاً . وتخصيص الآيات البينات بالسوابق ، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم ، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات .
{ و } أنزلنا { موعظةً للمتقين } يتعظون بها ، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب ، والمراد : ما وعظ به من الآيات والمثل ، مثل قوله : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } [ النور : 2 ] ، و { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ . . . } [ النور : 12 ] إلخ ، { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } [ النور : 17 ] .
وتخصيص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بها ، المغتنمون لآثارها ، المقتسبةن لأنوارها ، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي . وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ ، والموعظة بما وعظ به من قوله : { ولا تأخذكم .
(4/242)

. . } إلى آخر ما تقدم . وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة : جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها ، أو رضي فعلها ، فهو شريك الفاعل في الوزر ، أو أعظم . وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب ، أو أعظم . وفي الأثر : " الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه " .
قال القشيري : حامِلُ العاصي على زَلَّته ، والداعي له إلى عَثْرَته ، والمُعِينُ له على مخالفته ، تتضاعف عليه العقوبة ، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره ، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة . ه . ومن هذا القبيل : تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً ، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة ، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً ، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه ، فهو مُعين له على المعصية ، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين . والله تعالى أعلم .
(4/243)

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
يقول الحق جل جلاله : { الله نورُ السموات والأرض } أي : منور أهلهما [ بنور الإسلام والإيمان؛ لأهل الإيمان ] ، وبنور الإحسان؛ لأهل الإحسان ، فحقيقة النور : هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه ، حسية أو معنوية ، والمراد هنا : المعنوية؛ بدليل قوله { يهدي الله لنُوره من يشاء } ، فإن انكشف به أحكام العبودية ، باعتبار المعاملة الظاهرة ، يُسمّى : نُورُ الإسلام ، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها ، من طريق البرهان ، يُسمى : نُور الإيمان ، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها ، من طريق العيان ، يُسمى : نور الإحسان . فالأول : يشبه نور النجوم ، والثاني : نور القمر ، والثالث نور الشمس ، ولذلك تقول الصوفية : نجوم الإسلام ، وقمر الإيمان ، وشمس العرفان .
ثم ضرب المثل لذلك النور ، حين يقذفه في قلب المؤمن ، فقال { مَثَلُ نُورِهِ } أي : صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن - كما هي قراءة ابن مسعود - { كمشكاةٍ } أي : كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً ، فيكون أزهر وأنور ، { فيها مصباح } أي : سراج ضخم ثاقب ، { المصباحُ في زجاجة } أي : في قنديل من زجاج صافٍ أزهر ، { الزجاجةُ } من شدة صفائها { كأنها كوكب دُرِّيِّ } ؛ بضم الدال وتشديد الراء ، منسوب إلى الدر؛ لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمز : " أبو عمرو "؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه . وبالضم والهمز : أبو بكر وحمزة ، شبهه بأحد الكواكب الدراري ، كالمشتري والزهرة ونحوهما . { تَوَقَدُ } بالتخفيف والتأنيث ، أي : الزجاجة ، أو { يُوقَدُ } بالتخفيف والغيب ، أو : { تَوَقَّدَ } بالتشديد ، أي : المصباح { من شجرةٍ } أي من زيت شجرة الزيتون ، أي : رويت فتيلته من زيت { شجرةٍ مباركةٍ } ؛ كثيرة المنافع ، أو : لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وهي الشام ، وقيل : بارك فيها سبعون نبياً ، منهم إبراهيم عليه السلام .
{ زيتونةٍ } : بدلٌ من { شجرة } ، من نعتها { لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ } أي : ليست شرقية فقط ، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق ، ولا غربية ، لا تصيبها إلا في حال الغروب ، بل هي شرقية غربية ، تصيبها الشمس بالغداة والعشي ، فهو أَنْضَرُ لها ، وأوجود لزيتونها . وقيل : ليست من المشرق ولا من المغرب ، بل في الوسط منه ، وهو الشام ، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام .
{ يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ } ؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً . { نورٌ على نورٍ } أي : نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي ، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن؛ فالمشكاة هو الصدر ، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان ، على ما تقدم ، والزجاجة هو القلب الصافي ، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين . ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة .
(4/244)

يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق ، ولو لم يمسسه علمها . { نورٌ على نورٍ } أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام ، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام .
{ يهدي الله لنوره } أي : لهذا لنور الباهر { من يشاء } من عباده؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم . وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى ، وأن الأسباب لا تأثير لها . { ويضرب الله الأمثالَ للناس } ؛ تقريباً للفهم ، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس { والله بكل شيءٍعليمٌ } ، معقولاً كان أو محسوساً ، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق ، وسر من أسرار ذاته ، مُلْكٌ ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت ، فالكائنات كلها : الله نُورُها وسرُّها ، وهو القائم بها . ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله ، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وتحققوه ذوقاً وكشفاً .
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته ، فقال : { مثل نوره } الظاهر ، الذي تجلى به في عالم الشهادة ، { كمشكاة فيها مصباح } أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ ، خرج منها نور كثيف كالمصباح ، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ ، انفجر من نور النور ، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات ، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف ، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله : { المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري . . . } إلخ . فالآية كلها من تتمه التمثيل .
وقوله تعالى : { ولو لم تمسسه نار } قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة ، فيستغني عن الوسائط . وقوله تعالى : { نورٌ على نور } أي : نور ملكوته على نور جبروته ، { يهدي الله لنوره } أي : لشهود نوره ، أو لمعرفة نوره ، { من يشاء } من خواص أحبابه ، كأنبيائه وأوليائه ، فمن لم يشهد هذا النور ، ولم يعرفه ، لا خصوصية له؛ يتميز بها عن العوام ، فهو من عامة أهل اليمين ، ولو كثر علمه وعمله؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب . وفي الحكَم : " الكائن في الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور في هيكل ذاته " ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان ، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله : ( أو كظلمات . . . ) إلخ .
وفي الحِكَم : " الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه ، أو عنده ، أو قبله أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار " . فالكون عند أهل العيان كله نور ، وعند أهل الحجاب كله ظلمة ، وهو محيط بهم ، فالظلمة محيطة بهم ، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه : ( مشكاة الأنوار ) ، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى " النور " : يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم ، ولذلك قال قائلهم :
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ ... وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ
وفي لطائف المنن : الله نور السموات والأرض؛ نور سموات الأرواح بمشاهدته ، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته ، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته ، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً ، وهو الظاهر في كل شيء عموماً ، ظهر فيهم بأنواره وأسراره ، كما ظهر فيهم ، وفيما عداهم بقدرته واقتداره . ه .
(4/245)

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قلت : ( في بيوت ) : يتعلق بمشكاة ، أي : كائنة في بيوت ، أو توقد ، أو بيسبح ، أي : يسبح له رجال في بيوت ، وفيه تكرير؛ لزيادة التأكيد ، نحو : زيد في الدار جالس فيها ، أو بمحذوف ، أي : سبّحوا في بيوت . و ( أَذِنَ ) : نَعْتٌ له .
يقول الحق جل جلاله : وذلك النور الذي في المشكاة يكون { في بيوتٍ أَذن الله أن ترفع } ، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن . ورفعها : تعظيمها . أي : التي أمر الله بتعظيمها؛ كتطهيرها من الخبث ، وتنقيتها من القذى ، وتعليق القناديل ونصب الشموع ، ويزاد التعظيم في شهر رمضان . ومن تعظيمها : غلقها في غير أوقات الصلاة ، وقيل المراد برفعها : بناؤها ، كقوله تعالى : { . . . بناها رَفَعَ . . . سَمْكَهَاَ } [ النازعات : 27و28 ] { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت } [ البقرة : 127 ] ، والأول أصح .
{ و } أَذِنَ أيضاً أن { يُذْكَرَ فيها اسمُه } ، وهو عام في جميع الذِّكْر ، مفرداً أو جماعة ، ويدخل فيه تلاوة القرآن . { يُسَبِّحُ له فيها بالغُدوّ والآصال } أي : يصلي له فيها بالغداة : صلاة الفجر ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعِشَاءين . وإنما وَحَّد الغدو؛ لأن صلاته صلاة واحدة ، وفي الآصال صلوات ، وهو جمع أصيل ، وفاعل " يُسَبِّحُ " : رجال .
ومن قرأ بفتح الباء ، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة ، أعني : ( له فيها بالغدو ) . و " رجال " : مرفوع بمحذوف ، دل عليه { يُسبح } أي : يسبحه { رجالٌ لا تُلهيهم } : لا تشغلهم { تجارةٌ } في السفر ، { ولا بيعٌ } في الحضر ، { عن ذكر الله } باللسان والقلب ، وقيل : التجارة : الشراء ، أي : لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله ، والجملة صفة لرجال ، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة ، مفيدة لكمال تَبَتُّلِهِمْ إلى الله تعالى ، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم .
وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها ، أي : لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ، ولا فرد من أفراد البياعات ، وإن كان في غاية الربح .
وإفراده بالذكر ، مع اندراجه تحت التجارة؛ لأنه ألهى؛ لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب ، وما عداه متوقع في ثاني الحال .
{ و } لا يشغلهم ذلك أيضاً عن { إِقامِ الصلاةِ } أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وأصله : وإقامة ، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال ، وعوض عنها الإضافة ، فأقيمت الإضافة مقام التاء ، { وإِيتاء الزكاة } أي : وعن إيتاء الزكاة ، وذكرها ، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت ، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع ، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد . والمعنى : لا تجارة لهم حتى تلهيهم ، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك ، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء ، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين .
(4/246)

{ يخافون يوماً } أي : يوم القيامة { تتقلَّبُ فيه القلوبُ } أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع ، وتبلغ إلى الحناجر ، { و } تتقلب { الأبصارُ } بالشخوص أو الزرقة . أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران ، والأبصار إلى العيان بعد النكران ، كقوله : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] .
يفعلون ذلك الاستغراق في التسبيح والذكر ، مع الخوف؛ { ليجزيهم الله أحسنَ ما عَمِلُوا } أي : أحسن جزاء أعمالهم ، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف ، { ويزيدَهُم من فَضْلِه } أي : يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها ، لم تخطر على بال؛ كالنظر إلى وجهه ، وزيادة كشف ذاته ، فهو كقوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . { والله يرزق من يشاء بغير حساب } أي : يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق ، و " مَنْ " : واقعة على من ذُكِرَتْ أوصافهم الجميلة ، كأنه قيل : والله يرزقهم بغير حساب ، ووضعه موضع ضميرهم؛ للتنبيه على أن مناط الرزق المذكور مَحْضُ مشيئتِه تعالى ، لا أعمالهم المحكية ، ويحتمل أن يريد بالرزق ما يرزقهم في الدنيا مما يقوم بأمرهم ، حين تَبتَّلُوا إلى العبادة ، يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون ، من غير حَصْرٍ ولا عد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب ، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار ، ورفعها : صونها من الأغيار ، وتطهيرها من لوث الأكدار ، وبُعدها من جيفة الدنيا ، التي هي مجمع الخبائث والأشرار ، ليُذكَرَ فيها اسم الله ، كثيراً ، على نعت الحضور والاستهتار ، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله ، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله ، والأبصار عن شهود الله ، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله ، والقيام بحقوق الله ، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، في جنة الزخارف ، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف . والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب .
(4/247)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قلت : " كسراب " : خبر الثاني ، وهو : ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة ، يسرب على وجه الأرض ، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري . و ( بقيعة ) : متعلق بمحذوف ، صفة لسراب ، أي : كائن بأرض قيعة ، أي : منبسطة ، و ( سحاب ظلمات ) : مَنْ جَرَّها : فبالإضافة ، ومن رفعها : فخبر ، أي : هي ظلمات .
يقول الحق جل جلاله : في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم ، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم : { والذين كفروا أعمالُهم } التي هي من أبواب البر ، كصلة الرحم ، وفك العُنَاةِ ، وسقاية الحاج ، وعمارة البيت ، وإغاثة الملهوف ، وَقِرَى الأضياف ، ونحوها ، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب ، مثاله : { كسراب } ؛ كفضاء ( بقيعَةٍ ) ؛ بأرض منبسطة ، { يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً } أي : لم يجده كما ظنه ورجاه ، بل خاب مطمعه ومسعاه ، { ووجدَ الله عنده } أي : وجد جزاء الله ، أو حُكمه ، عند عمله ، أو عند جزائه ، { فوفَّاه حسابَه } أي : أعطاه جزاءه كله وافياً ، وإنما وحّد ، بعد تقديم الجمع ، حملاً على كل واحد من الكفار .
{ والله سريعُ الحساب } ؛ يحاسب العباد في ساعة؛ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد ، ولا يشغله حساب عن حساب ، أو قَرِيبٌ حسابُه؛ لأنَّ كل آتٍ قريبٌ . شبه ما يعمله الكفرة من البر ، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله ، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ ، ويلقى خلاف ما قدّر ، بسراب يراه الكافر بالساهرة ، وقد غلبه عطش يوم القيامة ، فيحسبه ماء ، فيأتيه ، فلا يجد ما رجاه ، ويجد زبانية الله ، فيأخذونه إلى جهنم ، فيسقونه الحميم والغساق . قيل : هم الذين قال الله فيهم : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } [ الغاشية : 3 ] ، { ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] . قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية ، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، والتمس الدين ، فلما جاء الإسلام كفر . ه .
ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا ، فقال : { أوْ كظلماتٍ } ، " أو " : للتنويع ، { في بحرٍ لجيِّ } ؛ عميق كثير الماء ، منسوب إلى اللج ، وهو معظم ماء البحر ، { يغشاه } أي : يغشى البحر ، أو مَن فيه ، أي : يعلوه ويغطيه بالكلية ، { موجٌ } هو ما ارتفع من الماء ، { من فوقه موجٌ } أي : من فوق الموج موج آخر ، { من فوقه سَحَابٌ } ؛ من فوق الموج الأعلى سحاب ، { ظلماتٌ } أي : هذه ظلمات؛ ظلمة السحاب ، وظلمة الأمواج وظلمة البحر ، { بعضُها فوق بعض } ؛ ظلمة الموج على ظلمة البحر ، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل ، وظلمة السحاب على الموج ، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب ، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر ، وذلك يؤكد التلف ، { إذا أخرج يده } أي : الواقع فيه ، أو مَن ابْتُلِيَ بها ، { لم يكد يراها } ؛ مبالغة في " لم يرها " ، أي : لم يقرب أن يراها ، فضلاً عن أن يراها .
(4/248)

شبّه أعمالهم ، في ظلمتها وسوادها؛ لكونها باطلة ، وخلوها عن نور الحق ، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب .
قال ابن جُزَيّ : لما ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار؛ الأول : يقتضي حال أعمالهم في الآخرة ، وأنها لا تنفعهم ، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب . والثاني : يقتضي حال أعمالهم في الدنيا ، وأنها في غاية الفساد والضلال ، كالظلمة التي بعضها فوق بعض . ثم قال : وفي وصف هذه الظلمات مبالغة ، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة . ه . وقوله : لما ذكر حال المؤمنين ، يعني بقوله : { رجال لا تلهيهم . . } إلخ ، الله بقوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } ، وقيل : كلا المثالين في الآخرة ، يخيبون من نفعها ، ويخوضون في بحر ظلمتها .
{ ومن يجعل الله له نوراً } في قلبه ، من نور توحيده ومعرفته ، { فما له من نورٍ } أي : من لم يشأ الله أن يهديه لنوره : لم يهتد ، وفي الحديث : " خلق الله الخلق في ظلمة ، ثم رش عليها من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل " ، وينبغي للقارئ عند هذه الآية أن يقول : ( اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، واجعلني نوراً ، وأعظم لي نوراً ) ، كما في الحديث في غير هذا المحل .
الإشارة : كل من لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة ، يحسبه الظمآنُ ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده ، فوفاه حسابه ، أي : يناقشه فيما أراد بعمله ، وأهل التوحيد الخاص : الوجود كله ، عندهم ، كالسراب ، يحسبه الناظر إليه شيئاً ، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً ، ووجد الله عنده وحده ، وفيه يقول الشاعر :
مَنْ أبْصَرَ الخَلْقَ كالسَّرابِ ... فَقَدْ تَرَقَّى عَن الحِجَابِ
إِلَى وجُودٍ تَرَاهُ رَتْقَاً ... بِلاَ ابتعَادٍ ولا اقْتِرَابِ
ولم تُشاهد به سواه ... هناك يُهْدَى إلى الصَّوَابِ
فلا خِطَاب بِهِ إِلَيْهِ ... ولا مُشير إلى الخِطَابِ
ومثال من عكف على دنياه ، واتخذ إلهه هواه ، كذي ظلمات في بحر لجي ، وهو بحر الهوى ، يغشاه موج الجهل والمخالفات ، من فوقه موج الحظوظ والشهوات ، من فوقه سحاب أثر الكائنات ، أو : يغشاه موج الغفلات ، من فوقه موج العادات ، من فوقه سحاب الكائنات ، ظلمات بعضها فوق بعض؛ من حب الدنيا ، وحب الجاه ، وحب الرئاسة ، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها .
وقال بعضهم : الدنيا كلها بحر لُجَي ، والناس مغروقون فيه ، إلا مَنْ عَصَمَ الله ، وساحله الموت ، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ ، فليأوي إلى سفينة الزهد والورع ، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر ، وهم العارفون بالله ، فإنه ينجو من أهوالها ، ومن أخطأ هذا غرق في تيارها ، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها ، فكان من الهالكين ، نسأل الله الحفظ بمنِّه وكرمه .
(4/249)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يقول الحق جل جلاله : { ألم تَرَ } يا محمد ، وخصَّه بالخطاب؛ إيذاناً بأنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها ، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها ، أي : ألم تنظر بعين بصيرتك ، فتعلم علم اليقين ، { أن الله يُسبِّح له } أي : ينزهه على الدَّوَامِ { من في السموات والأرض } ؛ من العقلاء وغيرهم ، تنزيهاً معنوياً ، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود ، متصف بصفات الكمال ، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه . أو تنزيهاً حسياً بلسان المقال ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم . وتخصيص التنزيه بالذكر ، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضأً؛ لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد .
{ و } يسبحه { الطيرُ } حال كونها { صافَّاتٍ } أي : يصففن أجنحتهن في الهواء ، وتخصيصها بالذكر ، مع اندراجها في جملة ما في الأرض؛ لعدم استمرار قرارها فيها ، ولاختصاصها بصنع بارع ، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو ، وتمكينها من الحركة كيف تشاء ، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط ، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد ، وغاية حكمة المبدئ المعيد .
{ كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحه } أي : كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ ، أي : دعاءه وخضوعه وتسبيحه . أو : كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح ، فالضمير : ما إليه أو لكلٌ . ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها . { والله عليم بما يفعلون } ؛ لا يعزب عن علمه شيء .
{ ولله ملكُ السموات والأرض } لا لغيره؛ لأنه الخالق لهما ، ولما فيهما من الذوات ، وهو المتصرف فيهما فيهما إيجاداً وَإعْداماً ، { وإلى الله المصير } أي : إليه ، خَاصَّةً ، رجوع الكل بالفناء والبعث لا إلى غيره ، وإظهار اسم الجلالة في موضع الإضمار ، لتربية المهابة ، والإشعار بِعِلِّيّةِ الحُكم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما استقر في السموات السبع والأرضين السبع كله من قَبْضَةِ النُّور الأوَّلِيَّةِ بين حس ومعنى ، حسه خاضع لأحكام الربوبية ، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية ، حسه حِكْمةٌ ، ومعناه قدرة ، حسه مُلْكٌ ، ومعناه ملكوت ، وهذا معنى قوله : { الله نورُ السموات والأرض } ، فافهم .
(4/250)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
يقول الحق جل جلاله : { ألم ترَ أن الله يُزْجِي } أي : يسوق ، برفق وسهولة ، { سَحَاباً } : جمع سحابة ، { ثم يُؤلِّف بينه } أي : يضم بعضه إلى بعض ، { ثم يجعله رُكاماً } ؛ متراكماً بعضه فوق بعض ، { فَتَرى الوَدْقَ } : المطر ، { يخرجُ من خِلالِه } ؛ من فُتُوقِهِ ووسطه ، جمع خَلل ، كجبال وجبل ، وقيل : مفرد ، كحجاب وحجاز .
قال القشيري : ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره ، إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله في بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذباً ، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً ، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً ، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره . ه . قلت : وهذا أحد الأقوال في الحقيقة المطر ، والمشهور عند أهل السنة : أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته ، ويخلق فيه الماء بحكمته ، وينزله حيث شاء .
ثم قال تعالى : { ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ } ، " مِنْ " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : بدل من الأولى ، والثالثة : لبيان الجنس ، أي : يُنَزِّل البَرَد ، وهو الثلج المكور ، من السماء ، أي : الغمام العلوي ، فكل ما علاك سماء ، من جبال فيها كائنة من البَرَد ، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر .
قال ابن جزي : قيل : إن الجبال هنا حقيقة ، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد ، وقيل : إنه مجاز ، كقولك : عند فلان جبال من مال أو عِلم ، أي : هن في الكثرة مثل الجبال . ه . وأصله لابن عطيه . وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى ، إن لم يمنع من ذلك مانع . ه . يعني : ولا مانع هنا ، فيحمل على ظاهره ، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء . وقال الهروي عن ابن عرفة - يعنى اللغوي - : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بَرَدَاً من جباللافي السماء من برد والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد . ويقال : إنما سمي برَدَاً؛ لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي : يُقشره . ه .
قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوي البرد هناك ، اجتمع وصار سحاباً ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً ، وإن اشتد ، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها ، نزل ثلجاً ، وإلاّ نزل بَرَداً ، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض ، وينعقد سحاباً ، وينزل منه المطر أو الثلج . وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها ، وإليه أشار بقوله : { فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء } والضمير للبرَد .
(4/251)

ه . أي : فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به ، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله؛ من زرع أو غيره . { ويَصْرِفُه عمن يشاء } أن يصرفه عنه ، فينجو من غائلته .
{ يكاد سَنَا بَرْقِهِ } أي : ضوء برق السحاب ، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف .
وإضافة البرق إليه ، قبل الإخبار بوجوده ، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به . وقيل : الضمير للسماء ، وهو أقرب ، أي : يكاد ضوء برق السماء ، ويحتمل أن يعود على " الله " تعالى؛ لتقدم ذكره ، أي : يكاد ضوء برقه تعالى { يذهب بالأبصار } ، أي : يخطفها من فرط الإضاءة ، وسرعة ورودها ، ولو عند إغماضها . { يُقلِّبُ الله الليلَ والنهارَ } أي : يصرفهما بالتعاقب ، فيأتي هذا بعد هذا ، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما .
{ إن في ذلك } ، الإشارة إلى ما فصل آنفاً ، أي : إن في إزجاء السحاب ، وإنزال الودق ، وتقليب الليل والنهار ، { لعبرةً } ؛ لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم ، القائم بالأشياء ، والمدبر لها بقدرته وحكمته ، { لأُولي الأبصار } ؛ لذوي العقول الصافية . وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات ، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السموات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له ، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار ، وتقليب الليل والنهار ، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار . والله تعالى أعلم وأحكم .
الإشارة : ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية ، تحمل العلوم اللدنية ، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً ، يُقتطع به صاحبه عن حسه ، ويغيبه عن أمسه ورسمه ، فترى أمطار العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والفتوحات العرفانية ، تخرج من خلاله ، أي : من قلب العارف ، وهي نتائج الواردات وثمراتها . وفي الحِكَم : " لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار " .
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ ، فيها علم الرسوم الظاهرة ، فيصيب به من يشاء ، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها ، ويصرفه عمن يشاء ، ممن أريد أن يكون من عامة الناس ، أو من خاصتهم . إن هبت عليه رياح الحقائق ، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية ، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه ، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، فإنها تكون أولاً كالبرق ، تلمع وتخفي ، ثم يتصل ورودها وشروقها ، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق ، نهار بلا ليل ، واتصال بلا انفصال ، ووصال بلا انقطاع . وفي ذلك يقول القائل :
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ ... وَاسْتَنَارَتْ ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ
إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل ... وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ
يقلب الله ليل القبض على نهار البسط ، ونهار البسط على ليل القبض ، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما ، ليكون لله ، لاشيء دونه . وبالله التوفيق .
(4/252)

وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
يقول الحق جل جلاله : { والله خلقَ كلَّ دابةٍ } أي : خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض { من ماء } ؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، وهو جزء مادته عند الأطباء ، أو : من ماء مخصوص ، وهو النطفة ، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة ، فمنها أناسي ، ومنها بهائم ، ومنها هوام وسباع ، وهو كقوله : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ } [ الرعد : 4 ] وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً ، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل ، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَىْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ونكّرره هنا؛ لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء ، وأنه هو الأصل ، وإن تخللت بينه وبينها وسائط ، وأما هنا فالمراد نوع منه .
قالوا : إن أول ما خلق الله الماء ، فخلق منه النار والريح والطين ، فخلق من النار الجن ، ومن الريح الملائكة ، ومن الطين آدم ودواب الأرض . قاله النسفي . وعلى الثاني : تكون الآية أغلبية؛ لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة ، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما .
ثم فصّل أحوالهم بقوله : { فمنهم من يمشي على بطنه } ؛ كالحية والحوت ، وتسمية حركتها مشياً ، مع كونها زحفاً ، استعارة ، كما يقال في الشيء المستمر : قد مشى هذا الأمر على هذا النمط ، او على طريق المشاكلة؛ لذكر الزاحف مع الماشين . { ومنهم من يمشي على رِجْلين } كالإنسان والطير ، { ومنهم من يمشي على أربع } كالبهائم والوحش . وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات؛ لعدم الاعتداد بها ، لقلتها . وتذكير الضمير في ( منهم ) ؛ لتغليب العقلاء ، وكذلك التعبير بكلمة ( مَن ) . وقدَّم ما هو أغرق في القدرة ، وهو الماشي بغير آلة ، ثم الماشي على رجلين ، ثم الماشي على أربع .
{ يَخْلُقُ الله ما يشاء } مما ذكر ومما لم يذكر ، بَسيطاً أو مركباً ، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل ، مع اتحاد العنصر؛ { إنَّ الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء كما يشاء . وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور ، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء ، وأظهر الماء من نور القبضة ، وأظهر القبضة من بحر سر الذات . أو تقول : أظهر الماء من نور الملكوت ، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت ، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية ، فالكل منه وإليه ، ولا شيء معه ، فتنوعت أنوار التجليات ، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها ، والمتجلي واحد ، كما قال صاحب العينية :
تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ ... فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ
فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً ... تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ
ولا يفهم هذا إلا من هداه الله لمعرفته .
(4/253)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يقول الحق جل جلاله : { لقد أنزلنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ } لكل ما يليق بيانه؛ من الأحكام الدينية ، والأسرار التكوينية . أو : موضحات ، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام ، { والله يهدي من يشاء } توفيقه { إلى صراط مستقيم } أي : دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته .
الإشارة : لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت ، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار . فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان ، على نعت الكشف والوجدان ، وهي ثلاثة مدارج : المدرج الأول : إتقان الشريعة الظاهرة ، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة . والمدرج الثاني : إتقان الطريقة ، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل ، فإذا تطهر الباطن ، وكمل تهذيبه ، أشرف على المدرج الثالث ، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية فتغطي وجودَ الأكوان . وبالله التوفيق .
(4/254)

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
يقول الحق جل جلاله في شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم : { ويقولون } أي : المنافقون { آمنا بالله وبالرسول } ؛ بألسنتهم ، { وأطعنا } الله والرسول في الأمر والنهي ، { ثم يتولى } عن قبول حُكْمِهِ { فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك } أي : من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله والرسول والطاعة لهما .
قال الحسن : نزلت في المنافقين ، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويًسرون الكفر .
وقيل : نزلت في " بِشْر " المنافق ، خاصم يهودياً ، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف ، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بشر : لا ، إن محمداً يحيفُ علينا - قبح الله سعيه . وقيل : في المغيرة بن وائل ، خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض وماء ، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقال .
ثم حكم عليهم بالكفر ، فقال : { وما أولئك بالمؤمنين } أي : المخلصين ، والإشارة إلى القائلين : آمنا بالله وبالرسول ، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط ، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط ، دون مَنْ قبلهم ، بخلاف العكس ، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم ، على أبلغ وجه وآكده ، وما فيه من معنى البعد؛ للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد .
{ وإذا دُعُوا إلى الله ورسولِه } أي : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن حُكمَه حكمُ الله ، { ليَحْكُمَ بينهم } أي : ليحكم الرسول بينهم؛ لأنه المباشر للحُكم حقيقة ، وإن كان ذلك حكم الله في الحقيقة؛ لأنه خليفته . وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه ، والإيذان بجلالة قدره عنده . فإذا دُعُوا إلى التحاكم بينهم { إذا فريقٌ منهم مُعْرِضون } أي : فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم ؛ لكون الحق عليهم ، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق على من كان .
{ وإن يكن لهم الحقُّ } على غيرهم { يأتوا إليه } ؛ إلى الرسول { مُذْعنين } ؛ مسرعين في الطاعة ، طلباً لحقهم ، لا رضاً بحُكم رسولهم . قال الزجاج : والإذعان : الإسراع مع الطاعة . والمعنى : أنهم؛ لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المُر والعدل المحض ، يمتنعون من المحاكمة إليك ، إذا ركبهم الحق ، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصُومهم ، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ، ولم يرضوا إلا بحكومتك ، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم .
{ أفي قلوبهم مرضٌ } ؛ كفر ونفاق ، { أم ارْتابُوا } في نبوته صلى الله عليه وسلم ، { أم يخافون أن يَحِيفَ } ؛ أن يجور { الله عليهم ورسولهُ } فيحكم بينهم بغير الحق . قسَّم الحق تعالى الأمر في صدود المنافقين عن حكومته - عليه الصلاة والسلام - إذا كان الحق عليهم ثلاث : بأن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته ، أو خائفين الحيف في قضائه ، ثم أبطل الكل بقوله : { بل أولئك هم الظالمون } ، أما الأولان؛ فلأنه لو كان شيء منهما لأعرضوا عنه ، عند كون الحق لهم؛ لتحقيق نفاقهم وارتيابهم ، وأما الثالث؛ فلمعرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم في الأمان والثبات على الحق ، فهم لا يشكون أنه لا يحيف؛ بل لأنهم هم الظالمون ، يريدون أن يظلِمُوا من له الحق عليهم ، ويتم لهم جحودهم ، فيأبَوْن المحاكمة إليه - عليه الصلاة والسلام - لأنه صلى الله عليه وسلم يقضي عليهم بالحق الصريح ، المؤيد بالوحي الصحيح .
(4/255)

الإشارة : ترى فريقاً من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة ، ونفوسهم غالبة عليهم ، فإذا دُعُوا إلى من يحكم بينهم وبينها ، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها؛ إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق ، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها ، يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم شك ووَهْم ، أم ارتابوا في وجود الطبيب ، أم يخافون أن يحيف الله عليهم؟ بأن يدلهم على من يتبعهم ولا يبرئهم ، حتى حسَّنوا الظن به والتجأوا إليه ، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه ، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم ، حيث حرموها الوصول ، وتركوها في أودية الشكوك والخواطر تجول . قال الورتجبي : { وإذا دُعُوا إلى الله ورسوله } أي : دُعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة ، وعبوديته بنعت الإخلاص ، ودُعُوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة . ه .
(4/256)

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
قلت : ( قول ) : خَبَرُ " كَانَ "؛ مُقَدَّمٌ ، و ( أن يقولوا ) : اسمها؛ مؤخر ، وقرأ الحسن : بالرفع؛ على الاسمية ، والأول : أرجح؛ صنَاعةً ، والثاني : أظهر؛ دلالة ، وأكثر إفادة . انظر أبا السعود .
يقول الحق جل جلاله : { إِنما كان قَوْلَ المؤمنين } الصادر عنهم { إذا دُعُوا إلى الله ورسولِه ليحكم } الرسولُ صلى الله عليه وسلم { بينهم } وبين خصومهم ، سواء كانوا منهم أو من غيرهم ، { أن يقولوا سمعنا } قوله ، { وأطعنا } أمره ، { وأولئك هم المفلحون } ؛ الفائزون بكل مطلب ، الناجون من كل مهرب . والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم ، وما فيه من البُعد ، للإشعار بعلو رتبتهم ، وبُعد منزلتهم في الفضل ، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب .
{ ومن يُطع الله ورسولَه } ، هذا استئناف جيء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين ، وترغيب مَن عَدَاهم في الانتظام في سلكهم ، أي : ومن يُطع الله ورسوله ، كائناً من كان ، فيما أمَرَا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية ، وقيل : من يطع الله في فرائضه ، ورسولَهُ في سننه . { ويَخْشَ الله } على ما مضى من ذنوبه ، { ويتَّقه } فيما يستقبل من عمره ، { فأولئك } الموصوفون بما ذكر؛ من الطاعة والخشية ، والاتقاء ، { هم الفائزون } بالنعيم المقيم ، لاَ مَنْ عَدَاهُم .
وعن بعض الملوك : أنه سأل عن آية كافية ، فتُليت عليه هذه الآية . وهي جامعة لأسباب الفوز . قال القرطبي : ذكر أسلم : أن عمر بينما هو قائم في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه ، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقال له عمر : ما شأنك؟ قال : أسلمت ، قال : ألهذا سبب؟ قال : نعم؛ إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل ، وكثيراً من كتب الأنبياء ، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن ، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة ، فعلمت أنه من عند الله ، فأسلمت . قال : ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى : { ومن يُطع الله } في الفرائض ، { ورسولَه } في السنن ، { ويَخْشَ الله } فيما مضى من عمره ، { ويتَّقه } فيما بقي ، { فاولئك هم الفائزون } ؛ والفائز : من نجا من النار واُدْخِل الجنة ، فقال عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أُعطيتُ جوامع الكلم " ه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إنما كان قول المؤمنين الكاملين ، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين ، إذا دُعوا إلى حضرة الله ورسوله؛ ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها ، أن يقولوا : سمعنا وأطعنا ، ويدخلوا تحت تربية المشايخ ، فإذا أمروهم أو نهوهم ، قالوا : سمعنا وأطعنا ، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى الله تعالى .
ومن يطع الله في أمره ونهيه ، ورسوله في سنَّته ، وما رغَّب فيه ، ويخش الله أن يعاتبه ، أو يؤدبه ويتقه أي : يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان . وبالله التوفيق .
(4/257)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
قلت : ( جهد ) : مصدر مؤكد لفعله ، الذي هو حيز النصب على الحال ، من فاعل " أقسموا " ، ومعنى جَهْدِ اليمين : بلوغ غايتها بطريق الإستعارة ، من قولهم : جهد نفسه : إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها . وأصل أقسم جهد اليمين : أقسم بجهدِ اليمين جَهداً ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول ، كقوله : { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } [ محمد : 5 ] وحكم هذا المنصوب حكم حال ، كأنه قال : أقسموا جاهدين أيمانهم . و ( طاعة ) : مبتدأ حذف خبره ، أي : طاعة معروفة أولى من تسويفكم ، أو : خبر عن محذوف ، أي : الذي يطلب منكم طاعة معروفة .
يقول الحق جل جلاله : { وأَقْسَموا } أي : المنافقون { بالله جَهْدَ أَيمانهم } أي : بلغوا فيها غاية وسعهم ، بأن حلفوا بالله . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( من حلف بالله فقد جهد يمينه ) ، { لئن أمرتهم ليخرجُنَّ } أي : قالوا : لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو ، أو من ديارنا وأموالنا ، لخرجنا . وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام - بردها حيث قيل : { قل لا تُقسموا } أي : قل؛ رداً عليهم ، وزجراً عن التفوه بها : لا تحلفوا وأنتم كاذبون ، { طاعةٌ معروفة } ، تعليل للنهي ، أي : لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة؛ لأن طاعتكم طاعة نفاقية ، معروفة بالنفاق ، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب . وإنما عبّر عنها بمعروفة؛ للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد . وحملها على الطاعة الحقيقية ، على حذف المبتدأ أو الخبر ، مما لا يساعده المقام . انظر أبا السعود .
قال القشيري : طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد ، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به . ه . وقال النسفي : طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة . أو : الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب ، كطاعة الخُلص من المؤمنين ، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم ، وقلوبُكُم على خلافها . ه .
{ إن الله خبير بما تعملون } من الأعمال الظاهرة والباطنة ، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة ، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق ، والعزيمة على مخادعة المؤمنين ، وغيرها من فنون الفساد .
{ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسولَ } ، أُمِر - عليه الصلاة والسلام - بتبليغ ما خاطبهم الله به ، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب ، وهو أبلغ في تبكيتهم ، { فإِن تولَّوا } - بحذف إحدى التاءين؛ بدليل قوله : { وعليكم } أي : فإن تُعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها { فإِنما عليه ما حُمِّلَ } من التبليغ وقد بلَّغَ ، { وعليكم ما حُمِّلتم } من التلقي بالقبول والإذعان . والمعنى : فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم ، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة ، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه .
(4/258)

وأما أنتم فعليكم ما كلفتم ، أي : ما أمرتم به من الطاعة والإذعان ، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعقوبته . قال القشيري : قل يا محمد : أطيعوا الله ، فإن أجابوا ، سعدوا في الدارين ، وإنما أحسنوا لأنفسهم . وإن تولوا؛ فما أضروا إلا بأنفسهم ، ويكون اللوم في المستقبل عليهم ، وسوف يلقون سوء عواقبهم . ه .
{ وإن تُطيعوه } فيما أمركم به من الهدى { تهتدوا } إلى الحق ، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير ، والمنجي من كل شر ، { وما على الرسول إلا البلاغُ المبين } ؛ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح ، أو : البيِّن الوضوح؛ لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة . والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم . واللام : إما للجنس المنتظم فيه - عليه الصلاة والسلام - انتظاماً أولياً ، أو للعهد ، أي : ما على جنس الرسول كائناً من كان ، أو ما عليه - عليه الصلاة والسلام - إلا التبليغ الواضح . وبالله التوفيق .
الإشارة : ترى بعض الناس يُقسمون بالله جهد أَيْمَانهم : لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن ، فلما ظهر تولوا وأعرضوا ، فيقال لهم : فإن تولوا فإنما عليه ما حُمِّل من الدلالة على الله ، والتعريف به ، وعليكم ما حُملتم من الدخول تحت تربيته ، وإن تُطيعوه تهتدوا إلى معرفة الله بالعيان ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
(4/259)

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قلت : ( ليستخلفنهم ) : جواب لقسم مضمر ، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم ، و ( كما ) : الكاف : محلها النصب على المصدر التشبيهي ، أي : استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ . و ( ما ) : مصدرية . و ( ويعبدونني ) : حال من الموصول الأول ، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف ، و ( لا يشركون ) : حال من واو ( يعبدونني ) .
يقول الحق جل جلاله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } أي : كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان ، وفي أي وقت وجد ، لا من آمن من المنافقين فقط ، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة ، بحسب ظهور الوعد الكريم . و ( من ) : للبيان . وقيل : للتبعيض ، ويراد المهاجرون فقط . { وعملوا } مع الإيمان الأعمال { الصالحات } ، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام ، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم ، وأهم ما يجب عليهم .
وأما تأخيره في قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] ؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم ؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة ، مثابون عليها ، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها .
ثم ذكر الموعود به ، فقال : { لَيستخلفنَّهم في الأرض } أي : لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم ، والمراد بالأرض : أرض الكفار كلها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار " ، { كما استخلف الذين مِن قبلهم } ؛ كبني إسرائيل ، استخلفهم الله في مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره . كما قال تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ } [ إبراهيم : 13 ] .
{ وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم } : عطف على { ليستخلفنهم } ، داخل معه في سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فَتصْدير المواعد بها فب الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة . ثم وصف بقوله : { الذي ارتضى لهم } ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه . { وليُبدِّلنهُمْ } بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، { من بعد خوفهم } من الأعداء { أمناً } .
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولَمَّا هاجروا كانوا بلمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم ، مُحْتبياً ، ليس معه حديدة " ، فأنجز الله وعده ، فأمِنُوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها .
(4/260)

وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى . وقيل : الخوف والأمن في الآخرة .
ثم مدحهم بالإخلاص فقال : { يعبدونني } وحدي ، { لا يُشركون بي شيئاً } أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء ، شركاً جلياً ولا خفياً؛ لرسوخ محبتهم ، فلا يُحبون معه غيره ، { ومن كَفَر بعد ذلك } أي : بعد الوعد الكريم ، كفرانَ النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهلُ الردة ، { فأولئك هم الفاسقون } ؛ الكاملون في الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً .
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء - رضي الله عنهم - .
ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة ، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ } ؛ فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين . { وأطيعوا الرسولَ } فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه؛ لقوله : " عليكم بسنتي ، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ " ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته - كما فعل أهل الردة - فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة ، لقوله : { لعلكم تُرحمون } أي : لكي تُرحموا ، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : سنة الله تعالى في خواصه : أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق ، ثم يُعزهم ، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا . . . إلخ كلامه .
قال القشيري : وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من يسترشد في الله . ثم قال : فأما حُفاظ الدين؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله ، وهم أصناف : قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحُفّاظُ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادُّون على أهلِ العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه ، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان ، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة . ه . تقدم ومثله في قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } [ التوبة : 122 ] . والله تعالى أعلم .
(4/261)

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
يقول الحق جل جلاله : { لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ } أي : فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم ، في قُطْرٍ من أقطار الأرض ، بل لا بد من أخذهم ، عاجلاً أو آجلاً ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع . و { الذين } : مفعول أول ، و ( معجزين ) : مفعول ثان . وقرأ حمزة والشامي بالغيب ، و ( الذين ) : فاعل ، والأول ، محذوف ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين { في الأرض } . و { مأواهم النار } : معطوف على محذوف ، أي : بل هم مُدْرَكُونَ ، { ومأواهم النار } أي : مسكنهم ومرجعهم ، { ولبئس المصيرُ } أي : والله لبئس المرجع هي . وفي إيراد النار ، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم ، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب ، من الجزالة ما لا غاية وراءه . والله تعلى أعلم .
الإشارة : لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون ، بل لا بد من غيرة الله عليهم ، عاجلاً أو آجلاً ، في الظاهر أو الباطن ، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير . وقال القشيري على هذه الآية : الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل ، وما لذلك بقاء ، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ ، أي : الحر . ه . والله تعالى أعلم .
(4/262)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } ، ويدخل فيه النساء ، { لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم } من العبيد والإماء ، { والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم } أي : والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ، { ثلاثَ مراتٍ } في اليوم والليلة ، وهي { من قبلِ صلاة الفجر } ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع ، وطرح ما ينام فيه من الثياب ، ولبس ثياب اليقظة ، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين ، { وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } ؛ وهي نصف النهار في القيظ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة ، { ومن بعد صلاةِ العشاء } ؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة ، والالتحاف بثياب النوم . هي { ثلاثُ عوراتٍ لكم } ، ومن نصبه؛ فَبَدلٌ من { ثلاث مرات } أي : أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها ، والعورة : الخلل ، ومنه سمي الأعور؛ لاختلاف عينه .
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ ، فنزلت . وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري ، وكان غلاماً ، وقت الظهيرة ، ليدعو عُمر رضي الله عنه ، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه ، فقال عمر رضي الله عنه : لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن ، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية . والأمر ، قيل : للوجوب ، وقيل : للندب .
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات ، فقال : { ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ } أي : لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث ، أي : في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث .
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله : { طوَّافون } أي : هم { طوَّافون عليكم } لحاجة البيت والخدمة ، { بعضُكم على بعضٍ } أي : بعضكم طائف على بعض ، أو يطوف على بعض ، والجملة : إما بدل مما قبلها ، أوبيان ، يعني : أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة ، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام ، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج ، وهو مدفوع بالنص ، { كذلك يبين الله لكم الآيات } أي : كما بيّن الاستئذان ، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها ، { والله عليمٌ } بمصالح عبادة ، { حكيم } فيما دَبَّرَ وحكم به .
{ وإذا بلغ الأطفالُ منكم } أي : الأحرار دون المماليك { الحُلُمَ } أي : الاحتلام ، وهو البلوغ ، وأرادوا الدخول عليكم { فَلْيَستأذِنوا } في جميع الأوقات . قال القرطبي : لم يقل : { فليستأذنوكم } ، وقال في الأولى : { ليستأذنكم } ؛ لأن الأطفال غير مخاطبين ولا متعبَدين . ه . قلت : فالمخاطبون في الأولى هم الأولياء بتعليمهم الاستئذان وإيصائهم به ، وهنا صاروا بالغين ، فأمرهم بالاستئذان { كما استأذن الذين من قبلهم } أي : الذين بلغوا الحُلُم مِن قبلهم ، وهم الرجال المذكورون في قوله :
(4/263)

{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } [ النور : 27 ] الآية . والمعنى : أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن ، إلا في العورات الثلاث ، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة ، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات ، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن .
والناس عن هذه غافلون . عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله ، وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ، وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] . وعن سعيد بن جبير : ( يقولون : إنها منسوخة ، والله ما هي بمنسوخة ) . وعن ابن عباس أيضاً قال : إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر ، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان . وعن أبي محمد مكي : هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب . قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي ، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم ، فلا بن من الاستئذان كما في الآية .
{ كذلك } أي : مثل ذلك البيان العجيب { يُبين الله لكم آياته } . قال ابْنُ عرفة : قال قبل هذه وبعدها : الآيات ، وفي هذه : آياته؛ لوجهين ، الأول : هذه خاصة بالأطفال ، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال ، فأطلقت الآية ، ولم تقيد بالإضافة ، وهذه خاصة ، فعبّر عنها بلفظ خاص . الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين ، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى ، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم . ه . والمتبادر أنه تفنن . قاله المحشي الفاسي . { والله عليمٌ حكيم } فيما أمر ودبر .
الإشارة : إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله؛ غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده ، وإذا كان غار على كشف سر عبد ، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى ، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله ، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له ، وهو من أَعْطَى نفسه وماله ، وباعهما لله تعالى . وكل من أُطْلِعَ على سر من أسرار الله أو قضاء من قضائه ، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب . وفي الحِكَم : " استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك " . وبالله التوفيق .
(4/264)

وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قلت : " القواعد " : جمع قاعد ، بغير تاء؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء ، كالطالق والحائض ، فلا تحتاج إلى تمييز ، وهو مبتدأ ، و ( اللاتي . . . ) إلخ : صفة له ، ( فليس ) : خبر ، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام . و ( يرْجُون ) : مبني لاتصاله بنون النسوة .
يقول الحق جل جلاله : { والقواعدُ } أي : العجائز { من النساء اللاتي } قعدن عن الحيض والولادة؛ لِكِبَرِهِنَّ . قال ابن قتيبة : سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود . ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر ، والظاهر أن قوله : { لا يرْجُون نِكاحاً } : نعت مُخَصِّصٌ ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال . وقد يُجْعَلُ كاشفاً؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن ، فقوله : { لا يرجون نكاحاً } أي : لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن ، { فليس عليهن جناحٌ } في { أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ } أي : الثياب الظاهرة ، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه .
قال ابن عطية : قرأ ابن مسعود وأُبَيّ : " أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن " . والعرب تقول : امرأة واضع ، للتي كبرت فوضعت خِمَارها ، قال في الحاشية : والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان ، وبخروجهن أيضاً ، ومن التبرج : لبس ما يَصف؛ لكونه رقيقاً ، أو : شفافاً . ه .
ثم قيَّد الرخصة بقوله : { غير مُتَبرِّجَاتٍ بزينة } أي : مظهرات زينة ، يريد الزينة الخفية ، كالشعر والنحر والساق ونحوه ، أي : لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها ، ولكن التخفيف . وحقيقة التبرج : تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه ، من قولهم : سفينة بارجة : لاَ غِطَاءَ عليها ، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال . { وأن يستعففنَ } أي : يطلبن العفة عن وضع الثياب ، فيتسترن { خيرٌ لهن } من الانكشاف ، { والله سميعٌ عليم } أي : سميع ما يجري بيهن وبين الرجال من المقاولة ، عليم ، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج ، وفيه من الترهيب ما لا يخفى .
الإشارة : إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه ، وكمل استغناؤه بربه ، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويُهتدى ، ليعلم الانتفاع به . فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له . والله سميع عليم .
(4/265)

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً . . . }
يقول الحق جل جلاله : { ليس على الأعمى حَرَجٌ } في الدخول من غير استئذان؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره . وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره ، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال : { ولا على الأعْرج حَرَجٌ } فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره ، { ولا على المريض حرج } في ذلك . وقال سعيد بن المُسَيِّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم ، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون من ذلك ، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك ، فنزلت الآية ، رُخْصَةً لهم . وقيل : كانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك فنزلت الآية رُخْصَةً لهم وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه ، والمريض لا يستطيع استيفاءه . ه .
{ ولا على أنفسكم } أي : لا حرج عليكم { أن تأكلوا من بيوتكم } أي : البيت الذي فيه أهل بيتكم؛ أزواجكم وعيالكم ، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة ، فصار بيت المرأة بيت الزوج . وقيل : المراد ببيوتكم : بيوت أولادكم ، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم؛ لأن ولد الرجل من كسبه ، وماله كمالِه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " أنت ومالك لأبيك " ، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية؛ لاندراجهم في بيوتكم .
ولا حرج عليكم أيضاً أن تأكلوا من { بيوت آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم أو بيوتِ إخوانكم } الذكور { أو بيوت أَخَواتكم } النساء ، { أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمَّاتكم أو بيوتِ أخوالكم أو بيوت خالاتكم } ؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت؛ دلالة . واختلف العلماء في إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة ، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه ، والناسخ : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام- : " لاَيَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مسلم إلا عن طِيبِ نَفْسٍ " وقيل : محكمة ومعناها : إذا أذنوا في ذلك ، وقيل : ولو بغير إذن ، والتحقيق : هو التفصيل : فمن عُلم منه طيب نفسه وفرحُه بذلك؛ بقرينةٍ : حَلَّ أَكْلُ مَالِهِ ، ومَنْ لاَ؛ فلا .
{ أو ما ملكتم مَّفَاتحه } قال ابن عباس : وهو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته ، له أن يأكل من ثمرة ضيعته ، ويشرب مِنْ لبن ماشيته .
(4/266)

والمراد بملك المفاتيح : كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ . وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة ، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ ، يعني : إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه؛ فيدخل في الصديق . وقيل : أريد به بيت عَبْدهِ؛ لأن العبد وما في يده لمولاه .
{ أو صَدِيقِكُمْ } أي : أو بيوت أصدقائكم ، والصديق يكون واحداً وجمعاً ، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك ، يُؤلمه ما يؤلمك ما يؤلمه ، ويسرك ما يسره كذلك . وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب ، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء ، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك ، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن . قاله النسفي .
{ ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً } : مجتمعين { أو أشتاتاً } : متفرقين ، جمع شَتّ ، نزلت في بني ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده ، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل ، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة . وقيل : في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم ، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا . وقيل : في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل ، وزيادة بعضهم على بعض ، فخيّرهم . وقيل : كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته ، ودعاه إلى الطعام ، فيقول : إني أتحرج أن آكل معك ، وأنا غني وأنت فقير ، فأباح لهم ذلك . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه ، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة ، ويتناول كل ما يشتهيه نفسه ، مما أباحته الشريعة ، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر . وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام ، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت ، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب ، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة ، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه ، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم .
وقال الورتجبي في قوله : { ليس على الأعمى حرج } : عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب . وهذا من قوله - عليه الصلاة والسلام - في وصف جمال الحق سبحانه : " حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ " فجعله معذوراً ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق؛ إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد . ه ومراده ببطون الأزل : تجلياته تعالى ، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي ، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب ، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي ، لكنها ، لما تجلت ، كستها رداء الكبرياء ، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها ، أو قبلها ، أو معها ، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ .
(4/267)

والله تعالى أعلم .
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل : " نَحْنُ : لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً " . دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه ، فوجد زوجته ، فقال : هل عندك شيء نطعم به الفقراء؟ فأشارت إلى وعاء فيه تمر ، لا يملك غيره ، فأفرغه على رأسه ، فأكلوا ، وأخذوا ما بقي ، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك ، فقال : الآن علمت أنه يُحبني .
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان ، فقال :
{ . . . فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
يقول الحق جل جلاله : { فَإِذَا دخلتم بيوتاً } من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن ، { فسَلّمُوا على أنفسكم } أي : فابدأوا بالسلام على أهلها ، الذين هم منكم ، الذين هم بمنزلة أنفسكم؛ لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية أو النَّسَبِيَّةِ . أو بيوتاً فارغة ، أو مسجداً ، بأن تقولوا : السلام عليكم ، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، إن كانت خاوية . { تحيةً } ، مَنْ نَصَبَ فعلى المصدر لِسلِّمُوا؛ لأنها في معنى تسليماً ، { من عند الله } أي : بأمره مشروعه من لدنه ، أو لأنها طلب للسلامة ، وهي بيد الله ، { مباركةً } : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما ، { طيبةً } : تطيب بها نفس المستمع .
وعن أنس رضي الله عنه أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " من لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه ، يَطُلْ عُمْرُكَ . وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين " .
{ كذلك يُبين الله لكم الآيات } ، تكرير؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها ، { لعلكم تعقلون } : لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام ، وتعملوا بموجبها ، فتفوزوا بسعادة الدارين . والله تعالى أعلم .
الإشارة : السلام على النفس : هو طلب الأمان لها ومنها ، فإذا سَلِمَت النفس من موجات الغضب من الله ، سَلِمَ صاحبها منها ، قال القشيري : السلامُ : الأمانُ ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه ، يعني : بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى ، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله ، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله ، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع . ه .
(4/268)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
يقول الحق جل جلاله : { إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } ، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبراً للمبتدأ ، مع تضمنه له؛ تقريراً لِمَا قبله ، وتمهيداً لما بعده ، وإيذاناً بأن ما بعده حقيق بأن يُجْعَلَ قريناً للإيمان بهما ومنتظماً في سلكه .
{ وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ } : عَطْفٌ على ( آمنوا ) ، دَاخِلٌ في حيز الصلة ، أي : إنما الكاملون في الإيمان : الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم ، وأطاعوه في جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع ، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق ، كما إذا كانوا معه - عليه الصلاة والسلام - على أمر مُهم يجب الاجتماع في شأنه؛ كالجمعة والأعياد ، والجهاد ، وتدريب الحروب ، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع ، { لم يذهبوا حتى يستأذنوه } ، ويأذن لهم ، ولو كان الأمر يقوم بدونهم ، ليتميز المخلص من المنافق ، فإن دَيْدنه التسلل للفرار ، ولتعظيم الجرم؛ لما في الذهاب بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الخيانة .
وَلَمَّا أراد الحقُّ تعالى أَنْ يُرِيَهُمْ عِظَمَ الجنايةِ في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ، إذا كانوا معه على أمر جامع ، جعل ترك ذهابهم والصبر معه ، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان ، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له ، والبساط لذكره ، وذلك مع تصدير الجملة ب " إنما ، ثم عقبة بما يزيده توكيداً وتشديداً؛ حيث أعاده عاى أسلوب آخر فقال : { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } ، فقضَى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة . وفي " أولئك " : من تفخيم المستأذنين ، ما لا يخفى ، { فإذا استأذنوك } في الانصراف { لبعض شأنهم } أي : أمرهم المهم وخطْبهم الملم .
{ فَأَذَنْ لِمَنِ شئْتَ منهم } لما علمت في ذلك من مصلحة وحكمة .
وهذا بيان لما هو وظيفة صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين ، وأن الإذن منه - عليه الصلاة والسلام - ليس بأمر محتوم ، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام ، وفيه مِنْ رَفْع شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى . والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : بعدما تحقق أن الكاملين في الإيمان هو المستأذِنُون .
{ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فَأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم الله } ، فإن الاستئذان ، وإن كان لعذر ، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة ، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل . { إن الله غفور رحيم } ؛ مبالغ في غفران فَرَطَاتِ العِبَاد ، وفيه إفاضة آثار الرحمة عليهم .
وما ذكره الحق تعالى في شأن الصحابة مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - في شأن الاستئذان ينبغي أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في العلم والدين ، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن .
(4/269)

والآية نزلت في الخندق ، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان ، فنزلت . وبقي حكمها عاماً إلى يوم القيامة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه ، أما أهل البدايات فيستأذنون في الجليل والحقير ، كقضية الفقير الذي وجد بَعْضَ البَاقِلاَّءِ - أي : الفول - في الطريق ، فأتى بها إلى الشيخ ، فقال : يا سيدي ما نفعل به؟ فقال : اتركه ، حتى تفطر عليه ، فقال بعض الحاضرين : يستأذنك في الباقلاء؟ فقال : لو خالفني في أمر؛ لم يفلح أبداً . وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق ، واستشرفوا على عين التحقيق ، وحصلوا على مقام الفهم عن الله ، فلا يستأذنون إلا في الأمر المهم؛ كالتزوج ، والحج ، ونحوهما . وَصَبْرُهُ حتى يأمره الشيخ بذلك أولى ، فالمريد بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول ، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع الله بعد الوصول .
فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله ، لكن لما كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه ، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة . والتحكيم في غاية الصعوبة على النفس ، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية ، وجذبته جواذب العناية ، أعني الدخول تحت الشيخ وتحكيمَه على نفسه ، حتى لا يتحرك إلا بإذنه ، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان ، فإذا فعل المريد شيئاً من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له . وينبغي للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له ، لقوله تعالى : { واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } ، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه ، ونائب عنه في رتبة التربية . والله تعالى أعلم .
(4/270)

لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
يقول الحق جل جلاله : { لا تجعلوا دُعاءَ الرسولِ بينكم كدُعَاءِ بعضِكم بعضاً } أي : إذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم لأمر جامع ، فدعَاكم ، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً ، ورجوعكم عن المجمع بغر إذن الراعي؛ لأن أمره - عليه الصلاة والسلام - وشأنه ليس كشأنكم : أو : لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد ، كدعاء بعضكم على بعضاً ، فإنَّ غضبه عليه ليس كغضبكم؛ لأن غضبه غضب الله ، ودعاءه مستجاب . وهذا يناسب ما قبله من جهة التحذير عن ترك الاستئذان ، فإنَّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه - عليه الصلاة والسلام - ودعائه عليه . أو : لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضاً؛ كندائه باسمه ، ورفع الصوت عليه ، وندائه من وراء الحُجرات ، ولكن بلَقَبه المعظم؛ يا رسول الله ، يا نبي الله ، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت .
قال القشيري : أي : عَظِّموه في الخطاب ، واحفظوا حرمته وخدمته في الأدب ، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير . ه . فالإضافة ، على الأوليْن : للفاعل ، وعلى الثالث؛ للمفعول ، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده في قوله : { قد يعلم الله الذين يتسللون } أي : يخرجون قليلاً قليلاً على خِفْيَةٍ منكم ، { لِوَاذاً } أي : ملاوذين ، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج ، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن؛ إراءة أنه من أتباعه . أو مصدر ، أي : يلوذون لواذاً . واللواذ : الملاوذة ، وهي التعلق بالغير ، وهو أن يلوذ هذا بهذا في أمر ، أي : يتسللون عن الجماعة؛ خفية ، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض .
ثم هددهم على المخالفة بقوله : { فليحذرِ الذين يُخالفون عن أمره } أي : الذين يصدون عن أمره ، يقال : خالفه إلى الأمر : إذا ذهب إلى دونه ، ومنه : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] ، وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه . والضمير : إما لله سبحانه ، أو للرسول عليه الصلاة والسلام - ، وهو أنسب؛ لأنه المقصود بالذكر .
والمعنى : فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنَّته ، { أن تُصيبَهم فتنةٌ } ؛ محنة في الدنيا؛ كقتل أو زلازل وأهوال ، أو تسليط جائر ، أو عدو ، أو قسوة قلب . أو كثرة دنيا؛ استدراجاً وفتنة .
قال القشيري : سعادة الدارين في متابعة السُّنَّة ، وشقاوتهما في مخالفتها ، ومما يصيب من خالفها : سقوط حشمة الدين عن القلب . ه .
{ أو يُصيبهم عذابٌ أليم } في الآخرة . والآية تدل على أن الأمر للإيجاب ، وكلمة " أو " : لمنع الخلو ، دون منع الجمع . وإعادة الفعل صريحاً؛ للاعتناء بالتهديد والتحذير .
{ أَلاَ إنَّ لله ما في السمواتِ والأرضِ } من الموجودات ، خلقاً وملكاً وتصرفاً ، وإيجاداً وإعداماً ، بَدْءاً وإعادةً ، و " ألاَ " : تنبيه على أن يخالفوا من له ما في السموات والأرض .
(4/271)

{ قد يعلمُ ما أنتم عليه } أيها المُكَلَّفُون ، من الأحوال والأوضاع ، التي من جملتها الموافقةُ والمخالفةُ ، والإخلاصُ والنفاقُ . وأدخل " قد "؛ ليؤكد علمه بما هم عليه ، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد . والمعنى : أن جميع ما استقر في السموات تحت ملكه وسلطانه وإحاطة علمه ، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين ، وإن اجتهدوا في سترها؟! { ويوم يُرجعون إليه } أي : ويعلم يوم يُردون إلى جزائه ، وهو يوم القيامة .
والخطاب والغيبة في قوله : { قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه } يجوز أن يكون للمنافقين ، على طريق الالتفات ، ويجوز أن يكون { ما أنتم عليه } عاماً ، و { يُرجعون } للمنافقين . { فينبئهم } حينئذٍ { بما عملوا } من الأعمال السيئة ، التي من جملتها : مخالفة الأمر ، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء .
{ والله بكل شيءٍ عليم } ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء . رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ سورة النور على المنبر في الموسم ، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت . ه . وأما ما ورد في فضل السور فموضوع ، وقد غلط من ذكره من المفسرين . وبالله التوفيق .
الإشارة : شيوخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في القيام بالتربية النبوية ، فيجب امتثال كل ما أمروا به ، واجتناب كل ما نهوا عنه ، فُهِمَ معناه أو لم يُفهم . فإذا كانوا مجموعين في أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه ، ولا يكفي إِذْنُ بَعْضِ الفقراء ، إلا إنْ وَجّهَهُ الشيخ لذلك ، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضاً في التساهل في مخالفة أمره ، أو امتثال أمره . قد يعلم الله الذين يتسللون ، فيفرون عنه؛ لِواذاً ، فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة؛ كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه ، أو يصيبهم عذاب أليم ، وهو السلب بعد العطاء ، والعياذ بالله من الزلل ومواقع الضلال . نسأل الله تعالى أن يثبت قدمنا على منهاج الحق ، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم ، ورسوخ القدم في معرفة الرحمن الرحيم . آمين . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، النبي الكريم ، وعلى آله وصحبه ، وسلم .
(4/272)

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
يقول الحق جل جلاله : { تبارك } أي : تكاثر خيره وتزايد ، أو : دام واتصل . وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله ، والمستعمل منها الماضي فقط ، والتفاعل فيها للمبالغة . ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات ، التي من جملتها : تنزيل القرآن ، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية ، أي : تعاظم { الذي نَزَّلَ الفرقانَ } أي : القرآن ، مصدر فرق بين اثنين ، إذا فصل بينهما . سمي به القرآن؛ لفصله بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، أو : لأنه لم ينزل جملة ، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً ، ألا ترى إلى قوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] .
أنزله { على عبده } محمد صلى الله عليه وسلم ، وإيراده - عليه الصلاة والسلام - بذلك العنوان؛ لتشريفه ، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية ، والتنبيه على أن الرسل لا يكون إلا عبداً للمُرسل؛ رداً على النصارى . أنزله { ليكون } العبد المنزل عليه ، أو الفرقان { للعالمين } من الثقلين ، زاد بعضهم : والملائكة أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه ، حيث لم يقف مع مقام ولا حال ، ويقتبسوا من أنواره ، وهو حكمة الإسرار ، وقيل : حتى إلى الحيوانات والجمادات ، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به ، وبتعظيمه - عليه الصلاة والسلام - وهذا كله داخل في العالمين؛ لأن ما سوى الله كله عالم؛ كما تقدم في الفاتحة . وعموم الرسالة من خصائصه - عليه الصلاة والسلام - . { نذيراً } أي : مخوِّفاً ، وعدم التعرض للتبشير؛ لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة ، ولا بشارة لهم .
{ الذي له مُلكُ السموات والأرضِ } أي : له ، خاصةً ، دون غيره ، لا استقلالاً ولا اشتراكاً . فالقهرية لازمة لهما ، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلي ، إيجاداً وإعداماً ، وإحياءً وإماتةً ، وأمراً ونهياً ، { ولم يتخذ ولداً } كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح - عليهما السلام - ، { ولم يكن له شريك في المُلْك } كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة ، والرد في نحورهم .
{ وخَلَقَ كلَّ شيء } أي : أحدث كل شيء وحده ، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة . أي : أظهر كل شيء { فقدَّره } أي : فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به ، { تقديراً } بديعاً ، لا يقادر قدره ، ولا يُبلغ كنهه؛ كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك ، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد ، واستنباط الصنائع المتنوعة ، والدلائل المختلفة ، على وجود الصانع . أو : فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم . وأيّاً ما كان ، فالجملة تعليل لما قبلها ، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق ، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه ، كيف يتوهم أنه ولد الله سبحانه ، أو شريكٌ له في ملكه . تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
الإشارة : عبّر بالعبودية في التنزيل والإسراء؛ إشارة إلى أن كل من تحقق بالعبودية الكاملة له حفظ من تنزيل الفرقان على قلبه ، حتى يفرق بين الحق والباطل ، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت ، حتى يعاين عجائب أسرار ربه .
(4/273)

وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم ، ومن العروج بروحهم ، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم ، حتى يكون مع مراده ، لا مع مرادهم ، لا يريدون إلا ما أراد ، ولا يشتهون إلا ما يقضي ، قد تحرروا من رقِّ الأشياء ، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى . فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء ، يُعرج بأرواحهم ، ويُوحى إلى قلوبهم ما يفرقون به من الحق والباطل ، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه؛ قال تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] . وبالله التوفيق .
(4/274)

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
يقول الحق جل جلاله : { واتخذوا } أي : الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين ، اتخذوا لأنفسهم { من دونه } تعالى { آلهة } ؛ أصناماً ، يعبدونها ويستعينون بها ، وهم { لا يَخْلُقُون شيئاً } أي : لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء ، { وهم يخْلَقُون } كسائر المخلوقات . والمعنى أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق ، والملك والتقدير ، عباداً عجزة ، لا يقدرون على خلق شيء ، وهم مخلوقون ومصورون . { ولا يملكون لأنفسهم ضَراً ولا نفعاً } أي : لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها ، ولا جلب نفع لها . وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم؛ فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة ، وهؤلاء لا يقدرون على شيء البتة ، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم ، أو ضرر من لم يعبدهم؟!
{ ولا يملكون موتاً } أي : إماتة { ولا حياةً } أي : إحياء { ولا نشوراً } ؛ بعثاً بعد الموت ، أي : لا يقدرون على إماتة حي ، ولا نفخ الروح في ميت ، ولا بعث للحساب والعقاب . والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك . وفي إيذان بغاية جهلهم ، وسخافة عقولهم ، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر ، مفتقرون إلى التصريح لهم بها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من ركن إلى غير الله ، أو مال بمحبته إلى شيء سواه ، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله . وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه ، فقد خاب مطلبه ومسعاه؛ لأنه تعلق بعاجز ضعيف ، لا يقدر على نفع نفسه ، فكيف ينفع غيره؟ وفي الحِكَمِ : " لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعاً؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه ، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً؟ " .
قال بعض الحكماء : من اعتمد على غير الله فهو في غرور؛ لأن الغرور ما لا يدوم ، ولا يدوم شيء سواه ، وهو الدائم القديم ، لم يزل ولا يزال ، وعطاؤه وفضله دائمان ، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء ، في كل نفس وحين وأوان وزمان . ه . وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى داود : يا داود؛ أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دُون خلقي ، أعلم ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن ، والأرضون السبع ومن فيهن ، وإلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً . أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني ، أعلم ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السموات من يده ، وأسخت الأرض من تحته ، ولا أبالي في وادٍ هلك . ه . وبالله التوفيق .
(4/275)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين كفروا } أي : تمردوا في الكفر والطغيان . قيل : هم النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد ، ومن ضاهاهم .
وقيل : النضر فقط ، والجمع؛ لمشايعة الباقين له في ذلك . قالوا : { إنْ هذا } ؛ ما هذا القرآن { إلا إفكٌ } ؛ كذب مصروف عن وجهه { افتراه } ؛ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه ، { وأعانة عليه } أي : على اختلاقه { قومٌ آخرون } ، يعنون : اليهود ، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة ، وهو يعبر عنها بعبارته . وقيل : هم عدَّاس ، ويسار ، وأبو فكيهة الرومي ، كان لهم علم التوراة والإنجيل . ويحتمل : وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون ، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : { فقد جاؤوا } ، وأتوا { ظُلماً } أو : بظلم ، فقد تستعمل ( جاء ) بمعنى فعل ، فتتعدى تعديته ، أو بحرف الجر ، والتنوين للتفخيم ، أي : جاؤوا ظلماً هائلاً عظيماً؛ حيث جعلوا الحق البيِّن ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إفكاً مفترى من قول البشر ، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي ، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق؛ لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته . ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة ، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية ، والأمور الغيبية ، بحيث لا يناله عقول البشر ، ولا تفي بفهمه الفهوم ، ولو استعملوا غاية القوى والقدر . { و } أتوا أيضاً { زُوراً } أي : كذباً كثيراً ، لا يُبْلَغُ غايتُه؛ حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو بريء منه .
{ وقالوا أساطيرُ الأولين } أي : هو أحاديث المتقدمين ، وما سطروه من خرافاتهم؛ كرُستم وغيره . جمع أسطار ، أو أسطورة ، { اكتتبها } ؛ كتبها لنفسه ، أو : استكتبتها فكُتبت له ، { فهي تُملى عليه } أي : تُلقى عليه من كتابه { بكرةً } : أول النهار { وأصيلاً } ؛ آخره ، فيحفظ ما يتلى ثم يتلوه علينا . انظر هذه الجرأة العظيمة ، قاتلهم الله ، أنى يؤفكون؟ .
{ قل } يا محمد : { أنزله الذي يعلم السرَّ في السمواتِ والأرضِ } أي : يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض ، يعني : أن القرآن ، لما اشتمل على علم الغيوب ، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم من غير تعلم إلهي ، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب ، أي : ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق ، بإعانة قوم ، وكتابة آخرين؛ من الاحاديث والأساطير المتقدمة ، بل هو أمر سماوي ، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء ، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام ، على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بأمور مغيبات ، وأسرار مكنونات ، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير ، ثم جعلتموه إفكاً مفترى ، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً ، لولا حِلمه ورحمته ، { إنه كان غفوراً رحيماً } ؛ فأمهلكم ، ولم يعاجلكم بالعقوبة .
(4/276)

وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم ، أي : كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة ، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله ، مع كمال اقتداره .
ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه ، فقال : { وقالوا مَالِ هذا الرسولِ } وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء ، وخط المصحف سُنّة لا يغير . وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم ، كأنهم قالوا : أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول؛ يأكل الطعام كما تأكلون ، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون ، أي : إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! { لولا أُنزل إليه ملَكَ } على صورته { فيكون معه نذيراً } ، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه صلى الله عليه وسلم ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية ، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه ، ويكون ردءاً له في الإنذار ، ويُعبر عنه ، ويفسر ما يقوله للعامة .
{ أو يُلْقَى إليه كنزٌ } من السماء ، يستغني به عن طلب المعاش معنا ، { أو تكونُ له جنةٌ } ؛ بستان { يأكل منها } كالأغنياء المياسير . والحاصل : أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة ، مستغنياً عن الطعام والشراب ، وتعجبوا من كون الرسول بشراً ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز ، يستظهر به على نوائبه ، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له بستان يأكل منه ، كالمياسير ، أو نأكل نحن منه ، على قراءة حمزة والكسائي .
قال تعالى : { وقال الظالمون } وهم الكفرة القائلون ما تقدم ، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر ، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه . وهم كفار قريش ، أي : قالوا للمؤمنين : { إن تتبعون } ؛ ما تتبعون { إلا رجلاً مسحوراً } ؛ قد سُحر فغلب على عقله ، { انظر كيف ضربوا لك الأمثال } أي : انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة ، الخارجة عن العقول ، الجارية؛ لغرابتها ، مجرى الأمثال ، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة ، البعيدة عن الوقوع؟! { فضلّوا } عن طريق الجادة { فلا يستطيعون سبيلاً } ؛ فلا يجدون طريقاً إليه ، أو : فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك ، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه ، أو : فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً ، فلا يجدون طريقاً موصلاً إليه ، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب . وبالله التوفيق .
الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية ، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا : ليست من فيضه ، إنما نقلها عن غيره ، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون ، قل : أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أنه كان غفوراً رحيماً ، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته ، فوصلهم بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه . وقوله تعالى : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية ، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية ، كما تقدم مراراً . والله تعالى أعلم .
(4/277)

تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قلت : ( جنات ) : بدل من خيراً ، و ( يجعل ) ، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط ، ومن رفعه فعلى الاستئناف ، أي : وهو يجعل لك قصوراً ، ويجوز عطفه على الجواب؛ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم ، كما هو مقرر في محله .
يقول الحق جل جلاله : { تبارك } أي : تكاثر وتزايد خيره { الذي إن شاء جَعَلَ لك } في الدنيا { خيراً } لك { من ذلك } الذي اقترحوه؛ من أن يكون لك جنة تأكل منها؛ بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة ، { جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ } ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار ، كما اقترحوا ، { ويجعل لك قصوراً } ؛ وغرفاً في الدنيا ، كقصور الآخرة ، لكن لم يشأ ذلك؛ لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه لخواص أحبابه في الآخرة؛ لأنها ضيقة الزمان والمكان .
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين ، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز؛ لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية ، وإنما الذي له وجه في الجملة وهو الاقتراح الأخير؛ فإنه غير مناف للحكمة بالكلية ، فإن بعض الأنبياء - عليهم السلام - قد أُتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً ، لكنه نادر .
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة ، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى ، فقال : { بل كذَّبوا بالساعة } أي : بل أتوا بأعجب من ذلك كله ، وهو تكذيبهم بالساعة . ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله ، كأنه قال : بل كذبوا بالساعة ، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب ، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة ، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال من كذَّب بها فقال : { وأعتدنا لمن كَذَّبَ بالساعة سعيراً } أي : وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار ، أي : الاشتعال . ووضع الموصول موضع ضمير " هم " ، أو لكل من كذب بها كائناً من كان ، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً . ووضع الساعة موضع ضميرها؛ للمبالغة في التشنيع .
{ إذا رَأَتْهُم } أي : النار ، أي : قابلتهم { من مكان بعيد } ؛ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البُعد ، كقوله صلى الله عليه وسلم في شأن المؤمن والكافر : " لا تترآءى نَاراهُما " ، أي : لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى . { سمعوا لها تغيُّظاً وزفيراً } أي : سمعوا صوت غليانها . شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير ، وهو صوت من جوفه . ولا يبعد أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر . وقيل : إن ذلك من زبانيتها ، نُسب إليها ، وهو بعيد .
{ وإذا أُلْقُوا منها } ؛ من النار { مكاناً ضَيِّقاً } أي : في مكان ضيق؛ لأن الكرب يعظم مع الضيق ، كما أن الروح يعظم مع السعة ، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض . وعن ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - : ( تضيق جهنم عليهم ، كما يضيق الزجُّ على الرمح ) .
(4/278)

وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط " حال كونهم { مُقرّنين } أي : مسلسلين ، أي : مقرونين في السلاسل ، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال . أو : يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسة ، وفي أرجلهم الأصفاد . فإذا أُلقوا في الضيق ، على هذا الوصف ، { دَعَوا هنالك } أي : في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ، { ثُبُوراً } أي : هلاكاً ، بأن يقولوا : واثبوراه؛ هذا حينُك فتعال ، فيتمنون الهلاك ليستريحوا ، فيقال لهم : { لا تدعوا اليوم ثُبوراً واحداً وادعوا ثُبوراً كثيراً } أي : لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة ، ودعاءً واحداً ، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة ، فإن ما أنتم عليه من العذاب لغاية شدته وطول مدته ، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان . وهو يدل على فظاعة العذاب وهوله .
وأما ما قيل من أن المعنى : إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور؛ لشدته وفظاعته ، أو : لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها ، فلا غاية لها ، فلا يلائم المقام . انظر أبا السعود . وعن أنس رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ ، فيضعُها على حاجبيه ، ويسحبُها من خلفه ، وذُريتُهُ من بعده ، وهو يقول : يا ثُبُوراه ، وهم يجاوبونه : يا ثُبُورهم ، حتى يَقِفُوا على النار ، فيقال لهم : لا تدعوا ثبوراً واحداً . . . " .
{ قل } لهم يا محمد؛ تقريعاً لهم وتهكماً بهم ، وتحسراً على ما فاتهم : { أذلك خيرٌ } ، والإشارة إلى السعير ، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة ، وما فيه من معنى البُعد؛ لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة . أي : قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير ، التي أعدت لمن كذب بالساعة ، وشأنها كيت وكيت؛ خير { أم جنةُ الخُلد التي وُعِدَ المتقون } أي : وعدها الله المتقين؟ وإنما قال : " أذلك خير " ، ولا خير في النار؛ تهكماً بهم . كما تقدم ، وإضافة الجنة إلى الخلد؛ للمدح ، وقيل : للتميز عن جنات الدنيا . والمراد بالمتقين : المتصفون بمطلق التقوى ، لا بغايتها . { كانت } تلك الجنة { لهم } في علم الله تعالى ، أو في اللوح ، { جزاءً } على أعمالهم ، { ومصيراً } يصيرون إليه بعد الموت .
{ لهم فيها ما يشاؤون } من فنون الملاذ والمشتهيات ، وأنواع النعيم والخيرات ، كقوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } [ الزخرف : 71 ] ، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم ، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية . فلا يلزم الحرمان ، ولا تساوى أهل الجنان . حال كونهم { خالدين } لا يفنون ، ولا يفنى ما هم فيه ، { كان على ربك وعداً مسؤولاً } أي : موعوداً حقيقياً بأن يُسْأَلَ ويُطلب؛ لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون ، أو : مسؤولاً لا يسأله الناس في دعائهم ، بقولهم :
(4/279)

{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } [ آل عمرآن : 194 ] أو : تسأله الملائكة بقولهم : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] وما في " على " من معنى الوجوب ، لامتناع الخُلْفِ في عده تعالى ، فكأنه أوجبه على نفسه؛ تفضيلاً وإحساناً . وفي التعرض لعنوان الربوبية؛ مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ؛ من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى . قاله أبو السعود .
الإشارة : تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك ، وهي جنة المعارف المعجلة ، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب ، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها ، ثم ترحل عنها ، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين ، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان ، وهو العكوف في حضرة الإحسان . بل كذَّبوا بالساعة ، أي : من تنكب عن هذا الخير الجسيم ، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة؛ من الانهماك في الدنيا ، والاشتغال بها عن زاد الآخرة . وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً ، أي : إحراقاً للقلب بالتعب ، والحرص ، والجزع والهلع ، والإقبال على الدنيا ، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً؛ غيظاً على طلابها ، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها ، وإذا ألقوا في أشغالها ، وضاق عليهم الزمان في إداركها ، دعَوا بالويل والثبور ، وذلك عند معاينة أعلام الموت ، والرحيل إلى القبور ، ولا ينفعهم ذلك . قل : أذلك خير أم جنة الخلد؟ وهي جنة المعارف التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم ، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم . لهم فيها ما يشاؤون؛ لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله ، كان على ربك وعداً مسؤولاً ، أي : مطلوباً للعارفين والسائرين . وبالله التوفيق .
(4/280)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قلت : " اتخذ " قد يتعدى إلى مفعول واحد ، كقوله : { أَمِ اْتَّخَذُوا ءَالِهَةً } [ الأنبياء : 8 ] ، وقد يتعدى إلى مفعولين ، كقوله : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } [ النساء : 125 ] فقرأ الجمهور : ( أن نَتَّخِذَ ) ؛ بالبناء لفاعل . وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول . فالقراءة الأولى على تعديته لواحد ، والثانية على تعديته لاثنين . فالأول : الضمير في ( نتخذ ) ، والثاني : ( من أولياء ) . و ( مِن ) : للتبعيض ، أي : ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك؛ لأن " من " لا تزاد في المفعول الثاني ، بل في الأول ، تقول : ما اتخذت من أحد وليّاً ، ولا تقول : ما اتخذت أحداً من ولي . وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره ، وهو محجوج؛ لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر .
يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { يوم نحشرهم } ، أو : يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب ، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة ، فيحشرهم { وما يعبدون من دون الله } ؛ من الملائكة والمسيح وعزير . وعن الكلبي : الأصنام؛ يُنطقها الله ، وقيل : عام في الجميع . و ( ما ) : يتناول العقلاء وغيرهم؛ لأنه أريد به الوصف ، كأنه قيل : ومعبودهم . { فيقول } الحق جل جلاله للمعبودين ، إثر حشر الكل؛ تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً : { أأنتم أَضْلَلْتُمْ عبادِي هؤلاء } ، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم ، { أم هم ضلُّوا السبيل } أي : عن السبيل بأنفسهم؛ بإخلالهم بالنظر الصحيح ، وإعراضهم عن الرشد .
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل : أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؛ لأن السؤال ليس عن نفس الفعل ، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له ، فلا بد من ذكره ، وإيلائه حرف الاستفهام؛ ليعلم أنه المسؤول عنه . وفائدة سؤالهم ، مع علمه تعالى بالمسؤول عنه؛ لأن يجيبوا بما أجابوا به؛ حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم ، فتزيد حسرتهم .
{ قالوا } في الجواب : { سبحانك } ؛ تعجيباً مما قيل ، لأنهم إما ملائكة معصومون ، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء ، أو : قصدوا به تنزيهه عن الأنداد ، ثم قالوا : { ما كان ينبغي لنا } أي : ما صح وما استقام لنا { أن نتخذ من دونك } أي : متجاوزين إياك ، { من أولياء } نعبدهم؛ لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك ، فضلاً أن يتخذونا أولياء ، أو : ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك ، { ولكن متَّعتهم وآباءهم } بالأموال والأولاد وطول العمر ، فاستغرقوا في الشهوات ، وانهمكوا فيها { حتى نَسُوا الذّكر } أي : غفلوا عن ذكرك ، وعن الإيمان بك ، واتباع شرائعك فجعلوا أسباب الهداية؛ من النعم والعوافي ذريعة إلى الغواية . { وكانوا } في قضائك وعلمك الأزلي ، { قوماً بوراً } ؛ هالكين ، جمع : بائر ، كعائذ وعوذ .
(4/281)

ثم يقال للكافر بطريق الالتفات : { فقد كَذَّبوكم بما تقولون } ، وهو احتجاج من الله تعالى على العبدة؛ مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم؛ على تقدير قول مرتب على الجواب ، أي : فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة : فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة ، { بما تقولون } أي : في قولكم : هؤلاء أضلونا . والباء بمعنى " في " ، وعن قنبل : بالياء ، والمعنى : فقد كذبوكم بقولهم : { سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } ، والباء حينئذٍ كقولك : كتبت بالقلم .
{ فما يستطيعون } ؛ فما يملكون { صَرْفاً } ؛ دفعاً للعذاب عنكم { ولا نصراً } أي : فرداً من أفراد النصر . والمعنى : فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم . وعن حفص بالتاء ، أي : فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم ، ولا نصر أنفسكم .
ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال : { ومن يَظْلِمْ منكم } ؛ يشرك؛ بدليل قوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] لأن الظلم : وضع الشيء في غير محله ، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً . أي : ومن يظلم منكم أيها المكلفون ، كدأب هؤلاء الكفرة ، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد ، واستمروا على الملاججة والفساد ، { نُذقْهُ } في الآخرة { عذاباً كبيراً } لا يقادر قدره ، وهو الخلود في النار ، والعياذ بالله .
الإشارة : كل من عشق شيئاً وأحبه من دون الله فهو عابد له ، فرداً أو متعدداً ، فيُحشر معه يوم القيامة ، فيقال لهم : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء ، أم هم ضلوا السبيل؟ فيتبرؤون منهم ، ويقولون : بل متعتهم بالدنيا ، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار ، أو عن الشهود والاستبصار ، حتى نسوا ذكر الله وكانوا قوماً بوراً . وقد ورد : ( أن الدنيا تُبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء ، فتنادي : أين أولادي؟ فيجمعون لها كرهاً ، فتقدمهم ، فتوردهم النار ) . وقوله تعالى : { ومن يظلم منكم } أي : يخرج عن حد الاستقامة في العبودية ، وشهود عظمة الربوبية ، نُذقه عذاباً كبيراً ، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام ، إلا وقتاً مخصوصاً مع العوام . وبالله التوفيق .
(4/282)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قلت : كُسرت ( إنَّ ) ؛ لأجل اللام في الخبر . والجملة بعد ( إلا ) : صفة لمحذوف ، أي : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف؛ اكتفاء بالجار والمجرور ، يعني من المرسلين ، وهو كقوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : وما منا أحد . وقيل : هي حال ، والتقدير : إلا وأنهم ليأكلون .
يقول الحق جل جلاله : في الجواب المشركين عن قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الأسواق } [ الفرقان : 7 ] ؛ تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا } وَصِفَتُهُمْ { إِنهم لَيأْكُلون } ؛ بشر يأكلون { الطعامَ } ، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم ، { ويمشون في الاسواق } في طلب حوائجهم ، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك ، { وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً } أي : محنة ، وهو التعليل لما قبله ، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة ، وفقراء من المال ، يمشون في الاسواق لطلب المعاش؛ ابتلاء ، وفتنة ، واختباراً لمن تبعهم ، من غير طمع ، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم ، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاءً لبعض؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا ، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالَفون ، لفعلت ، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم . ه .
فالحكمة في فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم ، وإظهار المزية لهم؛ حيث تبعوهم بلا حرف . قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم؛ لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيراً؛ لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا . ه .
قال في الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، على العموم في جميع الناس : مؤمن وكافر ، بمعنى : أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه . والفقير ممتحن بالغنى ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه ، وتوجه إليه من ذلك؛ لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر ، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم؛ فتنة للمؤمنين ، واختباراً لهم . ولمّا صبروا نزل فيهم : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا } [ المؤمنون : 111 ] . والحاصل : أن الله تعالى دبَّر خلقه ، وخص كلاَّ بما شاء ، من غِنى أو فقر ، أو علم أو جهل ، أو نبوة أو غيرها . وكذا سائر الخصوصيات؛ ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته ، ومن ينازعه في ذلك ، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك؛ فيكون شاكراً صابراً ، ومن لا ، وهو أعلم بحكمته في ذلك ، ولذلك قال : { وكان ربك بصيراً } .
(4/283)

ه .
وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عتبة ، والعاص ، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً ، وغيرهم من الفقراء المسلمين ، قالوا : أنسلم؛ فنكون مِثل هؤلاء؟ فنزلت الآية ، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ ه .
قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا ، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجِراً ، فرأى خصياً في مواكب ومراكب ، فخطر بباله شيء ، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية ، فقال : بل نصبر ، ربّنا . ه .
قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر ، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر . ه . وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة ، كما قال : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [ طه : 131 ] ، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض ، إلا لمن دونه ، كما ورد في الخبر . ه .
{ وكان ربك بصيراً } ؛ عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به ، أو : بمن يصبر ويجزع . وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل؛ لصبره الجميل ، مع مزيد تشريف له - عليه الصلاة والسلام -؛ بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم . ه .
الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا ، إلا قدر الحاجة ، بعد التوقف والاضطرار ، ابتداءً وانتهاء ، حتى تحققوا بالله . ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره . والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد ، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي ، في وسق من شعير . وعادته تعالى ، فيمن سلك هذا المسلك ، أن يُديل الغنى في عقبه ، فيكونون أغنياء في الغالب . والله تعالى أعلم .
وما وَصَف به الحق تعالى رسله؛ من كونهم يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، هو وصف للأولياء أيضاً - رضي الله عنهم -؛ فيمشون في الأسواق؛ للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار ، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه : عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا .
وكان شيخ أشياخنا - سيدي علي العمراني - يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق . ه . فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة ، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط؛ لئلا يتغير حاله في حال الخلطة؛ فيبقى ضعيفاً . فالعزلة تكون؛ ابتداء ، قبل دخول بلاد المعاني ، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة ، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة ، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء؛ والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء . فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء ، أهل الأحوال؛ مجاهدةً لنفوسهم ، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق ، والخوف منهم . وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ تشريفاً لأهل الأحوال ، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . . . } .
ومن آداب الداخل في السوق : أن يكون ماشياً على رجليه ، لا راكباً ، كما وصف الله تعالى الرسل - عليهم السلام . وفي قوله تعالى : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون } : تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء ، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان ، وإذاية الإخوان ، وجفوة الناس . وبالله التوفيق .
(4/284)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قلت : ( وقال ) : عطف على : ( وقالوا مال هذا الرسول . . . ) إلخ ، ووضع الموصول موضع الضمير؛ للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله - عز وجل - .
يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } أي : لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث ، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب ، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة .
والحاصل : أنهم يُنكرون البعث بالكلية ، فأطلق الرجاء على التوقع . وقيل : لا يخافون لقاءنا؛ لأن الرجاء في لغة تهامة : الخوف ، قالوا : { لولا } ؛ هلا { أنزل علينا الملائكةُ } رسلاً دون البشر ، أو : يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته ، { أو نرى ربَّنا } جهرة ، فيخبرنا برسالته ، ويأمرنا باتباعه ، وإنما قالوا ذلك؛ عناداً وعتواً .
قال تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم } أي : أضمروا الاستكبار ، وهو الكفر والعناد في قلوبهم ، أو : عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء ، { وعَتَواْ } أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان { عُتواً كبيراً } ؛ بالغاً أقصى غاياته ، أي : إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم؛ إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء ، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح . وهذا كقولهم : { وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ . . . } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] . ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة؛ فذهبوا في الاقتراح كل مذهب ، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية . واللام : جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد استكبروا . . الآية . وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه ، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ، ما لا يخفى .
{ يوم يَرَون الملائكةَ } عند الموت أو البعث . و { يوم } : منصوب باذكر ، أو بما دل عليه : { لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين } ؛ فإنه بمعنى : يُمنعون البشرى ، أو : لا يبشر المجرمون . انظر البيضاوي . والجملة : استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة ، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة . وإنما قيل : يوم يرون ، دون أن يقال : يوم تنزل؛ إيذاناً ، من أول الأمر ، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه ، بل على وجه آخر غير معهود . وتكرير ( يومئذٍ ) ؛ لتأكيد التهويل ، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام ، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط؛ فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم . وللمجرمين ) : تعيين على أنه مظهر ، وُضِعَ موضع الضمير؛ تسجيلاً عليهم بالإجرام ، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان .
{ ويقولون حِجْراً محجوراً } على ما ذكر من الفعل المنفي ، أي : لا يبشرون ، ويقولون . وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر ، وغاية هول مطلعه ، أي : يقولون ، عند مشاهدة ملائكة العذاب : حِجْراً محجوراً ، أي : منعاً ممنوعاً منكم ، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل ، أو هجوم نازلة هائلة ، يضعونها موضع الاستعاذة ، فكأن المعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً ، ويحجره عنا حجراً .
(4/285)

والمعنى : أنهم يطلبون نزول الملائكة - عليهم السلام - ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة ، وفزعوا منهم فزعاً شديداً . وقالوا ، عند رؤيتهم ، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع .
وقيل : هو قول الملائكة ، أي : تقول الملائكة للمجرمين ، حين يرونهم : حِجْراً محجوراً ، أي : حراماً محرماً عليكم البشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم ، إنما البشرى للمؤمنين . و ( الحجر ) : مصدر ، يُفتح ويكسر ، وقرئ بهما . من حَجَرَهُ؛ إذا منعه . وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها . ومحجوراً : لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا : موت مائت . وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على " حِجْراً "؛ فلعله الأوجه له .
ثم ذكر مآل أعمالهم ، فقال : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } الهباء : شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس ، يطلع من كُوَّة . والقدوم هنا : مجاز . مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم؛ من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقِرى ضيف ، وعِتقٍ ، ونحو ذلك ، بحال من خالف سلطانه ، فقدم إلى أشيائه ، وقصد إلى ما تحت يديه ، فأفسدها ، ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً ، أي : عمدنا إليها وأبطلناها ، أي : أظهرنا بطلانها بالكلية ، من غير أن يكون هناك قدوم . والمنثور : المفرّق ، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع .
ثم ذكر ضدهم ، فقال : { أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً } أي : مكاناً يستقرون فيه ، والمستقر : المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات ، للتجالس والتحادث ، { وأحسن مَقِيلاً } : مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم . ولا نوم في الجنة ، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً؛ على طريق التشبيه . ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار .
وقال سعيد الصواف : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس ، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس .
وقرأ هذه الآية . ه . وأما الكافر فيطول عليه ، كما قال تعالى : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] .
قال أبو السعود : وفي وصفه بزيادة الحسن ، مع حصول الخيرية ، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف . والتفضيل المعتبر فيهما : إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي : هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا ، أو إلى ما لهم في الآخرة ، بطريق التهكم بهم ، كما مرّ في قوله : { أذلك خير .
(4/286)

. . } الآية . ه .
الإشارة : هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها ، وهي الإيمان بالله ، والإخلاص ، والخضوع لمن يدل على الله ، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله . ولذلك قال تعالى في وصفهم - الذي منعهم من شهوده تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً } أي : ولو صغروا في أنفسهم ، وخضعوا خضوعاً كبيراً؛ لحصل لهم ما طلبوا ، ولبُشروا بما أملوا ، وفي ذلك يقول الشاعر :
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى؛ فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ ... إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
تذلَّلْ لَهُ؛ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ ... فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ
وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه ، حين قام يصلي بالليل : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار . وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام ، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً ، فدخلت وقلت : هلموا إلى ربكم . أو كما قال .
وفي قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ . . . } الخ ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال ، والترهيب من الرياء والعجب ، الموجبان لإحباط الأعمال . وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات ، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء ، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه ، واضربوا به وجهه؛ إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس ، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية ، فيقول الملك : ردوه؛ إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة فيقول الملك : ردوه؛ إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة فيقول الملك : ردوه؛ إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم ، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة ، فيقول الملك : ردوه؛ إنه كان لا يرحم إنساناً قط بل كان يشمت بمن وقع في بلاء أنا ملك الرحمة أمرني ألا يجاوزني عمله . ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة فيقول الملك : ردوه؛ إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد؛ من صلاة ، وذكر ، وتفكر ، وحسن خلق ، فيقفون بين يدي الله ، ويشهدون له بالصلاح ، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرقيب على قلبه ، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل ، أراد به غيري ، فعليه لعنتي ، ثم تلعنه الملائكة والسموات . وانتهى باختصار ، وخرجه المنذري . وتكلم في وضعه . وبالله التوفيق .
(4/287)

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قلت : ( المُلْكُ ) : مبتدأ ، و ( الحق ) : صفته . و ( للرحمن ) : خبر ، و ( يومئذٍ ) : ظرف للاستقرار .
يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { يوم تشَقَّقُ } أي : تنفتح ، فمن قرأ بالتخفيف : حذف إحدى التاءين ، وأصله : تتشقق . ومن شد : أدغم التاء في الشين ، أي : تنشق { السماءُ بالغمام } أي : عن الغمام ، فتنزل ملائكة السموات في تلك الغمام؛ ليقع الفصل بين الخلائق ، وهو المراد بقوله تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْملاَئِكَةُ } [ البقرة : 65 ] . قيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ، ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم .
{ ونُزِّلَ الملائكةُ تنزيلاً } عجيباً غير معهود . رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً ، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام ، وفي أيديها صحائف أعمال العباد ، فيفصل الله بين خلقه ، ولذلك قال : { الملكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمن } أي : السلطنة القاهرة ، والاستيلاء العام ، الثابت؛ الذي لا زوال له أصلاً ، هو للرحمن وحده؛ لأن كل ملْك يزول يومئذٍ ، ولا يبقى إلا ملكه .
وفائدة التقييد ، مع أن الملك لله في الدنيا والآخرة؛ لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق؛ مجازاً ، ويكون له تصرف صوري ، بخلاف يوم القيامة ، ينقطع فيه الدعاوي ، ويظهر الملك لله الواحد القهار ، { وكان يوماً على الكافرين عسيراً } أي : وكان ذلك اليوم ، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة ، { عسيراً } أي : صعباً ، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين ، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً ، بفضل الله تعالى . وقد جاء في الحديث : أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة ، صلَّوْهَا في الدنيا . ففي حديث أبي سعد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } ، قلت : يا رسول الله ، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة ، يصليها في الدنيا " .
{ و } اذكر أيضاً { يوم يَعَضُّ الظالمُ على يديه } ؛ ندماً وتحسراً ، فعض اليد والأنامل : كناية عن شدة الغيظ والحسرة؛ لأنها من روادفها ، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف ، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة ، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه .
والمراد بالظالم : إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط ، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقدم من سفر وصنع طعاماً ، فدعا إليه أشرف قومه ، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قُرِّب الطعام ، قال النبي صلى لله عليه وسلم : " ما أنا بآكل من طعام ، حتى تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله " فقال عقُبة : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
(4/288)

فأكل النبي صلى الله عليه وسلم طَعَامه ، وكان أُبي بن خلف غائباً فلما أُخبر ، قال له : صَبأتَ يا عُقبة؟ فقال : لاَ ، والله ما صبأتُ ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له ، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم ، فَشَهِدْتُ لَهُ ، فطعم ، فقال : ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً ، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ ، وتَطَأَ عُنقه ، فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم سَاجِداً ، فَفعَل ذَلِكَ ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ألْقَاكَ خَارجاً من مَكَّةَ إلا عَلَوْتُ رأسَكَ بالسيفِ " فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ؛ صبراً . وأما أُبيُّ فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، يوم أُحُد ، في المبارزة ، طعنه في عنقه ، فمات بمكة .
وعن الضحاك : لما بَصَقَ عقبة - بأمر أبي - في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ، رجع بُصَاقُهُ في وجهه ، وشوى وجهه وشفتيه ، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه ، فلم يزل في وجهه حتى قتل ، وقتله علي ببدر بأمره صلى الله عليه وسلم بقتله . ه . وقال الشعبي : كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف ، فأسلم عقبة ، فقال أُبيّ : وجهي من وجهك حرام ، أنْ تابعت محمداً ، فارتدَّ؛ لرضا صاحبه ، فنزلت الآية . ه .
وإمَّا جنس الظالم ، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً .
{ يقول يا ليتني } ، الياء لمجرد التنبيه ، من غير تعيين المنبّه ، أو : المنبه محذوف ، أي : يا هؤلاء { ليتني اتخذت } في الدنيا { مع الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم { سبيلاً } أي : طريقاً مُنجياً من هذه الورطات ، وهي طريق الإسلام ، ولم أكن ضالاً ، أو : طريقاً إلى الجنة ، { يا وَيْلَتَي } ، بقلب ياء المتكلم ألفاً ، كما في صَحَارَى وعذارَى . وقرئ بالياء على الأصل ، أي : يا هَلَكَتِي ، تَعَاليّ؛ هذا أَوَانَكِ ، { ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } ، فلان : كناية عن الإعلام ، فإن أريد بالظالم عقبة ، فالمعنى : لم أتخذ أبيّاً خليلاً ، فكنى عن اسمه ، وإن أريد به الجنس ، فهو كناية عن علم كل من يضله ، كائناً من كان ، من شياطين الإنس والجن . وقيل : هو كناية عن الشيطان .
ثم قال : { لقد أضلني عن الذِّكْرِ } ؛ عن ذكر الله ، أو : القرآن ، أو : الإيمان ، أو موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو كلمة الشهادة . وتصديره بلام القسم؛ للمبالغة في بيان خطئه ، وإظهار ندمه وحسرته ، أي : والله لقد أضلني عن الذكر { بعد إِذا جاءني } من الله ، وتمكنت منه . { وكان الشيطانُ للإِنسان خذولاً } أي : مبالغاً في الخذلان ، حيث يواليه من يؤديه إلى الهلاك ، ثم يتركه ولا ينفعه ، وهو الحامل له على مخاللة المضِل ومخالفة الرسل . وقيل : المراد به خليله أُبيّ ، وسماه شيطاناً؛ لأنه أضله كما يضله الشيطان . والله تعالى أعلم .
(4/289)

الإشارة : في الآية تحريض على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وشد اليد علىلتمسك بسنته ، والاهتداء بهديه ، واتباع ما جاء به ، قبل أن تقول : يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً . وفيها أيضاً : الترغيب في صحبة الأبرار ، والترهيب من صحبة الفجار ، وأنشد بعض الحكماء :
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ ... فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ ... تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا ... إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ
وقال آخر :
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ ... خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا
وَالنَّاسُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها ... فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا
وفي حديث أبي موسى رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الجليس الصَّالح مَثَلُ العَطَّارِ ، إنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْره يَعْلق بك مِنْ رِيحِه . ومَثَل الجَلِيس السُّوء مَثَلُ الكِيِر ، إن لم يَحْرِق ثِيابَكَ يَعْلق بك مِن رِيحِه " وقال في الحِكَم : " لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله ، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ " . فإنهاض الحال هو ذكر الله عند رؤيته ، والانحياش إليه بالقلب عند صحبته . ودلالة المقال على الله هو زجه في الحضرة بلا تعب ، بان يرفع بينه وبين ربه الحُجُبَ ، ويقول له : ها أنت وربك . وهذه حال الصوفية العارفين بالله ، وقد وصفهم بعض العلماء ، فقال : الصوفي من لا يعرف في الدارين أحداً غير الله ، ولا يشهد مع الله سوى الله ، قد سخر له كل شيء ، ولم يُسخر هو لشيء ، يسلط على كل شيء ، ولم يسلط عليه شيء ، يأخذ النصيب من كل شيء ، ولم يأخذ النصيب منه شيء ، يصفو به كدر كُلِّ شيء ، ولا يكدر صَفْوَه شيء ، قد أشغله واحد على كل شيء ، وكفاه واحد من كل شيء . ه .
قال في التنبيه : وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد مالا يحصل له بغيرها؛ من فنون المجاهدات وأنواع المكابدات ، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل ، ولا يحيط به عالم ناقل . ه . وفي شانهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه :
فَشَمِّرْ وَلُذْ بالأوْلياءِ؛ فإِنهُمْ ... لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تِلْكَ الوَقَائِعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلْمَلهُوفِ ، والكَنْزُ للرَّجَا ... وَمِنهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ ما هُوَ طَامِعُ
بِهِم يَهْتَدِي لِلْعَينْ مَنْ ضَلَّ فِي الْعَمَى ... بِهمْ يُجْذَبُ العُشَّاقُ ، والرَّبْعُ شَاسِعُ
هُمُ القَصْدُ ، والمطْلُوبُ ، والسُؤْلُ ، والمُنَى ... واسْمُهُمُ للصَّبِّ ، فِي الحُبِّ شَافِعُ
هُمُ النَّاسُ ، فَالْزَمْ إِنْ عَرَفْتَ جَنابَهُمْ ... فَفيهمْ لِضُرِّ العَالَمِينَ مَنَافِعُ
وقال الجنيد رضي الله عنه : إذا أراد الله بالمريد خيراً ألقاه إلى الصوفية ، ومنعه صحبة القراء . وقال سهل رضي الله عنه : احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس : الجبابرة الغافلين ، والقراء المداهنين ، والمتصوفة الجاهلين . ه . وقال حمدون القصار رضي الله عنه : ( اصحب الصوفية؛ فإن للقبح عندهم وجوهاً من المعاذير ، وليس للحُسْنِ عندهم كبير موقع يعظمونك به ) ؛ إشارة إلى أن العجب بالعمل منفي في صحبتهم .
(4/290)

وقال سيدنا علي رضي الله عنه : شر الأصدقاء : من أحوجك إلى المداراة ، وألجأك إلى الاعتذار .
وقال أيضاً : شر الأصدقاء من تُكُلِّف له . ه . وليوسف بن الحسين الداراني رضي الله عنه :
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي ... فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي
يوافقني في كل أمر أحبه ... ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي
فمن لِي بهذا ، ليتني قد وَجَدْتُه ... فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ
والحاصل من هذا؛ أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها كمال الانتفاع للصاحب ، دون من عداهم من المنسوبين إلى الدين والعلم؛ لأنهم خُصوا من حقائق التوحيد والمعرفة بخصائص ، لم يساهمهم فيها أحد سواهم . وسريان ذلك من الصاحب إلى المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب ، فقد قيل : مَنْ تَحَقَّقَ بِحَالَةٍ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُوهُ مِنْهَا . انتهى من التنبيه . وبالله التوفيق .
(4/291)

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
قلت : ( وقال الرسول ) : عطف على : ( وقال الذين لا يرجون . . ) ، وما بينهما : اعتراض؛ لبيان قبح ما قالوا ، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب .
يقول الحق جل جلاله : { وقال الرسولُ } ؛ محمد صلى الله عليه وسلم ، وإيراده بعنوان الرسالة؛ للرد في نحورهم ، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً في رسالته صلى الله عليه وسلم ، أي : قال ، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان ، شاكياً إلى ربه - عز وجل : - { يا ربِّ إِن قومي } ، يعني : قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع ، { اتخذوا هذا القرآنَ } ، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب ، { مهجوراً } أي : متروكاً بالكلية ، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً ، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده ، وهو من الهجران ، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن؛ لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم . قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَعَلَّم القُرْآن؛ فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ ، يَقُولُ : يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً ، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ " .
وقيل : هو من هجر؛ إذا هذى ، أي : قالوا فيه أقاويل باطلة ، كالسحر ، ونحوه ، أو : بأن هجروا فيه إذا سمعوه ، كقولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] ؛ أي : مهجوراً فيه .
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى ، فإن الأنبياء - عليهم السلام - إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب ، ولم يُنظروا .
ثم أقبل عليه؛ مسلياً ، وواعداً لنصره عليهم ، فقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين } ؛ فتسلّ بهم ، واقْتَدِ بمن قبلك من الأنبياء ، فَمِنْ هنا سَاروا . أي : كما جعلنا لك أعداء من المشركين ، يقولون ما يقولون ، ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل ، جعلنا لكل نبي من الأنبياء ، الذين هم أصحاب الشرائع والدعوة إليها ، عدواً من مجرمي قومِهم ، فاصبر كما صبروا؛ فإن الله ناصرك كما نصرهم . { وكفى بربك هادياً ونصيراً } ، وهو وعد كريم بالهداية له إلى مطالبه ، والنصر على أعدائه ، أي : كفاك مالِكُ أمرِك ومُبَلغك إلى غاية الكمال ، هادياً إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات ، التي من جملتها : تبليغ الكتاب ، وإجراء أحكامه إلي يوم القيامة . أو : وكفى بربك هادياً لك إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ، وناصراً لك عليهم . والعدو : يجوز أن يكون واحداً وجمعاً ، والباء زائدة ، و { هادياً ونصيراً } : تمييزان . والله تعالى أعلم .
الإشارة : من السنة التي أجراها الله تعالى في خواصه : أن يكون جيرانهم وأقاربهم أزهد الناس فيهم ، وأقواهم عليهم ، وأعدى الناس إليهم . وفي الأثر : " أزْهَدُ النَّاس في العَالِم جِيرانُهُ " فلا ينتفع بالولي ، في الغالب ، إلا أبعدُ الناس منه ، وقلَّ أن تجد ولياً عُمِّرَ سُوقُهُ في بلده ، فالهجرة سنة ماضية ، ولن تسجد لسنة الله تبديلاً . وكما جعل لكل نبي عدواً جعل لكل ولي عدواً ، فلا بد للولي أن يبقى له من يحركه إلى ربه بالإذاية والتحريش ، إما من جيرانه ، أو من نسائه وأولاده؛ ليكون سيره بين جلاله وجماله ، وكفى بربك هادياً ونصيراً .
(4/292)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين كفروا } يعني : قريشاً ، وهم القائلون : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] ، والتعبير عنهم بعنوان الكفر؛ لذمهم ، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم ، قالوا : { لولا نُزِّل عليه القرآنُ } ، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ ، وإلا كان متدافعاً؛ لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته ، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة ، أي : هلاَّ أنزل القرآن ، حال كونه { جملةً واحدةً } أي : دفعة واحدة في وقت واحد ، كما أنزلت الكتب الثلاثة ، وماله أنزل مفرقاً في سنين؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ، ودليل كونها من عند الله ، إعجازُها ، وأما القرآن الكريم ، فبينة صحته ، ودليل كونه من عند الله ، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور ، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً ، على أن له فوائد أخرى ، قد أشير إلى بعض منها بقوله : { كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك } ؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى؛ لرد مقالتهم الباطلة ، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي . قاله أبو السعود .
أي : أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة ، أو ثلاث وعشرين؛ لنثبت به فؤادك ، ونقوي به يقينك ، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب ، وازداد اليقين ، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين . قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل - عليه السلام - بالرسالة في كل وقت وحين . وكثرة نزوله كان أوجبَ؛ لسكون قلبه ، وكمال رَوْحه ، ودوام أُنْسه ، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة ، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة ، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره ، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً . ه .
وقال القرطبي بعد كلام : أيضاً : لو أنزل جملة ، بما فيه من الفرائض؛ لثقل عليهم ، وأيضاً : في تفريقه تنبيه لهم ، مرة بعد مرة ، وهو أنفع لهم ، وأيضاً فيه ناسخ ومنسوخ ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه ، وهو لا يصح . ه . وقال النسفي : لنقوي ، بتفريقه ، فؤادك؛ حتى تعيه وتحفظه؛ لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء ، وجزءاً عقب جزء ، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه . أو : لنُثبت به فؤادك عن الضجر؛ وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول؛ لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب . ه .
{ ورتلناه ترتيلا } أي : كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً ، أي : قدرناه آية بعد آية ووقفة عقب وقفة ، وأمرنا بترتيل قراءته ، بقولنا : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أو : فصلناه تفصيلاً ، أو : بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبيت .
(4/293)

{ ولا يأتونك بمَثَلٍ } ؛ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة ، واقتراحاتهم الفاسدة الخارجة عن دائرة العقول ، الجارية لذلك مجرى الأمثال ، { إلا جئناك بالحقِّ } ؛ إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه ، الذي ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال ، كما مر من الأجوبة الحقية ، القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة ، الدامغة لها بالكلية . وجئناك بأحسن { تفسيراً } أي : بيانأ وتفصيلاً ، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته ، لا أن ما يأتون به حَسَنٌ ، وهذا أحسن منه ، وإنما المعنى : لا يسألونك عن شيء غريب إلا جئناك بما يبطله وما يكشف معناه ، ويفسره غاية التفسير .
ثم ذكر مآل الكفرة المقترحين لهذه الشُّبَهِ ، فقال : { الذين يُحشرون على وجوههم إلى جهنم } أي : يُحشرون كائنين على وجوههم ، يُسبحون عليها ، ويجرون إلى جهنم . وقيل : مقلوبين؛ وجوههم إلى قفاهم ، وأرجلُهم فوق ، { أؤلئك شرٌّ مكاناً } أي : مكانة ومنزلة ، أو : مسكناً ومنزلاً ، { وأضلُّ سبيلا } ؛ وأخطأ طريقاً .
ونزلت الآية لَمَّا قالوا : إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً . وقيل : المعنى : إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال ، ومكانه حقير ، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم ، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً ، وأضل سبيلاً . والله تعالى أعلم .
الإشارة : تثبيت القلوب على الإيمان ، وتربية اليقين ، يكون بصحبة الأبرار ورؤية العارفين الكبار ، والترقي في معاريج التوحيد ، إلى أن يفضي إلى مقام العيان ، يكون بعقد الصحبة مع أهل التربية ، وخدمتهم وتعظيمهم ، حتى يوصلوه إلى ربه . ومن شأنهم أن الله يدافع عنهم ، ويجيب من سألهم تشغيباً ، فيلهمهم الجواب ، فضلاً منه ، فلا يُسألون عن شيء إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً ، ثم هدد من صغَّرهم وحقَّر شأنهم بقوله : { الذين يُحشرون . . . } الآية . والله تعالى أعلم .
(4/294)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
يقول الحق جل جلاله : { ولقد آتينا موسى الكتاب } ؛ أُنزل عليه جملة ، ومع ذلك كفروا وكذبوا به ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ موسى مِن قَبْلُ } [ القصص : 48 ] ، فكذلك هؤلاء ، لو نزل جملة ، كما اقترحوا ، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك . { وجعلنا معه أخاه هارونَ وزيراً } ، فأخاه : مفعول أول لجعل ، و ( وزيراً ) : مفعول ثان ، أي : جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً . والوزير : من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه ، من الوزَر ، وهو الملجأ .
والوزارة لا تنافي النبوة؛ فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء ، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً . أو : يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً .
{ فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياتنا } أي : فرعون وقومه . والمراد بالآيات : التسع الظاهرة على يد موسى عليه السلام ، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة؛ لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها ، بل إنما وُصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بياناً لعلة استحقاقهم ، لما حكي بعده من التدمير . أي : فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها ، فكذبوهما تكذيباً مستمراً ، { فدمَّرناهم } إثر ذلك { تدميراً } عجيباً هائلاً ، لا يقادر قدره ، ولا يدرك كنهه . فاقتصر على حاشيتي القصة؛ اكتفاء بما هو المقصود . انظر أبا السعود .
الإشارة : أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمُعين . قال تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } [ المائدة : 2 ] ، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله ، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله . فإن وُجد وَليّ لا إخوان له ، ولا أولاد ، فلا يكون إلا غالباً عليه القبض ، مائلاً لجهة الجذب ، فيقل الانتفاع به ، ولا تحصل التوسعة للوَلي إلا بكثرة الأصحاب والإخوان ، يعالجهم ويصبر على جفاهم ، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته . وبالله التوفيق .
(4/295)

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
قلت : ( وقوم ) : منصوب بمضمر يدل عليه ( دمرناهم ) ، أي : ودمرنا قوم نوح ، و ( عاداً وثموداً ) : عطف على ( قوم نوح ) .
يقول الحق جل جلاله : { و } دمرنا أيضاً { قومَ نوحٍ } ، وذلك أنهم { لمَّا كذَّبوا الرسلَ } ؛ نوحاً ، ومن قبله شَيْثاً وإدريس ، أو : لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع؛ لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام ، { أغرقناهم } بالطوفان ، { وجعلناهم } أي : وجعلنا إغراقهم أو قصتهم { للناس آية } : عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها .
{ وأَعْتَدنا } ؛ هيأنا { للظالمين } أي : لهم . وأظهر في موضع الإضمار؛ للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم ، أو لكل ظالم ظلم شرك ، فيدخل كل من شاركهم ، كقريش وغيرهم ، أي : هيأنا { عذاباً أليماً } ، أي : النار المؤبدة عليهم .
{ و } دمرنا أيضاً { عاداً وثموداً } ، وقد تقدم في الأعراف ، وهو كيفية تدميرهم . { وأصحابَ الرَّسّ } ، هم قوم شعيب؛ قال ابن عباس : أصحاب الرسّ : أصحاب البئر . قال وهب : كانوا أهل بئر ، قعوداً عليها ، وأصحابَ مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله إليهم شعيباً ، فآذوه ، وتمادوا في طغيانهم فبينما هم حول البئر - والبئر في وسط منازلهم - انهارت بهم وبديارهم ، فهلكوا جميعاً . وقال قتادة : الرسُّ : قرية بفَلْح اليمامة ، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله . وقيل : هم بقية قوم هود وقوم صالح ، وهو أصحاب البئر ، التي قال : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] .
وقال سعيد بن جبير وغيره : قوم كان لهم نبي ، يقال له : حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل ، يقال له : فتخ ، مَصْعَدُه في السماء ميل ، وكانت العنقاء تنتابه ، وهي كأعظم ما يكون من الطير ، وفيها من كل لون - وسموها العنقاء؛ لطول عنقها - وكانت تنقض على الطير فتأكلها ، فجاعت ذات يوم ، فانقضت على صبي فذهبت به ، - وسميت عنقاء مغرب؛ لأنها تُغّرِّبُ ما تأكله عن أهله فتأكله - ثم انقضت على جارية قد ترعرعت ، فأخذتها فطارت بها ، فشكوا إلى نبيهم ، فقال : اللهم خذها واقطع نسلها ، فأصابتها صاعقة ، فاحترقت ، فلم يُر لها أثر ، فصارت مثلاً عند العرب . ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكم الله . وقال مقاتل والسدي : هم أصحاب بئر إنطاكية ، وتسمى الرس ، قتلوا فيها حبيباً النجار ، فنُسبوا إليها ، وهم الذين ذُكروا في ( يس ) . وقيل هم أصحاب الأخدود الذين حفروه ، والرسُّ في كلام العرب : كل محفور؛ مثل البئر ، والقبر ، والمعدن ، وغير ذلك ، وجمعها : رساس . وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود ، وذلك أن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد ، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم ، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم ، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره ، ويبيعه ، ويأتيه بطعامه ، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ .
(4/296)

فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذا نام فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده . وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ ، ومات ذلك النبي ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة " ، يعني من قومه . ه . وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها ، إلا أن يكون أحدثوا شيئاً بعد نبيهم ، فدمرهم الله .
وقال جعفر بن محمد عن أبيه : أن أصحاب الرسّ : السحّاقات ، قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ ، والنساءُ بالنساءِ " ، وذلك السحاق ، ويقال له أيضاً : المساحقة ، وهو حرام بالإجماع . وسبب ظهوره : أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط ، حتى استغنوا عن النساء ، فبقيت النساء معطلة ، فجاءتهن شيطانة في صورة إمرأة ، وهي الوَلِهات بنت إبليس ، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً ، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك ، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل ، وخسفاً من آخر الليل ، وصيحة مع الشمس ، فلم يبق منهم بقية . ه .
{ وقُُروناً } أي : دمرنا أهل قرون . والقرن سبعون سنة ، وقيل : أقل ، وقيل : أكثر ، { بين ذلك } أي : بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف ، { كثيراً } ، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير ، { وكلاً } من الأمم المذكورين قد { ضربنا له الأمثالَ } أي : بيَّنا له القصص العجيبة ، الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي ، بواسطة الرسل . وقيل : المراد : تبيين ما وقع لهم ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائِهِمْ من عذاب الله وتدميرهم إياهم ليكون عبرة لمن بعدهم ، { وكلاً } أي : وكل واحد منهم { تَبَّرنا تتبيراً } أي : أهلكنا إهلاكاً عجيباً . والتتبير : التفتيت . قال الزجاج : كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته .
ثم بيّن بعض آثار الأمم المُتَبَّرَةِ ، فقال : { ولقد أَتَوْا } يعني : أهل مكة { على القرية } ، وهي سدوم ، وهي أعظم قرى قوم لوط ، وكانت خمساً ، أهلك الله أربعاً ، وبقيت واحدة ، كان أهلها لا يعملون الخبيث ، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة ، وإليه أشار بقوله : { التي أُمطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } أي : أمطر الله عليها الحجارة . والمعنى : والله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها الله ، وبقي آثارها خاربة ، { أَفَلَمْ يكونوا يرونها } في مرورهم ورجوعهم فيتفكرون ويؤمنون ، { بل كانوا لا يرجون نُشُوراً } أي : بل كانوا قوماً كفرة بالبعث ، لا يخافون ولا يأملون بعثاً ، كما يأمله المؤمنون؛ لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم . أو : بل كانوا قوماً كفرة بالبعث ، منهمكين في الغفلة ، يرون ما نزل بالأمم أمر اتفاقياً ، لا بقدرة الباقي ، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للمؤمن العاقل ، المشفق على نفسه ، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة ، ويتأمل في سبب هلاكهم ، فيشد يده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك ، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان؛ فيشد يده على متابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي ، ويرغب فيما رَغَّب فيه ، ويهتدي بهديه ، ويقتدي بسنته ، ويربي إيمانه ، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه ، فهذه طريق النجاة .
(4/297)

وينبغي للمريد ، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره ، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها ، فيبحث عن سبب رجوعه ، ويجتنبه جهد استطاعته . ومرجعها إلى ثلاث : خروجه من يد شيخه إلى غيره ، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه؛ بسبب اعتراض أو غيره ، واستعمال كثرة الأحوال ، حتى يلحقه الملل . نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه .
(4/298)

وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
يقول الحق جل جلاله : { وإِذا رَأَوْكَ } أي : مشركو مكة { إِن } ؛ ما { يتخذونَك إلا هُزُواً } أي : مهزوءاً بك ، أو محل هزء ، حال كونهم قائلين : { أهذا الذي بعثَ الله رسولاً } ، ورسولاً ، حال من العائد المحذوف ، أي : هذا الذي بعثه الله رسولاً ، والإشارة؛ للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة ، مع كونهم في غاية الإنكار لهما؛ على طريق الاستهزاء ، وإلا لقالوا : أبعث الله هذا رسولاً .
{ إن كاد لَيُضلُّنا عن آلهتنا } أي ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً ، والعدول إلى الإضلال؛ لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي . { لولا أن صبرنا عليها } لصرفنا عنها ، وهو دليل على مجاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوتهم ، وإظهار المعجزات لهم ، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام ، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم . قال تعالى : { وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذابَ } الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم ، { من أضلُّ سبيلاً } ، وأخطأ طريقاً . وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل .
{ أرأيتَ من اتخذ إلهَهُ هَواهُ } أي : أطاع هواه فيما يذر ويفعل ، فصار معبوده هواه ، يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه ، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر ، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني . وقال الحسن : هو في كل متبع هواه . { أفأنت تكون عليه وكيلاً } ؛ حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه . والفاء؛ لترتيب الإنكار على ما قبله ، كأنه قيل : أَبَعْدَمَا شاهدت من غلوه في طاعة الهوى ، وعتوه عن اتباع الهدى ، تقهره على الإيمان ، شاء أو أبى ، وإنما عليك التبليغ فقط .
{ أم تَحْسَبُ أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } ، " أم " : منقطعة ، بمعنى بل ، أي : بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع ، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ { إنْ هم كالأنعام } أي : ما هم ، في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات ، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات ، إلاّ كالبهائم ، التي هي غاية في الغفلة ، ومَثل في الضلالة ، { بل هم أضلُّ سبيلاً } ؛ لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وتأوي إلى معاطنها ، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، الذي هو أعدى عدوهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب ولا يهتدون الحق الذي هو الشرع الهني ، والمورد العذب الروي ، ولأنها ، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير ، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر ، بخلاف هؤلاء؛ حيث مهَّدوا قواعد الباطل ، وفرعوا أحكام الشرور ، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها ، لا تتعدى إلى أحد ، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد ، وصد الناس عن سنَن السداد ، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال ، لعدم القوى العقلية ، فلا تقصير من قبلها ، ولا ذم ، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية ، مستحقون بذلك أعظم العقاب ، وأشد النكال .
(4/299)

ه . وأصله للبيضاوي .
الإشارة : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله ، ويوصل إلى رضوان الله ، ويدخل العبد على مولاه؛ لأنه باب الله الأعظم ، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده فمن عظَّمه صلى الله عليه وسلم وبجّله وخدمه أتم الخدمة ، أدخله الحضرة ، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال . ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه؛ كمن دخل حضرة الملك بالتسور ، فيستحق القتل والطرد والبُعد . وإدخاله على الله : دلالته على من يعرفه بالله ، وقد يوصله بلا واسطة ، لكنه نادر . ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده ، وانسحب عليه قوله : { وإِذا رأوك إِن يتخذونك إلا هزوا } وكا ممن اتخذ إلهه هواه ، وكان كالبهائم ، أو أضل؛ لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هَواه تَبِعاً لما جئتُ به " وبالله التوفيق .
(4/300)

أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
يقول الحق جل جلاله : { ألم تَر } يامحمد { إلى رَبّكَ } أي : ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده . والتعرض لعنوان الربوبية ، مع الإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - ، لتشريفه وتبجيله ، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته ، { كيف مَدَّ الظِّلَّ } أي : بسطه حتى عمَّ الأرض ، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس ، في قول الجمهور؛ لأنه ظل ممدود ، لا شمس معه ولا ظلمة ، فهو شبيه بظل الجنة . وقيل : مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار؛ من شجر ، أو مدر ، أو إنسان ، ثم قبضها وردها إلى المشرق . { ولو شاء لجعله ساكناً } أي : دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس ، أو : لا ينتقص بسيرها . { ثم جعلنا الشمسَ عليه } أي : على الظل { دليلاً } ، لأنه بالشمس يُعرف الظل ، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل ، ولا ظهر له أثر ، فالأشياء تُعرف بأضدادها .
{ ثم قبضناه } أي : أخذنا ذلك الظل الممدود { إلينا } ؛ إلى حيث إرادتنا { قَبْضاً يسيراً } أي : على مهل قليلاً قليلاً ، حسب ارتفاع دليله ، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها .
{ وهو الذي جعلَ لكم الليلَ لباساً } أي : جعل الظلام الساتر كاللباس { والنوم سباتاً } أي : راحة لأبدانكم ، وقطعاً لأعمالكم . والسبت : القطع ، والنائم مسبوت؛ لأنه انقطع عمله وحركته ، وقيل السبات : الموت ، والميت مسبوت؛ لأنه مقطوع الحياة ، كقوله : { وَهُوَ الذى يَتَوَفَّاكُم باليل } [ الأنعام : 60 ] . ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله : { وجعل النهار نُشُوراً } أي : ذا نشور ، أي : انبعاث من النوم ، كنشور الميت ، أو : ينشر فيه الخلق للمعاش .
وهذه الآية ، مع دلالتها على قدرته تعالى ، فيها إظهار لنعمته تعالى؛ لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية ، وفي النوم واليقظة - المشبهين بالموت والبعث - عبرة للمعتبرين . قال لقمان لابنه : كما تنام فتوقظ ، كذلك تموت فتنشر .
{ وهو الذي أرسل الرياحَ } ، وعن المكي بالإفراد ، { نشراً } : جمع نشور ، أي : أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر ، { بين يدي رحمته } أي : أرسلها قدام المطر ، لأنه ريح ، ثم سحاب ، ثم مطر . وقرأ عاصم الباء ، أي : مبشرات بالمطر . { وأنزلنا من السماء ماءً طَهُوراً } أي : مطهراً بالغاً في التطهير ، كقوله : { لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ } [ الأنفال : 11 ] وهو اسم لما يتطهر به ، كالوضوء والوقود ، لِمَا يتوضأ به ويوقد به . وقيل : طهور في نفسه ، مبالغة في الطاهرية ، فالطهور في العربية يكون صفة ، كما تقول : ماء طهور ، واسماً ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " التراب طهور ، والمؤمن طهور " وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة ، كقولك : تطهرت طهوراً حسناً ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة إلا بطهور " ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك؛ ليكون أبلغ في النعمة ، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته ، أي : أنزلناه كذلك .
(4/301)

{ لنُحيي به } أي : بالمطر الطهور { بلدةً ميتاً } بالجدب والقحط ، فحييت بالنبات والعشب . والتذكير؛ لأن البلدة بمعنى البلد ، والمراد به : القطعة من الأرض عامرة أو غامرة . { ونُسْقِيَهُ } أي : ذلك الماء الطهور ، عند جريانه في الأودية ، أو اجتماعه في الآبار والحياض ، { مما خلقنا أنعاماً وأَنَاسِيَّ كثيراً } أي : نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً . والأناسي : جمع أُنْسِيّ ، ككرسي وكراسي . وقيل : جمع إنسان ، وأصله : أناسين ، وأبدلت النون ياءً ، وأدغمت التي قبلها فيها . وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي؛ لأن حياتها سبب لحياتهما . وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان؛ لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها .
{ ولقد صرَّفناه } أي : هذا القول ، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر ، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة ، في القرآن وغيره من الكتب السماوية ، أو : صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى . أو صرفناه بينهم وابلاً ، وطَلاًّ ، ورذاذاً وديمة . وقيل : التصريف راجع إلى الريح . وقيل : إلى القرآن المتقدم في قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن } [ الفرقان : 32 ] ويعضده : { وَجَاهِدْهُم بِهِ } [ الفرقان : 52 ] . وقوله : { بينهم } أي : بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين ، { ليذَّكَّرُوا } ؛ ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه ، أو : ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته ، { فأبَى أكثرُ الناس } ممن سلف وخلف { إلا كفوراً } أي : جُحُداً لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها ، وربما نسبوها إلى غير خالقها ، فيقولون : مُطرنا بنَوْء كذا .
وفي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : " أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ ، فَأَما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ؛ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي ، كَافِرٌ بالكَواكِب . وأما مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا ، فهو كافِرُ بِي ، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ " فمن نسب الأمطار إلى الأنواء ، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله ، فقد كفر ، ومن اعتقد أن الله خالقها ، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها ، لم يكفر .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى ، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق ، فجعلها في سماء الدنيا ، في هذا القطر ، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم . ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم ، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار " والله تعالى أعلم .
الإشارة : الكون كله ، من جهة حسه الظاهر ، ظل آفل ، وضباب حائل ، لا وجود له من ذاته ، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية . فنسبة الكائنات ، من بحر المعاني الأزلية ، كنسبة ظلال الأشجار في البحار . فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية ، بل تخرقها ، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية ، الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعلوية والسفلية ، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات ، وإليه الإشارة قوله : ألم تر ، أيها العارف ، إلى ربك كيف مد الظل ، أي : مد ظل الكائنات؛ ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه ، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة ، التي أراد فتحها ، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب ، وتصير عارفة بالله .
(4/302)

ولو شاء لجعله ساكناً ، فيقع به الحجاب ، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار . ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر ، دليلاً ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى غيره ، ثم قبضناه ، أي : ذلك الظل ، عن قلب السائر أو العارف ، قبضاً يسيراً ، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً ، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات ، فلا يشهد إلا المكوِّن؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب ، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله؛ قياماً برسم الحكمة ، وأداءاً لحق العبودية .
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً ، أي : ستراً ورداء من الهفوات؛ لأن القبض يغلب فيه السكون ، وجانبه مأمون ، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً ، أي : راحة من كد التدبير والاختيار ، وجعل نهار البسط نشوراً ، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف ، إن قام صاحبه بآدابه ، ولا يقوم به إلا القليل؛ لأنه مزلة أقدام ، ولذلك قال في الحكم : " ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط ، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً " .
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته ، أي : معرفته؛ إذ لا رحمة أعظم منها ، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً ، وهو العلم بالله ، الذي تحيا به الأرواح والأسرار ، وتطهر به قلوب الأحرار ، لنحيي به بلدة ميتاً ، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة ، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها ، جَهلَ هذا مَنْ جهله ، وعرفه من عرفه . وأكثر الناس جاحدون لهذا . ولذلك قال تعالى : { ولقد صرفناه بينهم } ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء ، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له ، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه . وبالله التوفيق .
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط . وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار ، لكن خُولف ذلك في حق نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ تشريفاً لقدره ، وتعظيماً لأمره .
(4/303)

وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
يقول الحق جل جلاله : { ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً } أي : رسولاً يُنذر أهلها ، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر ، فيخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نشأ ذلك؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى ، حسبما نطق به قوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى ، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء ، { فلا تُطع الكافرين } فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم . وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء ، وكأنه نهى للرسول صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم ، والتقصير في الدعوة؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق .
قال القشيري : { فلا تُطع الكافرين } أي : كُنْ قائماً بحقِّنا ، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا ، أو مبالاةٌ بسوانا ، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ . ه .
{ وجاهِدْهُمْ به } أي : بالقرآن؛ بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ ، وذكر أحوال الأمم الهالكة ، { جهاداً كبيراً } ؛ عظيماً موقعه عند الله؛ لما يتحمل فيه من المشاق ، فإن دعوة كُلِّ العالمين ، على الوجه المذكور ، جهاد كبير ، أو : ( جاهدهم به ) ؛ بالشدة والعنف؛ من غير مداراة ولا ملاينة ، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف ، كقوله : { جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود ، فقلَّ أن يجتمع منهم ، في العصر الواحد ، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير؛ لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته ، قال تعالى : { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً } ، وكلما قَلَّ عددهم ، وعظُم الانتفاع بهم ، عظُم قدرهم ، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كلاًّ بما يليق به ، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار ، ولا يداريهم ولا يداهنهم . وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " يَسِّروا ولا تُعَسِّروا ، وبَشِّروا ولا تُنَفِّرُوا " ، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة ، حتى يعطي كل واحد ما يليق به ، ويخاطب كل واحد بما يطيقه . وبالله التوفيق .
(4/304)

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
قلت : أصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله تعالى : { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } [ ق : 5 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " كيف بك يا عبدَ اللهِ إذا كنت في حُثَالةٍ من الناس ، قد مرجتْ عهودهُمْ وأماناتهمْ ، وصاروا هكذا ، وشَبَّكَ بين أصابعه " . يقال : مرج دابته وأمرجتها : إذا أرسلتها في المرعى . ومنه قيل للروضة : مرج .
يقول الحق جل جلاله : { وهو الذي مَرَجَ البحرين } أي : أرسلهما ، وخَلاَّهُمَا متجاورَيْن متلاصقَيْن غير متمازجَيْن . { هذا عذبٌ فُرَاتٌ } أي شديد العذوبة ، قامع للعطش؛ لعذوبته ، أي : برودته ، { وهذا مِلْحٌ أُجاجٌ } : بليغ الملوحة ، أو هذا عذب لا ملوحة فيه ، وهذا ملح لا عذوبة فيه ، مع اتحاد جنسهما ، { وجعل بينهما برزخاً } ؛ حائلاً بقدرته ، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج؛ لئلا يختلطا ، { وحِجْراً محجوراً } أي : وستراً ممنوعاً عن الأعين ، كقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإسراء : 45 ] ، أي : جعل بينهما حاجزاً خفياً؛ لئلا يغلب أحدهما الآخر ، أو : سداً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان ، ولا يفسد الملحُ العذبَ ، ولو خَلاَّ الله تعالى البحر الملح ، ولم يلجمه بقدرته ، لفاض على الدنيا ، واختلط مع العذب وأفسده .
ثم ذكر دليلاً آخر ، فقال : { وهو الذي خلقَ من الماءِ } أي : النطفة { بَشَراً } ؛ إنساناً { فجعله نسباً وصِهْراً } . قسم البشر قسمين : ذوي نسب ، أي ذكوراً ، ينسب إليهم ، فيقال : فلان ابن فلان . وذوات صهر ، أي : إناثاً يصاهر بهن ، فهو كقوله : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] . قال ابن جزي : والنسب : أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ ، قَرُبَ ذلك أو بَعُدَ . والصهر : هو الاختلاط بالتناكح . ه . وعن علي رضي الله عنه : النسب ما لا يحل نكاحه ، والصهر : ما يحل نكاحه . وعن الضحاك ومقاتل : النسب سبعة ، والصهر خمسة ، ثم قرأ هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] . فالسبعة الأولى : نسب ، والباقي : صهر . ه . والأصح أن التسعة نسب ، والباقي صهر .
{ وكان ربك قديراً } ؛ حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً ذا نوعين ، ذكراً وأنثى ، أو : حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفةٍ وطباعٍ متباعدة ، وجعله قسمين متقابلين؛ ذكراً وأنثى .
{ ويعبدون من دون الله } ؛ بعد هذا البرهان الواضح على توحيده ، { ما لا ينفعُهم } إن عبدوه ، { ولا يضرُّهم } إن تركوه ، وهم الأصنام ، أو كل من عبد من دون الله؛ إذ المخلوق كله عاجز ، { وكان الكافر على ربه } ، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته ، { ظَهِيراً } ؛ مُعِيناً ، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان . والمعنى : أن الكافر؛ بعبادة الصنم ، يتابع الشيطان ويُعاونه على معصية الرحمن . وقال ابن عرفة : أي : مظاهراً لأعداء الله على أولياء الله ، فتلك إعانته . ه .
الإشارة : مَرج البحرين؛ بحر الشريعة وبحر الحقيقة ، فبحر الشريعة عذب فرات؛ لأنه سهل المدارك ، يناله الخاص والعام ، وبحر الحقيقة ملح أجاج؛ لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها ، ومجاهدتها في ترك مُنَاها ، حتى تموت ثم تحيا ، فحينئذٍ تتلذذ بمشاهدة مولاها ، وتطيب حياتها في أخراها ودنياها . فبحر الحقيقة صعب المرام ، لا يركبه إلا الشجعان ، وفي ذلك يقول صاحب العينية رضي الله عنه :
وَإِيَّاك جَزْعاً لا يَهُولُكَ أَمْرُهَا ... فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ
والبرزخ الذي جعل بينهما : نور العقل ، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق ، فيعطي كل ذي حق حقه ، ويوفي كل ذي قسط قسطه .
(4/305)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
يقول الحق جل جلاله : { وما أرسلناك } يامحمد { إلا مبشراً } للمؤمنين { ونذيراً } للكافرين ، { قل ما أسألكم عليه } ؛ على تبليغ الرسالة { من أجْرٍ } من جهتكم ، فتقولون : أن يتخذ إلى ربه طريقاً تُوصله إليه ، بإنفاقِهِ مَالَهُ في سبيل الله ، فليفعل وليعطه لغيره .
وقيل : الاستثناء متصل ، أي : لا أسألكم عليه أجراً ، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه تعالى ، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة ، حسبما أدعوكم إليهما . فَصوّر ذلك بصورة الأجر؛ من حيث أنه مقصود الإتيان به ، واستثناه منه؛ قطعاً لشائبة الطمع ، وإظهاراً لغاية الشفقة عليهم ، حيث جعل ذلك ، مع كون نفعه عائداً إليهم ، عائداً إليه صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : العلماء بالله خلفاء الرسل ، فما أظهرهم الله في كل زمان إلا ليذكروا الناس ويعظوهم ويبشروهم ويُنذروهم ، من غير عوض ولا طمع ، فإن تعلقت همتهم بشيء من عرض الدنيا؛ من أيدي الناس ، كسَف ذلك نورهم ، ونقص نفعهم ، وقَلَّ الاهتداء على أيديهم ، وقدم تقدم هذا مراراً . وبالله التوفيق .
(4/306)

وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
يقول الحق جل جلاله : { وتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموتُ } في الاستكفاء عن شرورهم ، والاغتناء عن أجورهم ، أي : ثق به؛ فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت ، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً ، فإن الله كافيك . قرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق . { وسَبَّحْ } أي : ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه ، { بحمده } أي : بتوفيقه الذي يوجب الحمد ، أو : قل سبحان الله وبحمده ، أو : نزهه عن صفات النقصان ، مثنياً عليه بنعوت الكمال ، طالباً لمزيد الإنعام ، { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } أي : كفى الله خبيراً بذنوب عباده ، ما ظهر منها وما بطن ، يعني : أنه خبير بأحوالهم ، كافٍ في جزاء أعمالهم .
{ الذي خلق السموات والأرضَ وما بينهما في ستة أيام } أي : في مدة مقدارها ستة أيام؛ إذْ لم يكن ليل ولا نهار . وعن مجاهد : أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها في هذه المدة ، وهو قادر على خلقها في لحظة ، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت . { ثم استوى على العرش } استواء يليق به ، { الرحمنُ } أي : هو الرحمن ، أو : فاعل استوى ، أي : استوى الرحمن ، برحمانيته على العرش وما احتوى عليه . وراجع ما تقدم في الأعراف { فاسألْ به خبيراً } أي : سل عنه رجلاً عارفاً خبيراً به ، يُخبرك برحمانيته . وكانوا ينكرون اسم الرحمن ، ويقولون : لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة ، يعنون : مسيلمة الكذاب ، وكان يقال له : رحمن اليمامة؛ غُلُوًّا فيه ، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن ، فإنه مذكور في الكتب المتقدمة .
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : والظاهر : أن الخبير هو الله ، أي : أسأل الله الخبير بالأشياء ، الأعلم بخفاياها ، والتقدير : فسل بسؤالك إياه خبيراً . وإنما استظهرنا هذا القول؛ لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه . والمراد : فسل الله الخبير بالرحمن ووصفه . انظر تمام كلامه .
{ وإِذا قيل لهم } أي : إذا قال محمد للمشركين : { اسجدوا للرحمن } ؛ صَلّوا له ، أو : اخضعوا ، { قالوا وما الرحمنُ } أي : لا نعرف الرحمن فنسجد له ، قالوا ذلك : إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى ، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى . { أنسجُدُ لما تأمرنا } أي : للذي تأمرنا بالسجود له ، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به . وهو منهم عناد؛ لأن معناه في اللغة : ذو الرحمة التي لا غاية لها؛ لأن فَعْلاَنَ يدل على المبالغة ، وهم من أهل اللغة . { وزادهم نُفُوراً } أي : زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعداً عن الإيمان ونفوراً عنه . وبالله التوفيق .
الإشارة : قد تقدم الكلام على التوكل في مواضع . وللقشيري هنا كلام ، وملخصه باختصار : أن التوكل : تفويضُ الأمر إلى الله سبحانه ، وأصله : عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله ، ولا يقدر أحدٌ على إيجاد شيء أو دفعه ، فإذا عَرَفَ العبدُ هذا ، وعلم أن مراد الله لا يرتفع ولا يدفع ، حصل له التوكل .
(4/307)

وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الإيمان ، قال الله تعالى : { وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، وما زاد على هذا القَدْرِ؛ من سكون القلب ، وطمأنينته ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، فهو من أحوال التوكل ومقاماته
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات ، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده ، ولا يطلب الزيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة . وتسمى هذه الحالة : القناعة ، فيقنع بالحاصل ، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب ، وهو مقام التجريد ، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده ، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه ، فسكن قلبه عند فقد الأسباب؛ ثقةً منه بوعد ربه ، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه .
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكِلُ أمره إلى الله ، وهذه حالة التسليم . وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه ، ولا يختار حالاً على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده ، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه . فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع ، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ ، فهي رتبة الرضا ، ويحصل له في هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود .
وبعد هذا : الموافقة؛ وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ . فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً . ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة . يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأمّا ما دون ذلك؛ فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم . انتهى بالمعنى .
وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء ، فالواجب ، في الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً ، والحركةُ تكون ضرورةً ، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ ، والخروجُ عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل .
(4/308)

والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحقِّ الواجبات ، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله ، فهو متمن معلول الحال ، ممكورٌ مُسْتَدْرَج ، بل يجب أن يبذل جهدَه ، ويستفرغ وسعَه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه ، ثم يُحسن الظنّ بربِّه . ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته ، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال؛ من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب؛ فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف . ه .
(4/309)

تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
يقول الحق جل جلاله : { تبارك } أي : تعاظم { الذي جعل في السماء بُروجاً } وهي البروج الاثنا عشر : الحَمَل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . وهي منازل الكواكب السبعة السيارة ، لكل كوكب بيتان ، يقوي حاله فيهما ، وللشمس بيت ، وللقمر بيت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زُحل . وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية . سميت بالبروج التي هي القصور العالية؛ لأنها ، لهذه الكواكب ، كالمنازل الرفيعة لسكانها . واعتبر بزيادة ابحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه ، فإن بيت القمر - وهو السرطان - مائي ، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع . وتذكر : " وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ . . . " إلخ . قاله في الحاشية .
واشتقاق البروج من التبرج ، الذي هو الظهور؛ لظهورها ، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد : البروج : النجوم الكبار؛ لظُهورها .
{ وجعل فيها سِرَاجاً } أي : الشمس ، لقوله تعالى : { وَجَعَلَ اْلشَّمْسَ سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] . وقرأ الأَخَوَان : " سُرُجاً " . ويراد : النجوم الكبار والشمس ، { وقمراً منيراً } أي : مضيئاً بالليل .
{ وهو الذي جعل اليللَ والنهارَ خِلْفةً } أي : ذو خلفة؛ يخلف كل واحد منهما الآخر ، بأن يقوم مقامه ، فيما ينبغي أن يعمل فيه ، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر . قال قتادة : فأروا الله تعالى من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار ، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم ، تقربان كل بعيد ، وتبليان كل جديد ، وتجيئان بكل موعود .
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : فاتتني الصلاةُ الليلةَ ، فقال : أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله تعالى جعل الليل والنهار خلفة { لمن أراد أن يذَّكَّر } . ه . أي : يتذكر آلاء الله - عز وجل - ، ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد له من صانع حكيم . وقرأ حمزة وخلف : " يَذْكُرَ " أي : يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما ، { أو أراد شكوراً } أي : شكر نعمة ربه عليه فيهما ، فيجتهد في عمارتهما بالطاعة؛ شكراً . وبالله التوفيق .
الإشارة : تبارك الذي جعل في سماء القلوب أو الأرواح بروجاً؛ منازل ينزلها السائر ، ثم يرحل عنها ، وهي مقامات اليقين؛ كالخوف ، والرجاء ، والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضا ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة ، والمعاينة . وجعل فيها سراجاً ، أي : شمس العرفان لأهل الإحسان ، وقمراً منيراً ، وهو توحيد البرهان لأهل الإيمان . وهو الذي جعل ليل القبض ونهار البسط خِلْفةً ، يخلف أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يذكر في ليل القبض ، ويشكر في نهار البسط . والله تعالى أعلم .
(4/310)

وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ . . . } .
قلت : و ( عباد ) : مبتدأ ، و ( الذين ) وما بعده : خبر . وقيل : ( أولئك يُجزون ) .
و ( هوناً ) : حال ، أو : صفة ، أي : يمشون هينين ، أو مشياً هونا .
يقول الحق جل جلاله : { وعبادُ الرحمن } أي : خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن ، { الذين يمشون على الأرض هوناً } أي : بسكينة وتواضع ووقار ، قال الحسن : يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء ، لا يؤذون الذر ، في سكون وتواضع وخشوع ، وهو ضد المختال الفخور المَرِح ، الذي يختال في مشيه . وقال ابن الحنفية : أصحاب وقار وعفة ، لا يسفهون ، وإن سفهم عليهم حلَموا . و " الهَوْن " في اللغة : الرفق واللين . ومن قوله صلى الله عليه وسلم : " أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا . وأبْغِض بَغِيضَكَ هَوْناً مَا ، عسى أنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا " .
{ وإذا خاطبهم الجاهلون } أي : السفهاء بما يكرهون ، { قالوا سلاماً } ؛ سداداً من القول ، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا . أو : سلمنا منكم سلاماً ، أو : سلموا عليهم سلاماً ، دليله قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] ، ثم قالوا : { سلام عليكم } . قيل : نسختها آية القتال ، وفيه نظر؛ فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة ، فلا ينسخ . وكان الحسن إذا تلا الآيتين قال : هذا وصف نهارهم ، ثم قال تعالى : { والذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً } : هذا وصف ليلهم . قال ابن عباس : من صلى لله تعالى ركعتين ، أو أكثر ، بعد العشاء ، فقد بات لله تعالى ساجداً وقائماً . وقيل : ما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء ، والظاهر أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره .
{ والذين يقولون ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنم إن عذابها كان غَرَاماً } ؛ هلاكاً لازماً .
ومنه : الغريم؛ لملازمته غريمه ، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين ، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا؛ إيذاناً بأنهم ، مع اجتهادهم ، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم { إنها ساءت مستقراً ومُقاماً } ، أي : إن جهنم قَبُحَت مستقراً ومقاماً لهم . و " ساءت " : في حكم " بئست " ، وفيها ضمير مبهم يفسره { مستقراً } . والمخصوص بالذم : محذوف ، أي : ساءت مستقراً ومقاماً هي . وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم " إن " .
{ والذين إذا أنفقوا لم يُسْرفُوا } ؛ لم يجاوزوا الحد في النفقة . وعن ابن عباس : لم ينفقوا في المعاصي . فالإسراف : مجاوزة حد الأمر ، لا مجاوزة القدر .
(4/311)

وسمع رجلٌ رجلاً يقول : لا خير في الإسراف ، فقال : لا إسراف في الخير . وقال صلى الله عليه وسلم : " من منع حقاً فقد قتر ، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف " { ولم يَقْتُرُوا } ، القتر والإقتار والتقتير : التضييق . وقرئ بالجميع ، { وكان بين ذلك قواماً } أي : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواماً؛ عدلاً بينهما . فالقوام : العدل بين الشيئين . قال أبو عبيدة : لم يزيدوا على المعروف ، ولم يخلو به ، لقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] الآية . وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا لا يأكلون الطعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة . ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع ، ويقويهم على عبادة ربهم ، ومن الثياب ما يستر عوراتهم ، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله . ومثله في سنن ابن ماجه؛ مرفوعاً . قال القشيري : الإسراف : أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس ، ولو فلساً ، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف ، ولو ألفاً . والإقتارُ : ما كان ادخاراً عن الله ، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس؛ منعاً لها عن اتباع الشهوات ، ولتتعود الاجتزاء باليسير ، فليس بالإقتار المذموم . ه .
{ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } أي : لا يشركون بالله شيئاً ، { ولا يقتلون النفسَ التي حرَّم الله } قتلها { إلا بالحق } بقَوَدٍ ، أو رَجْمٍ ، أو شِرْكٍ ، أو سعي في الأرض بالفساد ، { ولا يزنون } أي : لا يفعلون من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئاً ، حيث كانوا مع إشراكهم به - سبحانه - مداومين على قتل النفوس المحرمة ، التي من جملتها المؤودة ، مُنْكَبِّينَ على الزنا ، لا يرعوون عنه أصلاً ، فنفَى هذه الكبائر عن عباده الصالحين؛ تعريضاً بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره ، كأنه قيل : والذين طهرهم الله مما أنتم عليه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : " قُلْتُ : يا رَسُولَ الله ، أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال : أنْ تَجْعَلَ لله نداً وَهُوَ خَلَقَكَ ، قلت : ثُمَّ أيُّ؟ قال : أنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يُطْعَمَ مَعَكَ ، قُلْتُ : ثمَّ أيُّ؟ قال : أنْ تُزَانِي بحَلِيلَة جَارِكَ " فنزلت الآية تصديقاً لذلك .
الإشارة : قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي؛ الأول : الأولياء العارفون بالله ، أهل التربية النبوية ، ومن تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب ، وإليهم أشار بقوله : { وعباد الرحمن . . } إلخ ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " رأيت أقواماً من أمتي ، ما خُلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم ، أُحبهم ويحبونني ، ويتناصحون ويتباذلون ، ويمشون بنور الله في الناس رويداً ، في خفية وتقى ، يَسلمون من الناس ، ويسلم الناسُ منهم بصبرهم وحلمهم ، قلوبهم بذلك إليه يَرْجِعُون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون ضعيفهم ، ويجلون كبيرهم ، ويتواسَوْن بينهم ، يعود غنيهُم على فقيرهم ، وقويُهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ، ويشهدون جنائزهم "
(4/312)

فقال رجل من القوم : يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " كلا؛ لا رقيق لهم ، وهم خدام أنفسهم ، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم؛ لهوان الدنيا عند ربهم . " ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً . . . } الآية . رواه أبو برزة الأسلمي ، عنه صلى الله عليه وسلم .
الثاني : العباد والزهاد أهل الجد والاجتهاد ، أهل الصيام والقيام ، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، أقامهم الحق تعالى لخدمته ، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته . الثالث : الصالحون والأبرار ، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار ، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله ، من غير سرف ولا إقتار . الرابع : عامة الموحدّين من أهل اليمين ، المجتنبون لكبائر الذنوب ، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب . والله تعالى أعلم .
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب ، فقال :
{ . . . وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } .
قلت : ( يُضاعفْ ) و ( يخلُدْ ) : بدل من ( يَلْقَ ) ؛ بدل كل من كل ، عند الأزهري؛ لأن لُقِيّ الآثام هي مضاعفة العذاب ، وبدل اشتمال ، عند المرادي . ومن رفعهما : فعلى الاستئناف .
يقول الحق جل جلاله : { ومن يَفْعَلْ ذلك } أي : ما ذكر ، كما هو دأب الكفرة المذكورين ، { يَلْقَ } في الآخرة { أثاماً } ؛ وهو جزاء الآثام ، كالوبال والنكال؛ وزْناً ومعنى ، { يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامة } أضعافاً كثيرة ، كما يضاعف للمؤمنين جزاء أعمالهم كذلك ، { ويخْلُدْ فيه } أي : في ذلك العذاب المضاعف ، { مهاناً } ؛ ذليلاً حقيراً ، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني .
{ إلا من تابَ } من الشرك ، { وآمن } بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وعَمِلَ عملاً صالحاً } بعد توبته { فأولئك يُبَدِّلُ الله سيئاتهم حسناتٍ } أي : يوفقهم للمحاسن بعد القبائح ، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك ، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن ، وللعفة بعد الزنا ، أو : يمحوها بالتوبة ، ويثبت مكانها الحسنات . ولم يُرد أن السيئة بعينها تصير حسنة ، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات ، قيل : من؟ قال : الذين يُبدل الله سيئاتهم حسنات " { وكان الله غفوراً } للسيئات ، { رحمياً } يُبَدِّلُها حسنات .
{ ومن تاب وعمل صالحاً فإِنه يتوب إلى الله مَتَابَا } أي : ومن تاب ، وحقق التوبة بالعمل الصالح ، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مُرْضِياً مكفراً للخطايا . وسبب نزول الآية : أن ناساً من المشركين قَتَلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً .
(4/313)

فنزلت : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر . . . } إلى قوله : { إلا من تاب . . . } إلخ . والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة؛ لعموم قوله : { إلا من تاب } ، وهو قول الجمهور . وقيل : إن هذه منسوخة بآية النساء ، وهو ضعيف والله تعالى أعلم .
الإشارة : من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان ، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان ، لا بد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان ، ولو دخل فسيح الجنان؛ لتخلفه عن أهل القرب والوصال ، وفي ذلك يقول الشاعر :
مَنْ فَاتَهُ مِنْكَ وَصْلٌ حَظُّهُ النَّدَمُ ... ومَنْ تَكُنْ هَمَّهُ تَسْمُو به الهِمَمُ
(4/314)

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
يقول الحق جل جلاله : { والذين لا يشهدون الزورَ } أي : لا يقيمون شهادة الكذب ، أو لا يحضرون محاضر الكذب؛ فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه ، أي : يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين ، فلا يقربونها ، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله . وفي مواعظ عيسى - عليه السلام - : إياكم ومجالسَ الخطَّائين . { وإِذا مَرُّوا باللغو } أي : بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح ، والمعنى : وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به { مَرُّوا كراماً } معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن التلوث به كقوله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] وعن الباقر : إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها ، وقال مقاتل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا .
{ والذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربهم } أي : قرئ عليهم القرآن ، أو : وعظوا بالقرآن ، { لم يَخرُّوا عليها صُمّاً وعُمْياناً } ، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية ، مجلتين لها بعيون راعية . وإنما عبّر بنفي الضد؛ تعريضاً بما يفعله الكفرة والمنافقون .
{ والذين يقولون ربنا هَبْ لنا من أزواجنا } ، " من " : للبيان ، كأنه قيل : هب لنا قرة أعين ، ثم بُينت القرة وفُسرت بقوله : { من أزواجنا وذرياتنا } والمعنى : أن يجعلهم الله لهم قرة أعين؛ بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان وما تقر به العين . أو للابتداء ، أي : هب لنا من جهتهم ما تقر به العين ، من طاعة أو صلاح . { و } هب لنا أيضاً من { ذرياتنا قُرةَ أعيُن } ؛ بتوفيقهم للطاعة ، ومبادرتهم للفضائل والكمالات ، فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله تعالى وشاركوه فيها؛ يسر قلبه ، وتقر عينه؛ بما شاهده من مقاربتهم له في الدين ، ويكون ذلك سبباً في لحوقهم به في الجنة ، حسبما وعد به قوله تعالى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] .
وإنما قال : " أعين "؛ بلفظ القلة ، دون عيون؛ لأن المراد أعين المتقين ، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم . والمعنى : أنهم سألوا ربهم يرزقهم أزواجاً وأعقاباً ، عُمَّالاً لله ، يسرون بمكانهم ، وتقر بهم عيونهم ، قيل : ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله . وعن ابن عباس : ( هو الولد إذا رآه يكتب الفقه ) .
{ واجعلنا للمتقين إماماً } أي : أئمة يقتدى بنا في الدين ، فاكتفى بالواحد؛ لدلالته على الجنس ، أو : واجعل كل واحد منا إماماً؛ أي : من أولادنا إماماً . والظاهر : أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد؛ إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد . وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء : واجعلني للمتقين إماماً ، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير؛ قصداً إلى الإيجاز ، كقوله تعالى : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] . وأبقى إماماً على حاله من الانفراد . قيل : وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها ، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني .
(4/315)

{ أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } ، جنس ، أي : الغرفات ، وهي العلالي في الجنة . ووحده بقصد الجنس . { بما صبروا } ؛ بصبرهم على مشاق الطاعات ، وترك الشهوات ، وتحمل المجاهدات ، وعلى إذاية أهل الإنكار ، وارتكاب الذل والافتقار . { ويُلَقَّون فيها تحيةً وسلاماً } أي : تحييهم الملائكة ، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات . أو : يُحيي بعضُهم بعضاً ، ويسلمون عليهم ، { خالدين فيها } ؛ لا يموتون ولا يخرجون ، { حَسُنتْ } أي : الغرفة { مستقراً ومُقاماً } ؛ موضعَ قرارٍ وإقامة ، وهي مقابلة : { ساءت مستقراً ومقاماً } .
{ قل } يا محمد : { ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم } أي : ما يصنع بكم ربِّي ، وأي فائدة في خلقكم ، لولا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد ، أو : لولا عبادتكم له ، أي : إنما خلقكم لعبادته؛ كقوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ؛ فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته ، وإلا فهو وسائر البهائم سواء . قال المحشي : والظاهر : أنه خطاب لقريش القائلين : { أنسجد لما تأمرنا } أي : لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم واستغاثتكم إياه في الشدائد . ه .
وقيل : ما يعبأ : بمغفرة ذنوبكم ، ولا هو عنده عظيم ، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء ، كقوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } [ النساء : 147 ] ، قاله الضحاك . ثم قال : فظاهره : أن " ما " : استفهامية ، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً . انظر بقية كلامه .
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان ، أي : ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم ، { فقد كذبتم } بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب ، { فسوفَ يكونُ } العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم { لِزاماً } ؛ لازماً لكم؛ لا تنفكون عنه ، حتى يكبكُم في النار . فالفاء في قوله : { فقد كذَّبتم } استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم ، وإنما أضمر العذاب من غير تقدم ذكرٍ؛ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره ، وأنه مما لا تفي العبارة به .
وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر ، وأنه لُوزِمَ بين القتلى . وفي المشارق : اللزام : الفيصل ، وقد كان يوم بدر . ه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { وإذا مروا بأهل اللغو } ، وهم المتكلمون في حس الأكوان ، مروا كراماً؛ مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم . والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم ، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه . { والذين يقولون ربنا . . } إلخ ، قال القشيري : قرة الروح : حياتها ، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائماً . ويقال : قرة العين من كان لطاعة الله معانقاً ، ولمخالفة الأمر مفارقاً . ه . قلت : قرة العين تكون في الولد الروحاني ، كما تكون في الولد البشري؛ فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مُجِدّاً صادقاً في الطلب ، حصل له بذلك غاية السرور والطرب ، كما هو معلوم عند أرباب الفن . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وَصلَّى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وسَلَّمَ تسليماً .
(4/316)

طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
يقول الحق جل جلاله : { طسم } أي : يا طاهر ، يا سيد ، يا محمد ، أو : أيها الطاهر السيد المجيد . وقال الواحدي : أقسم تعالى بطَوله وسنائه وملكه ، والمقسم عليه : { إن نشأ نُنزل . . . } إلخ . { تلك آيات الكتاب المبين } أي : ما نسرده عليك في هذه السورة وغيرها من الآيات ، هي آيات الكتاب ، أي : القرآن المبين أي : الظاهر إعجازه وأنه من عند الله على أنه من أبان بمعنى بان أو : المبين للأحكام الشرعية والحِكَم الربانية ، أو : الفاصل بين الحق والباطل . وما في الإشارة من معنى البُعد؛ للتنبيه على بُعد منزلة المشار إليه في الفخامة ورفعة القدر .
ثم شرع في تسليته بقوله : { لعلك باخعٌ نفسَكَ } أي : قاتل نفسك . قال سَهْلٌ : تهلك نفسك باتباع المراد في هدايتهم وإيمانهم ، وقد سَبق مني الحُكم بإيمان المؤمنين وكفر الكافرين ، فلا تبديل ولا تغيير . و " لعل " : للإشفاق ، أي : أشفق على نفسك أن تقتلها؛ حسرة على مافاتك من إسلام قومك { أَلاَّ يكونوا مؤمنين } أي : لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين ، { إن نشأ نُنزِّل عليهم من السماء آيةً } ، هو تعليل لما قبله من النهي عن التحسر؛ ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به المشيئة ، فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ، والمفعول محذوف ، أي : إن نشأ إيمانهم ننزل عليهم من السماء آية ملجئة لهم إلى الإيمان ، قاهرة لهم عليه ، { فظلَّتْ أعناقُهم لها خاضعين } ؛ منقادين . والأصل : فظلوا لها خاضعين ، فأقمحت الأعناق؛ لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع ، وترك الخبر على حاله من جمع العقلاء . وقيل : لمَّا وصفت الأعناق بصفة العقلاء أجريت مجراهم ، كقوله تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] . وقيل المراد بالأعناق : الرؤساء ومقدمو الجماعة ، وقيل : الجماعة ، من قولهم : جاءنا عنق من الناس ، أي : فوج . وقرئ : خاضعة ، على الأصل .
{ وما يأتيهم من ذِكْرٍ من الرحمنِ مُحْدَثٍ إلا كانوا عنه معرضين } ، هذا بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب؛ لصرف رسوله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم ، وقطع رجائه فيهم على الجملة ، قال القشيري : أي : ما نُجَدِّد لهم شَرْعاً ، أو نرسل رسولاً إلا أعرضوا عما دلّ برهانه عليه ، وقابلوه بالتكذيب ، فلو أنهم أنعموا النظرَ في آياتهم ، لا تضح لهم صدقهم ، ولكن المقسوم من الخذلان في سابق الحُكْمِ يمنعهم من الإيمان والتصديق . ه .
والتعرض لعنوان الرحمة؛ لتغليظ شناعتهم ، وتهويل جنايتهم؛ فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح ، وعما يأتيهم بموجب الرحمة ، لمحض منفعتهم ، أشنع وأقبح ، أي : ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية أو من طائفة نازلة من القرآن تُذكّرهم أكمل تذكير وتنبهُهم من الغفلة أتم تنبيه ، بمقتضى رحمته الواسعة ، إلا جددوا إعراضاً عنه؛ على وجه التكذيب والاستهزاء؛ إصراراً على ما كانوا عليه من الكفر والضلال .
(4/317)