الكتاب : تفسير ابن عجيبة
المؤلف : ابن عجيبة
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]
وفي مثل هؤلاء يقول ابن الفارض رضي الله عنه :
تعرّضَ قومٌ للغرامِ وأعرَضوا ... بجانبهم عن صحّتي فيه واعتلّوا
رضوا بالأماني ، وابُتُلوا بحظُوظهم ... وخاضوا بحارَ الحبّ ، دعوى ، فما ابتلّوا
فهُم في السُّرى لم يَبرَحوا من مكانهم ... وما ظَعَنوا في السير عنه ، وقد كلَّوا
ثم حكى مقالتهم الدالة على نفاقهم ، فقال :
{ . . . وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف أهل النفاق : وإنهم إن { تصبهم حسنة } كخصب ورخاء ونعمة ظاهرة ، قالو : { هذه من عند الله } ، ونسبوها إلى الله بلا واسطة ، { وإن تصبهم سيئة } كقحط وجوع وموت وقتل ، قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام : { هذه من عندك } بشؤم قدومك أنت وأصحابك ، كما قالت اليهود لعنهم الله : منذ دخل محمدٌ المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها .
قلت : بل زكت ثمارها ، ورخصت أسعارها ، وأشرقت أنوارها ، ولاحت أسرارها ، وقد دعا صلى الله عليه وسلم للمدنية بمثل ما دعا إبراهيمُ لمكة ، وأضعاف ذلك ، فما زالت الخيرات تترادف إليها حسًا ومعنى إلى يوم القيامة ، وهذه المقالة قد صدرت ممن كان قبلهم؛ فقد قالوا لسيدنا صالح عليه السلام : { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } [ النَّمل : 47 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيَّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ، { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قّدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فُصّلَت : 43 ] . قال تعالى مكذبًا لهم : { قل كلٌّ من عند الله } ؛ الحسنة بفضله ، والسيئة بعدله . ثم عيرهم بالجهل فقال : { فمالِ هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا } ؛ فهُم كالبهائم أو أضل سبيلاً ، أو لا يفقهون القرآن ويتدبرون حديثه ، ولو تدبروا لعلموا أن الكل من عند الله ، وأنه خالق كل شيء ، المقدَّر لكل شيء .
ثم علَّمنا الأدب بنسبة الكمالات إليه سبحانه بلا وساطة ، ونسبة النقائص إلى شؤم ذنوبنا ، فقال : { ما أصابك من حسنة } أي : نعمة { فمن الله } فضلاً وإحسانًا ، وأما طاعة العبد فلا تفي بشكر نعمة واحدة ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لن يَدخلَ أحدُكُمُ الجنةَ بعملهِ " ، قيل : ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال : " ولا أنَا ، إلا أن يتَغمدني الله برَحمته " { وما أصابك } أيها الإنسان { من سيئة } أي : بلية { فمن نفسك } أي : شؤم ذنبك ، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :
(1/456)
" مَا مِن خَدشٍ بعُود ولا اختلاج عرق ولا غيره إلا بذنب ، وما يَعفوا الله عنه أكثرُ " فلا ينافي قوله : { قل كلٌّ من عند الله } ؛ فإن الكل منه إيجاداً واختراعًا ، غير أن الحسنة إحسانٌ ، والسيئة مُجَازاة وانتقام . كما قالت عائشة رضي الله عنها : " مَا مِن مُسلمٍ يُصيبه وَصَبٌ ولا نَصَبٌ ، حتى الشوكة يُشَاكها ، وحتى انقطاع شِسع نَعلهِ ، إلا بذنب ، وما يعفوا الله عنه أكثر " .
وفي مصحف ابن مسعود : ( قالوا : { ما أصابك من حسنة فمن الله } ) الآية . فتكون حينئٍذ من مقالة المنافقين ، والآيتان كما ترى لا حجة فيها للمعتزلة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ثلاث خصال لا ينجو منها إلا القليل كما في الحديث : الطيرة ، والحسد ، والظن . فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا تَطَيَّرتَ فامضِ ، وإذا حسدتَ فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تٌحَقّق " فيتأكد على المريد أن يتطهر من هذه الخصال ، ويصفي مشربه من التوحيد ، فلا يرى في الوجود إلا مولاه ، ولا ينسب التأثير إلى شيء سواه ، إذا رأى نعمة به أو بغيره ، قال : من الله ، وإذا رأى مصيبة كذلك تأدب مع الله ، فيعتقد في قلبه أنها من قَدَرِ الله ، يقول : { قل كلٌّ من عند الله } ، وينسب النقص إلى نفسه وهواه ، فالنفس والشيطان مناديل الحضرة ، تمسح فيهما أوساخ الأقدار ، { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } [ القَصَص : 68 ] . والله تعالى أعلم .
تم شَهِدَ جلّ جلاله لرسوله بالرسالة ، تحريضًا على تعظيمه وحثًا على طاعته ، وترهيبًا من سوء الأدب معه ، كما صدر من المنافقين ، فقال :
{ . . . وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وكفى بالله شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً }
قلت : إن تعلق الجار بالفعل كان { رسولاً } حال مؤكدة ، وإن تعلق بالاسم كان حالاً مؤسسة تفيد العموم؛ أي أرسلناك رسولاً للناس جميعًا ، و { حفيظًا } حال من الكاف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأرسلناك } يا محمد { للناس رسولاً } تعلمهم التوحيد وتدلهم على الأدب ، فالتوحيد محله البواطن ، فلا يرى الفعل إلا من الله ، والأدب محله الظواهر فينسب بلسانه النقص إلى نفسه وهواه . وإذا شهد الحق جل جلاله لرسوله بالرسالة أغْنَى عن غيره ، { وكفى بالله شهيدًا } . وشهادة الحق له بالمعجزات والواضحات ، والبراهين القطعيات ، والدلائل السمعيات ، فإذا ثبتت رسالته وجب على الناس طاعته ، ولذلك قال : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ؛ لأنه مُبلغ عن الله لا ينطق عن الهوى . رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " مَن أطَاعَنِي فَقَد أطَاعَ الله ، ومَن أحبَني فقَد أحبَ الله " فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربًّا ، كما اتخذت النصارى عيسى . فنزل : { من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى } وأعرض { فما أرسلناك عليهم حفيظًا } تَحفَظُ عليهم أعمالهم ، وتحاسبهم عليها ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب .
(1/457)
الإشارة : كما شهد الحق جل جلاله لرسله بالرسالة ، بما أظهر لهم من المعجزات ، شهد لأوليائه بالولاية بما منحهم من الكرامات . والمراد بالكرامة : هي تحقيق العرفان ، ومعرفة الذوق والوجدان ، واستقامة الظواهر والبواطن ، وتهذيب الأخلاق وهداية الناس على يديه إلى العليم الخلاق ، فهذه الكرامة المعتبرة عند المحققين ، فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عن معرفة الله ، ومن أحبهم فقد أحب الله ، ومن أبغضهم فقد أبغض الله؛ لأنهم نور من أنوار الله ، وعين من عيون الله ، إذا لم يبق فيهم بقية مما سوى الله ، أقدامهم عرى قدم رسول الله ، { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] فافهم ، والله تعالى أعلم .
(1/458)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قلت : { طاعة } : خبر ، أي : أمرنا طاعة ، وأصله النصب على المصدر ، ورُفِعَ للدلاله على الثبوت ، وبيِّتَ الشيء ، دبَّره ليلاً وأضمره في نفسه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في شأن المنافقين : { ويقولون } لك إذا حضروا معك : أمرنا وشأننا { طاعةٌ } لك فيما تأمرنا به ، { فإذا برزوا } أي : خرجوا { من عندك بيَّت طائفة منهم } أي : دبرَّت ليلاً وأخفت من النفاق { غير الذي تقول } لك من قبول الإيمان وإظهار الطاعة ، أو زوَّرت خلاف ما قلتَ لها من الأمر بالطاعة ، { والله يكتب ما يبيتون } أي : يُثبِتُه في صحائفهم فيجازهم عليه ، { فأعرض عنهم } ولا تبال بهم ، { وتوكل على الله } يكفك شرهم ، { وكفى بالله وكيلاً } عليهم ، فسينتقم لك منهم .
الإشارة : هذه الخصلة موجودة في بعض العوام؛ إذا حضروا مع أهل الخصوصية أظهروا الطاعة والإقرار ، وإذا خرجوا عنهم بيَّتوا الانتقاد والإنكار ، فلا يليق إلا الإعراض عنهم ، والغيبة في الله عنهم ، فإن الله يكفي شرهم بكفالته وحفظه . والله تعالى أعلم .
(1/459)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
يقول الحقّ جلّ جلاله : أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون { القرآن } ، وينظرون ما فيه من البلاغة والبيان ، ويتبصّرون في معاني علومه وأسراره ، ويطلعون على عجائب قصصه وأخباره ، وتَوافُق آياتهِ وأحكامه ، حتى يتحققوا أنه ليس من طوق البشر ، وإنما هو من عند الله الواحد القهار ، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } بَين أحكامه وآياته ، من تَفَاوتِ اللفظ وتناقض المعنى ، وكَون بعضه فصيحًا ، وبعضه ركيكًا ، وبعضه تصعب معارضته وبعضه تسهل ، وبعضه توافق أخباره المستقبلة للواقع ، وبعضه لا يوافق ، وبعضه يوافق العقل ، وبعضه لا يوافقه ، على ما دل عليه الاستقراء من أن كلام البشر ، إذا طال ، قطعًا يوجد فيه شيء من الخلل والتناقض .
قال البيضاوي : ولعل ذكره للتنبيه على أن اختلاف ما سبق من الأحكام ليس للتناقض في الحكم ، بل لاختلاف الأحوال من الحكم والمصالح . ه . قال ابن جزي : وإن عَرَضَت لأحدٍ شبهةٌ وظن اختلافًا في شيء من القرآن ، فالواجب أن يَتَّهِمَ نظره ، ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم ، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف . ه .
الإشاره : تدبر القرآن على حساب صفاء الجنان ، فبقدر ما يتطهر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى ، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان ، يتحجب عن أسرار معاني القرآن؛ ولو كان من أكابر علماء اللسان . فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب ، أمر الله المنافقين بالتدبر في معاينة؛ لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم ، لكن الأقفال الت على القلوب مَنَعَت القلوبَ من فهم كلام علام الغيوب ، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد ، الخائضون في تيار بحار التوحيد ، الذين صَفَت قلوبُهم من الأغيار ، وتطهرت من الأكدار ، يتمتعون أولاً بحلاوة الكلام ، ثم يتمتعون ثانيًا بحلاوة وشهود المتكلم . والله تعالى أعلم .
(1/460)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . . }
قلت : استنبط الشيء : استخرجه من غيره ، وأصل الاستنباط : إخراج النبط ، وهو الماء ، يخرج من البئر أول ما يحفر ، والجار في { منهم } : إما بيان للموصول ، أي : لعلم المستنبطون الذين هم أولو الأمر ، أو يتعلق ب ( علم ) ، أي : لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس من أولي الأمر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في ذمّ المنافقين أو ضعفة المسلمين : { وإذا جاءهم أمرٌ } أي : خبر عن السرايا الذين توجهوا للغزو ، من نصر وغنيمة وأمن أو خوف ، وقتل وهزيمة ، { أذاعوا به } أي : تحدثوا به ، وأشهروه ، وأرجفوا به قبل أن يصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر الصحابة ، الذين هم أولو الأمر وأهل البصائر ، فيعرفون كيف يتحدثون به ،
ولو ردوا ذلك { إلى الرسول } وأخبروه به سرًا ، أو سكتوا حتى يصل إليه ، أو يردوه { إلى أولي الأمر } من أكابر الصحابة ، لعلمه الذين يستخرجونه إلى الناس { منهم } فينقلونه على وجهه ، ويعرفون كيف يتحدثون به من غير إرجاف ولا تخويف ، أو { لعَلمَه الذين يستنبطونه } وهم أولو الأمر أولاً ، ثم يعلم الناس ، فلا يكون فيه إرجاف ولا سوء أدب . أو : وإذا جاءهم أمر من وحي السماء : من تخويف أو تأمين ، أذاعوا به قبل أن يظهره الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو سكتوا وردوا ذلك إلى الرسول حتى يتحدث به للناس ، ويظهره أولو الأمر من أكابر أصحابه ، لعلمه الذين يستخرجون ذلك الوحي من أصله ، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وأكابر أصحابه ، كما فعل عمر رضي الله عنه : إذ سمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه ، فدخل عليه فقال : أطلقت نساءك؟ قال : " لا " فقال على باب المسجد ، فقال : إن رسول الله صلى عليه وسلم لم يطلق نساءه ، فأنزل الله هذه القصة ، قال : وأنا الذي استنبطته . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قالت الحكماء : قلوب الأحرار قبور الأسرار ، وهذه الخصلة التي ذمَّها الله تعالى توجد في كثير من العوام؛ مهما سمعوا خبرًا : خيرًا أو شرًا ، بادروا إلى إفشائه ، ولا سيما إذا سمعوه على أهل النسبة أو أهل الخصوصية ، وقد تُوجد في بعض الفقراء ، وهي غفلة ونوع من الفضول ، فالفقير الصادق غائب عن أخبار الزمان وأهله ، وقد ترك الناسَ وما هم فيه ، وقد تغلب عليه الغيبة في الله حتى تغيب عنه الأيام ، وأما الفقير الذي يتسمع الأخبار ويبحث عنها فلا نسبة له في الفقر ، إلا اسم بلا مسمى ، وقد ترى بعض الفقراء ، يُبلِّغُ مساوِىءَ إخوانه إلى المشايخ ، وهو سبب الطرف ، والعياذ بالله .
(1/461)
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تبلغوني مساوىء أصحابي " ؛ لأن ذلك يسؤوهم ، والخير كله في إدخال السرور على قلوب المشايخ .
وتنسحب الآية على مَن يُفشِيِ أسرار الربوبية ، ويُطلع الفقراء علَى الحقيقة ، ولو ردوا ذلك إلى شيخهم حتى يكون هو الذي يطلعهم لكان أحسن ، لأن الحقيقة إذا أُخِذَت من الشيخ كان فيها سر كبير ، بخلاف ما إذا أُخِذّت من غيره ، إلاَّ إذا كان مأذونًا في ذلك فكأنه هو . والله تعالى أعلم .
وقال الورتجبي : قال أبو سيعد الخراز : إن له عبادًا يدخل عليهم الخلل ، ولولا ذلك لفسدوا وتعطلوا ، وذلك أنهم بَلَغُوا من العلم غاية ، صاروا إلى علم المجهول ، الذي لم ينصُّه كتاب ، ولا جاء به خبر ، لكن العقلاء العارفون ، يحتجون له من الكتاب والسنة ، بحسن استنباطهم ومعرفتهم ، قال تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } . ه .
قلت : ومعنى كلامه : أن الله تعالى أشغل علماء الظاهر بتقرير علم الفرق ، ولولا اشتغالهم بذلك لتعطلوا وتبطلوا ، إذ لا قدرة لهم على عمل القلوب من الفكرة والنظرة ، لكن العارفون يقرون لهم ذلك ، ويحتجون لهم بما في نشر العلم من الأجور ، من الكتاب والسنة ، لأنهم قاموا بنظام عمل الحكمة ورفعوا علم الشريعة ، ولولا قيامهم بذلك لتعين على أهل الباطن ، فتتشوش عليهم قلوبهم ، وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل العمراني رضي الله عنه يقول : جزاهم الله عنا خيرًا؛ رفعوا لنا علم الشريعة ، نحن نغرق في البحر ، ثم نرفع رأسنا فنرى العلم قائمًا ، ثم نرجع إلى البحر . ه . بالمعنى ، والله تعالى أعلم .
ثم إن الهداية بيد الله ، قوم أقامهم في الفرق ، وقوم هداهم إلى الجمع ، كما قال تعالى :
{ . . . وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً }
يقول الحقّ جلّ جلاله : لولا أن الله تفضل عليكم ورحمكم بنبي الرحمة ، وأنقذكم من متابعة الشيطان وعبادة الأوثان ، لبقيتم على كفركم وضلالكم ، ولاتبعتم الشيطان فيما يأمركم به من الكفر والعصيان ، إلا قليلاً ممن اهتدى قبل بعثته ، كقس بن ساعدة ، وزيد بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، رزقهم الله كمال العقل؛ فنظروا وتفكروا بعقولهم؛ فوجدوا الله واعتزلوا ما كان يعبد آباؤهم وإخوانهم . أما قس فاعتزل قومه ، وعبد الله وحده ، وكان يخطب على الناس ويأمرهم بالتوحيد ، ويعيب عليهم عبادة الأصنام . وعاش سبعمائة عام . وأما زيدٌ فتعلق بالحنيفية ، دين إبراهيم ، حتى مات قبل البعثة . وأما ورقة فأخذ بدين النصرانية التي لم تُغَيَّر ، وأدرك أول البعثة ، وآمن بالرسول قبل أن يُؤمر بالإنذار ، قال عليه الصلاة والسلام : " رأيتُه في الجنة عليه ثيابُ خُضر " والله تعالى أعلم .
الإشارة : لولا فضل الله عليكم بأن بعث لكم مَن يدلكم على الله ويعرفكم بالله ، ورحمته بأن أخرجكم من ضيق الفرق ، إلى فضاء الجمع ، لاتبعتم الفرق علمًا وعملاً ، لكن الله تعالى بفضله ورحمته غيبكم عن شهود الفرق بشهود الملك الحق . إلاّ فرقًا قليلاً تقيمون به رسم العبودية ، وتظهرون به الآداب مع الربوبية .
قال الورتجبي : الفضل والرحمة منه للعموم ، ومحبته للخصوص ، الذين هم مستثنون بقوله : " إلا قليلاً " . ه . قال القشيري : { ولولا فضل الله } مع أوليائه لهاموا في كل وادٍ من الفرقة كأشكالهم في الوقت . ه . فَخَصَّ الإشارة بالأولياء ، وعليه فقوله : { إلا قليلاً } أي : إلا تفرقة قليلة تعرض لهم ، تربيةً لهم ، وإبقاء لرسمهم ومناطِ تكليفهم . والله تعالى أعلم . قاله في الحاشية .
(1/462)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قلت : { نفسك } : مفعول ثانٍ ، والأول نائب ، أي : لا يكلفك الله إلا نفسك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فقاتل } يا محمد { في سبيل الله } ولو وَحدَكَ إن تثبطوا عن الجهاد ، لا نكلفك إلا أمر نفسك ، { و } لكن { حَرِّض المؤمنين } على الجهاد ، إذ ما عليك إلا التحريض . فجاهدوا حتى تكون كلمة الله هي العليا . { عسى الله أن يكف } بجهادكم { بأس الذين كفروا } ويبطل دينهم الفاسد . { والله أشد بأسًا } منهم { وأشد تنكيلاً } أي : تعذيبًا لهم . وقد حقَّق الله ذلك ففتح الله على نبيه قبائل العرب ، فلم يبق فيهم مشرك ، ثم فتح على الصحابة سائر البلاد ، وهدى الله بهم جميع العباد ، إلا من فرّ من الكفار إلى شواهق الجبال .
وإنما أمرتك بالتحريض على الجهاد ، لأن الدال على الخير كفاعله ، وذلك كالشفاعة بين الناس ودلالتهم على إصلاح ذات البين ، فمن { يشفع شفاعة حسنة } بأن ينفع المشفوع له ، بدفع ضرر أو جلب نفع ، ابتغاء وجه الله ، { يكن له نصيب منها } ، أي : حظ كبير من الثواب؛ لأنه دل المشفوع عنده على الخير ، وأوصل النفع إلى المشفوع له ، فله من الأجر مثل ما لهما ، ومنها : الدعاء بظهر الغيب ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " مَن دعا لمسلمٍ بظَهرِ الغَيبِ استُجيب له ، وقال له الملك : لك مِثلُ ذَلِكَ " .
{ ومَن يشفع شفاعة سيئة } ، يريد بها فسادًا بين الناس؛ كنميمة وزور وإحداث بدعة ، { يكن له كِفلٌ } أي : نصيب { منها } أي : من وِزرها ، وفي الحديث : " من سنَّ سُنةَ حَسَنةٌ ، فله أجرُهَا وأجرُ مَن عَمِلَ بِهَا إلى يَومِ القيامَةِ ، ومن سنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعليه وزرُهَا وَوِزرُ مَن عَمِلَ بِها إلى يَوم القيامَةِ " { وكان الله على كل شيء مقيتًا } أي : مقتدرًا من أقات على الشيء : إذَا قدر عليه ، أو شهيدًا حافظَا فيجازي على قدر الأعمال .
ومن هذا أيضًا : السلام ، فإنه سبب في ثواب الرد ، لذلك ذكره الحق في سلك الدلالة على الخير فقال : { وإذا حُييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } بأن تقولوا : وعليكم السلام والرحمة والبركة ، { أو ردوها } بأن تقولوا : وعليكم السلام .
وفي الخبر : " مَن قَالَ لأخيه المسلم : السَّلامُ علَيكُم ، كتب الله له عَشرُ حَسنات ، فإن قال : السَّلامُ عليكُم ورحمَةُ الله ، كتب الله له عِشرين حَسنة ، فإن قال : وَبَرَكَاتُه ، كتب الله ثَلاثين " ، وكذلك لمن ردّ ، فإن اقتصر على السلام ، فعشر ، وهكذا . . فإن ذكرَ المسلم الرحمةَ والبركةَ ، قال الرادُّ : وعليكم ، فقط ، إذ لم يبق ما يزاد ، ورد السلام واجب على الكفاية ، حيث يكون مشروعًا ، فلا يرد في الخطبة ، وقراءة القرآن ، والذكر والتفكر ، والاعتبار ، ونظرة الشهود والاستبصار ، لأنه يفتر ويشوش ، وفي الحمام إذا كانوا عراة ، وفي حال الجماع والأكل والشرب وغيرها من المسائل المستثناة .
(1/463)
وقد نظمه بعضهم ، فقال :
رَدُّ السَّلآم واجبٌ إلا على ... مَن في الصَّلاةِ أو بأكل شُغلا
أو شُربٍ أو قراءةٍ أو أدعِيه ... أو ذكرٍ أو خُطبةٍ أو تَلبِيه
والسلام من تحية أهل الإسلام ، خاصٌّ بهم . لذلك استغرب الخضر عليه السلام سلام سَيدنا موسى عليه السلام فقال له : " وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ ، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام ، إنما أنكر الملائكة حيث سلموا عليه بتحية أهل الإسلام؛ لأنه كان بين أظهر قوم كفار ، أما سلام أبي ذر على النبي صلى الله عليه وسلم بتحية أهل الإسلام ، قبل أن يسلم ، فلعله سمعه من بعض الصحابة قبل أن يسلم ، أو إلهام من الله . والله تعالى أعلم .
{ إن الله كان على كل شيء حسيبًا } يحاسبكم على التحية وغيرها . وبالله التوفيق .
الإشارة : فجاهد أيها الإنسان نفسك في سبيل الله ، لا تكلف إلا إصلاحها وتزكيتها ، وحرض من يسمع قولك من المؤمنين على جهاد أنفسهم ، عسى الله أن يكف عنهم القواطع والعلائق ، فيتأهلون لإشراق قلوبهم بأنوار الحقائق ، فإن الله لا يغلبه شيء ، فمن ذكّر عبادَ الله ، ودسهم إلى حضرة الله كان حظه كبيرًا عند الله . ومن دلهم على غير الله فقد غشهم وكان مُهانًا عند الله ، وإذا وقع السلام على الفقراء؛ فإن كانوا سالكين غير مشتغلين بالذكر وجب عليهم الرد بأحسن ، وإذا كانوا ذاكرين أو متفكرين أو سكارى في شهود الحبيب سقط عنهم السلام ، وكذلك إذا سلم عليهم اختبارًا وتعنيتًا لم يجب الرد . والله تعالى أعلم .
(1/464)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
قلت : { الله } : مبتدأ ، و { لا إله } : خبر ، أو اعتراض ، و { ليجمعنكم } : خبر ، وهو أوفق بالسياق ، و { لا ريب فيه } حال ، أو صفة لمصدر ، أي : جمعًا لا ريب فيه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الله لا إله إلا هو } أي : لا مستحق للعبادة إلا هو ، والله { ليجمعنكم } أي : ليَحشرنك من قبوركم { إلى يوم القيامة } للحساب الذي وعدكم به ، لا شك فيه ، فهو وعد صادق ، { ومن أصدق من الله حديثًا } ، أي : لا أحدَ أصدقُ من الله حديثًا ، لأن الكذب نقص ، وهو على الله محال .
الإشارة : الحق تعالى واحد في ملكه ، فلا يذوق وحدانيته إلا من كان واحدًا في قصده وهمه ، فكل من وحَّدّ قلبه وقصده وهمته في طلبه ، وانجمع بكليته إليه ، جمعه الله لحضرته ، ونعَّمه بشهود ذاته ، وعدًا حقًا وقولاً صادقًا ، لا ريب فيه ولا اشتباه ، إذ لا أحدَ أصدقُ من الله .
(1/465)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{ فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً . . . }
قلت : { فئتين } : حال ، والعامل فيه : الاستقرار في الجر ، وأركس الشيء نكَّسه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : معاتبًا الصحابة حين اختلفوا في إسلام بعض المنافقين ، فقال : { فما لكم } افترقتم { في } شأن { المنافقين } فرقتين ، ولم تتفقوا على كفرهم ، والحالة أن الله تعالى { أركسهم } ، أي : نكَّسهم وردهم إلى الكفر بعد أن أظهروا الإسلام بسبب ما كسبوا من الآثام . { أتريدون أن تهدموا من أضل الله } ، وسبق لهم الشقاء في علم الله؟ ومن يضلل الله فلن تجد له طريقاً إلى الهدى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( نزلت في قومِ كانوا بمكة من المشركين ، فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا ، ثم سافر قوم منهم بتجارات إلى الشام ، فاختلف المسلمون ، هل يقتلونهم ليغنموا تجارتهم ، لأنهم لم يهاجروا ، أو يتركونهم لأنهم مؤمنون؟ ) . وقيل : في قوم أسلموا ثم اجتَوَوا المدينة ، واستأذنوا رسول الله صلى عليه وسلم في الخروج إلى البدو ، فلما خَرَجُوا لم يزالُوا راحلين مَرحلةٌ حتى لحقُوا بالمُشركين ، فاختلف المسلمون في إسلامهم .
ثم حكم بكفرهم فقال { ودّوا لم تكفرون } أي : يتمنون كفركم { كما كفروا فتكونون } معهم { سواء } في الضلال والكفر .
الإشارة : من دخل في طريق المخصوصين الأبرار ، ثم لم تساعده رياح الأقدار ، فلا ينبغي الكلام فيه ، ولا الخوض في شأنه ، لأن أمره بيد ربه ، ( من يهده الله فلا مضل له ) ، ومن يضلل فلا ناصر له . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
ثم نهى عن مُوَالاَتهم ، فقال :
{ . . . فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }
قلت : { حَصِرت } : أي : ضاقت ، والجملة حال من الواو ، بدليل قراءة يعقوب ( حَصِرَةً ) .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فلا تتخذوا } من هؤلاء الكفرة { أولياء } وأصدقاء حتى يتحقق إيمانهم ، بأن يهاجروا من دار الكفرإلى دار الإسلام { في سبيل الله } وابتغاء مرضات الله ، لا لحرف دنيوي ، { فإن تولوا } عن إظهار الإيمان بالهجرة { في سبيل الله } ، { فخذوهم } أسارى { واقتلوهم حيث وجدتموهم } كسائر الكفرة ، وجانبوهم { ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا } أي : لا تستعينوا بهم في جهادكم ، { إلاَّ الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم } عهد ، و { ميثاق } أي : مهاندة ، فلهم حكم المُعَاهَدِين الذين وصلوا إليهم ، ودخلوا معهم في الصلح ، فلا تقتلوهم ولا تأسروهم .
(1/466)
وكانت خزاعة وادعت النبي صلى الله عليه وسلم وعقدت معه الصلح ، فجاء بنو مدلج فدخلوا معهم في الصلح ، فنهى الله عن قتالهم ما داموا معهم ، فالقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق هم خزاعة ، والذي وصلوا إليهم هم بنو مدلج . فالاستثناء على هذا منقطع ، لأن بني مدلج حينئٍذ كانت مظهرة للكفر لا منافقة ، ويحتمل أن يكون متصلاً ، أي : إلا الذين يصلون منهم . . . الخ ، فتأمل . وكان هذا في أول الإسلام ، ثم نُسِخ بقوله : { فَأْقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التّوبَة : 5 ] الآية .
ثم ذكر قومًا آخرين نهى عن قتالهم ، فقال : { أو جاءوكم } أي : إلاَّ قومًا جاؤوكم ، قد { حصرت صدورهم } أي : ضاقت عن { أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم } يعني أنهم كرهوا قتالهم ، وكرهوا قتال قومهم الكفار ، فلا تقتلوهم أيضًا ، لأن الله كفَّ شرهم عنكم ، { ولو شاء الله لسلّطهم عليكم } بأن قوَّى قلوبهم وأزال رعبهم { فَلَقَاتَلُكم } ولم يكفّوا عنكم ، { فإن اعتزلوكم } ولم يتعرّضوا لكم { وألقوا إليكم السلم } أي : الاستسلام والانقياد { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } أي : طريقًا إلى قتالهم .
الإشارة : نهى الله تعالى عن مساكنة النفوس وموالاتها ، حتى تهاجر عن مواطن شهواتها إلى حضرة ربها ، فإن تولت عن الهجرة وألِفَت البطالةَ والغفلة فليأخذها ليقتلها حيثما ظهرت صورتها ، ولا يسكن إليها أبدًا أو يواليها ، إلاَّ إن وصلت إلى حضرة الشيخ ، وأمره بالرفق بها ، أو كفت عن طغيانها ، أو كفى الله أمرها؛ بجذبٍ أخرجها عن عوائدها ، أو واردٍ قوَّى دفع شهواتها ، فإنه يأتي من حضرة قهار ، لا يصادم شيئاً إلا دمغه ، وهذه عناية من الرحمن ، ولو شاء تعالى لسلطها على الإنسان يرخى لها العنان ، فتجمح به في ضَحضَاح النيران ، فإن كفت النفس عن شهواتها ، وانقادت إلى حضرة ربها ، فما لأحدٍ عليها من سبيل ، وقد دخلت في حمى الملك الجليل . والله تعالى أعلم .
(1/467)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ستجدون } قوماً { آخرين } منافقين ، وهم أسد وغطفان ، قَدِمُوا المدينة ، وأظهروا الإسلام نفاقًا ورياء؛ إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : إنا على دينك ، يريدون الأمن ، إذا لقوا قومهم ، وقالوا لأحدهم : لماذا أسلمت ومن تعبد؟ فيقول : لهذا القرد ولهذا العقرب والخنفساء ، { يريدون } بإظهار الإسلام { أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما رُدوا إلى الفتنة أركسوا فيها } ، أي : كلما دُعُوا إلى الكفر رَجَعُوا إليه أقبحَ رد ، { فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم } أي : ولم يلقوا إليكم المسالمة والصلح ، ولم { يكفّوا أيديهم } بأن تعرضوا لكم { فاقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي : وجدتموهم ، { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا } ، أي : تسلطاً { مبينًا } ظاهرًا ، لظهور كفرهم وثبوت عداوتهم .
الإشارة : النفوس على ثلاثة أقسام : قسم مطلقة العنان في الجرائم والعصيان ، وهي النفوس الأمارة ، وإليها الإشارة بالآية قبلها ، والله أعلم . وقسم مذبذبة؛ تارة تظهر الطاعة والإذعان ، تريد أن يأمنها صاحبها ، وتارة ترجع إلى الغي والعصيان ، مهما دعيت إلى فتنة وقعت فيها ، فأم لم تنته عن ذلك ، وتكف عن غيها ، فالواجب جهادها وقتلها؛ حتى تنقاد بالكلية إلى ربها ، وأما النفس المطمئنة فلا كلام معها لتحقق إسلامها ، فالواجب الكف عنها وحبها . والله تعالى أعلم .
(1/468)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قلت : { وما كان لمؤمن } النفي هذا بمعنى النهي ، كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ } [ الأحزَاب : 53 ] ، و { إلا خطًأ } : استثناء منقطع ، و { خطأ } : حال ، أو مفعول من أجله ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : لا يحل له أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال ، لكن إن وقع خطّأ فحكمه ما يأتي ، وقيل : متصل . انظر ابن جزي : أو : إلا قتلا خطّأ ، و { إلا أن يصدقوا } : حال ، أي : إلا حال تصدقهم ، و { توبة } : مفعول من أجله ، أي : شرع ذلك لأجل التوبة . أو ، مصدر ، أي : تاب عليكم توبة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما كان } ينبغي { لمؤمن أن يقتل مؤمنًا } مثله ، أي : هو حرام عليه ، { إلاَّ } أن يقتله { خطًأ } بأن ظنه كافرًا ، أو رمى غيرَه فصادفه . والآية نزلت بسب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد ، وكان الحارث يعذبه على الإسلام ، ثم أسلم الحارث ، وهاجر ، ولم يعلم عياشُ بإسلامه ، فقتله .
ثم ذكر حُكمه فقال : { ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة } أي : فعليه تحرير رقبة { مؤمنة } سالمة من العيوب ، ليس فيها شوب حرية ، تكون من مال القاتل ، { ودِيَةٌ مُسلَّمة } أي : مدفوعة { إلى أهله } وهي على العاقلة كما بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهي عند مالك : مائة من الإبل ، وألف دينار شرعية على أهل الذهب ، وأثنا عشر ألف درهم ، على أهل الوَرِق ، مقسطة على ثلاث سنين ، فإن لم تكن العاقلة فعلى بيت المال ، وتقسم على أهله ، على حسب المواريث ، إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل فتسقط ، أي : تسمع فيها الورثة أو القتيل قبل موته .
{ فإن كان } المقتول { من قوم عدو لكم } أي : محاربين لكم ، { وهو } أي : المقتول { مؤمن } فعلى القاتل { تحرير رقبة مؤمنة } ولا دية؛ لأنهم محاربون فيتقووا بها على المسلمين ، ورأى مالك أن الدية في هذا واجبة لبيت المال ، { وإن كان } المقتول مؤمنًا وهو { من قوم بينكم وبينهم ميثاق } أي : عقد الصلح أو الذمة ، فعلى القاتل { دية مُسَلَّمة إلى أهله } ، وعليه أيضًا { تحرير رقبة مؤمنة } كفارة لخطئه . فإن كان غير مؤمن فلا كفارة فيه . وفيه نصف دية المسلم ، { فمن لم يجد } الرقبة ، أو لم يقدر عليها؛ فعليه { صيام شهرين متتابعين } عوضًا من العتق ، جعل الله ذلك { توبة من الله } على القاتل لتفريطه . { وكان الله عليمًا } بما فرض ، { حكيمًا } فيما قدَّر ودبَّر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الحقّ جلّ جلاله قد رغَّب في إحياء النفوس ، حسًا ومعنًى ، ونهى عن قتلها حسًا ومعنًى ، وما ذلك إلى لخصوص محبة له فيها ، ومزيد اعتناء له بشأنها؛ فليس في الوجود أعز من الله من مظهر هذا الآدمي إن استقام في العبودية لربه ، فهو قلب الوجود ، ومن أجله ظهر كل موجود ، وهو المنظور إليه من هذا العالم السفلي ، والمقصود بالخطاب التكليفي : جزئي وكلي ، فهو المقصود من بيت القصيد ، وهو المحبوب إليه ، دون سائر العبيد ، قال تعالى :
(1/469)
{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي } [ طه : 41 ] .
ومعنى إحيائها حسًّا : إنقاذها من الهلاك الحسّي ، ومعنى إحيائها معنّى : إنقاذها من الهلاك المعنوي كالجهل والغفلة ، حتى تحيا بالعلم والإيمان واليقظة ، ومعنى قتلها حسًا : إهلاكها ، ومعنى قتلها معنًى : إيقاعها في المعاصي والكفر وحملها على ذلك ، وكذلك إهانتها وذلها ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " لَعنُ المُؤمن كَقَتَلهِ " فأمر من قتله خطًأ أن يُحيي نفسًا أخرى من مقابلتها بإخراجها من موت إهانة الرق ، فإن لم يقدر ، فليحيي نفسه بقتل صولتها بالجوع حتى تنكسر ، فتحيا بالتوبة واليقظة ، ويُجبر كسر أهل المقتول بالدية المُسَلَّمة .
(1/470)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا } مستحلاً لقتله { فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنه } أي : طرده { وأعد له عذابًا عظيمًا } ، وقولُنا : مستحلاً لقتله ، هو أحد الأجوبة عن شبهة المعتزلة القائلين بتخليد عصاة المؤمنين في النار . ومن جُملتهم : قاتل النفس .
ومذهب أهل السنة : أنه لا يخلد إلا الكافر ، ويؤيد هذا الجواب سبب نزول الآية ، لأنها نزلت في كافر ، وهو ( مَقِيس بن ضُبَابة الكناني ) ؛ وَجَدَ أخَاه هشامًا قَتَيلاً في بني النجر وكان مُسلمًا فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسَل مَعهُ رجلاً من بني فهرِ ، وقال له : " ائت بني النّجار ، وقُل لهم : إن عَلمتُم قاتِل هِشَامٍ فادفَعُوهُ لمقيس يَقتَصُّ مِنه ، وإن لِمَ تَعلمُوا فادفَعُوا إليه الدَّيةَ " فقالوا : سمعًا وطاعة ، لم نَعلَم قاتِله ، فجمعوا مائة من الإبل ، فأخذها ، ثم انصرفا راجعَين إلى المدينة ، فوسوس إليه الشيطان ، وقال : أيَّ شيء صَنَعتَ؟ تَقبلُ ديةَ أخيكَ فتكونُ عليك سُبَّة ، اقتل الرجلَ الذِي مَعكَ فتكُونَ نفسٌ مكانَ نَفسٍ وفَضلُ الدِّيَة ، فَقَتَلَه وأخذ الدِّية ، فنزلت فيه الآية .
أو يكون الخلود عبارة عن طول المكث ، والجمهور على قبول توبته ، خلافًا لابن عباس ، ونُقِل عنه أيضًا قبولها ، ولعله تعالى استغنى عن ذكر التوبة هنا اكتفاء بذكرها في الفرقان ، حيث قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا } [ الفُرقان : 68 ] ، ثم قال : { إِلاَّ مَن تَابَ } [ مريَم : 60 ] . وأما من قال : إن تلك منسوخة بهذه فليس بصحيح؛ لأن النسخ لا يكون في الأخبار . أو فجزاؤه إن جُوزِي ، ولا بِدع في خلف الوعيد لقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النَّساء : 48 ] ؛ لأن الوعيد مشروط بعدم العفو ، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضًا ، والحاصل : أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان ، والوعيد يصح إخلافه ، بالعفو والغفران ، كما في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَن وَعَدَه الله عز وجل على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له لا محالة ، ومَن أوعَدَه على عمل عقابًا فهو بالخيار ، إن شاءَ عَفَا عنه ، وإن شاء عَاقَبه " ه . ذكره في القوت .
فَتَحَصَّل أن القاتل لا يُخلَّد على المشهور إلاَّ إذا كان مستحلاً ، وهذا أيضًا ما لم يقتص منه ، وأما إذا اقتُص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " مَن أصَابَ ذَنبًا فعُوقِبَ بِه في الدنيا فَهُوَ له كَفَّارَةٌ " وبه قال الجمهور ، وكذلك إذا سَامَحَهُ ورثةُ الدم : لأنه حق ورثوه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الإيمان محلة القلوب ، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة . فالمؤمن الحقيقي هو القلب ، فمن قتله بتتبع الشهوات ، وتراكم الغفلات ، فجزاؤه نار القطيعة في سجن الأكوان ، والبعد عن عرفان الشهود والعيان ، وفي الحِكَم : " سبب العذاب وجود الحجاب ، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهة الكريم " . والله تعالى أعلم .
(1/471)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قلت : { السَّلم } بالقصر : الانقياد والاستسلام ، وبالمد : التحية . وجملة { تبتغون } : حال من الواو ، مشعرة بما هو الحامل على العجلة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم } أي : سافرتم وسرتم تجاهدون { في سبيل الله } ، { فتبينوا } الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا ، فإن العجلة من الشيطان ، { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم } أي : الانقياد والاستسلام ، أو سلَّم عليكم تحية الإسلام ، { لست مؤمنًا } ؛ إنما فعلت ذلك متعوذًا خائفًا ، فتقتلونه طمعًا في ماله ، { تبتغون عرض الحياة الدنيا } وحطامها الفاني ، { فعند الله مغانمُ كثيرة } وَعَدَكُم بها ، لم تقدروا الآن عليه ، فاصبروا وازهدوا فيما تَشُكُّون فيه حتى يأتيكم ما لا شهبةَ فيه ، { كذلك كنتم من قبل } هذه الحال ، كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم ، { فمنَّ الله عليكم } بالعز والنصر والاشتهار { فتبينوا } وتثبتوا ولا تعَجلَوا ، وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللهُ بكم ، حيث حفظكم وعصمكم ، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنًا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفًا ، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن ، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر . ثم هدَّدهم بقوله { إن الله كان بما تعملون خبيرًا } مطلعًا على قصدكم ، فلا تتهافتوا في القتل ، واحتاطوا فيه .
رُوِي أن سريةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَك فهربوا ، وبقي مرداسُ ثقًة بإسلامه ، لأنه كان مسلمًا وحده ، فلما رأى الخيلَ ألجأ غَنَمه إلى عاقول من الجبل ، وصعد عليه ، فلما تلاحقوا وكَبَّروا ، كَبَّر ونزل يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، السلام عليكم ، فقتله أسامةُ ، واستاق غنمه ، فنزلت الآية . فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام وَجِدَ وجدًا شديدًا ، وقال لأسامة : " كيف بلا إله إلا الله ، إذا جاءت يوم القيامة؟! " قالها ثلاثًا ، حتى قال أسامة : ليتني لم أكن أسلمتُ إلا يومئٍذ ، ثم استغفرَ له بعدُ ، وقال له : " اعتق رقبة " وقيل : نزلت في المقداد ، مرَّ برجل في غنمه فأراد قتله ، فقال : لا إله إلا الله ، فقتله وظفر بأهله وماله ، وقيل : القاتل : مُحلِّم بن جَثَامة ، والمقتول : عامرُ بن الأضبط . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يستقاد من الآية : الترغيب في خَصلتين ممدوحتين وخصوصًا عند الصوفية :
الأولى : التأني في الأمور والرزانة والطمأنينة ، وعدم العجلة والخفة والطيش . وفي الحديث : " من تَأنَّى أصابَ أو كادَ ، ومَن استعجَّلَ أخطَأ أو كَادَ " ولا يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه ، ويفهم عن الله أنه مراد الله في ذلك الوقت .
والثانية : حُسْن الظن بعباد الله كافة ، واعتقاد الخير فيهم ، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : " أُمِرتُ أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر " وقال لأسامة : " هلاّ شققت عن قلبه " ، حين قَتَلَ من قال : لا إله إلا الله ، أو لغيره . وفي الحديث : " خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير : حُسن الظن بالله ، وحُسن الظنِّ بعباد الله ، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء : سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله " والله تعالى أعلم .
(1/472)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قلت : { من المؤمنين } : حال من { القاعدين } ، و { غير } بالرفع : صفة للقاعدين ، وبالنصب : حال ، وبالجر : بدل من المؤمنين ، و { درجة } : نصب على إسقاط الخافض ، أو على المصدر ، لأنه متضمن معنى التفضيل ، أو على الحال ، أي : ذوي درجة . و { أجرًا عظيمًا } : مصدر لفضَّل ، لأنه بمعنى أجرًا ، أو مفعول ثان لفضَّل ، لأنه بمعنى أعطى ، أي : أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا ، و { درجات } وما بعده ، كل واحد بدل من { أجرًا } ، و { درجات } : نصب على المصدر ، كقولك : ضربته أسواطًا ، و { أجرًا } : حال ، تقدمت عليها؛ لأنها نكرة و { مغفرة ورحمة } : على المصدر بإضمار فعلهما .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ترغيبًا في الجهاد : { لا يستوي القاعدون } عن الجهاد { من المؤمنين } مع المجاهدين في سبيل الله في الدرجة والأجر العظيم . ولما نزلت أتى ابنُ أم مكتوم وعبد الله بن جحش ، وهما أعميان فقالا : يا رسول الله ذكرَ الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين ، وحالُنا على ما ترى ، ونحن نشتهي الجهاد ، فهل من رخصة؟ فأنزل الله : { غير أُولي الضرر } ، فجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين؛ لزمانتهم وحسن نياتهم .
ثم ذكر فضل مَن خرج من قعد لعذٍر فقال : { فضِّل الله المجاهدين بأموالهم } ، مواساة للمجاهدين ، { وأنفسهم } ببذلها في سبيل رب العالمين ، { على القاعدين } لعذر ، { درجة } واحدة ، لمزيد مشقة السفر والغزو والخطر بالنفس للموت ، { وكُلاًّ } من القاعدين لعلة والمجاهدين في سبيل الله ، { وعد الله الحسنى } أي : المثوبة الحسنى ، وهي الجنة . { وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين } من غير عذر { أجرًا عظيمًا } وخيرًا جسيمًا . وفي البخاري : " إنَّ لله مائةً درَجةٍ أعدَّها للمجاهدين في سبيلِ الله ، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بين السَّماءِ والأرضِ " الحديث . ثم بيَّنها بقوله { درجات منة } أي : من فضله وإحسانه ، { ومغفرة } لذنوبة ، { ورحمة } تُقرِّبه إلى ربه ، { وكان الله غفورًا } لما عسى أن يفرط منه ، { رحيمًا } بما وعدَ له .
الإشارة : لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه ، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه ، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه ، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه ، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه ، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه ، هيهات هيهات ، لا يستوي الأحياء مع الأموات ، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره ، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية ، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود ، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية ، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا ، درجات منه بالترقي أبدًا ، ومغفرة ورحمة ، وفي البيضاوي : التفضيل بدرجة في جهاد الكفار ، وبدرجات في جهاد النفس؛ لأنه الأكبر للحديث والله تعالى أعلم .
(1/473)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين } تتوفاهم { الملائكة } أي : مَلَك الموت وأعوانه ، يعني : تَقبِضُ أرواحهم ، { ظالمي أنفسهم } بترك الهجرة ومرافقة الكفرة ، { قالوا } أي : الملائكة في توبيخهم : { فِيمَ كنتم } أي : في أي شيء كنتم من أمر دينكم : أعلى الشك أو اليقين؟ أو : في أي بلد كنتم : في دار الكفر أو الإسلام؟ { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين ، { قالوا } أي : الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } إلى قطر آخر ، كما فعل المهاجرين إلى الحبشة والمدينة ، لكن حبستكم أموالُكم ، وعزَّت عليكم أنفسكم ، { فأولئك مأواهم جهنم } لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت ، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين ، { وساءت مصيرًا } أي : قبحت مصيرًا جهنم التي يصيرون إليها .
نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا ، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين ، فقالوا : غرَّ هؤلاء دينُهم ، فقُتِلوا ، فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم ، كما يأتي ، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة ، بل تجب الهجرة ، ولا عذر في المقام ، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك ، وإلا عمَّهُ البلاءُ ، كما وقع لأهل الأندلس ، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله ، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين .
قال البيضاوي : في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن في الرجل من إقامة دينه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من فرَّ بدينه من أرض ، ولو كان شبرًا من الأرض ، استَوجَبَ الجنة ، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام " قلت : ويدخل فيه على طريق الخصوص من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد ، أو تكثر فيه العلائق والشواغل ، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك ، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه ، بل هو أولى ، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر . والله تعالى أعلم .
ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر ، فقال : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } أي : المماليك والصبيان ، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة ، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة ، فلا محيص عنها ، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة . قال ابن عباس رضي الله عنهما : " كنتُ أنا أبي وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية " .
ثم وصفهم بقوله { لا يستطيعون حيلة } أي : قوة على ما يتوقف عليه السفر ، من ركوب أو غيره ، { ولا يهتدون سبيلاً } أي : لا يعرفون طريقًا ، ولا يجدون دليلاً ، { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } . وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير ، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن ، ويترصد الفرصة ، ويُعلِّقُ بها قلبه ، { وكان الله غفورًا رحيمًا } فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر .
(1/474)
وبالله التوفيق .
الإشارة : كل من لم يتغلغل في علم الباطن ، مات ظالمًا لنفسه ، أي : باخسًا لها؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود ، ومعرفة الملك المعبود ، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب ، التي هي من أكبر الذنوب ، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة ، قالت له : فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب ، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب؟ فيقول : كنتُ من المستضعفين في علم اليقين ، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان ، ومرافقة النساء والولدان . فيقال لهُ : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب ، وينفي عنك الشك والارتياب؟ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان ، وحرمان الشهود والعيان ، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه ، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه ، فعسى ربه أن يعطف عليه ، فيوصله إلى عارف من أوليائه ، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه ، وما ذلك على الله بعزيز .
(1/475)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
قلت : المراغَم : المهرب والمذهب . قاله في القاموس . وقال البيضاوي : يجد متحولاً ، من الرغام وهو التراب . وقيل : طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها ، أي : يفارقهم على رغم أنوفهم ، وهو أيضًا من الرغام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يهاجر في سبيل الله } لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه ، { يجد في الأرض } فضاءً كثيرًا ، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه ، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه ، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه ، أو سعةٌ في الرزق ، وبسطًا في المعيشة ، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه ، { ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله } وجهادٍ في سبيله ، { ثم يُدركه الموت } قبل وصوله فقد ثبت أجرُه ، ووجب على الله وجوب امتنان أن يبلغه قصده بعد موته ، { وكان الله غفورًا } لما سلف له من عدم المبادرة ، { رحيمًا } به ، حيث بلَّغه مأمولَه .
نزلت في جُندع بن ضَمرة ، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا ، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال : والله ما أنا ممن استثنى الله ، ولي مال يُبِلغني المدينة ، والله لا أبيتُ الليلة بمكة ، اخرجُوا بي ، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم ، فأدركه الموت بها ، فَصفَّق بيمينه على شماله ، وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك ، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك ، فمات حَمِيدًا . فقال الصحابة : لو وافَى المدينةَ ، كان أتم أجرًا ، وضحك المشركون ، وقالوا : ما أدرك ما طلب . فنزلت : { ومن يخرج من بيته . . . } الخ .
وقيل : نزلت في خالد بن حزام ، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة ، فنهشته حيَّةٌ في الطريق ، فمات قبل أن يصل . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه ، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه ، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم ، ومفتاحًا لمخازن الفهوم ، وسعة الفضاء والشهود ، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود ، ويتحقق بشهود واجب الوجود . ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله ، ثم يُدركه الموت قبل التمكين ، فقد وقع أجره على الله ، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه ، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين ، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين ، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته ، حشِر مع العلماء ، قال عليه الصلاة والسلام : " من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة " قلت : وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله .
وكل من مات في طلب شيء من الخير ، أدركه بعد موته بحسن نيته ، كما في الأحاديث النبوية ، قال القشيري : المهاجر في الحقيقة ، من هاجر نفسه وهواه ، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده ، فمن قصَده أي قصد الحق تعالى ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله ، فلا ينزل إلا بساحات وصله ، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه . ه . وفي بعض الآثار : الهجرة هجرتان : هجرة صُغرى ، وهجرة كبرى ، فالصغرى : انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي ، والكبرى : انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها . ه .
(1/476)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا ضربتم في الأرض } ، أي : سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح ، أو المطلوب ، { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الرباعية إلى ركعتين ، ونفيُ الجُناح يقتضي أنها رُخصة ، وبه قال الشافعي ، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتمّ في السفر وأن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله قَصَرْتَ وأتممْتُ ، وصُمْتُ وأفطرتِ؟ فقال " أحسنت يا عائشة " وأوجبه أبو حنيفة؛ لقول عمر رضي الله عنه : ( السفر ركعتان؛ تمام غير قصر ، على لسان نبيكم ) . ولقول عائشة : ( أول ما فرضت الصلاة ركعتان ، فأقرت صلاة السفر ، وزيدت في الحضر ) .
وقال مالك رضي الله عنه : القصرُ سنة؛ لكونه عليه الصلاة والسلام دام عليه في كل سفر ، ولم يتُم إلا مرةً لبيان الجواز .
وقوله تعالى : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } طاهرِه أن الخوف شرط في القصر ، وبه قالت عائشة وعثمان رضي الله عنهما ، والجمهور على عدم شرطه ، وإنما ذكره الحق تعالى لكونه غالبًا في ذلك الوقت ، فلا يعتبر مفهومه ، أو يؤخذ القصر في الأمن من السُّنة . ويؤيد هذا حديثُ يَعلى بن أمِية ، قلت لعمر بن الخطاب : إن الله يقول : { إن خفتم } ، وقد أمن الناس؟ . فقال : عجبتُ مما تعجبتَ منه . فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " صَدقةٌ تصدَّق به الله علَيكم ، فاقبلوا صدَقته " وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن .
وليس في الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاةُ ، بل ذَكَرَ مطلقَ السفر ، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر ، طال أو قصر . ومذهب مالك والشافعي : أن المسافة أربعة بُردُ ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس . وقال أبو حنيفة : ستة بُرُد ، وكذلك لم يقيد الحقُّ السفرَ بمباح ولا غيره ، ولذلك أجاز أبو حنيفةٍ القصرَ في كل سفر . ومنعه مالك في سفر المعصية . ومنعه ابن حنبل في المعصية والمباح . والمراد بالفتنة في قوله : { إن خفتم أن يفتنكم } : الجهاد والتعرض لما يُكره ، وعداوة الكفار معلومة .
الإشارة : وإذا ضربتم في ميادين النفوس ، وتحقق سيرُكم إلى حضرة القدوس ، فلا جناح عليكم أن تقتصروا على المهم من الصلاة الحسية ، وتدوموا على الصلاة القلبية ، التي هي العكوف في الحضرة القدسية ، إن خفتم أن تشغلكم عن الشهود حلاوةُ المعاملة الحسية . قال بعض العارفين : اتقوا حلاوة المعاملة ، فإنها سموم قاتلة . وكذلك قال القطب بن مشيش في المقامات كالرضا ، والتسليم : أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله . والله تعالى أعلم .
(1/477)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا كنت فيهم } أيه الرسول { فأقمت لهم الصلاة } ، أي : صلاة الخوف ، وكذلك الأمراء النائبون عنه ، { فلتقم طائفة منهم معك } ، وطائفة تقف وجَاهَ العدو للحراسه ، { وليأخذوا أسلحتهم } أي : المصلون معك ، { فإذا سجدوا فليكونوا } أي : الطائفة الحارسة { من ورائكم } فإذا صلَّت نصفَ الصلاة مع الإمام ، قضت في صلبه ما بقي لها وذهبت تحرس .
{ ولتأت طائفة أخرى لم يُصلوا فليُصلوا معك } النصف الباقي ، فإذا سلمتَ ، قضوا ما بقي لهم ، فإذا كانت ثنائية : صلَّى بالأولى ركعةَ ، وَثَبَتَ قائمًا ساكتًا أو قارئًا ، ثم تصلي من صلت معه ركعة وتسلم ، وتأتي الثانية فتكبر ، فيُصلِي بها ركعةً ويسلم وتقضي ركعة . واذا كانت رباعية ، أو ثلاثية صلى بالأولى ركعتين ، ثم تقوم الأولى فتصلي ما بقي لها وتسلم وتأتي الثانية فتكبر وتصلي معه ما بقي له ، ثم تقضي ما بقي لها ، هكذا قاله مالك والشافعي .
وقال أبو حنيفة : يصلي بالأولى ركعّة ، ثم تتأخر وهي في الصلاة ، وتأتي الثانية فيصلي بها ركعة ، فإذا سلَّم ذهبت مكان الأولى قبل سَلاَمها ، فتأتي الأولى فتصلي ركعة ثم تُسلَّم ، وتأتي الثانية فتصلي ركعية ثم تُسلَّم . وفي صلاة الخوف عشرة أقوال على حسب الأحاديث النبوية ، لأنها تعدَّدت منه صلى الله عليه وسلم ، فكل واحد أخذ بحديث ، وما قاله مالك والشافعي هو الذي فعله عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع .
ثم أمر الطائفة الحارسة بأخذ السلاح ، والحذر من العدو فقال : { وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } ، ثم ذكر عِلَّةَ الحذر فقال : { ودّ الذين كفروا لو تَغْفُلُون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } أي : تمنوا أن ينالوا منكم غرة ، فيشدون عليكم شدة واحدة فيستأصلونكم .
رُوِي أن المشركين لما رأوا المسلمين صلوا صلاة الظهر ندموا أن لو كانوا أغاروا عليهم في الصلاة ، ثم قالوا : دعوهم فإن لهم صلاة هي إليهم أحب من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر ، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة العصر نزل جبريلُ بصلاة الخوف .
ثم رخَّص لهم في وضع السلاح ، لعذرٍ فقال : { ولا جناح عليكم } أي : لا إثم { إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } منهم بالحراسة . رُوِي أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف ، مَرِضَ فوضع سلاحه ، فعنَّفه أصحابُه ، فنزلت الآية .
ثم هوَّن شأن الكفار بعد أن أمر بالحذر منهم فقال : { إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا } في الدنيا والآخرة .
قال البيضاوي : وعد المؤمنين بالنصرة على الكفار ، بعد الأمر بالحذر ، ليقوي قلوبهم ، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم ، بل إن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبير .
(1/478)
ه .
الإشارة : إذا كنت في جند الأنوار ، وأحدَقَت بك حضرة الأسرار ، ثم نزلتَ إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فلتقم طائفة من تلك الأنوار معك ، لتحرسك من جيش الأغيار وجند الأكدار ، حتى يكون رجوعُك إلى الآثار مصحوبًا بكسوة الأنوار وحليلة الاستبصار ، فيكون رجوعك إليها بالله لا بنفسك ، فإذا سجد القلبُ في الحضرة كانت تلك الأنوار من ورائه والأسرار من أمامه ، { وَاللهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطُ } [ البُرُوج : 20 ] ، ولتأت طائفة أخرى لم تصل هذه الصلاة؛ لأنها لم تبلغ هذا المقام ، فلتصل معك اقتباسًا لأنوارك ، لكن تأخذ حذرها وتستعد من خواطر الأشغال ، كي لا تميل عليهم فتفتنهم عن الحضور مع الكبير المتعال ، فإن كان مريض القلب بالهوى وسائر العلل ، فلا يكلف من الحضور إلا ما يطيقه ، لأن القط لا يكلف بحمل الجمل . والله تعالى أعلم .
(1/479)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
يقول الحقّ جلّ جلاله : فإذا فرغتم من الصلاة { فاذكروا الله } في جميع أحوالكم { قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم } إن أردتم حراسة قلوبكم ، والنصر على عدوكم ، أو إذا أردتم قضاءَ الصلوات وأداء فرضها ، وأنتم في المعركة ، فصلوا كما أمكنكم { قيامًا } راجلين أو على خيولكم إيماءً ، وحلَّ للضرورة حينئٍذ مشى وركض وطعن وعدم توجه وإمساك ملطخ ، وتنبيهٌ وتحذيرٌ ، هذا للصحيح ، { وقعودًا وعلى جنوبكم } ، للمريض أو الجريح ، هكذا قال جمهور الفقهاء في صلاة المسايفة وقال أبو حنيفة : لا يصلي المحارب حتى يطمئن .
{ فإذا اطمأننتم } وذهب الخوفُ عنكم { فأقيموا الصلاة } على هيأتها المعلومة ، واحفظوا أركانها وشروطها ، وأُتوا بها تامة ، { إن الصلاة كانت المؤمنين كتابًا موقوتًا } أي : فرضًا محدود الأوقات ، لا يجوز إخراجها عن وقتها في شيء من الأحوال . قال البيضاوي : وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة ، وأنها واجبة الأداء ، حال المسايفة ، والاضطراب في المعركة ، وتعليلٌ للأمر بالإتيان بها ، كيف أمكن .
الإشارة : إذا فرغتم من الصلاة الحسية ، فاستغرقوا أحواكم في الصلاة القلبية ، حتى تطمئن قلوبكم في الحضرة القدسية ، فإذا اطمأننتم في الحضرة ، فأقيموا صلاة الشهود والنظرة ، وهي الصلاة الدائمة ، قال تعالى : { الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعَارج : 23 ] . وقال الورتجبي : إذا كنتم في حالةِ التمكين وامتلأتم من أنوار ذكره ، فينبغي أن تخرجوا من أبواب الرخص ، والاستراحة في سعة الروح ، وترجعوا إلى مقام الصلاة ، فإن آخر سيركم في ربوبيتي : أول بدايتكم في عبوديتي . ه .
(1/480)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قلت : الوهن : الفشل والضعف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لا تضعفوا في طلب { القوم } ، أي : الكفار ، فتجاهدوهم في سبيل الله ، فإن الحرب دائرة بينهم وبينكم ، قد أصابهم مثل ما أصابكم ، فإن { تكونوا تألمون } ، أي : تتوجعون من الجراح ، { فإنهم يألمون كما تألمون } ، وأنتم ترجون من الله النصر والعز في الدنيا ، والدرجات العلا في الآخرة ، وهم لا يرجون ذلك ، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب في الجهاد منهم ، { وكان الله عليمًا } بأعمالكم وضمائركم ، { حكيمًا } فيما يأمركم به وينهاكم .
الإشارة : لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم ، ولا تفشلوا عن السير الى حضرة ربكم ، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها ، فإنها تألم مثلكم ، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم ، فإذا ارتاضَت وتحلت صار المُر عندها حلوًا ، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها ، فدوموا على سياستها ورياضتها ، فإنكم ترجون من الله الوصول ، وبلوغ المأمول ، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات ، فاعكسوا مُراداتها ، حتى تطمئن في حضرة ربها ، فتأمن غوائلها ، فليس بعد الوصول رجوع ، ولا إلى العوائد نزوع ، والله غالب على أمره .
(1/481)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
قلت : أرى ، هنا عرفانية ، لا علمية . فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيّه عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق ، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان ، في جراب دقيق ، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه ، وخبَّأها عند يهودي ، فالتمس الدرع عند طعمة ، فلم توجد ، وحلف ما أخذها ، وما له بها علم ، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال اليهودوي : دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة ، وشهد له ناس ، من اليهود ، فقال رهط طعمة من بني ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا ، وقالوا : إن لم يفعل هلك وأفتضح ، وبرىء اليهودي ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر ، ولم يكن له علم بالواقعة ، فنزلت الآية :
{ إنا أنزلنا إليكم الكتاب بالحق } أي : ملتبسًا بالحق { لتحكم } بما فيه من الحق { بين الناس } بسبب ما { أراك } أي : عَرَّفك { الله } بالوحي ، أو بالاجتهاد ، ففيه دليل على إثبات القياس ، وبه قال الجمهور . وفي اجتهاد الأنبياء خلاف . { ولا تكن للخائنين خصيمًا } أي : عنهم للبرآء ، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم .
{ واستغفر الله } مما هممت به ، { إن الله كان غفورًا رحيمًا } ، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي ، وبه قال ابن شعبان . وقال ابن عات : لعله أراد الندب . وقال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة . والوكالة من الأمانة ، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك ، ولا علم له بالواقعة ، لولا أطلعَه تعالى ، فلا نقص في اهتمامه ، ولا درك يلحقه . وبالجملة ، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة .
ثم نهاه عن الذبّ عنهم ، فقال : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } وهم رهط بن أبيرق السارق ، قال السهيلي : هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير ، { إن الله لا يحب مَن كان خوّانًا } أي : كثير الخيانة ، { أثيمًا } أي : مصرًا عليها ، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة ، وارتدَّ ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله ، فسقط الحائط عليه فقتله ، ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى ، أو كان مظنة الخيانة ، كالكافر ونحوه . وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية : إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز ، بدليل الآية . ه .
ثم فَضحَ سرهم ، فقال : { يستخفون من الناس } أي : يستترون منهم ، { ولا يستخفون من الله } وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف { وهو معهم } لا يخفى عليه شيء ، فلا طرق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح ، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا . { إذ يُبيتون } أي : يدبرون ويُزَوِّرُون { ما لا يرضى من القول } من رمي البريء ، والحلف الكاذب ، وشهادة الزور ، { وكان الله بما يعملون محيطًا } لا يفوته شيء ، { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } ودفعتم عنهم المعرة ، { فَمن يجادل الله عنهم } أي : مَن يُدافُع عنهم عذابه { يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً } يحميهم من عقاب الله ، حين تُفضَح السرائر ، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر .
(1/482)
الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن ، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة ، حمية أو رشوة ، فإن القضاء جُلّة فِراسة ، وفيها عتاب لشيوخ التربية ، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة ، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة ، غير أنه لا يُعيَّن ، بل يذكر في الجملة ، وصاحب العيب يفهم نفسه ، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس ، وأظهروا لهم ما يُحبون ، وأخفوا عنهم ما لا يرضون ، لقوله سبحانه : { يستخفون من الناس . . . } الآية ، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا ، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني ، هو الذي يشتهيه قلبي . والله تعالى أعلم .
(1/483)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يعمل سوءًا } أي : ذنبًا قبيحًا يسوءُ به غيره ، { أو يظلم نفسه } بذنب يختص به ، أو من يعمل سوءًا بذنبٍ غيرِ الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك ، أو من يعمل سوءًا بالكبيرة ، أو يظلم نفسه بالصغيرة ، { ثم يستغفر الله } بالتوبة { يجد الله غفورًا } لذنوبه { رحيمًا } بقبول توبته ، وفيه حث لطُعمَة وقومِه على التوبة والاستغفار .
الإشارة : ومن يعمل سوءًا بالميل إلى الهوى ، أو يظلم نفسه بالالتفات إلى السوى ، أو من يعمل سوءًا بالهفوات والخطرات ، أو يظلم نفسه بالغفلات والفترات ، أو من يعمل سوءًا بالوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات ، أو يظلم نفسه بالقناعة من الترقي في الدرجات والمقامات ، ثم يستغفر الله من حينه يجد الله غفورًا رحيمًا ، حيث لم يُخرِجهُ من حضرته ، ولم يتركه مع غفلته .
(1/484)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يكسب إثمًا } كسرقة أو يمين فاجرة ، أو رمى غيره بجريمة ، { فإنما يكسبه على نفسه } لا يتعدى ضررها إلى غيره ، { وكان الله عليمًا } بسرائر عباده { حكيمًا } في إمهالهم وسترهم ، { ومن يكسب خطيئة } أي : جريمة تتعدى إلى ضرر غيره ، { أو إثمًا } يختص بنفسه ، { ثم يَرمِ به بريئًا } منه ، كما رمى طُعمَةُ زيدًا اليهوديِّ ، { فقد احتمل بهتانًا } وهو أن يبهت الرجل بما لم يفعل ، { وإثمًا مبينًا } أي : ذنبًا ظاهرًا ، لا يخفى قبحه وبشاعته .
الإشارة : الإثم : ما حاك في الصدر وتلجلج فيه ، ولم ينشرح إليه الصدر ، وضده البر؛ وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب ، فكل من فعل شيئًا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله؛ نقص من نوره ، وأظلم قلبه منه ، وإليه الإشارة بقوله : { ومن يكسب إثمًا . . . } الآية ، أي : فإنما يُسَوِّدُ به نور نفسه وروحه ، ومن تلبَّس بذنب أو عيب ، ثم برح به غيرَه من باب سُوءِ الظن { فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا } لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره ، ويُقصر النقصَ على نفسه ، والواصل يرى الكمال في كل شيء لمعرفته في كل شيء . والله تعالى أعلم .
(1/485)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قلت : الجارّ في قوله : { من شيء } ، في موضع نصب على المصدر ، أي : لا يضرونك شيئًا من الضرر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولولا فضل الله عليك } بالعصمة ورحمته بالعناية ، { لهمت طائفة منهم } وهم رهط السارق { أن يضلوك } عن القضاء بالحق ، مع علمهم بالقصة ، لكن سبقت العناية ، وحفت الرعاية ، فلم تخرج من عين الهداية . وليس المراد نفي همهم لأنه وقع ، إنما المراد نفي تأثيره فيه ، { وما يضلون إلا أنفسهم } لعوده عليهم ، { وما يضرونك من شيء } ؛ لأن الله عصمك ، وما خطر ببالك من المجادلة عنهم ، كان اعتمادًا منك على ظاهر الأمر وإنما أُمرتَ أن تحكم بالظواهر ، والله يتولى السرائر .
{ وأنزل الله عليك الكتاب } أي : القرآن ، { والحكمة } ما نطقتَ به من الحِكَم ، { وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم } من خفيات الأمور ، التي لم تطلع عليها ، أو من أمور الدين والأحكام ، { وكان فضل الله عليك عظيمًا } ولا فضل أعظم من النبوة ، لا سيما وقد فضَّله على كافة الخلق وأرسله إلى كافة الناس ، وهدى الله على يديه ما لم يَهدِ على يدِ أحد من الأنبياء قبله ، إلى غير ذلك من الفضائل التي تفوت الحصر .
الإشارة : لولا أن الله تفضَّل على أوليائه بسابق العناية ، وحفَّت بهم منه الكلاءة والرعاية ، لأضلتهم العموم عن عين التحقيق ، ولأتلفتهم القواطع عن سلوك الطريق ، لكن من سبقت له العناية لا يصيبه سهمُ الجناية ، فثَّبتَ أقدامهم على سير الطريق ، حتى أظهر لهم معالم التحقيق ، فكشف عن قلوبهم رين الحجاب ، حتى فهموا أسرار الكتاب ، ونبع من قلوبهم ينابيع الحَكَم والأسرار ، واطلعوا على علوم لم يُحِط بها كتاب ولا دفتر ، فحازوا في الدارين خيرًا جسيمًا ، وكان فضل الله عليهم عظيمًا .
(1/486)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قلت : إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي؛ فالاستثناء منقطع ، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف؛ أي : إلا نجوى مَن أمر . . . الخ ، وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين ، بالاستثناء متصل . قاله ابن جزي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : محرّضًا على الصمت : { لا خير في كثير } مما يتناجون به في شأن السارق أو غيره ، بل لا خير في الكلام بأسره { إلا من أمر بصدقة } واجبة أو تطوعية ، فله مثل أجره ، { أو معروف } وهو : ما يستحسنه الشرع ، ويوافقه العقل ، كالقرض ، وإغاثة الملهوف ، وتعليم الجاهل ، وإرشاد الضال ، وغير ذلك من أنواع المعروف . أو أمر بإصلاح { بين الناس } ، أي : إصلاحات ذات البين ، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما . قال مجاهد : ( هي عامة للناس ) ، يريد أنه لا خير فيما يتناجى في الناس ، ويخوضون فيه من الحديث ، إلا ما كان من أعمال الخير .
{ ومن يفعل ذلك } أي : الصدقة ، والمعروف والإصلاح ، { ابتغاء مرضات الله } أي : مُخلصًا لله { فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا } وخيرًا جسيمًا . قال البيضاوي : بَنَى الكلامَ على الأمر ، ورتَّب الجزاء على الفعل ، ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخَيّرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل ، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه . وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله؛ لأن الأعمال بالنيات ، وإن من فعل خيرًا رياء وسمعة ، لم يستحق بها من الله أجرًا ، ووصف الأجر بالعظم تنبيهًا على حقارة ما فات في جنبه من أغراض الدنيا . ه .
الإشارة : في الآية حثٌّ على الصمت ، وهو ركن قوي في طريق التصوف ، وهو أحد الأركان الأربعة؛ التي هي : العزلة والجوع والسهر ، فهذه طريق أهل البداية ، ومن لا بداية له لا نهاية له ، وقالوا : بقدر ما يصمت اللسان؛ يعمر الجنان ، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان . وقالوا أيضًا : إذا كثر العلمُ قلَّ الكلام ، وإذا قل العلم كثر الكلام ، وقالوا أيضًا : من عرف الله كَلَّ لسانهُ . وقيل لبعض العلماء : هل العلم فيما سلف أكثر ، أو اليوم أكثر؟ قال : العلم فيما سلف أكثر ، والكلامُ اليومَ أكثر .
وفي قوله : { ومن يفعل ذلك . . . } إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل . والله تعالى أعلم .
(1/487)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
قلت : المشاقة : المخالفة والمباعدة ، كأن كل واحد من المتخالفين في شَقِّ غيرِ شقَّ الآخر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن } يخالف { الرسول } ويتباعد عنه { من بعد ما تبين له الهدى } أي : بعد ما تحقق أنه على الهدى؛ بالوقوف على المعجزات ، فيترك طريق الحق { ويتبع غير سبيل المؤمنين } أي : يسلك غير ما هم عليه ، من اعتقاد أو عمل . { نوله ما تولى } أي : نتركه مع ما تولى ، ونجعله وليًّا له ، ونُخَلِّي بينه وبين ما اختاره من الضلالة ، { ونُصله جهنم } أي : ندخله فيها ، ونشويه بها ، { وساءت مصيرًا } أي : قَبُحت مصيرًا جهنم التي يصير إليها . والآية تَدُل على حرمة مخالفة الإجماع ، لأن الله رتَّب الوعيد الشدد على مشاقة الرسول ، واتباع غير سبيل المؤمنين ، وكل منهما محرم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرمًا ، كان اتباع سبيلهم واجبًا ، انظر البيضاوي .
ثم نزل في طُعمة لما ارتد مشركًا : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقيل : كرر للتأكيد تقبيحًا لشأن الشرك ، وقيل : أتى شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا منذ عرفتُه وآمنتُ به ، ولم أتخذ من دونه وليًا ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا ، وإني لنادم تائب ، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت . { ومن يشرك بالله فقد ضل } عن الحق { ضلالاً بعيدًا } ؛ لإن الشّرك أقبح أنواع الضلالة ، وأبعدها عن الثواب والاستقامة ، وإنما ذكر في الآية الأولى . { فقد افترى } ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب ، ومنشأ شركهم نوع افتراء ، وهو دعوى الشيء على الله . قاله البيضاوي .
الإشارة : كل من خالف شيخه ، وسلك طريقًا غير طريقة؛ ولاه الله ما تولى ، واستدرجه من حيث لا يشعر ، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول : لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله ، لقطع الإمداد وأوجب البعاد ، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر ، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد . وبالجملة : فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم ، ولو إلى من هو أكمل في زعمه ، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه؛ طردٌ وبعدٌ ، وإفساد لبذرة الإرادة ، فلا نتيجة له أصلاً . والله تعالى أعلم . وبالله التوفيق .
(1/488)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
قلت : المَرِيد والمارد؛هو الذي لا يعلق بخير ، وأصل التركيب للملابسة ، ومنه : صرح ممرَّد ، وغلام أمرد ، وشجرة مردى ، أي : سقط ورقها . قاله اليضاوي . ه . وقيل : المريد : الشديد العاتي ، الخارج عن الطاعة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنْ يدعون } : ما يعبدون { من دونه } تعالى { إلا إناثًا } كاللات والعزى ومناة ، فإن ألفاظها مؤنثة عندهم ، أو لأنها جوامد لا تعقل ، فهي منفعلة لا فاعلة ، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل ، أو يريد الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدونها ، ويزعمون أنها بنات الله ، وما يعبدون في الحقيقة { إلا شيطانًا مريدًا } عاصيًا ، لأنه هو الذي أمرهم بها ، وأغراهم عليها ، وكان يكلمهم من أجوافها .
ثم وصفه بأوصاف تُوجب التنفير عنه فقال : { لعنه الله } أي : أبعده من رحمته { وقال لأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا } أي : مقطوعًا فرضته لنفسي ، من قولهم : فرض له في العطاء ، أي : قطع ، { ولأضلنّهم } عن الحق { لأمنينّهم } الأماني الباطلة ، كطول الحياة ، وألاَّ بعث ولا عقاب ، { ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام } أي : يشقونها لتحريم ما أحل الله ، وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب ، وإشارة إلى تحريم كل ما أحل الله ، ونقص كل ما خلق الله كاملاً بالفعل أو بالقوة ، { ولآمرنهم فليُغَيّرُنّ خلق الله } ؛ صورة أو صفة ، فيندرج فيه خصاء العبيد والوشم ، والتنمص وهو نتف الحاجب .
زاد البيضاوي : واللواط ، والمساحقة ، وعبادة الشمس القمر ، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله زلفى . وعموم اللفظ يقتضي منع الخِصاء مطلقًا ، لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم للحاجة ، والجُمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقًا ، أو أتاه فعلاً . ه .
ثم حذّر منه فقال : { ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله } باتباعه فيما أمره به دون ما أمر الله به ، { فقد خسر خسرانًا مبينًا } واضحًا؛ حيث ضيع رأس ماله ، وأبدل بمكانة من الجنة مكانه من النار . { يعدهم } أي : الشيطان ، أمورًا لا تُنجز لهم ، { ويمنّيهم } أماني لا تعطى لهم ، { وما يعدهم } أي : { الشيطان إلا غرورًا } ، وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر ، فكان يوسوس لهم أنهم على الحق وأنهم أولى بالجنة ، إلى غير ذلك من أنواع الغرور ، { أولئك } المغرورون { مأواهم جهنم } أي : هي منزلهم ومقامهم ، { ولا يجدون عنها محيصًا } أي : مهربًا ولا معدلاً . من حاص يحيص : إذا عدل .
الإشارة : ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا ، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا ، إن كنت تحب نفسك ، وتؤثر هواها على حق مولاها ، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة أو البهيمة ، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها ، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان ، وفي الحِكَم : " إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده " . فاشتغل بمحبة الحبيب ، يكفيك عداوة العدو ، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا ، ودع الشيطان جانبًا ، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان . وبالله التوفيق .
(1/489)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
قلت : { وعدّ اللهِ } مصدر ، مؤكد لنفسه ، أي : وعدهم وعدًا ، و { حقًا } مؤكد لغيره ، أي : لمضمون الجملة قبله . انظر البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين آمنوا } بالله ووحدوه ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات } التي كلفوا بها { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا } وعدهم بذلك وعدًا حقًا ، { ومن أصدق من الله قيلاً } أي : لا أحدَ أصدقُ من الله في قوله . والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه ، بوعد الله الصادق لأوليائه ، ترغيبًا في تحصيل أسبابه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : والذين جمعوا بين توحيد عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية سندخلهم جنةَ المعارف ، تجري من تحتها أنها العلوم ، خالدين فيها أبدًا ، وعدًا حقًا وقولاً صدقًا . ومن أصدق من الله قيلاً؟
(1/490)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
قلت : اسم ليس ضمير الأمر ، أي : ليس الأمر بأمانيكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ليس } هذا الوعد الذي ذكرت لأهل الإيمان يُنَال { بأمانيكم } أي : تمنيكم أيها المسلمون ، ولا بأماني { أهل الكتاب } ، أي : لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب ، بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم بأعمالهم . رُوِي أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى منكم ، نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة ، فنزلت . وقيل : الخطاب مع المشركين ، وهو قولهم : لا جنة ولا نار ، أو قولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لتكونن خيرًا منهم وأحسن حالاً .
وأماني أهل الكتاب : قولهم { لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عِمرَان : 24 ] ، و { لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارى } [ البَقَرَة : 111 ] ، ثم قرر ذلك فقال : { من يعمل سوءًا يجز به } عاجلاً أو آجلاً؛ لما رُوِي أنه لما نزلت قال أبو بكر : من ينجو مع هذا يا رسول الله ، إن كنا مجزيين بكل سوء عملناه؟ فقال له عليه الصلاة والسلام " أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك اللأواء؟ " قال بلى يا رسول الله ، قال : " هو ذلك " فكل من عمل سوءًا جوزي به ، { ولا يجد له من دون الله وليًا } يليه ويدفع عنه ، { ولا نصيرًا } ينصره ويمعنه من عذاب الله .
الإشاره : لا تُنال المراتب بالأماني الكاذبة والدعاوي الفارغة ، وإنما تنال بالهمم العالية ، والمجاهدات القوية ، إنما تنال المقامات العالية بالأعمال الصالحة ، والأحوال الصافية ، وأنشدوا :
بِقَدرٍ الكذِّ تُكتَسَبُ المَعَالِي ... من أراد العز سهر الليالي
تُرِيدُ العزَّ ثُم تَنَامُ لّيلاً ... يَغُوضُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي
ولما نزل قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . . . } الآية . قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء .
(1/491)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
الإشارة : { من ذكر أو أنثى } : حال من الضمير في { يعمل } ، وكذا قوله : { وهو مؤمن } و { حنيفًا } ، حال من { إبراهيم } ؛ لأنه جزء ما أضيف إليه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن يعمل } شيئاً { من } الأعمال { الصالحات } وهو المهم من المكلف به ، إذ لا طاقة للبشر على الإتيان بكلها . حال كون العامل { من ذكر أو أنثى } ؛ إذ النساء شقائق الرجال في طلب الأعمال ، والحالة أن العامل { مؤمن } لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال ، فلا ثواب على عمل ليس معه إيمان . ثم ذكر الجواب فقال { فأولئك يدخلون الجنة } أي : يتصفون بالدخول ، أو يدخلهم الله الجنة ، { ولا يُظلمون } أي : لا ينقصون من ثواب أعماله { نقيرًا } أي : مقداره ، وهو النقرة في ظهر النواة . قال البيضاوي : وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالأخرى ألا يزيد في عقاب العاصي ، لأن المجازي أرحَمُ الراحمين . ه .
{ ومَن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله } أي : لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بكليته إلى مولاه { وهو محسن } أي : مُوَحَّدٌ أحسَنَ فيما بينه وبين الله ، وفيما بينه وبين عباد الله ، { واتبع ملة إبراهيم حنيفًا } بأن دخل في الدين المحمدي الذي هو موافق لملة إبراهيم بل هو عينه ، فمن ادعى أنه على ملة إبراهيم ولم يدخل فيه فقد كذب .
ثم ذكر ما يحث على اتباع ملته ، فقال : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } أي : اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله ، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر؛ تفخيمًا له وتنصيصًا على أنه الممدوح ، وسمي خليلاً لأنه قد تخللت محبة الله في جميع أجزائه .
رُوِي أن إبراهيم عليه السلام كان يضيف الناس ، حتى كان يسمى أبا الضيفان ، وكان منزله على ظهر الطريق ، فأصاب الناسَ سَنَةٌ ، جهدوا فيها ، فحشد الناسُ إلى باب إبراهيم ، يطلبون الطعامَ ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة ، فقال لغلمانه : لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك ، ولكنه يريد للأضياف ، وقد أصابنا ما أصاب الناس ، فرجع الرسل إليه ، ومرّوا ببطحاء لينة ، فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس ، وأتوا إبراهيم فأخبروه ، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فنام ، وكانت سارة نائمة فاستيقظت ، وقالت : سبحان الله! أما جاء الغلمان؟ فقالوا : بلى ، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها الحُوَّرَى أي : الخالص من الدقيق فخبزوا وأطعموا؟ فاستيقظ إبراهيم ، وشم رائحة الخبز ، فقال : يا سارة . من أين هذا؟ فقالت : من عند خليلك المصري ، فقال : هذا من عند خليلي الله عز وجل ، فحينئذ سماه الله خليلاً .
قال الزجاج : ومعنى الخليل : الذي ليس في محبته خَلَ ، أو لأنه ردَّ خلَته ، أي : فقره إلى الله مخلصًا .
(1/492)
ه .
{ ولله ما في السماوات وما في الأرض } ملكًا وخلقًا وعبيدًا ، فالملك له ، والعبيد عبيده ، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة ، { وكان الله بكل شيء محيطًا } علمًا وقدرة ، فيجازِي كُلاًّ على قدر سعيه وقصده . والله تعالى أعلم .
الإشارة : على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة ، على قدر البدايات تكون النهايات ، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته ، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم ، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها ، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها ، { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، فمن انقاد إلى الله بكلتية إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله ، ومن تمسك بالملة الحنيفية ، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وكان في أعلى ذروة أهل التقى ، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(1/493)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قلت : و { ما يتلى } : عطف على { الله } ، أي : يفتيكم الله ، والمتلو عليكم في الكتاب ، أي في القرآن . { وترغبون أن تنكحوهن } حذف الجار ، وهو في أو عن ، ليصدق النهي بالراغب فيها إذا كانت جميلة ، والراغب عنها إذا كانت دميمة ، و { المستضعفين } عطف على { يتامى النساء } أي : والذي يتلى في المستضعفين من الولدان ، وهو قوله تعالى : { يوصيكم الله . . . } الخ ، أو على الضمير في { فيهن } أي : يفتيكم فيهن وفي المستضعفين ، و { أن تقوموا } عطف على { المستضعفين } ، أو منصوب بمحذوف ، أي : ويأمركم أن تقوموا . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويستفتونك } يا محمد { في } شأن { النساء } من الميراث وغيره ، { قل الله يفتيكم فيهن } ، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث ، { و } يفتيكم أيضًا فيهن { ما يتلى عليكم في الكتاب } في أول السورة إذ قال : { للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } ثم بيَّنه في تقسيم الميراث في { يوصيكم الله في أولادكم } ، وقال في اليتامى : { وآتوا اليتامى أموالهم } { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى . . . } الآية ، فقد أفتاكم في اليتامى { اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } من الصداق { وترغبون أن تنكحوهن } بدون صداق مثلهن ، فأمركم أن تنكحوا غيرهن ، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في الصداق ، إذا كانت جميلة ، أو لها مال ، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة ، فتعضلوهن لترثوهن ، فلا تفعلوا ذلك ، بل تزوجوها أو زوجوها ، وكانوا في الجاهلية ، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال ، رغبوا فيها وتزوجوها ، بدون صداقها ، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها ، أو زوجوها غيرهم ، فنهى الله تعالى الفريقين معًا .
{ و } يفتيكم أيضًا في { المستضعفين من الوِلدَانِ } وهم الصغار ، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار ، وكانوا لا يورثونهم ، رُوِي أن عُيينة بن حصين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أُخبرنا أنك تورث النساء والصبيان ، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة؟ فقال له صلى الله عليه سلم " كذا أُمِرتُ " فنزلت الآية .
{ و } يفتيكم أيضًا ويأمركم { أن تقوموا لليتامى بالقسط } أي : العدل . وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم ، ويحتاطوا لهم في أمورهم كلها ، ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال : { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا } ، فيجازيكم الى قدر إحسانكم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية ، وعن يتامى العلوم القلبية ، وهن نتائج الأفكار ، وهي العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية؛ التي هي من علوم الحقيقة ، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليفة ، وفي الخبز : " ألا أُخبِركُم بأهل الجَنَّة؟ هو كل ضَعيفٍ مَتَضعّفَ ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ في قَسمه " . أو كما قال صلى الله عليه وسلم . قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم ، وترغبوا في علم الطريقة ، التي هي علم القلوب ، ما تحققون به عبوديتكم ، ومن نتائج الأفكار ما تُشاهدون به عظمة ربكم ، ويأمركم أن تقوموا بالعدل في جميع شؤونكم ، فتعطوا الشريعة حقها والطريقة حقها ، وتحفظوا أسرار الحقيقة عن غير مستحقها ، والله لا يضيع أجر المحسنين .
(1/494)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قلت : { امرأة } : فاعل بفعل يفسره ما بعده ، وأصل ( يَصَّالِحَا ) : يتصالحا ، فأدغمت ، و { صُلحًا } مصدر . وقرأ الكوفيون : { يُصلحا } ؛ من الرباعي ، فتنصب { صُلحًا } على المفعول به ، أو المصدر ، و { بينهما } ظرف ، أو حال منه ، وجملة { الصلح خير } : معترضة ، وكذا : { وأحضرت الأنفس الشح } ، ولذلك اغتفر عدم تجانسهما .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن امرأة خافت } وتوقعت من زوجها { نُشُوزًا } أي : ترفعًا عن صحبتها ، وتجافيًا عنها ، كراهية لها ، ومنعًا لحقوقها ، { أو إعراضًا } عنها ، بأن يترك مجالستها ، ومحادثتها ، { فلا جناح عليهما } أن يتصالحا { بينهما صلحًا } بإن تحط له مهرها ، أو من قسمها مع ضرتها ، أو تهب له شيئًا تستميله به .
نزلت في سعد بن الربيع ، تزوج على امرأته شابةً ، وآثرها عليها . وقيل : في رجل كبرت امرأته ، وله معها أولاد . فأراد طلاقها ليتزوج ، فقالت له : دعني على أولادي ، وأقسم لي في كل شهرين أو أكثر ، أو لا تقسم . فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : " قد سمع الله ما تقول ، فإن شاء أجابك " ، فنزلت . وقيل : نزلت في سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، لما كبرت ، أراد عليه الصلاة والسلام أن يُفارقها ، فقالت : أمسكني في نسائك ولا تقسم لي ، فقد وهبتُ نوبتي لعائشة ، فإني أريد أن أُبعث في نسائك .
ثم رغَّب في الصلح فقال : { والصلح خير } من المفارقة ، أو من سوء العشرة والخصومة ، أو خير في نفسه ، ولا يكون إلا مع ترك بعض حق النفس من أحد الخصمين ، فلذلك ثقل على النفس فشحت به ، وإليه أشار بقوله : { وأحضرت الأنفس الشح } أي : جعلته حاضرًا لديها لا يفارقها ، لأنها مطبوعة عليه ، فالمرأة لا تكاد تسمح للزوج من حقها ، ولا تسخو بشيء تعطيه لزوجها ، والزوج لا يكاد يصبر على إمساكها وإحسان عشرتها إذا كَرِهها ، { وإن تحسنوا } العشرة { وتتقوا } النشوز والإعراض ونقص حق المرأة مع كراهة الطبع لها ، { فإن الله كان بما تعملون خبيرًا } لا يخفى عليه إحسانكم ولا نشوزكم ، فيجازي كُلاًّ بعمله ، وفي بعض الأثر : من صبرعلى أذى زوجته أعطاه الله ثواب أيوب عليه السلام ، وكذلك المرأة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن النفس كالمرأة حين يتزوجها الرجل ، فإنها أذا رأت من زوجها الجد في أموره والانقباض عنها ، هابته وانقادت لأمره ، وإذا رأت منه الليونة والسيولة استخفت بأمره وركبته ، وسقطت هيبته من قبلها ، فإذا أمرها ونهاها لم تحتفل بأمره ، وكذلك النفس إذا رأت من المريد الجد في بدايته والصولة عليها ، هابته وانقادت لأمره وكانت له سميعة مطيعة ، وإذا رأت منه الرخو والسهولة معها ، ركبته وصعب عليه انقيادها وجهادها ، فإذا صال عليها وقهرها فأرادت الصلح معه على أن يسامحها في بعض الأمور ، وتساعفه فيما يُريد منها ، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحًا ، والصلح خير ، فإن دوام التشديد قد يفضي إلى الملل ، وإن تحسنوا معها بعد معرفتها ، وتتقوا الله في سياستها ورياضتها حتى ترد بكم إلى حضرة ربها ، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا .
(1/495)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولن تستطيعوا } ، يا معشر الأزواج ، { أن تعدلوا بين النساء } العدل الكامل التام في الأقوال والأفعال والنفقة والكسوة والمحبة ، { ولو حرصتم } على ذلك لضعف حالكم ، وقد خففت عنكم ، وأسقطت الحرج عنكم ، فلا يجب العدل في البيت فقط ، وكان صلى الله عليه وسلم يَقسِمُ بين نِسَائِه فيعِدلُ ويقُولُ : " اللهمَّ هذه قسمتي فِيمَا أملِك ، فلا تُؤاخِذني فيمَا لا أملِكُ " ، يعني : ميل القلب ، وكان عمر رضي الله عنه يقول : ( اللهم قلبي فلا أملكُه ، وأما سوى ذلك فإني أرجو أن أعدل ) ، وأما الوطء فلا يجب العدل فيه ، إلا أن تتحرك شهوته ، فيكف لتتوفر لذته للأخرى .
{ فلا تميلوا } إلى المرغوب فيها لجمالها أو شبابها ، { كُلَّ الميل } بالنفقة والكسوة والإقبال عليها ، وتَدَعُوا الأخرى { كالمعلقة } التي ليست ذات بعل ولا مطلقة ، كأنها محبوسة مسجونة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من كانت له أمَرأتانِ يَميلُ معَ إحدَاهما ، جَاء يومَ القِيَامَةِ ، وأحَدُ شِقّيه مَائِلٌ " ، { وإن تصلحوا } ما كنتم تفسدون في أمورهن بالعدل بينهن ، { وتتقوا } الجور فيما يستقبل ، { فإن الله كان غفورًا رحيمًا } ، يغفر لكم ما مضى من ميلكم .
الإشارة : من شأن العبودية : الضعف والعجز ، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام ، ولو حرص كل الحرص ، وجدَّ كل الجد ، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه ، فيأتي بما يستطيع ولا يحرص على ما لا يستطيع ، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل ، ولا يحرص على ما لا طاقة له به كل الحرص ، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد ، بل من شأنهم مساعفة الأقدار ، والسكون تحت أحكام الواحد القهار ، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل ، فتتركوا أنفسكم كالمُعلَّقة ، أي : المسجونة ، وهذا من شأن أهل الحجاب ، يُحبسون في المقامات والأحوال تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى . فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا . وأهل الغنى بالله لا يقفون مع حال ولا مقام ، هم مع مولاهم ، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه ، وتلونوا بلونه ، وهذا مقام التلوين بعد التمكين .
وفي إشارة أخرى : اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب ، يقيم عند هذه مدة ، وعند هذه أخرى ، فإذا أقام عند الحكمة كان في مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة ، وإذا أقام عند القدرة كان في مقام شهود الربوبية فيكون في علم ويقظة وقوة وعزة . ولا قدرة له على العدل بينهما ، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما ، ويعطي كل ذي حق حقه ، بأن يعرف فضلهما ، ويسير بكل واحد منهما . وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم ، فإن الله كان غفورًا رحيمًا؛ يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم .
(1/496)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن يتفرقا } أي : يفارق كل واحد منهما صاحبه ، { يُغن الله } كل واحد منهما عن صاحبه ، ببدل أو سُلُو يقوم بأمره من رزق أو غيره ، من سعة غناه وكمال قدرته ، { وكان الله واسعًا } قدرته { حكيمًا } أي : متقنًا في أحكامه وأفعاله . ثم بيَّن معنى سعته فقال : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } أي : كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته ، قائمًا بحفظه وتدبيره ، يعطي كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن الروح ما دامت مسجونة تحت قهر البشرية ، محجوبةً عن شهود معاني الربوبية ، كانت فقيرة جائعة متعطشة ، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها ، وتقف معها ، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها ، وخرجت فكرتها من سجن الأكون ، أغناها الله بشهود ذاته ، وأفضت إلى سعة فضاء الشهود والعيان ، وملكت جميع الأكوان ، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك " ، وكذلك البشرية يغنيها الله عن تعب الخدمة وتستريح في ظل المعرفة ، فلما تفرقا أغنى الله كلاًّ من سعة فضله وجوده ، لأنه واسع العطاء والجود ، حكيم في تدبير إمداد كل موجود .
وفي قوله : { ولله ما في السماوات وما في الأرض } إشارة إلى أن من كان بالله ، ووصل إلى شهود ذاته ، ملَّكه الله ما في السماوات وما في الأرض ، فيكون خليفة الله في ملكه { وَمَا ذّلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 20 ] .
ولمّا جرى الكلام على شأن النساء ، وهن حبائل الشيطان ، تشغل فتنتهن عن ذكر الرحمن ، حذَّر الحق تعالى من فتنتهن ، كما هو عادته تعالى في كتابه عند ذكرهن ، وأمر بالتقوى التي هي حصن من كل فتنة ، فقال :
{ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً }
قلت : { من قبلكم } : يتعلق بأوتوا أو بوصينا ، و { إياكم } : عطف على الذين ، و { أن اتقوا } : على حذف الجار ، أي : بأن اتقوا ، أو مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول ، و { إن تكفروا } على حذف القول ، أي : وقلنا لهم ولكم : { وإن تكفروا . . . } الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد وصينا } الأمم المتقدمة الذين أنزلنا عليهم { الكتاب من قبلكم } كأهل التوراة والإنجيل والزبور ، وغيرهم من الأمم ، ووصيناكم أنتم { أن اتقوا الله } بإن تمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا نواهيَه ، ظاهرًا وباطنًا ، وقلنا لهم ولكم : { وإن تكفروا } فإن الله غني عن كفركم وشكركم؛ فقد استقر له { ما في السماوات وما في الأرض } ملكًا وعبيدًا ، فله فيهما من الملائكة من هو أطوع منكم ، فلا يتضرر بكفركم ، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم ، وإنما أوصاكم رحمًة بكم ، لا لحاجة إليكم ، ثم قرر ذلك بقوله : { وكان الله غنيًا حميدًا } أي : غنيًا عن الخلق وعبادتهم ، محمودًا في ذاته ، حُمِد أو لم يُحمد .
(1/497)
{ ولله ما في السماوات وما في الإرض } كرره ثالثًا؛ للدلالة على كونه غنيًا حميدًا ، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه ، وبما أفاض عليها من الوجود ، وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدًا . قاله البيضاوي . { وكفى بالله وكيلاً } أي : حافظًا ومجيرًا لمن تعلق به من أهل السماوات والأرض . { إن يشأ يذهبكم أيها الناس } إن لم تتقوه ، ويأت بقوم آخرين ، هم أطوع منكم وأتقى ، { وكان الله على ذلك قديرًا } أي : بليغ القدرة لا يعجزه مُراد .
قال البيضاوي : وهذا أي قوله : { إن يشأ يذهبكم . . . } أيضًا تقرير لغناه وقدرته ، وتهديد لمن كفر وخالف أمره ، وقيل : هو خطاب لمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب ، وهو معنى قوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] لما رُوِي : أنَّهَا لمَا نزلَت ضَربَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على ظهر سَلمَان وقال ) " إنّهم قَومُ هذا " .
الإشارة : التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق ، عليها سلك السائرون ، وبها وصل الواصلون ، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين ، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين . ولها خَمسُ درجاتٍ : أن يتقي العبد الكفر؛ وذلك بمقام الإسلام ، وأن يتقي المعاصي والمحرمات؛ وهو : مقام التوبة ، وأن يتقي الشبهات؛ وهو مقام الورع ، وأن يتق المباحات ، وهو مقام الزهد ، وأن يتقي شهود السَّوى والحس؛ وهو مقام المشاهدة .
ولها فضائل مستنبطة من القرآن ، وهي خمس عشرة : الهداية؛ لقوله تعالى : { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، والنصرة؛ لقوله : { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ } [ النّحل : 128 ] ، والولاية؛ لقوله : { وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } [ الجَاثيَة : 19 ] والمحبة؛ لقوله { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين } [ التّوبَة : 4 ] ، وتنوير القلب؛ لقوله : { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفال : 29 ] ، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب ، لقوله : { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2 ، 3 ] ، وتيسير الأمور؛ لقوله : { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [ الطلاق : 4 ] وغفران الذنوب وإعظام الأجر؛ لقوله : { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } [ الطّلاَق : 5 ] ، وتقبل الأعمال؛ لقوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [ المَائدة : 27 ] والفلاح؛ لقوله : { وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ البَقَرَة : 189 ] والبشرى؛ لقوله : { لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الأَخِرَةِ } [ يُونس : 64 ] ، ودخول الجنة؛ لقوله : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم } [ القَلَم : 34 ] والنجاة من النار؛ لقوله : { ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَواْ } [ مريم : 72 ] . ه . من ابن جزي .
ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه :
عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ ... ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ
لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه ... فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ
ِ وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن ... يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر
(1/498)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
قلت : { من } : شرطية ، وجوابها محذوف؛ دل عليه الكلام ، أي : من كان يريد ثواب الدنيا فيلطلبه منه ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ، أو من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة ، عند الله ثواب الدنيا والآخرة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { من كان يريد ثواب الدينا } والتوسع فيها ، فليطلبه منا؛ فعند الله ثواب الدارين ، أو من كان يريد ثواب الدنيا ، فليطلب مع ذلك ثوابَ الآخرة أيضًا ، وليقل : { رَبَّنَا ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفي الأَخِرَةِ حَسَنَةً } [ البَقَرَة : 201 ] ؛ { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } ، فيعطيهما معًا لمن طلبهما ، والثاني أنهض من الأول ، وأكملُ منهما من أعرض عنهما وطلب مولاه ، { وكان الله سميعًا بصيرًا } ، لا يخفى عليه مقاصد خلقه ، فيعطي كُلاًّ على حسب قصده .
الإشارة : المهم ثلاثة : همة دنية تعلقت بالدنيا الدنية ، وهمة متوسطة تعلقت بنعيم الآخرة ، وهمة عاليه تعلقت بالكبير المتعال . والله تعالى يرزق العبد على قدر همته ، وبالهمم ترفع المقادير أو تسقط ، فمن كانت همته دنية كان دَنيًا خسيسًا ، ومن كانت همته متوسطة؛ كان قدره متوسطًا ، رحل من كون إلى كون ، كحمار الرحا ، يسير ، والذي ارتحل منه هو الذي عاد إليه ، ومن كانت همته عالية كان عالي المقدار ، كبير الشأن حاز الكونين بما فيهما ، وزاد مشاهدة خالقهما ، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
(1/499)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
قلت : { شهداء } : خبر ثاني لكان ، أو حال ، { فالله أولى } : علة للجواب؛ أي : إن يكن المشهود عليه غنيًا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيمًا له ، وإن يكن فقيرًا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقًا عليه ، فإن الله أولى بالغني والفقير منكم ، والضمير في { بهما } راجع إلى ما دل عليه المذكور ، وهو جنسًا الغني والفقير ، لا إليه وإلا لوحّد؛ لأن " أو " لأحد الشيئين . و { أن تعدلوا } : مفعول من أجله ، ومن قرأ : تلوا بضم اللام فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف الواوين ، وقيل : من الولاية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } أي : مجتهدين في إقامة العدل مواظبين على الحكم به ، وكونوا { شهداء لله بالحق } تقيمون شهادتكم لوجه الله ، وابتغاء مرضاته ، بلا طمع أجر ولا عرض ، وهذا إن تعينت عليه ، ولم يكن في تحملها مشقة ، وإلا أُبيح له أجر تعبه ، فأدوا شهاداتكم { ولو } كانت { على أنفسكم } بأن تقروا بالحق الذي عليها ، لأن الشهادة بيان الحق ، سواء كان عليها أو على غيرها ، { أو } كانت الشهادة على { الوالدين والأقربين } ، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما ، وأحرى غيرهما من الأجانب ، { إن يكن } المشهود عليه { غنيًا أو فقيرًا } فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما ، تعظيمًا للغني أو شفقة للفقير ، فأن { الله أولى بهما } وبالنظر لهما ، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحًا لهما ما شرعها ، { فلا تتبعوا الهوى } فتميلوا مع الغني أو الفقير ، فقد نهيتكم إرادة { أن تعدلوا } في أحكامكم ، فتكونوا عدولاً ، أو كراهية أو تعدلوا عن الحق أي : تميلوا ، { وإن تلووا } ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل { أو تعرضوا } عن أدائها فتكتموها { فإن الله كان بما تعملون خبيرًا } ، فيجازي الكاتم والمؤدي .
قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها : " مَن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُقِم شهادتَه على من كانت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يَجحَد حَقًا هو عليه ، وليؤُده عَفوّا ، ولا يلجئه إلى السُلطان وخصوُمتِه ، ليقتطع بها حقه ، وأيما رجل خَاصَمَ إليَّ فقضَيتُ له على أخِيِه بحقٍ ليس له عليه ، فلا يأخُذُه ، فإنَما أقَطَعُ له قطعةً مِنَ النَارِ " .
الإشارة : قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل في الأمور كلها ، ونهى عن مراقبة الخلق في الأشياء كلها ، فيتأكد على المريد ألاَّ يراقب أحدًا من الخلق؛ وإنما يراقب الملك الحق ، فيكون قويًا في الحق ، يقيمه على نفسه وغيره ، فلا تجتمع مراقة الحق مع مراقبة الخلق ، من راقب الحق غاب عن الناس ، ومن راقب الناس غاب عن الحق ، وعاش مغمومًا من الخلق ، ولله در القائل حيث قال :
مّن رَاقّبَ الناسَ ماتَ غمًّا ... وفازَ باللذات الجَسُور
وكان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول ( مراقبةُ الخلقِ عند أهل الظاهر شيءٌ كبير ، وعدم المراقبة عند الباطن أمر كبير ) . فإقامة العدل على النفس؛ ألاَّ يتركها تميل إلى الرخص والتأويلات ، وإقامته على الوالدين تذكيرهما بالله ودلالتهما على الله بلطف ولين ، وإقامته على الأقربين بنصحهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم ، كانوا أغنياء أو فقراء ، وإقامته على الأجانب كذلك . وبالله التوفيق .
(1/500)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
يقول الحقّ جلّ جلاله : مخاطبًا من أسلم من اليهود وهو عبدالله بن سَلاَم وأسَد وأسيد ابنا كَعبٍ ، وثَعلبة بن قَيسٍ ، وسلاَّم ابن أخت عبدالله بن سلام ، وسلمة ابن أخية ويامين قالوا يا رسول الله ، نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعُزَّير ، ونكفُرُ بما سِوَاهُ من الكُتب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " آمِنُوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن ، وبكل كتاب قبله " فَنزلت الآية .
فقال لهم جلّ جلاله : { يأ أيها الذين آمنوا } بمحمد ، بعد أن آمنوا بموسى؛ { آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله } القرآن { والكتاب الذي أنزل من قبل } أي : جنس الكتاب ، فتدخل الكتب المتقدمة كلها ، { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر } أي : ومن يكفر بشيء من ذلك { فقد ضل ضلالاً بعيدًا } أي : أخطا خطًأ بعيدًا لا يكاد يعود إلى الطريق ، فلما نزلت قالوا : يا رسول الله؛ إن نؤمن بالجميع ، ولا نفرق بين أحد منهم ، كما فرقت اليهود والنصارى .
وقيل : الخطاب للمنافقين ، أي : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم آمِنُوا بقلوبكم ، كما آمنتم بألسنتكم ، وقيل : للمؤمنين ، أي : دوموا على إيمانكم ، وأثبتوا عليه .
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله ، أهل الإيمان أن يجددوا إيمانهم ، فيثبتوا على ما هو حاصل ، ويسترشدوا إلى ما ليس بحاصل ، فإن أنوار الإيمان تتزايد وتترادف على القلوب بحسب التصفية والنظر ، وبقدر الطاعة والتقرب ، فلا يزال العبد يتقرب إلى الله ، وأنوار التوجه تتوارد عليه ، حتى تشرق عليه أنوار المواجهة؛ وهي أنوار الشهود ، فشروق الأنوار على قدر صفاء الأسرار ، وورود الإمداد على حسب الاستعداد ، فبقدر التفرغ من الأغيار ترد على القلوب المواهب والأسرار ، وهذا كله لمن صحب العارفين وأخذ عنهم ، وملّك زمام نفسه لهم ، وإلا فحَسبُه الإيمان بالغيب ، ولو عمل ما عمل ، وبالله التوفيق .
(2/1)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين آمنوا ثم كفروا } ثم تكرر منهم الإيمان والكفر ، ثم أصروا على الكفر وهم المنافقون ، { لم يكن الله ليغفر لهم } ؛ لما سبق لهم من الشقاء ، أو { إن الذين آمنوا } بموسى { ثم كفروا } بعبادة العجل { ثم آمنوا } حين تابوا { ثم كفروا } بعيسى { ثم ازدادوا كفرًا } بمحمد صلى الله عليه وسلم ن { لم يكن الله ليغفر لهم } ، وهم اليهود ، والأول أظهر ، لأن الكلام بعده في المنافقين ، فقال تعالى في شأنهم : { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } أي : طريقاً توصلهم إلى الحق ، إذ يُستبعد منهم أن يتوبوا ، فإن قلوبهم أشربت الكفر ، وبصائرهم عميت ، لا ينفع علاجها ، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم ينفعهم ، وقد يكون إضلالهم عقابًا لسوء أفعالهم .
ثم ذكر وعيدهم فقال : { بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا } . وهم { الذين يتخذون الكافرين أولياء } أي : أحبابًا وأصدقاء { من دون المؤمنين } ، وقد كان الكفار قبل ظهور الإسلام لهم الصولة والجاه ، فطلب المنافقون أن ينالوا بولايتهم ومصادقتهم العزّ منهم ، فردّ الله عليهم بقوله : { أيبتغون عندهم العزة } بولايتهم؟ { فإن العزة لله جميعًا } ولرسوله ولأوليائه ، ولا عزة لغيره؛ إذ لا يعبأ بعزة لا تدوم ويعقبها الذل .
الإشارة : من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية ، ضعيفَ التصديق ، تراه تارة يدخل وتارة يخرج ، وتارة يصدق وتارة ينكر ، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص ، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم ، فبشره بالخيبة والخسران ، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان ، والعياذ بالله من الخذلان ، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان ، وعزة المعرفة والإحسان ، وبصحبة أهل العرفان ، الذين تعززوا بعز الرحمن ، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه ، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه ، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله ، يظهره بين عباد الله . قال بعضهم : والله ما رأيت العز إلا في الذل . وقال الشاعر :
تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً ... فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ
وبالله التوفيق .
(2/2)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ . . . }
قلت : { أن } مخفف : نافية ، فاعل نزّل ، و { يكفر } و { يُستهزأ } ، حالان من الآيات ، وضمير { معهم } : يعود على الكفار المفهوم من { يكفر } ، وضمير { غيره } ؛ يعود على الكفر والاستهزاء ، وهما شيء واحد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في التحذير من مجالسة أهل الكفر والمعاصي : { وقد نزل عليكم } يا معشر المسلمين في القرآن في سورة الأنعام ، أنه { إذا سمعتم آيات الله } حال كونها { يُكفَر بها ويُستَهزأ بها فلا تقعدوا معهم } بل قوموا عنهم ، إن لم تقدروا أن تنكروا عليهم ، والآية التي في سورة الإنعام قوله تعالى : " وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ " [ الأنعام : 68 ] الآية . فما داموا في الخوض فاعرضوا عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الخوض ، فإن جلستم معهم في حال الخوض فإنكم { إذًا مثلهم } في الإثم ، إن لم ترضوا ، أو في الكفر ، إن رضيتم بخوضهم .
نزلت في قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ، ويكذبون به ويحرفونه ، فنهى المسلمين عن مجالستهم ، قال ابن عباس : ودخل في هذه الآية كُلُّ مُحدِث في الدين ومُبتدعٍ إلى يوم القيامةً . ه .
الإشارة : أولياء الله آيات من آيات الله : فمن استهزأ بهم فقد استوجب المقت من الله ، وكل موطن يقع فيه الإنكار عليهم أو الغض من مرتبتهم ، يجب الفرار منه ، لأنه موطن الغضب ومحل الهلاك والعَطب ، فإن لحوم الأولياء سموم قاتلة ، واللعنة على من يقع فيهم حاصلة ، فمن جلس مع أهل الخوض من غير عذر ، كان من الخائضين ، ومن فرّ منهم كان من الناجين ، ومن أنكر على من يقع فيهم كان من المجاهدين . والله تعالى أعلم .
ثم ذكر وعيد الخائضين ومن رضي بخوضهم ، فقال :
. . . { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً }
قلت : { الذين } : صفة المنافقين ، أو نصب على الذم ، و { نستحوذ } : تغلب ، استحوذ : غلب ، جاء على أصله ، ولم يُعلّ كاستعاذ والقياس : استحاذ ، يستحيذ ، كاستعاذ يستعيذ ، لكنه صحح تنبيهًا على الأصل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله } سيجمع { المنافقين والكافرين } ، أي : الخائضين والقاعدين معهم ، { في جهنم جميعًا } خالدين فيها . { الذين يتربصون بكم } أي : ينتظرون بكم الدوائر ، أي : ما يدور به الزمان والدهر عليكم ، وهم المنافقون ، { فإن كان لكم فتح من الله } كالنصر والغنيمة { قالوا } للمؤمنين : { ألم نكن معكم } على دينكم ، فأعطونا مما غنمتم ، { وإن كان للكافرين نصيب } ؛ دولة أو ظهور على المسلمين ، { قالوا } لهم : { ألم نستحوذ عليكم } أي : نغلبكم ونتمكن من قتلكم ، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم ، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعُفت به عزيمتهم عليكم ، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم ، فأشركُونا مما أصبتم .
(2/3)
وإنما سمي ظفر المسلمين فتحًا ، وظفر الكافرين نصيبًا؛ لخسة حظه ، فإنه حظ دنياوي ، استدراجًا ومكرًا ، بخلاف ظفر المسلمين ، فإنه إظهار الدين ، وإعانة بالغنيمة للمسلمين .
{ فالله يحكم بينهم يوم القيامة } ؛ فيدخل أهل الحق الجنة ، ويدخل أهل الخوض النار ، { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } أي : حجة ، أو غلبة في الدنيا والآخرة ، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم ، فيباع عليه إن اشتراه ، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ( المرء مع من أحب ) ؛ من أحبَّ قومًا حُشر معهم ، فمن أحب أهل الخوض حُشر مع الخائضين ، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين ، وإن كان مذبذبًا يميل مع كل ريح؛ حشر مع المخلصين ، وهو من خف عقله وضعف يقينه ، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزًا ونصرًا وفتحًا انحاز إليهم ، وقال : ألم نكن معكم ، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم ، وقال : ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم ، فما لهذه عند الله من خلاق . وفي الحديث : " ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا " فالله يحكم بينهم يوم القيامة ، فيرفع أهل الصفا مع المقربين ، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين ، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار ، { إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النّحل : 128 ] .
(2/4)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قلت : جملة : { ولا يذكرون الله } ؛ حال من واو { يُراءون } ، وكذلك { مذبذبين } أي : يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين ، أو منصوب على الذم ، والمذبذب المضطرب المتردد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن المنافقين يُخادعون الله } بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر ، { وهو خادعهم } ، أي : مجازيهم على خداعهم؛ بأن يظهر لهم يوم القيامة ، نورًا يمشون به على الصراط ، كما يعطي المؤمنين ، فإذا مضوا به طُفِىءَ نورهم وبقي نور المؤمنين ، فينادونهم : { انظُرُونَا نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا } [ الحديد : 13 ] ، فيتهافتون في النار ، فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب .
وكانوا { إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } أي : متثاقلين ، لا يريدون بها وجه الله ، فإن رءاهم أحد ، صلوا ، وإلاَّ انصرفوا ، فلم يصلوا ، { يُراءون } بأعمالهم { الناس } أي : المؤمنين ، { ولا يذكرون الله إلا قليلاً } ؛ لأن المرئي لا يذكر إلا بحرة الناس ، وهو أقل أحواله ، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً ، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم ، وقال ابن عباس : إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً ، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا . وقال قتادة : إنما قل ذكرهم ، لأنه لم يُقبل ، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل ، وكل ما قُّبل فهو كثير .
وكانوا أيضًا { مذبذبين } أي : مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان ، { لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء } أي : لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين . قال قتادة : ماهم بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك ، هكذا سبق في علم الله ، { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } أي : طريقًا إلى الهدى ، ومثله قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ } [ النور : 40 ] .
الإشارة : كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله ، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء ، وعلامة المرائي : تزيين ظاهرة وتخريب باطنه ، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله ، يراقب الناس ولا يراقب الله ، وكان بعضُ الحكماء يقول : يقول الله تعالى : " يا مُرائي : أمرُ من ترائى بيد من تعصيه " فمثل هذا أعماله كلها قليلة ، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي ، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس ، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس . قال في القوت : وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة ، لكونه غير خاص ، كما قيل في تفسير قوله تعالى : { ذِكْرًا كَثِيرًا } [ الأحزَاب : 41 ] أي : خالصًا ، فسمي الخالص كثيرًا . ه .
قولى تعالى : { مذبذبين بين ذلك } : هذه صفة أهل الدعوى ، المستشرفين على الحقيقة بالعلم ، ليسوا من الخصوص ولا من العموم ، مترددين بين الفريقين ، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق ، فلن تجد له سبيلاً .
(2/5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قلت : اتخذ ، يتعدّى إلى مفعولين ، و { من دون } : حال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } لا تتشبهوا بالمنافقين فتتخذوا { الكافرين أولياء } وأصدقاء { من المؤمنين } ؛ لأن الله أعزكم بالإيمان والنصر ، فلا تطلبوا العز من أحد سواه ، { أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا } أي : حجة واضحة على تعذيبكم وسببًا في عقابكم .
الإشارة : قد تقدم في كثير من الإشارات النهي عن موالاة أهل الإنكار على الأولياء ، وعن مخالطة أهل الدنيا وصحبتهم ، فإن ذلك حجة واضحة على الرجوع إليهم ومصانعتهم ، وهو عين النفاق عند المخلصين . والله تعالى أعلم .
(2/6)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
قلت : الدَّرَك والدَّرْك لغتان ، كالظَّعَن والظَّعْن ، والنَّهَر والنَّهْر ، والنَّشَر والنَّشْر ، وهي الطبقة السفلى ، وسميت طبقاتهم دركات؛ لأنها مُتداركة متتابعة ، وهي ضد الدرجات ، فالدرجات للعلو ، والدركات للسفل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } أي : في الطبقة السفلى في قَعر جهنم؛ لإنهم أخبث الكفرة ، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين . قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( هم في توابيت من النار مقفلة عليهم في النار ، مطبقة عليهم ) . وعن ابن عمر رضي الله عنه : ( إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، وممن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون لقوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } وقال في أصحاب المائدة : { فَإِنْي أُعَذِبُهُ عَذَابًا لآَّ أُعَذِبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالمِينَ } [ المَائدة : 115 ] . وقال : { ادْخِلُوَاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَ الْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ، { ولن تجد لهم نصيرًا } يمنعهم من ذلك العذاب . { إلا الذين تابوا } عن النفاق { وأصلحوا } ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق ، { واعتصموا بالله } أي : وثقوا به وتمسكوا به ، دون أحد سواه ، { وأخلصوا دينهم لله } لا يريدون بطاعته إلا وجه الله ، ولا رياءً ولا سمعةً { فأولئك مع المؤمنين } في الدين . قال الفرَّاء : من المؤمنين ، وقال العتبي : حاد عن كلامهم غيظًا عليهم ، ولم يقل هم المؤمنون . ه . قلت : إنما قال : { مع المؤمنين } ولم يقل : منهم ، لأن التخلص من النفاق صعب ، ولا يكون من المؤمنين ، حتى يتخلص من جميع شعبه ، وهو عزيز ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه فهُوَ مُنَافقٌ ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ ، وإذَا وعَدَ أخلفَ ، وإذا ائُتمِنَ خَانَ " .
{ وسوف يُؤت الله المؤمنين } المخلصين { أجرًا عظيمًا } فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا ، فإن الله غني عن عذابهم ، ولذلك قال : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } أي : لا حاجة له في عذابكم ، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا ، أو يستجلب به نفعًا؛ لأنه غنيَّ عن المنافع ، وإنما يعاقب المصر بكفره ، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض فإن زال بالإيمان والشكر ، ونقَّى منه قلبه ، تخلص من تبعته . وإنما قدم الشكر؛ لإن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا ، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به . قاله البيضاوي . وقال الثعلبي : فيه تقديم تأخير ، أي إن آمنتم وشكرتم ، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان . { وكان الله شاكرًا } لأعمال عباده ، يقبل اليسير ويعطي الكثير ، { عليمًا } بحقيقة شكرهم وإيمانهم ، ومقدار أعمالهم ، فيضاعفها على قدر تخليصها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء؛ نبت على لون آخر ، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية .
(2/7)
كما قال الششتري رضي الله عنه :
طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا ... مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه
قال بعضهم : [ لا ينبت الإخلاص في القلب؛ حتى يَسقط من عين الناس ، ويُسقط الناسَ من عينه ] . والإخلاص من أعمال القلوب ، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب ، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار ، وقد تدخل الرياء مع الإسرار ، وتتخلص من القلب مع الإظهار ، وفي الحكم : " ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك " . فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء ، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه ، كان مع المخلصين المقربين؛ فيكون عمله موفورًا ، وسعيه مشكورًا . وبالله التوفيق .
وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال : إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل؛ لأنهم جحدوا بعد العلم ، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عَصَى عن علم . قلت : وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب " وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ " وذلك لاعراضه مع العلم . وقال في الإحياء أيضًا : شدَّد أمر المنافقين؛ لإن الكافر كفرَ وأظهَرَ ، والمنافق كفر وستر ، فكان ستره لكفره كفرًا آخر ، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه ، وعظَّم أمر المخلوقين . ه . والحاصل : أن التشديد في الرياء والنفاق؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق ، فكان أعظمَ من الكفر الصريح . ه . من الحاشية .
(2/8)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قلت : { إلا من ظلم } : استثناء منقطع ، أي : لكن من ظلم فلا بأس أن يشكو بظالمه ويدعو عليه ، وليس المراد أن الله يحب ذلك منه ، إذ العفو أحسن كما يقوله بعد ، وقٌرىء : { إلا من ظَلَم } بالبناء للفاعل ، أي : ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله .
يقول الحقّ جلَ جلاله : { لا يحب الله الجهر } أي : الإجهار { بالسوء من القول } ؛ لأنه مِن فِعل أهل الجفاء والجهل { ألا من ظُلم } فلا بأس أن يجهر بالدعاء على ظالمه ، أو بالشكوى به . نظيرها : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ } [ الشّورى : 41 ] . قال مجاهد : هذا في الضيف النازل إذا لم يُضَف ومُنِع حقه ، أو أُسِيءَ قِراه ، فقد رخص له أن يذكر ما صُنعَ به . وزَعَم أن ضيفًا تَضَيَّفِ قومًا فأساؤوا قراه ، فاشتكاهم ، فنزلت الآية رخصة في شكواه . { وكان الله سميعًا } لدعاء المظلوم ، ورده على الظالم ، فلا يحتاج إلى جهره ، { عليمًا } بالظالم فيعاقبه على قدر جرمه .
ثم رغَّب في العفو فقال : { إن تُبدوا خيرًا } : طاعة وبرًا كحسن الخلق ولين الجانب ، { أو تُخفوه } أي : تفعلوه سرًا ، { أو تعفوا عن سوء } بأن لا تؤاخذوا به من أساء إليكم ، وهذا هو المقصود بالذكر ، وإنما ذُكِرَ إبداءُ الخير وإخفاؤُه سببًا ووسيلة لذكره ، ولذلك رتب عليه { فإن الله كان عفوًا قديرًا } أي : كثير العفو عن العُصاة ، مع كمال قدرته على الانتقام ، فأنتم أولى بذلك ، وهو حث للمظلوم على العفو ، بعدما رخَّص له في الانتصار ، حملاً على مكارم الأخلاق .
الإشارة : اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره؛ ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق ، ولين الجانب ، وحسن الخطاب ، وترك العتاب ، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر؛ وما كمن فيك ظهر على فيك ، وهذه أخلاق الصوفية رضي الله عنهم وأرضاهم وبذلك وصفهم القائل فيهم ، فقال :
هيْنُون ليْنُون أيسَارٌ بنو يَسَرٍ ... سُوَّاسُ مَكرُمَةِ أبناءُ أيسَارِ
لا يَنطقُون بغيرِ الحقِّ إن نطقُوا ... ولا يُمَاروُنَ إن مارَوُا بإكثَارِ
مَن تَلق مِنهُم تَقُل هذاك سَيِّدهُم ... مِثلُ النُّجُومِ التي يُهدَى بها السَّارِ
ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب ، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم ، لأنها جنة معجلة ، قال تعالى { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِمًا ، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] .
وأيضَا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب ، فهم في حضرة القريب على بساط القرب على الدوام ، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام ، وهم في حضرة الملك العلاَّم . قال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا } [ طه : 108 ] ، فرفعُ الصوت عند الصوفية مذموم شنيع ، يدل على بُعد صاحبه كيف ما كان ، وتأمل قضية الصِّدِّيق حيث قال له عليه الصلاة والسلام : " ما لَك تقرأ سرًا؟ " فقال : ( إن الذي نناجيه ليس ببعيد ) . أو كما قال ، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم " ارفع قليلاً " ؛ إخراجًا له عن مُراده ، تربية له . والله تعالى أعلم .
(2/9)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
قلت : { حقًا } : مصدر مؤكد للجملة ، أو صفة لمصدر الكافرين ، أي : كفروا كفرًا محققًا يقينًا . وأصل { أعتدنا } : أعددنا ، أبدلت الدال تاء؛ لقرب المخرج .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يُفرقوا بين الله ورسله } بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله ، { ويقولون نؤمن ببعض } الأنبياء { ونكفر ببعض } ، كاليهود ، آمنوا بموسى وعُزير والتوراة ، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، { ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً } ، أي : طريقًا وسطًا بين الإيمان والكفر ، ولا واسطة ، إذ الحق لا يختلف ، فإن الإيمان بالله إنما يتم برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه ، تفصيلاً وإجمالاً ، فالكافر بالبعض كالكافر بالكل في الضلال . ولذلك حكم عليهم بصريح الكفر فقال : { أولئك هم الكفرون حقًا } أي : هم الكاملون في الكفر حقيقة ، وإنما أكد كفرهم لأنهم تحكموا على الله ، واتخذوا إلههم هواهم ، حيث جعلوا الاختيار لهم دون الله ، وفي ذلك منازعة للقدر ، وتعطيل له ، وهو كفر وشرك ، ثم ذَكَرَ وعيدَهم فقال : { وأعتدنا } أي : هيأنا { للكافرين } منهم { عذابًا مهينًا } أي : يخزيهم ويهينهم ، حين يُكرِّم أولياءَه ويرفع أقدارهم . جعلنا الله منهم . آمين .
الإشارة : الأولياء على قدم الأنبياء ، فمن فرَّق بينهم حُرم بركةَ جميعهم ومن صدَّق بجميعهم وعَظَّمَهم اقتبس من أنوارهم كلهم ، والله تعالى غيور على أوليائه ، كما كان غيورًا على أنبيائه ، فطرد من فرَّق بينهم ، فكذلك يطرد من يقع في بعض أوليائه ويعظم البعض ، لأن البعض هو الكل . والله تعالى أعلم .
(2/10)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
قلت : { بين } : من الأمور النسبية ، فلا بد أن تدخل على متعدد ، تقول؛ جلست بين فلان وفلان ، وإنما دخلت هنا على { أحد } ؛ لأنه يقتضي متعددًا لعمومه ، لانه رفع في سياق النفي . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين آمنوا بالله } وما يجب له من الكمالات ، { ورسله } وما يجب لهم كذلك ، { ولم يُفرقوا بين أحد منهم } بأن آمنوا بجميعهم ، وصدقوا بكل ما جاؤوا به من عند ربهم ، { أولئك سوف نؤتيهم أجورهم } الموعودة لهم ، بأن نُجِلَّ مقدارهم ، ونرفع مقامهم ، ونُبوئهم في جنات النعيم . وتصديره بسوف؛ لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر وقته ، ولمًا كان العبد لا يخلوا من نقص ، رفع الخوف عنهم بقوله : { وكان الله غفورًا } لما فرط منهم { رحيمًا } بهم بتضعيف حسناتهم .
الإشارة : والذين صدقوا بأولياء الله ، وعظموا جميعهم ، واقتبسوا من أنوارهم كلهم ، أولئك سوف نؤتيهم أجورهم ، بأن أُنعمهم في جنات المعارف في دار الدنيا ، فإن ماتوا أسكنَّاهم في الفراذيس العُلَى { في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] . والله تعالى أعلم .
(2/11)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قلت : من قرأ : { لا تعدوا } بالسكون ، فماضيه : عدا ، ومن قرأ بتشدد الدال ، فماضيه اعتَدى ، وأصله : لا تعتدوا ، فنُقلت حركة التاء إلى العين وأُدغمت التاء في الدال ، ومن قرأ بالاختلاس أشار إلى الأصل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألك أهل الكتاب } ، وهم أحبار اليهود ، { أن تنزل عليهم كتابًا من السماء } جملة واحدة ، كما نزل التوراة ، أو كتابًا بخطَّ سماوي على ألواح كما كانت التوراة ، والسائل هو كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهم ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ( إن كنت نبيًا فأتنا بكتاب من السماء جملةً ، كما أتى به موسى ) ، قال تعالى في الرد عليهم : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } ؛ وهو رؤية ذات الحقّ تعالى جهرًا حسًا . والمعنى : إن استعظمت ما سألوا منك فقد وقع منهم ما هو أعظم من ذلك .
وهذا السؤال ، وإن كان من آبائهم ، أُسند إليهم؛ لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم ، فما اقترحوا عليكم ليس بأول جهالاتهم وتشغيبهم؛ بل عُرفُهُم راسخٌ في ذلك ، فلا تستغرب ما وقع منهم .
ثم فسر سؤالهم بقوله : { فقالوا أرنا الله جهرة } أي : عيانًا في الحس ، { فأخذتهم الصاعقة } ، بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم ، فماتوا ثم بُعثوا بدعوة موسى عليه السلام وذلك بسبب ظلمهم . وهو تعنتهم وسؤالهم لما أستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها . وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقًا . وسيأتي في الإشارة تحرير ذلك .
{ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات } على وحدانيته تعالى . وهذه جناية أخرى اقترفها أيضًا أوائلهم ، { فعفونا عن ذلك } حيث تابوا ، ولم نعاجلهم بالعقوبة ، { وأتينا موسى سلطانًا مبينًا } أي : تسلطًا ظاهرًا عليهم ، حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم ، توبة من اتخاذهم العجل إلهًا ، وحجة واضحة على نبوته كالآيات التسع .
{ ورفعنا فوقهم الطور } حيث امتنعوا من قبول أحكام التوراة ، بسبب ميثاقهم الذي أخذناه عليهم ، وهو التزام أحكام التوراة ، وقلنا لهم على لسان موسى : { ادخلوا الباب سجّدًا } أي : باب بيت المقدس ، فدخلوا يزحفون على استاههم عنادًا واستهزاءً ، وقلنا لهم : { لا تعدوا في السبت } على لسان داود عليه السلام ، فاعتدوا فيه بالاصطياد ، فمسخناهم قردةً وخنازير ، { وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا } على ذلك كله ، فنقضوا جميع ذلك ، أو ميثاقًا غليظًا في التوراة؛ لئن أدركوك ليؤمنن بك ، وليبينن صفتك للناس ، فنقضوا وكتموا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اقتراح الآيات وطلب الكرامات من الأولياء ، سنة ماضية ، لأنهم على قدم الأنبياء عليهم السلام ما يقال لهم إلا ما قيل للأنبياء قبلهم ، فلا تكاد تجد أحدًا يصدق بولي حتى تظهر عليه الكرامة ، وهو جهل كبير؛ لأن الكرامة قد تظهر على من لم تكمل له استقامة ، وقد تكون استدراجًا ومكرًا .
(2/12)
وأيُّ كرامة أعظم من العلوم اللدنية والأخلاق النبوية؟ كما قال شيخنا رضي الله عنه . وقد ظهرت الكرامات على المتقدمين ولم ينقطع الإنكار عليهم .
واعلم أن طلب الرؤية في الدنيا ليس بممتنع ، وإنما عاقب الله بني إسرائيل على طلبها؛ لأنهم طلبوها قبل إبانها ، طلبوها من غير اتصاف بشروط حصولها ، وهو كمال التهذيب والتطهير من دنس الحس ، فمن كمل تهذيبه وتحقق تطهيره حصل له شهود الحق ، حتى لو كلف أن يشهد غيره لم يستطع ، وذلك حين تستولي البصيرة على البصر ، فيشهد البصر ما كانت تشهده البصيرة ، وذلك بعد كمال فتحها . ولذلك قال في الحِكَم : " شعاعُ البصيرة يُشهدك قربَ الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق " . . . الخ كلامه . وهذه المشاهدة لا تحصل إلا لمن اتصل بشيخ التربية ، وإلا فلا مطمع فيها . والله تعالى أعلم .
(2/13)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قلت : { فبما } : صلة زيدت للتأكيد ، و { نقضهم } : مصدر مجرور بالباء ، وهي متعلقة بالفعل المحذوف ، أي : بسبب نقضهم فَعَلنا بهم ما فعلنا ، أو بقوله : { حرَمنا عليهم } ، ويكون { فبظلم } على هذا بدلاً من قوله : { فبما نقضهم } ، فيكون التحريم بسبب النقض ، وما عطف عليه . والاستثناء في قوله : { إلا اتباع الظن } منقطع؛ إذ العلم يناقض الظن .
يقول الحقّ جلّ جلاله : فلما أخذنا على بني إسرائيل العهد والميثاق خالفوا ونقضوا ، ففعلنا بهم ما فعلنا ، بسبب نقضهم ميثاقهم ، أو بسبب نقضهم وكفرهم { حرمنا عليهم طيبات أُحِلّت لهم } ، وبسبب كفرهم أيضًا { بآيات الله } ؛ القرآن ، أو بما في كتبهم ، { وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم غلف } أي : مغلفة لا تفقه ما تقول .
قال تعالى في الرد عليهم : { بل طبع الله عليها بكفرهم } ، فجعلها محجوبة عن العلم ، بأن خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ ، { فلا يؤمنون إلا قليلاً } منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه ، أو إيمانًا قليلاً لا عبرة به لنقصانه ، { وبكفرهم } أيضًا بعيسى عاقبناهم وطبعنا على قلوبهم ، { وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا } أي : نسبتها للزنى وبقولهم : { إن قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } أي بزعمه ، ويحتمل أنهم قالوه استهزاء ، ونظيره : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشُّعَرَاء : 27 ] ، أو يكون استئنافًا من الله بمدحه ، أو وضعًا للذكر الحسن موضع قولهم القبيح . قاله البيضاوي .
ثم رد الله تعالى عليهم فقال : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم } رُوِي أن رهطًا من اليهود سبوه هو وأمه ، فدعا عليهم ، فمُسخوا قردة وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله ، فقال لهم : يا معشر اليهود ، إن الله يبغضكم ، فغضبوا وثاروا ليقتلوه ، فبعث الله تعالى جبريل فأدخله خُوجة فيها كُوة في سقفها ، ورفعه الله إلى السماء من تلك الكوة ، فأمر اليهود رجلاً منهم يقال له : طيطانوس ، أن يدخل الخوخة ويقتله ، فما دخل الخوخة ، لم ير عيسى ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه ، فلما أبطأ عليهم دخلوا عليه ، فطنوه عيسى ، فقتلوه وصلبوه .
وقال قتادة : ذكر لنا أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه : أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل : أنا يا رسول الله ، فقتل ذلك الرجل ، ورفع عيسى عليه السلام ، وكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه ذلة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة ، فهو معهم في السماء إنسيًا ملكيًا ، أرضيًا سماويًا .
{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه } فقال بعض اليهود : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ ويقال : إن الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى على صاحبهم ، ولم يلق عليه شبه جسده ، فلما قتلوه ونظروا إليه ، فقالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد صاحبنا . { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } أي : لا علم لهم بقتله ، لكن يتبعون الظن فقط .
(2/14)
{ وما قتلوه } قتلاً { يقينًا } كما زعموا بقولهم : إن قتلنا المسيح ، { بل رفعه الله إليه } فهو في السماء الثانية مع يحيى عليه السلام ، { وكان الله عزيزًا حكيمًا } أي : قويًا بالنقمة على اليهود ، حكيمًا فيما حكم عليهم من اللعنة والغضب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله ، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم ، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم ، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله ، كحفظ حرمتهم ، والوقوف مع أوامرهم ، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم ، والدنو منهم ، والسعي في خدمتهم . وبالله التوفيق .
(2/15)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإن من أهل الكتاب } أي : ما من يهودي ولا نصراني ، أي : الموجودين حيث نزوله { إلا ليؤمِنَنّ } بعيسى { قبل موته } أي : عيسى ، وذلك حين نزوله من السماء ، رُوِيَ أنه ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه ، ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن به ، حتى تكون الملة واحدة ، وهي ملة الإسلام ، وتقع الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ، ثم يتوفّى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه .
وقيل الضمير فيه { به } إلى عيسى ، وفي { موته } إلى الكتابي ، أي : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى بأنه عبد الله ورسوله ، { قبل موته } أي : قبل خروج نفس ذلك الكتابي إذا عاين الملك ، فلا ينفعه حينئٍذ إيمانه ، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل ، ويؤيد هذا قراءة من قرأ : ( ليُؤمنُنَّ به قبل موتهم ) بضم النون ، لأن ( أحدًا ) في معنى الجمع ، وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معالجة الإيمان به من قبل أن يُضطر إليه ولم ينفعه إيمانه ، { ويوم القيامة يكون عليه شهيدًا } يشهد على اليهود بالتكذيب ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : عند الموت تتحقق الحقائق ، ويتميز الحق من الباطل ، ويحصل الندم ولا ينفع حين تزل القدم ، فالمطلوب المبادرة بتحقيق الإيمان ، وتحصيل مقام العرفان ، قبل أن يسقط إلى جنبه ، فينفرد رهينًا في قبره بذنبه ، والله تعالى أعلم .
(2/16)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
يقول الحقّ جلّ جلاله : فبسبب ظلم { من الذين هادوا } ؛ وهو نقضهم الميثاق ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء ، { حرَمنا عليهم طيبات } كانت { أُحِلّت لهم } كالشحوم ، وكل ذي ظفر ، وغير ذلك من لذيذ الطيبات ، وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيئًا من الطيّبات ، وحرّمنا ذلك أيضًا عليهم { بصدّهم } عن طريق { الله } صدًّا { كثيرًا } ، أي : بإعراضهم عنه إعراضًا كثيرًا ، أو بصدهم عنه ناسًا كثيرًا كانوا يُخَذِّلونَهُم عن الدخول في دين الله ، وبأخذهم الربا { وقد نُهوا عنه } ، فهو محرم عليهم وعلى الأمة المحمدية ، وبأكلهم { أموال الناس بالباطل } كالرشوة وما كانوا يأخذونه من عوامهم ، { وأعتدنا للكافرين منهم } بمحمد صلى الله عليه وسلم { عذابًا أليمًا } ، دون من تاب وآمن به .
الإشارة : اعلم أن كل غفلة ومعصية وسوء أدب يحرم مرتكبه بسببه من لذيذ الطاعات وحلاوة المشاهدات على قدره ، شعر أو لم يشعر ، وقد يبعده من الحضرة ، وهو لا يشعر ، مكرًا واستدراجًا ، فإذا أصر عليه سلب من مقام الولاية بالكلية ، ولا يزال ينص إيمانه شيئًا فشيئًا ، حتى يتفلت منه ، والعياذ بالله ، وإذا بادر بالتوبة رجى قبوله ، وكل يقظة وطاعة وحسن أدب يوجب لصاحبه الزلفى والقرب من الحضرة ، ويزيده في حلاوة المعاملة والمشاهدة على قدره ، فلا يزال يتقرب إليه بنوافل الخيرات ، حتى يحبه فيتولاه ، فيكون سمعه وبصره ، كما في الحديث . وبالله التوفيق .
(2/17)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قلت : { والمؤمنون } عطف على الراسخين ، و { يؤمنون } : حال منهم . و { المقيمين } : نصب على المدح ، لأن العرب إذا تطاولت في مدح شيء أو ذمه خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه ، نظيره : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ } [ البَقَرَة : 177 ] . وقالت عائشة رضي الله عنهما : هو لحن من الكُتَّاب ، وفي مصحف ابن مسعود : { والمقيمون } بالرفع على الأصل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ليس أهل الكتاب كلهم كما ذكرنا ، { لكن الراسخون في العلم منهم } كعبد الله بن سلام ، ومخيريق ، وغيرهما ممن له علم بالكتب المتقدمة ، { والمؤمنون } منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من وعوامهم حال كونهم { يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } أي : يؤمنون إيمانًا كاملاً بلا تفريق ، وأخص { المقيمين الصلاة } ، المتقنين لها ، { المؤتون الزكاة } المفروضة ، { والمؤمنون } منهم { بالله واليوم الآخر } ، على صفة ما جاء به القرآن من البعث بالأجسام والحساب وغير ذلك؛ مما هو مقرر في السنة ، { أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا } ، فتكون الآية كلها في أهل الكتاب .
أو يقول الحقّ جلّ جلاله : { لكن الراسخون في العلم } من أهل الكتاب ، { والمؤمنون } بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من العرب ، { والمقيمين الصلوة } منهم ، { والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا } .
الإشارة : كل من تحقّقت توبته بعد عصيانه ، وظهرت يقظته بعد غفلاته ، ورسخ في العلم بالله وبصفاته وأسمائه؛ التحق بالسابقين ، وحشر مع المقربين ، وكان ممن أوتي أجرًا عظيمًا وخيرًا جسيمًا ، والحمد الله رب العالمين .
(2/18)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قلت : من قرأ { زبورًا } بالفتح ، فالمراد به كتاب الزبور ، ومن قرأ بالضم ، فجمع " زِبر "؛ بكسر الزاي وسكون الباء بمعنى مزبورًا ، أي : مكتوبًا ، أي آتينا داود كتبًا متعددة ، و { رسلاً } : منصوب بمحذوف دل عليه ، { أوحينا } ، أي : أرسلنا رسلاً ، أو يفسره ما بعده ، أي : قصصنا عليك رسلاً ، و { رسلاً مبشرين } : منصوب على البدل ، أو على المدح ، أو بإضمار أرسلنا ، أو على الحال الموطئة لما بعده ، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنا أوحينا إليك } يا محمد { كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة ، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا ، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا ، فأمرك كأمرهم . وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم ، وأول نبي من أنبياء الشريعة ، وأول نذير على الشرك وأول رسول عُذبت أمته بدعوته ، وأطول الأنبياء عُمرًا ، وجُعلت معجزته في نفسه ، فإنه عمَّر ألف سنة ، ولم تنقص له سن ، ولم تنقص له قوه ، ولم تشب له شعرة ، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام ، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو ، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه .
ثم قال تعالى : { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } أي : الأحفاد ، وهم أنبياء بني إسرائيل ، { وعيسى وأيوب وهارون وسليمان } ، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم ، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم ، وآخرهم عيسى عليه السلام ، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم ، { وآتينا داود زبورًا } أي : كتاب الزبور ، أو زُبورًا أي : صحفًا متعددة ، وأرسلنا { رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي : من قبل هذه السورة ، أو قبل هذا اليوم ، { ورسلاً لم نقصصهم عليك } ، وفي الحديث : " عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر " ، { وكلم الله موسى تكليمًا } حقيقيًا ، خُصَّ به من بين الأنبياء ، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام .
قال الورتجبي : بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية ، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه ، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا ، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره ، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط ، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته ، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب . قال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ } [ النجم : 10 ، 11 ] . ه . وقال ابن عطية : كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد ، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات ، فكذلك كلامه لا كالكلام . ه .
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : أرسلنا { رسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد } بعث { الرسل } فيقولون : لولا أرسلت إلينا رسولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك ، فقطع عذر العباد ببعث الرسل ، وقامت الحجة عليهم ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام :
(2/19)
" مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله ، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنهَا وما بَطَنَ ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله ، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى ، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ " .
{ وكان الله عزيزًا } لا يغلب ، فلا يجب عليه شيء ، { حكيمًا } فيما دبر من النبوة ، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل ، العارفون منهم كالرسل منهم ، قال ابن الفارض رضي الله عنه :
فَعَالِمُنَا منهم نبي ، ومَن دَعَا ... إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه
وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من ... أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه
فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام ، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة ، فيسمعون من الحق كما ينطقون به . كما قال الششتري :
أنَا باللهِ أنطقُ ... ومِنَ الله أسمَع
فتارة يسمعون كلامه بالوسائط ، وتارة من غير الوسائط ، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق ، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم : التسليم .
إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم ... لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ
وفي الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه ، فيسمع به كلامه ، كما حكى عليه الصلاة والسلام عنه تعالى ، قال : " فإذا أحببته كنت معه . . . " ، الحديث . أسمعه كلامه ، وليس هناك الحروف والأصوات ، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية ، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس ، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة ، لا من حيث الجمع والتفرقة . انتهى كلامه .
واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا ، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية ، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة ، كلام القدرة يبرز من غير اختبار ، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه ، غائبًا عن اختياره ، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار ، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية ، ومن الجمادات على وجه الكرامة ، وكله بحرف وصوت . نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية ، قد يكون بلا حرف ولا صوت ، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف ، فقوله : ( بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية . . . ) الخ . إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم ، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك ، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت . وليس كذلك .
وقوله : ( وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ) الخ ، معناه : لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء . قلت : لكنهم يثبتونها حكمةً ، ويمحونها قدرةً ومشاهدة ، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة ، كما هو معلوم . والله تعالى أعلم .
(2/20)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قلت : { لكن } : حرف استدراك ، وهو عن مفهوم ما تقدم ، وكأنه قال : إنهم لا يشهدون بوحينا إليك . لكن الله يشهد بذلك .
يقول الحقّ جلَ جلاله : في الرد على اليهود لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لا نشهد لك بما أوحي إليكم . فقال تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } إن لم يشهدوا به ، { أنزله بعلمه } أي : متلبسًا بعلمه الخاص به ، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ . أو متلبسًا بعلمه الذي يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم . أو بعلمه المتعلق بمن يستأهل نزول الكتب إليه ، { والملائكة } أيضًا يشهدون بذلك . وفيه تنبيه على أن الملائكة يودُّون أن يعلم الناس صحة دعوى النبوة ، على وجه يستغني عن النظر والتأمل ، وهذا النوع من خواص الملك ، ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك ، سوى التفكر والنظر ، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك ، وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا . قاله البيضاوي ، وقد يخلق الله العلم في قلب الإنسان من غير تفكر ولا نظر ، بل هداية من المالك القدير . { وكفى بالله شهيدًا } لرسوله عن شهادة غيره .
الإشارة : كما شهد الحق تعالى لرسوله بالنبوة والرسالة ، شهد لمن كان على قدمه من ورثته الخاصة بالولاية والخصوصية ، وهم الأولياء العارفون بالله ، وشهادته لهم بما أظهر عليهم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وبما أتحفهم به من الأخلاق النبوية والمحاسن البهية ، وبما أظهر على أيديهم من الكرامات الظاهرة مع الاستقامة الشرعية ، لكن لا يدرك هذه الشهادة إلا من سبقت له العناية ، وكان له حظ من الولاية . " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه! ولم يوصل إليه إلا من أراد أن يوصله إليه " وبالله التوفيق .
(2/21)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
قلت : { خالدين } : حال مقدرة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا } بما أنزلت على رسولنا من اليهود أو غيرهم ، { وصدوا } الناس عن طريق الله الموصلة إليه ، { قد ضلوا ضلالاً بعيدًا } ؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ، ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد عن الانقلاع . { إنَّ الذين كفروا وظلموا } الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم ، أو ظلموا رسول الله بإنكار نبوته وكتمان صفته ، أو ظلموا أنفسهم بالانهماك في الكفر ، { لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقًا ، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدًا } ، فجرى حكمه السابق ووعده الصادق على أن من مات على الكفر مخلد في النار ، { وكان ذلك على الله يسيرًا } لا يصعب عليه ولا يتعاظمه .
الإشارة : إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها ، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول في حزبها؛ قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالاً بعيدًا ، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله؛ لأنهم باب الحضرة ، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم . إن الذين كفروا بأولياء الله ، وظلموا أنفسهم؛ حيث حرموها الوصول ، وتركوها في أودية الخواطر تجول ، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم ، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم ، والعياذ بالله .
(2/22)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
قلت : { فآمنوا خيرًا لكم } ، و { انتهوا خيرًا لكم } : قال سيبويه : هو منصوب بفعل مضمر ، تقديره : وائتوا خيرًا لكم ، وقال الخليل : منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى . أي : اقصدوا . وقال الفراء صفة لمصدر ، أي : آمنوا إيمانًا خيرًا لكم . وقال بعض الكوفيين : هو خبر كان المحذوفة ، وتقديره : ليكن الإيمان خيرًا لكم .
قلت : وهو أظهر من جهة المعنى ، وإن منعه البصريون ، قالوا : لأنَّ { كان } لا تحذف مع اسمها إلا في مواضع مخصوصة ، قال ابن مالك :
ويَحذِفُونَها ويُبقُون الخبَر ... وبَعدَ إن ، ولو ، كثِيرًا ذا اشتَهر
ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيهًا على الجواز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم } وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، { فأمنوا به } يكن { خيرًا لكم } مما أنتم فيه من الضلال ، { وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض } وما تركبتا منه ، ملكًا وخلقًا وعبيدًا ، فهو غني عنكم ، لا يتضرر بكفركم ، كما لا ينتفع بإيمانكم ، { وكان الله عليمًا } بأحوالكم ، { حكيمًا } فيما دبر لكم .
الإشارة : الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إتقان مقام الإسلام ، وتصحيح مقام الإيمان ، الذي من أركانه : الإيمان بالقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان ، لا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان ، الذين صححوا مقام الفناء ، وخرجوا إلى البقاء خاضوا بحار التوحيد ، وانفردوا بأسرار التفريد ، ورسخ فيه مقام الرضى والتسليم ، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم ، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصًا ، وحقه العذاب ، فكأن الحق تعالى يقول على لسان الإشارة : قد جاءكم وليي ، وهو خليفة رسولي ، فآمنوا بخصوصيته ، وأذعنوا لأمره وتربيته ، يكن خيرًا لكم مما أنتم فيه من المساوىء والأمراض ، لئلا تلقوني بقلب سقيم ، وبالله التوفيق .
(2/23)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قلت : أصل الغلو : مجاوزة الحد في كل شيء ، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها ، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها؛ أي : أقرانها ، تغلو غلوًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في عتاب النصارى بدليل ما بعده : { يا أهل الكتاب } الإنجيل { لا تغلوا في دينكم } فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله ، أو ابن الله ، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا ، { ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد .
ثم بيَّن الحق فيه فقال : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } ، لا كما قالت اليهود : ليس برسول ، ولا كما قالت النصارى : إنه الله ، أو ابن الله ، وإنما هو عبد الله ورسوله ، { وكلمته ألقاها إلى مريم } أي : أوصلها إليها وحصلها فيها ، وهي كلمة : كن . فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها ، { وروح منه } وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ ، وسمي النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرج عن الروح ، فكانت روحه صادرة من روح القدس ، كما قال في آدم : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [ الحِجر : 29 ] ، وقد قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عِمرَان : 59 ] ، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق؛ لأن الواسطة محذوفة عند المحققين ، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام .
{ فأمنوا بالله ورسوله } أي : وحدوا الله في إلوهيته ، { ولا تقولوا ثلاثة } أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، { انتهوا } عن التثليث يكن { خيرًا لكم إنما الله إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله ، { سبحانه } أي : تنزيهًا له أن يكون له ولد ، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء ، { له ما في السماوات وما في الأرض } ، ملكًا وخلقًا وعبيدًا ، والعبودية تنافي البُنوة ، { وكفى بالله وكيلاً } فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته ، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها ، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه .
واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، ومرقوسية ، ومنهم نصارى نجران ، فالنسطورية ، قالوا في عيسى هو ابن الله ، واليعقوبية والملكانية ، قالوا هو الله ، والمرقوسية قالوا : هو ثالث ثلاثة ، وكلهم ضالون .
الإشارة : الغلو كله مذموم ، وخير الأمور أوساطها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم ، ولكن قولوا : عَبدُ اللهِ وَرَسُوله " ، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه ، ما لم يخرجه عن طوره ، أو ينتقص غيره بمدحه ، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد ، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد . وفي ذلك يقول الشاعر :
أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ ... قلتُ لَهُ : لَيسَ ذَاكَ عِندِي
فَقَالَ ما عِندَكُم؟ فقُلنَا : ... وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد
فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية ، ولذلك أنكرها الشاعر ، أي : أثبت ربًا وعبدًا ، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم : " الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته " .
ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تعيب صاحبنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام " ومن صاحبكم؟ " قالوا : عيسى . قال " وأي شيء أقول؟ " قالوا : تقول إنه عبد الله . قال لهم عليه الصلاة والسلام : " ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا "
(2/24)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قلت : أصل الاستنكاف : التنحية ، من قولهم : نكفت الدمع؛ إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك ، ثم أُطلق على الأنفة ، والاستكبار دون الاستنكاف ، ولذا عطف عليه؛ لأن الاستنكاف ، لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق ، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على النصارى : { لن يستنكف } أي : لن يأنف { المسيح أن يكون عبدًا لله } ؛ فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها ، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره ، { ولا الملائكة المقربون } لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله ، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله ، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء ، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه ، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح .
والجواب : أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة ، كقولهم : أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس ، والرئيس أفضل من المرؤوس ، والتحقيق في المسألة؛ أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين ، وخواص الملائكة؛ وهم المقربون أفضل من خواص البشر كالأولياء ، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر ، ولذلك قيل : من غلب عقله على هواه كان كالملائكة أو أفضل ، ومن غلب هواه على عقله ، كان كالبهائم أو أضل . والله تعالى أعلم .
ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته تعالى فقال : { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا } فيجازيهم؛ { فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات } ولم يستنكفوا عن عبادته { فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { وأما الذين استنكفوا } عن عبوديته { واستكبروا } عن عبادته { فيعذبهم عذابًا أليمًا } أي : مُوجعًا ، وهو النار وقال القشيري : العذاب الأليم : هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله ، إذ صارت معرفتهم ضرورية أي قهرية فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم . ه . { ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا } .
فإن قلت : هذا التفصيل أعم من المفصل ، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم ، فالجواب : أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام ، فكأنه قال : فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا ، { فأما الذين آمنوا . . . } الخ ، نظيره : قولك : جمع الأمير كافة مملكته ، فأما العلماء فأكرمهم ، وأما الطغاة فقطعهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات ، بها شرف من شرف ، وارتفع من ارتفع ، عند الله ، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية ، فقال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسرًاء : 1 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبدَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ صَ : 45 ] ، { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } [ صَ : 17 ] ، { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيْوُّبَ } [ صَ : 41 ] ، { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ صَ : 30 ] . . . إلى غير ذلك .
وأوصاف العبودية أربعة : الذل ، والفقر ، والضعف ، والجهل . ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز ، والغنى والقوة والعلم ، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية ، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز ، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى ، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة ، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم ، تحقق بوصفك يمدك بوصفه ، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس .
(2/25)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وما اقترن به من المعجزات الواضحات ، { وأنزلنا إليكم } على لسانه { نورًا مبينًا } وهو القرآن : أو جاءكم برهان من ربكم : المعجزات الطاهرة ، { وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا } : القرآن العظيم ، أي : جاءكم دليل العقل وشواهد النقل ، فلم يبق لكم عذر ولا علة .
{ فأما الذين آمنوا بالله } أي : وحدوه في ربوبيته ، { واعتصموا } أي : تمسكوا بدينه أو بكتابه ، { فيسدخلهم في رحمة منه } وهي الجنة ، { وفضلٍ } : النظر لوجهه الكريم ، قال البيضاوي : { في رحمة } أي : ثواب قدّره بإزاءِ وإيمانه وعمله ، رحمة منه ، لا قضاء لحق واجب ، وفضل إحسان زائد عليهما . ه . وقال القشيري : سيحفظ عليهم إيمانهم في المآل عند التوفي ، كما أكرمهم به وبالعرفان في الحال . ه . { ويهديهم إليه } أي : إلى الوصول إليه ، { صراطًا مستقيمًا } أي : يُبيّن لهما الوصول إليه ، وهو طريق السير الذي لا عوج فيه؛ العلم والعمل والحال ، وقال البيضاوي : هو الإسلام والطاعة في الدنيا ، وطريق الجنة في الآخرة . ه .
الإشارة : قد جاءكم من يعرفكم بالله ، ويدلكم على الله ، وهم أولياء الله ، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيًا ، وأنزلنا إليكم من سر قُدسنا ، وبحر جبروتنا نورًا مبينًا ، تُشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات ، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية ، { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به } في حال سيرهم إليه { فسيدخلهم في رحمة منه } وهي حضرة القدس ، { وفضل } وهو الترقي في أسرار المعارف إلى ما لا نهاية له ، ويهديهم إلى الوصول إليه ، وهو شهوده في ذلك النور ، طريقًا توصل إليه في أقرب زمان . ولعل الآية فيها تقديم وتأخير ، أي : فسيهديهم إليه طريقًا مستقيمًا يسيرون فيه ، حتى يصلوا إليه ، ثم يدخلهم في رحمة حضرته ، وفضل زيادة معرفته . والله تعالى أعلم .
(2/26)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قلت : { في الكلالة } ، يتعلق بيفتيكم ، ويستفتونك ، فيكون من باب التنازع ، وأعمل الثاني على اختيار البصريين ، وعمل الأول في الضمير المجرور حذف ، أي : يستفتونك فيها ، أو عمل الأول وحذف ضمير الثاني ، أو يكون يستفتونك مقطوعًا فيوقف عليه ، أو حُذف متعلقة لدلالة الجواب عليه ، أي : يستفتونك في الكلالة ، وهو أظهر ، وتقدم تفسير الكلالة ، { إن امرؤ هلك } : ارتفع بفعل مضمر عند البصريين ، من باب الاشتغال في المرفوع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يستفتونك } في الكلالة ، والمستفتِي هو جابر بن عبد الله ، كان مريضًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني كلالة ، فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت ، وهي آخر ما نزل من الأحكام . { قل الله يفتيكم في الكلالة } ، ثم بيَّن الفتوى فيها فقال : { إن امرؤ هلك ليس له ولد } ولا والد ، بل انقطع نسبه من الجهتين ، { وله أخت } شقيقة أو لأب { فلها نصف ما ترك } والباقي للعصبة ، ولا ميراث لها مع الأب أو الابن ، { وهو يرثها } إن ماتت ولم يكن لها ولد ولا والد .
فإن استقل فله المال ، وإن كان معه ذو سهم أخذ الباقي ، { فإن كانتا اثنتين } فأكثر شقائق { فلهما الثلثان مما ترك } ، وإن كانت شقيقة مع الأب أخذت الشقيقة النصف ، والتي لأب السدس تكملة الثلثين ، وإن كانت لأب مع الشقيقتين فلا شيء لها ، { وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً } شقائق ، مات أخوهم ، { فللذكر مثل حظ الأنثيين } ، ولا شيء للأخوة لأب من الشقائق . { يُبين الله لكم } الحق ، كراهية { أن تضلوا والله بكل شيء عليم } ؛ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات . اللهم أحينا حياة طيبة وأمتنا موتة حسنة ، في عافية وستر جميل ، يا أرحم الراحمين ، يا رب العالمين .
الإشارة : الكلالة من الأولياء ، هو الذي مات ولم يخلف ولدًا يرث حاله ، فإن لم تكن له تلاميذ ، فإن كان له أخ يقارب حاله ، ورثه وقد يرث سره أخته في النسبة ، لكن لا تستوجب ذلك كله؛ لحكمة الله تعالى . يشير إليه قوله تعالى : { فلها نصف ما ترك } ، وإن ترك إخوة في الشيخ اقتسموا سره كله ، كلٌ على قدر صِدقه ، والنساء الصادقات شقائق الرجال في نيل أسرار الولاية . وقد تقدم أول السورة أن مدد الشيخ كنهر أو كبحر يصب في القواديس ، فإذا انسدت قادوس انتقل ماؤها إلى الأُخرى . والله تعالى أعلم .
(2/27)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود . . . }
أي : بالعهود التي عَهِدْتُ إليكم أن تحفظوها ، وهي حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الأديان ، وحفظ الأبدان ، وحفظ اللسان ، وحفظ الأيمان ، ثم مرَّ معها على الترتيب ، فما ذكره هناك مُستوفَى ، لم يُعِدْ منه هنا إلا أصله ، وما بقي هناك في أصل من الأصول الستّة كمّلهُ هنا ، ولمّا ذكر فيما تقدّم في أول السورة حُكْم الأموال باعتبار المِلك ، ولم يتكلم على ما يحلّ منها وما يحرم ، تكلم هنا على ذلك ، فقال :
{ . . . أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
قلت : إضافة { بهيمة الأنعام } : للبيان ، كثوب خزّ ، إي : البهيمة من الإنعام ، و { غير مُحِلِّي الصيد } : حال ، قال الأخفش : من فاعل { أوفوا } ، وفيه معنى النّهي ، وقال الكسائي : من ضمير { لكم } ؛ كما تقول : أُحِلّ لكم الطعام غير مُفسِدين فيه ، فإن قُلتَ : الحال قيد لعامِلها ، والحِلِّيَّة غير خاصّة بوقت حُرمَة الصيد؟ قلت : لمّا كانت الحاجة إليها في ذلك الوقت أكثر ، خصّ الحِلِّيَّة به ليكون أدعى للشكر ، ويؤخَذ عموم الحِلِّيَّة من سورة الحج .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أُحِلَّت لكم بهيمة الأنعام } أي : الأنعام كلها ، وهي الإبل والبقر والغنم ، { إلا ما يُتلَى عليكم } بعدُ في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ . . . } [ المَائدة : 3 ] الآية ، حال كونكم { غير مُحِلِّي الصيد } في حال الإحرام ، ومعنى الآية في الجملة : أُحِلَّت الأنعام كلها إلا ما يُتلى عليكم من الميتة وأخواتها ، لكن الصيد في حال الإحرام حرام عليكم ، { إن الله يحكم ما يريد } من تحليل أو تحريم .
الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم في حال سيركم إلى حضرة ربَكم ، من مجاهدة ومُكابَدة ، فمَن عقد عقدة مع ربّه فلا يحلّها ، فإن النفس إذا استأنست بحلّ العقود لم ترتبط بحال ، ولعبت بصاحبها كيف شاءت ، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكمْ بالاستماع والاتّباع إلى مماتكم ، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى ، من القيام بوظائف العبودية ، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية ، فإن أوفيتم بذلك ، فقد أُحِلَّت لكم الأشياء كلها تتصرّفون فيها بهِمّتكم؛ لأنكم إذا كنتم مع المُكَوِّن كانت الأكوان معكم . إلا ما يُتلَى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار ، " فإن سوابق الهِمَم لا تخرق أسوار الأقدار " ، غير مُتَعَرِّضين لشهود السّوى وأنتم في حرم حضرة المولى ، والله تعالى أعلم .
(2/28)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قلت : الشعائر : جمع شَعيرة ، وهي اسم ما أشعر ، أي : جعل علامة على مناسك الحج ومواقفة و { لا يجرمنّكم } أي : يحملنّكم ، أو يكسبنّكم ، يُقال : جرم فلان فلانًا هذا الأمر ، إذا أكسبه إيّاه وحمله عليه . والشنآن : هو البغض والحقد ، يقال : بفتح النون وإسكانها ، و { أن صدّوكم } مفعول من أجله ، و { أن تعتدوا } مفعول ثانٍ ليحرمنّكم . ومَن قرأ : ( إن صدّوكم ) ، بالكسر فشرط ، أغنى عن جوابه : { لا يجرمنّكم } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تُحِلّوا شعائر الله } أي : لا تستحلّوا شيئًا من ترك المناسك ، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمرهم الله ألاّ يتركوا شيئًا من المناسك ، أي : لا تحلّوا ترك شعائر الله { ولا } تحلّوا { الشهر الحرام } بالقتال أو السَّبْي ، وهذا قبل النسخ ، { ولا } تحلّوا { الهَدْيَ } ، أي : ما أُهْدِيَ إلى الكعبة ، فلا تتعرّضوا له ولو من كافر ، { ولا } تحلّوا { القلائد } أي : ذوات القلائد ، وهي الهَدْي المقلّدة ، وعطفها على الهَدْي للاختصاص؛ فإنها أشرف الهَدْي ، أي لا تتعرضوا للهَدْي مطلقًا . والقلائد جمع قِلادة ، وهي : ما قُلِّدَ به الهَدْي من نَعْل أو لِحاء الشجر ، أو غيرهما ، ليُعلَم به أنه هَدْي فلا يُتَعَرَّض له ، { ولا } تحلّوا { آمِّين } أي : قاصِدين البيت الحرام ، أي : قاصدين لزيارته ، { يبتغون فضلاً من ربّهم ورضوانًا } أي : يطلبون رزقًا بالتجارة التي قصدوها ، ورضوانًا بزعمهم ، لأنهم كانوا كُفّارًا .
وذلك ، أن الآية نزلت في الحُطَم بن ضُبَيْعة ، وذلك أنه أتى المدينة ، فخلَّف خَيْلَه خَارجَ المدِينةَ ، ودخل وحْدَه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال : إلامَ تدعُو النَّاس إليه؟ فقال له : " إلى شَهادة أنْ لا إله إلا اللهُ وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة " فقال : حَسَنٌ ، إلاّ أن لي أُمَرَاءَ لا أقطعُ أمْرًا دُونَهُمْ ، ولَعَلَّي أُسْلِم ، فخرج وغار على سَرْحِ المدينة فاسْتَاقَهُ ، فما كان في العام المقبل خرج حاجًا مع أهل اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلّد الهَدْيَ ، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا الحُطَمُ قد خرج حاجًا فخَلِّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنه قلّد الهَدْيَ " ، فقالوا يا رسول الله : هذا شيء كنّا نفعله في الجاهلية أي تقيه ، فأبى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية .
وقال ابن عباس : كان المشركون يحجّون ويهدون ، فأرادَ المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم ، فنهاهم الله تعالى بالآية .
{ وإذا حللتم } من الحج والعمرة { فاصطادوا } ، أمْر إباحة؛ لأنه وقع بعد الحَظْر ، { ولا يجرمنّكم } أي : لا يحملنّكم ، أو لا يكسبنّكم { شنآن قوم } أي : شدّة بغضكم لهم لأجل { أن صدّوكم عن المسجد الحرام } عام الحديبية { أن تعتدوا } بالانتقام منهم؛ بأن تحلّوا هداياهم وتتعرّضوا لهم في الحرم .
(2/29)
قال ابن جزيّ : نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة ، فأردوا أن يستأصلوهم بالقتل؛ لأنهم كانوا قد صدّوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، فنهاهم الله عن قتلهم؛ لأن الله عَلِمَ أنهم يؤمنون . ه . ثم نسخ ذلك بقوله : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبَة : 5 ] .
ثم قال تعالى : { وتعاونوا على البرّ والتقوى } كالعفو ، والإغضاء ، ومتابعة الأمر ، ومُجانَبة الهوى . وقال ابن جزيّ : وصية عامّة ، والفرق بين البرّ والتقوى؛ أن البرّ عامّ في الواجبات والمندوبات ، فالبرّ أعمّ من التقوى . ه . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } كالتشفّي والانتقام . قال ابن جُزَيّ : الإثم : كل ذنب بين الله وعبده ، والعدوان : على الناس . ه . { واتقوا الله إن الله شديد العقاب } ؛ فانتقامه أشد .
الإشارة : قد أمر الحق جلّ جلاله بتعظيم عباده ، وحِفظ حُرمتهم كيفما كانوا ، " فالخلق كلّهم عِيال الله ، وأحبّ الخلقِ إلى اللهِ أنفعُهُمْ لِعِياله " ، فيجب على العبد كفّ أذاه عنهم وحمل الجفا منهم ، وألاَّ ينتقم لنفسه ممَّن آذاه منهم ، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدي عليهم ولو بالدعاء ، بل إن وسَع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان ، ودعا لعدوّه بصلاح حاله؛ حتى يأخذ الله بيده ، وهذا مقام الصّديقيَة العظمى والولاية الكبرى ، وهذا غاية البرّ والتقوى الذي أمر الله تعالى بالتعاون عليه ، والاجتماع إليه ، دون الاجتماع على الإثم والعدوان ، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء ، فإن هذا من شأن العوامّ ، الذين هم في طرف مقام الإسلام . والله تعالى أعلم .
(2/30)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { حُرِّمَت عليكم الميتة } أي : ما ماتت حَتْفَ أنفها بلا ذكاه ، { والدم } المسفوح ، أي : المهروق ، وكانت الجاهلية يصبّونه في الأمعاء ، ويشوونها ، ورُخِّصَ في الباقي في العروق بعد التذكية ، { ولحم الخنزير } ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة ، بخلاف الشعر المجزوّ ، { وما أُهَلَّ لغير الله به } أي : رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله ، كقولهم : باسم اللاّت والعزّى ، وكذا ما تُرِكَ عليه اسم الله عَمْدًا ، عند مالك { والمنخنقة } بحبل وشبهه حتى ماتت ، { والموقوذة } أي : المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه ، من : وقذته وقذًا : ضربته ، { والمتردية } أي : الساقطة من جبل أو في بئر وشبهه فماتت ، { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت ، فإن لم تمت؛ فإن كان في المصران الأعلى فكذلك ، لا في الأسفل أو الكرش .
{ وما أكل السّبع } أي : أكل بعضه وأنفذ مقتله ، والسبّع : كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنّمر والثعلب والنّمس والعُقاب والنّسر { إلاّ ما ذكّيتم } أي : إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . قاله البيضاوي . وقال ابن جُزَيّ : قيل : إنه استثناء منقطع ، وذلك إذا أُريد بالمنخنقة وأخواتها : ما مات من ذلك بالخنق وما بعده ، أي : حُرِّمَت عليكم هذه الأشياء ، لكن ما ذكَّيتم من غيرها فهو حلال ، وهذا ضعيف ، وقيل : إنه استثناء متصل ، وذلك إن أُريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته . والمعنى : إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء ، فهو حلال ، واختلف أهل هذا القول؛ هل يُشتَرَط أن يكون لم تنفذ مقاتله ، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكًا رحمه الله ، وأما مَن لم تُشرِف على الموت من هذه الأسباب ، فذكاتها جائزة باتفاق . ه .
{ و } حُرِّمَ عليكم أيضًا : { ما ذُبِحَ على النُّصُب } ، وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت ، يذبحون عليها ويعدُّون ذلك قُرْبَة ، وليست بالأصنام؛ لأن الأصنام مُصَوّرة ، والنُّصُب غير مُصَوَّرة ، وقيل : { على } بمعنى اللام ، أي : وما ذُبِحَ للنُّصُب ، والمراد كلّ ما ذُبحَ لغير الله .
{ وأن تستقسموا بالأزلام } أي : تطلبوا ما قسم لكم في الأزل من المقادير بالأزلام ، جمع زلم بضم الزاي وفتحها وهي الأقداح على قدر السهام . وكانت في الجاهلية ثلاثة ، قد كُتب على أحدها : افعل ، على الآخر : لا تعفل ، وعلى الثالث : مهمل ، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرًا جعلها في خريطة ، وأدخل يده وأخرج أحدها ، فإن خرج له الذي فيه " افعل "؛ فعل ما أراد ، وإن خرج الذي فيه " لا تفعل " ، تركه .
(2/31)
وإن خرج المهمل أعاد الضرب ، ويقاس عليه كل ما يدخل في علم الغيب ، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة ، وشبهها .
{ ذلكم فسق } ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة ، أو إلى الاستقسام بالأزلام ، وإنما كان فسقًا؛ لأنه دخول في علم الغيب الذي انفرد الله به ، وفيه تجسس على سر الملك ، وهو حرام ، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة ، في أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة في القسمة ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقترع بين نسائه " ، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب ، دون الاطلاع على علم الغيوب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات ، وما تموت به قلوبكم من الانهماك في الغفلات ، وتناول ما أعطِيكم لغير وجه الله ، وقبضتموه من غير يد الله ، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة ، وغفلتم عن المعطي حقيقة ، فمقتضى شريعة الخواص : إخراجه عن الملك ، وحرمان النفس من الانتفاع به ، كما وقع لبعض الأولياء ، ولا تتناولوا من الطعام إلا ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة ، ونزلتم إليه بالإذن ، دون قصد الشهوة والمتعة ، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية . والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه . آمين .
ولمَا حرم الله تعالى هذه الاشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم في دينهم ، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها ، فقال :
{ . . . اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً . . . } يقول الحقّ جلَ جلاله : { اليوم } الذي أنتم فيه ، وهو يوم الجمعة ، ويوم عرفة في حجة الوداع ، { يئس الذين كفروا من دينكم } أن يبطلوه ، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم في أمورهم كلها ، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين ، قيل : إنه وقف معه صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة : مائة ألف وأربعة عشر ألفًا ، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر ، وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم ، { واخشون } وحدي؛ فأمرهم بيدي .
{ اليوم أكملتُ لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد ، { وأتممتُ عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق ، أو بإكمال الدين ، وبالفتح والتمكين ، بهدم منار الكفر ، ومحو علل الملحدين ، { ورضيتُ لكم الإسلام دينًا } أي : اخترته لكم من بين الأديان ، الذي لا نرتضي غيره ، ولا نقبل سواه .
الإشارة : إذا حصل المريد على أسرار التوحيد ، وخاض بحار التفريد ، وذاق حلاوة أسرار المعاني ، وغاب عن شهود حس الأواني ، وحصل له الرسوخ والتمكين في ذلك ، أيِسَ منه الشيطان وسائر القواطع ، فلا يخشى أحدًا إلا الله ، ولا يركن إلى شيء سواه ، وأمِنَ من الرجوع في الغالب ، إلا لأمر غالب ،
(2/32)
{ وَاللهً غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } [ يُوسُف : 21 ] . ولذلك قال بعضهم : ( والله ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع ) .
والوصول هو التمكين فيما ذكرنا ، فإذا حصل على كمال المعرفة ، ووقف على عرفة المعارف ، فقد كمل دينه واستقام أمره ، وظهرت أنواره ، وتحققت أسراره ، وما بقي إلا الترقي في الأسرار أبدًا سرمدًا ، والسير في المقامات كسير الشمس في المنازل ، ينتقل فيها من مقام إلى مقام ، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة ، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف ، وتارة ما يوجب الرجاء ، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم ، وتارة ما يوجب التوكل ، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقة ، ولا يقف مع مقام ولا مع حال ، لأنه خليفة الله في أرضه ، وقد قال تعالى : { كُلَّ يَوْمِ هُوَ في شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ، هذا هو التلوين بعد التمكين . والله تعالى أعلم .
{ . . . فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قال البيضاوي : هو متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي . ه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فمن اضطر } إلى تناول شيء من هذه المحرمات { في مخمصة } أي : مجاعة ، حال كونه { غير متجانف } أي : مائل للإثم وقاصد له ، بأن يأكلها تلذذًا أو متجاوزًا حد الرخصة ، قيل : هو سد الرمق ، وقال ابن أبي زيد : يأكل منها ويتزود ، فإن استغنى عنها طرحها . ه . فإن تناولها للضرورة { فإن الله غفور } له { رحيم } به؛ حيث أباحها له في تلك الحالة .
الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كلها كالميتة ، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلاً وشربًا وملبسًا ومركبًا ، حتى يتحقق له الوصول ، فما بقي لأحد حينئٍذ ما يقول ، وعلامة الوصول : هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشيء سواه ، إن افتقر اغتنى في فقره ، وإن ذل عز في ذله ، وإن فقد وجد في فقده ، وهكذا في تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل ، ولو سقطت السماء على الأرض . والله تعالى أعلم .
(2/33)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ . . . }
قلت : لم يقل ماذا أحل لنا؛ لأن { يسألونك } بلفظ الغيبة ، وكلا الوجهين شائع في أمثاله . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك } يا محمد عن الذي { أُحل لهم } من المآكل ، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث ، فقل لهم : { أحل لكم الطيبات } وهو عند مالك : ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة ، وعند الشافعي : ما يستلذه الطبع السليم ولم يفّر عنه ، فحرم الخنافس وشبهها ، { و } أحل لكم صيد { ما علّمتم من الجوارح } أي : الكواسب ، وهي الكلاب ونحوها ، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله ، من سباع وذوات أربع ، وطير ، ونحوها ، حال كونكم { مُكلبين } أي : معلمين لها الاصطياد ، أي : مؤدبين لها ، { تُعلمونهن مما علمكم الله } من الحيل وصدق التأديب ، فإن العلم بها إلهام من الله ، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من الله لابن آدم . وحد التعليم عند ابن القاسم : أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر ، وقيل : الإشلاء؛ أي : التسلط فقط ، وقيل؛ الزجر فقط ، وقيل : أن يجيب إذا دُعي .
{ فكلوا مما أمسكن عليكم } ولم يأكل منه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " وإن أكَلَ ، فلاَ تَأكُل؛ فَإنَّما أمسكَ عَلَى نَفسِه " وهو مذهب الشافعي ، وقال مالك : يؤكل مطلقًا لما في بعض الأحاديث : " وإن أكلَ فكُل " ، وقال بعضهم : لا يشترط ذلك في سَباع الطير؛ لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر .
{ واذكروا اسم الله عليه } أي : على ما علمتم عند إرساله ، ولو لم ير المرسل عليه ، وكذا عند الرمي المحدد ونحوه ، فإن سمي على شيء مُعين ووجد غيره لم يؤكل ، أو التبس مع غيره ، وإن سمي على ما وجد أكل الجميع ، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي ، واختلف في حكم التسمية ، فقال الظاهرية : أنها واجبة مطلقًا ، فإن تركت عمدًا أو سهوًا لم تؤكل عندهم ، وقال الشافعي : مستحبة ، حملاً للأمر على الندب ، فإن تركت عمدًا أو سهوًا أكلت عنده .
وجعل بعضُهم الضمير في { عليه } ، عائدًا على الأكل ، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ، ومذهب مالك : أنه إن تركت التسمية عمدًا لم تؤكل ، وإن تركت سهوًا أكلت ، فهي عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان ، وهذا الخلاف جار في الذكاة كلها .
{ واتقوا الله } في اجتناب محرماته ، { إن الله سريع الحساب } ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق .
{ اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أُتوا الكتاب حل لكم } فيتناول الذبائح وغيرها ، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واستثنى عليٌّ كرم الله وجهه نصارى بني تغلب ، وقال : ( ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر ) .
(2/34)
ولا يلحق بهم المجوس في ذلك ، وإن ألحقوا بهم في الجزية ، لقوله صلى الله عليه وسلم " سُنوا بهم سُنةَ أهلِ الكِتاب ، غير ألا تنكحوا نساءهم ، ولا تأكلوا ذبائحهم " وكذلك المرتد مطلقًا لا تؤكل ذكاته .
قال ابن جزي : وأما الطعام ، فهو على ثلاثة أقسام : أحدها : الذبائح ، قد اتفق العلماء على أنها مرادة في الآية ، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى ، واختلفوا فيما هو محرم عليهم في دينهم ، على ثلاثة أقوال : الجواز ، والمنع ، والكراهة ، وهو مبني على : هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه ، جازت ، وإن أريد ما يحل لهم ، مُنع والكراهة توسط بين القولين . الثاني : ما لا محاولة لهم فيه ، كالقمح والفاكهة ، فهو جائر لنا اتفاقًا . والثالث : ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن ، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه ، فمنعه ابن عباس؛ لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة ، وأجازه الجمهور . لأنه رأوه داخلاً في طعامهم ، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملاً ، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه؛ كالخمر والخنزير والميتة ، فلا يجوز أصلاً ، وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن النصارى ، وقال : إنه يُنجس البائع والمشتري والآلة؛ لأنهم يعقدونه على أنفحه الميتة . ه .
{ وطعامكم حِلٌّ لهم } ، فلا بأس أن تُطعموهم من طعامكم ، وتبيعوه لهم ، وأما ما حرم عليهم ، فلا يجوز بيعه منهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : يسألونك أيها العارف الرباني ماذ أحل للفقراء من الأعمال والأحوال ، قل لهم : أحل لكم الطيبات ، أي : الخالص من الأعمال ، والصافي من الأحوال ، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة ، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بقدر تزكيتها وتربيتها ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، أي : تمتعوا بما أتت به لكم من أبكار الحِكَم وعرائس الحقائق ، فإن أتت شيء من علوم الحس ، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معاني ، واتقوا الله أن تقفوا مع شيء سواه ، { إن الله سريع الحساب } ؛ فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها . اليوم أحل لكم الطيبات ، أي : حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها ، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجات ، وطعام العلوم الظاهرة حِلٌّ لكم تتوسعون بها ، وطعامكم حل لهم ، أي : وتذكيركم بما يقدرون عليه حِلٌّ لهم؛ لأن العارف الكامل يُسير كل واحد على سيره ، ويتلون معه بلونه ، يُقره في بلده ويحوشه إلى ربه . نفعنا الله بذكره . آمين .
ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب ، وهو جواز نكاح الكتابية؛ إذ لم يتكلم عليه في سورة النساء ، فقال :
{ .
(2/35)
. . والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين }
يقول الحقّ جلّ جلاله : وأحل لكم { المحصنات } أي : الحرائر { من المؤمنات } دون الإماء ، إلا لخوف العنت ، أو العفيفات دون البغايا ، فإن نكاحها مكروه ، { و } أحل لكم { المحصنات } أي : الحرائر { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحُرتين دون إمائهم ، { إذا أتيتموهن أجورهن } أي : أعطيتموهن مهورهن . فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعي . حال كونكم { محصنين } ، أي : متعففيين عن الزنى بنكاحها ، { غير مسافحين } أي : مجاهرين بالزنى ، { ولا متخذي أخدان } أي : أصحاب تُسرون معهن بالزنى ، والخدن : الصاحب ، يقع على الذكر والأنثى . والمعنى : أحللنا لكم نكاح الكتابيات ، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرًّا وجهرًا .
ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس : كيف أتزوج من ليس على ديني؟ فأنزل الله : { ومن يكفر بالإيمان } أي : بشرائع الإيمان { فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين } ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه .
الإشارة : قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار ، لأنها عرائس مخدّرة ، مهرها النفوس ، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء؛ لرخص مهرها ، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها؛ أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة وهي مبادىء التصوف ، أي : التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم ، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها؛ من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها ، وهذه العلوم كلها مشروعة ، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى ، { قّدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ] ، فمن كفر بها فقد حبط عمله ، وهو عند الله من الخاسرين .
(2/36)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قلت : { إذا قمتم } : أردتم القيام ، كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقٌرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ } [ النّحل : 98 ] ، حذف الإرادة للإيجاز ، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وقوله : { برؤوسكم } الباء للإلصاق ، تقول : أمسكتُ بثوب زيد ، أي : ألصقت يدي به ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم ، أو للتبعيض ، وهذا سبب الخلاف في مسحه كله أو بعضه ، فقال مالك : واجب كله ، وقال الشافعي : أقل ما يقع عليه اسم الرأس ، ولو قلّ . وقال أبو حنيفة : الربع .
{ وأرجلكم } ، مَن نَصَبَ عطف على الوجه ، ومن خفض فعلى الجوار ، وفائدته : التنبيه على قلة صبَّ الماء ، حتى يكون غسلاً يقرب من المسح . قاله البيضاوي : ورده في المُغني فقال : الجوار يكون في النعت قليلاً ، وفي التوكيد نادرًا ، ولا يكون في النسق؛ لأن العاطف يمنع من التجاور ، وقال الزمخشري : لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات ، تغسل بصب الماء عليها ، كان مظنة الإسراف المذموم شرعًا ، فعطف على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ، وجيء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة؛ لأن المسح لم يضرب له غاية في الشريعة . ه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } إذا أردتم القيام { إلى الصلاة } وأنتم محدثون { فاغسلوا وجوهكم } من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن ، ومن الأذن إلى الأذن ، { وأيديكم إلى المرافق } أي : معها ، { وامسحوا برؤوسكم } أي : جميعها أو بعضها على خلاف ، { وأرجلكم إلى الكعبين } العظمين الناتئين في مفصلي الساقين ، فهذه أربعة فرائض ، وبقيت النية لقوله : { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ } [ البَيّنَة : 5 ] ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " إنما الأعمال بالنيات " والدلك؛ إذًا لا يسمى غسلاً إلا به ، وإلا كان غمسًا ، والفور؛ لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثًا . ولمّا عطفت بالواو ، وهي لا ترتب ، علمنا أن الترتيب سنة .
{ وإن كنتم مرضى } لم تقدروا على الماء { أو على سفر } ولم تجدوه ، أو في الحضر؛ و { جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } بالجماع أو غيره { ولم تجدوا ماء فتيموا صعيدًا طيبًا فامسحوا بوجوهكم } أي : جميعه { وأيديكم منه } ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر؛ لأن السفر مظنة إعوازه ، فالآية نص في تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها . قال البيضاوي : وإنما كرره ، يعني مع ما في النساء ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة . ه .
ثم قال تعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } حتى يكلفكم بالطهارة في المرض أو الفقد من غير انتقال للتيميم ، { ولكن يريد ليطهركم } أي : ينظفكم بالماء أو بدله ، أو يطهركم من الذنوب ، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء في كل عضو ، كما في الحديث ، { وليتم نعمته عليكم } بشرعه ، ما هو مَطهَرَةٌ لأبدانكم ، ومَكفَرَة لذنوبكم { ولعلكم تشكرون } نعمه فيزيدكم من فضله .
(2/37)
الإشارة : كما أمر الحقّ جلّ جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة ، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة ، أمر أيضًا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات ، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات ، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات ، كان بعيدًا من حضرة الصلاة؛ إذ لا عبرة بحركة الأبدان ، وإنما المطلوب حضور الجنان .
قال القشيري : وكما أن للظاهر طهارةً فللسرائر طهارة ، فطهارة الظاهر بماء السماء ، أي : المطر ، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل ، ثم بماء الحياء والوجل ، ويجب غسلُ الوجه عند القيام إلى الصلاة ، ويجب في بيان الإشارة صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عن طلب خسائس الأغراض ، وكما يجب مسحُ الرأس ، يجب صونه عن التواضع لكل أحد أي : في طلب الحظوظ والأعراض وكما يجب غسل الرجلين في الطهارة الظاهرة ، يجب صونها في الطهارة الباطنة عن التنقل فيما لا يجوز . ه .
وقال عند قوله : { وإن كنتم جُنبًا فاطهروا } : وكما يجب طهارة الأعلى ، أي : الظاهر ، فيقتضي غسل جميع البدن ، فقد يقع للمريد فترة توجب عليه الاستقصاء في الطهارة الباطنية فذلك إذا لم يجد المريد مَن يفيض عليه صَوبَ همته ، ويغسله ببركات إشارته ، اشتغل بما يُنشر له من اقتفاء آثارهم ، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سِيرتهم ، ومأثور حكياتهم . ه .
قلت : محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية ، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية ، ومن لم يسقط على شيخ التربية ، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية؛ وهي التيمم ، وإلى ذلك أشار الغزالي ، لما سقط على الشيخ ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد ، فقال :
قّد تَيَمَّمت بالصَّعِيدِ زَمَانًا ... والآن قّد ظَفِرتَ بالمَاء
مَن سَرَى مطبقَ الجُفُونِ وأضحى ... فَاتِحًا لا يردُّها للعَمَاء
ثم قال : لمَّا طَلَعَ قمرُ السَّعَادةِ في ملك الإرَادَة وأشرقت شمسُ الوُصوُلِ على أُفقِ الأُصُول :
تَرَكتُ هَوَى لَيلَى وسُعدَى بمعزلٍ ... ومِلتُ إلى عَليَاءِ أول مَنزلِ
فنادَتني الأوطانُ أهلاً ومرحَبًا ... إلا أيها السَّارِي رُوَيدَكَ فانزِلِ
غَزَلْتُ لهم غَزلاً رقِيقًا فلم أجِد ... لِغزلِي نَسَّاجًا فَكسَّرتُ مِغزَلِي
(2/38)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واذكروا نعمة الله عليكم } بالهداية والعز والنصر ، { و } اذكروا { ميثاقه الذي واثقكم به } حين بايعتم نبيه في بيعة العقبة وبيعة الرضوان على الجهاد وإظهار الدين ، وعلى السمع والطاعة المنشط والمكره ، حين { قلتم } له : { سمعنا وأطعنا } فيما تأمرنا به في عسرنا ويسرنا ، في منشطنا ومكرهنا ، { واتقوا الله } في نقض العهود ، { إن الله عليكم بذات الصدور } أي : خفياتها ، فيجازيكم عليها ، فضلاً عن جليات أعمالكم ، والمقصود : الترغيب في الجهاد الذي هو من كمال الدين .
الإشارة : يقال للفقراء الذين مّن الله عليهم بصحبة شيوخ التربية ، وأخذوا عنهم العهد ألا يخالفوهم : اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث يسَّر لكم من يُسَيّركم إلى حضرة ربكم ، ويعرفكم به ، وغيركم يقول : إنه معدوم ، أو خفي لا يعرفه أحد ، وهذا الكنز الذي سقطتم عليه ، قلَّ من وجده ، واذكروا أيضًا ميثاقه الذي واثقه عليكم ألا تخالفوهم ، ولو أدى الأمر إلى حتف أنفكم .
كان شيخ شيوخنا سيدي العربي بن عبد الله ، يقول : الفقير الصادق ، هو الذي إذا قال له شيخه : ادخل في عين الإبرة ، يقوم مبادرًا يُحاول ذلك ، ولا يتردد . وقال أيضًا : ( صاحبي هو الذي نقتله بشعرة ) ، وقد تقرر أن من قال لشيخه : لِمَ ، لا يفلح ، وهذا أمر مقرر في علم التربية؛ كما في قضية الخضر مع سيدنا موسى عليه السلام . واتقوا الله في اعتقاد مخالفتهم سرًا؛ { إن الله عليم بذات الصدور } فإن الاعتراض سرًا أقبح؛ لانه خيانة ، فليبادر المريد بالتوبة منه ويغسله من قلبه . والله تعالى أعلم .
(2/39)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
قلت : { وعد } : يتعدى إلى مفعولين ، وحذف هذا الثاني ، أي : وعدهم أجرًا عظيمًا ، دل عليه الجملة بعده .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } ؛ عَامٌّ أريد به خاص ، وهم أولو الأمر منهم ، الذين يلُون الحكم بين الناس ، وما تقدم في سورة النساء باقٍ على عمومه ، أي : { كونوا قوامين } على من تحت حكمكم ، راعين لهم؛ فإنكم مسؤولون عن رعيتكم ، وكونوا مخلصين { لله } في قيامكم وولايتكم ، { شهداء } على أنفسكم بالعدل ، تشهدون عليها بالحق إن توجه عليها ، ولا تمنعكم الرئاسة من الإنصاف في الحق ، إن توجه عليكم ، أو على أقاربكم وأصدقائكم ، ولا على عدوكم { ولا يجرمنكم } أي : ولا يحملنكم { شنئان قوم } أي : شدة بغضهم لكم ، { على ألا تعدلوا } فيهم ، فتمنعوهم من حقهم ، أو تزيدوا في نكالهم ، تشفيًا وغيظًا .
{ اعدلوا هو } أي : العدل { أقرب للتقوى } ، قال البيضاوي : صرح لهم بالأمر بالعدل ، وبيَّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور ، وبيَّن أنه مقتضى الهوى . فإذا كان هذا العدل مع الكفار ، فما بالك مع المؤمنين؟ . ه . { واتقوا الله } ؛ ولا تراقبوا سواه ، { إن الله خبير بما تعملون } فيجازي كلاًّ على عمله ، من عدل أو جور .
ثم ذكر ثواب من امتثل ، فقال : { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم } ، وأفضل الأعمال : العدل في الأحكام . قال عليه الصلاة والسلام : " المُقسِطُونَ عَلَى مَنَابِرَ مِن نُورٍ يومَ القيامة " . . الحديث ، هو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله .
ثم ذكر وعيد ضدهم ، فقال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } كما هو عادته تعالى ، يشفع بضد الفريق الذي يذكر أولاً ، وفاءً لحق الدعوة ، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطيب لقلوبهم . وهذه الآية في مقابلة قوله تعالى : { إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيُنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ النَّساء : 58 ] وتكميل لها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أمر الحق جل جلاله شيوخ التربية أن يعدلوا بين الفقراء في النظرة والإمداد ، ولا يحملهم سوء آدب أحدهم ، أو قلة محبته وصدقه ، أن يبعده أو يمقته؛ لأن قلوبهم صافية ، لا تحمل الكدر ، فهم يحسنون إلى من أساء إليهم من العوام ، فضلاً عن أصحابهم؛ فهم مأمورون بالتسوية بينهم في التذكير والإمداد . والله تعالى يقسم بينهم على قدر صدقهم ومحبتهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا قاسمٌ والله مُعطي " أي : إنما أنا أُبين كيفية التوصل إلى الحق ، والله تعالى يتولى إعطاء ذلك لمن يشاء من خلقه ، فالأنبياء والأولياء مثلهم في بيان الطريق بالوعظ والتذكير ، كمن يُبين قسمة التركة بالقلم ، والحاكم هو الذي يوصل إلى كل واحد من الورثة ما كان يَنُوبُه في التركة ، كذلك المذكِّر والمربي ، بين المقامات ، والله يعطي ذلك بحكمته وفضله . والله تعالى أعلم .
(2/40)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } بحفظه إياكم من عدوكم؛ { إذ هَمَّ قوم } أي : حين هَمَّ الكفار { أن يبسطوا إليكم أيديهم } بالقتل ، { فكفّ أيديهم عنكم } ، ولما كانت مصيبة قتل النبي صلى الله عليه وسلم لو قُتل تَعُمُّ المؤمنين كلهم ، خاطبهم جميعاً ، وهي إشارة إلى ما همت به بنو قريظة ، من قتله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أتى بني قريظة ، ومعه الخلفاءُ الأربعة؛ يَستَعينهم في دية رجلين مسلمين ، قتلهما عَمرو بن أمية الضمري ، خطأ ، يظنهما مشركَين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لنا أن نعينك فاجلس حتى تطعم ، فأجلسوه ، وهموا بقتله ، فعمد عَمرُو بن جُحَاش إلى رَحى عظيمةٍ ليَطرحَها عليه ، فأمسَكَ اللهُ يده ، ونزل جِبرِيلُ فأخبَرُه ، فخَرَج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولحقه أصحابُه ، وهذا كان سبب قتلهم في غزوة بن قريظة .
وقيل : نزلت في قضية غَورث ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ببطن نخلة حاصرًا لغطفان ، فقال رجل منهم : هل لكم في أن أقتل محمدًا فأفتك به؟ قالوا : وددنا ذلك ، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم متقلدًا سيفه ، فَوجد النبي صلى الله عليه وسلم نازلاً تحت شجرة قد تفرق أصحابه عنه ، وقد علق سيفه في الشجرة ، فسله الأعرابي ، وقال : من يمنعك مني؟ وفي رواية : وجد النبي صلى الله عليه وسلم نائمًا فاستل السيف ، فما استيقظ النبي إلا والسيف في يد الأعرابي ، فقال : من يمنعك من يا محمد؟ فقال : " الله " ، فأسقطه جبريل من يده ، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " وأنت ، من يمنعك مني؟ " فقال : كن خير آخذ ، فعفى عنه عليه الصلاة والسلام . زاد البيضاوي : أنه أسلم .
وقيل نزلت في صلاة الخوف حين همَّ المشركون أن يُغِيرُوا على المسلمين في الصلاة . فالله تعالى أعلم .
ثم قال تعالى : { واتقوا الله } فلا تشهدوا معه سواه ، وتوكلوا عليه يكفكم أمر عدوكم ، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فإنه يكفيكم أمرهم جلبًا ودفعًا ، من توكل على الله كفاه .
الإشارة : ما جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من قصد القتل والإذاية يجري على خواص ورثته ، وهم الأولياء رضي الله عنهم والعلماء الأتقياء ، فقد هَمَّ قوم بقتلهم وسجنهم وضربهم ، وإجلائهم من أوطانهم ، فكف الله أيديهم عنهم ، وكفاهم شرهم ، لمّا صححوا التوكل عليه ، وأخلصوا الوجهة إليه ، ومنهم من لحقه شيء من ذلك ، كما لحق بعض الأنبياء عليهم السلام زيادة في شرفهم وكرامتهم ، جمع الله لهم بين مقام الشهادة والصديقية ، { والله ذو الفضل العظيم } .
(2/41)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قلت : النقيب : هو كبير القوم والمقدَّم عليهم ، ينقب عن أحوالهم ويفتش عليها . والخائنة : إما مصدر؛ كالعاقبة واللاغية ، أو اسم فاعل ، والتاء للمبالغة ، مثل : رواية ونسَّابة وعلاَّمة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل } على أن يجاهدوا مع موسى عليه السلام وينصروه ، ويلتزموا أحكام التوراة ، { وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا } اخترناهم وقدمناهم ، على كل سبط نقيبًا ينقب عن أحوال قومه ، ويقوم بأمرهم ، ويتكفل بهم فيما أمروا به .
رُوِي أن بني إسرائيل لمَّا خرجوا عن فرعون ، واستقروا بأوائل الشام ، أمرهم الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس ، وهي في الأرض المقدسة ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال : إني كتبتها لكم دارًا وقرارًا ، فأخرجوا إليها ، وجاهدوا مَن فيها من العدو ، فإني ناصركم . وقال لموسى عليه السلام : خذ من قومك اثني عشر نقيبًا ، من كل سبط نقيبًا ، يكون أمينًا وكفيلاً على قومه بالوفاء على ما أمروا به . فاختار موسى النقباء ، فسار بهم حتى إذا دنوا من أرض كنعان ، وهي أريحا ، بعث هؤلاء النقباء يتجسسون الأخبار ، ونهاهم أن يحدثوا قومهم بما يرون ، فلما قربوا من الأرض المقدسة رأوا أجرامًا عظامًا وبأسًا شديدًا ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفراثيم بن يوسف ثم { قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين } إلى آخر ما يأتي من قصتهم . وأما ما ذكره الثعلبي هذا ، وغيره ، من قصة عوج بن عناق ، فقال القسطلاني : هي باطلة من وضع الزنادقة ، فلا يجوز ذكرها في تفسير كتاب الله الصادق المصدوق .
{ وقال الله } لبني إسرائيل : { إني معكم } بالنصر والمعونة؛ { لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وآمنتم برُسلي } التي أرسلتُ بعد موسى { وعزرتموهم } أي : نصرتموهم وقويتموهم ، { وأقرضتم الله قرضًا حسنًا } بالإنفاق في سُبُل الخير ، { لأكفّرنّ عنكم سيئاتكم } أي : أستر عنكم ذنوبكم فلا نفضحكم بها ، { ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك } العهد المؤكد ، المعلَق عليه هذا الوعد العظيم ، { فقد ضلّ سواء السبيل } أي : تلف عن وسط الطريق ، تلفًا لا شبهة فيه ولا عذر معه ، بخلاف من كفر قبل أخذ العهد؛ فيمكن أن تكون له شبهة ، ويتوهم له معذرة .
ثم إن بني إسرائيل نقضوا المواثيق التي أُخذت عليهم ، فكفروا وقتلوا الأنبياء ، قال تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } أي : طردناهم وأبعدناهم ، أو مسخناهم ، { وجعلنا قلوبهم قاسية } أي : يابسة صلبة لا ينفع فيها الوعظ والتذكير ، أو رديَّة مغشوشة بمرض الذنوب والكفر .
ثم بيَّن نتيجة قوة قلوبهم فقال : { يُحرفون الكلم عن مواضعه } لفظًا أو تأويلاً . ولا قسوة أعظم من الجرأة على تغيير كتاب الله وتحريفه ، { ونسوا حظًا مما ذُكروا به } أي : تركوا نصيبًا واجبًا مما ذُكروا به من التوراة ، فلو عملوا بما ذكَّرهم الله في التوراة ما نقضوا العهود وحرّفوا كلام الله من بعد ما علموه ، لكن رَين الذنوب والأنهماك في المعاصي ، غطت قلوبهم فقست ويبست ، { ولا تزال } يا محمد { تطلع على خائنة } أي : خيانة { منهم } أو على طائفة خائنة منهم ، لأن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم ، فلا تزال ترى ذلك منهم { إلا قليلاً منهم } لم يخونوا ، وهم الذين أسلموا منهم ، { فاعف عنهم واصفح } حتى يأتيك أمر الله فيهم ، أو إن تابوا وآمنوا ، أو إن عاهدوا والتزموا الجزية ، { إنَّ الله يحبّ المحسنين } إلى عباده كيفما كانوا .
(2/42)
ومن الإحسان إليهم : جبرهم على الإيمان بالسيف وسوقهم إلى الجنة بسلاسل الامتحان .
الإشارة : قد أخذ الله على هذه الأمة أن يلتزموا أحكام القرآن ، ويحافظوا على مراسم الإسلام والإيمان ويجاهدوا نفوسهم في تحصيل مقام الإحسان ، وبَعث من يقوم ببيان شرائع الإسلام والإيمان ، ومن يعرف الطريق إلى مقام الإحسان ، وقال الله لهم : { إني معكم } بالنصر والتأييد ، لئن أقمتم شرائع الإسلام ، وحققتم قواعد الإيمان وعظمتم من يعرفكم بطريق الإحسان ، لأغطين مساوئكم ، ولأمحقن دعاويكم ، فأوصلكم بما منى إليكم من الكرم والجود ، ولأدخلنكم جنة المعارف تجري من تحتها أنهار العلوم وأنواع الحِكَم ، فمن لم يقم بهذا ، أو جحده فقد ضل عن طريق الرشاد ، ومن نقض عهد الشيوخ المعرفين بمقام الإحسان ، فقد طرد وأبعد غاية الإبعاد ، وقسا قلبه ، بعد اللين . وقد ذكرنا في تفسير الفاتحه الكبير معنى النقباء والنجباء وسائر مراتب الأولياء ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(2/43)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
يقول الحقّ جلّ جلاله : وأخذنا أيضًا عهدًا وميثاقًا من النصارى ، الذين سموا أنفسهم نصارى؛ ادعاء لنصرة عيسى عليه السلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملاً واعتقادًا ، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل ، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد ، وأن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام إن أدركوه ويتبعوه ، { فنسوا حظًا مما ذُكروا به } أي : نسوا ما ذكرناهم به ، وتركوا حظًا واجبًا مما كلفوا به ، { فأغرينا } أي : سلطنا { بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } ، فهم يقتتلون في البر والبحر ، ويتحاربون إلى يوم القيامة ، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها ، أو بينهم وبين اليهود ، فالعداوة بينهم دائمة ، { وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون } بالجزاء العقاب .
الإشارة : يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع الله؛ بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه . أو مع أولياء الله ، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم ، ألقى الله في قلب عباده العداوة والبغضاء له ، فيبغضه الله ، ويبغضه عبادُ الله ، ومن أوفى بما أخذه الله عليه من العهد بوفاء ما كلفه به ، واجتناب ما نهاه عنه ، وتودد إلى أوليائه ، ألقى الله في قلب عباده المحبة والوداد ، فيحبه الله ، ويحبه عباد الله ، ويتعطف عليه أولياء الله ، كما في الحديث : " إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريلُ ، إنَّ اللهَ يحبّ فلانًا فأحِبَّه ، فيُحِبَّهُ جبرِيلُ . ثم يُنَادِي في الملائكة : إن اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فأحِبُّوه . فيُحِبُّه أهلُ السَّمَاءِ ، ثم يُلقَى له القَبولُ في الأرض " . . الحديث .
(2/44)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قلت : الضمير في : { به } ، يعود إلى النور والكتاب ، ووحَّدَه؛ لأن المراد به شيء واحد ، لأن النور هو الكتاب المبين ، أو لأنهما جنس واحد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أهل الكتاب } اليهود والنصارى { قد جاءكم رسولنا } محمد صلى الله عليه وسلم { يُبين لكم كثيرًا مما كنتم تُخفون من الكتاب } كصفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم التي في التوراة ، وكبشارة عيسى بأحمد التي في الإنجيل ، { ويعفو عن كثير } مما تخفونه وتحرفونه ، فلم يخبر به ، ولم يفضحكم ، حيث لم يؤمر به ، أو عن كثير منكم ، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه .
{ قد جاءكم } يا أهل الكتاب { من الله نور وكتاب مبين } ، عطف تفسير ، فالنور هو الكتاب المبين ، أو النور : محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المبين : القرآن؛ لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال ، والواضح الإعجاز والبيان ، { يهدي به الله من اتبع رضوانه } أي : من اتبع رضى الله بالإيمان به ، والعمل بما فيه ، { سُبل السلام } أي : طريق السلامة من العذاب ، أو طرق الله الموصلة إليه ، { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } من ظلمات الكفر ، إلى نور الإسلام { بإذنه } أي : بإرادته وتوفيقه ، { ويهديهم إلى صراط مستقيم } أي : طريق توصلهم إليه لا عوج فيها .
الإشارة : قد أطْلَع الله علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم ، ولا سيما من كان عالمًا بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن ، كالغزالي وابن عباد وغيرهما . فقد تكلم الغزالي في صدر الإحياء مع علماء الظاهر ، ففضح كثيرًا من مساوئهم . وكذلك ابن عباد في شرح الحكم ، وعفوًا عن كثير فهم على قدم رسول الله صلى عليه وسلم وخواص ورثته ، لأنهم حازوا الوراثة كلها ، كما في المباحث :
تَبِعَةُ العَالِم في الأقوَال ... والعَابِد الزَّاهِد في الأفعَال
وفِيهما الصُّوفِيُّ في السباق ... لكنَّه قّد زَادَ بالأخلاَق
فالولي نور من نور الله ، وسر من أسراره ، يُخرج به من سبقت له العناية من ظلمات الحجاب إلى نور الشهود ، ويهدي به من اصطفاه لحضرته تعالى طريق الوصول إليه . وبالله التوفيق .
(2/45)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، والقائل بهذه المقالة هي الطائفة اليعقوبية من النصارى ، كما تقدم . وقيل : لم يصرح بهذه المقالة أحدٌ منهم . ولكن لزمهم حيث قالوا بأن اللاهوت حل في ناسوت عيسى مع أنهم يقولون الإله واحد ، فلزمَهم أن يكون هو المسيح ، ولزمهم الاتحاد والحلول؛ فنسب إليهم لازم قولهم ، توضيحًا لجهلهم ، وتقبيحًا لمعتقدهم .
ثم رد عليهم بقوله : { قل فمن يملك من الله شيئًا } أي : من يمنع من قدرته وإرادته شيئًا ، { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا } ، وبيان الرد عليهم : أن المسيح مقدورٌ ومقهور ، قابل للفناء كسائر الممكنات ، ومن كان كذلك فهو معزول عن الألوهية . ثم أزال شبهتهم بحجة أخرى فقال : { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } ، يتصرف فيهما كيف شاء ، { يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير } ؛ فقدرته عامة؛ فيخلق من غير أصل؛ كالسماوات والأرض ، ومن أصل؛ كخلق ما بينهما ، وينشىء من أصل ليس هو جنسه؛ كآدام وكثير من الحيوانات ، ومن أصل يجانسه ، إما من ذكر وحده؛ كحواء ، أو من أنثى وحدها : كعيسى ، أو منهما؛ كسائر الناس . قاله البيضاوي :
الإشارة : قد رُمي كثير من الأولياء المحققين بالاتحاد والحلول؛ كابن العربي الحاتمي ، وابن الفارض ، وابن سبعين ، والششتري والحلاج ، وغيرهم رضي الله عنهم عنهم وهم بُرءاء منه . وسبب ذلك أنهم لما خاضوا بحار التوحيد ، وكُوشفوا بأسرار التفريد ، أو أسرار المعاني قائمة بالأواني ، سارية في كل شيء ، ماحية لكل شيء ، كما قال في الحِكَم : " الأكوان ثابتة بإثباته ممحوه بأحدية ذاته " فأرادوا أن يعبروا عن تلك المعاني فضاقت عبارتهم عنها؛ لأنه خارجة عن مدارك العقول ، لا تدرك بالسطور ولا بالنقول . وإنما هي أذواق ووجدان؛ فمن عبَّر عنها بعبارة اللسان كفَّر وزندق ، وهذه المعاني هي الخمرة الأزلية التي كانت خفية لطيفة ، ثم ظهرت محاسنها ، وأبدت أنوارها وأسرارها ، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات ، فمن عرفها وكوشف بها . اتحد عنده الوجود ، وأفضى إلى مقام الشهود . وهي منزهة عن الحلول والاتحاد ، إذ لا ثاني لها حتى تحل فيه أو تتحد معه ، وقد أشرت إلى هذا المعنى في تائيتي الخمرية ، حيث قلت :
تَنَزَّهت عن حُكمِ الحلول في وَصفِها ... فليسَ لها سِوَى في شَكلِه حَلَّتِ
تَجَلَّت عَرُوسًا في مَرَائي جَمَالِها ... وأرخَت سُتَور الكبرِياءِ لعِزَّتِي
فَمَا ظَاهِرٌ في الكَونِ غيرُ بهائها ... وما احتَجَبَت إلا لَحجِب سَرِيرتِي
فمن كوشف بأسرار هذه الخمرة ، لم ير مع الحق سواه . كما قال بعضُ العارفين : ( لو كُلفتُ أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غير معه حتى أشهده ) . ولو أظهرها الله تعالى للكفار لوجدوا أنفسهم عابدة لله دون شيء سواه ، وفي هذا المعنى يقول ابن الفارض على لسان الحقيقة :
فما قَصَدُوا غيرَه وإن كان قَصدهُم ... سِوَاي وإن لم يُظهِروا عَقدَ نِيّه
والنصارى دمرهم الله في مقام الفرق والضلال حملهم الجهل والتقليد الرديّ على مقالاتهم التي قالوا في عيسى عليه السلام .
(2/46)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله } أي : أولاد بنيه؛ فاليهود يقولون : نحن أولاد عزير ، والنصارى يقولون : نحن أشياع عيسى . أو : فينا أبناء الله ونحن أحباؤه ، أو : نحن مقربون عند الله كقرب الولد من والده . وهذه دعوى ردَّها عليهم بقوله : { قل } لهم : { فلِمَ يعذبكم بذنوبكم } ، وهل رأيتم والدًا يُعذب ابنه ، وقد عذبكم في الدنيا بالمسخ والقتل والذل ، وقد اعترفتم أنه يعذبكم بالنار أيامًا معدودة ، { بل أنتم بشر ممن خلق } أي : ممن خلقه الله ، { يغفر لمن يشاء } بفضله؛ وهو من آمن منهم بالله ورسوله ، { ويعذب من يشاء } بعدله؛ وهو من مات منهم على كفره ، فأنتم كسائر البشر يعاملكم معاملتهم ، لا مزية لكم عليهم ، { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } كلها سواء في كونها ملكًا وعبيدًا الله سبحانه { وإليه المصير } ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقى .
الإشارة : قوله تعالى : { فلِمَ يعذبكم بذنوبكم } أي : فلو كنتم أحباءه لما عذبكم؛ لأن الحبيب لا يعذب حبيه ، حُكي عن الشبلي رضي الله عنه أنه كان إذا لبس ثوبًا جديدًا مزقه ، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير فقال له : أين تجد في العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي : أين في العلم : { فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } [ صَ : 33 ] ؟ فسكت ، فقال له الشبلي : أنت مقرىء عند الناس ، فأين في القرآن : إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد ، ثم قال : قل يا أبا بكر ، فقرأ له الشبلي قوله تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالْنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } [ المَائدة : 18 ] ، فقال ابن مجاهد : كأني والله ما سمعتها قط . ه .
وفي الحديث : " إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا لاَ يضُرُّه ذَنبٌ " ، ذكره في القوت . وفي المثل الشائع : ( من سبقت له العناية لا تضره الجناية ) . وفي الصحيح " لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ فَقَالَ : افعَلُوا مَا شِئتم فَقَد غَفَرتُ لَكم " ، وسببه معلوم ، وفي الوقت عن زيد بن أسلم : ( إن الله عز وجل ليحب حتى يبلغ من حبه له أن يقول له : اصنع ما شئت فقد غفرت لك ) . وفي القصد للشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال : يبلغ الولي مبلغًا يقال له : أصحبناك السلامة ، وأسقطنا عنك الملامة ، فاصنع ما شئت . ه .
وليس معناه إباحة الذنوب ، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه ، وإذا قضى عليه بشيء ألهمه التوبة ، وهي ماحية للذنوب ، وصاحبها محبوب ، قال تعالى : { إن الله يحب التوابين } . والله تعالى أعلم .
(2/47)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قلت : جملة { يُبين } : حال ، أي : جاءكم رسولنا مبينًا لكم ، و { على فترة } : متعلق بجاء ، أي : جاءكم على حين فترة وانقطاع من الوحي ، و { أن تقولوا } : مفعول من أجله ، أي : كراهية أن تقولوا .
يقول الحقّ جلَ جلاله : { يا أهل الكتاب } ؛ اليهود والنصارى { قد جاءكم رسولنا } محمد صلى الله عليه وسلم { يُبين لكم } ما اختلفتم فيه ، أو ما كنتم من أوامر الدين ، أو مطلق البيان . جاءكم { على } حين { فترة من الرسل } وانقطاع من الوحي ، أرسلناه كراهية { إن تقولوا } يوم القيامة : { ما جاءنا من بشير ولا نذير } ، فتعتذروا بذلك ، { فقد جاءكم بشير ونذير } فلا عذر لكم ، { والله على كل شيء قدير } فيقدر على الإرسال من غير فترة ، كما في أنبياء بني إسرائيل؛ فقد كان بين موسى وعيسى ألف نبي ، وبينهما ألف وسبعمائة سنة ، وعلى الإرسال على الفترة ، كما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . كان بينهما ستمائة سنة ، أو خمسمائة سنة وتسع وستون سنة . قاله البيضاوي :
والذي في الصحيح : أن الفترة ستمائة سنة ، وفي الصحيح أيضًا عنه عليه الصلاة السلام : " أنا أولى النَّاس بعِيسَى في الأُوَلى والآخرة وليس بَينَنَا نبي " وهو يرد ما حكاه الزمخشري وغيره : أَن بينهما أربعة أنبياء : ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب ، وهو خالد بن سِنان العبسي؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم . قاله المحشي .
الإشارة : ظهور أهل التربية بعد زمان الفترة ، وخمود أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة ، حجة على العباد ، ونعمة كبيرة على أهلِ العشق والوداد ، من انتكب عنهم لقي الله بقلب سقيم ، وقامت بهم الحجة عليهم عند الملك الكريم ، ومن اتبعهم وحطَ رأسه لهم فاز بالخير الجسيم ، والنعيم المقيم؛ حيث لقي الله بقلب سليم ، وقد ظهروا في زماننا هذا بعض اندراس أنوار الطريقة ، وخمود أسرار الحقيقة ، فجدد الله بهم الطريقة ، وأحيا بهم أسرار الحقيقة ، منهم شيخنا أبو المواهب صاحب العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، البحر الفياض ، سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني ، وشيخه القطب الواضح ، والجبل الراسخ ، شيخ المشايخ ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني ، أطال الله بركاتهما للأنام ، فقد تخرج على أيديهما الجم الغفير من الأولياء ، وليس الخبر كالعيان . وبالله التوفيق .
(2/48)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إذ قال موسى لقومه } : يا بني إسرائيل { اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } يسُوسُونكم ، كلما مات نبي خلفه نبي ، فقد شرفكم بهم دون غيركم ، إذ لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ، { وجعلكم ملوكًا } أي : جعل منكم ملوكًا ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء ، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه ، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة ، يخلف بعضهم بعضًا في النبوة والمُلك ، استمر ذلك لهم ، حتى قتلوا يحيى ، وهموا بقتل عيسى ، فنزع الله منهم الملك ، وأنزل عليهم الذل والهوان .
وقيل : لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط ، فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم ، سماهم ملوكًا .
{ وآتاكم ما لم يُؤت أحدًا من العالمين } من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونحوها ، أو المراد عالمي زمانهم ، وعن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كَانَ بنو إسرَائيل إذا كَانَ لأحَدِهم خَادِمٌ وامرَأة يُكتَب مَلِكًا " وقال ابن عباس : ( من كان له بيت وخادم وامراة فهو مَلِك ) ، وعن أبي الدرداء قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " مَن أصبَحَ مُعَافّى في بَدَنِه ، آمنًا في سِربِه ، عِندَه قُوتُ يَومِه ، فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها ، يكفيكَ منها ، يا ابنَ آدم ، ما سَدَّ جوعَتَكَ ، وَوَارَ عَورَتك ، فإن كان بيتٌ يُوارِيك فذاك ، وإن كانت دابة فبخ بخ ، فلق الخبز ، وماء الجر وما فَوق الإزار حِسَابٌ عليك " .
وقال الضحاك : ( كانت منازلهم واسعة ، فيها مياه جارية ، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ ، فهو مالك ) . وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم ، وأول من سخر لهم الخدم من بني آدم . ه .
الإشارة : كل من رزقه الله من يأخذ بيده ومن يستعين به على ذكر ربه ، فليذكر نعمة الله عليه ، فقد أسبغ الله عليه نعمه ظاهرة وباطنة . وكل من ملك نفسه وهواه ، وأغناه الله عما سواه ، فهو ملك من الملوك . وكل من خرجت فكرته عن دائرة الأكوان ، واتصل بفضاء الشهود والعيان ، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين . وقد كُنتُ ذات يوم جالسًا في الجامع الأعظم من مدينة تطوان ، فانتبعت فإذا مصحف إلى جنبي ، فقال لي الهاتف : انظر تجد مقامك ، فأعرضت عنه ، فأعاد عليَّ الهاتف ثلاث مرات ، فرفعته ، ونظرت ، فإذا في أول الورقة : { وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين } ، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه .
(2/49)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قلت : { فتنقلبوا } : منصوب بأن في جوب النهي ، أو عطف على المجزوم ، و { ما داموا } : بدل من { أبدًا } ؛ بدل بعض ، و { أخي } يحتمل النصب عطف على { نفسي } ، أو رفع عطف على { أن } مع اسمها ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أو جر عطف على ياء المضاف ، على مذهب الكوفيين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن موسى عليه السلام : { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } ؛ أرض بيت المقدس ، قدسها الله ، حيث جعلها قرار أنبيائه ومسكن المؤمنين . وفي مدحها أحاديث كثيرة . وقيل : الطور وما حوله ، أو دمشق وفلسطين ، أو الشام ، { التي كتب الله لكم } أي : التي كتب الله في اللوح المحفوظ ، أنها لكم مسكنًا إن جاهدتم وأطعتم نبيكم ، { ولا ترتدوا على أدباركم } أي : لا ترجعوا مدبرين هاربين خوفًا من الجبابرة ، أو : لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان ، وعدم الوثوق بالله ، { فتنقلبوا خاسرين } الدنيا والآخرة . رُوِي أنهم لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا ، وقالوا : ليتنا متنا بمصر ، تعالوا نجعل علينا رأسًا ينصرف بنا إلى مصر ، ثم { قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين } أقوياء متغالبين ، لا طاقة لنا بمقاومتهم ، وهم قوم من العمالقة ، من بقية قوم عاد ، { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } بأمر سماوي ، أو يُسلط عليهم من يخرجهم من غيرها ، { فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } فيها .
{ قال رجلان } ؛ كالب بن يوقنّا ، ويوشع بن نون ابن آخت موسى وخادمه { من الذين يخافون } الله ، أو رجلان من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى ، وعليه قراءة { يُخافان } بضم الياء ، { أنعم الله عليهما } بالإسلام والتثبت ، قالا : { ادخلوا عليهم الباب } أي : باب المدينة ، أي : باغِتوهم بالقتال ، { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } أي : ظاهرون عليهم ، فإنهم أجسام لا قلوب فيها . يحتمل أن يكون علمهما بذلك من قِبل موسى ، أو من قوله تعالى : { التي كتب الله لكم } ، أو من عادته سبحانه في نصر رسله وأوليائه ، وما عَهِدا من صنيعه تعالى مع موسى من قهر أعدائه . ثم قال : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } به ، ومصدقين لوعده .
{ قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها } ، وهذا من تعنتهم وعصيانهم ، وأشنعُ منه قولهم : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون } ، قالوه استهزاء بالله ورسوله وعدم مبالاة بهما ، وانظر فضيلة الأمة المحمدية ، وكمال أدبها مع نبيها عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الحديبية لأصحابه حين صُد عن البيت : إني ذاهب بالهدي فناحِرُه عند البيت ، فقال المقداد بنُ الأسود : أما والله ما تقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أنت وربك فقَاتلا إنا هآهنا قاعدون } ، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك ، ومن بين يديك من خلفك ، ولو خُضت البحر لخضناه معك ، ولو تسنَمت جبلاً لعلوناه معك ، ولو ذهبت بنا إلى بَرك الغماد لتبعناك ، فلما سمعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تابعوه على ذلك فَسُرَ صلى الله عليه وسلم وأشرق وجهه .
(2/50)
ه .
ولما سمع موسى مقالة قومه له غضب ، ودعا ربه فقال : { ربّ إني لا أملك إلا نفسي وأخي } أي : لا أثق إلا بنفسي وأخي ، ولا قدرة لي على غيرهما ، والرجلان المذكوران ، وإن كانا موافقين له ، لكنه لم يوثق عليهما ، لما كبد من تلوّن قومه ، ثم دعا عليهم فقال : { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } أي : احكم بيننا وبينهم بما يستحق كل واحد منا ومنهم ، أو بالتبعيد بيننا وبينهم ، وتخليصنا من صحبتهم .
رُوِي أنه لما دعا عليهم ظهر فوقهم الغمام ، وأوحى الله إليه : يا موسى إلى متى يعصي هذا الشعب؟ لأُهلكنهم جميعًا ، فشفع فيهم موسى عليه السلام فقال الله تعالى له : قد غفرت لهم بشفاعتك ، ولكن بعد ما سَميتَهم فاسقين ، ودعوت عليهم ، بي حلفت لأحرمنَّ عليهم دخول الأرض المقدسة ، وذلك قوله تعالى : { قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض } يحتمل أن يكون " أربعين " متعلقًا بمحرمة ، فيكون التحريم عليهم مؤقتًا غير مؤبد فيوافق ظاهر قوله : { التي كتب الله لكم } .
ويؤيد هذا ما رُوِي أن موسى عليه السلام لما خرج من التيه ، سار بمن بقي معه من بني إسرائيل ، ويوشع على مقدمته ، ففتح بيت المقدس ، فبقي فيها ما شاء الله ، ثم قبض . ويحتمل أن يكون " أربعين " متعلقًا ب { يتيهون } ، فيكون التحريم مؤبدًا ، وعلى هذا لم يبق أحد ممن دخل التيه إلا يوشع وكالب ، ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال له : { اذهب أنت وربك . . . } ، بل كلهم هلكوا في التيه ، وإنما دخلها أشياعهم .
رُوِي أن موسى عليه السلام لما حضره الموت في التيه أخبرهم بأن يوشع بعده نبي ، وأن الله أمره بقتال الجبابرة ، فسار بهم يوشع ، وقاتل الجبابرة وكان القتال يوم الجمعة ، فبقيت منهم بقية ، وكادت الشمس أن تغرب ليلة السبت ، فخشي أن يعجزوه ، فقال : اللهم اردد الشمس عليَّ ، وقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعته ، فوقفت مثل يوم حتى قتلهم ، ثم قتل ملوك الأرمانيين ، وقتل مِن ملوك الشام أحدًا وثلاثين ملكًا ، فصارت الشام كلها لبني إسرائيل ، وفرَّق عماله في تواحيها ، وبقيت بنو إسرائيل في التيه أربعين سنة يتيهون في الأرض في ستة فراسخ ، بين فلسطين وأيلة ، متحيرين ، يسيرون من الصباح إلى السماء جادين في السير ، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، ثم يسيرون بالليل كذلك فيصبحون حيث ارتحلوا ، وكان الغمام يظلهم من الشمس وعمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم ، وكان طعامهم المن والسلوى ، وماؤهم من الحجر الذي يحمله موسى ، واختلف في الكسوة ، فقيل : أبقى الله كسوتهم معجزة لموسى ، وقيل : كساهم مثل الظفر .
(2/51)
والأكثر أن موسى وهارون كانا معهم زيادة في درجاتهما ، وكان عقوبة لقومهما وأنهما ماتا فيه ، مات هارون أولاً ودفنه أخوه في كهف ، وقيل : رُفع على سرير في قبة ، ثم مات موسى عليه السلام ودفن بقرب من الأرض المقدسة ، رمية بحجر ، كما في الحديث ، ثم دخل يوشع الأرض المقدسة بعد ثلاثة أشهر . والله تعالى أعلم .
ثم قال تعالى لموسى عليه السلام : { فلا تأس } أي : لا تخزن ، { على القوم الفاسقين } ، خاطبه الحق تعالى بذلك لمَّا ندم على الدعاء عليهم ، فقال له : أنهم أحق بذلك لفسقهم وعصيانهم .
الإشارة : يقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه من المريدين : ادخلوا الحضرة المقدسة التي كتب الله لكم ، إن دمتم على جهاد أنفسكم ، وصدقتم في طلب ربكم ، وبقيتم في تربية شيوخكم ، ولا ترتدوا على أدباركم بالرجوع عن صحبة شيوخكم من الملل مع طول الأمل ، قتنقلبوا خاسرين ، فإن حضرتي محفوفة بالمكاره ، والطريقة الموصلة إليها مرصودة للقواطع والعوائق ، فإن كان ممن لم يكتب له فيها نصيب ، قال : لن ندخلها أبدًا ما دام القواطع فيها ، ورجع على عقبيه ، يتيه في مهامه شكوكه وأوهامه ، وإن كان ممن سبقت له العناية وحقت به الرعاية قال : { ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، فيبادر إلى قتل نفسه ، من غير تأن ولا خوف ولا فزع ، فحضرة التحقيق لا ينالها إلا الشجعان ، ولا يسكنها إلا الأكابر من أهل العرفان وإلى ذلك أشار صاحب العينية بقوله :
وإيَّاك جَزعًا لا يَهُولُكَ أمرُهَا ... فَمَا نَالَهَا إلا الشُّجاعُ المُقّارعُ
وقال الورتجبي في قوله تعالى : { لا أملك إلا نفسي وأخي } : من بلغ عين التمكين ملك نفسه وملك نفوس المريدين؛ لأنه عرفها بمعرفة الله ، وقمعها من الله بسلطان سائس قاهر ، من نظر إليه يفزع من الله ، ولا يطيق عصيانه ظاهرًا وباطنًا ، فأخبر عليه السلام عن محلّ تمكينه وقدرته على نفسه ونفس أخيه ، وأعلمنا أن بينهما اتحادًا ، بحيث إنه إذا حكم على نفسه صار نفس أخيه مطمئنة طائعة لله بالانفعال . قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون كنفس واحدة " .
(2/52)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
قلت : الضمير في { عليهم } : لبني إسرائيل؛ لتقدم شأنهم ، ولاختصاصهم بعلم قصة بني ابني آدم ، ولإقامة الحجة عليهم بهمهم ببسط اليد إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واتل عليهم } أي : على بني إسرائيل؛ إذ الكلام كان معهم ، أو على جميع الأمة ، أو على جميع الناس ، إذ هو أول الكلام على بقية حفظ الأبدان { نبأ ابني آدم } وهو قابيل وهابيل { بالحق } أي : تلاوة ملتبسة بالحق ، أو نبأ ملتبسًا بالحق موافقًا لما في كتب الأوائل .
{ إذ قرّبا قربانًا فتُقبل من أحدهما } وهو هابيل ، { ولم يتُقبل من الآخر } وهو قابيل ، وسبب تقريبهما القربان أن آدم عليه السلام كان يُولد له من حواء توأمان في كل بطن : غلام وجارية ، إلا شيتًا ، فإنه ولد منفردًا ، وكان جميع ما ولدته حواء أربعين ، بين ذكر وأنثى ، في عشرين بطنًا ، أولهم قابيل ، وتوأمته أقليما ، وآخرهم عبد المغيث ، ثم بارك الله في نسل آدم . قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده ، وولد ولده ، أربعين ألفًا ، ورأى فيهم الزنا وشُرب الخمر والفساد ، وكان غشيان آدم لحواء بعد مهبطهما إلى الأرض ، وقال ابن إسحق عن بعض العلماء بالكتاب الأول : إن آدم كان يغشى حواء في الجنة ، قبل أن يصيب الخطيئة ، فحملت في الجنة بقابيل وتوأمته ، ولم تجد عليهما وحمًا ولا غيره ، وحملت في الأرض بهابيل وتوأمته ، فوجدت عليهما الرحم والوصب والطلق والدم .
وكان آدم إذا كبر ولده يزوج غلام هذا البطن بجارية بطن آخر ، فكان الرجل يتزوج أيّ أخواته شاء إلا تَوأمَته ، لأنه لم يكن نساء يومئٍذ ، فأمر الله تعالى آدم أن يزوج قابيل لَودَاء توأمة هابيل ، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل ، وكانت أحسن الناس ، فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : أختي أحسن ، وهي من ولادة الجنة ، وأنا أحق بها ، فقال له أبوه : لا تحل لك ، فأبى ، فقال لهما آدم : قربًا وقربانًا ، فأيكما قُبل قربانه فهو أحق بها .
وكان قابيل صاحب زرع ، فقرَّب حِملاً من زرع رديء ، وأضمر في نفسه : لا أُبالي قُبل أو لا ، لا يتزوج أختي أبدًا ، وكان هابيل صاحب غنم ، فقرّب أحسن كبش عنده ، وأضمر في نفسه الرضا لله تعالى ، وكانت العادة حينئٍذ أن تنزل نارٌ من السماء فتأكل القربان المقبول ، وإن لم يقبل لم تنزل ، فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فحسده ، وقال له : { لأقتلنك } ، حسدًا على تقبل قربانه دونه ، فقال له أخوه : { إنما يتقبل الله من المتقين } الكفر ، أي : إنما أُوتيت من قبل نفسك بترك التقوى ، لا من قِبلي ، فِلمَ تقتلني؟
قال البيضاوي : وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ، ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظًا ، لا في إزالة حظه ، فإن ذلك مما يضره ولا ينفعه ، وأن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متقي .
(2/53)
ه . وفيه نظر : فإن تقوى المعاصي ليست شرطًا في قبول الأعمال بإجماع أهل السنة ، إلا أن يحمل على تقوى الرياء والعجب . انظر الحاشية .
ثم قال له أخوه هابيل : { لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتلك إني أخاف الله ربّ العالمين } أي : لئن بدأتني بالقتل لم أبدأك به ، أو لم أدفعك عني ، وهل تركه للدفع تورع ، وهو الظاهر أو كان واجبًا عندهم ، وهو قول مجاهد؟ وأما في شرعنا : فيجوز الدفع ، بل يجب ، قاله ابن جزي . وقال البيضاوي : قيل : كان هابيل أقوى منه ، فتحرج عن قتله ، واستسلم له خوفًا من الله ، لأن الدفع لم يُبح بعدُ ، أو تحريًا لِمَا هو الأفضل . قال صلى الله عليه وسلم : " كُن عبدَ الله المقتُول ، ولا تكُن عبدَ الله القاتل " وإنما قال : { ما أنا بباسط } في جواب { لئن بسطت } ؛ للتبري من هذا الفعل الشنيع ، والتحرز من أن يوصف به ، ولذلك أكد النفي بالباء . ه .
ثم قال له هابيل : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار } أي : إني أريد بالاستسلام وعدم الدفع أن تنقلب إلى الله ملتبسًا بإثمي ، أي : حاملاً لإثمي لو بسطت إليك يدي ، وإثمك ببسطك بيدك إليّ ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم : " المُستَبَّان ما قَالاَ فَعَلى البادِىء منهما مَا لَم يَعتَدِ المَظلُومُ " أو بإثم قتلى وبإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك ، أو بسائر ذنوبي فتحملها عني بسبب قتلك لي؛ فإن الظالم يجعل عليه يوم القيامة ذنوب المظلوم ثم يطرح في النار ، ولذلك قال : { وذلك جزاء الظالمين } ، يحتمل أن يكون من كلام هابيل ، أو استئناف من كلام الله تعالى ، أي : جزاؤهم يوم القيامة أن يحملوا أوزار المظلومين ، ثم يطرحون في النار ، كما في حديث المفلس .
ولم يرد هابيل بقوله : { إني أريد } ، أنه يُحب معصية أخيه وشقاوته ، بل قصد بذلك الكلام أنه إن كان القتل لا محالة واقعًا فأريد أن يكون لك لا لي ، والمقصود بالذات : ألا يكون له ، لا أن يكون لأخيه . ويجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته . وإرادة عقاب العاصي جائزة . قاله البيضاوي .
{ فطوّعت له نفسه قتل أخيه } أي : سهلت له ووسِعته ولم تضق منه ، أو طاوعته عليه وزينته له ، { فَقتله فأصبح من الخاسرين } دينًا ودنيا ، فبقي مدة عمره مطرودًا محزونًا . قال السدي : لما قصد قابيلُ قتل هابيل ، راغ هابيل في رؤوس الجبال ، ثم أتاه يومًا من الأيام ، فوجده نائمًا فشدخ رأسه بصخرة فمات ، وقال ابن جريج : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل؟ فتمثل له إبليس ، وأخذ طيرًا فوضع رأسه على حجر ، ثم شدخه بحجر آخر ، وقابيل ينظر ، فعلمه القتل ، فوضع رأس أخيه على حجر ثم شدخه بحجر آخر .
(2/54)
وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة ، وقبره قيل : عند عقبة حراء ، وقال ابن عباس : عند ثور وقال جعفر الصادق : بالبصرة ، في موضع المسجد الأعظم .
الإشارة : قد تضمنت هذه الآية من طريق الإشارة ثلاث خصال ، يجب التحقق بها على كل مؤمن متوجه إلى الله تعالى : أولها : التطهير من رذيلة الحسد ، لاذي هو أول معصية ظهرت في السماء والأرض ، وقد تقدم الكلام عليه في النساء ، الثانية : التطهير من الشرك الجلي والخفي ، والتغلغل في التبري من الذنوب التي توجب عدم قبول الإعمال ، ويتحصل ذلك بتحقيق الإخلاص ، والثالثة : عدم الانتصار للنفس والدفع عنها إلا فيما وجب شرعًا ، فقد قالوا : ( الصوفي دمه هدر ، وماله مباح ) ؛ فلا ينتصر لنفسه ولو بالدعاء ، فإما أن يسكت ، أو يدعوا لظالمه بالرحمة والهداية ، حتى يأخذ الله بيده اقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال " اللهم اعفِر لِقَومي فَإنَّهُم لا يَعلَمُونَ " .
(2/55)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قلت : { ليريه } أي : يعلمه ، وضمير الفاعل يعود على " الله " أو الغراب ، و { كيف } : حال من الضمير في { يُواري } والجملة مفعول ثان ليرى ، أي : ليعلمه الله ، أو الغراب ، كيفية مواراة أخيه ، و { يا ويلتا } : كلمة جزع وتحسر ، والألف فيها بدل من ياء المتكلم ، كيا حسرتا ويا أسفا ، و " أصبح " هنا بمعنى صار .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض } أي : يحفر فيها ، { ليريه } أي : الله ، أو الغراب ، { كيف يُواري } أي : يستر { سوءة أخيه } أي : جسده؛ لأنه مما يستقبح أن يرى ، وخصت بالذكر لأنها أحق بالستر من سائر الجسد ، فعلَّم اللهُ قابيل كيف يصنع بأخيه؛ لأنه لم يدر ما يصنع به ، إذ هو أول ميت مات من بني آدم ، فتحير في أمره ، فبعث الله غرابين فاقتتلا ، فقتل أحدُهما الآخر ، فحفر له بمنقاره ورجليه ، ثم ألقاه في الحفرة وغطاه بالتراب .
قال قابيل لما رأى ذلك : { يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي } فأهتَدِي إلى ما اهتدى إليه ، فحفر لأخيه ودفنه { فأصبح من النادمين } على قتله ، لِما كابد فيه من التحير في أمره ، وحَملِه على رقبته سنة أو أكثر ، وتلمذة الغراب له ، واسوداد لونه ، وتبرّي أبويه منه ، إذ رُوِي أنه لما قتله أسود وجهه ، فسأله آدم عن أخيه ، فقال : ما كنتُ عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته؛ فلذلك اسود جسدك ، وتبرأ منه ، ومكث بعد ذلك مائة سنة لم يضحك ، وعدم الظفر بما فعله من أجله . قاله البيضاوي ، فانظره مع ما سيأتي عن الثعلبي .
واختلف في كفره؛ فقال ابن عطية : الظاهر أنه لم يكن قابيل كافرًا ، وإنما كان مؤمنًا عاصيًا ، ولو كافرًا ما تخرج أخوه من قتله ، إذ لا يتحرج من قتل كافر؛ لأن المؤمن يأبى أن يقتل موحدًا ، ويرضى بأن يُظلَمَ ليجازي في الآخرة . ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه لما قصد أهل مصر قتله مع عبد الرحمن بن أبي بكر ، لشُبهةٍ ، وكانوا أربعة آلاف ، فأراد أهل المدينة أن يدفعوا عنه ، فأبى واستسلم لأمر الله . قال عياض : منعه من الدفع إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك سَبَقَ به القدر . حيث بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، كما في البخاري ، ونقل عن بعض أهل التاريخ : أن شيتًا سار إلى أخيه قابيل ، فقاتله بوصية أبيه له بذلك ، متقلدًا بسيف أبيه . وهو أول من تقلد بالسيف ، فأخذه أخاه أسيرًا وسلسله ، ولم يزل كذلك حتى قبض كافرًا . ه .
قلت : ولعل تحرّج أخيه من قتله؛ لأنه حين قصد قتله لم يُظهِر كفره ، وظهر بعد ذلك ، فلذلك قاتله أخوه شيت بعد ذلك وأسره ، وذكر الثعلبي : أن قابيل لما طرده أبوه ، أخذ بيد أخته أقليمًا ، فهرب بها إلى أرض اليمن ، فأتاه إبليس فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل ، لأنه كان يخدم النار ويعبدها ، فانصب أنت أيضًا نارًا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، وهو أول من عبد النار .
(2/56)
ه . فهذا صريح في كفره . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إذا كان الحق جل جلاله يدل العصاة من عباده إذا تحيروا على ما يزيل حيرتهم ، فكيف لا يدل الطائعين إذا تحيروا على ما يزيل شبهتهم ، إذا فزعوا إليه والتجأوا إلى حماه؟! فكل من وقع في حيرة دينية أو دنيوية وفزع إلى الله تعالى ، مضطرًا إليه ، فلا شك أن الله تعالى ، مضطرًا إليه ، فلا شك أن الله تعالى يجعل له فرجًا ومخرجًا من أمره ، إما بواسطة أو بلا واسطة . كن صادقًا تجد مرشدًا ، { فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ } [ محَمَّد : 21 ] . والله تعالى أعلم .
(2/57)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{ مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً . . . }
قلت : { من أجل ذلك } : يتعلق بكتبنا ، فيوقف على ما قبله ، وقيل : بالنادمين ، فيوقف على { ذلك } ، وهو ضعيف ، قاله ابن جزي ، وأصل { أجْل } : مصدر أجُل يأجل ، كأخذ يأخذ ، أجلاً ، أي : جنا جناية ، استعمل في تعليل الجنايات ، ثم اتسع فيه ، فاستعمل في كل تعليل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { من أجل ذلك } القتل الذي صدر من قابيل لأخيه هابيل ، وما نشأ عنه من التجرؤ على الدماء والمفاسد ، حيث سَنَّه أولاً ولم يكن يعرفه أحد ، فاقتدى به من بعده ، { كتبنا على بني إسرائيل } في التوراة الذي حكمه متصل بشريعتكم ، { أنه من قتل نفسًا بغير نفس } أي : في غير قصاص ، وبغير فساد في الأرض ، كقطع الطريق والكفر ، { فكأنما قتل الناس جميعًا } من حيث إنه هتك حرمة الدماء ، وسن القتل ، وجرأ الناس عليه .
وفي البخاري عن ابن مسعود قال : قال صلى الله عليه وسلم : " لا تُقتَلُ نَفسٌ مسلمةٌ بغير حق إلاَّ كَانَ على ابنِ آدَمَ الأولِ كِفلٌ من دَمِها ، لأنَّهُ أوَّلُ من سَنَّ القَتل " أو من حيث إن قتل الواحد والجميع سواء في استجلاب غضب الله والعذاب العظيم ، أو يكون الناس خصماءه يوم القيامة؛ لأن هتك حرمة البعض كالكل؟
{ ومن أحياها } أي : تسبب في حياتها بعفو أو منع من القتل ، أو استقباء من بعض أسباب الهلكة؛ كإنقاذ الغريق والحريق وشبه ذلك ، { فكأنما أحيا الناس جميعًا } ؛ أُعطِي من الأجر مثل ما لو أحيا الناس جميعًا ، وفي البخاري : " من أحياها أي مَن حَرَّمَ قتلَها إلا بحق حيى الناس منه جميعًا " قال ابن جزي : والقصد بالآية تعظيم قتل النفس والتشديد فيه ، ليزدجر الناس عنه وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع لتعظيم الأمر والترغيب فيه . ه . فما كتبه الله على بني إسرائيل هو أيضًا شرع لنا . قال أبو سعيد : ( والذي لا إله إلا هو دم بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا ) .
وإنما خصّهم بالذكر؛ لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل النفس في كتاب ، وغلظ عليهم بسبب طغيانهم ، ولتلوح مذمتهم . انظر ابن عطية . وعنه صلى الله عليه وسلم : " مَن سَقَى مؤمنًا شربَة ماء والماءُ موجودٌ ، فكأنما أعتقَ سبعين رقبة ، ومَن سقَى في غيرِ مَوطِنِه فكأنَّما أحيا الناس جميعًا " .
الإشارة : كل من صدَّ نفسًا عن إحياء قلبها وعوّقها عن من يعرفها بربها فكأنما قتلها ، ومن قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا؛ لأن المؤمنين كلهم كالجسد الواحد ، كما في الحديث ، ومن أحياها بأن أنقذها من الغفلة إلى اليقظة ، ومن الجهل إلى المعرفة ، فكأنما أحيا الناس جميعًا؛ لأن الأرواح جنس واحد ، فإحياء البعض كإحياء الكل .
(2/58)
وبهذا يظهر شرف مقدار العارفين ، الدالين على الله ، والدعاة إلى معرفة الله ، الذين أحيا الله بهم البلاد والعباد ، وفي بعض الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسُ محمدٍ بيده لئن شئتُم لأُقسِمَنَّ لكم : إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى الله الذين يُحَبَّبُون اللهُ إلى عبادهِ ، ويحببون عبادَ اللهِ إلى اللهِ ، ويمشُون في الأرضِ بالنَّصيِحَة " .
وهذه حالة شيوخ التربية : يحببون الله إلى عباده؛ لأنهم يطهرون القلب من دنس الغفلة حتى ينكشف لها جمال الحق فتحبه وتعشقه ، ويذكرون لهم إحسانه تعالى وآلاءه فيحبونه ، فإذا أحبوه أطاعوه فيحبهم الله ويقربهم ، والله تعالى أعلم . وقال الورتجبي : فيه إشارة لطيفة من الحق سبحانه أن النية إذا وقعت من قبل النفس الأمارة في شيء ، وباشرته ، فكأنما باشرت جميع عصيان الله تعالى؛ لأنها لو قدرت على جميعها لفعلت ، لأنها أمارة بالسوء ، ومن السوء خلقت ، فالجزاء يتعلق بالنية . وكذلك إذا وقعت النيبة من قبل القلب الروحاني في خير ، وباشره ، فكأنه باشر جميع الخيرات؛ لأنه لو قدر لفعل . قال صلى الله عليه وسلم " نيةُ المؤمن أبلغُ مَن عَمله " .
وفيه إشارة أخرى أن الله سبحانه خلق النفوس من قبضة واحدة مجتمعة ، بعضها من بعض وصرُفها مختلفة ، وتعلقت بضعها من بعض من جهة الاستعداد والخلقة . فمن قتل واحدًا منها أثرَّ قتلها في جميع النفوس عالمة بذلك أو جاهلة ، ومن أحيا نفس مؤمن بذكر الله وتوحيده ، ووصف جلاله وجماله ، حتى تحب خالقها ، وتحيا بمعرفته ، وجمال مشاهدته ، فأثِرِ حياتها وتزكيتها في جميع النفوس ، فكأنما أحيا جميع النفوس . وفيه تهديد لأئمة الضلالة ، وعز وشرف وثناء حسن لأئمة الهدى . انتهى كلامه .
وقوله في النفس الأمارة : ( من السوء خلقت ) ، فيه نظر؛ فإن النفس هي الروح عند المحققين ، فما دامت الطينية غالبة عليها ، وهي مائلة إلى الحظوظ والهوى ، سميت نفسًا ، فإن كانت منهمكة سميت أمارة ، وإن خف عثارها ، وغلب عليها الخوف ، سميت لوامة ، فإذا انكشف عنها الحجاب ، وعرَفت ربها ، واستراحت من تعب المجاهدة ، سميت روحًا ، وإن تطهرت من غبش الحس بالكلية سميت سرًا ، وأصلها من حيث هي نور رباني وسر لاهوتي . ولذلك قال تعالى فيها : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِي } [ الإسرَاء : 85 ] ، فالسوء عارض لها ، لا ذاتي ، فما خلقت إلا من نور القدس . والله تعالى أعلم .
ثم عاتب بني إسرائيل على سفك الدماء والإفساد في الأرض ، بعد ما حرم ذلك عليهم في التوراة ، فقال :
{ . . . وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد جاءتهم } أي : بني إسرائيل ، { رُسلنا بالبينات } أي : بالمعجزات الواضحات ، { ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون } بسفك الدماء وكثرة المعاصي .
(2/59)
قال البيضاوي : أي : بعدما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل إتيان تلك الجناية ، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدًا للأمر وتجديدًا للعهد ، كي يتحاموا عنها ، كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون ، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها ، والإسراف : التباعد عن حد الاعتدال في الأمر . ه .
الإشارة : قد قيض الله لهذه الأمة المحمدية من يقوم بأمر دينها ، ظاهرفا وباطنًا ، وهم ورثته في الظاهر والباطن ، وفي الخبر : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ، فلكل زمان رجال يقومون بالشريعة الظاهرة وهم العلماء ، ورجال يقومون بالحقيقة الباطنة ، وهم الأولياء ، فمن قصر في الجهتين قامت عليه الحجة ، ولله الحجة البالغة ، فمن أسرف أو طغى أدبته الشريعة وأبعدته الحقيقة . وبالله التوفيق .
(2/60)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قلت : سبب نزل الآية عند ابن عباس : قوم من اليهود كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل . وهو مناسب لما قبله ، وقال جماعة : نزلت في نفر من عُكل وعُرينَة ، أظهروا الإسلام بالمدينة ، ثم خرجوا وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا إبله ، فبعث في إثرهم ، فأُخذوا ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ، فماتوا ، ثم حُكمُها جارِ في كل محارب ، والمحاربة عند مالك : هي حمل السلاح على الناس في بلد أو في خارج عنه ، وقال أبو حنيفة : لا يكون المحارب إلا خارج البلد ، { فسادًا } : منصوب على العلة ، أو المصدر ، أو على حذف الجار .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنما جزاء الذين يحاربون الله } حيث حاربوا عباده ، فهو تغليظ ومُبالغة ، { و } يحاربون { رسوله } كما فعل العُرَينيون أو غيرهم ، { ويسعون في الأرض فسادًا } بالفساد كإخافة الناس ، ونَهب أموالهم . قال ابن جزي : هو بيان للحرابة ، وهي درجات؛ فأدناها : إخافة الطريق ، ثم أخذ الأموال ، ثم قتل النفس .
فجزاؤهم { أن يُقتلوا أو يُصلبوا } ، فالصلب مضاف للقتل ، فقيل : يقتل ثم يصلب ، إرهابًا لغيره ، وهو قول أشهب ، وقيل : يصلب حيًا ويُقتل في الخشبة ، وهو قول ابن القاسم ، { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ، فيقطع يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإن عاد قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، وقطع اليد من الرسغ ، الرجل من المفصل كالسرقة ، { أو يُنفوا من الأرض } أي : ينفوا من بلد إلى بلد ، ويسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم . وقال أبو حنيفة : يسجن في البلد بعينه . ومذهب مالك : أن الإمام مخير في المحارب بين ما تقدم ، إلا أنه قال : إن كان قتل فلا بد من قتله ، وإن يقتل فالأحسن أن يؤخذ فيه بأيسر العقاب .
أولئك المحاربون { لهم خزي في الدنيا } : ذل وفضيحة ، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم . ظاهره أن العقوبة في الدنيا لا تكون كفارة للمحاربين بخلاف سائر الحدود . ويحتمل أن يكون الخزي في الدنيا لمن عوقب ، وفي الآخرة لمن لم يعاقب ، { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } بأن جاؤوا تائبين { فاعلموا أن الله غفور رحيم } ، فيسقط عنهم حكم الحرابة ، واخُتلف : هل يطالب بما عليه من حقوق الناس كالدماء أم لا؟ فقال الشافعي : يسقط عنه بالتوبة حد الحرابة ، ولا يسقط حقوق بني آدم ، وقال مالك : يسقط عنه جميع ذلك ، إلا أن يُوجد معه مال رجل بعينه ، فَيُرَدَّ إلى صاحبه ، أو يطلبه ولي دم بدم تقوم البينة فيه ، فيقاد به ، وأما الدماء والأموال التي لم يطالب بها ، فلا يتبعه الإمام بشيء منها .
وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة ، يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد ، وإن أسقطت العذاب ، والآية في قُطَّاع المسلمين؛ لأن توبة المشرك تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها .
(2/61)
ه . قاله البيضاوي : والله تعالى أعلم .
الإشارة : فرق كبير بين من يرجع إلى الله بملاطفة الإحسان ، وبين من يقاد إليه بسلاسل الامتحان ، هؤلاء المحاربون لم يرجعوا إلى الله حتى أُخذوا وقُتلوا وصُلبوا أو قطعت أيديهم وأرجلهم . وإن رجعوا إليه اختيارًا قبلهم ، وتاب عليهم ورحمهم وتعطف عليهم ، وكذلك العباد : من رجع إلى الله قبل هجوم منيته قَبِله وتاب عليه ، وإن جد في الطاعة قرَّبه وأدناه ، وإن تقدمت له جنايات ، وقد خرج من اللصوص كثير من الخصوص ، كالفضيل ، وابن أدهم ، وغيرهما ، ممن لا يحصى ، سبقت لهم العناية فلم تضرهم الجناية . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(2/62)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } ، ولا تسلكوا سبيل بني إسرائسيل الذين جاءتهم الرسل ، فعصوا وأفسدوا { وابتغوا إليه الوسيلة } أي : اطلبوا ما تتوسلون به إلى رضوانه ، والقرب من جناب قدسه من الطاعات ، وترك المخالفات ، { وجاهدوا في سبيله } بمحاربة أعدائه الظاهرة والباطنة { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى الله والفوز بكرامته .
الإشارة : لا وسيلة أقرب من صحبة العارفين ، والجلوس بين أيديهم وخدمتهم ، والتزام طاعتهم ، فمن رام وسيلة توصله إلى الحضرة غير هذه فهو جاهل بعلم الطريق . قال أبو عمرو الزجّاجي رضي الله عنه : لو أن رجلاً كشف له عن الغيب ، ولا يكون له استاذ لا يجيء منه شيء .
وقال إبراهيم بن شيبان رضي الله عنه : لو أن رجلاً جمع العلوم كلها ، وصحب طوائف الناس ، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة ، من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح ، ومن لا يأخذ أدبه من آمر له وناهٍ يريه عيوبَ أعماله ورُعونات نفسه ، لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات . ه .
وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : كل من لا يكون له في هذا الطريق شيخ لا يفرح به . ه . ولو كان وافر العقل منقاد النفس ، واقتصر على ما يلقى إليه شيخ التعليم فقط ، فلا يكمل كمال من تقيد بالشيخ المربي؛ لأن النفس أبدًا كثيفة الحجاب عظيمة الإشراك ، فلا بد من بقاء شيء من الرعونات فيها ، ولا يزول عنها ذلك ، بالكلية ، إلا بالانقياد للغير والدخول تحت الحكم والقهر ، وكذلك لو كان سبقت إليه من الله عناية وأخذه الحق إليه ، وجذبه إلى حضرته ، لا يؤهل للمشيخة ، ولو بلغ ما بلغ ، والحاصل : أن الوسيلة العظمى ، والفتح الكبير ، إنما هو في التحكيم للشيخ ، لأن الخضوع لمن هو من جنسك تأنفه النفس ، ولا تخضع له إلا النفس المطمئنة ، التي سبقت لها من الله العناية . والله تعالى أعلم .
(2/63)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قلت : { لو أن لهم } : الجار متعلق بالاستقرار ، لأنه خير " إن " مقدمًا ، والضمير في { به } : يعود على ما ومثله ، ووحده باعتبار ما ذكر كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } [ البَقَرَة : 68 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين كفروا } حين يشاهدون العذاب يتمنون الفداء ، فلو { أن لهم ما في الأرض جميعًا } من الأموال والعقار { ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم } ولا ينفعهم { ولهم عذاب مقيم } لا خلاص لهم منه ، وهذا كما ترى في الكفار ، وأما عصاة المؤمنين فيخرجون منها بشفاعة نبيهم عليه الصلاة والسلام ولا حجة للمعتزلة في الآية ، خلافًا لجهالة الزمخشري .
الإشارة : كل من مات تحت قهر الحجاب ، ونكّبته المشيئة عن دخول الحضرة مع الأحباب ، حصل له الندم يوم القيامة ، فلو رام أن يفتدى منه بملء الأرض ذهبًا ما تقبل منه ، بل يبقى مقيمًا في غم الحجاب ، معزولاً عن رؤية الأحباب ، يتسلى عنهم بالحور والولدان ، وتفوته نظرة الشهود والعيان في كل حين وأوان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
(2/64)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قلت : { السارق } : مبتدأ والخبر محذوف عند سيبويه ، وهو الجار والمجرور ، أي : مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة ، وقال المبرد : الخبر هو جملة : { فاقطعوا } ، ودخلت الفاء لمعنى الشرط؛ لأن الموصول وهو " أل " فيه معنى الشرط ، ومثله : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَأجْلِدُواْ } [ النُّور : 2 ] ، قلت : وهو أظهر ، فإن قلت : ما الحكمة في تقديم المُذكر في هذه الآية ، وفي أية الزنا قدم المؤنث ، فقال : { الزَّانِيَهُ وَالزَّانِى } ؟ فالجواب : أن السرقة في الرجال أكثر ، والزنى في النساء أكثر ، فقدّم الأكثر وقوعًا . وقدّم العذاب هنا على المغفرة ، لأنه قابل بذلك تقدم السرقة على التوبة ، أو لأن المراد به القطع ، وهو مقدم في الدنيا ، { جزاء } و { نكالاً } : علة أو مصدر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } أي : أيمانهما من الرسغ ، بشروط ، منها : ألاَّ يكون مضطرًا بالجوع ، على قول مالك ، فيقدم السرقة على الميتة ، إن عُلِم تصديقه . ومنها : ألاَّ يكون السارق أبًا أو عبدًا سرق مال ولده أو سيده . ومنها : أن يكون سرق من حرز ، وأن يكون نِصَابًا ، وهو ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، أو ما يساويهما عند مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال عثمان البَتى : يُقطع في درهم فما فوق . وفي السرقة أحكام مبسوطة في كتب الفقه .
وعلة القطع : الزجر ، ولذلك قال : { جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم } . فإن قلت : ما الحكمة في قطعها في ربع دينار ، مع أن دِيتَهَا أن قطعت ، خمسمائة دينار؟ قلت : ذل الخيانة أسقطت حرمتها بعد عز الصيانة . فافهم حكمة الباري .
{ فمن تاب من بعد ظلمه } أي : بعد سرقته ، كقوله في سورة يوسف : { كَذَلِكَ نَجْزِي الَّظالِمِينَ } [ يُوسُف : 75 ] أي : السارقين ، { وأصلح } بأن ردّ ما سرق ، وتخلص من التبعات ما استطاع ، وعزم ألا يعود { فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } ، فيتقبل توبته ، فلا يعذبه في الآخرة ، وأما القطع : فهل يسقط ، وهو مذهب الشافعي لظاهر الآية ، أو لا يسقط ، وهو مذهب مالك ، لأن الحدود لا تسقط عنده بالتوبة إلا عن المحارب؟ . . . قاله ابن جزي ، تبعًا لابن عطية ، وفيه نظر ، فإن مشهور مذهب الشافعي موافق لمالك ، ولعله تصحف عده الشافعي بالشعبي ، كما نقل الثعلبي عنه . والله أعلم .
{ ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض } يتصرف فيهما كيف شاء ، فالخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ، { يُعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء } قال السدي : يُعذب من مات على كفره ، ويغفر لمن تاب من كفره . وقال الكلبي : { يُعذب من يشاء } على الصغيرة إذا أقام عليها { ويغفر لمن يشاء } على الكبيرة إذا نزع منها ، { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء .
(2/65)
الإشارة : كما أمره الحق جل جلاله بقطع سارق الأموال ، أمر بقطع سارق القلوب ، وهو الشيطان ، وجنوده؛ الخواطر الردية؛ فإن القلب بيت كنز السر أي : سر الربوبية لأن القلب بيت الرب ، والبصيرة حارسة له ، فإذا طرقه الشيطان بجنوده ، فإن وجد البصيرة متيقظة دفعته وأحرقته بأنوار ذكرها ، وأن وجدها نائمة؛ فإن كان نومها خفيفًا اختلس منها وفطنت له ، وإن كان نومها ثقيلاً؛ بتراكم الغفلات ، خرب البيت ولم تفطن له ، فيسكن فيه بجنوده الخواطر وهي نائمة . فالواجب على الإنسان حفظ قلبه ، قبل أن يسكنه الشيطان ، فيصعب دفعه ، وحفظه بدوام ذكر الله القلبي ، فإن لم يستطع فبدوام اللسان ، فإن لم يستطع فبالنية الصالحة . وربنا المستعان .
(2/66)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{ ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ . . . }
قلت : الباء في : { بأفواههم } متعلقة بقالوا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الرسول لا يحزنك } صنع المنافقين ، { الذين يسارعون في الكفر } أي : يقعون فيه سريعًا ، فيظهرونه إن وجدوا فرصة ، ثم بينهم بقوله : { من الذين قالوا آمنا } قالوه { بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } ، فلا يهولنّك شأنهم ولا تحتفل بكيدهم ، فإن الله سيكفيك أمرهم .
الإشارة : من شأن العارفين بالله تذكير عباد الله ، ثم ينظرون إلى ما يفعل الله ، فلا يحزنون على من لم تنفعه الموعظة ، ولا يفرحون بسبب نجاح موعظتهم ، إلا من حيث موافقة رضا ربهم ، فهم في ذلك على قدم نبيهم ، آخذين بوصية ربهم . والله تعالى أعلم .
ثم رجع إلى عتاب اليهود ، فقال :
{ . . . وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين }
قلت : { ومن الذين هادوا } : يُحتمل أن يكون عطفًا على { الذين قالوا } أي : لا يحزنك شأن المنافقين واليهود ، و { سماعون } : خبر ، أي : هم سماعون ، ويحتمل أن يكون استئنافاً ، فيكون { سماعون } : مبتدأ على حذف الموصوف ، و { من } : خبر ، أي : ومن الذين هادوا قوم سماعون ، واللام في : { للكذب } : إما مزيدة للتأكيد ، أو لتضمين السماع معنى القبول ، وجملة { لم يأتوك } : صفة لقوم ، وجملة { يحرّفون } : صفة أخرى له .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن الذين هادوا } صنف { سماعون للكذب } أي : كثيروا السماع للكذب والقبول له ، وهم يهود بني قريظة ، { سماعون لقوم آخرين } وهم يهود خيبر ، { لم يأتوك } أي : لم يحضروا مجلسك ، تكبرًا وبغضًا ، { يُحرفون الكلم من بعد مواضعه } أي : يميلونه عن مواضعه الذي وضعه الله فيها ، إما لفظًا أو تأويلاً : { يقولون } : أي : الذين لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم يهود خيبر : { إن أُوتيتم هذا فخذوه } أي : إن أوتيتم هذا المحرّف وأفتاكم محمد بما يوافقه فخذوه ، { وإن لم تُؤتوه } بأن أفتاكم بغيره { فاحذروا } أن تقبلوا منه .
وسبب نزولها : أن شريفًا مِن يهود خَيْبَرَ زنى بِشريفة منهم ، وكانا مُحصنَين ، وكرهوا رجمهما ، فأرسلوا مع رَهطِ منهم إلى بَني قريظة ليسألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا لهم : إن أمَرَكُم بالجَلّد والتَّحمِيم فَاقبلُوا ، وإن أمَرَكُم بالرَّجم فاحذروا أن تقبلوه منه ، فأتوا رسولَ الله صلى عليه وسلم بالزَّانِيين ، ومعَهما ابن صوريا ، فاستفتوه صلى الله عليه وسلم ، فقال لابن صوريا : أنشُدكَ اللهَ الذي لا إله إلا هُو ، الذِي فَلَق البَحرَ لمُوسى ، ورفع فوقكم الطور ، وأنجاكُم وأغْرَقَ آلَ فِرعَونَ ، والذِي أنزل علَيكُم كِتَابه ، وأحلَّ حَلاله وحرَّم حَرَامه ، هل تجد فيهم الرَّجمَ على من أحصن؟ فقال : نعم ، فوثبوا عليه ، فقال : خِفتُ إن كَذبتَه أن ينزل علينا العذاب ، فأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالزَّانِيين فرُجِمَا عندَ باب المسجد ، وفي رواية : دعاهم إلى التوراة فأتوا بها ، فوضع ابن صوريا يده على آية الرجم ، وقرأ ما حولها ، فقال له عبدالله بن سلام : ارفع يدك ، فإذا آية الرجم تلوح ، فرجما .
(2/67)
وفي القصة اضطراب كثير . ولعل القضية تعددت .
قال تعالى : { ومن يُرِد الله فتنته } أي : ضلالته أو فضيحته ، { فلن تملك له من الله شيئًا } أي : تقدر على دفعها عنه ، { أولئك الذين لم يُرد الله أن يُطهر قلوبهم } من الكفر والشرك ، { لَهُم في الدُّنيَا خزيٌ } أي : هوان وذل؛ بضرب الجزية والخوف من المؤمنين ، { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو الخلود في النيران .
هم { سماعون للكذب } ، كرر للتأكيد ، وليرتب عليه قوله : { أكَّالون للسحت } أي : الحرام ، كالرشا وغيرها ، وسُمي سحتًا؛ لأنه يسحت البركة ويستأصل المال ، كما قال صلى الله عليه وسلم " من جمع المال من نهاوش أذهبه الله في نهابر " .
ثم خيَّر نبيه عليه الصلاة والسلام في الحكم بينهم ، فقال : { فإن جاؤوك } متحاكمين إليك { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ، وقيل : نسخ بقوله : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم } [ المَائدة : 49 ] . والجمهور : أن ما كان من باب التظالم والتعدي فإن الحاكم يتعرض بهم ويبحث عنه ، وأما النوازل التي لا ظلم فيها ، وإنما هي دعاوي ، فإن رضوا بحكمنا فالإمام مُخير ، وإن لم يرضوا فلا نتعرض لهم ، انظر ابن عطية ، وقال البيضاوي : ولو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم ، وهو قول الشافعي : والأصح : وجوبه؛ إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميًا ، لأنا التزمنا الذب عنهم ، ومذهب أبي حنيفة : يجب مطلقًا . ه .
{ وإن تُعرض عنهم فلن يضروك شيئًا } ؛ لأن الله عصمك من الناس ، { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي : العدل الذي أمر الله به { إن الله يحب المقسطين } ، فيحفظهم ويعظم شأنهم .
{ وكيف يُحكمونك } وهم لا يؤمنون بك ، { وعندهم التوارة فيها حكم الله } أي : والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم { ثم يتولون من بعد ذاك } ، أو ثم يتولون عن حكمك الموافق لكتابهم من بعد التحكيم ، وفيه تنبيه على أنهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع ، وإنما قصدوا به ما يكون عونًا لهم على هواهم ، وإن لم يكن حكم الله في زعمهم ، { وما أولئك بالمؤمنون } بكتابهم ولا بكتابك؛ لإعراضهم عنه أولاً ، وعنك ثانيًا ، بل أولئك هم الفاسقون التابعون لأهوائهم .
(2/68)
والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من تعرض للشيخوخة وادعى مقام التربية ، وهو يأمر أصحابه باتباع رخص الشريعة ، والبقاء مع العوائد ، ويقول لهم : { إن أوتيتم هذا فخذوه } ويزعم أنه سنة ، وإن لم تؤتوه ، ولقيتم من يأمركم بقتل النفوس ، وحط الرؤوس ودفع الفلوس ، وخرق العوائد فاحذروه ، فمن كان حاله هذا ، فالآية تجر ذيلها عليه ، لأنه تعرض لفتنة نفسه بحب الجاه وغرور أولاد الناس ، { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } من الهوى ، ولا بصيرتهم من شهود السِّوى؛ لأن تطهير القلوب مشروط بقتل النفوس ، وقتل النفوس إنما يكون باتباع ما يثقل عليها من خرق عوائدها ، كالذل والفقر وغير ذلك من الأعمال الشاقة عليها ، ومن لم يطهر قلبه من الهوى يعش في الدنيا في ذل الحجاب مسجوناً بمحيطانه ، محصورًا في هيكل ذاته ، وله في الآخرة أشد العتاب ، حيث تعرض لمقام الرجال وهو عنه بمعزل ، ويقال لمن تبعه في اتباع الرخص : { سماعون للكذب أكالون للسحت } .
قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : من كان من فقراء الزمان يسمع الغناء ، ويأكل أموال الظلمة ، ففيه نزعة يهودية ، قال تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسحت } . ه .
فإن جاؤوك أيها العارف ، يستخبرونك ، ويخاصمونك في الأمر بخرق العوائد ، ويزعمون أنهم موافقون للسنة ، { فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئًا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ، وهو الأخذ بكل ما يقتل النفوس ، ويجهز عليها ، { إن الله يحب المقسطين } وكيف يحكمونك أو يخاصمونك ، وعندهم القرآن فيه حكم الله بذلك ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العَنكبوت : 69 ] ، ولا يكون جهاد النفس إلا بمخالفتها ، وقتلها بترك حظوظها وهواها . والله تعالى أعلم .
(2/69)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قلت : { للذين هادوا } : متعلق بيحكم ، أو بأنزلنا ، أو بهدى ونور ، و { الربانيون } : عطف على { النبيون } ، وهم العباد والزهاد منهم ، والأحبار : علماؤهم ، جمع حبر بكسر الحاء وفتحها ، وهو أشهر استعمالاً؛ للفرق بينه وبين المداد ، و { بما استحفظوا } : سببية متعلق بيحكم ، أو بدل من { بها } والعائد إلى " ما " محذوف ، أي : استحفظوه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } أي : ما يهدي إلى إصلاح الظواهر من النواهي والأوامر ، و { نور } تستنير به السرائر ، وتشرق به القلوب والضمائر ، من الاعتقادات الصحيحة والقعائد الراجحة ، والعلوم الدينية والأسرار الربانية . { يحكم بها النبيون } الذين أتوا بعد موسى عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وهم { الذين أسلموا } إي : انقادوا بكليتهم إلى ربهم ، ولم تبق بقية لغير محبوبهم ، وفيه تنويه بشأن الإسلام وأهله ، وتعريض باليهود؛ فإنهم بمعزل عن دين الأنبياء واقتفاء هديهم ، حيث لم يتصفوا به ، يحكم بها { للذين هادوا } وعليهم ، وهم اليهود ، { و } يحكم بها أيضًا { الربانيون والأحبار } أي : زهادهم وعلماؤهم السالكون طريقة أنبيائهم ، { بما استُحفظوا من كتاب الله } أي : بسبب أمر الله تعالى لهم أن يحفظوا كتابه من التضييع والتخريف . { وكانوا عليه شهداء } أي : رقباء ، فلا يتركون من يُغيرها أو يحرفها ، ولما طال العهد عليهم حرفوا وغيروا ، بخلاف كتابنا ، حيث تولى حفظه الحق ربنا ، فلا يزال محفوظًا لفظًا ومعنى إلى قيام الساعة ، قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الّذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحِجر : 9 ] . فللَّه الحمد .
ثم خاطب الحكام ، فقال : { فلا تخشوا الناس واخشون } أي : فلا تداهنوا في حكوماتكم خشية ظالم أو مراقبة كبير ، فكل كبير في جانب الحق صغير { ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلاً } أي : لا تستبدلوا بالحكم بالحق ثمنًا قليلاً؛ كالرشوة والجاه ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينًا به ومنكرًا له { فأولئك هم الكافرون } ؛ لاستهانتهم به .
قال ابن عباس : نزلت الثلاثة في اليهود ، الكافرون والظالمون والفاسقون ، وقد رُوِي في هذا أحاديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالت جماعة : هي عامة ، فكل من لم يحكم بما أنزل الله من اليهود والمسلمين وغيرهم ، إلا أن الكفر في حق المسلمين كفر معصية ، وقال الشافعي : الكافرون في المسلمين ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى ، وهو أنسب لسياق الكلام ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد وصف الله تعالى القرآن بأعظم مما وصف به التوراة . قال تعالى : { قَدْ جَآءَكُم بُرْهَانٌ مِنّ رَّبِكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } [ النساء : 174 ] ، فجعل التوراة ظرفًا للهداية والنور ، وجعل القرآن نفس النور والهداية . وربانيو هذه الأمة : أولياؤها العارفون بالله ، الذين يربون الناس ويرشدونهم إلى معرفة الشهود والعيان ، وأحبارها : علماؤها .
وقال الورتجبي : الرباني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب ، واستقام في شهود جلاله وجماله ، صار متصفًا بصفات الله جل جلاله ، حاملاً أنوار ذاته ، فإذا فنى عن نفسه وبقي بربه ، صار ربانيًا ، مثل الحديد في النار ، إذا لم يكن في النار كان مستعدًا لقبول النار ، فإذا وصل إلى النار واحمر ، صار ناريًّا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورًا بتجلي الرب ، صار ربانيًا نورانيًّا ملكوتيًّا جبروتيًّا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، ثم قال : العارف مخاطب من الله في جمع أنفاسه ، وحركاته ، ينزل على قلبه من الله وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
(2/70)
" إنَّ في أُمَتي محدَثين أو مُكَلَّمين وإِنَّ عُمَرِ مِنهُم " ه .
(2/71)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قلت : من نصب الجميع : فَعَطَفٌ على النفس ، و { قصاص } : خبر إن ، ومن رفع العين : فيحتمل أن يكون مستأنفًا مرفوعًا بالابتداء ، و { قصاص } : خبر ، من عطف الجمل ، أو يكون عطفًا على موضع النفس؛ لأن المعنى : قلنا لهم : النفس بالنفس ، أو على الضمير المستكن في الخبر ، ومن رفع الجروح فقط ، ما تقدم في العين .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكتبنا } على بني إسرائيل ، أي : فرضنا وألزمنا عليهم في التوراة { أن النفس } تقتل بالنفس في القتل العمد إن كان المقتول مسلمًا حرًا ، فلا يقتل مسلم بكافر إلا إن قتله غيلة ، ولا حر بعبد ، للحديث ، { والعينَ } تُفقأ { بالعين } ، { والأنفَ } تُجدع { بالأنفِ } ، { والأُذنَ } تُصلم { بالأُذنِ } ، { والسِّن } تُقلع { بالسن } ، { والجروح قصاص } ؛ يقتص من الجارح بمثل ما فَعل ، إلا ما يخاف منه كالمأمومة ، والجائفة ، وكسر الفخذ ، فيعطي الدية ، { فمن تصدق به } أي : بالدم ، بأن عَفى عن الجارح أو القاتل فلم يقتص ، { فهو كفّارة له } أي للمقتول ، يغفر الله ذنوبه ويعظم أجره ، أو كفارة للقاتل أو الجارح ، يعفو الله بذلك عن القاتل؛ لأن صاحب الحق قد عفا عنه ، أو كفارة للعافي؛ لأنه مسامح في حقه ، أو من تصدق بنفسه ومكنها من القصاص فهو كفارة له ، اقتص منه أو عُفي عنه .
وفيه دليل على أن الحدود مكفرة لا زواجر ، وزعم ابن العربي : أن المقتول يُطالب يوم القيامة ، ولو قتل في الدنيا قصاصًا؛ لأنه لم يتحصل للمقتول من قتل قاتله شيء ، وأن القصاص إنما هو ردع ، وأجيب بمنع أنه لم يتحصل له شيء ، بل حصلت له الشهادة وتكفير لذنوبة ، كما في الحديث : " السيف محاء للخطايا " ولو كان القصاص للردع خاصة لم يشرع العفو ، قاله ابن حجر ، وفي حديث البخاري : " من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا ، فهو كفارة له ، وإن ستره الله فهو في المشيئة " .
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله } من القصاص وغيره { فأولئك هم الظالمون } ؛ المتجاوزون حدود الله ، وما كتب الله على بني إسرائيل هو أيضًا مكتوب علينا ، لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، ولا ناسخ هنا ، بل قررته السنة والإجماع . والله تعالى أعلم .
الإشارة : القصاص مشروع وهو من حقوق النفس؛ لأنها تطلبه تشفيًا وغيظًا ، والعفو مطلوب ومرغب فيه ، وهو من حقوق الله ، هو طالبه منك ، وأين ما تطلبه لنفسك مما هو طالبه منك؟ ومن شأن الصوفية الأخذ بالعزائم ، واتباع أحسن المذاهب ، قال تعالى : { الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [ الزُّمَر : 18 ] ، ومن شأنهم أيضًا : الغيبة عن حظوظ النفس ، ولذلك قالوا : ( الصوفي دمه هدر ، وماله مباح ) ، وقالو أيضًا : ( الصوفي كالأرض ، يُحرح عليها كل قبيح ، وهي تُنبت كلَّ مليح ) ، ومن أوكد الأمور عندهم عدم الانتصار لأنفسهم . وبالله التوفيق .
(2/72)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قلت : { قفينا } : اتبعنا ، مشتق من القفا؛ كأن مجيء عيسى كان في قفا مجيء النبيين وخلفهم ، وحذف المفعول الأول ، أي : أتبعناهم ، و { بعيسى } مفعول ثاني ، وجملة : { فيه هدى ونور } : حال من { الإنجيل } ، و { مصدقًا } : عطف عليه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : وأتبعنا النبيين المتقدمين وجئنا على إثرهم { بعيسى ابن مريم مصدقًا لما بين يديه } أي : ما تقدم أمامه { من التوراة } وتصديقه للتوراة؛ إما لكونه مذكورًا فيها ثم ظهر ، أو بموافقة ما جاء به من التوحيد والأحكامِ لما فيها ، أو لكونه صدَّق بها وعمل بما فيها .
{ وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور } ؛ فالهدى لإصلاح الظواهر بالشرائع ، والنور لإصلاح الضمائر بالعقائد الصحيحة والحقائق الربانية ، { ومصدقًا لما بين يديه من التوراة } بتقرير أحكامها ، والشهادة على صحتها ، { وهدى وموعظة للمتقين } أي : وإرشادًا وتذكيرًا للمتقين؛ لأنهم هم الذين ينفع فيهم الموعظة والتذكير ، دون المنهمكين في الغفلة ، قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يسمعون .
ثم أمر الله أهل الإنجيل بالحكم بما فيه ، فقال : { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } من الأحكام ، وقرأ حمزة : { وليحكم } بلام الجر؛ أي : وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل الإنجيل بما فيه ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ؛ الخارجون عن طاعة الحق . قال البيضاوي : والآية تدل على أن الإنجيل مشتملة على الأحكام ، وأن اليهودية منسوخة ببعث عيسى عليه السلام ، وأنه كان مستقلاً بالشرع ، وحمَلها على : وليحكموا بما أنزل الله ، فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر . ه .
الإشارة : قد جمع الله في هذه الأمة المحمدية ما افترق في غيرها في الأزمنة المتقدمة ، فعلماؤها وأولياؤها كالأنبياء والرّسل ، كلما مات عالم أو ولي قفاه الله بآخر ، أما العلماء فأمرهم متفق وحالهم متقارب ، فمدار أمرهم على تحصيل العلوم الرسمية والأعمال الظاهرية ، وأما الأولياء رضي الله عنهم ، فأحوالهم مختلفة ، فمنهم من يكون على قدم نوح عليه السلام في القوة والشدة ، ومنهم من يكون على قدم إبراهيم عليه السلام في الحنانة والشفقة . ومنهم من يكون على قدم موسى عليه السلام في القوة أيضًا ، ومنهم من يكون على قدم عيسى عليه السلام في الزهد والانقطاع إلى الله تعالى ، ومنهم من يكون على قدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أعظمهم لجمعه ما افترق في غيره ، وكل واحد يؤتيه الله نورًا في الباطن يجذب به القلوب إلى الحضرة ، وهدى في الظاهر يصلح به الظواهر في الشريعة . والله تعالى أعلم .
(2/73)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قلت : { مهيمنًا } أي : شاهدًا ، والشرعة والمنهاج : قال ابن عطية : معناهما واحد ، وقال ابن عباس : أي سبيلاً وسنة . قلت : والظاهر : أن الشرعة يراد بها الأحكام الظاهرة ، وهي التي تًصلح الظواهر ، والمنهاج يراد به علوم الطريقة الباطنية ، وهي التي تصلح الضمائر ، وهو مضمن علم التصوف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأنزلنا إليك } يا محمد { الكتاب } أي : القرآن ملتبسًا { بالحق مصدقًا لما بين يديه } من جنس الكتاب ، أي : مصدقًا لما تقدمه من الكتب ، بموافقته لهم في الأخبار والتوحيد ، { ومهيمنًا عليه } أي : شاهدًا عليه بالصحة ، أو راقبًا عليه من التغيير في المعنى ، { فاحكم بينهم بما أنزل الله } إليك { ولا تتبع أهواءهم } منحرفًا عما جاءك من الحق إلى ما يشتهونه ، لكل نبي { جعلنا منكم شرعة } ظاهرة يصلح بها الظواهر ، { ومنهاجًا } أي : طريقًا واضحًا يسلك منها إلى معرفة الحق ، وهو ما يتعلق بإصلاح السرائر ، واستُدل به على أنا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة .
{ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } أي : جماعة واحدة متفقة على دين واحد ، { ولكن } عدد الشرائع وخالف بينها { ليبلوكم } أي : يختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة ، أيكم ينقاد ، ويخضع للحق أينما ظهر ، فإن اختلاف الأحوال وتنقلات الأطوار فيه يظهر الإقرار والإنكار ، { فاستبقوا الخيرات } أي : بادروا إلى الانقياد إلى الطاعات واتباع الحق والخضوع لمن جاء به أينما ظهر ، انتهازًا للفرصة ، وحيَازة لفضل السبق والتقدم ، { إلى الله مرجعكم جميعًا } فيظهر السابقون من المقصرين ، { فينبئكم } أي : يخبركم { بما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل ، والمبادر والمقصر ، واختلاف الشرائع إنما هي باعتبار الفروع ، وأما الأصول كالتوحيد والإيمان بالرّسل ، والبعث ، وغير ذلك من القواعد الأصولية ، فهي متفقةح قال عليه الصلاة والسلام : " نحنُ أبناء علات ، أمهاتُنا شَتَّى وأبونا واحد " يعني التوحيد . والله تعالى أعلم .
الإشارة : اعلم أن نبينا عليه الصلاة والسلام جمع الله له ما افترق في غيره ، فذاته الشريفة جمعت المحاسن كلها ظاهرة وباطنة ، وكتابُه جمع ما في الكتب كلها فهو شاهد عليها ، وشريعته جمعت الشرائع كلها ، ولذلك كان الولي المحمدي هو أعظم الأولياء .
واعلم أن الحق جل جلاله جعل لكل عصر تربية مخصوصة بحسب ما يناسب ذلك ، العصر ، كما جعل لكل أمة شرعة ومنهاجًا بحسب الحكمة ، فمن سلك بالمريدين تربية واحدة ، وأراد أن يسيرهم على تربية المتقدمين ، فهو جاهل بسلوك الطريق ، فلو كان السلوك على نمط واحد ما جدد الله الرسل بتجديد الأزمنة والأعصار ، فكل نبي وولي يبعثه الله تعالى بخرق عوائد زمانه ، وهي مختلفة جدَا ، فتارة يغلب على الناس التحاسد والتباغض ، فيبعث بإصلاح ذات البين والتآلف والتودد ، وتارة يغلب حب الرياسة والجاه فيربى بالخمول وإسقاط المنزلة ، وتارة يغلب حب الدنيا وجمعها فيربى بالزهد فيها والتجريد والانقطاع إلى الله . وهكذا فليقس ما لم يقل . والله تعالى أعلم .
(2/74)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قلت : { وأن احكم } : عطف على الكتاب ، أي : وأنزلنا إليكم الكتاب والحكم بينهم بما أنزل الله ، أو على الحق ، أي : أنزلناه بالحق وبالحكم بما أنزل الله ، و { أن يفتنوك } : بدل اشتمال من الضمير ، أي : احذر فتنتهم ، واللام في قوله : { لقوم } : للبيان : أي : هذا الاستفهام لقوم يوقنون ، فإنهم هم الذين يعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرسوله عليه الصلاة والسلام : { و } أمرناك { أن اُحكم بينهم } أي : بين اليهود { بما أنزل الله } ، قيل هو ناسخ للتخيير المتقدم ، وقيل : لا ، والمعنى أنت مخير ، فإن أردت أن تحكم بينهم فاحكم بما أنزل الله { ولا تتبع أهواءهم } الباطلة ، التي أرادوا أن يفتنوك بها ، { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ، فيصرفوك عن الحكم به .
رُوِي أن أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فقالوا : يا محمد ، قد عرفت أنَّا أحبار اليهود ، وأنّا إن اتبعناك اتبعتك اليهود كلهم ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنتحاكم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردَّهم ، فنزلت الآية .
قال تعالى لنبيّه عليه الصلاة والسلام : { فإن تولوا } عن الإيمان ، بل وأعرضوا عن اتباعك ، { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } في الدنيا ، ويدخر جُلَّها للآخرة ، وقد أنجز الله وعده ، فأجلى بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وسبا نساءهم وذراريهم ، وباعهم في الأسواق ، وفتح خيبر ، وضرب عليه الجزية ، { وإنَّ كثيرًا من الناس لفاسقون } ؛ خارجون عن طاعة الله ورسوله ، { أفحكم الجاهلية يبغون } أي : يطلبون منك حكم الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى ، { ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون } أي : لا أحد أحسن حكمًا من الله تعالى عند أهل الإيقان؛ لأنهم هم الذين يتدبرون الأمر ، ويتحققون الأشياء بأنظارهم ، فيعلمون ألاَّ أحسن حكمًا من الله عز وجل .
الإشارة : إذا كثرت عليك الخصوم الوهمية أو الواردات القلبية ، والتبس عليك أمرهم ، ولم تدر أيهما تتبع؟ فاحكم بينهم بالكتاب والسنة ، فمن وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه ، فإن من أمَّر الكتاب والسُّنة على نفسه نطق بالحكمة ، وإن وافق أكثرُ من واحد الكتاب أو السنة ، فانظر أثقلهم على النفس ، فإنه لا يثقل عليها إلا ما هو حق ، ولا تتبع أهواء النفوس والخواطر ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل على قلبك من العلوم والأسرار ، فإن متابعة الهوى يُعمي القلب عن مطالعة الأسرار ، إلا إن وافق السُّنة .
قيل لعمرَ بن عبد العزيز : ما ألذُ الأشياءِ عندك؟ قال : حق وافق هواي . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم " لاَ يُؤمِنُ أُحَدُكُم حَتَّى يكُون هواه تابعًا لما جئتُ به " ، وفي الحِكَم : " يُخاف عليك أن تلتبس الطرقُ عليك ، إنما يُخاف عليك من غَلِبَةِ الهوى عليك " .
فمن تولى عن هذا المنهاج الواضح ، وجعل يتبع الهوى ويسلك طريق الرخص ، فليعلم أن الله أراد أن يعاقبه ببعض سواء أدبه ، حتى يخرج عن منهاج السالكين ، والعياذ بالله ، أو يؤدبه في الدنيا إن كان متوجهًا إليه .
(2/75)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
قلت : { يقول الذين آمنوا } قرىء بغير واو؛ استئنافًا ، وكأنه جواب عن سؤال ، أي : ماذا يقول المؤمنون حينئٍذ؟ فقال : يقول . . . الخ ، وقرىء بالواو والرفع؛ عطف جملة على جملة ، وقرىء بالواو والنصب؛ عطف على { فيصبحوا } أو { يأتي } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } تنتصرون بهم ، أو تعاشرونهم معاشرة الأحباب ، أو تتوددون إليهم ، وأما معاملتهم من غير مودة فلا بأس ، ثم علل النهي عن موالاتهم فقال : هم { بعضهم أولياء بعض } أي : لأنهم متفقون على خلافكم ، يوالي بعضهم بعضًا لا تحادهم في الدين ، وإجماعهم على مضادتكم ، { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } أي : من والاهم منكم فإنه من جملتهم .
قال البيضاوي : وهذا تشديد في وجوب مجانبتهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم " المؤمنُ والمشركُ لا تَتَراءى نَارهَمَا " أو لأن الموالين لهم كانوا منافقين . ه .
وقال ابن عطية : من تولهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار ، ومن تولاهم بأفعاله من العَضد ونحوه ، دون معتقد ولا إخلال بإيمان ، فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه . ه . وسُئل ابن سيرين عن رجل أراد بيع داره للنصارى يتخذونها كنيسة ، فتلا هذه الآية : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } . ه . وفي أبي الحسن الصغير : أن بيع غير السلاح للعدو الكافر فسق ، وبيع السلاح له كفر .
قلت : ولعله إذا قصد تقويتهم على حرب المسلمين ، وأما الفداء بالسلاح إذا لم يقبلوا غيره ، فيجوز في القليل دون الكثير ، وأجازه سحنون مطلقاً ، إذا لم يرج فداؤه بالمال . انظر الحاشية .
{ إن الله لا يهدي القوم الظالمين } أي : ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار .
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } وهم النافقون ، { يسارعون فيهم } أي : في موالاتهم ومناصرتهم ، { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } أي : يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من الدوائر ، بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار . رُوِي أن عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي موالي من اليهود ، كثير عددهم ، وإني أبرأُ إلى الله ورسوله من ولايتهم ، فقال ابن أبي : إني امرؤ أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي ، فنزلت الآية ، قال تعالى ردًا عليه : { فعسى الله أن يأتي بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين ونصرهم ، { أو أمر من عنده } ، يقطع شأفة اليهود ، من القتل والإجلاء ، { فيُصبحوا } أي : هؤلاء المنافقون ، { على ما أسروا في أنفسهم } من الكفر والنفاق ، ومن مظاهرة اليهود { نادمين } .
{ ويقول الذين آمنوا } حينئٍذ أي : حين فتح الله على رسوله وفضح سريرة المنافقين : { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } ، يقولهُ المؤمنون بعضهم لبعض ، تعجبًا من حال المنافقين وتبجحًا بما منَّ الله عليهم من الإخلاص ، أو يقولونه لليهود؛ لأن المنافقين حلفوا لهم بالمناصرة ، كما حكى تعالى عنهم
(2/76)
{ وَإٍن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَكُمْ } [ الحَشر : 11 ] قاله البيضاوي . وقوله : { حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين } .
يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، أو من قول الله تعالى ، شهادة عليهم بحبوط أعمالهم ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قال : ما أحباط أعمالهم وما أخسرهم! والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد تقدم مرارًا النهيُ عن موالاة الغافلين ، وخصوصًا الفجار منهم ، ويلتحق بهم القراء المداهنون؛ وهم فسقة الطلبة؛ الذين هم على سبيل الشيطان ، والفقراء الجاهلون؛ وهم من لا شيخ لهم يصلح للتربية ، والعلماء المتجمدون ، فصحبة هؤلاء تقدح في صفاء البصيرة ، وتخمد نور السريرة ، وكل من تراه من الفقراء يميل إلى هؤلاء خشية الدوائر ، ففيه نزعة من المنافقين . والله تعالى أعلم .
(2/77)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قلت : { من } : شرطية ، و { يرتد } : فعل الشرط ، فمن قرأه بالتفكيك فعلى الأصل ، ومن قرأه بالإدغام ففتحه تخفيفًا . وجملة { فسوف يأتي } : جواب ، والعائد من الجملة محذوف ، أي : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم . . . الخ . و { أذلة } : نعت ثاني لقوم ، جمع ذليل ، وأتى به مع علي؛ لتضمنه معنى العطف والحنو ، و { لا يخافون } : عطف على يجاهدون ، وجملة : { وهم راكعون } : حال إن نزلت في عليّ رضي الله عنه ، أو عطف إن كانت عامة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } ويرجع عنه بعد الدخول فيه ، فسيأتي الله بقوم مكانهم؛ { يحبهم } فيثبتهم على دينهم ، { ويحبونه } فيجاهدون من رجع عن دينه ، وهم أهل اليمن ، والأظهر أنهم أبو بكر الصدّيق وأصحابه ، الذين قاتلوا أهل الردة ، ويدل على ذلك الأوصاف التي وصفهم الله بها من الجد في قتالهم ، والعزم عليه ، التي كانت من أوصاف الصدّيق ، وكذلك قوله : { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } فقد كان أبو بكر ضعيفًا في نفسه ، قويًا في ذات الله ، لم يخف في الله لومة لائم ، حين لامه بعض الصحابة في قتالهم .
وفي الآية إخبار بالغيب قبل وقوعه ، فقد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق : بنو مدلج ، وكان رئيسهم الأسود العنسي ، تنبأ باليمن ، واستولى على بلادهم ، ثم قتله فيروز الديلمي ، ليلة قٌبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من غدها ، وأخبر بموته الرسولُ عليه الصلاة والسلام فسُر المسلمون . وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب ، تنبأ باليمامة ، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمةَ رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد : فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجابه صلى الله عليه وسلم : " من مُحمَّدٍ رَسُول اللهِ إلى مسيلمةَ الكَذَّابِ ، أمَّا بَعدُ : فَإنَّ الأرض للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِن عِبَادِهِ والعَاقِبَة للمتّقِين " ، فحاربه أبو بكر بجند المسلمين ، وقتله وحشي قاتلُ حمزة ، وبنو أسد قوم طليحة ، تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقاتله ، فهرب إلى الشام ، ثم أسلم وحسن إسلامه .
وفي عهد أبي بكر ، بنو فزارة قومِ عُيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن مسلمة ، وبنو سليم ، وبنو يربوع قوم مالك بن نَويرة ، وبعض تميم ، قوم سَجَاح المتنبئة زوجة مسيلمة ، وكندة قوم الإشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين ، فكفى الله أمرهم على يديه . وفي مدة عمر رضي الله عنه غسان ، قوم جبلة بن الأيهم ، الذي ارتد من اللطمة . فهؤلاء جملة مَن ارتد من العرب . فأتى الله بقوم أحبهم وأحبوه ، فجاهدوهم حتى ردوهم إلى دينهم .
(2/78)
ومحبة الله للعبد : توفيقه وعصمته وتقريبه من حضرته . ومحبة العبد لله : طاعته والتحرز من معصيته ، وسيأتي في الإشارة الكلام عليها .
ثم وصفهم بقوله : { أذلة على المؤمنين } أي : عاطفين عليهم خافضين جناحهم لهم ، { أعزة على الكافرين } شداد متغالبين عليهم ، وهذا كقوله فيهم : { أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفَتْح : 29 ] ، { يجاهدون في سبيل الله } من ارتد عن دين الله ، { ولا يخافون لومة لائم } لصلابتهم في دين الله ، وفيه إشارة إلى خطأ من لام الصِّدِّيق في قتال أهل الردة ، وقالوا كيف تقاتل قومًا يقولون : لا إله إلا الله؟ فقال : ( والله لنقاتلن مَن فَّرق بين الصلاة والزكاة ) فلم يلتفت إلى لومهم . { ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء } ، الإشارة إلى ما خصهم الله به ، من المحبة والأخلاق الكريمة ، { والله واسع } الفضل والعطاء { عليم } بمن هو أهله .
ولمّا نهى عن موالاة الكفار ذكر من هو أهل للموالاة فقال : { إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا } ؛ لم يقل : أولياؤكم بالجمع ، تنبيهًا لى أن الولاية لله على الأصالة ، ولرسوله وللمؤمنين على التبع ، ثم وصفهم بقوله : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } أي : خاضعون لله ، ولعباده متواضعون ، منقادون لأحكامه ، أو يتصدقون في حال ركوعهم في الصلاة ، حرصًا على الخير ومسارعة إليه ، قيل : نزلت في علي كرم الله وجهه ؛ سأله سائل وهو راكع في الصلاة ، فطَرح له خاتمه ، وقيل : عامة ، وذكر الركوع بعد الصلاة؛ لأنه من أشرف أعمالها .
{ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا } ، أي يتخذهم أولياء ، { فإن حزب الله هم الغالبون } أي : فإنهم الغالبون ، ووضع الظاهر موضع المضمر ليكون كالبرهان عليه ، فكأنه قال : ومن يتول هؤلاء فهم حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون ، وتنويهًا بذكرهم وتعظيمًا لشأنهم ، وتعريضًا بمن يوالي غير هؤلاء . فإنه حزب الشيطان ، وأصل الحزب : القوم يجتمعون لأمر حَزَبَهُم . قاله البيضاوي .
الإشارة : محبة الحقّ تعالى لعبده سابقة على محبته له ، كما أن توبته عليه سابقة لتوبته ، قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } [ التّوبَة : 118 ] ، قال أبو يزيد رضي الله عنه : غلطت في ابتداء أمري في أربعة أشياء : توهمت أني أذكره وأعرفه وأحبه وأطلبه ، فما انتهيت ، رأيت ذكره سبق ذكري ، ومعرفته تقدمت معرفتي ، ومحبته أقدم من محبتي ، وطلبه لي من قبل طلبي له . ه .
وفي الحكم : " أنت الذاكر من قبل الذاكرين ، وأنت البادىء بالإحسان من قبل توجه العابدين ، وأنت الجواد بالعطاء من قبل طلب الطالبين ، وأنت الوهاب ثم أنت لما وهبتنا من المستقرضين " .
ومحبة الله لعبده : حفظه ورعايته ، وتقريبه واصطفاؤه لحضرته ، وقال القطب بن مشيش رضي الله عنه : المحبة أخذة من الله قلبَ من أحب ، بما يكشف له من نور جماله ، وقدس كمال جلاله ، وشراب المحبة : مزج الأوصاف بالأوصاف ، والأخلاق بالأخلاق ، والأنوار بالأنوار ، والأسماء بالأسماء ، والنعت بالنعوت ، والأفعال بالأفعال .
(2/79)
قلت : ومعنى ذلك : غيبة العبد في شهود الحق ، وهو مقام الفناء ، ثم قال رضي الله عنه : والشراب أي : الشرب سقي القلوب والأوصال والعروق من هذا الشراب ، حتى يسكر ، ويكون الشرب بالتدريب بعد التدريب والتهذيب ، أي يكون شرب الخمرة شيئًا فشيئًا ، ووقتًا فوقتًا ، حتى يتمكن من شهود المعاني بلا فترة ، فذلك الرّي ، وذلك بعد كمال التهذيب ، فيسقى كل على قدره ، فمنهم من يسقي بغير واسطة ، والله سبحانه يتولى ذلك منه ، ( قلت : وهو نادر ، والغالب عليه الانحراف ) ، ومنهم من يسقي من جهة الوسائط ، كالملائكة والعلماء والأكابر من المقربين ، ( قلت : قوله : كالملائكة . . . تمثيل للوسائط ، فالملائكة؛ للأنبياء ، والعلماء بالله وأكابر المقربين لغيرهم ) ، ثم قال : فمنهم من يسكر بشهود الكأس ، ولو لم يذق بعدُ شيئًا ، فما ظنك بعدُ بالذوق ، وبعدُ بالشرب ، وبعدُ بالري ، وبعدُ بالسكر بالمشروب؟! ثم الصحو بعد ذلك على مقادير شتى ، كما أن السكر أيضًا كذلك . انظر بقية كلامه مع شرحه في شرحنا لخمرية ابن الفارض .
وقال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : المحبة لها ثلاث مراتب : بداية ووسط ونهاية؛ فبدايتها لأهل الخدمة ، كالعباد والزهاد والصالحين والعلماء المجتهدين . ووسطها لأهل الأحوال ، الذين غلب عليهم الشوق حتى صدرت منهم شطحات ورقصات وأحوال غريبة ربما ينكرها أهل ظاهر الشريعة ، فمنهم من يغلب عليه الجذب حتى يصطلم ، ومنهم من يبقى معه شيء من الصحو ، وهؤلاء تظهر عليهم كرامات وخوارق العادات ، ونهايتها لأهل العرفان ، أهل مقام الشهود والعيان ، الذين شربوها من يد الوسائط وسكروا بها ، وصحوا . ه . بالمعنى .
وفي الورتجبي ما حاصله : أن محبتهم بعد المشاهدة ، وإلا لم تكن محبة حقيقة؛ لان محبة الآلاء والنعماء معلولة ، ولا كذلك هذه ، لأن من رآه عشقه ، وكيف يرجع عنه من كان مسلوب القلب بعشقه لجماله؟ ولذلك لم يرتدوا عن دينهم الذي هو المحبة . ه .
وللمحبة علامات وثمرات ، ذكر بعضَها الحق تعالى بقوله : { أذلة على المؤمنين } أي : متواضعين عاطفين عليهم ، { أعزة على الكافرين } ، أي : القواطع ، غالبين عليهم ، { يجاهدون في سبيل الله } أي : أنفسهم وأهواءهم ، { ولا يخافون لومة لائم } ؛ إذ لا يراقبون سوى المحبوب ، وليس للمحبة طريق إلا محض الفضل والكرم . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } ؛ لكن صحبة المحبوبين عند الله من أسبابها العادية ، وهم أولياء الله الذين هم حزب الله ، فولايتهم والقرب منهم من أسباب القرب والمحبة ، ومن موجبات النظر والغلبة؛ { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون } .
(2/80)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
قلت : { والكفار } : من نَصَبَ عطف على الموصول الأول ، ومن جَرَّ فعلى الموصول الثاني .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوًا ولعبًا } من شدة كفرهم ، وعلبة سفههم { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } كاليهود والنصارى ، { و } لا تتخذوا أيضًا { الكفار } من المشركين { أولياء } وأصدقاء ، أو : لا تتخذوا من اتخذ دينكم هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب ومن المشركين أولياء ، { واتقوا الله } في موالاتهم { إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن الإيمان يقتضي الوقوف عند الأمر والنهي .
وكيف توالون من يستهزىء بدينكم ، { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوًا ولعبًا } ، رُوِي أن نصرانيًا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : إشهد أن محمدًا رسول الله ، قال : أحرق الله الكاذب . فدخل خادمه ذات ليلة بنار ، وأهله نيام ، فطارت شرارة في البيت ، فأحرقته وأهله ) . وفي الآية دلالة على مشروعية الأذان من القرآن . ثم قال تعالى : { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } ؛ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق والهُزء به ، والعقل يقتضي المنع من الجهل والإقرارَ بالحق وتعظيمه . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد حذّر الحقّ جلّ جلاله من صحبة الأشرار ، ويفهم منه الترغيب في موالاة الأخيار ، وهم الصوفية الأبرار ، ففي صحبتهم سر كبير وخير كثير ، ولابن عباد رضي الله عنه في نظم الحكم :
إنَّ التَّواخي فضلُه لا يُنكَر ... وإن خلا مِن شرطِهِ لا يُشكَر
والشرطُ فِيه أن تُوَاخِي العَارفا ... عن الحظوظ واللحُوظ صَارِفَا
مقَالُه وَحَالهُ سِيّان ... مَا دَعَونَا إلاَّ إلىَ الرحمان
أنوارُه دائِمَة السِّرَايَة ... فِيكَ وقد حَفَّت به الرِّعَايه
وفي الحكم : " لا تصحب من لا ينهضك حاله ، ولا يدلك على الله مقاله " . وبالله التوفيق .
(2/81)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قلت : نقم بفتح القاف بالكسر ، بمعنى : عاب وأنكر ، وانتقم إذا كافأه على إنكاره ، ويقال : نقم بالكسر ينقم بالفتح وقرىء به في الشاذ ، و { أن أكثركم } : عطف على { آمنا } أي : ما تعيبون منا إلا أنا مؤمنون وأنتم فاسقون .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا } أي : ما تنكرون علينا وتعيبونه منا { إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل } من الكتب كلها ، { وأن أكثركم } خارجون عن هذا الإيمان ، وهذا أمر لا ينكر ولا يعاب ، ونظير هذا في الاستثناء العجيب قوله النابغة :
لا عَيبَ فِيهِم غَيرَ أنَّ سُيُوفَهُم ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِن قِرَاعِ الكتَائِبِ
الإشارة : أهل الخصوصية يقرون أحوال أهل الشريعة كلها ، ولا ينكرون على أهلها شيئًا من أمورهم ، وأهل الشريعة ينكرون كثيرًا من أحوال أهل الخصوصية ويعيبُونها عليهم ، وهي من أفضل القربات إلى الله عندهم ، فيقولون لهم : هل تنقمون منا إلا أن آمنا بشريعتكم ، وأنتم خارجون عن حقيقتنا ورؤية خصوصيتنا ، لكن أهل الشريعة معذورون في إنكارهم ، إذ ذاك مبلغهم من العلم ، فإن كان إنكارهم غيره على ما فهموا من الدين فعذرهم صحيح ، وإن كان حسدًا أو حمية فهم ممقوتون عند الله . والله تعالى أعلم .
ولما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود ، فقالوا يا محمد : أخبرنا بمن تؤمن من الرسل ، فتلا عليهم : { قُلْ ءَامَنَّا بِاللهِ } [ آل عمران : 84 ] إلى قوله : { وَمَآ أوُتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } [ آل عمران : 84 ] فلما سمعوا ذكر عيسى قالوا : ما رأينا شرًا من دينك .
(2/82)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قلت : مشاركة اسم التفضيل هنا باعتبار زعمهم واعتقادهم ، وإلا فلا مشاركة بين المسلمين وبينهم في الشر والضلال ، و { مثوبة } : تمييز عن شر ، وضع موضع الجزاء ، وأصل المثوبة : في الخير ، والعقوبة : في الشر ، فوضع هنا المثوبة موضع العقوبة تهكمًا بهم ، كقوله :
تحَيَّةُ بَينِهِم ، ضَربٌ وَجِيعٌ ... و { من لعنة الله } : إما خبر ، أي : هو مَن لعنه الله ، أو بدل من شر ، ولا بد من حذف مضاف ، إما من الأول أو الثاني ، أي : بشر من أهل ذلك الدين من لعنه الله ، أو دين من لعنه الله .
ومن قرأ : { عَبَدَ } بفتح الباء ، ففعل ماض ، صلة لموصول محذوف ، أي : ومَن عبد ، و { الطاغوت } : مفعول به ، ومن قرأ بضم الباء ، فاسم للمبالغة ، كيقظ ، أي : كثير اليقظة ، وهو عطف على القردة ، والطاغوت مضاف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { هل } أخبركم بأقبح من ذلك الدين الذي قلتم ما رأيتم شرًا منه ، هو دين { من لعنه الله } ، أو نفس من لعنه الله ، أي : أبعده من رحمته { وغضب عليه } بكفره وعصيانه ، وهم اليهود ، { وجعل منهم القردة والخنازير } أي : مسخ بعضهم قردة وخنازير ، وهم أصحاب السبت ، مسخ شبابهم قردة ، وشيوخهم خنازير ، { و } جعل منهم أيضًا من { عبد الطاغوت } ، وهم عباد العجل ، أو الكهنة ، أو كل من أطاعوه في معصية الله ، { أولئك شر مكانًا } أي : أقبح مكانًا ، أي : أقبح مرتبة وأخس حالاً ، جعل مكانَهم شرًا ، ليكون أبلغ في الدلالة على شريتهم ، { و } هم أيضًا { أضل عن سواء السبيل } أي : عن وسط الطريق ، بل حادوا عنه إلى طرق تفريط أو إفراط ، حيث تركوا طريق الإسلام ، الذي هو الصراط المستقيم .
الإشارة : من كان متلطخًا بالمعاصي والذنوب ، وباطنه محشو بالمساوىء والعيوب؛ كالحسد والجاه وحب الدنيا وسائر أمراض القلوب ، ثم جعل يطعن في طريق الخصوص ، يقال له : أنبئك بشر من ذلك ، هو من أبعده الله بسبب المعاصي ، والذنوب ، وغضب عليه بسبب أمراض القلوب ، ومسخ قلبه عن مطالعة أنوار الغيوب ، فهذا أقبح مكانًا وأضل سبيلاً ، فكل من أُولع بالطعن على الذاكرين ، يمسخ قلبُه بالغفلة والقسوة ، حتى يفضي إلى سوء الخاتمة . والعياذ بالله .
(2/83)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قلت : جملة : { وقد دخلوا } ، وجملة : { وهم قد خرجوا } ، حالان من فاعل { قالوا } ، ودخلت { قد } على دخلوا وخرجوا؛ تقريبًا للماضي من الحال ، ليصح وقوع حالاً؛ أي : ذلك حالهم في دخولهم وخروجهم على الدوام ، وأفادت أيضًا لما فيها من التوقع أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في ذكر مساوىء اليهود : { وإذا جاؤوكم } ودخلوا عليكم ، أظهروا الوفاق لكم ، و { قالوا آمنا } بدينكم { و } هم { قد دخلوا } عليكم ملتبسين { بالفكر } في قلوبهم ، { وهم قد خرجوا } أيضًا { به } ، فلم ينفع فيهم وعظ ولا تذكير ، بل كتموا النفاق وأظهروا الوفاق ، { والله أعلم بما كانوا يكتمون } ؛ فيفضحهم على رؤوس الأشهاد .
الإشارة : من سبق له الطرد والإبعاد لا تنفعه خلطة أهل المحبة والوداد ، بل يخرج من عندهم كما دخل عليهم ، لا ينفع فيه وعظ ولا تذكير ، ولا ينجح فيه زاجر ولا نذير ، وأما من سبقت له العناية فلا يخرج من عندهم إلا مصحوبًا بالهداية والرعاية ، إذا كان في أسفل سافلين في أعلى عليين؛ لأنهم قوم لا يشقى جليسهم والله تعالى أعلم .
(2/84)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قلت : { لولا } : أذا دخلت على الماضي أفادت التوبيخ ، وإذا دخلت على المستقبل أفادت التحضيض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وترى } يا محمد ، أو يا من تصح منه الرؤية { كثيرًا } من اليهود { يسارعون في الإثم } أي : في الذنوب والمعاصي المتعلقة بهم في أنفسهم { والعدوان } المتعلقة بغيرهم ، كالتعدي على أموال الغير وأعراضهم وأبدانهم ، { وأكلهم السحت } : الحرام؛ كالرشا والربا وغير ذلك ، { لبئس ما كانوا يعملون } أي : قبح عملهم بذلك ، وتناهى في القبح .
{ لولا ينهاهم } أي : هلا ينهاهم { الربانيون } أي : عُبّادُهم ورهبانهم ، { والأحبار } أي : علماؤهم وأساقفتهم ، { عن قولهم الإثم } أي : الكذب ، { وأكلهم السحت } : الحرام ، { لبئس ما كانوا يصنعون } من السكوت عنهم ، وعدم الإنكار عليهم ، عبّر أولاً بيعلمون وثانيًا بيصنعون؛ لأن الصنع أبلغ ، ولأن الصنع عمل بعد تدريب وتدقيق وتحري أجادته وجودته ، بخلاف العمل ، ولا شك أن ترك التغيير والسكوت على المعاصي من العلماء وأولى الأمر أقبح وأشنع من ومواقعة المعاصي ، فكان جديرًا بأبلغ الذم ، وأيضًا : ترك التغيير لا يخلوا من تصنع ، فناسب التعبير بيصنعون ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَا مِن رَجُل يُجَاورُ قَومًا فَيَعمَلُ بالمَعَاصِي بَين أظْهُرِهم إلاَّ أوشَكَ اللهُ تَعَالَى أن يَعُمَّهُمُ مِنه بِعِقَاب " وقد قال تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفَال : 25 ] ، فالوبال الذي يترتب على ترك الحسبة أعظم من الوبال الذي يترتب على المعصية ، فكان التوبيخ على ترك الحسبة أعظم .
ثم نعى عليهم مقالاتهم الشنيعة ، التي هي من جملة قولهم الإثم ، فقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة } أي : مقبوضة عن بسط الرزق . رُوِي أن اليهود أصابتهم سنة جدبة بشؤم تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه المقالة الشنيعة ، والذي قالها فِنحاص ، ونسبت إلى جملتهم؛ لأنهم رضوا بقوله ، فعل اليد كناية عن البخل ، وبسطها كناية عن الجود ، ومنه : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسرَاء : 29 ] .
ثم رد عليهم فقال : { غُلّت أيديهم } ، يحتمل أن يكون دعاءً أو خبرًا ، ويحتمل أن يكون في الدنيا بالأسر والقبض ، أو في الآخرة بجعل الأغلال فيها إلى عنقهم في جهنم ، قال تعالى : { بل يداه مبسوطتان } ، أي : نعمه مبسوطة على عباده ، سحاء عليهم ، الليل والنهار ، وإنما ثنيت اليدان عنها ، وأفردت في قول اليهود؛ ليكون أبلغ في الرد عليهم ، ومبالغة في وصفه تعالى بالجود والكرم ، كما تقول : فلان يعطي بكلتا يديه؛ إذا كان عظيم السخاء ، أو كناية عن نعم الدنيا والآخرة ، أو عن ما يعطيه استدارجًا وما يعطيه للإكرام . ثم أكده بقوله : { يُنفق كيف يشاء } أي : هو مختار في إنفاقه ، يوسع تارة ويضيق تارة أخرى ، على حسب مشيئته ومقتضى حكمته .
ولمّا عميت بصيرتهم بالكفر ، وقست قلوبهم بالذنوب ، كانوا كلما ازدادوا تذكيرًا بالقرآن ، زادوا في العتو والطغيان ، كما قال تعالى : { وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا } ؛ إذ هو متعصبون بالكفر والطغيان ، ويزدادون طغيانًا وكفرًا بما يسمعون من القرآن ، كما يزداد المريض مرضًا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء .
(2/85)
ومن مساوئهم أيضًا : تفريق قلوبهم بالعداوة والشحناء ، كما قال تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } ؛ فلا تتوافق قلوبهم ولا تجتمع آراؤهم؛ { كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله } أي : كلما أرادوا حرب الرسول عليه الصلاة والسلام وإثارة شر عليه ، ردهم الله ، وأبطل كيدهم ، بأن أوقع بينهم منازعة كف بها شرهم ، أو : كلما أرادوا حرب عدو لهم هزمهم الله ، فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمون . فكان شأنهم الفساد ، ولذلك قال تعالى فيهم : { ويسعون في الأرض فسادًا } أي : الفساد بإثارة الحروب والفتن ، وهتك المحارم ، واجتهادهم في الحيل والخدع للمسلمين ، { والله لا يحب المفسدين } أي : لا يرضى فعلهم فلا يجازيهم إلا شرًّا وعقوبة .
الإشارة : قال الورتجبي : في الآية تحذير الربانيين العارفين بالله وبحقوق الله ، والأحبار العلماء بالله وبعذاب الله لمن عصاه ، وبثواب الله لمن أطاعه؛ لئلا يسكنوا عن الزجر للمبطلين والمغالطين ، المائلين عن طريق الحق إلى طريق النفس ، وبيّن تعالى أن من داهن في دينه عذب وإن كان ربانيًا . ه . وفي بعض الأثر : " إذا رأى العالمُ المنكَر وسكت ، فعليه لعنة الله " . والذي يظهر أن نهي الربانيين يكون بالهمة والحال ، كقضية معروف الكرخي وغيره ونهي الأحبار يكون بالمقال ، وقد تقدم هذا . والله تعالى أعلم .
(2/86)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولو أن أهل الكتاب } ؛ اليهود والنصارى ، { آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، { واتقوا } ما ذكرنا من معاصيهم ومساويهم ، { لكفّرنا عنهم سيئاتهم } المتقدمة ، ولم نؤاخذهم بها ، { ولأدخلناهم جنات النعيم } مع المؤمنين ، وفيه تنبيه على أن الإسلام يجُب ما قبله ولو عظم ، وأن الكتابي لا يدخل الجنة إلا أن يسلم .
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } بالإيمان بما فيهما ، وإذاعة علمهما ، والقيام بأحكامهما ، من غير تفريق بينهما ، وآمنوا بما { أُنزل إليهم من ربهم } ، يعني بسائر الكتب المنزلة ، ومن جملتها القرآن العظيم ، فإنهم لما كلفوا بالإيمان بها صارت كأنها منزلة عليهم ، فلو فعلوا ذلك { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي : لوسعنا عليهم أرزاقهم ، وبسطنا عليهم النعم؛ بأن يفيض عليهم بركاتٍ من السماء والأرض ، أو : لأكلوا من فوقهم بكثرة ثمرة الأشجار ، ومن تحت أرجلهم بكثرة الزروع ، أو من فوقهم ما يجنون من ثمار أشجارهم ، ومن تحت أرجلهم ما يتساقط منها ، والمراد : بيان علة قبض الرزق عنهم ، وأن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم ، لا لقصور القدرة عن ذلك .
ولو أنهم أقاموا ما ذكرنا لوسعنا عليهم ، ولحصل لهم خير الدارين ، { منهم أمة مقتصدة } أي : جماعة عادلة غير غالية ولا مقصرة ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وكثير منهم ساء ما يعملون } أي : قبح عملهم ، وفيه معنى التعجب ، أي : ما أسوأ عملهم! ، وهو المعاندة وتحريف الحق والإعراض عنه ، والإفراط في العداوة . قاله البيضاوي . قال في الحاشية : وفي الآية شاهد لما ورد من افتراق أهل الكتابين على فرق ، كما أن شاهد افتراق هذه الأمة آية : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } [ الأعرَاف : 181 ] ، وهذه هي الناجية من هذه الأمة . ه . يعني التي تهدي بالحق إلى الحق ، وتعدل به في جميع الأمور .
الإشارة : كل من حقّق الإيمان الكامل والتقوى الكاملة ، وسع الله عليه من أرزاق العلوم ، وفتحت له مخازن الفهوم ، ودخل جنة المعارف ، لم يشتق إلى جنة الزخارف ، وقال الورتجبي : لو كانوا على محل التحقيق في المعرفة لأكلوا أرزاق الله بالله من خزائن غيبه ، كأصحابه المن والسلوى والمائدة من السماء ، ويفتح لهم كنوز الأرض وهم على ذلك ، بإسقاط رؤية الوسائط . ه .
وقال القشيري : لو سلكوا سبيل الطاعات لوسعنا عليهم أسباب المعيشة ، وسهلنا لهم الحال ، إن ضربوا يُمنة ، لا يلقون غير اليُمن ، وإن ضرَبوا يُسرةَ ، لا يجدون إلا اليسر . ه .
(2/87)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الرسول بلغ } جميع { ما أنزل إليك من ربك } غير مراقب أحدًا ولا خائف مكروهًا ، { وإن لم تفعل } ؛ بأن لم تبلغ جميع ما أمرتك وكتمت شيئًا منه ، { فما بلغت رسالته } أي : كأنك ما بلغت شيئًا من رسالة ربك؛ لأن كتمان بعضها يُخل بجميعها ، كترك بعض أركان الصلاة . وأيضًا كتمان البعض يُخل بالأمانة الواجبة في حق الرسل ، فتنتقض الدعوة للإحلال بالأمانة ، وذلك محال . ولا يمنعك أيها الرسول عن التبليغ خوف الإذاية فإن { الله يعصمك من الناس } بضمان الله وحفظه ، { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } أي : لا يمكنهم مما يريدونه منك . وقد قصده قوم بالقتل مرارًا ، فمنعهم الله من ذلك كما في السير عن النبي صلى الله عليه وسلم : " بَعَثَني اللهُ بِرِسَالَتِه ، فَضِقتُ بها ذَرعًا ، فأوحَى اللهُ لي : إن لم تُبلِّغ رِسَالَتِي عَذَّبتُكَ ، وَضَمِنَ لِيَ العِصمَةَ فَقَوِيتُ " .
وعن أنس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، حتى نزلت ، فأخرج رأسه من قبة أدم ، فقال : " انصرفوا يا أيها الناس؛ فقد عصمني الله من الناس " وظاهر الآية يوجب تبليغ جميع ما أنزل الله . ولعل المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد ، وقصد بإنزاله إطلاعهم عليه ، فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم إفشاؤه . قاله البيضاوي .
الإشارة : قال الورتجبي : أمره بإبلاغ ما أنزل إليه من الذي يتعلق بأحكام العبودية ، ولم يأمرهم بأنه يعرفهم أسرار ما بينه وبين الله ، وما بين الله وبين أنبيائه وأوليائه . ثم قال : { والله يعصمك } أي : يعصمك أن يوقعك أحد في التمويه الغلط والحيل في طريقك إليَّ ، وهذا لكونه مختارًا بالرسالة ، وحقائق الرسالة في الرسول : ظهور أنوار الربوبية في قلبه ، وبيان أحكام العبودية في سرّه . وقال الأستاذ ، يعني القشيري : يقال في قوله : { والله يعصمك من الناس } أي : حتى لا تغرق في بحر التوهم ، بل تشاهدهم كما هُم؛ وجودًا بين طرفي العَدَم . انتهى نقل الورتجبي .
وقال القشيري أيضًا : لا تكتم شيئًا مما أوحينا إليك مُلاحظةً غير ، إذ لا غيرَ في التحقيقَ إلا رسومًا موضوعة ، أحكام القدرة عليها جارية . ثم قال : { والله يعصمك } أي : يعصم ظاهرك من أن يَمَسَّك من أذاهم شيء ، فلم يتسلط عليه بعد هذا عدو ، أي : وما وقع له من الشج وغيره كان قبل ذلك ، وقيل : المراد عصمته من القتل ، ثم قال : ونصون سِرَّك عنهم ، حتى لا يقع على إحساسهم . وقال شيخنا السلمي : قيل : يعصمك منهم أن يكون منك إليهم التفات ، أو يكون لك بهم اشتغال . انتهى .
قلت : صدق الباطن ، لا ينفك عنه من أول الأمر؛ لأنه من ضروريات كونه رسول الله بالله ، وهذا قد يتحقق للمأذون من أتباعه ، فضلاً عنه ، والظاهر ما صدر به من عصمة ظاهره ، أو أن يقع خلل في طريقه؛ بتمويه أو غلط أو حيلة ، كما أشار إليه الورتجبي . فللَّه دره . قاله المحشي الفاسي . والله تعالى أعلم .
(2/88)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
{ قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { يا أهل الكتاب } ، اليهود والنصارى ، { لستم على شيء } أي : لستم على دين يعتد به ، { حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم } على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن إقامتها الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والإذعان لحكمه ، فإن الكتب الإلهية بأسرها ، أمرت بالإيمان والإذعان ، لمن صدقته المعجزة ، وهي ناطقة بوجوب الطاعة له ، والمراد بإقامة الكتابين : إقامة أصولهما وما لم ينسخ من فروعهما ، لا جميعهما . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما قيل لأهل الكتاب يقال لهذه الأمة المحمدية على طريق الإشارة ، فيقال لهم : لستم على شيء ، يُعبَأ به من أعمالكم وأحوالكم ، حتى تقيموا كتابكم القرآن ، فتحلوا حلاله ، وتحرموا حرامه ، وتقفوا عند حدوده ، وتمتثلوا أوامره ، وتجتنبوا نواهيه ، وتقيموا أيضًا سنة نبيّكم؛ فتقتدوا بأفعاله ، وتتأدبوا بآدابه ، وتتخلقوا بأخلاقه ، على جهد الاستطاعة ، ولذلك قال بعض السلف : ليس عليّ في القرآن أشد من هذه الآية : { قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } الآية . كما في البخاري .
ثم ذكر عتوّ اليهود وطغيانهم ، فقال :
{ . . . وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وليزيدن كثيرًا } من اليهود { ما أنزل إليك } من القرآن والوحي { طغيانًا وكفرًا } على ما عندهم ، فلا تحزن عليهم بزيادة طغيانهم وكفرهم بما تبلغه إليهم ، فإن ضرر ذلك لاحق بهم ، لا يتخطاهم ، قال ابن عباس : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعُ بن حارثة وسلام بن مشكم وملك بن الصيف ورافع بن حريملة في جماعة من اليهود ، فقالوا : " يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وأنك مؤمن بالتوراة وبنبوة موسى ، وأن جميع ذلك حق؟ قال : " بلى ، ولكنكم أحدثتم وكتمتم وغيرتم " فقالوا : إنا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ، ولا نصدقك ولا نتبعك ، فنزلت فيهم هذه الآية .
الإشارة : من شأن أهل المحبة والاعتقاد ، الذين سبقت لهم من الله العناية والوداد ، إذا ازداد على أشياخهم فيض علوم وأنوار وأسرار؛ زادهم ذلك يقينًا وإيمانًا وعرفانًا ، يجدون حلاوة ذلك في قلوبهم وأسرارهم؛ فيزدادون قربًا وشهودًا ، وأهل العناد الذين سبق لهم من الله الطرد والبعاد؛ إذا سمعوا بزيادة علوم وأنوار على أولياء الله ، زادهم ذلك طغيانًا وبُعدًا ، فلا ينبغي الالتفات إليهم ، ولا الاحتفال بشأنهم ، فإن الله كاف شرهم ، وبالله التوفيق .
(2/89)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قلت : { والصابئون } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والصابئون كذلك . انظر البيضاوي وابن هشام .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { والذين هادوا والصابئون } : قوم بين النصارى والمجوس ، أو عباد المكواكب ، أو قوم بقوا على دين نوح عليه السلام { والنصارى } : قوم عيسى ، { من آمن } منه { بالله } إيمانًا حقيقيًا؛ بلا شرك ولا تفريق ، وآمن باليوم الآخر ، { وعمل صالحًا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، قال ابن عباس : نسخها : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عِمرَان : 85 ] ، وقيل : إن هؤلاء الطوائف من آمن منهم إيمانًا صحيحًا فله أجره ، فيكون في حق المؤمنين : الثبات عليه إلى الموت ، وفي حق غيرهم : الدخول في الإسلام ، فلا نسخ . وقيل : إنها فيمن كان قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم فلا نسخ أيضًا . قاله ابن جزي .
الإشارة : الذي طلب الله من العباد ورغبهم في تحصيله ، وجعله سببًا للنجاة من كل هول في الدنيا والآخرة ثلاثة أمور : أحدها : تحقيق الإيمان بالله ، والترقي فيه إلى محل شهود المعبود ، والثاني : تحقيق الإيمان بالبعث وما بعده ، حتى يكون نصب عينيه ، ويقربه كأنه واقع يشاهده؛ إذ كل آت قريب . والثالث : إتقان العمل إظهارًا للعبودية ، وتعظيمًا لكمال الربوبية ، على قدر الاستطاعة من غير تفريط ولا إفراط ، وبالله التوفيق .
(2/90)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
قلت : المضارع إذا وقع بعد العلم وجب إهمال ( إن ) معه ، فتكون مخففة ، وإن وقعت بعد الظن يصح فيها الوجهان ، فمن قرأ : { وحسبوا ألا تكون } بالرفع ، فأن مخففة ، ومن قرأ بالنصب فأن مصدرية . والفرق بين العلم والظن ، أن علم العبد إنما يتعلق بالحال ، و ( أن ) تُخلص للاستقبال ، فلا يصح وقوعها بعد العلم ، فأهملت وكانت مخففة من الثقيلة ، بخلاف الظن؛ فيتعلق بالحال والاستقبال ، فصح وقوع ( أن ) بعده . و { كلما } : ظرف لكذبوا أو يقتلون ، و { كثير } ؛ بدل من فاعل عموا وصموا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أن يعملوا بأحكام التوراة ، { وأرسلنا إليهم رسلاً } يجددون العهد ويحثون على الوفاء به ، ثم إنهم طغوا وعتوا؛ { كلما جاءهم رسول } من عند الله { بما لا تهوى أنفسهم } من الشرائع التي تخالف أهواءهم ومشاق الطاعة ، { فريقًا } منهم كذبوهم { وفريقًا } يقتلونهم ، أي : كذبوا فريقًا كداود وسليمان ، وفريقًا قتلوهم بعد تكذيبهم كزكريا ويحيى ، وقصدوا قتل عيسى عليه السلام فليس ما فعلوا معك ببعد منهم ، فلهم سلف في ذلك .
{ وحسبوا } أي : ظنوا { ألا تكون فتنة } أي : لا يقع بهم بلاء وعذاب بقتل الأنبياء عليهم السلام ، وتكذيبهم ، { فعموا } عن أدلة الهدى ، أو عن الدين ، { وصموا } عن استماع الوعظ والتذكير ، كما فعلوا حيث عبدوا العجل ، { ثم تاب الله عليهم } لما تابوا ، { ثم عموا وصموا } لما قتلوا الأنبياء وسفكوا الدماء ، واستمر على ذلك { كثير منهم } ، وقليل منهم بقوا على العهد { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم وفق أعمالهم .
الإشارة : لقد أخذ الله العهد على جميع بني آدم في شأن حمل الأمانة ، التي حملها أبوهم آدم ، وبعث الأنبياء والأولياء يجددون العهد في حملها ، ويعرفون الناس بشأنها ، وهي المعرفة الخاصة ، التي هي شهود عظمة الربوبية في مظاهر العبودية ، وحملها لا يكون إلا بمخالفة الهودى وخرق عوائد النفوس ، ولا يطيقها إلا الخصوص ، فلذلك كثر الإنكار على الأنبياء والأولياء؛ إذ لم يأت أحد بخرق العوائد إلا عودي وأنكر ، فكلما جاءهم رسول أو ولي بما لا تهوي أنفسهم فريقًا منهم كذبوا وفريقًا يقتلون ، وظنوا أن الله لا يعاقبهم على ذلك ، ولا تصيبهم فتنة في قلوبهم على ما هنالك ، فعموا عن مشاهدة أنوار الحق ، وصموا عمن يذكرهم بالحق ، وقد تلمع لهم تارة قبس من أنوارهم ، فيتوبون ، ثم يُصّرون على الإنكار . والله بصير بما يعملون .
(2/91)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، لِما رأوا على يديه من الخوارق ، { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } المعنى : لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد ، ويقول لبني إسرائيل : اعبدوا الله خالقي وخالقكم .
والمشهور في الأخبار ، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل ، نعم ، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له : بولس ، حسدًا منه ، وذلك أنه دخل في دينهم ، وفرق أموالهم ، وتأهب للتعبد معهم ، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى عليهما السلام في زعمهم ، وكان معه رجلان اسمهما : يعقوب وناسور ، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما : عيسى هو الله أو ابن الله ، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه ، فشاع مذهب الرجلين ، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية .
ثم هددهم على الشرك فقال ، أي : عيسى : { إنه من يشرك بالله } في عبادته ، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال ، { فقد حرم الله عليه الجنة } أي : يمنع من دخولها؛ لأنها دار الموحدين ، { ومأواه النار } أي : محله النار . لأنها معدة للمشركين ، { وما للظالمين من أنصار } أي : وما لهم أحد ينصرهم من النار . ووضع المظهر موضع المضمر ، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك ، وعدلوا عن طريق الحق ، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام ، أو من كلام الله تعالى .
ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم ، فقال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي : أحد ثلاثة ، عيسى وأمه وهو ثالثهم ، أو أحد الأقانيم الثلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، يريدون بالأب الذات ، وبالابن العلم ، وبروح القدس الحياة ، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر ، وهذه المقالة أعني التثليث ، هي قوله النسطورية والملكانية ، وما سبق في قوله : { إن الله هو المسيح } قول اليعقوبية ، القائلة بالاتحاد ، وكلهم ضالون مضلون ، { وما من إله إلا إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له في ألوهيته ، متصلاً ولا منفصلاً ، { وإن لم ينتهوا عما يقولون } ، ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي : ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا ، عذاب موجع .
{ أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } أي : أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة ، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول ، فإن تابوا غفر الله لهم ، { والله غفور رحيم } . وهذا الاستفهام : تعجب من إصرارهم ، مع كون التوبة مقبولة منهم .
ثم رد عليهم بقوله : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } بشر { قد خلت من قبله الرسل } ، وخصه الله بآيات ، كما خصهم بها ، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه ، فقد أحيا العصى ، وجعلها حية تسعى على يد موسى ، بل هو أعجب ، وإن كان قد خلقه الله من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب وأم ، وهو أغرب ، { وأمه صديقة } فقط ، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ، { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران إليه افتقار الحيوانات ، قال البيضاوي : بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال ، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية؛ لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله ، ثم نبه على نقصهما ، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة ، أي : القابلة للفساد ، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة ، فقال : { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون } أي : كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله ، و { ثم } للتفاوت بين العجبين ، أي : أن بياننا للآيات عجب ، وإعراضهم عنها أعجب .
(2/92)
ه .
ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السلام فقال : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا } بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها ، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره؟ وعبَّر عنه بما ، دون { من } إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل ، وما كان مشاركًا في الحقيقة لجنس ما لا يعقل ، يكون معزولاً عن الألوهية ، وإنما قدّم الضر؛ لأن التحرز منه أهم من تحري النفع ، ثم هددهم بقوله : { والله هو السميع العليم } بالأقوال والعقائد ، فيجازي عليهما ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ينبغي للعبد أن يصفي مشرب توحيده ، ويعتني بتربية يقينة ، بصحبة أهل اليقين ، وهم أهل التوحيد الخاص ، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات ، ومن توحيد الصفات إلى توحيدات الذات ، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال ، وهو ألاَّ يرى فاعلاً إلا الله ، لا فاعل سواه ، وثمرة هذا التوحيد : الاعتماد على الله ، والثقة بالله ، وسقوط خوف الخلق من قلبه ، لأنه يراهم كالآلات ، والقدرة تحركهم ، ليس بيدهم نفع ولا ضرر ، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى الله تعالى توحيد الصفات ، فلا يرون قادرًا ولا مريدًا ولا عالمًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا متكلمًا إلا الله ، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم . وثمرة هذا التوحيد : الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق ، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجات . ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين : توحيد الذات؛ فلا يشهدون إلا الله ، ولا يرون معه سواه . قال بعضهم : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده . وقال شاعرهم :
مُذ عَرَفتُ الإله لَم أرَ غَيرًا ... وكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ
مُذ تَجَمَّعتُ مَا خَشيتُ افتِراقاً ... فَأنَا اليَومَ واصِلٌ مجمُوعُ
وقال في التنوير : أبى المحقّقون أن يشهدوا مع الله سواه؛ لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية . ه . وفي الحكم : " الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته " .
وهؤلاء هم الصديقون المقربون . نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين .
(2/93)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أهل الكتاب } أي : النصارى ، { لا تغلوا في دينكم } وتقولوا قولاً { غير الحق } ؛ وهو اعتقادكم في عيسى أنه إله ، أو أنه لغير رشدة ، ولا تفرطوا ، { ولا تتبعوا أهواء قوم } سلفوا قبلكم ، وهم أئمتكم في الكفر ، { قد ضلوا من قبل } أي : من قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، { وأضلوا } أناسًا { كثيرًا } ؛ حملوهم على الاعتقاد الفاسد في عيسى وأمه ، فقلدوهم وضلوا معهم ، { وضلوا عن سواء السبيل } أي : عن قصد السبيل المستقيم ، وهو الإسلام بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الضلال الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل ، والثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع . قاله البيضاوي .
الإشارة : الغلو كله مذموم كما تقدم ، وخير الأمور أوسطها ، كما تقدم . وقد رخص في الغلو في ثلاثة أمور : أحدها : في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس أن يبالغ فيه ما لم يخرجه عن طور البشرية ، وهذا غلو ممدوح ، مقرب إلى الله تعالى ، قال في بردة المديح :
دع ما ادَّعَتهُ النَّصَارى في نَبيّهم ... واحكُم بما شِئتَ مَدحًا فيهِ واحتكَم
الثاني : في مدح الأشياخ والأولياء ، ما لم يخرجهم أيضًا عن طورهم ، أو يغض من مرتبة بعضهم ، فقد رخصوا للمريد أن يبالغ في مدح شيخه ، ويتغالى فيه ، بالقيدين المتقدمين؛ لأن ذلك يقربه من حضرة الحق تعالى . والثالث : في تعظيم الحق جل جلاله . وهذا لا قيد فيه ولا حصر . حدث عن البحر ولا حرج ، إذا كان ممن يحسن العبارة ويتقن الإشارة ، بحيث لا يوهم نقصًا ولا حلولاً . وبالله التوفيق .
(2/94)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود } أي : لعنهم الله في الزبور على لسان نبيه داود عليه السلام ، { و } لعنهم الله أيضًا في الإنجيل على لسان { عيسى ابن مريم } ، فالأول : أهل أيلَة؛ لما اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السلام ، فمسخوا قردة وخنازير ، والثاني أصحاب المائدة ، لمّا كفروا دعا عليهم عيسى ، ولعنهم ، فمسخوا خنازير ، وكانوا خمسة آلاف رجل ، { ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } ؛ ذلك اللعن الشنيع المقتضى للمسخ بسبب عصيانهم واعتدائهم ما حَرُم عليهم .
{ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } أي : لا ينهى بعضهم بعضًا عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله وتهيأوا له ، أو : لا ينتهون عنه ولا يمتنعون منه ، { لبئس ما كانوا يفعلون } ، وهو تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم .
{ ترى كثيرًا منهم } أي : من اليهود ، { يتولون الذين كفروا } أي : يوالون المشركين بُغضًا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، { لبئس ما قدمت لهم أنفسهم } أي : لبئس شيئًا قدموه ، ليردوا عليه يوم القيامة ، وهو { أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون } أي : بئس ما قدموا أمامهم ، وهو سخط الله والخلود في النار ، والعياذ بالله ، { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } أي : نبيهم كما يزعمون ، { وما أُنزل إليه } من التوراة وغيره ، { ما اتخذوهم أولياء } ؛ لأن النبي لا يأمر بموالاة الكفار ، ولو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه كما هو الواجب عليهم ما اتخذوا الكفار أولياء ، { ولكن كثيرًا منهم فاسقون } أي : خارجون عن دينهم ، أو خارجون عن الدين الحق الذي لا يقبل غيره ، وهو الإسلام .
الإشارة : ذكر الحق جل جلاله في هذه الآية ثلاثة أمور ، وجعلها سببًا للعن والطرد ، وموجبة للسخط والمقت ، أولها : الانهماك في المعاصي والعدوان ، والإصرار على الذنوب والطغيان . والثاني عدم الإنكار على أهل المعاصي والسكوت عنهم والرضا بفعلهم ، والثالث : موالاة الفجار والمودة مع الكفار ، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أزواجهم أو عشيرتهم ، وفي بعض الأخبار : ( لو أن رجلاً قام الليل وصام النهار ، ثم تودد مع الفجار لبعث معهم ، ولو أن رجلاً عمل بالمعاصي ما عمل ، ثم أحب الأبرار لحُشر معهم ) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، ويعضده حديث : " المَرءُ مَعَ مَن أحبَّ " والله تعالى أعلم .
(2/95)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
قلت : القسيس : العالم ، والراهب ، العابد ، و { مما عرفوا } : سببية ، و { من الحق } : بيان أو تبعيض ، وجملة : { لا نؤمن } : حال ، والعامل فيها متعلق الجار ، أي : أي شيء حصل لنا حال كوننا غير مؤمنيين ، و { نطمع } : عطف على { نؤمن } ، أو خبر عن مضمر ، أي : ونحن نطمع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لتجدن أشد الناس عداوة } للمؤمنين؛ اليهود والمشركين ، لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ، ومعاداتهم وعدوانهم لا ينقطع إلى الأبد .
{ ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى } ، للين جانبهم ، ورقة قلوبهم ، وقلة حرصهم على الدنيا بالنسبة لليهود ، وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل ، وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين } أي : علماء ، ومن جملة علمهم : علمُهم بوصاية عيسى بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { ورهبانًا } أي : عبادًا ، { وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا عرفوه ، بخلاف اليهود؛ لكثرة جحودهم ، وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل محمود ، وإن كان من كافر . قاله البيضاوي .
{ وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول } محمد صلى الله عليه وسلم { ترى أعينهم تفيض من الدمع } ؛ من البكاء ، جعل أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها ، وإنما يفيض دمعها ، وذلك { مما عرفوا من الحق } حين سمعوه ، أو من بعض الحق ، فما بالك لو عرفوا كله؟ { يقولون ربنا آمنا } بذلك ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ { فاكتبنا مع الشاهدين } بأنه حق ، أو بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم .
نزلت في النجاشي وأصحابه ، حين دعوا جعفرًا وأصحابه ، وأحضروا القسيسين والرهبان ، وأمره أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ سورة مريم ، فبكوا وآمنوا بالقرآن . وقيل : نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلاً من قومه ، وفدوا من عنده من الحبشة بأمره على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم سورة { يَس } ، فبكوا وآمنوا ، فصدر الآية عام ، فالنصارى كلهم أقرب مودة للمسلمين ، من آمن ، ومن لم يؤمن ، وإنما جاء التخصيص في قوله : { وإذا سمعوا } ، فالضمير إنما يرجع إلى من آمن منهم ، كالنجاشي وأصحابه . وإنما جاء الضمير عامًا؛ لأن الجماعة تحمد بفعل الواحد . انظر ابن عطية .
ولما دخل الإيمان في قلوبهم حين سمعوا القرآن ، عاتبوا أنفسهم على التأخر عن الإيمان فقالوا : { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق } { و } نحن { نطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } ، وهي أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الأمم ، وهذا منهم استفهامُ إنكار واستبعاد؛ لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي ، وهو الطمع في الانخراط مع الصاحلين ، والدخول في مداخلهم ، { فأثابهم الله } أي : جازاهم { بما قالوا } واعتقدوا ، { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين } الذين اعتادوا الإحسان في جميع الأمور ، أو الذين أحسنوا النظر وأتقنوا العمل .
(2/96)
ثم ذكر ضدهم فقال : { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } ، شفع بهم حال المؤمنين المصدقين ، جمعًا بين الترغيب والترهيب ، ليكون العبد بين خوف ورجاء . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أشد الناس إنكارًا على الفقراء ، وأشدهم عداوة لهم ، من تقدم في أسلافه رئاسة علم أو جاه أو صلاح أو نسبة شرف ، وأقرب الناس مودة لهم من لم يتقدم له شيء من ذلك ، فالعوام أقرب وأسهل للدخول في طريق الخصوص من غيرهم . والله تعالى أعلم .
(2/97)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله } أي : لا تحرموا ما طاب ولذ مما أحله الله لكم ، { ولا تعتدوا } فتحرموا ما أحللت لكم ، ويجوز أن يراد : ولا تعتدوا حدود ما أحل لكم إلى ما حرم عليكم ، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم ، داعية إلى القصد بينهما ، والوقوف على ما حد دون التجاوز إلى غيره . رُوِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفَ القِيامَة يومًا ، وبالغ في إنذارهم ، فَرَقوا ، واجتمعوا في بيت عُثمان بن مظعون ، واتفقوا على ألا يزالوا صائمين قائمين ، وألا يناموا على الفُرُش ، ولا يأكُلوا اللحمَ والودَك ، ولا يَقربُوا النساء والطَّيبَ ، ويَرفضُوا الدُنيا ، ويلَبسُوا المُسوح ، ويَسيحُوا في الأرض ، ويَجُبُّوا مَذَاكِرَهم ، فَبلَغ ذلك رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم " إني لم أُومر بذلكَ ، إنَّ لأنفُسِكُم عَليكُم حقًا ، فصُومُوا وأفطِرُوا ، وقُومُوا ونَاموا ، فإنِّي أقُومُ وأنام ، وأصُوم وأُفطِر ، وآكُلُ اللحم والدَّسم ، وآتى النساء ، فَمَن رَغِبَ عن سُنتي فَليس مني " ونزلت الآية .
ثم قال تعالى : { وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيبًا } أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله ، { واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون } ؛ فأحلوا حلاله واستعملوه ، وحرموا حرامه واجتنبوه .
الإشارة : طريقةُ العباد والزهاد : رفض الشهوات والملذوذات بالكلية ، زهدًا وورعًا وخوفًا من اشتغال النفس بطلبها ، فيتعطل وقتهم عن العبادة ، وطريقة المريدين السائرين : رفض ما تتعلق به النفس قبل الحصول ، وتشره إليه رياضة وتعففًا ، لئلا تتعلق هِممُهم بغير الله ، فما جاءهم من غير طلب ولا شره أكلوه وشكروا الله عليه ، ولا يقفون مع جوع ولا شبع . وطريقة الواصلين العارفين : تجنب ما يقبض من غير يد الله ، فإذا أخذتهم سنة حتى غفلوا عن التوحيد فقبضوا شيئًا ، مع رؤية الواسطة ، أخرجوه عن ملكهم ، كما وقع لأبي مدين رضي الله عنه ويأخذون ما سوى ذلك قَلّ أو كثر ، ولا يقفون مع أخذ ولا ترك ، وفي الحكم : " لا تمدن يديك إلى الأخذ من الخلائق ، إلا أن ترى أن المعطي فيهم مولاك ، فإن كنت كذلك فخذ ما وافقك العلم " .
(2/98)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قلت : { في أيمانكم } : يتعلق باللغو ، أو بيؤاخذكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا يُواخذكم الله باللغو في أيمانكم } وهو ما يصدر من الإنسان بلا قصد ، كقوله : لا والله ، وبلى والله . وإليه ذهب الشافعي ، وقيل : هو الحلف على ما يظن أنه كذلك ولم يكن ، وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة ، { ولكن يُؤاخذكم بما عقدتم الإيمان } عليه ، أي : بما جزمتم عليه بالنية والقصد ، { فكفارته } أي : ما عقدتم عليه إذا حلفتم ، ويجوز التكفير قبل الحنث لظاهر الآية .
ثم بيَّن الكفارة ، فقال : { إطعام عشرة مساكين } ، فمن أطعم غنيًا لم تجزه ، واشترط مالك أن يكونوا أحرارًا ، وليس في الآية ما يدل على ذلك ، ثم بيَّن نوعه فقال : { من أوسط ما تُطعمون أهليكم } أي : من وسط طعام أهليكم في القدر أو في الصفة ، أما القدر فقال مالك : يطعم مُدًا لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في المدينة المشرفة ، وفي غيرها وسط من الشبع ، وقال الشافعي وابن القاسم : يجزىء المُد في كل مكان ، وقال أبو حنيفة : إن غذاهم وعشاهم أجزأه .
قلت : وهو قول في المدونة لمالك أيضًا . وأما الصنف ، فاختلف : هل يطعم من عيش نفسه ، أو من عيش بلده وهو المشهور؟
فمعنى الآية على هذا : { من أوسط ما تطعمون } أيها الناس { أهليكم } على الجملة { أو كسوتهم } ؛ فيكسو كل مسكين ما نصح به الصلاة ، فالرجل ثوب ، والمرأة قميص وخمار ، { أو تحرير رقبة } مؤمنة على مذهب مالك؛ لتقييدها بذلك في كفارة القتل . وأجاز أبو حنيفة عتق الكافر ، لإطلاق اللفظ هنا ، واشترط مالك أيضًا أن تكون مسلمة من العيوب ، وليس في الآية ما يدل عليه ، فهذه الثلاثة بالتخيير .
{ فمن لم يجد } واحدًا من هذه الثلاثة ، ولم يقدر على شيء منها ، بحيث لم يفضل له عن قوته وقوت عياله في يومه ما يطعم به ، { فصيام ثلاثة أيام } يستحب تتابعها ، اشترطه أبو حنيفة؛ لأنه قرىء : ( أيام متتابعات ) ، والشاذ ليس بحجة ، { ذلك } المذكور هو { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم ، { واحفظوا أيمانكم } أي : صونوا ألسنتكم عن كثرة الحلف ، فيكون الله عرضة لأيمانكم ، أو احفظوها بأن تبروا فيها ولا تحنثوا ، إلا إن كان في الامتناع من الخير ، فالحنث فيها أحسن ، كما في الحديث . أو احفظوها بأن تكفروها إذا حنثتم ، ولا تتهاونوا بها ، { كذلك يُبيّن الله لكم آياته } أي : مثل ذلك البيان يُبين لكم أعلام شرائعه { لعلكم تشكرون } نعمة التعليم ، أو نعمه الواجب شكرها ، فإن مثل هذا التبيين يُسهل لكم المخرج من ضيق اليمين ، فهو نعمة يجب شكرها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ليس التشديد والتعقيد من شأن أهل التوحيد ، إنما شأنهم الاسترسال مع ما يبرز من عنصر القدرة ، ليس لهم وقت دون الوقت الذي هم فيه ، قد حلّ التوحيد عُقدهم ودكّ عزائمهم ، فهم في عموم أوقاتهم لا يدبرون ولا يختارون ، وإن وقع منهم تدبير أو اختيار رجعوا إلى ما يفعل الواحد القهار ، لا يبطشون إلى شيء ولا يهربون من شيء ، إلا إن كان فيه مخالفة للشرع .
(2/99)
ولا يعقدون على ترك شيء من المباحات ولا على فعله ، لأنهم لا يرون لأنفسهم فعلاً ولا تركًا ، إن صدرت منهم طاعة شهدوا المنّة لله ، وإن وقعت منهم زلّة أو غفلة تأدبوا مع الله ، وبادروا بالتوبة إلى الله ، وما صدر من الصحابة رضوان الله عليهم فلعل ذلك كان حالاً غالبة عليهم ، قد أزعجهم وعظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهضهم حاله ، فلما رآهم غلب عليهم الحال ردّهم إلى حال الاعتدال ، ولعل الحق جل جلاله ، إنما جعل كفّارة اليمين جبرًا لخلل ذلك التعقيد ، الذي صدر من الحالف مع تفريطه بالحنث ، فكأنه حلف على فعل غيره ، ففيه نوع من التألي على الله . والله تعالى أعلم .
(2/100)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
قلت : { رجس } خبر ، وأفرده؛ لأنه على حذف مضاف ، أي : تعاطي الخمر ، أو خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات محذوف ، أي : كذلك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إنما } تناول { الخمر } ؛ وهو كل ما غيب العقل ، دون الحواس ، مع النشوة والطرب ، { والميسر } وهو القمار { والأنصاب } وهو ما نصب ليُعبد من حجارة أو خشب ، { والأزلام } أي : الاستقسام بها ، وقد تقدم تفسيرها ، { رجس } قذر خبيث تعافه العقول السليمة ، { من عمل الشيطان } أي : من تسويله وتزيينه ، { فاجتنبوه } أي : ما ذكر من تعاطي الخمر ، وما بعده ، { لعلكم تفلحون } أي : تفوزون بالرضوان والنعيم المقيم .
قال البيضاوي : اعلم أن الحق تالى أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية ، بأن صدّر الجملة بإنما ، وقرنها بالأنصاب والأزلام وسماهما رجسًا ، وجعلهما من عمل الشيطان ، تنبيهًا على أن الاشتغال بهما شر محض ، وأمر بالاجتناب عن عينهما ، وجعله سببًا يرجى منه الفلاح ، ثم قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية المقتضية للتحريم فقال : { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيطَانُ أن يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبغضَاءَ فِي الخَمرِ وَالمَيسِرِ } ، وقد وقع ذلك في زمن الصحابة ، وهي كانت سبب تحريمه ، { ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة } ؛ إنما خصّ الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال تنبيهًا على أنهما المقصودان بالبيان . وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " شَارِبُ الخَمرِ كَعَابِد الوَثَنِ " .
وخصّ الصلاة من الذكر بالإفراد؛ للتعظيم والإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان؛ من حيث إنها عماده ، والفارق بينه وبين الكفر ، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبًا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال : { فهل أنتم منتهون } ؟ إيذانًا بإن الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأن الأعذار قد انقطعت . ه . ولذلك لما سمعها الفاروق رضي الله عنه حين نزلت ، قال : ( قد انتهينا يا ربنا ) .
وبهذا الآية وقع تحريم الخمر ، وقد كان حلالاً قبلها ، بدليل سكوته صلى الله عليه وسلم على شربها قبل نزول الآية ، فإن قلت : حفظ العقول من الكليات الخمس التي اتفقت الشرائع على تحريمها؟ قلنا : لا حكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، ولما طالت الفترة ، وانقطعت الشرائع عند العرب ، رجعت الأشياء إلى أصلها من الإباحة بمقتضى قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُم مَّا في الأَرْضِ جَمِيعًا } [ البَقَرة : 29 ] ، حتى جاءت الشريعة المحمدية فحرمتها كالشرائع قبلها ، فكانت حينئٍذ حرامًا ، ودخلت في الكليات الخمس التي هي : حفظ العقول والأبدان والأموال والأنساب والأديان .
ثم أكد ذلك أيضًا بقوله : { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فيما أمر ونهى { واحذروا } غضبهما إن خالفتم ، { فإن توليتم } أو أعرضتم عن طاعتهما { فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين } ؛ لا تضرّه مخالفتكم ، إنما عليه البلاغ وقد بلغ .
الإشارة : المقصود هو النهي عن كل ما يصد عن الله أو يشغل العبد عن شهود مولاه ، وخص هذه الأربعة ، لأنها أمهات الخطايا ومنبع الغفلة والبلايا ، فالخمر فيه فساد العقل الذي هو محل الإيمان ، والميسر فيه فساد المال وفساد القلب بالعداوة ، والشحناء ، وفساد الفكر لاستعماله في الهوى ، والأنصاب فيه فساد الدين الذي هو رأس المال ، والأزلام فيه الفضول والاطلاع على علم الغيب ، الذي هو سر الربوبية ، وهو موجب للمقت والعطب ، والعياذ بالله .
(2/101)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } أي : إثم { فيما طعموا } من الخمر والميسر قبل التحريم ، { إذا ما اتقوا } أي : إذا اتقوا الشرك ، { وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا } المحرمات { وآمنوا } أي : حققوا مقام الإيمان ، { ثم اتقوا } الشبهات والمكروهات { وأحسنوا } أي : حصلوا مقام الإحسان ، وهو إتقان العبادة ، وتحقيق العبودية ، ومشاهدة عظمة الربوبية ، { والله يحب المحسنين } أي : يقربهم ويصطفيهم لحضرته ، رُوِي أنه لما نزل تحريم الخمر ، قالت الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله؛ فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر؟ فنزلت .
ويحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة ، أي : الماضي والحال والاستقبال ، أو باعتبارات الحالات الثلاثة . فيستعمل التقوى فيما بينه وبين نفسه بالتزكية والتحلية ، وفيما بينه وبين الناس بالكف عن التعرض لهم ، وفيما بينه وبين الله بامتثال أمره واجتناب نهيه والغيبة عن غيره ، ولذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة ، أو باعتبار المراتب الثلاثة؛ المبدأ والوسط والنهاية ، أو باعتبار ما يُتقى ، فإنه ينبغي أن يتقي المحرمات توقيًا من العقاب ، ثم يتقي الشبهات تحفظًا من الحرام ، ثم يتقي بعض المباحات تحفظًا للنفس عن خسة الشره ، وتهذيبًا لها عن دنس الطبيعة ، قال معناه البيضاوي .
الإشارة : المقامات التي يقطعها المريد ثلاث : مقام الإسلام ، ومقام الإيمان ، ومقام الإحسان ، فما دام المريد مشتغلاً بالعمل الظاهر؛ من صلاة وصيام وذكر اللسان ، سُمي مقام الإسلام ، فإذا انتقل لعمل الباطن من تخلية وتحلية وتهذيب وتصفية ، سُمي مقام الإيمان ، فإذا انتقل لعمل باطن الباطن من فكرة ونظرة وشهودة وعيان سمي مقام الإحسان ، وهذا اصطلاح الصوفية؛ سموا ما يتعلق بإصلاح الظواهر : إسلامًا ، وما يتعلق بإصلاح القلوب والضمائر ، إيمانًا ، وما يتعلق بإصلاح الأرواح والسرائر : إحسانًا . وجعل الساحلي في البغية كل مقام مركبًا من ثلاثة مقامات ، فالإسلام مركب من التوبة والتقوى والاستقامة ، والإيمان مركب من الإخلاص والصدق والطمأنينة ، والإحسان مركب من مراقبة ومشاهدة ومعرفة . وأطال الكلام في كل مقام ، لكن من سقط على شيخ التربية لم يحتج إلى شيء من هذا التفصيل . وبالله التوفيق .
(2/102)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قلت : { فجزاء } : مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : فعليه جزاء ، أو خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : فواجبه جزاء ، و { مثل } : صفته ، و { من النعم } : صفة ثانية لجزاء ، أي : فعلية جزاء مماثل حاصل من النعم ، ومن قرأ { مثل } بالجر ، فعلى الإضافة ، من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، أو يكون { مثل } مقحمة كما في قولهم : مثلى لا يقول كذا . وقرىء بالنصب ، أي : فليجزأ جزاء مماثلاً . وجملة { يحكم } صفة لجزاء أيضًا ، أو حال من ضمير الخبر .
و { هَديًا } : حال من ضمير { به } ، أو من جزاء؛ لتخصيصه بالإضافة أو الصفة فيمن نون ، و { بالغ } : صفة للحال ، أو بدل من مثل باعتبار محله ، أو لفظه فيمن نصبه ، أو { كفارة } عطف على { جزاء } إن رفعته ، وإن نصبت جزاء فهو خبر ، أي : وعليه كفارة ، و { طعام مساكين } : عطف بيان ، أو بدل منه ، أو خبر عن محذوف ، أي : هي طعام ، ومَن جرّ طعامًا فبالإضافة للبيان ، كقوله : خاتم فضة ، أو { عدل } عطف على { طعام } فيمن رفعه ، أو خبر فيمن جره ، أي : عليه كفارة طعام ، أو عليه عدل ذلك ، و { ليذوق } : متعلق بمحذوف ، أي : فيجب عليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق سوء عاقبة فعله ، و { متاعًا لكم } : مفعول من أجله ، و { حُرُمًا } : حال ، أي : ما دمتم محرمين ، أو خبر دام على النقص ، ويقال : دام يدوم دُمت ، كقال يقول قلت : ودام يَدام دِمت ، كخاف يخاف خفت . وبه قٌرىء في الشاذ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم } أي : والله ليختبرنكم { الله بشيء } قليل { من الصيد } يسلطه عليكم وَيُذَلِّلُهُ لكم حتى { تناله أيديكم } بالأخذ { ورماحكم } بالطعن { ليعلم الله } علم ظهور وشهادة تقوم به الحجة ، { من يخافه بالغيب } فيكف عن أخذه حذرًا من عقاب ربه ، نزل عام الحديبية ، ابتلاهم الله بالصيد ، كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم ، بحيث يتمكنون من صيده ، أخذًا بأيديهم وطعنًا برماحهم ، وهم مُحرمون ، وكان الصيد هو معاش العرب ومستعملاً عندهم ، فاختبروا بتركه مع التمكن منه ، كما اخُتبر بنو إسرائيل بالحوت في السبت .
وإنما قلَّلَهُ بقوله : { بشيء من الصيد } إشعارًا بأنه ليس من الفتن العظام كبذل الأنفس والأموال ، وإنما هو من الأمور التي يمكن الصبر عنها ، فمن لم يصبر عنده فكيف يصبر بما هو أشد منه؟ { فمن اعتدى بعد ذلك } الابتلاء بأن قتل بعد التحريم ، { فله عذاب أليم } في الآخرة ، لأن من لا يملك نفسه من مثل هذه فكيف يملكها فيما تكون النفس فيه أميل وعليه أحرص؟! .
ثم صرح بالحرمة ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } أي : محرمون جمع حَرَم ، والمراد من دخل في الإحرام أو في الحرم ، وذكر القتل ليفيد العموم ، فيصدق بالذبح وغيره ، وما صاده المحرم أو صيد له ميتةٌ لا يؤكل ، والمراد بالصيد المنهي عن قتله : ما صيد وما لم يُصَد مما شأنه أن يصاد ، وورد هنا النهي عن قتله قبل أن يصاد ، وبعده ، وأما النهي عن الاصطياد فيؤخذ من قوله : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حُرمًا } ، وخصص الحديث : الغراب والحدأة ، والفأرة والعقرب والكلب العقور ، فلا بأس بقتلهم ، في الحل والحرم ، وأدخل مالك في الكلب العقور كل ما يؤذي الناس من السباع وغيرها ، وقاس الشافعي على هذه الخمسة كل ما لا يؤكل لحمه .
(2/103)
ثم ذكر جزاء قتله فقال : { ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النَّعَم } أي : فعليه جزاء مثل ما يماثله من النعم ، وهي الإبل والبقر والغنم ، ففي النعامة بدنةَ ، وفي الفيل ذات سنامين ، وفي حمار الوحش وبقره بَقَرة ، وفي الغزالة شاة ، فالمثلية عند مالك والشافعي في الخلِقة والمقدار ، فإن لم يكن له مثلٌ؛ أطعم أو صام ، يُقوّم بالطعام فيتصدق به ، أو يصوم لكل مدِّ يومًا ، ومَذهب أبي حنيفة أن المثلية : القيمة ، يُقوم الصيد المقتول ، ويُخير القاتل بين أن يتصدق بالقيمة أو يشتري بها من النعم ما يهديه . وذكر العمد ليس بتقييد عند جمهور الفقهاء ، خلافًا للظاهرية؛ بل المتعمد ، والناسي في وجوب الجزاء سواء ، وإنما ذكره ليرتب عليه قوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ، ولأن الآية نزلت فيمن تعمد ، إذ رُوِي أنهم عرض لهم حمار وحشي ، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله ، فنزلت الآية .
ولا بد من حكم الحكَمين على القاتل لقوله : { يَحكم به ذوا عدل منكم } ، فكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد ، فكذلك تحتاج المماثلة في الخلقة والهيأة إليهما ، فإن أخرج الجزاء قبل الحكم عليه؛ فعليه إعادته ، إلا حمام مكة؛ فإنه لا يحتاج إلى حكمين ، ويجب عند مالك التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم ، لعموم الآية . وقال الشافعي : يكتفي في ذلك بما حكمت به الصحابة ، حال كون المحكوم به { هديًا } بشرط أن يكون مما يصح به الهدي ، وهو الجذع من الضأن ، والثني مما سواه ، وقال الشافعي : يخرج المثل في اللحم ، ولا يشترط السن ، { بالغ الكعبة } لم يرد الكعبة بعينها ، وإنما أراد الحرم ، وظاهره يقتضي أن يصنع به ما يصنع بالهدي؛ من سوق من الحل إلى الحرم ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : إن اشتراه في الحرم أجزأه .
{ أو كفارة طعام مساكين } ؛ مد لكل مسكين ، { أو عدل ذلك صيامًا } ، يوم لكل مد ، عدد الحق تعالى ما يجب في قتل الصيد ، فذكر أولاً الجزاء من النعم ، ثم الطعام ، ثم الصيام ، ومذهب مالك والجمهور : أنها على التخيير ، وهو الذي يقتضيه العطب بأو ، ومذهب ابن عباس أنها مرتبة .
(2/104)
وقد نظم ابن غازي الكفارات التي فيها التخيير أو الترتيب؛ فقال :
خَيَّر بِصَومٍ ثَمَّ صَيدٍ وَأذَى ... وقُل لِكُلَّ خَصلَةٍ : يا حَبَّذا
وَرَتِّب الظِّهارَ والتَّمَتُّعا ... وَالقَتلَ ثَمّ في اليَمِينِ اجتَمَعَا
وكيفية التخيير هنا : أن يخير الحكمان القاتلَ؛ فإن أراد الجزاء عينوا له ما يهدي ، وإن أراد الإطعام قوموا الصيد بالطعام في ذلك المحل ، فيطعم مُدًا لكل مسكين ، وإن أراد الصيام صام يومًا لكل مُدّ ، وكمل لكسره ، فإذا قوم بعشرة مثلاً ونصف مُدّ ، صام أحد عشر يومًا .
ثم ذكر حكمة الجزاء ، فقال : { ليذوق وبال أمره } أي : فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصيام؛ ليذوق عقوبة سوء فعله ، وسوء هتكه لحرمة الإحرام ، { عفا الله عما سلف } في الجاهلية أو قبل التحريم ، { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة ، وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد ، كما حكى عن ابن عباس وشريح . { والله عزيز ذو انتقام } ممن أصر على عصيانه .
ثم استثنى صيد البحر فقال : { أُحل لكم صيد البحر } وهو ما لا يعيش إلا في الماء ، وهو حلال كله لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : " هُو الطَّهُورُ ماَؤهُ ، الحِلُّ مَيتَتُه " وقال أبو حنيفة : لا يحل منه إلا السمك ، { وطعامه } أي : ما قذفه ، أو طفا على وجهه؛ لأنه ليس بصيد إنما هو طعام ، وقال ابن عباس : طعامه : ما مُلِّح وبقي ، { متاعًا لكم وللسيارة } ، الخطاب بلكم للحاضرين في البحر ، والسيارة : المسافرون في البر ، أي : هو متاع تأتِدمون به في البر والبحر ، { وحُرم عليكم صيد البر } يحتمل أن يريد به المصدر ، أي الاصطياد ، أو الشيء المصيد ، أو كلاهما ، وتقدم أن ما صاده محرم أو صيد له ، ميتة ، وحد الحرمة : { ما دمتم حُرمًا } فإذا حللتم فاصطادوا ، { واتقوا الله } في ترك ما حرم عليكم ، { والذي إليه تحشرون } فيجازيكم على ما فعلتم .
الإشارة : إذا عقد المريد مع الله عقدة السير والمجاهدة ، قد يختبره الله تعالى في سيره بتيسير الشهوات ، وتسليط العلائق والعوائق؛ ليعلم الكاذب من الصادق ، فإن كف عنها وأعرض ، هيأ لدخول الحضرة ، وإن انهمك فيها ، واقتُنص فيه شبكتها ، بقي مرهونًا في يدها ، أسيرًا في قبضة قهرها ، فإذا نهض حتى دخل حرم الحضرة قاصدًا لعرفة المعارف ، حَرُم عليه صيد البر ، وهو كل ما يخرج من بحر الحقيقة إلى شهود بَر السِّوى ، فرقًا بلا جمع ، كائنًا ما كان ، رسومًا أو علومًا أو أحوالاً أو أقوالاً ، وحلّ له صيد البحر وطعامه ، من أسرارِ أو أنوارِ أو حقائق ، متاعًا لروحه وسره ، وللسيارة من أبناء جنسه ، يطعمهم من تلك الأسرار ، بالهمة أو الحال أو التذكار ، واتقوا الله في الاشتغال بما سواه ، الذي إليه تحشرون ، فيدخلكم جنة المعارف قبل جنة الزخارف . والله تعالى أعلم .
(2/105)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قلت : { البيت الحرام } : عطف بيان على جهة المدح ، و { قيامًا } : مفعول ثان .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { جعل الله الكعبة } التي هي { البيت الحرام قيامًا للناس } أي : سبب انتعاشهم ، يقوم بها أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ، ويأمن فيه الضعيف ، ويربَحُ فيه التجار ، ويتوجه إليه الحجاج والعُمار ، أو يقوم به أمر دينهم بالحج إليه ، وأمر دنياهم بِأمنِ داخله ، وتُجبى ثمرات كل شيء إليه .
قال القشيري : حكَم الله سبحانه بأن يكون بيته اليومَ ملجأ يلوذ به كل مُؤمّل ، ويستقيم ببركة زيارته كلُّ حائدٍ عن نهج الاستقامة ، ويظفر بالانتقال هناك كل ذي أرَبٍ . ه .
{ والشهر الحرام } جعله الله أيضًا قيامًا للناس؛ والمراد به ذو الحجة ، فهو قيام لمناسك الحج ، وجَمعِ الوجود إليه بالأموال من كل جانب ، أو الجنس ، وهي أربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، لأنهم كانوا يكفون عن القتال ، ويأمن الناس فيها في كل مكان ، { والهدي } ؛ لأنه أمان لمن يسوقه؛ لأنه لم يأت لحرب ، { والقلائد } ، كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد شيئًا من السمُر ، وإذا رجع تقلد شيئًا من شجر الحرم؛ ليعلم أنه كان في عبادة ، فلا يتعرض له أحد بشر ، فالقلائد هنا : ما تقلده المحرم من الشجر ، وقيل : قلائد الهدى .
{ ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } أي : جعل ذلك الأمور ، قيامًا للناس؛ لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل الأمور ، فشرع ذلك دفعًا للمضار وجلبًا للمنافع ، { وأن الله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه محل مصالح عباده ومضارهم ، وهو تعميم بعد تخصيص ، ومبالغة بعد إطلاق .
ثم قال تعالى : { اعلموا أن الله شديد العقاب } لمن عصاه ، { وأن الله غفور رحيم } لمن أطاعه وأقبل عليه ، وهو وعيد ووعد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ، أو لمن أصرّ ورجع ، { ما على الرسول إلا البلاغ } وقد بلّغ ، فلم يبق عذر لأحد ، وهو تشديد في إيجاب القيام بما أمر ، { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة .
الإشارة : كما جعل الله الكعبة قيامًا للناس ، يقوم به أمر دينهم ودنياهم ، جعل القلوب ، التي هي كعبة الأنوار والأسرار ، قيامًا للسائرين ، يقوم بها أمر توحيدهم ويقينهم ، أو أمر سيرهم ووصلوهم . وفي الحديث : " إنَّ في الجسدِ مُضغةً إذا صلَحَت صلُحَ الجسدُ كلُّهُ وإذا فَسددَت فَسدَ الجَسدُ كلُّه؛ ألاَ وَهي القَلبِ " وكما جعل الشهر الحرام والهدى والقلائد حرمة لأهلها ، جعل النسبة والتزيي بها حفظًا لصاحبها ، من تزيا بزي قوم فهو منهم ، يجب احترامه وتعظيمه لأجل النسبة ، فإن كان كاذبًا فعليه كذبه ، وإن يك صادقًا يصبكم بعض الذي يعدكم ، وقد أخذ اللصوص بعض الفقراء ، وانتهكوا حرمته ، وأخذوا ثيابه ، فاشتكى لشيخه فقال له : هل كانت عليك مرقعتك؟ قال : لا ، فقال له : أنت فرطت؛ والمفرط أولى بالخسارة . ه . والله تعالى أعلم .
(2/106)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل لا يستوي الخبيث والطيب } عند الله ، في القلوب والأحوال والأعمال والأموال والأشخاص ، فالطيب من ذلك كله مقبول محبوب ، والرديء مردود ممقوت ، فالطيب مقبول وإن قلّ ، والرديء مردود ولو جلّ ، وهو معنى قوله : { ولو أعجبك كثرة الخبيث } ، فالعبرة بالجودة والرداءة ، دون القلة والكثرة ، وقد جرت عادته تعالى بكثرة الخبيث من كل شيء ، وقلة الطيب من كل شيء ، قال تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ صَ : 24 ] ، { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ } [ سَبَأ : 13 ] ، وفي الحديث الصحيح : " النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تكادُ تَجِدُ فيها رَاحِلةَ " ، وقال الشاعر :
إنّي لأفتَحُ عَينِيَ حِينَ أفتَحُها ... عَلَى كُثِيرٍ ولكن لا أرى أحَدا
فأهل الصفا قليل في كل زمان ، ولذلك خاطبهم بقوله : { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي : القلوب الصافية في تجنب الخبيث وإن كثر ، وأخذ الطيب وإن قلّ ، { لعلكم تُفلحون } بصلاح الدارين .
الإشارة : لا عبرة بالأحوال الظلمانية وإن كثرت ، وإنما العبرة بالأحوال الصافية ولو قلّت ، صاحب الأحوال الصافية موصول ، وصاحب الأحوال الظلمانية مقطوع ، ما لم يتب عنها ، قال بعض الحكماء : ( كما لا يصح دفن الزرع في أرض ردية ، لا يجوز الخمول بحال غير مرضية ) .
والمراد بالأحوال الصافية : هي التي توافق مراسم الشريعة؛ بحيث لا يكون عليها من الشارع اعتراض ، بأن تكون مباحة في أصل الشريعة ، ولو أخلت بالمروءة عند العوام ، إذ المروءة إنما هي التقوى عند الخواص ، والمراد بالأحوال ، كل ما يثقل على النفس وتموت به سريعًا ، كالمشي بالحفا وتعرية الرأس ، والأكل في السوق ، والسؤال ، وغير ذلك من خرق عوائدها ، التي هي شرط في حصول خصوصيتها ، وفي الحِكَم : " كيف تخرق لك العوائد؟ وأنت لم تخرق من نفسك العوائد " . وبالله التوفيق .
(2/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قلت : الجملة الشرطية صفة الأشياء ، وأشياء سم جمع لشيء ، أصله عند سيبويه : شيئَاءَ ، مثل فَعلاء ، قلبت إلى لفعاء ، أي : قلبت لامه إلى فائه ، لثقل اجتماع الهمرتين ، وقال أبو حاتم : أشياء وزنها أفعال ، وهو جمع شيء ، وترك العرف فيه سماع ، وقال الكسائي : لم ينصرف أشياء ، لشبه آخره بآخر حمراء ، انظر ابن عطية . وجملة ( عفا الله عنها ) : صفة أخرى لأشياء ، أي : عن أشياء عفا الله عنها ، ولم يكلف بها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } ليس لكم فيها نفع ، { إن تُبْدَ لكم تسؤكم } أي : إن تظهر لكم وتجابوا عنها تسؤكم؛ بالأخبار بما لا يعجبكم وبما يشق عليكم ، قيل : سبب نزول الآية : كثرة سؤال الناس له صلى الله عليه وسلم من الأعراب والمنافقين والجُهال ، فكان الرجل يقول للنبي عليه الصلاة والسلام ؟ أين ناقتي؟ وآخر يقول : ماذا ألقى في سفري؟ ونحو هذا من التعنيت ، حتى صعد المنبر صلى الله عليه وسلم مغضبًا ، فقال : " لا تَسألُوني اليوم عن شيء إلا أخبرتُكُم به " فقام رجل فقال : أين أنا؟ فقال : " في النار " وقام عبَدُ الله بن حُذَافة وكان يُطعَنُ في نسبِهِ فقال : مَن أبي؟ فقال : " أبوكِ حُذافة " ، وقال آخر : من أبي؟ قال : " أبوك سَالم مولى شيبة " ، فقام عمر بن الخطاب ، فجثا على ركبتيه ، فقال : رَضِينا بالله رَبًا ، وبالإسلامِ دِينًا ، وبمُحمَّدٍ نَبِيًا نعوذ بالله من الفتن . فنزلت هذه الآية .
وقيل : سبب نزولها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : " أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " فقالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام؟ فسكت ، فأعادوا ، فقال : " لا ، لو قُلتُ : نَعَم ، لوجَبَت ، وَلَو وَجَبت لَم تُطيقوه ، ولَوَ تَركتُموه لهلكتم ، فأترُكُوني مَا تَركتُكُم " ، قال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه : إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدودًا فلا تعتدوها ، وعفا من غير نسيان عن أشياء ، فلا تبحثوا عنها .
ثم قال تعالى : { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي زمنه { تُبْدَ لكم } أي : تظهر لكم ، وفيه معنى الوعيد على السؤال ، كأنه قال : لا تسألوا ، وإن سألتم أبدى لكم ما يسؤكم . والمراد بحين ينزل القرآن : زمان الوحي . فلا تسألوا عن أشياء قد { عفا الله عنها } ولم يكلف بها أو عفا الله عما سلف من سؤالكم ، فلا تعودوا إلى مثلها ، { والله غفور حليم } لا يعاجلكم بعقوبة ما فرط منكم ويعفو عن كثير . { قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } ؛ حيث لم يأتمروا بما سألوا ، وجحدوا ، وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء؛ فإذا أُمروا بها تركوها ، فهلكوا .
(2/108)
فالكفر هنا عبارة عن ترك ما أمروا به . وقال الطبري : كقوم صالح في سؤالهم الناقة ، وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة . زاد الشلبي : وكقريش في سؤالهم أن يجعل الله الصفا ذهبًا . ه . وكسؤالهم انشقاق القمر ، وغير ذلك من تعنياتهم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : مذهب الصوفية مبني على السكوت والتسليم والصدق والتصديق ، مجلسهم مجلس حلم وعلم وسكينة ووقار ، إن تكلم كبيرهم أنصتوا ، كأن على رؤوسهم الطير ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم ، ولذلك قالوا : من قال لشيخه : ( لِمَ ) لم يفلح أبدًا . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : إذا جلست مع الكبراء فدع ما تعلم وما لا تعلم؛ لتفوز بالسر المكنون . ه .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ يَنهَاكُم عَن قِيلَ وقَالَ ، وكَثرة السُّؤالِ ، وإضَاعَة المَالِ " وقال الورتجبي في الآية تحذير المريدين عن كثرة سؤالهم في البداية عن حالات المشايخ . ه . قلت : وعلة النهي : لعله يطلع ، بكثرة البحث عن حالهم ، على أمور توجب له نفرة أو غضًّا من مرتبتهم قبل تربية يقينة ، فالصواب : السكوت عن أحوالهم ، واعتقاد الكمال فيهم ، وكذلك يجب عليه ترك السؤال عن أحوال الناس ، والغيبة عما هم فيه؛ شغلاً بهم هو متوجه إليه ، وإلا ضاع وقته ، وتشتت قلبه ، ولله در القائل :
ولَستُ بِسائِلٍ مَا دُمتُ حَيًّا ... أسَارَ الجَيشُ أم رَكِبَ الأمِيرُ؟
والله تعالى أعلم .
(2/109)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قلت : البحيرة : فعيلة بمعنى مفعولة ، من بَحَرَ ، إذا شق ، وذلك أن الناقة كانت إذا ولدت عندهم في الجاهلية عشرة أبطن ، شقوا أذنها ، وتركوها ترعى ، ولا ينتفع بها ، وأما السائبة فكان الرجل يقول : إذا قدمت من سفري ، أو برئت من مرضي ، فناقتي سائبة ، فإذا قدم أو برىء سيّبها لآلهتهم ، فلا تُحلَب ، ولا تُركب ، ولا تُمنَع من شجر ، وقد يُسَيّبُون غير الناقة ، فإذا سيّبوا العبد فلا يكون عليه ولاء لأحد ، وإن قال ذلك ، اليوم ، فحمله على العتق ، وولاؤه للمسلمين ، وفعل ذلك اليوم في الحيوان حرام ، كما يفعله جهلة النساء في الديك الأبيض؛ يحرر حتى يموت ، فإذا فعل ذلك ذبح وأكل .
وأما الوصيلة : فكانوا إذا ولدت الناقة ذكرًا وأنثى متصلين ، قالوا : وصلت الناقة أخاها ، فلم يذبحوها ، وأما الحام : فكانوا إذا نتج من الجمل عشرة أبطن ، قالوا : قد حُمي ظهرُه ، فلا يُركب ولا يُحمل عليه .
يقول الحقّ جلّ جلال : في إبطال هذه الأشياء : { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } أي : ما شرع الله شيئًا من ذلك ، ولا أمر به ، { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } بتحريم ذلك ، ونسبته إليه ، { وأكثرهم لا يعقلون } ، أي : جُلهم لا عقل لهم ، بل هم مقلدون غيرهم في تحريم ذلك ، وتقليد الآباء والرؤساء في تحريم ما أحل الله تعالى شرك؛ لأنهم نَزَّلَوا غير الله منزلته في التحريم والتحليل ، وهو كفر ، { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول } من الحلال والحرام ، { قالوا حسبنا } أي : يكفينا { ما وجدنا عليه آباءنا } ، وهذا بيان لقصور عقولهم وانهماكهم في التقليد ، قال تعالى : أيتبعونهم { ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئًا ولا يهتدون } سبيلاً .
قال البيضاوي : الواو للحال ، والهمزة دخلت عليها؛ لإنكار الفعل على هذه الحال ، أي : أحسَبُهم ما وجدوا عليه آباءهم ولو كانوا جهلة ضالين؟ والمعنى : أن الاقتداء إنما يصح لمن عُلِمَ أنه عالم مهتد ، وذلك لا يعرف إلا بالحجة ، فلا يكفي التقليد . ه .
الإشارة : قد نفى الله تعالى الخصوصية عن أربعة أنفس من أنفس المدعين ، منها : نفس دخلت بحر الحقيقة بالعلم ، وتبحرت في علمها دون الحال والذوق ، وأهملت مراسم الشريعة حتى سقطت هيبتها من قلبها ، فانسل منها الإيمان والإسلام انسلال الشعرة من العجين . ومنها نفس سائبة أهملت المجاهدة وانسابت في الغفلة ، وأخذت الولاية بالوراثة من أسلافها ، دعوى ، أو ظهرت عليها خوارق ، استدراجًا ، مع إصرارها على كبائر العيوب ، ومنها : نفس وصلت إلى الأولياء وصحبتهم ، وخرجت عنهم قبل كمال التربية ، وتصدرت للشيخوخة قبل إبانها ، ومنها : نفس حمت ظهرها من التجريد ، ووفرت جاهها مع العبيد ، وادعت كمال التوحيد وأسرار التفريد ، لمجرد مطالعة الأوراق ، من غير صحبة أهل الأذواق ، وهؤلاء بعداء من حيث يظنون القرب ، مردودون من حيث يظنون القبول ، والعياذ بالله من الدعوى وغلبة الهوى ، فإذا قيل لهؤلاء : تعالوا إلى من يعرفكم بربكم ، ويخرجكم من سجن نفوسكم ، قالوا : نتبع ما وجدنا عليه أسلافنا ، فيقال لهم : أتتبعونهم ولو كانوا جاهلين بالله؟ .
(2/110)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قلت : { عليكم } : اسم فعل ، وفاعله مستتر فيه وجوبًا ، و { أنفسكم } : مفعول به على حذف مضاف؛ أي : الزموا شأن أنفسكم . قاله الأزهري .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } : احفظوها والزموا صلاحها ، { لا يضرّكم مَن ضلّ إذا اهتديتم } أنتم ، أي : لا يضركم ضلال غيركم إذا كنتم مهتدين؛ ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَن رَأى مِنكُم مُنكَرًا ، واستطَاعَ أن يُغيِّره بَيدِه ، فَليغَيِّر ، فإنَّ لم يَستَطِع فَبِلسانِه ، فإن لم يَستَطعِ فَبقَلبِه " والآية نزلت حيث كان المؤمنون يحرصون على الكفرة ، ويتمنون إيمانهم ، وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ، فلاموه ، فنزلت .
وعن أبي ثعلبة الخشني قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } ؟ فقال : " أئتِمَرُوا بالمَعرُوِفِ ، وانهوا عن المُنكَرِ ، فإذَا رَأيتَ دُنيا مُؤثَرةٍ ، وشُحًا مُطاعًا ، وإعجَابَ كُلِّ ذِي رأي بِرأيِه ، فَعَليكَ بخويصة نَفسِك ، وَذَر عوامَهم؛ فإنّ وَراءكُم أيامًا ، العامِلُ فيها كأجرِ خَمسِينَ مِنكُم " .
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه بلغه أن بعض الناس تأول الآية على أنه لا يلزم معها أمر ولا نهي ، فصعد المنبر ، فقال : ( يا أيها الناس : لا تغتروا بقول الله تعالى : { عليكم أنفسكم } فيقول أحدكم : عليّ نفسي ، والله لتأمُرن بالمعروف ، ولتنهَوُنَّ عن المنكر أو ليستعملن عليكم شرارَكم فليسُومُنكم سوء العذاب ) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( ليس هذا بزمان هذه الآية ، قولوا الحق ما قُبِلَ منكم ، فإذا رُدّ عليكم فعليكم أنفسكم ) .
قال ابن عطية : وجملة ما عليه أهل العلم في هذا : أن الأمر بالمعروف متعين متى رجى القبول ، أو رجى رد المظالم ، ولو بعُنف ، ما لم يخف الآمِرُ ضررًا يلحقه في خاصته ، أو فتنة يدخلها عن المسلمين ، إما بشق عصًا ، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس ، فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم ، حُكمٌ واجب أن يوقف عنده . ه .
ثم هدد مَن لم ينته ، فقال : { إلى الله مرجعكم جميعًا فَيُنَبِّئُكم بما كنتم تعملون } وفيه تنبيه على أن أحدًا لا يؤاخذ بذنب غيره ، وتسليةٌ عن أمور الدنيا؛ مكروهها ومحبوبها ، بذكر الحشر وما بعده ، وعن بعض الصالحين أنه قال : ما من يوم إلا يجيئني الشيطان فيقول : ما تأكل؟ وما تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له : آكل الموت ، وألبس الكفن ، وأسكن القبور . ه .
الإشارة : في الآية إغراء وتحضيض على الاعتناء بإصلاح النفوس وتطهيرها من الرذائل ، وتحليتها بالفضائل ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } عليكم بإصلاح أنفسكم أولاً ، فإذا صلحت فأصلحوا غيركم ، فعلى العبد أن يشتغل بشأن نفسه ولا يلتفت إلى غيره ، حتى إذا كمل تطهيرُها ، وفرغ من تأديبها ، فإن أمره الحق جل جلاله بإصلاح غيره على لسان شيخ كامل ، أو هاتف حقيقي ، فليتقدم لذلك ، فإنه حينئٍذ محمول محفوظ مأذون ، وإلا فعليه بخاصة نفسه ، كما تقدم . والله تعالى أعلم .
(2/111)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
قلت : { شهادة } : مبتدأ ، وخبره : { اثنان } ، أي : مقيم شهادة بينكم اثنان ، أو حذف الخبر ، أي : أمرتكم شهادة بينكم ، و { اثنان } على هذا : فاعل شهادة ، و { إذا } : ظرف لشهادة ، و { حين الوصية } : بدل منه ، ويجوز أن يكون { إذا } : شرطية حذف جوابها ، أي : إذا حضر الموت فينبغي أن يشهد حين الوصية اثنان ، و { ذوا عدل } : صفة لاثنان ، أو { آخران } : عطف على { اثنان } ، { إن أنتم } : شرط حذف جوابه ، دل عليه ما تقدم ، أي : إن سافرتم ، فأصابتكم مصيبة الموت في السفر ، فشهادة بينكم اثنان .
و { تحبسونهما } : قال أبو علي الفارسي : هو صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف قوله : { إن أنتم } إلى قوله : { الموت } ، ليفيدا العد ، { آخران } من غير الملة ، إنما يجوز لضرورة الضرب في الأرض وحلول الموت في السفر . وقال الزمخشري : هو استئناف كلام ، { إن ارتبتم } : شرطية ، وجوابها محذوف ، دلّ عليه { يقسمان } ، و { لا نشتري } هو المقسم عليه ، وجملة الشرط معترضة بين القسم والمقسم عليه ، والتقدير : إن ارتبتم في صدقهما فأقسما بالله لا نشتري به ، أي : بالقسم ، ثمنًا قليلاً من الدنيا ، و { الأوليان } : خبر ، فيمن قرأ بالبناء للمفعول ، أو فاعل ، فيمن قرأ بالبناء للفاعل ، ومن قرأ { الأولين } تثنية أول فبدل من الذين ، أو صفة له . قال مكّي : ( هذه الآية أشكل آية في القرآن؛ إعرابًا ومعنى ) .
وسبب نزولها : أن تميمًا الدَّاريَّ وعَدي بن بداء وكانا أخوين ، خرجا إلى الشام للتجارة وهما حينئٍذ نَصرانيّان ومعهما بُدَيلٌ مولَى عمرو بن العاصَ ، وكان مُسلمًا ، فلمّا قَدِما الشام مَرِضَ بُديلٌ ، فدون ما مَعَه في صَحيفةٍ ، وطرحها في متَاعه ، وشدّ عليها ، ولم يُخبرهُما بها ، وأوصى إليهمَا بان يَدفعا مَتَاعَه إلى أهلِه ، ومات ، ففتّشاه ، وأخذا منه إنَاءً من فِضّة ، قيمته : ثلاثُمائة مثقالٍ ، مَنقُوشًا بالذَهبِ ، فجنّباه ودفَعَا المتَاعَ إلى أهلِهِ ، فأصَابُوا الصَّحِيفَةَ ، فطَالبُوهُمَا بِالإناء ، فجَحَدا ، فترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } إلى قوله : { من الآثمين } فحلّفَهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد صلاة العصر ، عند المنبر ، وخلا سبيلهما . ثم عثر بعد مدة على الإناء بمكة ، فقيل لمن وجد عنده : من أين لك هذا؟ قال : اشتريته من تميم الداري وعديّ بن بداء ، فرفع بنو سهم الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما } ، فقام عمرو بن العاصَ والمطلب بن أبي وَداعة السهميان ، فحلفا واستحقا الإناء .
ومعنى الآية : يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } ، مما نأمركم به : أن تقع { شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت } ، وأراد الوصية فيحضر عدلان منكم ، فإن كنتم في سفر وتعذر العدلان منكم ، فليشهد { آخران من غيركم } ممن ليس على دينكم ، ثم إن وقع ارتياب في شهادتهما ، { تحبسونهما } بعد صلاة العصر { فيقسمان بالله } ما كتمنا ، ولا خُنَّا ، ولا نشتري بالقسم أو بالله عرضًا قليلاً من الدنيا ، ولو كان المحلوف له قريبًا منا ، { ولا نكتم شهادة الله } { إنّا إذًا } ، إن كتمنا ، { لمن الآثمين } .
(2/112)
فإذا حلفا خلّي سبيلهما ، { فإن عُثر } بعد ذلك { على } كذبهما و { أنهما استحقا إثمًا } بسبب كذبهما ، { فآخران } من رهط الميت { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } المال المسروق ، اللذان هم { الأوليان } أي : الأحقان بالشهادة ، { فيُقسمان بالله } فيقولان : والله { لشهادتنا أحق من شهادتهما } ، وأصدق ، وأولى بأن تقبل ، { وما اعتدينا } : وما تجاوزنا فيها الحق ، { إنا إذًا لمن الظالمين } ، فإن حلفا غرم الشاهدان ما ظهر عليهما ، وتحليف الشهود منسوخ ، وهذا الحكم خاص بهذه القضية .
قال البيضاوي : الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين ، فإنه لا يحلف الشاهد ، ولا تُعارِضُ يمينه يمينَ الوارث ، وثابت إن كانا وصيين . ه . وكذا شهادة غير أهل الملة منسوخة أيضًا ، واعتبار صلاة العصر للتغليظ ، وتخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة لخصوص الواقعة . قاله السيوطي .
قال تعالى : { ذلك } أي : تحليف الشهود ، { أدنى } أي : أقرب { أن يأتوا بالشهادة على وجهها } كما تحملوها من غير تحريف ولا خيانة فيها ، { أو يخافوا أن تُرَدّ أيمَانٌ بعد أيمانهم } أي : أو أقرب لأن يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم ، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة ، وإنما جمع الضمير ، لأنه حكم يعم الشهود كلهم ، { واتقوا الله واسمعوا } ما تُوصون به ، فإن لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قومًا فاسقين ، { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي : لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة .
الإشارة : أمر الحقّ جلّ جلاله في الآية المتقدمة ، بالاعتناء بشأن الأنفس ، بتزكيتها وتحليتها؛ وأمر في هذه الآية بالاعتناء بشأن الأموال؛ بحفظها ، والأمر بالإيصاء عليها ودفعها لمستحقها؛ إذا كلاهما يقربان إلى رضوان الله ، ويوصلان إلى حضرته ، وقد كان في الصحابة من قربه ماله ، وفيهم من قربه فقره ، وكذلك الأولياء ، منهم من نال الولاية من جهة المال أنفقه على شيخه فوصله من حينه ، ومنهم من نال من جهة فقره أنفق نفسه في خدمة شيخه ، وقد رُوِيَ أن سيدي يوسف الفاسي أنفق على شيخه قناطير من المال ، قيل : أربعين ، وقيل : أقل . والله تعالى أعلم .
(2/113)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قلت : { يوم } : بدل من { الله } ، بدل اشتمال ، أي : اتقوا يوم الجمع ، أو ظرف لاذكُر ، و { ماذا } : منصوب على المصدر ، أي : أيّ إجابة أُجبتم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { يوم يجمع الله الرسل } والأمم يوم القيامة { فيقول } للرسل : { ماذا أُجبتم } ؟ أي : ما الذي أجابكم به قومكم ، هل هو كفر أو إيمان ، طاعة أو عصيان؟ والمراد بهذا السؤال توبيخ من كفر من الأمم ، وإقامة الحجة عليهم ، فيقولون له في الجواب : { لا علم لنا } مع علمك ، تأدبوا فوكلوا العلم إليه ، أو علمنا ساقط في جنب علمك؛ { إنك أنت علاّم الغيوب } ؛ لأن من علم الخفيات لا تخفي عليه الظواهر والبواطن ، وقرىء بنصب علام ، على أن الكلام قد تم بقوله : { إنك أنت } أي : إنك الموصوف بصفاتك المعروفة ، وعلام نصب على الاختصاص أو النداء . قاله البيضاوي .
الإشارة : من حجة الله على عباده ، أن بعث في كل أمة نذيرًا يدعوا إلى الله ، أما عارفًا يعرف بالله ، أو عالمًا يعلم أحكام الله ، ثم يجمعهم يوم القيامة فيسألهم : ماذا أجيبوا ، وهل قوبلوا بالتصديق والإقرار ، أو قوبلوا بالتكذيب والإنكار؟ فتقوم الحجة على العوام بالعلماء ، وعلى الخواص بالعارفين الكُبراء ، أهل التربية النبوية ، فلا ينجو من العتاب إلا من ارتفع عنه الحجاب ، بصحبة العارفين وتعظيمهم وخدمتهم ، إذ لا يتخلص من العيوب إلا من صحبهم وأحبهم وملّك نفسه إليهم . والله تعالى أعلم .
(2/114)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
قلت : { إذ } : بدل من { يوم يجمع } ، أو باذكر ، وجملة { تكلم } : حال من مفعول { أيدتك } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ } يقول الحق جل وعز يوم القيامة : { يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } بالنبوة والرسالة ، وعلى أمك بالاصطفائية والصديقية ، وذلك حين { أيدتك } أي : قويتك { بروح القدس } ، وهو جبريل عليه السلام كان لا يفارقك في سفر ولا حضر ، أو بالكلام الذي تحيا به الأنفس والأرواح ، الحياة الأبدية . كنت { تكلم الناس في المهد } أي : كائنًا في المهد { وكهلاً } أي : تكلم في الطفولة والكهولة بكلام يكون سببًا في حياة القلوب ، وبه استدل أنه ينزل ، لأنه رفع قبل أن يكتهل ، { و } اذكر { إذ علّمتك الكتاب } أي : الكتابة ، { والحكمة } : النبوة { والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرىء الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } وتقدم تفسيرها في آل عمران .
وكرر { بإذني } مع كل معجزة؛ إبطالاً لدعو الربوبية فيه ، إذ قد عزله عن قدرته ومشيئته مع كل معجزة . قال ابن جزي : الضمير المؤنث يعنيي في " فيها " يعود على الكاف ، لأنها صفة الهيئة ، وكذلك المذكور في آل عمران . { فأنفخ فيه } يعود على الكاف ، لأنها بمعنى مثل ، وإن شئت قلت : هو في الموضعين يعود على الموصوف المحذوف الذي وصف به كهيئة ، فتقديره في التأنيث : صورة ، وفي التذكير : شخصًا ، أو خلقًا وشبه ذلك . ه .
{ و } اذكر أيضًا { إذ كففت بني إسرائيل عنك } حين هموا بقتلك ، { إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي : ما هذا الذي جئتنا به إلا سحرًا ، أو : قالوا في شأنك حين جئتهم : ما هذا إلا ساحر مبين ، { و } اذكر أيضًا { إذ أوحيت إلى الحواريين } أي : ألهمتهم ، أو أمرتهم بأن { آمنوا بي وبرسولي } عيسى ، فامتثلوا ، { وقالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } أي : منقادون ومخلصون .
الإشارة : قال الورتجبي : من تمام نعمة الله تعالى عليه صيرورة جسمه بنعت روحه في المهد على شبابه بالقوة الإلهية ، بأن نطق بوصف تنزيه الله وقدسه وجلاله ، وربويته وفناء العبودية فيه ، وبقيت تلك القدرة فيه إلى كهولته ، حتى عرّف عباد الله تنزيه الله وقدس صفات الله وحسن جلال الله ، وهذا معنى قوله تعالى : { تُكلم الناس في المهد وكهلاً } ، وزاد في وصفه بقوله : { وإذ علمتك الكتاب } ، تجلى بقدرته بيده حتى يخط بغير تعلم . ه . فانظره ، مع ما ورد في التاريخ أنه كان يذهب مع الصبيان للمكتب .
(2/115)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قلت : { يا عيسى ابن مريم } : ابن هنا بدل ، ولذلك كتب بالألف ، و { أن ينزل } : مفعول { يستطيع } ، ومن قرأ بالخطاب ، فمفعول بالمصدر المقدر ، أي : سؤال ربك إنزال مائدة ، و { لأولنا وآخرنا } : بدل كل ، من ضمير { لنا } ، لإفادته الإحاطة والشمول كالتوكيد ، و ( ذلك ) : شرط إبدال الظاهر من ضمير الحاضر ، وأعيدت اللام مع البدل للفصل ، وضمير { لا أعذبه } : نائب عن المصدر ، أي : لا أعذب ذلك التعذيب أحدًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء } أي : هل يطيعك ربك في هذا الأمر ، أم لا؟ فالاستفهام عن الإسعاف في القدرة ، فهو كقول بعض الصحابة لعبد الله بن زيد : هل تستطيع أن ترينا كيف كان يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ مع جزمهم بأن عبدالله كان قادرًا على تعليمهم الوضوء . فالحواريون جازمون بأن الله تعالى قادر على إنزال المائدة ، لكنهم شكوا في إسعافه على ذلك .
قال ابن عباس : كان الحواريون أعلم بالله من أن يشكو أن الله تعالى يقدر على ذلك ، وإنما معناه ، هل يستطيع لك؛ أي : هل يطيعك ، ومثله عن عائشة ، وقد أثنى الله تعالى على الحواريين ، في مواضع من كتابه ، فدل أنهم مؤمنون كاملون في الإيمان .
قال لهم عيسى عليه السلام : { اتقوا الله } من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات ، { إن كنتم مؤمنين } بكمال قدرته وصحة نبوتي ، فإنّ كمال الإيمان يوجب الحياء من طلب المعجزة ، { قالوا نريد أن نأكل منها } أكلاً نتشرف به بين الناس ، وليس مرادهم شهوة البطن ، { وتطمئن قلوبنا } بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال ، أي : نعاين الآية ضرورة ومُشاهدة ، فلا تعرض لنا الشكوك التي في الاستدلال ، { ونعلم أن قد صدقتنا } علمًا ضروريًا لا يختلجه وهم ولا شك ، { ونكون عليها من الشاهدين } أي : نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ، أو من الشاهدين للعين ، دون السامعين للخبر ، وليس الخبر كالعيان ، والحاصل : أنهم أرادوا الترقي إلى عين اليقين ، دون الأكتفاء بعلم اليقين .
{ قال عيسى ابن مريم } مسعفًا لهم لما رأى لهم غرضًا صحيحًا في ذلك ، رُوِي أنه لبس جُبَّةَ شعر ، وقام يصلي ويدعو ويبكي ، وقال : { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا } أي : لمتقدمنا ومتأخرنا ، يعود علينا وقت نزولها كل عام بالفرح والسرور ، فنتخذه عيدًا نحن ومن يأتي بعدنا ، { و } يكون نزولها { آية منك } على كمال قدرتك وصحة نبوتي ، { وارزقنا } المائدة والشكر عليها ، { وأنت خير الرازقين } أي : خير من يرزق؛ لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض ، ونسبة الرزق إلى غيره مجاز . { قال الله إني منزلها عليكم } كما طلبتم ، { فمن يكفر بعدُ منكم فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين } أي : من عالمي زمانهم ، أو مطلقًا .
(2/116)
قال ابن عمر : ( أشد الناس عذابًا يوم القيامة : من كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون ، والمنافقون ) . رُوِي أنها نزلت سُفرة حمراء بين غمامتين ، وهم ينظرون إليها ، حتى سقطت بين أيديهم ، فبكى عيسى وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ، ولا تجعلها مثلة وعقوبة ، ثم قام وتوضأ وصلى وبكى ، ثم كشف المنديل ، وقال : بسم الله خير الرازقين ، فإذا سمكة مشوية ، تسيل دسمًا وعند ذنبها خل ، وحولها من أنواع البقول ما خلا الكراث ، وخمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد ، قال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ، ولكنه اخترعه الله بقدرته ، كلوا ما سألتم ، واشكروا الله يمدُدكم ويزدكم من فضله ، فقالوا : يا روح الله ، لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى ، فقال : يا سمكة : احيَى بإذن الله ، فاضطربت ، ثم قال لها : عودي ، فعادت كما كانت ، فعادت مشوية ، ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا .
وقيل : كانت تأتيهم أربعين يومًا ، غِبًّا ، يجتمع عليها الفقراء والأغنياء والصغار والكبار ، يأكلون ، فإذا فرغوا ، طارت وهم ينظرون في ظلها ، ولم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره ، ولا مريض إلا برىء ولم يمرض أبدًا ، ثم أوحى الله إلى عيسى : أن اجعل مائدتي في الفقراء والمرضى دون الأغنياء والأصحاء ، فاضطرب الناس ، فمسخ منهم ثلاثة وثمانون . وقيل : لما وعد الله إنزالها بهذه الشريطة ، استغفروا وقالوا : لا نريد ، فلم تنزل . قلت : المشهور أنها نزلت ، ويحكى أن أرجلها باقية بجزيرة الأندلس . والله تعالى أعلم .
الإشارة : في سؤال الحواريين لسيدنا عيسى عليه السلام قلة آدب من وجهين : أحدهما : خطابه بقوله : { يا عيسى ابن مريم } ؛ وقد كانت هذه الأمة المحمدية تخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، يا نبي الله ، لكمال أدبها ، وبذلك شرفت وعظم قدرها ، فالأدب عند الصوفية ركن عظيم ، بل هو روح التصوف وقطب دائرته ، قال بعضهم : ( اجعل عملك ملحًا ، وأدبك دقيقًا ) ، والكلام فيه عندهم طويل شهير .
والوجه الثاني : ما في قولهم : { هل يستطيع ربك } من بشاعة التعبير ، وسوء اللفظ ، حتى اتهموا بالكفر من أجله ، وقد تقدم تأويله ، وأما سؤالهم المائدة ، فقال بعض الصوفية : هي عبارة عن المعارف والأسرار الربانية التي هي قوت الأرواح السماوية ، فقوت الأشباح الأرضية ما يخرج من الأرض من الأقوات الحسية ، وقوت الأرواح السماوية ما ينزل من السماء من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، ينزل على قلوب العارفين ، ثم يبرز منها إلى قلوب عائلة المستمعين ، ولما طلبوها قبل إبانها وقبل الاستعداد لها ، قال لهم : { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، فلما ألحوا في السؤال ، بيَّن الحق لهم أن إنزالها سهل على قدرته ، لكن فيه خطر وسوء عاقبة ، لأن الحقائق قد تضر بالمريد إذا لم يكمل أدبه واستعداده ، فلما بينوا مرادهم من كمال الطمأنينة واليقين؛ دعا الله تعالى فوعدهم بالإنزال مع دوام الإيمان وكما الإيقان ، فمن كفر بها ، ولم يعرف قدرها ، عذب بعذاب لم يعذبه أحد من العالمين ، وهو الطرد والبعد من ساحة حضرة رب العالمين . والله تعالى أعلم .
(2/117)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قلت : { من دون الله } : صفة لإلهين ، أو صلة { اتخذوني } ، و { أن أعبدوا } : تفسيرية للمأمور به ، أو بدل من ضمير به ، وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقًا؛ لئلا يلزم منه بقاء الموصول بلا راجع ، أو عطف بيان له ، أو خبر عن مضمر ، أي : هو ، أو معفول به ، أي : أعني ، ولا يجوز إبداله من { ما } ؛ لأن المصدر لا يكون مفعولاً للقول؛ لأنه مفرد ، والقول لا يعمل إلا في الجمل أو ما في معناه .
{ يوم ينفع } ؛ من نصب جعله ظرفًا لقال ، أو ظرف ، مستقر خبرِ { هذا } والمعنى : هذا الذي مَرّ من كلام عيسى ، واقع يوم ينفع ، الخ ، وأجاز ابن مالك أن يكون مبنيًّا ، قال في ألفيته :
وقَبل فَعل مُعَرب أو مُبتَدا ... أعرِب ، ومَن بَنَا فَلَن يُفَنَّدَا
ومَن رفع ، فخبر ، وهو ظرف متصرف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : واذكر { إذ قال الله يا عيسى } بعد رفعه إلى السماء ، أو يقول له يوم القيامة ، وهو الصحيح ، بدليل قوله : { قال الله هذا } الخ ، فإن اليوم الذي { ينفع الصادقين صدقهم } هو يوم القيامة ، فيقول له حينئذٍ : { أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } يريد به توبيخ الكفار الذين عبدوه وتبكيتهم ، وفيه تنبيه على أن من عبد مع الله غيره فكأنه لم يعبد الله قط ، إذ لا عبرة بعبادة من أشرك معه غيره .
{ قال } عيسى عليه السلام مبرءًا نفسه من ذلك وقد أرعد من الهيبة : { سبحانك } أي : تنزيهًا لك من أن يكون لك شريك ، { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق } أي : ما ينبغي لي أن أقول ما لا يجوز لي أن أقوله ، { إن كنتُ قُلتُه فقد علمته } ، وكَلَ العلم إلى الله لتظهر براءته ، لأن الله علم أنه لم يقل ذلك ، { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي : تعلم ما أخفيته في نفسي ، كما تعلم ما أعلنته ، ولا أعلم ما تخفيه ، من معلوماتك ، سلك في اللفظ مسلك المشاكلة ، فعبّر بالنفس عن الذات . { إنك أنت علاّم الغيوب } لا يخفى عليك شيء من الأقوال والأفعال .
{ ما قُلتُ لهم إلا ما أمرتني به } وهو عبادة الله وحده ، فقلت لهم : { اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدًا } أي : رقيبًا عليهم ، أمنعهم أن يقولوا ذلك أو يعتقدوه . { ما دمتُ فيهم فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء ، أي : توفيت أجلي من الأرض . والتوفي أخذ الشيء وافيًا ، فلما رفعتني إلى السماء { كنت أنت الرقيب عليهم } أي : المراقب لأحوالهم { وأنت على كل شيء شهيد } : مطّلع عليه مراقب له .
{ إن تعذبهم فأنهم عبادك } وأنت مالك لهم ، ولا اعتراض على المالك في ملكه ، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا العذاب ، أي : لأنهم عبادة وقد عبدوا غيرك ، { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } ، فلا عجز ولا استقباح ، فإنك القادر والقوي على الثواب والعقاب بلا سبب ، ولا تُعاقب إلا عن حكمة وصواب ، فإن عذبت فعدل ، وإن غفرت ففضل ، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد ، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بإن .
(2/118)
قاله البيضاوي .
وقال ابن جزي : فيه سؤالان : الأول : كيف قال : { وإن تغفر لهم } وهم كفار ، والكفار لا يغفر لهم؟ فالجواب : أن المعنى تسليم الأمر إلى الله ، وإنه إن عذب أو غفر فلا اعتراض عليه؛ لأن الخلق عباده ، والمالك يفعل ما يشاء ، ولا يلزم من هذا وقوع المغفرة للكفار ، وإنما يقتضي جوازها في حكمة الله وعزته ، وفَرقٌ بين الجواز والوقوع ، وأما على قول من قال : إن هذا الخطاب وقع لعيسى عليه السلام حين رفعه الله إلى السماء فلا إشكال ، لأن المعنى : إن لم تغفر بهم التوبة ، وكانوا حينئذٍ أحياء ، وكل حيّ مُعرض للتوبة .
السؤال الثاني : ما مناسبة قوله : { العزيز الحكيم } لقوله : { وإن تغفر لهم } ، والأليق إن قال : فإنك أنت الغفور الرحيم؟ فالجواب : أنه لما قصد التسليم له والتعظيم ، كان قوله : { فإنك أنت العزيز الحكيم } أليق ، فإن الحكمة تقتضي التسليم ، والعزة تقتضي التعظيم ، فإن العزيز هو الذي يفعل ما يريد ، ولا يغلبه غيره ، ولا يمتنع عليه شيء أراده ، فاقتضى الكلام تفويض الأمر إلى الله في المغفرة لهم أو عدمها؛ لأنه قادر على كلا الأمرين لعزته ، وأيهما فعل فهو جميل لحكمته . وقال أبو جعفر بن الزبير : إنما لم يقل الغفور الرحيم؛ لئلا يكون شفيعًا لهم بطلب المغفرة ، فاقتصر على التسليم والتفويض ، دون الطلب ، إذ لا نصيب في المغفرة للكفار . انظر بقية كلامه .
قال التفتازاني : ذكر المغفرة ، يوُهم أن الفاصلة : { الغفور الرحيم } ، لكن يُعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه ، وهو العزيز ، أي : الغالب ، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس؛ لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة . ه .
قال الله تعالى : { هذا } أي : يوم القيامة { يوم ينفع الصادقين صدقهم } أي : هنا ينتفع الصادقون في الدنيا بصدقهم ، ويفتضح الكاذبون على الله بكذبهم . والمراد بالصادقين؛ أهل التوحيد ، الذين نزهوا الله تعالى عما لا يليق بجلاله وجماله ، فصدقوا فيما وصفوا به ربهم .
ثم ذكر ما وعدهم به ، فقال : { لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه } حيث رضوا بأحكامه القهرية والتكليفية ، { ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير } ، وهذا تنبيه على تكذيب النصارى ، وفساد دعواهم في المسيح وأمه ، وإنما لم يقل : ومن فيهن ، تغليبًا لغير العقلاء ، وإنما غلبَ غير أولى العقل للإعلام بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية ، وإهانة لهم وتنبيهًا على أنهم جنس واحد ، فمن يعقل منهم لقصور عقله ونظره كمن لا يعقل ، فيبعد استحقاقهم للألوهية التي تنبىء عن تمام الحكمة وإحاطة العلم .
(2/119)
والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من صَدّر نفسه للشيخوخة من غير إذن ، وأشار إلى تعظيمه بلسان الحال أو المقال يَلحَقُهُ العتاب يوم القيامة فيقال له : أأنت قلت للناس عظموني من دون الله؟ فإن كان مقصوده بالأمر بالتعظيم الوصول إلى تعظيم الحق تعالى ، والأدب معه في الحضرة دون الوقوف مع الواسطة ، وبذل جهده في توصيل المريدين إلى هذا المقام ، يقول : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ، إلى تمام ما قال السيد عيسى عليه السلام ، فيقال له : { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } . وإن كان مقصوده بالتصدّر للتعظيم والآمر به ، حظ نفسه ، وفَرَح بتربية جاهه والإقبال عليه ، افتضح وأُهين بما افتضح به الكاذبون المدعون . نسأل الله تعالى الحفظ والرعاية بمنِّه وكرمه ، وسيدنا محمد رسوله ونبيّه صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وصحبه وسلم .
(2/120)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قلت : { ثم الذين كفروا } : عطف على جملة الحمد؛ على معنى : أن الله حقيق بالحمد على ما خلقه ، نعمةً على العباد ، ثم الذين كفروا بربهم الذي ربَّاهم بهذه النعم ، يَعدِلون به سواه من الأصنام ، يقال : عدَلت فلانًا بفلان؛ جعلته نظيره ، أو عطف على " خلَق وجعل " : على معنى أنه خلق وقدّر ما لا يقدر عليه غيره ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء . ومعنى { ثم } : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان . والباء في " بربهم " متعلقة بكفروا ، على الأول ، وبيعدلون على الثاني ، قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الحمد لله } أي : جميع المحامد إنما يستحقها الله ، إذ ما بكم من نعمة فمن الله . { الذي خلق السماوات } التي تُظِلُّكم ، مشتملة على الأنوار التي تضيء عليكم ، ومحلاً لنزول الرحمات والأمطار عليكم ، { و } خلق { الأرض } التي تُقلُّكم ، وفيها نبات معاشكم في العادة ، وفيها قراركم في حياتكم وبعد مماتكم ، مشتملة على بحار وأنهار ، وفواكه وثمار ، وبهجة أزهار ونِوار ، { وجعل الظلمات } التي تستركم ، راحة لأبدانكم وقلوبكم ، كظلمات الليل الذي هو محل السكون . { و } جعل { النور } الذي فيه معاشكم وقوام أبدانكم وأنعامكم . { ثم الذين كفروا } بعد هذا كله ، { يعدلون } عنه إلى غيره ، أو يعدلون به سواه ، فيُسوَونه في العبادة معه .
قال البيضاوي : وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن؛ لأن طبقاتها مختلفة بالذات ، متفاوتة الآثار والحركات ، وقدَّمها؛ لشرفها وعلو مكانها . ثم قال أيضًا : وجمع الظلمات؛ لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة : الضلال ، وبالنور : الهُدى . والهدى واحد والضلال متعدد . وتقديمها لتقدم الإعدام على المَلَكَهِ . ومن زعم أن الظلمة عرَضٌ يُضاد النور احتج بهذه الآية ، ولم يعلم أن عدم الملكَة كالعمي ليس صِرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل . ه .
الإشارة : أثنى الحقّ جلّ جلاله على نفسه بإنشاء هذه العوالم ، التي هي محل ظهور عظمته وجلاله وجماله وبهائه . فأنشأ سموات الأرواح ، التي هي مظهر لشروق أنوار ذاته وصفاته ، ومحل لظهور عظمة ربوبيته ، وأنشأ أرض النفوس ، التي هي مظهر لتصرف أقداره ، ومحل لظهور آداب عبوديته ، وتجلى بين الضدين؛ بين الظلمات والنور ، ليقع الخفاء في الظهور ، كما قال بعض الشعراء :
. . . . . . . . . . . . . . . . لقد ... تكامَلَت الأضدادُ في كاملِ البهَا
ثم بعدها هذا الظهور التام ، عدل عن معرفته جلُ الأنام ، إلا من سبقت له العناية من المِلك العلام ، وبالله التوفيق .
(2/121)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قلت : { أجل } : مبتدأ . و { مُسَمى } : صفته . و { عنده } : خبر ، وتخصيصه بالصفة أغنَى عن تقديم الخبر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { هو الذي خلقكم من طين } أي : ابتدأ خلقكم منه ، وهو آدم ، لأنه المادة الأولى ، وهو أصل البشر . { ثم قضى أجلاً } تنتهون في حياتكم إليه . وهو الموت . { وأجل مسمى } مُعيَّن للبعث ، لا يقبل التغيير ، ولا يتقدم ولا يتأخر ، ( عن ) استأثر بعلمه ، لا مدخل لغيره فيه بعلم ولا قدرة ، وهو المقصود بالبيان ، { ثم أنتم تمترون } أي : تشكُّون في هذا الأجل المسمى الذي هو البعث .
و { ثم } : لاستبعاد امترائهم بعد ما ثبت عنه أنه خالقهم ، وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم ، فإن مَن قدر على خلق المواد وجمعها ، وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما شاء ، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيًا . قاله البيضاوي .
الإشارة : القوالب من الطين ، والأرواح من نور رب العالمين ، فالطينية ظرف لنور الربوبية ، الذي هو الروح؛ لأن الروح نور من أنوار القدس ، وسر من أسرار الله ، فمن نظَّف طينته ولطَّفها ظهرت عليها أسرار الربوبية والعلوم اللدنية ، وكُشف للروح عن أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، وانخنَست الطينية ، واستولت عليها الروح النورانية ، ومن لطّخ طينته بالمعاصي وكثّفها باتباع الشهوات ، انحجبت الأنوار واستترت ، واستولت الطينية الظُلمانية على الروح النُورانية ، وحجبتها عن العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بحكمته تعالى وعدله وظهور قهره . وبالله التوفيق .
(2/122)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قلت : { هو } : مبتدأ ، و { الله } : خبره . و { في السماوات } : خبر ثاني ، أي : وهو الله كائن أو موجود في السماوات وفي الأرض بنوره وعلمه . قال تعالى : { اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ النور : 35 ] . و { يعلم سركم وجهركم } : تقرير له .
يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا الذي اختص بالحمد وأبدع الكائنات كلها { هو الله } ظاهر { في السماوات وفي الأرض } بنوره وقدرته وعلمه وإحاطته ، فلا شريك معه { يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون } من خير أو شر ، فيثيب عليه ويعاقب ، ولعله أراد بالسر والجهر ما يظهر من أموال النفس ، وبالمكتسب أعمال الجوارح . فالآية الأولى دليل القدرة التي ختم بها السورة ، والآية الثانية دليل البعث ، والآية الثالثة دليل الوَحدة .
الإشارة : قال بعض العارفين : الحق تعالى مُنزَّه عن الأّين والجهة ، والكيف ، والمادة ، والصورة ، ومع ذلك لا يخلو منه أين ، ولا مكان ، ولا كم ، ولا كيف ، ولا جسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، لأنه للطفه سار في كل شيء ، ولنوريته ظاهر في كل شيء ، ولإطلاقه وإحاطته متكيف بكل كيف ، غير متقيد بذلك ، فمن لم يعرف هذا ولم يذقه ولم يشهده ، فهو أعمى البصيرة ، محروم من مشاهدة الحق تعالى . ولابن وفا :
هُوَ الحَقُّ المُحُيطُ بِكُلِّ شيءٍ ... هُوَ الرحمَنُ ذُو العَرشِ المَجيدِ
هَوَ المَشهُودُ في الأشهَادِ يَبدُو ... فَيُخفِيه الشهُودُ عَن الشِّهِيدِ
هَوَ العَينُ العيَانُ لِكُلِّ غَيبٍ ... هُوَ المَقصُودُ مِن بَيتِ القَصِيدِ
جَميعُ العَالِمَينَ له ظِلالٌ ... سُجُودٌ في القَريبِ وَفي البَعِيدِ
وَهَذا القَدرُ في التَّحقِيقِ كافٍ ... فَكُفَّ النَّفسَ عَن طَلَبِ المَزيدِ
(2/123)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
قلت : { مِن } الأولى : مزيدة للاستغراق ، والثانية للبتعيض .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما تأتيهم من آية } دالّة على توحيد الله وكمال صفاته ، إلا أعرَضوا عنها ، أي : الكفار ، أو : ما تأتيهم معجزة من المعجزات الدالة على قدرة الله وصدق رسوله ، أو : ما تأتيهم آية من آيات القرآن تدل على وحدانية وكمال ذاته ، { إلا كانوا عنها مُعرِضين } ؛ تاركين للنظر فيها ، غير ملتفتين إليها .
{ فقد كذبوا بالحق } وهو القرآن { لمَّا جاءهم } ، وهو كالدليل لِما قبله ، لأنهم لمّا كذبوا بالقرآن وهو أعظم الآيات فكيف لا يُعرضون عن غيره من الآيات؟ ثم هدَّدهم بقوله : { فسوف يأتيهم أنباء } أي : أخبار { ما كانوا به يستهزئون } أي : سيظهر لهم ، عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة ، ما كانوا يستهزئون به من البعث والحساب ، أو عند ظهور الإسلام وارتفاعه .
الإشارة : مَن سبق له الخُذلان لا تنفعه الأدلة وتواتُر البرهان ، ولا تزيده ظهور المعجزات أو الكرامات إلا التحاسد وظهور العداوات ، ولا يزيده الدعاء إلى الله والتناد ، إلاَّ الإعراض عنه والبعاد ، نعوذ بالله من الشقاء وسوء القضاء .
(2/124)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قلت : { كم } : خبرية ، مفعول { أهلكنا } ، أي : كثيرًا أهلكنا من القرون ، والقرن؛ مدة من الزمان تهلك أشياخُها وتقوم أطفالُها ، واخُتلف في حدِّها ، قيل : مائة ، وقيل : سبعون ، وقيل : ثمانون ، وقيل القرن : أهل زمان فيه نبي أو فائق في العلم ، قلَّت المدةُ أو كثُرَت ، مشتق من قرين الرجل . والمطر المِدرار هو الغزير ، وهي من أمثلة المبالغة ، كمِذكار وميناث .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ألم يروا } ببصائرهم رؤيةَ اعتبار ، { كم أهلكنا من قبلهم } من أهل عصر { مكنّاهم في الأرض } أي : جعلناهم متمكّنين فيها بالقرار والسُّكنَى والطمأنينة فيها ، أو أعطيناهم من القوة والآلات ما تمكَّنُوا بها من أنواع التصرف فيها؛ فقد { مكّناهم ما لم نمكّن لكم } يا أهل مكة ، فقد جعلنا لهم من السعة وطول المقام ما لم نجعله لكم ، أو أعطيناهم من القوة والسَّعة في المال والاستظهار على الناس بالعُدَّة والعدَد وتَهَيُّؤ الأسباب ما لم نجعله لكم .
{ وأرسلنا السماء } أي : المطر أو السحاب { عليهم مِدرَارًا } أي : مِعزارًا على قدر المنفعة بحسب الحاجة ، { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي : أجرينا الأودية من تحت ديارهم وأراضيهم ، فعاشوا في الخصب والريف ، بين الأنهار والثمار ، فعَصوا وطَغوا وبَطرُوا النعمة ، فلم يُغنِ ذلك عنهم شيئًا . { فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا } أي : أحدثنا ، { من بعدهم قرنًا آخرين } بدلاً منهم . والمعنى : أنه تعالى كما قدَّر أن يُهلك مَن تقدم مِن القُرون ، بعد أن مكَّنهم في البلاد واستظهروا على العباد ، كعاد وثمود ، وأنشأ بعدهم آخرين عمَّر بهم بلاده ، يقدر أن يفعل ذلك بكم يا معشر المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : النظر والاعتبار يُوجب للقلب الرقَّة والانكسار . وهي عبادة كبرى عند العُباد والزهاد . أُولي العزم والاجتهاد . وفوقها : فكرة الشهود والعيان ، وهي الفكرة التي تطوي وجود الأكوان . وتُغيب الأواني بظهور المعاني ، أو تريها حاملة لها قائمة بها ، فالأُولى فكرة تصديق وإيمان ، والثانية فكرة شُهُود وعِيان . وبالله التوفيق .
(2/125)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولو نزَّلنا عليك } يا محمد { كتابًا } مكتوبًا { في قرطاس } أي : رَقٍّ ، فرأوه بأعينهم ، ولمسوه بأيديهم ، حتى لا يبقى فيه تزوير ، لعاندوا ، ولقال { الذين كفروا منهم } بعد ذلك : { إن هذا إلا سحر مبين } ؛ تعنتًا وعنادًا ، وتخصيص اللمس؛ لأن التزوير لا يقع فيه ، فلا يمكنهم أن يقولوا : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [ الحجر : 15 ] ، وتقييده بالأيدي لدفع التجوز ، فإنه قد يُتَجوز فيه فيطلق على الفحص كقوله : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ } [ الجنّ : 8 ] .
ثم اقترحوا معجزة أخرى ، { وقالوا لولا أُنزل عليه ملك } يكلمنا أنه نبي ، { أو يكون معه نذيرًا } أو شهيدًا له بالرسالة ، رُوِي أن العاص بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود هم الذين سألوا ذلك . قال تعالى : { ولو أنزلنا ملكًا } ، كما طلبوا { لقُضي الأمر } بهلاكهم ، فإنَّ سُنة الله جرَت بذلك فيمن قبلهم؛ مهما اقترحوا آية ، فظهرت ثم كفروا ، عجَّل الله هلاكهم ، { ثم لا يُنظرون } أي : لا يُمهلون بعد نزولها ساعة .
وعلى تقدير لو أنزلنا عليهم الملك كما اقترحوا فلا يمكن أن يظهر إلا على صورة البشر ليُطيقوا رؤيته ، { ولو جعلناه ملَكًا لجعلناه رجلاً } ليتمكنوا من رؤيته ، كما مثّل جبريل في صورة دِحية ، فإن القوة البشرية لا تقوَى على رؤية الملائكة . وإنما رأوهم كذلك الأفرادُ من الأنبياء ، لامتلاء أسرارهم بالأنوار القدسية ، فإذا ظهر على صورة البشر التبس الأمر عليهم فقالوا : إنما هو بشر لا مَلك ، فهذا قوله : { وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي : لخلَطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم ، أو لفعلنا لهم في ذلك فعلاً مُلبسًا يطرق لهم إلى أن يُلبِسوا به على أنفسهم وضعفائهم؛ فإن عادة الله في إظهار قدرته أن تكون مرتدية برداء حكمته؛ ليبقى سر الربوبية مَصُونًا ، فمن سبقت له العناية خلق الله في قلبه التصديق بها ، حتى علمها ضرورة ، وغيره يلبس الأمر عليه فيها . وبالله التوفيق .
الإشارة : كرامات الأولياء كمعجزات الأنبياء ، لا تظهر إلاَّ لأهل الصدق والتصديق ، ولا يتحقق بولايتهم إلاَّ من سبق له الوصول إلى عين التحقيق . " سبحان من لم يجعل الدليلَ على أوليائه إلا من حيثُ الدليلُ عليه ، ولم يُوصَل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ، فأهل الإنكار عليهم لا يرون إلا ما يقتضِي البعد عنهم . وأهل الإقرار لا يرون إلا ما يقتضي القرب منهم والمحبة فيهم . والله تعالى أعلم .
(2/126)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قلت : حاق يَحِيق حَيقًا ، أي : نزل وأحاط ، و { منهم } : يتعلق بسخروا ، و { ما كانوا } : الموصول اسمي أو حرفي .
يقول الحق جلّ جلاله : في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم : { ولقد استُهزىء برسل } كثير { من قبلك } فصبروا على أذى قومهم حتى أهلكهم الله ، { فحاق } أي : أحاط { بالذين سَخروا منهم ما كانوا به يستهزءون } أي : نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزءون به ويستبعدونه ، أو : نزل بهم وبالُ استهزائهم وهو الهلاك .
الإشارة : كل ما سُلِّيت به الرسل تسلَّى به الأولياء ، فما من ولي صِدِّيق إلا ابتلاه الله بتسليط الخلق عليه؛ حتى ترحلَ رُوحه عن هذا العالم لضِيقه عليها ، وتتمكن من شهود عالم الملكوت ، فإذا طهرت منه البقايا ، وكملت فيه المزايا ، ردَّه إليهم غنيًّا عنهم ، وغائبًا عنهم ، جسمُه مع الخلق وقلبه مع الحق . هذه سُنة الله في أوليائه ، فكل وليّ يتسلى بمن قبله في إيذاء الخلق له . غير أن أولياء هذه الأمة إذا كمل مقامهم صاروا على قَدَم نبيهم ، يكونون رحمة للعباد ، مَن آذاهم لا يُعاجَل بالعقوبة غالبًا ، كما كان نبيهم رحمة للعالمين ، فقال : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " والله تعالى اعلم .
(2/127)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قلت : قال الزمخشري : فإن قلت : أيُّ فرق بين قوله : { فانظروا } ، وبين قوله : { ثم انظروا } ؟ فالجواب : أنه جعل النظر مسبَّبًا على السير في قوله : { فانظروا } ، كأنه قال : سيروا لأجل النظر ، وأما قوله : { قل سيروا في الأرض ثم انظروا } ، فمعناه : إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في الهالكين . ه . ولم يقل : كانت؛ لأن العاقبة مُجَاز تأنيثُها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { سيروا في الأرض } وجُولوا في أقطارها ، { ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين } قبلكم ، كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مَديَن ، كيف أهلكهم الله بعذاب الاستئصال ، كي تعتبروا وتنزجروا عن تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام .
الإشارة : يقال لأهل التنكير على أهل الذكر والتذكير : سِيروا في الأرض ، وانظروا كيف كان عاقبة المنكرين على المتوجهين ، كانت عاقبتهم الخذلان ، وسوء الذكر بعد الموت والخسران كابن البراء وغيره من أهل التنكير . نعوذ بالله من التعرّض لمقت الله .
(2/128)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قلت : جملة { ليجمعنّكم } : مقطوعة ، جواب لقسَم محذوف ، وقيل : بدل من الرحمة ، وهو ضعيف؛ لدخول النون الثقيلة في غير موضعها . و " إلى " : هنا ، للغاية ، كما تقول : جمعتُ القوم إلى داري . وقيل : بمعنى " في " و { الذين خسروا } : مبتدأ ، وجملة : { فهم لا يؤمنون } : خبر ، و { له ما سكن } : عطف على { لله } ، وهو إما من السكنى فلا حذف ، أو من السكون ، فيكون حذف المعطوف . أي : ما سكن وتحرَّك .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } للمشركين يا محمد : { لمن ما في السماوات والأرض } خلقًا وملكًا وعبيدًا؟ . { قل } لهم هو : { لله } لا لغيره والقصد بالآية : إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك . وجاء ذلك بصيغة الاستفهام؛ لإقامة الحجة على الكفار ، فسأل أولاً ، ثم أجاب عن سؤاله بنفسه؛ لأنَّ الكفار يُوافقون على ذلك ضرورة ، فثبت أن الإله الحق هو الذي له ما في السماوات والأرض ، وإنما يحسُن أن يكون السائلُ مجيبًا إذا عُلِم أن خَصمَه لا يخالفُه في الجواب الذي يقيم به الحجة عليه .
ثم دعاهم إلى الإيمان والتوبة بتلطُّف وإحسان فقال : { كتب على نفسه الرحمة } ؛ { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوَءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 54 ] كما في الآية الأخرى ، والكتابةُ هنا عبارة عن القضاء السابق ، وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنَّ اللهَ كتَبَ كتابًا قبلَ أن يَخلُقَ السَّماواتِ والإرضَ فَهُوَ عِندَه " وفيه : " أنَّ رَحمَتِي سبقَت غَضَبي " ، وفي رواية : " تَغّلِبُ غضبي " .
قال البيضاوي : { كتب على نفسه الرحمة } أي : التزمها تفضلاً وإحسانًا ، والمراد بالرحمة : ما يعُمُّ الدارين ، ومن ذلك : الهداية إلى معرفته ، والعلم بتوحيده ، بنصب الأدلة ، وإنزال الكتب والإمهال على الكفر . ه .
ثم ذكر محل ظهور هذه الرحمة ، فقال : واللهِ { ليجمعنّكم إلى يوم القيامة } أي : ليجمعنكم من القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيُجازي أهل التوبة والإيمان ، ويعاقب أهل الشرك والكفران ، { لا ريب } في ذلك اليوم ، أو في ذلك الجمع ، فيظهر أهل الخسران من أهل الإحسان ، ولذلك قال : { الذين خسروا أنفسهم } بتضييع رأس مالهم ، وهو النظر الصحيح الموجِب للإيمان والتوحيد { فهم لا يؤمنون } حتى أدركهم الموت؛ فلا خسران أعظم من ذلك . ودخلت الفاء في الخبر؛ للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم؛ فإن إبطال النظر ، والانهماك في التقليد واتباع الوهم ، أدَّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان إلى الممات . فخسروا أولاً بتضييع النظر ، فتسبب عنه عدم الإيمان .
ثم تمّم جوابه فقال : { وله ما سكن } أي : قل لهم : ما في السماوات والأرض لله ، وله أيضًا ما سكن { في الليل والنهار } أي : ما استقر فيهما وما اشتملنا عليه ، أو ما سكن فيهما وتحرك ، { وهو السميع } لكل مسموع ، { العليم } بكل معلوم؛ فلا يخفى عليه شيء في الليل والنهار ، في جميع الأقطار .
(2/129)
الإشارة : إذا علم العبد أن الخلق كلهم في قبضة الله ، وأمورهم كلها بيد الله ، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا ، لم يبق له على أحد عتاب ، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب ، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان . بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه . فيتلقاه بالقبول والرضى ، وفي الحِكَم : " ما تَركَ من الجهل شيئًا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه " . هذا شأن أهل التوحيد؛ يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت ، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان ، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران ، ويرجون منه الجمع عليه في روح وريحان ، وجنة ورضوان ، بمحض فضل منه وإحسان . جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه . آمين .
(2/130)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قلت : { فاطر } : نعت لله ، ومعناه : خالق ومبدع . قال ابن عباس رضي الله عنه : ( ما كُنت أعرف معنى فاطر ، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطَرتها بيدي ) . وجملة : { وهو يطعم } : حال ، وقُرِىء بعكس الأول؛ ببناء الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، على أن ضمير { هو } راجع لغير الله ، وببنائهما للفاعل؛ على معنى يُطعِم تارة ، ويمنع أخرى ، كقوله : { يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } [ البَقَرَة : 245 ] ، وجملة { إن عصيتُ } : معترضة بين الفعل والمفعول ، والجواب : محذوف دل عليه ما قبله ، أي : إن عصيتُ فإني أخاف عذاب يوم عظيم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : { أغير الله أتخذ وليًّا } أي : معبودًا أُواليه بالعبادة والمحبة ، وأُشركه مع الله الذي أبدع السماوات والإرض ، { وهو } الغني عما سواه ، الصَّمَداني ، { يُطعِمُ } ولا يحتاج إلى من يُطعمه ، فهو يَرزُق ولا يُرزق ، وتخصيص الطعام؛ لشدة الحاجة إليه { قُل } لهم : { إني أُمرتُ أن أكون أول من أسلم } ، وأنقاد بكُلّيتي إلى هذا الإله الحقيقي ، العني بالإنطلاق ، وأرفضُ كل ما سواه ، ممن عمّه الفقرُ ابتداءً ودوامًا . فكان عليه الصلاة والسلام هو أولَ سابق إلى الدين . ثم قيل له : { ولا تكونن من المشركين } ؛ تنفيرًا لغيره من الشرك ، وإلاّ فهو مبرَّأ منه عليه الصلاة والسلام .
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } بالشرك وغيره { عذاب يوم عظيم } ، وهذه مبالغة أخرى في قطع أطماعهم ، وتعريض لهم بأنهم عصاة ، مستوجبون للعذاب ، { من يُصرف عنه } ذلك العذاب ، { يومئدٍ } أي : يوم القيامة ، { فقد رحمه } أي : نجاه ، وأنعم عليه ، { وذلك الفوز المبين } أي : وذلك الصرف أو الرحمة هو الفلاح المبين .
ثم ذكر حجة أخرى على استحقاقه للعبادة والولاية ، فقال : { وإن يمسسك الله بضرّ } كمرض أو فقر ، { فلا كاشف له إلا هو } ؛ إذ لا يقدر على صرفه غيره ، { وإن يمسسك بخير } ؛ بنعمة ، كصحة وغنى ومعرفة وعلم ، { فهو على كل شيء قدير } ، فهو قادر على حفظه وإدامته ، ولا يقدر أحد على دفعه ، كقوله تعالى : { فَلآ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [ يُونس : 107 ] ، { وهو القاهر } لجميع خلقه؛ كلهم في قبضته ، { فوق عباده } بهذه القهرية والغلبة والقدرة ، { وهو الحكيم } في صنعه وتدبيره ، { الخبير } بخفايا أمور عباده ، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم الباطنة والظاهرة .
الإشارة : في الآية حَضٌّ على محبة الحق ، وولايته على الدوام ، ورفض كل ما سواه ممن عمَّه الفقر من الأنام ، وفيها أيضًا : حثّ على المسابقة إلى الخيرات ، والمبادرة إلى الطاعات ، اقتداء بسيد أهل الأرض والسماوات ، فكان عليه الصلاة والسلام أول من عبد الله ، وأول من توجه إلى مولاه ، قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعابِِِدِينَ } [ الزّخرُف : 81 ] ، فلو جاز أن يتخذ ولدًا ، لكنت أنا أولى به ، لأني أنا أول من عبده .
قال الورتجبي : { قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم } أي : أمرني حين كنت جوهر فطرة الكون حيث لم يكن غيري في الحضرة أن أكول أول الخلق في المحبة والعشق والشوق ، وأول الخلق له منقادًا بنعت محبتي له ، راضيًا بربوبيته ، غير منازع لأمر مشيئته . وقال بعضهم : أكون أول من انقاد للحق إذا ظهر . ه .
(2/131)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ . . . }
قلت : { قل الله شهيد } : يحتمل المبتدأ والخبر ، أو يكون { الله } خبرًا عن مضمر ، أو مبتدأ حُذف خبره ، و { شهيد } : خبر عمن مضمر ، أي : قل هو الله ، أو الله أكبر شهادة ، وهو شهيد بيني وبينكم ، و { من بلغ } : عطف على مفعول ، " أنذر " ، أي : لأنذركم يا أهل مكة ، وأنذر من بلغه القرآن ، وحذف مفعول { بلغ } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد للذين سألوك مَن يشهد لك بالنبوة : { أيُّ شيء } عندكم هو { أكبر شهادة } ؟ فإن لم يجيبوا فقل لهم : هو { الله } ؛ فإنه أكبر الشاهدين ، وهو الذي يشهد لي بالنبوة والرسالة؛ بإقامة البراهين وإظهار المعجزات ، وهو { شهيد بيني وبينكم } ، وكفى به شهيدًا .
{ وأُوحي إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به } أي : لأخوّفكم به ، إن أعرضتم عنه ، وأُبشِّركم به إن آمنتم به ، واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة؛ لأنه مصرح به في موضع آخر ، ولأن الأهم هنا هو الإنذار؛ لغلبة الكفر حينئذٍ ، وأُنذر به أيضًا كل من بلغه القرآن من الأحمر والأسود ، والجن والإنس إلى يوم القيامة . وفيه دليل على أن أحكام القرآن تعُم الموجودين وقت النزول ومَن بعدَهم ، وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه ، وهو نادر ، قال سعيد بن جبير : ( مَن بلَغه القرآن فكأنما رأى محمدًا صلى الله عليه وسلم ) .
الإشارة : في الآية حثٌّ على اكتفاء بعلم الله ، والاستغناء به عما سواه ، وعلامةُ الاكتفاء بعلم الله ثلاث : استواء المدح والذم ، والرضى بالقليل والكثير ، والرجوع إلى الله وحده في السراء والضراء .
واعلم أن الحق تعالى إذا شهد لك بالخصوصية ، ثم اكتفيت بشهادته فأنت من أهل الخصوصية ، وإن لم تكتف بشهادته ، وتطلعت إلى أن يعلم الناس بخصوصيتك ، فأنت كاذب في دعوى الخصوصية . واطلاع الحق تعالى على ثبوت خصوصيتك هو شهادته لك ، فاقنع بعلم الله ، ولا تلتفت إلى أحد سواه ، لئلا ينزعَها مِن قلبك ، حيث لم تقنع بعلم الله فيك . وبالله التوفيق .
ولمّا أتى قومٌ من الكفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد؛ أما تعلم أن مع الله إلهًا آخر؟ أنزل الله تعالى :
{ . . . أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }
قلت : الاستفهام للإنكار والتوبيخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الإنكار على المشركين : { أئنكم لتشهدون أنَّ مع الله آلهة أُخرى } تستحق أن تعبد { قل } لهم يا محمد : أنا { لا أشهدُ } بما تشهدون به ، { قل } لهم : { إنما هو إله واحد } ؛ بل أشهد ألا إله إلا هو ، { وإنني بريءٌ مما تُشركون } به من الأصنام .
الإشارة : لم يَبرَأ من الشرك الخفي والجلِي إلا أهلُ الفناء؛ الذين وحدوا الله في وجوده ، فلم يروَا معه سواه ، قال بعضُ من بلغ هذا التوحيد : ( لو كُلفت أن أرى غيره لم أستطع؛ فإنه لا غيرَ معه حتى أشهده ) وقال آخر : مُحَالٌ أن تشهده وتشهد معه سواه . وقال شاعرهم :
مُذ عَرَفتُ الإلَه لَم أرَ غَيرًا ... وَكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ
إلى غير ذلك من مقالاتهم الدالة على تحقيق وجدانهم . نفعنا الله بذكرهم ومحبتهم . آمين .
(2/132)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { الذين آتيناهم الكتاب } من اليهود والنصارى ، { يعرفونه } أي : محمدًا صلى الله عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل ، { كما يعرفون أبناءهم } أو أشد ، وإنما كتموه؛ جحدًا وخوفًا على رياستهم . . { الذين خسروا أنفسهم } من أهل الكتاب؛ حيث كذَّبوا وكتموا ، ومن المشركين حيث كفروا وجحدوا ، { فهم لا يؤمنون } ؛ لتضييعهم ما به يُكتسب الإيمان من النظر والتفكير والإنصاف للحق ، فقد ظلموا أنفسهم وبخسوها .
{ ومَن أظلم ممّن افترى على الله كذبًا } ؛ بأن كتم شهادة الحق ، وهي صفة الرسول عليه الصلاة والسلام أو ادّعاءُ الملائكة بنات الله ، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، { أو كذَّب بآياته } ؛ كالقرآن والمعجزات وسمَّوها سِحرًا ، أي : لا أحد أظلم ممن فَعل هذا ، وإنما عبَّر ب " أو " ، وهم قد جمعوا بين الأمرين؛ تنبيهًا على أن كل واحد منهما وحده بالِغٌ غاية الإفراط في الظلم على النفس ، { إنه } أي : الأمر والشأن { لا يُفلح الظالمون } ، فضلاً عمّن لا أحد أظلم منه .
الإشارة : أقبحُ الناس منزلة عند الله ، من تحقق بخصوصية ولي من أولياء الله ، ثم كَتمها وجَحدها؛ حسدًا وعنادًا ، وجعل يُنكر عليه ، فقد آذن بحرب من الله ، فالتسليمُ عناية ، والانتقاد جناية ، والاستنصافُ من شأن الكرام ، والتعصب من شأن اللئام . وبالله التوفيق .
(2/133)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قلت : { لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } ، من قرأ بالرفع والتأنيث : ففتنة اسمها ، و { إلاَّ أن قالوا } : خبرها ، ومن قرأ بالنصب : فخبرٌ مقدم ، والتأنيث لأجل الخبر ، ومن قرأ بالتذكير والنصب ، فخبر مقدم ، و { إلاَّ أن قالوا } : أسمها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر يا محمد { يوم نحشرهم } أي : المشركين ، { جميعًا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أي : آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله ، { الذين كنتم } تزعمونهم شركاء ، وتودونها وتنتصرون لها ، فيُحالُ بينهم وبينها ، ويتبرأون منها ، كما قال تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } أي : لم تكن عاقبة كفرهم الذي افتتنوا به ، إلا التبرؤ منه ، بعد الانتصار له والتعصب عليه ، أو : لم يكن جواب اختبارهم إلا التبرؤ من الشرك ، فيكذبون ويحلفون عليه ، مع علمهم بأنه لا ينفع من فَرط الحيرة والدهشة .
فإن قلت : كيف يجحدون مع قوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا } [ النِّساء : 42 ] فالجواب : أن ذلك يختلف باختلاف الطوائف والمواطن ، فيكتم قومٌ ويُقر آخرون ، ويكتمون في موطن ويُقرون في موطن آخر؛ لأن يوم القيامة طويل ، وقال ابن عباس لَمَّا سئل عن هذا : ( إنهم جحدوا ، طَمَعًا في النجاة ، فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم ، فلا يكتمون حديثًا ) .
قال تعالى : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } بِنفِي الشرك عنها بعد تحققها به ونظيره قوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي : غاب عنهم ما كانوا يعبدونه من الشركاء افتراء على الله .
الإشارة : من أحب شيئًا فهو عبد له ، ويوم القيامة يتبرأ منه ، ويرى وبال فتنته والاشتغال به ، فينبغي لمن أراد السلامة من الفتنة ، أن يُفرد محبته لله ، ويتبرأ من كل ما سواه ، ويُفرد وجهته لله ، ولا يشتغل ظاهرًا ولا باطنًا إلا بما يقربه من الله ويبعده عما سواه وفي الحديث : " تَعِسَ عَبدُ الدِّينَارِ والدِّرهَمِ والخَمِيصَةِ ، تَعِسَ وانتَكَسَ ، وإذَا شِيكَ فلا انتَقَشَ " .
(2/134)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قلت : { مَنْ } : لفظها مفرد ومعناها جمع ، فيجوز في الضمير مراعاة اللفظ فيُفرد ، كقوله هنا : { ومنهم من يستمع إليك } ، ويجوز مراعاة المعنى فيجمع ، كقوله في يونس : { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يُونس : 42 ] ، والأكِنَّة : الأغطِية ، جمع كنان ، و { أن يفقهوه } : مفعول له؛ أي : كراهية أن يفقهوه ، و { حتى } : غاية ، أي : انتهى التكذيب حتى وصلوا إليك يجادلونك ، والجملة بعدها : إمَّا في محل جر بها ويجادلونك جواب لها ، و { يقول } : تبيين لها ، وإما لا محل لها؛ فتكون ابتدائية . والأساطير : جمع أسطورة ، أو أسطار؛ جمع سَطر ، فيكون جمع الجمع .
يقول الحقّ جلّ دجلاله : ومن الكفار { من يستمع إليك } حين تقرأ القرآن ، والمراد : أبو سفيان والوليد والنضر وعُتبة وشَيبَة وأبو جهل وأضرابهم ، اجتمعوا فسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، فقالوا للنضر : ما تقول؟ فقال : والذي جعلها بيننا وبينه ما أدري ما يقول ، إلا أنه يحرك لسانه ، ويقول أساطير الأولين ، مثل ما جئتُكم به . قال السُّهَيلي : حيث ما ورد في القرآن : " أساطير الأولين " فإنَّ قائلها هو النضر بن الحارث ، وكان قد دخل بلاد فارس وتعلَّم أخبار ملوكِهم ، فكان يقول : حديثي أحسنُ من حديث محمد ، فنزلت فيه وفي أصحابه .
{ وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً } أي : أغطية؛ كراهة { أن يفقهوه } ؛ لما سبق لهم من الشقاء ، { و } جعلنا { في آذانهم وقرًا } أي : ثقلاً وصمَمًا فلا يسمعون معانيه ، ولا يتدبرونها . { وإن يَرَوا كلَّ آية } ومعجزة { لا يؤمنوا بها } ؛ لفرط عنادهم ، واستحكام التقليد فيهم ، وسبقِ الشقاء لهم ، فلا يزال التكذيب والشك يعظُم فيهم { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } أي : حتى ينتهي بهم التكذيب إلى أن يجيؤوك يجادلونك؛ { يقول الذين كفروا إن } أي : ما { هذا إلا أساطير } أي : أكاذيب { الأولين } ، فإنَّ جَعلَ أصدق الحديث خرافاتِ الأولين غايةٌ التكذيب .
{ وهم } أيضًا { يَنهون عنه } أي : ينهون الناس عن القرآن ، أو عن الرسول والإيمان به ، { وينأون عنه } أي : يبعدون عنه ، فقد ضلوا وأضلوا ، أو يَنهون عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينأون عنه؛ فلا يؤمنون ، كأبي طالب ومن كان معه ، يحمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مكة . وفي { ينهون } ضربٌ من ضروب التجنيس من علم البلاغة . قال تعالى : { وإن } أي : ما { يُهلكون } بذلك { إلا أنفسهم وما يشعرون } أن ضررهم لا يتعداهم إلى غيرهم .
الإشارة : اعلم أن القلب تحجبه عن تدبر كلام الله والتمتع بحلاوته أربعةُ حُجُب :
الأول : حجاب الكفر والشرك ويندفع بالإيمان والإسلام .
والثاني : حجاب المعاصي والذنوب ، وينخرق بالتوبة والانقلاع .
والثالث : حجاب الانهماك في الحظوظ والشهوات واتباع الهوى ، وينخرق بالزهد والورع والتعفف ونوع من الرياضة .
والرابع : حجاب الغفلة والخوض فيما لا يعني ، والاشتغال بالبطالة ، وينخرق باليقظة والتوجه إلى الحق ، والانقطاع إلى الله بكليته ، فإذا انخرقت هذه الحجب عن القلب ، تمتع بحلاوة القرآن ومناجاة الحق على نعت القرب والمراقبة .
(2/135)
وبقي حجابان آخران ، إذا خرقهما العبد أفضى إلى مشاهدة المتكلم دون واسطة ، أولهما : حجاب حلاوة الطاعة والمعاملة الظاهرة ، والوقوف مع المقامات أو الكرامات ، فإنها عند العارفين سموم قاتلة . وثانيهما : حجاب الوهم والوقوف مع ظاهر الحس ، دون الوصول إلى باطنه ، فيقف مع الأواني دون شهود المعاني ، وقد قال الششتري :
لاَ تَنظرُ إلَى الاوانِي ... وَخُضْ بَحْر الْمعَانِي
لعلَّك تَرَانِي ... وقال الغزالي : الموانع التي تحجب القلب عن الفهم أربعة : الأول : جعل الفهم مقصورًا على تحقيق الحروف؛ بإخراجها من مخارجها ، فهذا يتولى حفظه شيطان وكُلِّ بالقراء ، يصرفهم عن معاني كلام الله تعالى . والثاني : أن يكون مقلدًا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه ، من غير وصول إليه ببصيرة . الثالث : أن يكون مصرًا على ذنب ، أو متصفًا بكبر ، أو مبتلى بهوى في الدنيا مطاع ، فإن ذلك سبب ظلمة القلب ، وهو كالخبءِ على المرآة ، فيمنع جلية الحق فيه ، وهو أعظم حجب القلب ، وبه حُجب الأكثرون ، الرابع : أن يكون قد قرأ تفسيرًا ظاهرًا ، واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلاَّ ما يتأوّل عن ابن عباس ، ومجاهد وغيرهما ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي منهي عنه ، فهذا أيضًا من الحجب العظيمة ، فإن القرآن بحرٌ لا ساحل له ، وهو مبذول لمن يغرف منه إلى يوم القيامة ، كل على قدر سعته وصفاء قلبه . ه . بالمعنى .
(2/136)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
قلت : { لو } : شرطية ، وجوابها محذوف : أي : لرأيت أمرًا فظيعًا هائلاً ، وإنما حذف في مثل هذا ليكون أبلغ ما يقدره السامع . و { لا نكذب } و { نكون } : قُرىء بالرفع ، على الاستئناف والقطع عن التمني ، ومثَّله سيبويه بقولك : ( دعني ولا أعود ) أي : وأنا لا أعُود ، ويحتمل أن يكون حالاً ، أي : غير مُكذِّبين ، أو عطفًا على : { نُرد } ، وقُرىء : بالنصب؛ على إضمار " أن " بعد واو المعية في جواب التمني .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولو ترى } يا محمد ، أو : يا من تصح منه الرؤية ، حالَ الكفار { إذ وقِفُوا على النار } حين يعاينونها أو يطّلعون عليها ، أو يدخلونها ، فيعرفون مقدار عذابها ، لرأيت أمرًا شنيعًا وهولاً فظيعًا؛ { فقالوا } حينئذٍ : { يا ليتنا نُردُّ } إلى الدنيا ، { ولا نُكذَّب بآيات ربنا ونكون من المؤمنون } ، ندموا حين لم ينفع الندم ، وقد زلَّت بهم القدم ، قال تعالى : { بل بدَا لهم } أي : ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم { ما كانوا يُخفون من قبل } في دار الدنيا من عيوبهم وقبائح أعمالهم ، أو : بدا لهم حِقيّة الإيمان وبطلان ضده ، عيانًا ، لمَّا وقفوا الى التوحيد وعرفوه ضرورة ، وقد كانوا في الدنيا يُخفونه ويُظهرون الشرك ، عياذًا بالله . قال تعالى : { ولو رُدُّوا } إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور { لعادوا لما نُهوا عنه } من الكفر والمعاصي؛ لأنهم من قبضة الشقاء ، والعياذ بالله ، { وإنهم لكاذبون } فيما وعدوا من أنفسهم من الإيمان وعدم التكذيب . وفي هذا الإخبار بما لا يكون ، ولو كان كيف يكون ، وهو مما انفرَد الله بعلمه .
الإشارة : يوم القيامة هو محل ظهور حقائق الأشياء على ما هي عليه ، فإن كانت حقًا ظهرت حقيقتها وصحتها ، وإن كانت باطلة ، ظهر بطلانها عيانًا ، لكن لا تنفع المعرفة حينئذٍ ، لرفع حجاب الحكمة وظهور القدرة ، فلم يبقَ غيبٌ ، وإنما المزِيَّةُ في الإيمان بالغيب ، والمعرِفةَ في النكران ، والشهود خلف رداء الكبرياء ، بشهود المعاني خلف الأواني ، فإن ظهرت المعاني فلا إيمان ، وإنما يبقَى العيان ، لأهل العيان ، والخيبة لأهل الخذلان .
قال الورتجبي : القوم لم يعرفوا حقائق الكفر في الدنيا ، ولو عرفوه لكانوا موحدين ، فيظهر لهم يوم القيامة حقيقة الكفر ، ولا ينفعهم ذلك؛ لفوتهم السير في النكرات ، التي معرفتها توجب المعارف ، وذلك المقام في آماكن صُدورهم ، وهم كانوا يخفونه بمتابعة صورة الكفر وشهوة العصيان بغير اختيارهم؛ لقلة عرفانهم به ، ولا يكون قلبٌ من العرش إلى الثرى إلا ويطرقه هواتف الغيب ، بإلهام الله الذي يعرف به طُرُقَ رضى الحق ، وصاحبه يعلم ذلك ويسمع ويُخفيه في قلبه ، لأنه أدق من الشعرة ، وحركته أخفى من دبيب النمل ، ومع ذلك يعرفه من نفسه ، ولكن من غلَبت شهواتُ نفسه عليه ، لا يتبع خطاب الله بالسر ، فأبدى الله لهم ما كانوا يخفونه ، تعييرًا لهم وحجة عليهم ، انتهى .
قلت : قوله : ولا يكون قلب . . . الخ ، حاصل كلامه : أن القلب من حيث هو لابد أن يطرقه الخصم إن حاد عن الحق ، وهو المراد بهواتف الغيب ، لكنه أخفى من دبيب النمل في حق الغافلين . فإن كان القلب حيًّا متيقظًا تتبع ذلك الخصم؛ حتى يزيله بظهور الحق ، وإن كان ميتًا بغلبة الشهوات أخفاه حتى يموت ، فيبدون له ما كان يخفيه من قبل . والله تعالى أعلم .
(2/137)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } أي : الكفار في إنكار البعث : { إن هي } أي : الحياة { إلا حياتنا الدنيا } لا حياة بعدها ، { وما نحن بمبعوثين } ، قال جل جلاله : { ولو ترى إذ وُفقوا على ربهم } ، كناية عن حبسهم للسؤال والتوبيخ ، أو : وقفوا على قضاء ربهم بين عباده ، وعرفوه حق التعريف ، قال لهم الحق جل جلاله : { أليس هذا } الذي كنتم تُنكرونه ، { بالحق قالوا بلى وربنا } إنه لحق ، ولكنا كنا قومًا ضالين ، وهو إقرار مؤكد باليمين ، لانجلاء الأمر غاية الجلاء ، قال تعالى لهم : { فذوقوا } أي : باشروا { العذاب بما كنتم تكفرون } أي : بسبب كفركم .
{ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } ، حيث فاتهم النعيم ، واستوجبوا العذاب المقيم ، والمراد بلقاء الله : البعث وما يتبعه . فاستمروا على التكذيب { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } أي : فجأة { قالوا يا حسرتنا } أي : يا هلكتنا { على ما فرطنا } أي : قصَّرنا { فيها } أي : في الحياة الدنيا ، أو في الساعة ، أي : في شأنها والاستعداد لها ، { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } ، كناية عن تحمل الذنوب ، لأن العادة حمل الأثقال على الظهور ، وقيل : أنهم يحملونها حقيقة ، وقد رُوِي : أن الكافر يركبه عمله ، بعد أن يتمثل له في أقبح صورة ، وأن المؤمن يركب عمله ، بعد أن يتصور له في أحسن صورة . قال تعالى في شأن الكفار : { ألا ساء ما يزرون } أي : بئس شيئًا يَزِرُونَهُ ويرتكبونه في الدنيا وزرهم هذا ، الذي يتحملونه على ظهورهم يوم القيامة .
وسبب هذا : الركون إلى دار الغرور ونيسان دار الخلود ، ولذلك قال تعالى بإثره : { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } أي : وما أعمالها إلا لعب ولهو ، تُلهي الناس وتشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقية ، وما مدة بقائها مع ما يعقبها من الفناء إلاَّ كمدة اللعب واللهو ، إذ لا طائل تحته لمن لم يعمر أوقاتها بطاعة ربه ، { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } ؛ لدوامها وخلوص نعيمها وصفاء لذاتها ، { أفلا تعقلون } أيّ الأمرين خير ، هل دار الخراب والفناء ، أو دار النعيم والبقاء ، وفي قوله : { للذين يتقون } : تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين كله لعب ولهو .
الإشارة : إذا كمل نور العقل حصل لصاحبه التمييز بن الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، فنظر بعين اعتباره إلى الدنيا ، فوجدها ذاهبة فانية ، ونظر إلى الآخرة ، فرآها مقبلة باقية دائمة ، فصدف عن الدنيا مُوليًا ، وأعرض عن زهرتها مدبرًا ، وأقبل بكليته إلى مولاه ، غائبًا عن كل ما سواه ، فجعل الموت وما بعده نصب عينيه ، وخلف الدنيا وراء ظهره أو تحت قدميه . وفي الحِكم : " لو أشرق نور اليقين في قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت الدنيا ، وكسفَةُ الفناء ظاهرة عليها " وقال بعض الحكماء : ( لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والأخرة من طين يبقى ، لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى ، ولا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى؛ والآخرة من ذهب يبقى ) . فلا يختار هذه الدار إلا من لا عقل له أصلاً . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " الدُّنيا دَارُ مَن لا دَار لَه ، وَمَالُ مَن لا مَالَ لَهُ ، لَهَا يَجَمعُ مَن لاَ عَقل لَهُ ، وعلَيها يُعَادى مَن لا عِلم عِنده " أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
(2/138)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قلت : { قد } للتحقيق ، وإنه ضمير الشأن ، وقرأ نافع : " يُحزن " ، بضم الياء حيث وقع ، إلا قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ } [ الأنبيَاء : 103 ] والباقون : بفتح الياء ، وفيه لغتان : حزن يحزُن ، كنصر ينصر ، وأحزن يحزِن . والأول أشهر . ومن قرأ : " يُكذّبُونَك " بالتشديد؛ فمعناه : لا يعتقدون كذبك ، وإنما هم يجحدون الحق مع علمهم به ، ومن قرأ بالتخفيف فمعناه : لا يجدونك كاذبًا ، يقال : أكذبت الرجل إذا وجدته كاذبًا ، وقيل : معناهما واحد ، يقال : كذّب فلانٌ فلانًا ، وأكذبه ، بمعنى واحد ، وفاعل { جاءك } : مضمر ، أي : نبأ أو بيان ، وقيل : الجار والمجرور . وجواب { فإن استطعت } : محذوف ، أي : فافعل .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } أي : الكفار في جانبك؛ من أنك شاعر أو كاهن أو مجنون أو كاذب ، . { فإنهم لا يُكذبونك } في الحقيقة ، لجزمهم بصحة نبوتك ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، حسدًا وخوفًا على زوال الشرف من يدهم : نزلت في أبي جهل ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّا لاَ نُكَذِّبُكَ ، ولكِن نُكذِّبُ بِمَا جئتَ بِهِ " وقال الأخنَسُ بن شُرَيق : والله إن محمدًا لصادق ، ولكني أحسده الشرف . ووضع { الظالمين } موضع المضمر؛ للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم ، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم .
ثم سلاَّه عن ذلك ، فقال : { ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأُوذوا } أي : صبروا على تكذيبهم وأذاهم ، { حتى أتاهم نصرنا } ، فاصبر كما صبروا حتى يأتيك نصرنا كما أتاهم ، وفيه إيماء بوعد النصر للصابرين ، ولذلك قيل : الصبر عنوان الظفر . { ولا مبدل لكلمات الله } السابقة بنصر الصابرين ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ } [ الصافات : 171 ، 172 ] ، { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } أي : من قصصهم ، وما كابدوا من قومهم حتى نصرهم الله فتأنس بهم وانتظر نصرنا .
{ وإن كان كَبُر } أي : عظم وشق { عليك إعراضهم } عنك وعن الإيمان بما جئت به ، { فإن استطعت أن تبتغي نفقًا } أي : سريًا { في الأرض } فتدخل فيه لتطلع لهم آية ، { أو سُلَّما في السماء } لترتقي فيه { فتأتيهم بآية } حتى يعاينوها فافعل ، ولكن الأمر بيدي ، فإنما أنت نذير .
قال البيضاوي : المقصود : بيان حرصه البالغ على إسلام قومه ، وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها؛ رجاء إسلامهم ، { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } أي : لو شاء الله جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يُؤمنوا ، ولكن لم تتعلق به مشيئته ، وفيه حجة على القدرية . أو : لو شاء الله لأظهر لهم أية تلجئهم إلى الإيمان ، لكن لم يفعل؛ لخروجه عن الحكمة ، { فلا تكونن من الجاهلين } أي : من الذين يحرصون على ما لم تجر به المقادير ، أي : دم على عدم كونك منهم ولا تقارب حالهم بشدة التحسر .
(2/139)
ه .
وقال في نوادر الأصول : إن الخطاب به تربية له ، وترقيةُ من حال إلى حال ، كما يُربَّى أهل التقريب ويُنقلُون من ترك الاختيار ، فيما ظاهرُه بِرٌ وقربة . ه .
قلت : تشديد الخطاب على قدر علو المقام ، كما هو معلوم من الأب الشفيق أو الشيخ الناصح ، وقد قال لنوح عليه السلام : { إِنّيَ أَعِظُكِ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ هُود : 46 ] . وهذا الخطاب أشد لعلو مقامه صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : كل ما سُلِّيت به الرسل تسَّلى به الأولياء؛ لأنهم ورثتهم الخاصة ، وكل ما أُمرت به الرسل تؤمر به الأولياء ، من الصبر وعدم الحرص ، فليس من شأن الدعاة إلى الله الحرص على الناس ، ولا الحزن على من أدبر عنهم أو أنكر ، بل هم يزرعون حكمة التذكير في أرض القلوب ، وينظرون ما ينبت الله فيها ، اقتداءً بما أُمر به الرسول عليه الصلاة والسلام ، وما تخلق به ، فمن أصول الطريقة : الإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى الله في السراء والضراء . والله تعالى أعلم .
(2/140)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنما يستجيب } لك ، ويُجيب دعوتك إلى الإيمان { الذين يسمعون } سماع تفهم وتدبر ، وهو من كان قبله حيًا ، وأما الكفار فهم موتى لا يسمعون ولا يفقهون ، { والموتى } ، وهم الكفار الذين ماتت أرواحهم بالجهل حتى ماتوا حسًا ، { يبعثهم الله } ، فيظهر لهم حينئذٍ الحق ، ويسمعون حين لا ينفع الإيمان ، أو يبعثهم الله في الدنيا بالهداية ، أو الموتى حقيقة حسًا ، يبعثهم الله للحساب ، { ثم إليه يُرجعون } للجزاء .
الإشارة : إنما يستجيب لدعوة الخصوصية ، ويُجيبون الدعاة إلى السير لشهود عظمة الربوبية ، الذين سبقت لهم العناية ، وأحيا اللهُ قلوبهم بالهداية ، فيسمعون بسمع القلوب والأرواح ، ويتَرقَّون من حضرة عالم الأشباح إلى حضرة عالم الأسرار والأرواح؛ والموتى بالغفلة والجهل يبعثهم الله ببركة صُحبة أهل الله فَتهُبُ عليهم نفحات الهداية؛ لِما سبق لهم من سر العناية ، ثم إليه يُرجعون فيتنعمون في حضرة الشهود ، في مقعد صدقٍ عند الملك الودود .
(2/141)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } حين سمعوا ذكر البعث والرجوع إلى الله : { لولا نُزل عليه آية من ربه } تدل على ما ادعاه من البعث والرجوع إلى الله ، وعلى أنه رسول من عند الله ، { قل } لهم : { إن الله قادر على أن ينزل آية } خارقة للعوائد ، يرونها عيانًا ، وتضطرهم إلى الإيمان ، { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن إنزالها وبالٌ عليهم؛ لأنهم إن عاينوها ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقاب ، أو : لا يعلمون أن الله قادر على أكثر مما طلبوا؟ .
وهذا الطلب قد تكرر منهم في مواضع من القرآن ، وأجابهم الحق تعالى بأجوبة مختلفة ، منها : ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات؛ لأنهم قد أتاهم بآيات ، وتحصيل الحاصل لا ينبغي ، كقوله : { قّدْ بَيَّنَّا الأَيَاتِ } [ البَقَرَة : 118 } ، { أَوَلَمْ يَكُفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] ، ومنها : ما يقتضي الإعراض عنهم؛ لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته . ويحتمل أن يكون منه قوله هنا : { قل إن الله قادر . . . } الآية .
فإن قيل : كيف طلبوا آية وهم قد رأوا آيات كثيرة ، كانشقاق القمر ، وإخبارهم بالغيب ، وغير ذلك؟ فالجواب : أنهم لم يعتدوا بما رأوا؛ لأن سر الربوبية لا يظهر إلاَّ ومعه شيء من أردية القهرية ، وهم قد طلبوا آية يدركونها من غير نظر ولا تفكر ، وهو خلاف الحكمة .
ثم ذكر دلائل قدرته على البعث وغيره ، فقال : { وما من دابة } تَدِبُّ { في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } في الواء ، { إلا أمم أمثالكم } ؛ مقدرة أرزاقها ، محدودة آجارها ، معدودة أجناسها وأصنافها ، محفوظة ذواتها ، معلومة أماكنها ، كلها في قبضة الحق ، وتحت قدرته ومشيئته ، فدل ذلك على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ، فيدل على قدرته على أن ينزل آية ، وعلى بعثهم وحشرهم؛ لأنه عالم بما تنقص الأرض منهم ، كما قال تعالى : { ما فرطنا في الكتاب } أي : اللوح المحفوظ ، { من شيء } ؛ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل ودقيق ، لم يهمل فيه أمرَ حيوان ولا جماد ، ظاهرًا ولا باطنًا ، أو القرآن؛ فإنه قد اشتمل على كل ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً ومجملاً ، حتى قال بعض السلف : ( لو ضَاع لي عِقالٌ لوجتُه في كِتَابِ الله ) أي : باعتبار العموم وأصول المسائل .
قال تعالى : { ثم إلى ربهم يُحشرون } أي : الأمم كلها ، فيُنصف بعضها من بعض . كما رُوِي أنه يُؤخذ للجَمَّاء من القَرنَاء وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : يُحشر الخلقُ كلهم يوم القيامة : البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغُ من عَدل الله تعالى أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كُوني ترابًا ، فذلك حيث يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا } [ النّبَأ : 40 ] . وفي المسألة اضطراب بين العلماء ، والصحيح هو حشرها ، كما قال تعالى : { وَإِذّا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [ التّكوير : 5 ] ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( حشرها موتها ) . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد تقدم مرارًا أن طلب الكرامات من الأولياء : لقلة الاعتقاد فيهم وقلة الصدق . وأكمل الكرامات : الاستقامة على التوحيد في الباطن ، وتحقيق العبودية في الظاهر . وبالله التوفيق .
(2/142)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين كذبوا بآياتنا } الدالة على كمال قدرتنا وتحقيق وحدانيتنا ، أو بآياتنا المنزلة على رسولنا ، هم { صمٌّ } لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظيم قدرته سماعًا تتأثر به نفوسهم ، { و } هم أيضًا { بُكم } لا ينطقون بالحق ، وهم { في الظلمات } أي : خائضون في بحر ظلمات الكفر والجهل ، وظلمة العناد ، وظلمة التقليد ، فوصفهم بالصمم والبَكَم والعَمى ، ويؤخذ العمى من قوله : { في الظلمات } ، وهذا كله داخل تحت مشيئته وعلمه السابق؛ { من يشأ الله يُضلله } عدلاً ، { ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم } ؛ بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه ، فيتبع الطريق الذي لا عوج فيه .
الإشارة : أولياء الله في أرضه من آيات الله ، فمن كذب بهم بقي في ظلمة الجهل بالله وظلمة حجاب النفس وحجاب الأكوان ، محجوبًا بمحيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، قلبه أصم عن تَذَكُّرِ الحقائق ، ولسانه أبكم عن النطق بحكم العلم والأسرار ، لم تسبق له في مشيئة الحق عناية ، ولا هَبَّ عليه شيءٌ من رياح الهداية ، عائذًا بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء .
(2/143)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قال في المشارق : أرأيتك : معناه : الاستخبار والاستفهام ، أي : أخبرني عن كذا ، وهو بفتح التاء في المذكر والمؤنث والواحد والجمع ، تقول : أرأيتك وأرأيتكما وأرأيتكم ، ولم تُثَن ما قبل علامة المخاطب ولم تَجمعَهُ ، فإذا أردت معنى الرؤية أي البصرية ثَنيت وجمعت وأنثت ، فقلت : أرأيتك قائمًا ، وأرأيتُكِ قائمة ، وأرأيتكما وأرأيتموكم وأرأيتيكن . ه . وقال في الإتقان : إذا دخلت الهمزة على " رأيت " امتنع أن يكون من رؤية العين والقلب ، وصار المعنى : أخبرني ، وهو خلاف ما قال في المشارق ، فانظره وانظر الحاشية الفاسية .
قال البيضاوي : { أرأيتكم } : استفهام تعجب ، والكاف : حرف خطاب ، أكد به الضمير للتأكيد ، لكن لا محل له من الإعراب ، لأنك تقول : أرأيتك زيدًا ما شأنه ، فلو جعلت الكاف مفعولاً كما قاله الكوفيون لعدَّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل ، ولزم في الآية أن يقول : أرأيتكموكم ، بل الفعل معلق ، أو المفعول محذوف ، وتقديره : أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها إن أتاكم عذاب الله ، ويدل عليه : { أغير الله تدعون } . ه . وجواب { إنْ } : محذوف؛ أي : إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فمن تدعون؟ وجواب { إن كنتم } : محذوف أيضًا؛ أي : إنَّ كنتم صادقين في أنَّ غير الله ينفعكم فادعوه ، ثم وصفهم بأنهم لا يدعون حينئذٍ إلا الله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : { أرأيتكم } أي : أخبروني { إن أتاكم عذاب الله } في الدنيا كما أتى من قبلكم ، { أو أتتكم الساعة } وأهوالها ، { أغير الله تدعون } وتلتجئون إليه في كشف ما نزل بكم { إن كنتم صادقين } أن الأصنام آلهة ، لا ، { بل أياه تدعون } وحده ، { فيكشف ما تدعون إليه } أي : ما تدعونه إلى كشفه ، { إن شاء } أن يتفضل عليكم بالكشف في الدنيا ، وقد لا يشاء ، { وتنسون ما تشركون } أي : وتتركون آلهتكم في ذلك الوقت؛ لِما ركز في العقول من أنه قادر على كشف الضر دون غيره ، أو تنسون من شدة الأمر وهوله .
الإشارة : إنما يظهر توحيد الرجال عند هجوم الأحوال ، فإن رجع إلى الله وحده ولم يلتفت إلى شيء سواه ، علمنا أنه من الأبطال ، وإن فزع إلى شيء من السَّوى ، علمنا أنه من جملة الضعفاء . وعندهم من جملة أصول الطريق : الرجوع إلى الله في السراء والضراء ، فإن رجع إليه أجابه فيما يريد ، وفي الوقت الذي يريد ، وقد لا يريد على حسب إرادة المريد . والله تعالى أعلم .
(2/144)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
يقول الحقّ جلّ جلاله : تخويفًا لهذه الأمة : { ولقد أرسلنا إلى أمم } مضت { من قبلك } رسلاً فأنذروهم ، فكذبوا وكفروا { فأخذناهم بالبأساء } أي : الشدة ، كالقحط والجوع ، { والضراء } كالأمراض والموت والفتن ، تخويفًا لهم { لعلهم يتضرعون } أي : يتذللون ويتوبون من ذنوبهم ، فلم يفعلوا ، { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } أي : هلاَّ تذللوا حين جاءهم البأس فنرحمهم ، وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد ، { ولكن قست قلوبهم } أي : صلُبت ولم تلن ، { وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون } ؛ فصرَفهم عن الضرع ، أي : لا مانع لهم من التضرع إلا قساوة قلوبهم ، وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم .
{ فلما نسوا ما ذكروا به } أي : تركوا الاتعاظ بما ذُكروا به من البأساء والضراء ، ولم ينزجروا ، { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من أنواع الرزق وضروب النعم ، مراوحة عليهم بين نوبَتي الضراء والسراء ، وامتحانًا لهم بالشدة والرخاء ، إلزامًا للحجة وازاحة للعلة ، أو مكرًا بهم ، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " مُكر بالقوم ورب الكعبة " { حتى إذا فرحوا } أي : أعجبوا { بما أوتوا } من النعم ، ولم يزيدوا على البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه ، { أخذناهم بغتة } أي : فجأة { فإذا هم مبسلون } مُتحيرون آيسون من كل خير ، { فقطع دابر القوم الذين ظلموا } أي : قطع آخرهم ، ولم يبق منهم آحد ، وهي عبارة عن الاستئصال بالكلية ، { والحمد لله رب العالمين } على إهلاكهم ، فإن إهلاك الكفار والعصاة نعِمٌ جليلة ، يحق أن يحمد عليها؛ من حيث إنه خلاص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم . وبالله التوفيق .
الإشارة : المقصود من إظهار النقم الظاهرة؛ ما يؤول الأمر إليه من النعم الباطنة ، فإن الأشياء كامنة في أضدادها ، النعمة في النقمة ، والرخاء في الشدة ، والعز في الذل ، والجمال في الجلال ، إن وقع الرجوع إلى الله والانكسار والتذلل . " أنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهم مِن أجلي " . فانكسار القلوب إلى علام الغيوب عبادة كبيرة ، تُوجب نعمًا غزيرة ، فإذا قسَت القلوب ولم يقع لها عند الشدة انكسار ولا رجوع ، كان النازل بلاءً ونقمة وطردًا وبُعدًا . فإنَّ ما ينزل بالإنسان من التعرفات منها : ما يكون أدبًا وكفارة ، ومنها : زيادة وترقية ، ومنها : ما يكون عقوبة وطردًا ، فإن صحبها التيقظ والتوبة ، كان أدبًا مما تقدم من سوء الأدب ، وإن صحبه الرضى والتسليم ، ولم يقع ما يوجب الأدب ، كان ترقية وزيادة ، وإن غضب وسخِط كان طردًا وبُعدًا . أعاذنا الله من موارد النقم .
(2/145)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم أيضًا : { أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أي : أصمَّكم وأعماكم ، { وختم على قلوبكم } ؛ بأن غطى عليها بما يزول به عقلكم وفهمُكم ، { مَن إله غير الله يأتيكم به } أي : بذلك المأخوذ . { انظر كيف نُصرف الآيات } أي : نُكررها على جهات مختلفة ، كتصريف الرياح ، تارة من جهة المقدمات العقلية ، وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنيبة والتذكير بأحوال المتقدمين ، { ثم هم يصدفون } أي : يعرضون عنها ولم يلتفتوا إليها ، و { ثُم } : لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها .
و { قل } لهم أيضًا : { أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة } من غير مقدمة { أو جهرة } بتقديمها ، فالبغتة : ما لم يتقدم لهم به شعور ، والجهرة : ما قدمت لهم مخايلة ، وقيل : بغتة بالليل ، وجهرة بالنهار ، { هل يُهلك } أي : ما يُهلك به هلاك سخط وتعذيب ، { إلا القوم الظالمون } بالكفر والمعاصي .
الإشارة : إنما خلق الأسماع والأبصار ، لسماع الوعظ والتذكار ، ولنظرة التفكر والاعتبار ، فمن صرفهما في ذلك فقد شكر نعمتهما ، ومن صرفهما في غير ذلك فقد كفر نعمتهما ، ومن كفر نعمتهما يوشك أن تؤخذ منه تلك النعمة ، وكذلك نور العقل ، ما جعله الله في العبد إلا ليعرفه به ، ويعرف دلائل توحيده ، ويتبصرّ به في أمره . فإذا صرفه في تدبير هواه وشهواته فقد كفر نعمته ، فيوشك أيضًا أن يؤخذ منه .
وإذا أنعم الله عليه باستعمال هذه الحواس فيما خلقت لأجله؛ فليكن على حذر من آخذ ذلك منه أيضًا ، فلا يأمن مكر الله ، فإن الأسماع والأبصار والقلوب بيد الله ، يُقلبها كيف شاء ، فإن أخذها لن يقدر على ردها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره ، والعذاب الذي يأتي بغتة ، هو السلب بغتة ، أي : فقد القلب في مرة واحدة ، والذي يأتي جهرة هو فقده شيئًا فشيئًا ، وسبب هذا الهلاك : هو ظلم العبد لنفسه ، إما بسوء أدب مع الله ، أو نقض عهد الشيوخ العارفين بالله . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق .
(2/146)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } للمؤمنين بالنعيم المقيم ، { ومنذرين } للكفار بالعذاب الأليم ، ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم ، { فمن آمن } بهم ، { وأصلح } ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم ، { فلا خوف عليهم } من العذاب ، { ولا هم يحزنون } لفوات الثواب ، { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } أي : يلحقهم ، جعل العذاب ماسًّا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم ، واستغنى بتعريفه عن توصيفه . وذلك المس { بما كانوا يفسقون } أي : بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة .
الإشارة : ما من زمان إلا ويبعث الله أولياء عارفين ، مبشرين لم أطاعهم واتبعهم بطلعة أنوار الحضرة على أسرارهم ، ومنذرين لمن خالفهم بظهور ظلمة الكون على قلوبهم وانطباع الأكوان في أسرارهم ، فمن آمن بهم وصحبهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، بدليل قوله : { أَلآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يُونس : 62 ] ، ومن كذب بهم وبما يظهر على أيديهم من أسرار المعارف يمسهم عذاب القطيعة ، بما كانوا يفسقون ، أي : بخروجهم على طاعتهم والإذعان إليهم .
(2/147)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : أنا { لا أقول لكم عندي خزائن الله } فآتيكم منها بكل ما تقترحون عليَّ من المعجزات ، بل خزائن مقدوراته تعالى في علم غيبه ، ليس لي منها إلا ما يُظهره منها بقدرته ، { ولا أعلم الغيب } حتى أخبركم بالمغيبات ، بل مفاتيح الغيب عنده ، لا يعلمها إلا هو ، إلا ما يُوحى إليّ منها ، { ولا أقول لكم إني ملك } فأستغنى عن الطعام والشراب ، أو أقدر على ما يقدر عليه الملك ، إن أنا إلا بشر أوحى إليَّ أن أنذركم ، فأتبع ما يوحى إليّ؛ وأبترأ من دعوى الألوهية والملكية ، وأدعي النبوة التي هي من كمالات البشر .
{ قل } لهم : { هل يستوى الأعمى } الذي هو ضال جاهل ، { والبصير } الذي هو مهتدٍ عالم ، أو : هل يستوي مدعي المستحيل؛ كالألوهية والمَلَكية ومُدَّعي الحق ، كالنبوة والرسالة ، { أفلا تتفكرون } فتميزوا بين أدعاء الحق والباطل ، فتهتدوا إلى اتباع الحق وتجنب الباطل .
الإشارة : ما قالته الرسل للكفار حين اقترحوا عليهم المعجزات ، تقوله الأولياء لأهل الإنكار ، حيث يطلبون منهم الكرامات ، وتقول لهم : إن نتبع إلا ما أمرنا به ربنا وسنّه لنا رسولُنا ، فمن اهتدى وتبصر فلنفسه ، ومن عمى فعليها .
وقال الورتجبي بعد قوله : { ولا أقول لكم إني مالك } : تواضع صلى الله عليه وسلم حين أقام نفسه مقام الإنسانية ، بعد أن كان أشرف خلق الله من العرش إلى الثرى ، وأظهر من الكروبيين والروحانيين على باب الله سبحانه ، خضوعًا لجبروته ، وخُنوعًا في أنوار ملكوته ، بقوله : { ولا أقول لكم إني ملك } ، وليس لي اختيارٌ في نبوتي ، { إن اتبع إلا ما يوحى إليّ } . هل يكون من هذا وصفه ، بعد كونه بصيرًا بنور الله ، ورأفته به ، كالذي عمي عن رؤية إحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى؟ أفلا تتفكرون أن من ولد من العدم بصيرًا بنور القدم ، ليس كمن ولد من العدم أعمى عن رؤية عظمته وجلاله . انتهى كلامه .
(2/148)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قلت : الضمير في { به } : يعود على { ما يوحى } وجملة { ليس } : حال من ضمير { يُحشروا } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأنذر } أي : خوِّف بما أوحي إليك ، المؤمنين المقصرين في العمل؛ { الذين يخافون أن يُحشروا إلى ربهم } بالبعث للحساب ، حال كونهم في ذلك الوقت { ليس لهم من دونه وليٌّ } ينصرهم من عذابه ، { ولا شفيع } يرده عنهم بشفاعته ، { لعلهم يتقون } أي : كي يصيروا بإنذارك متقين ، وإنما خص الإنذار هنا بالذين يخافون؛ لأنه تقدم في الكلام ما يقتضى اليأس من إيمان غيرهم ، فكأنه يقول : أنذر الخائفين؛ لأنه ينفعهم الإنذار ، وأعرض عمن تقدم ذكرهم من الذين لا يسمعون ولا يعقلون ، أو : أنذر من يتوقع البعث والحساب ، أو يتردد فيه مؤمنًا أو كافرًا . قاله البيضاوي .
الإشارة : لا ينفع الوعظ والتذكير إلا من سبق له الخوف من الملك القدير؛ إذ هو الذي ينهضه الخوف المزعج أو الشوق المقلق ، وأما من سَوّدت قلبَه الخطايا ، وانطبعت في مرآته صور الأشياء ، فلا ينفع فيه زاجر ولا واعظ ، بل ران على قلبه ما اقترفه من المآثم ، والعياذ بالله .
(2/149)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قلت : { فتطردهم } : جواب النفي ، و { فتكون } : جواب النهي ، أي : ولا تطرد فتكون من الظالمين ، فليس عليكم من حسابهم شيء فتطردهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام ، حين طلب منه صناديدُ قريش أن يطرد عنه ضعفاء المسلمين ليجالسوه ، فَهَمَّ بذلك طمعًا في إسلامهم ، فنزلت : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } أي : يعبدونه بالذكر وغيره ، أو يدعونه بالتضرع والابتهال ، { بالغداة والعشي } أي : على الدوام . وخص الوقتين بالذكر؛ لشرفهما . وفي الخبر : " يا ابنَ آدمَ ، اذكُرني أول النهار وآخره ، أكفِكَ ما بينهما " وقيل : صلاة الصبح والعصر ، وقيل : الصلاة بمكة قبل فرض الخمس .
قال البيضاوي : بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أي : على التفسير الثاني في الآية المتقدمة أمره بإكرام المتقين وتقريبهم ، وألاَّ يطردَهم ، ترضية لقريش ، رُوِي أنهم قالوا : لو طَردتَ هؤلاء الأعبُدِ يُعنُون فقراء المُسلِمِينَ ، كعمَّار وصُهَيب وخبَّاب وبِلال وسَلمان جلَسنا إليك ، فقال : " ما أنا بطاردِ المؤمنين " قالوا : فأقمهُم عنا ، قال : " نَعَم " [ رُوِي أن عمر قال له : لَو فَعَلتَ حتَّى تنظرَ إلى ما يَصِيرُونَ؟ ] قالوا : فاكتُب بِذَلِكَ كِتَابًا ، فدَعَا بالصَّحِيفَةِ وبَعَليٍّ؛ ليَكتُبَ ، فنزلت . ه . وفي ذكر سلمان معهم نظر لتأخر إسلامه بالمدينة .
ثم وصفهم بالإخلاص فقال : { يريدون وجهه } أي : يدعونه مخلصين طالبين النظر لوجهه ، وفيه تنبيه على أن الإخلاص شرط من الأعمال ، ورتب النهي عليه؛ إشعارًا بأنه يقتضي إكرامهم ، وينافي إبعادهم ، ثم علل عدم طردهم فقال : { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم } أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلأي شيء تطردهم؟ وقيل : الضمير : للكفار ، أي : أنت لا تحاسب عنهم ، وهم لا يحاسبون عنك ، فلا تهتم بأمرهم ، حتى تطرد هؤلاء من أجلهم ، { فتكون من الظالمين } بطردهم ، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل ، فلا ظلم يلحقه في ذلك؛ لسابق العناية والعصمة .
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } أي : ومثل ذلك الاختبار ، وهو اختلاف أحوال الناس في أمر الدنيا ، { فتنا بعضهم ببعض } أي : ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين ، فقدّمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش؛ بالسبق إلى الإيمان { ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } أي : أهؤلاء من أنعم الله عليهم بالهداية والتوفيق دوننا ، ونحن الأكابر والرؤساء ، وهم المساكين والضعفاء ، فنحن أحق منهم به إن كان حقًا ، وهذا إنكار منهم لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير ، كقولهم { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَآ } [ الأحقاف : 11 ] . واللام في { ليقولوا } : للعاقبة . قال تعالى في الرد عليهم : { أليس الله بأعلم بالشاكرين } أي : بمن يقع منهم الإيمان والشكر فيوفقهم ، وبمن لا يقع منه فيخذُله .
(2/150)
وبالله التوفيق .
الإشاره : في صحبة الفقراء خيرٌ كثير وسرٌ كبير ، وخصوصًا أهل الصفاء والوفاء منهم ، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
مَا لذّةُ العَيشِ إلاّ صُحبَةُ الفُقَرا ... هُم السّلاَطين والسَّادَاتُ والأُمَرا
فَاصْحَبْهُمُو وتأدَّب في مَجَالِسِهِم ... وخلِّ حظَّكَ مَهمَا خلَّفُوكَ ورَا
إلى آخر كلامه .
فلا يحصل كمال التربية والتهذيب إلا بصحبتهم ، ولا تصفوا المعاني إلا بمجالستهم والمذاكرة معهم ، والمراد من دخل منهم بلاد المعاني ، وحصَّل مقام الفناء في الذات ، فالجلوس مع هؤلاء ساعة تعدل عبادة الثقلين سِنين ، ومن شأن شيوخ التربية : العطف على الفقراء والمساكين وتقريبهم ، ولا يطردون أحدًا منهم ولو عمل ما عمل ، اقتداء بما أمر به نبيهم صلى الله عليه وسلم . بل شأنهم الإقبال على من أقبل إليهم ، عصاة كانوا أو طائعين وإقبالهم على العصاة المذنبين أكثر ، جبرًا لكسرهم ، وتألفًا لهم ، وسوقًا لهم إلى الله بملاطفة الإحسان . وبالله التوفيق .
(2/151)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قلت : من فتح { أنه } ، جعله بدلاً من الرحمة ، ومن كسره؛ فعلى الاستئناف ، و { بجهالة } : حال ، ومن قرأ { فإنه } بالكسر؛ بالجملة : جواب الشرط ، ومن فتح؛ فخبر عن مضمر ، أي : فجزاؤه الغفران ، أو مبتدأ؛ فالغفران جزاؤه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } ؛ وهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ، خصهم بالإيمان بالقرآن ، بعد ما وصفهم بالمواظبة على الطاعة والإحسان ، فإذا أقبلوا إليك { فقل } لهم : { سلام عليكم } ؛ تحية مني عليكم ، أو من الله أبلغه إليكم ، { كَتب ربكم على نفسه الرحمة } أي : حتمها عليه فضلاً منه ، وهي { أنه من عمل منكم سوءًا } أي : ذنبًا { بجهالة } أي : بسفاهة وقلة أدب ، أو جاهلاً بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد ، { ثم تاب من بعده } أي : من بعد عمل السوء { وأصلح } بالتدارك والندم على إلا يعود إليه ، { فأنه غفور } لذنبه ، { رحيم } به بقبول توبته .
قال البيضاوي : أمرَه أن يبدأ بالتسليم ، أو يُبلغ سلام الله ويبشرهم بسعة رحمته وفضله ، بعد النهي عن طردهم؛ إيذانًا بأنهم الجامعون لفضيلَتَي العلم والعمل ، ومن كان كذلك ينبغي أن يُقَّرب ولا يُطرَد ، ويُعز ولا يُذل ، ويُبشِّر من الله بالسلامة في الدنيا وبالرحمة في الآخرة ، وقيل : إن قومًا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبَنا ذنوبًا عِظامًا ، فلم يَرُدَّ عليهم ، فانصرَفوا ، فنزلت . ه .
قال القُشَيري : أحلَّه محل الأكابر والسَّادات ، فإنَّ السلام من شأن الجَائِي إلاَّ في صفة الأكابر ، فإنَّ الجائي والآتي يسكت لهيبة المأتِي ، حتى يبتدىء ذلك المقصودُ بالسؤال ، فعند ذلك يجيب الآتي . ه .
الإشارة : مِن شأن الأكابر من الأولياء ، الداعين إلى الله ، إكرامُ مَن أتى إليهم بحُسن اللقاء وإظهار المَسَّرة والبُرور ، وخصوصًا أهل الانكسار فيُؤنسونهم ، ويُوسعون رجاءهم ، ويفرحونهم بما يسمعون منهم من سعة فضل الله وكرمه .
كان الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه إذا دخل عليه أحد من أهل العصيان كأرباب الدولة والمخزن ، قال إليهم ، وفرح بهم ، وأقبل عليهم ، وإذا أتى إليه أحد من العلماء أو الناسكين لم يَعتَنِ بشأنهم ، فقيل له في ذلك ، فقال : أهل العصيان يأتوننا فقراء منكسرين من أجل ذنوبهم ، لا يرون لأنفسهم مرتبة ، فأردت أن أجبر كسرهم ، وهؤلاء أهل الطاعة يأتوننا أغنياء معتمدين على طاعتهم ، فلا يحتاجون إلى ما عندنا ، أو كلامًا هذا معناه ، ذكره في لطائف المنن . والله تعالى أعلم .
(2/152)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قلت : قرىء بتاء الخطاب ، ونصب السبيل؛ على أنه مفعول به ، وقرىء بتاء التأنيث ورفع السبيل؛ على أنه فاعل مؤنث ، وبالياء والرفع؛ على تذكير السبيل؛ لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك نُفصل الآيات } أي : ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل الآيات ، أي : نشرح آيات القرآن ونوضحها في صفة المطيعين والمجرمين ، والمصرين والأوابين ، ليظهر الحق ، ولتستوضح يا محمد { سبيل المجرمين } فتعاملهم بما يحق لهم من الإبعاد إن بَعُدوا ، أو الإقبال إن أقبلوا . أو لتتبين طريقهم ويظهر فسادها ببيان طريق الحق .
الإشارة : سبيل المؤمنين من أهل اليمين ، هو التمسك بظاهر الشريعة المحمدية؛ بامتثال الأمر واجتناب النهي ، والمبادرة إلى التوبة ، إن أخل بأحد الأمرين من غير تحرِّ لما وراء ذلك ، وسبيل المتوجهين من السائرين والواصلين : تصفية القلوب وتهيؤها لإشراق أسرار علم الغيوب؛ بتخليتها من الرذائل وتحليتها بأنواع الفضائل؛ لتتهيأ بذلك لطلوع شموس العرفان ، والدخول في مقام الكشف والعيان ، الذي هو مقام الإحسان ، وما خرج عن هذين السبيلين فهو سبيل المجرمين : إما بالكفر ، وإما بالإصرار على العصيان ، والعياذ بالله .
(2/153)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { إني نُهيتُ } أي : نهاني ربي { أن أعبدَ الذين تدعُون } أي : تعبدون { من دون الله } ، أو ما تدعونها آلهة؛ أي : تسمونها بذلك ، وتخضعون لها من دون الله ، { قل } لهم : { لا أتبع أهواءكم } الفاسدة وعقائدكم الزائغة ، { قد ضللتُ } عن الحق { إذًا } أي : إذا اتبعت أهواءكم ، { وما أنا من المهتدين } أي : ما أنا في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم إن اتبعت أهواءكم ، وفيه تعريض بهم ، وأنهم ضالون حائدون عن طريق الهدى ، ليسوا على شيء منها .
{ قل إني على بيّنة } أي : طريق واضحة { من ربي } تُوصلني إلى تحقيق معرفته ، واستجلاب رضوانه ، أنا ومن اتبعني ، { و } أنتم { كذبتم به } أي : بربي؛ حيث أشركتم به وعبدتم غيره ، أو كذبتم بطريقه؛ حيث أعرضتم عنها ، واستعجلتم عقابه في الدنيا ، { ما عندي ما تستعجلون به } من العذاب أو المعجزات ، { إن الحكم إلا لله } في تعجيل العذاب وتأخيره ، أو في إظهار الآيات وعدم إظهارها ، { يقَصُّ } القصص { الحق } وهو القرآن ، أي : ينزله عليّ لأنذركم به ، أو يقضي القضاء الحق من تعجيل ما يعجل وتأخير ما يؤخر ، فيحكم بيني وبينكم إن شاء ، { وهو خير الفاصلين } أي : القاضين .
{ قل لو أن عندي } أي : في قدرتي وطوقي { ما تستعجلون به } من العذاب { لقُضي الأمر بيني وبينكم } أي : لأهلكتكم عاجلاً؛ غضبًا لربي ، وانقطع ما بيني وبينكم ، ولكن الأمر بيد خالقكم الذي هو عالم بأحوالكم ، { والله أعلم بالظالمين } أي : عالم بما ينبغي أن يؤخذ عاجلاً ، وبمن ينبغي أن يمهل ، فمفاتح الغيب كلها عنده ، كما سيذكره .
الإشارة : قل ، أيها العارف ، المتوجه إلى الله ، المنقطع كليته إلى مولاه ، الغائب عن كل ما سواه : إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله؛ من حب الدنيا ، ومن الرياسة والجاه . قل : لا أتبع أهواءكم؛ لأني قد اجتمعت أهوائي في محبوب واحد ، حين وصلت إلى حضرته ، وتنعمت بشهود طلعته ، فانحصرت محبتي في محبوب واحد ، وفي ذلك يقول القائل :
كَانَت لِقَلبيَ أهوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ ... فَاستَجمَعَت مُذ رأتكَ العَينُ أهوائِي
فَصَارَ يَحسُدُنِي مَن كُنتُ أحسُدُهُ ... وَصِرتُ مَولَى الوَرَى مُذ صِرت مَولائِي
تَرَكتُ لِلنَّاسِ دنياهم ودِينَهُم ... شُغلاً بِذِكرك يَا دِينِي ودُنيَائِي
وقال آخر :
تَركتُ للنَّاسِ ، ما تَهوَى نُفوسُهم ... مِن حُبِّ دُنيا ومن عزِّ ومن جَاهِ
كذَاكَ تَركُ المقَامَات هُذَا وَهُنَا ... والقَصدُ غَيبَتُنَا عَمَّا سِوَى اللهِ
{ قل إني على بينة من ربي } أي : بصيرة نافذة في مشاهدة أسرار ربي ، فقد كذَّبتم بخصوصيتي ، وطلبتم دلائل ولايتي ، ما عندي ما تستعجلون به من الكرامات ، { إن الحكم إلا لله } ، يقضي القضاء الحق ، فيُظهر ما يشاء ، ويُخفي مَن يشاء ، { وهو خير الفاصلين } أي : الحاكمين بين عبادة ، قل لو أن عندي ما تستعجلون به؛ من نفوذ دعوتي في إظهار كرامتي ، لقٌضي الأمر بيني وبينكم ، والله أعلم بالمكذبين بأوليائه .
(2/154)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
قلت : { مفَاتِح } : جمعِ مفتح بكسر الميم مقصور ، من مفتاح ، وهو آلة الفتح ، وهو مستعار لما يتوصل به إلى الغيوب ، أو يفتحها ، وهو المخزن .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وعنده مفاتح الغيب } أي : علم المغيبات ، لا يعلمها غيره ، إلا من ارتضى من خلقه ، أو : عنده خزائن علم الغيوب لا يعلمها غيره ، والمراد بها الخمسة التي ذكرها الحق تعالى في سورة لقمان : { إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } [ لقمَان : 34 ] الآية؛ لأنها تعم جميع الأشياء ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله ، فقد اختص سبحانه بعلم المغيبات { لا يعلمها إلا هو } ؛ فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحِكَم ، فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته ، وفيه دليل على أن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها ، وهو أمر ضروري .
{ ويعلم ما في البر والبحر } من عجائب المصنوعات وضروب المخلوقات؛ على اختلاف أجناسها وأنواعها ، حيها وجامدها ، فيعلم عددها وصفتها وأماكنها ، { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } كيف تسقط ، على ظهرها أو بطنها ، وما يصل منها إلى الأرض وما يتعلق في الهواء ، وهو مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات ، كما تعلق بالكليات ، { ولا حبة في ظلمات الأرض } من حبوب الثمار وبذور سائر النبات ، والرمل ، وغير ذلك من دقائق الأشياء وجلائلها ، { ولا رطب ولا يابس } من الأشجار والنبات والحيوانات التي فيها الحياة والتي فارقتها ، فهي من جنس اليابس ، { إلا في كتاب مبين } أي : علم الله القديم ، أو اللوح المحفوظ ، فعلى الأول ، يكون بدلاً من الاستثناء الأول ، بدل الكل من الكل ، وعلى الثاني : بدل اشتمال . وقرئت بالرفع ، على العطف على محل : { من ورقة } ، أو على الابتداء ، والخبر : { في كتاب مبين } .
الإشارة : مفاتح الغيب هي أسرار الذات وأنوار الصفات ، أو أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، لا يعلمها إلا هو ، فما دام العبد محجوبًا بوجود نفسه ، محصورًا في هيكل ذاته ، لا يذوق شيئًا من هذه الغيوب ، فإذا أراد الحق جل جلاله أن يفتح على عبده شيئًا من هذه الغيوب ، غطى وصف عبده بوصفه ، ونعته بنعته ، فغيَّبه عن وجود نفسه ، فصار هو سمعه وبصره وقلبه وروحه ، فيعلم تلك الأسرار به ، لا بنفسه ، فما علم تلك الأسرار غيره ، ويحيط بأسرار الأشياء كلها ، برها وبحرها؛ لأنه يصير خليفة الله في أرضه . وقال الورتجبي : غَيبُه ذاته القدسية ، وهي خزانة أسرار الأزل والأباد ، ومفاتحها : صفاتها الأزلية ، لا يعلم صفاته وذاته بالحقيقة إلا هو تعالى بنفسه ، فَنَفى الغير عن البين ، حيث لا حيث ولا بين . انظر تمامه فيه .
(2/155)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي يتوفاكم } أي : يقبض أرواحكم { بالليل } إذ نمتم ، وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي ، { ويعلم ما جَرَحتم } أي : ما كسبتم من الأعمال { بالنهار } ، وخص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريًا على المعتاد ، { ثم إذا } توفاكم بالليل { يبعثكم فيه } أي : في النهار ، { ليُقضى أجل مُسمى } أي : ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا ، وهو أجل الموت ، { ثم إليه مرجعكم } بالموت { ثم يُنبئُكم بما كنتم تعملون } فيعاتب المسيء ويكرم المحسن .
رُوِي : أن العبد إذا قُبض عَرجت الملائكة برُوحه إلى سِدرة المنتهَى ، فيُوقف به هناك ، فيُعاتبه الحق تعالى على ما فرط منه حتى يَرفَضَّ عرقًا ، ثم يقول له : قد غفرتُ لك ، اذهبوا به ليرى مقعدَه في الجنة ، ثم يُردّ إلى السؤال .
{ وهو القاهر فوق عباده } بالقهر والغلبة ، { ويُرسل عليكم حفظةً } ؛ ملائكة تحفظ أعمالكم ، وهم الكرام الكاتبون ، والحكمة فيه : أن العبد إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتُعرض على رؤوس الأشهاد ، كان أزجر له عن المعاصي ، ثم لا تزال الملائكة تكتب عليه أعماله { حتى إذا جاء أحدَكُم الموتُ توفتهُ رسُلنا } أي : ملك الموت وأعوانه ، { وهم لا يٌفرطون } بالتواني التأخير ، ولا يجازون ما حد لهم بالتقديم والتأخير . { ثم رُدّوا إلى الله } أي : إلى حُكمه وجزائه ، أو مشاهدته وقربه ، { مولاهم } الذي يتولى أمرهم ، { الحقِّ } أي : المتحقق وجوده ، وما سواه باطل ، { ألا له الحُكم } يومئذٍ ، لا حكم لغيره فيه ، { وهو أسرع الحاسبين } ؛ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة ، لا يشغله حساب عن حساب ، ولا شأن عن شأن ، سبحانه لا إله إلا هو .
الإشارة : وهو الذي يتوفاكم ، أي : يخلصكم بليل القبض ، ويعلم ما كسبتم في نهار البسط ، ثم يبعثكم من ليل القبض إلى نهار البسط ، وهكذا؛ ليقضى أجل مسمى للإقامة فيهما ، ثم إليه مرجعكم بالخروج عنهما؛ لتكونوا لله لا شيء دونه ، وفي الحكم : " بسطك كي لا يبقيك مع القبض ، وقبضك كي لا يتركك مع البسط ، وأخرجك عنهما ، كي لا تكون لشيء دونه " .
وقال فارس رضي الله عنه : القبض أولاً ثم البسط ، ثم لا قبض ولا بسط؛ لأن القبض والبسط يقعان في الوجود؛ أي؛ في وجود النفس ، وأما مع الفناء والبقاء فلا . ه . أي : فلا قبض ولا بسط؛ لأن العارف الواصل مقبوض في بسطه ، مبسوط في قبضه ، لا تؤثر فيه هواجم الأحوال؛ لأنه مالك غير مملوك . والله تعالى أعلم .
ومن علم أن الله قاهر فوق عباده ، انسلخ من حوله وقوته ، وانعزل عن تدبيره واختياره؛ لإحاطة القهرية به ، ومن تحقق عموم قهاريته تعالى ، علم أنه لا حجاب حسي بينه وبينه ، إذ لو حجبه شيء لستره ما حجبه ، ولو كان له ساتر لكان لوجوده حاصر ، وكل حاصر لشيء فهو له قاهر ، ( وهو القاهر فوق عباده ) ، وإنما المحجوب : العبد عن ربه بوجود وهمه وجهله ، ومن تحقق أن الملائكة تحفظ أعماله استحيا من ارتكاب القبائح ، لئلا تعرض على رؤوس الأشهاد .
(2/156)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل من ينجيكم } أي : يُخلصكم { من ظلمات البر والبحر } أي : من شدائدهما ، استعير الظلمة للشدة ، لمشاركتهما في الهول ، فقيل لليوم الشديد : يوم مظلم ، أو : من الخسف في البر والغرق في البحر ، حال كونكم { تدعونه تضرعًا وخُفية } أي : جهرًا وسرًا ، قائلين : { لئن أنجيتنا من هذه } الظلمة ، أي : الشدة ، { لنكونن من الشاكرين } بإقرارنا بوحدانيتك ، { قل الله يُنجيكم منها ومن كل كرب } أي : غم سواها ، { ثم أنتم تُشركون } أي : تعودون إلى الشرك ولا تُوفون بالعهد ، وهذا شأن النفس اللئيمة؛ في وقت الشدة ترجع إلى الحق وتوحده ، وفي وقت السعة تنساه وتشرك معه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُم مًّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [ الرُّوم : 33 ] .
الإشارة : ظلمات البر هو ما يخوض القلب ويظلمه؛ من أجل ما يدخل عليه من حس الظاهر ، الذي هو بر الشريعة ، وظلمات البحر هو ما يدهش الروح ويحيرها من أجل ما يدهمها من علم الحقائق ، عند الاستشراف عليها ، أو ما يشكل عليها في علم التوحيد ، فإذا رجع إلى الله فيهما ، وتمسك بشيخ كامل في علم الحقائق أنجاه الله منهما ، فإذا شكر الله وأفرد النعمة إليه دامت نجاته ، وإن التفت إلى غيره خيف عليه العوُد إلى ما كان عليه . وبالله التوفيق .
(2/157)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم } ، كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل ، { أو من تحت أرجُلِكُم } ، كما أغرق فرعون وخسف بقارون ، وقيل : من فوقكم : بتسليط أكابركم وحكامكم عليكم ، ومن تحت أرجلكم : سفلتكم وعبيدكم ، { أو يَلبسكم } أي : يَخلطكم { شيعًا } أي : فِرَقًا متحزبين على أهواء شتى ، فينشب القتال بينكم ، { ويُذيق بعضكم بأس بعض } ، بقتال بعضكم بعضًا .
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : أنه لما نزلت : { أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم } قال : " أعُوذُ بِوَجهِكَ " ، ولما نزلت : { أو من تحت أرجلكم } قال أيضًا : " أعُوذُ بِوَجهِكَ " ولما نزلت : { أو يلبسكم شيعًا } قال : " هذَا أهوَنُ " ، فقضى الله على هذه الأمة بالقتل والقتال إلى يوم القيامة ، نعوذ بالله من الفتن .
قال تعالى : { انظر كيف نُصرف الآيات } أي : نُقبلها بورود الوعد والوعيد { لعلهم يفقهون } ما نزل إليهم .
{ وكذَّب به قومك } أي : بالعذاب ، أو بالقرآن ، { وهو الحق } أي : الواقع لا محالة ، أو الصدق في أخباره وأحكامه ، { قل لست عليكم بوكيل } أي : وكُل إليَّ أمركم فأمنعكم من التكذيب ، أو أجازيكم ، إنما أنا منذر ، والله هو الحفيظ . { لكل نبأ } أي : خبرٍ بعذاب أو إيعاد به ، { مستقر } أي : وقت استقراره ووقوعه ، يعرف عند انقضائه صدقة من كذبه ، { وسوف تعلمون } ما يحل بكم عند وقوعه في الدنيا والآخرة .
الإشارة : الخطاب للمريدين السائرين ، أو الواصلين . خوفهم بأن يحول بينهم وبين شهود عظمته الفوقية والتحتية ، فينزل عليهم عذاب الفرق من جهة العلو أو السُّفل ، فلا يشهدون إلا الأكوان محيطة بهم ، أو يخالف بين وجوههم ويلبسهم شيعًا ، فإذا تفرقت الوجوه تفرقت القلوب غالبًا ، والعياذ بالله ، لأن الفتح والنصر مرتب على الجمع ، قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } [ سَبَأ : 26 ] . قال القشيري : فيه إشارة إلى أن الجمع مُؤذِن بالفتح . ه . فينبغي للمريد أن يشهد الصفاء في الجميع ، ويتودد إلى الجميع ، حتى لا يبقى معه فرق . والله تعالى أعلم .
(2/158)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا . . . }
قلت : { ولكن ذكرى } : مفعول بمحذوف ، أي : يذكرونهم ذكرى ، أو مبتدأ ، أي : عليهم ذِكرَى .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا } أي : القرآن؛ بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها { فأعرض عنهم } ولا تجالسهم ، بل قُم عنهم { حتى يخوضوا في حديث غيره } أي : غير القرآن ، { وإما يُنسينكَ الشيطانُ } النهيَ عن مجالستهم ، وجلست نسيانًا ، { فلا تقعد بعد الذكرى } أي : بعد أن تذكر النهي ، { مع القوم الظالمين } ، ونسبة النسيان إلى الشيطان أدبًا مع الحضرة ، { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ } [ النِّساء : 78 ] ، ووضع المظهر موضع المضمر ، أي : معهم ، للدلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم .
{ وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي : ما على المتقين الذين يجالسونهم شيء من حسابهم ، بل عقابهم على الخوض خاصٌّ بهم ، { ولكن } عليهم { ذِكرَى } أي : تذكيرهم ووعظهم ومنعهم من الخوض إن قدروا ، وكراهية ذلك إن لم يقدروا ، فيعظونهم { لعلهم يتقون } ، فَيجتَنِبُون ذلك الخوض؛ حياء أو كراهية مُساءتهم ، وإنما أبيح للمؤمنين القعود مع الكفار الخائضين ومخالطتهم؛ لأن ذلك يشق عليهم ، إذ لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطواف ، وغير ذلك بخلافه عليه الصلاة والسلام ؛ لأن الله أغناه عنهم به ، فنهاه عن مخالطة أهل الخوض مطلقًا .
ثم قال له : { وذَرِ الذين اتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا } أي : بنوا أمر دينهم على التشهِّي ، وتدَّينوا بما لا يعود عليهم بنفع ، عاجلاً وآجلاً ، كعبادة الأصنام واتخاذ البحائر والسوائب ، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوا بالدخول فيه لعبًا ولهوًا ، حيث سخروا به ، أي : أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم . ومن جعله منسوخًا بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنهم ، وترك التعرض لهم ، { وغرتهم الحياةُ الدينا } وزخرفها ، حتى نسُوا البعث وأنكروه ، والعياذ بالله .
الإشارة : قد تقدم مرارًا التحذير من مخالطة أهل الخوض وصحبة العوام ، وكل من ليس من جنس أهل النسبة ، فإن ألجأه الحال إلى صحبتهم فليُذكرهم ، ويعظهم ، ويُنهضهم إلى الله بمقاله أو حاله ما استطاع . وبالله التوفيق .
ثم أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتذكير ، فقال :
{ . . . وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }
قلت : { تُبسل } : تُحبس وتُسلم للهلكة ، وفي البخاري : " تُسبلَ : تُفضح ، أُبلسوا : فُضِحُوا وأُسلموا " .
(2/159)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وذكِّر } بالقرآن الناس؛ مخافة { أن تُسبل نفس بما كسبت } أي : لئلا تُحبس كل نفس وتُرتهن بما كسبت أو تُسلم للهلكة ، أو لئلا تفضح على رؤوس الأشهاد بما كسبت ، { ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع } يدفع عنها العذاب ، { وإن تَعدل كل عَدلٍ } أي : وإن تفد كل فداء { لا يُؤخذ منها } أي : لا يُقبل منها .
{ أولئك الذين أُبسلوا بما كسبوا } أي : أُسلموا للعذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة ، أو افتضحوا بما كسبوا { لهم شراب من حميم } وهو الماء الحار ، { وعذاب أليم بما كانوا يكفرون } ، والمعنى : هم بين ماء مغَلى يتَجَرجر في بطونهم ، ونار تُشعل بأبدانهم بسبب كفرهم ، والعياذ بالله .
الإشارة : لا ينبغي للشيخ أو الواعظ أن يمل من التذكير ، ولو رأى من أصحابه غاية الصفاء ، ولا ينبغي للمريد أن يمل من التصفية والتشمير ، ولو بلغ من تصفية نفسه ما بلغ ، أو أَظهرت له من الاستقامة ما أظهرت ، قال تعالى : { وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها } .
قال أبو حفص النيسابوري رضي الله عنه : من لم يتَّهم نفسه على دوام الأوقات ، ولم يخالفها في جميع الأحوال ، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه ، كان مغرورًا ، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها ، وكيف يصح لعاقل الرضا عن نفسه؛ والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ، يقول : { وَمَآ أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [ يوسف : 53 ] . وقال أيضًا : منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إليَّ نظر السخط ، وأعمالي تدل على ذلك . وقال الجنيد رضي الله عنه : لا تسكن إلى نفسك ، وإن دامت طاعتها لك في طاعة ربك . وقال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه : ( ما رضيت عن نفسي طرفة عين ) . إلى غير ذلك من مقالاتهم التي تدل على عدم الرضى عن النفس وعدم القناعة منها بالتصفية التي آظهرت .
ويُحكى عن القطب بن مشيش؛ أنه لما بلغ في تلاوته هذه الآية ، تواجد وأخذه حالٌ عظيم اقتطعه عن حسه ، حتى كان يتمايل ، فيميل الجبل معه يمينًا وشمالاً . نفعنا الله بذكرهم آمين .
فإن قلت : العارف لم تبق له نفس يتهمها؛ لفنائه في شهوده وانطوائه في وجوده؟ قلت : العارف الكامل هو الذي لا يحجبه جمعه عن فرقة ، ولا فرقة عن جمعه ، فإذا رجع إلى شهود فرقه ، رأى نفسه عبدًا متصفًا بنقائص العبودية التي لا نهاية لها ، ولذلك قالوا : للنفس من النقائص ما لله من الكمالات . فلو تطهرت كل التطهير لم يقبل منها ، وإذا نظر إلى نعت جمعه رأى نفسه مجموعًا في الحضرة ، متصفًا بالكمالات التي لا نهاية لها ، فيغيب عن شهود عبوديته في عظمة ربوبيته ، لكنه لا يحجب بجمعه عن فرقه؛ لكماله ، وإلى هذا المعنى أشار في الحكم بقوله : لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك ، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك . وبالله التوفيق .
(2/160)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قلت : { ونُردُّ } : عطف على { ندعو } والهمزة للإنكار ، والرد على العقب : الرجوع إلى وراء ، لعلَّةٍ في المشي ، واستعير للمعاني ، و { كالذي استهوته } : الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في { نُردّ } أي : كيف نرجع مشبهين بمن استهوته الشياطين ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : ردًا كرد الذي . . . الخ . واستهوى : استفعل ، من هَوَى في الأرض إذا ذهب ، وقال الفارسي : استهوى بمعنى أهوى ، مثل استزل بمعنى أزل ، و { حيران } : حال من مفعول استهوى .
و { أن أقيموا } : عطف على { لنُسلم } ، أو { أمرنا } . { قوله الحق } : مبتدأ ، و { يوم يقول } : خبر مقدم ، أي : قوله الحق حاصل يوم يقول : { كن فيكون } ، وفاعل { يكون } : ضمير فاعل كن ، أي : حين يقول للشيء : كن فيكون ذلك الشيء ، و { يوم ينفخ } : ظرف لقوله : { الملك } ، كقوله : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [ غَافر : 16 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد { أندعو من دون الله } أي : نعبد { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } من الأصنام الجامدة ، { ونُرد على أعقابنا } أي : نرجع إلى الشرك { بعد إذ هدانا الله } وأنقذنا ، ورزقنا الإسلام ، وهذا على الصحابة . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم له شرك؛ لعصمته ، أي : كيف نرد على أعقابنا ردًا { كالذي استهوته الشياطين } ، أي : أضلته مَرَدَةُ الجن عن الطريق المستقيم ، فذهب { في الأرض حيران } ؛ متحيرًا ضالاً عن الطريق ، { له أصحاب } أي : رفقة { يدعونه إلى الهدى } أي : إلى الطريق المستقيم ، يقولون له : { ائتنا } وكن معنا لئلا تتلف . وهو مثال لمن ترك الإسلام وضل عنه .
{ قل } لهم : { إن هدى الله } ، وهو الإسلام ، { هو الهدى } وحده ، وما عداه ضلال . { و } قد { أمرنا لنسلم لرب العالمين } نكون على الجادة من الهدى ، { و } أُمرنا { أن أقيموا الصلاة واتقوه } : أي : أُمرنا بإقامة الصلاة والتقوى ، رُوِي أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان ، فنزلت ، وعلى هذا أُمِر الرسول بهذا القول؛ إجابة عن الصديق تعظيمًا لشأنه ، وإظهارًا للاتحاد الذي كان بينهما . قاله البيضاوي . وقال ابن جزي : ويبُطل هذا قول عائشة : ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا برائتي . ه . قلت : ليس بحجة؛ لصغر سنِّها وقت نزول الآية بمكة ، والإسلام يمحو ما قبله . ثم قال جل جلاله : { وهو الذي إليه تحشرون } يوم القيامة؛ فيظهر من تبع الحق من الباطل .
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق } . أي : قائمًا بالحق والحكمة ، فهو أحق بالعبادة وحده ، { ويوم يقول كن فيكون قوله الحق } أي : قوله العدل حاصل يوم يقول للبعث والحشر : كن فيكون ، { وله الملك يوم ينفخ في الصور } أي : انفرد الملك له يوم ينفخ في الصور فيقول : لمن الملك اليوم؟ فلا يُجاب ، فيقول : لله الواحد القهار ، { عالم الغيب والشهادة } أي : هو عالم بما غاب وما ظهر ، { وهو الحكيم } في صنعه ، { الخبير } بأمر عباده .
(2/161)
الإشاره : إذا توجه العبد إلى مولاه ، وانقطع بكليته إلى الله ، طالبًا منه معرفته ورضاه ، قد يمتحن بشيء من شدائد الزمان؛ كالفاقة وإيذاء الخلق والأحزان ، فيقال اختبارًا له : تعلق في دفع ما نزل بك بشيء من السِّوى ، فيجب عليه أن يقول : { أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونُردُّ على أعقابنا } بالالفتات إلى غير ربنا ، بعد إذ هدانا الله إلى توحيده ومعرفته ، ونكون كالذي استهوته الشياطين في الأرض ، حيران بالتفاته إلى غير الكريم المنان ، { قل إن هدى الله } أي : هدايته الخاصة ، وهي الإنقطاع إليه وحده في الشدائد ، { هو الهدى } ، وقد أُمرنا بالانقياد بكليتنا إلى ربنا ، وأُمرنا إذا حزبنا شيء بإقامة الصلاة؛ لأنها مفتاح الفرج ، وبالتقوى؛ لأنها سبب النصر؛ { إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا } ، وآخر أمرنا الموت والحشر إلى ربنا ، والاستراحة إلى الروح والريحان . وبالله التوفيق .
(2/162)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قلت : { آزر } : عطف بيان ، أو بدل من أبيه ، ومنع من الصرف؛ للعلمية والعجمة . وقرأ يعقوب بالضم على النداء ، وقيل : إن آزر اسم صنم؛ لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ . فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به؛ لملازمته له ، وقيل : هما عَلمَانِ له كإسرائيل ويعقوب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أذكر { إذ قال إبراهيم لأبيه آزر } ، حين دعاه إلى التوحيد : { أتتخذ أصنامًا آلهة } تعبدها من دون الله ، وهي لا تنفع ولا تضر ، { إني أراك وقومك في ظلال مبين } : بيِّن الضلالة ، ظاهر الخطأ .
الإشارة : كل من سكن إلى شيء دون الله ، أو مال إليه بالعشق والمحبة ، فهو صنم في حقه ، فإن لم ينزع عن محبته ، ولم يقلع عن السكون إليه ، كان حجابًا بينه وبين شهود أسرار التوحيد . وفي الحِكَم : " ما أحببت شيئًا إلا وكنت عبدًا له ، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبدًا " . وفي الحديث : " تَعِس عبدُ الدينار والدرهم " . . أي : خاب وخسر ، فإذا اطلع الحق تعالى على قلب عبده فرآه مائلاً لغيره ، حجب عنه أنوار قدسه ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه :
لِي حَبِيبٌ إنما هو غَيُور ، ... يُطلُّ في القَلبِ كَطَيرٍ حَذُور ، ... إذا رأى شَيئًا امتَنَع أن يَزُور
(2/163)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قلت : المُلك : ما ظهر في عالم الشهادة من المحسوسات ، والملكوت : ما غاب فيها من معاني أسرار الربوبية ، والجبروت : ما لم يدخل عالم التكوين من أسرار المعاني الأزلية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك } أي : مثل ذلك التبصر الذي بَصَّرنا به إبراهيم حتى اهتدى للرد على أبيه ، نُريه { ملكوت السماوات والأرض } أي : نكشف له عن أسرار التوحيد فيهما ، حتى يشاهد فيهما صانعهما ، ولا يقف مع ظاهر حسهما ، وإنما فعلنا له ذلك { ليكون من الموقنين } بمعرفتنا ، عارفًا بأسرار قدسنا .
ولما كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب والقمر والشمس ، أراد أن يرشدهم إلى التوحيد من طريق النظر والاستدلال؛ { فلما جن عليه الليل } أي : ستره بظلامه ، { رأى كوكبًا } وهو الزهرة أو المشتري ، { قال هذا ربي } على سبيل التنزل إلى قول الخصم ، وإن كان فاسدًا؛ فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ، ثم يَكرّ عليه بالفساد؛ لأن ذلك أدعى إلى الحق ، وأقرب إلى رجوع الخصم ، { فلما أفل } أي : غاب ، { قال لا أحب الآفلين } ؛ فضلاً عن عبادتهم؛ فإن التغير بالاستتار والانتقال يقتضي الإمكان والحدوث وينافي الألوهية .
{ فلما رأى القمر بازغًا } : متبدئًا في الطلوع ، { قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين } . استعجزَ نفسه واستعان ربه في دَرك الحق ، وأنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه؛ إرشادًا لقومه . وتنبيهًا لهم على أن القمر أيضًا؛ لتغيُّر حاله ، لا يَصلح للألوهية ، وأن من اتخذه إلهًا ، فهو ضالٌّ .
{ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } ، إنما ذكَّر الإشارة لتذكير الخبر ، وصيانةً للرب عن شبهة التأنيث { هذا أكبر } لكبر النور وسطوعه أكثر ، { فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } من الأجرام المحدثة المحسوسة ، المحتاجة إلى محدث يحدثها ، ومخصص يخصصها .
ولما تبرأ من عبادتها توجه إلى موجدها ومبدعها ، فقال : { إني وجهت وجهي للذي فطر } أي : أبدع { السماوات والأرض } حال كوني { حنيفًا } أي : مائلاً عن دينكم { وما أنا من المشركين } مثلكم . وإنما احتج بالأفول دون البزوغ ، مع أنه تغير؛ لأن الأفول أظهر في الدلالة؛ لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب . ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال . وقيل : إن هذا الاستدلال والاحتجاج كان في حال طفولته قبل التكليف . فقد رُوِي أنه لما ولدته أمه في غار ، خوفًا من نمرود؛ إذ كان يقتل الأطفال؛ لأن المنجمين أخبروه أن هلاكه على يد صبي يُولد في هذا العصر ، فكان يستدل بما رأى على توحيد ربه ، وهو في الغار ، وهذا ضعيف لأن قوله : { إني بريء مما تشركون } يقتضي المحاججة والمخاصمة لقومه .
وقوله عليه السلام : { هذا ربي } مع قوله :
(2/164)
{ إِنّي سَقِيمٌ } [ الصَّافات : 89 ] ، و { فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [ الأنبياء : 63 ] ، ليس بكذب؛ للعصمة ، وإنما هو تورية . وفي الحديث : " ليس بكاذبٍ من كاذَب ظالمًا ، أو دفع ضررًا ، أو رعى حقًا ، أو حفظ قلبًا " وفي رواية أخرى : " ليس بكاذب ، من قال خيرًا أو نواه " وأما اعتذاره في حديث الشفاعة؛ فلهول المطلع ، فيقع الحذر من أدنى شيء . والله تعالى أعلم .
الإشارة : لمَّا كوشف إبراهيم بعالم الملكوت ، رأى الله في الأشياء كلها ، كما ورد في بعض الأثر : ( ما رأيت شيئًا إلا رأيت الله فيه ) . وإنما قال : { لا أحب الآفلين } ؛ حذرًا من الوقوف مع الحس دون شهود المعنى ، إذ بحر المعاني متصل دائم ليس فيه تغيير ولا انتقال . وإنما تتغير الأواني دون المعاني ، فشمس المعاني مشرقة على الدوام ليس لها مغيب ولا تغير ولا انتقال ، ولذلك قيل :
طَلَعت شَمسُ مَن أُحِبُ بلَيلٍ ... واستنَارَت فمَا تَلاها غُرُوبُ
إنَّ شَمسَ النَّهَارِ تَغرُبُ بالَّليلِ ... وشَمسُ القُلوبِ ليس لهَا مَغِيبُ
أي : طلعت شمس نهارعرفانهم على ليل وجودهم ، فامتحت ظلمة وجودهم في شهود محبوبهم ، وفي الحِكَم : " أنا الظواهر بأنوار آثاره ، وأنار السرائر بأنوار أوصافه ، لأجل ذلك أفَلَت أنوار الظواهر ، ولم تأفل أنوار القلوب والسرائر " .
قال الجَوزِي : لما بدا لإبراهيم نجم العلم ، وطلع قمر التوحيد ، وأشرقت شمس المعرفة قال : { إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي . . . } الآية . ه . قيل : لما نظر إبراهيم عليه السلام بعيون رأسه إلى نور النجم والشمس والقمر الحسي ، نودي في سره : يا إبراهيم ، لا تنظر ببصرك إلى الجهة الحسية ، وانظر ببصيرتك إلى الحقيقة المعنوية؛ لأن الوجود كله عين الأحدية ، فافهم معاني الأسماء ، ولا تقف مع جرم الأرض والسماء ، فإن الوقوف مع الحس حجاب عن المعنى . فقال إبراهيم : { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين } . ه . وفي ذلك يقول الششتري أيضًا :
لا تنظُر إلَى الأوَاني ... وَخُض بَحرَ المعَانِي ... لَعَّلَكَ تَرَانِي ...
(2/165)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَآجُّونّيِ فيِ اللهِ وقد هَدَآنِ . . . }
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وحاجه قومه } أي : خاصموه في التوحيد ، فقال لهم : { أتحاجُّوني في الله } أي : في وحدانيته ، أو في الإيمان به ، وقد هداني إلى توحيده وأرشدني إلى معرفته ، فلا ألتفت إلى غيره ، ولا أعبأ بمن خاصمني فيه ، والأصل : تحاجونني ، فحذف نافع وابن عامر نون الرفع ، وأبقى نون الوقاية ، وقيل : العكس ، وأدغم الباقون أحدى النونين في الأخرى .
الإشارة : مخاصمة العموم لأهل الخصوصية سُنَّة ماضية؛ { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ] ؛ لأنَّ من أنكر شيئًا عاداه ، فأهل الخصوصية يَعذرون من أنكر عليهم؛ لأن ذلك مبلغهم من العلم ، والعامة لا يعذرون أهل الخصوصية؛ لخروجهم عن بلادهم؛ فلا يعرفون ما هم فيه . والله تعالى أعلم .
ولما خاصموا إبراهيم عليه السلام فلم يلتفت إليهم ، خوفوه بأصنامهم ، فقال لهم :
{ . . . وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }
قلت : الاستثناء في قوله : { إلا أن يشاء } : منقطع . قاله ابن جزي . وظاهر كلام البيضاوي : أنه متصل ، وهو المتبادر ، أي : ولا أخاف ما تشركون في حال من الأحوال إلا أن يشاء ربي أن يصيبني بمكروه من جهتها؛ استدراجًا لكم ، وفتنة . وقال الواحدي : لا أخاف إلا مشيئة ربي أن يعذبني .
يقول الحقّ جلّ جلاله : حاكيًا عن خليله إبراهيم : { ولا أخاف ما تُشركون به } أي : لا أخاف معبوداتكم أن تصيبني بشيء؛ لأنها جوامد لا تضر ولا تنفع ، { إلا أن يشاء ربي شيئًا } يصيبني بقدَره وقضائه ، فإنه يصيبني لا محالة ، لا بسببها ، { وَسِعَ ربي كل شيء علمًا } ، كأنه علَّة الاستثناء ، أي : لا أخاف إلا ما سبق في مشيئة الله ، لأنه أحاط بكل شيء علمًا ، فلا يبعد أن يكون في علمه وقدره أن يحيق بي مكروه من جهتها ، { أفلا تتذكرون } فتُمَيزوا بين الصحيح والفاسد ، والقادر والعاجز؟ .
{ وكيف أخافُ ما أشركتم } وهو جامد عاجز لا يتعلق به ضرر ولا نفع؟ { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله } وهو أحق أن يُخاف منه كل الخوف ، لأنه القادر على الانتقام ممن أشرك معه غيره ، وسوَّى بينه وبين مصنوع عاجز ، لا يضر ولا ينفع ، فأنتم أحق بالخوف؛ لأنكم { أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطانًا } أي : لم يُنَزل بإشراكه كتابًا ، ولم ينصب عليه دليلاً ، { فأيُّ الفريقين أحق بالأمن } : أهل التوحيد والإيمان ، أو أهل الشرك والعصيان؟ { إن كنتم تعلمون } ما يَحق أن يُخاف منه .
(2/166)
ثم أجاب عن الاستفهام : الحق تعالى أو خليلهُ ، فقال : { الذين آمنوا ولم يلبسوا } أي : يخلطوا { إيمانهم بظلم } أي : بشرك ، بل آمنوا بالله ولم يعبدوا معه غيره ، { أولئك لهم الأمن } في الآخرة ، { وهم مهتدون } في الدنيا . أما الطائع فأمنه ظاهر ، وأما المعاصي فيؤمن من الخلود وتحريم الجنة عليه .
ولمَّا نزلت الآية أشفق منها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أينا لم يظلم نفسه؟ لأنهم فهموا عموم الظلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس ما تظنون ، إنما هو ما قال لقمانُ لابنه : { يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إَنَّ الشِرْكِ لَظُلْمٌ } [ لقمَان : 13 ] " وقد كان المشركون يُقِرُّون بالصانع ويخلطون معه التصديق بربوية الأصنام ، فقد آمنوا بوجود الصانع ، ولكنهم لبسوا إيمانهم بالشرك ، فلا آمن لهم ولا هداية . وبهذا يرد جهالة الزمخشري في إنكاره الحديث الصحيح ، ولو بقي الظلم على عمومه أي : ولم يخلطوا إيمانه بمعصية لصَحَّ ، ويكون المراد بالأمن أمنًا خاصًا وهداية خاصة ، لكن ما قاله عليه الصلاة والسلام يُوقف عنده .
الإشارة : العارف بالله ، المتحقق بوحدانية الله ، لا يسكن خوفْ الخلق في قلبه ، ولا ينظر إلا إلى ما يبرُز من عند ربه ، فإن وعدَه بالعصمة أو الحفظ لم يترك بذلك التضرعَ والالتجاء إلى ربه؛ لسعة علمه تعالى ، وقد يكون ذلك متوقفًا على أسباب وشروط ، أخفاها الحق تعالى إظهارًا لقهريته ، ولذلك قال الخليل عليه السلام : { ولا أخاف ما تُشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا } . وقال سيدنا شعيب عليه السلام : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أّن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا } [ الأعراف : 89 ] . فالعارف لا يزول اضطرارهُ ، ولا يكون مع غير الله قراره ، وأما الأمن من التحويل والانقلاب ، فاختلف فيه؛ فقال بعضهم : يحصُل للوليِّ الأمنُ ، إذا تحقق بمقام القُرب ، وحصل له الفناء والبقاء ، متمسكًا بقوله تعالى : { الَّذِين آمَنُوا وَلَم يَلبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمن } . وقال بعضهم : لا يحصل الأمن إلا للأنبياء عليهم السلام ؛ للعصمة .
قال الورتجبي : مقام الأمن لا يحصل لأحد ، ما دام هو بوصف الحدثَية ، وكيف يكون آمنًا منه وهو في رِقِّ العبودية ويعرف نفسه بها ، ويعرف الحق بوصف القدم والبقاء وقهر الجبروت؟ وقال تعالى : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [ الأعراف : 99 ] . فإذا رأى الله تعالى بوصف المحبة والعشق والشوق ، وذاق طعم الدنو ، واتّصف بصفات الحق ، بدا له أوائل الأمن ، لأن في صفة القدم لا يكون علة الخوف والرجاء ، لأن هناك جنة القرب والوصال ، وهم فيها آمنون من طوارق القهر ، وهم مهتدون ما داموا متصفين بصفاته ، وإن كانوا في تسامح من مناقشة الله بدقائق خفايا مكره .
(2/167)
ه .
فظاهر كلامه ، أن المتحقق بمقام الفناء والبقاء ، يحصل له الأمن من الشقاء ، وكذلك قال أبو المواهب : من رجع إلى البقاء أمِنَ من الشقاء . وقال في نوادر الأصول : مَن حَظُّه من أهل التقريب : الجلال والجمال ، وقد أقيم في الهيبة والأنس ، قد غاب عن خوف العقوبة ، ولكنه يخاف التحويل والهُوِي والسقوط ، لِما رُكب في نفوس بني آدم من الشهوات ، فهن أبدًا يُهوِين بصاحبهن عن الله إلى الإخلاد والبُطء ، وإنما يسكن خوف التحول إذا خلَص إلى الفردانية وتعلَّق بالوحدانية؛ لتلاشِي الهوى منه والشهوة؛ بكشف الغطاء ، ولا يذهب خوف ذلك بالكُلِّية عنه ، وإن سكن؛ لبقاء خيال ذلك في حق غير الأنبياء . وأما هُم فلم يبقَ لهم ظِلُّ الهوى ، فبُشِّروا بالنجاة؛ فلَم تَغُرهم البُشرى؛ لأنهم لم يبق لهم نفوس ، فتستبدّ وتجور إذا أمِنَت السقوط ، ومَن بعَدَهم بَقِي لهم في نفوسهم شيء فمُنعوا البشرى ، وأُبهم عليهم الأمر؛ صنعًا بهم؛ ونظرًا لهم ، لتكون نفوسهم منقمعة بخوف الزوال . ه . هذا هو الأصل فافهمه . ه .
وحاصل كلامه : أن غير الأنبياء لا ينقطع عنه خوفُ التحويل ، بل يسكن خوفه فقط ، ولا يُبَشِّر بالأمن إلا الأنبياء ، وهو الصواب ، لبقاء قهر الربوبية فوق ضعف العبودية ، قال تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعَام : 18 ] . والله تعالى أعلم .
(2/168)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قلت : { على قومه } : متعلق بحجتنا ، إن جُعل خبرًا عن { تلك } ، وبمحذوف ، إن جعل بدلَه ، أي : وتلك الحجة آتيناها إبراهيم حُجة على قومه . ومن قرأ : { درجات } : بالتنوين؛ فَمن نشاء : مفعول ، و { درجات } : تمييز .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ، إشارة إلى ما تقدم من استدلاله على وحدانيته تعالى بأُفول الكوكب والقمر والشمس ، واحتجاجه بذلك على قومه ، وإتيانه إياها : وإرشاده لها وتعليمه إياها ، قال تعالى : { نرفع درجات من نشاء } في العلم والحكمة ، أو في اليقين والمعرفة ، { إن ربك حكيم } في رفعه وخفضه ، { عليم } بحال من يرفعه ويخفضه ، وبحال الاستعداد لذلك .
الإشارة : رفعُ الدرجات في جنات الزخارف يكون بالعلم والعمل وزيادة الطاعات ، ورفع الدرجات في جنة المعارف يكون بكبر اليقين . والترقي في شهود رب العالمين . وذلك بحسب التبتل والانقطاع ، والتفرغ من شواغل الحس ودوام الأُنس . والله تعالى أعلم .
(2/169)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
قلت : الضمير في { ذريته } لإبراهيم عليه السلام؛ لأن الحديث عليه ، أو لنوح عليه السلام؛ لذكر لوط ، وليس من ذرية إبراهيم ، لكنه ابن أخيه فكأنه ابنه ، و { داود } : عطف على { نوح } ؛ أي : وهدينا من ذريته داود ، و { من آبائهم } : في موضع نصب ، عطف على { نوح } ؛ أي وهدينا بعض آبائهم ، والهاء في { اقتده } : للسكت ، فتحذف في الوصل ، ومن أثَبتها راعَى فيها خط المصحف ، وكأنه وصلَ بنية الوقف .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ووهبنا } لإبراهيم { إسحاق } ابنه ، { ويعقوب } حفيده ، { كُلاًّ } منهما { هدينا } { ونوحًا } قد هديناه { من قبل } إبراهيم ، وعدَّه نعمة على إبراهيم؛ من حيث إنه أبوه ، وشَرفُ الوالد يتعدَّى إلى الولَد ، { ومن ذريته } أي : إبراهيم ، { داود } بن أيشا ، { وسليمان وأيوب } بن قوص بن رَازَح بن عيصُو بن إسحاق { ويوسف } بن يعقوب بن إسحاق ، { وموسى وهارون } ابنا عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب . { وكذلك نجزي المحسنين } أي : نجزي المحسنين جزاء مثل ما جازينا إبراهيم؛ برفع درجاته وكثرة أولاده ، وجعل النبوة فيهم .
{ وزكريا } بن آذنِ بن بَركيَا ، من ذرية سليمان ، { ويحيى } بن زكريا ، { وعيسى } ابن مريم بنت عمران ، وفيه دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت ، { وإلياس } بن نُسى فنحاص بن إلعَازر بن هارون . وقيل : هو إدريس جَد نوح ، وفيه بُعد . { كلٌّ من الصالحين } الكاملين في الصلاح ، وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز مما لا ينبغي .
{ وإسماعيل } بن إبراهيم ، قد هدينا أيضًا ، وهو أكبر ولد إبراهيم ، وهو ابن هاجر ، { واليسع } بن أخطوب بن العجوز ، وقرىء : " والليسع " بالتعريف ، كَأن أصله : ليسع ، و " أل " فيه : زائدة ، لا تفيد التعريف؛ لأنه علَم ، { ويونس } بن متى ، اسم أبيه ، وهو من ذرية إبراهيم ، خلافًا للبيضاوي . قال القرطبي : لم يبعث الله نبيًا من بعد إبراهيم إلا من صُلبه . ه . ويونس مثلث النون كيوسف ، يعني بتثليث السين . { ولوطًا } هو ابن هاران أخى إبراهيم ، فهو ابن أخيه ، وقيل : ابن أخته ، فقد يُطلق على العم أب مجازًا ، { وكُلاًّ فضلنا على العالمين } أي : عالَمِي زمانِهم بالنبوة والرسالة ، فكل واحد فِضِّل على أهل زمانه .
{ ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } أي : فضَّلنا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم ، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، { واجتبيناهم } أي : اخترناهم للرسالة واصطفيناهم للحضرة ، { وهديناهم إلى صراط مستقيم } ؛ الذي يُوصل إلى حضرة قدسنا . { ذلك هُدَى الله } أي : ذلك الدين الذي دانوا به هو هدى الله { يهدي به } أي : بسببه ، { من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ، تحذيرًا من الشرك ، وإن كانوا معصومين منه .
{ أولئك الذين آتيناهم الكتاب } أي : جنس الكتب ، { والحُكم } أي : الحكمة ، أو الفصل بين العباد ، على ما يقتضيه الحق ، { والنبوة } ؛ الرسالة { فإن يكفر بها هؤلاء } : أهل مكة ، { فقد وكَّلنا بها } أي : بالإيمان بها والقيام بحقوقها ، { قومًا ليسوا بها بكافرين } ؛ وهُم الأنبياء المذكورون ، وتابعوهم ، وقيل : الصحابة المهاجرون والأنصار ، وهو الأظهر .
(2/170)
وقيل : كل مؤمن ، وقيل : الفرس . والأول أرجح؛ لدلالة ما بعده عليه ، وهو قوله : { أولئك الذين هَدى الله } ، الإشارة إلى الأنبياء المذكورين ، { فبهداهم اقتَدِه } أي : اتبع آثارهم ، والمراد بهديهم : ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين ، دون الفروع المختلف فيها ، فإنها ليست هدى مضافًا إلى الكل ، ولا يمكن التأسِّي بهم جميعًا؛ فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبّد بشرع مَن قبله . قاله البيضاوي .
{ قل لا أسألُكم عليه } أي : التبليغ أو القرآن ، { أجرًا } أي : جُعلاً من جهتكم ، كحال الأنبياء قبلي؛ اقتداء بهم فيه ، فهو من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه ، { إن هو } أي : ما هو ، أي : التبليغ أوالقرآن ، { إلا ذكرى للعالمين } ؛ إلا تذكرة وموعظة لهم .
الإشارة : فُضَّل هؤلاء السادات على أهل زمانهم بما هداهم إليه من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وبما خصهم به من كمال العبودية والآداب مع عظمة الربوبية . وفي قوله لحبيبه : { فبهداهم اقتده } فتح لباب اكتساب التفضيل ، فكلَّ مَن اقتدَى بهم فيما ذُكر شُرِّف على أهل زمانه ، وقد جمع في حبيبه صلى الله عليه وسلم ما افترق فيهم ، وزاد عليهم بالمحبة ورفع الدرجات ، فكان هو سيد الأولين والآخرين ، فكل من اقتدى به في أفعاله وأقواله وأخلاقه نال من السيادة بقدر اقتدائه ، وأمرُه سبحانه له بالاقتداء بهم ، إنما هو في الآداب ، وكان ذلك قبل أن يتَرقَّى عنهم إلى مقامه الذي خصَّه الله به . للأنبياء سيرًا وتَرَقِّيَا يليق بهم . كما للأولياء سيرٌ وتَرَقٍّ يليق بهم .
قال الورتجبي : أمَر حبيبَه عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بالأنبياء والرسل قبلَه في آداب الشريعة ، لأن هناك منازلَ الوسائط ، فإذا أوصله بالكُلِّية إليه ، وكَحّل عيون أسراره بكُحل الربوبية ، جعَله مستقلاً بذاته مستقيمًا بحاله ، وخرج عن حَدِّ الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ، وأمره بإسقاط الوسائط ، حتى قال : " لَو كَانَ مُوسَى حَيًا ما وَسِعَهُ إلاَّ اتّبِاعي " ، وغير ذلك . ه . وقال الشاذلي رضي الله عنه : أمَره بالاقتداء بهم فيما شاركوه فيه ، وإن انفرد عنهم بما خُصَّ به . ه .
(2/171)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
يقول الحقّ جلَ جلاله : في الرد على اليهود : { وما قدروا الله حق قدره } أي : ما عَرفُوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد بالوحي وغيره ، إذ لو عرفوه لَهابُوا أن يُنكروا بعثة الرسل ، أو ما جَسَرُوا على هذه المقالة ، أو ما عظموه حق تعظيمه . حيث كذَّبوا رسله وأنكروا أن يكون أنزل عليهم كتابًا ، إذ لو عظِّموه حق تعظيمه لصدَّقوا الرسول الوارد عنه ، وهو معنى قوله : { إذ قالوا ما أنزل الله على بَشَرٍ من شيء } ، والقائلون هم اليهود ، كفنحاص ومالك بن الصيف وغيرهما ، قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فردَّ الله عليهم بما لا بدَّ لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى؛ فقال : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهُدًى للناس } ، فالنور للبواطن ، والهداية للظواهر ، { تجعلونه } أي : التوارة ، { قراطيسَ } أي : تُجَزِّؤُونه أجزاء متفرقة ، ما وافقَ أهواءكم أظهرتموه وكتبتموه في ورقات متفرقة ، وما خالف أهواءكم كتمتموه وأخفيتموه .
رُوِي أنَّ مَالك بنَ الصَّيفِ قاله ، لَمّا أغضَبَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " أُنشدُكُ الله الذي أنزَلَ التَّورَاة عَلَى مُوسَى ، هَل تجِد فيها أنَّ الله يبغضَ الحَبرَ السَّمِين ، فَأنتَ الحَبرُ السّمِين " ، فغَضب ، وقال : ما أنزَلَ الله علَى بَشَرٍ مِن شَيء ، فَرَّدّ الله عَلَيهِ بِما تقَّدم . وقيل : القائلون ذلك : المشركون ، وإلزامهُم بإنزال التوراة؛ لأنه كان مشهورًا عندهم يُقِرُّون به ، ولذلك قالوا : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهدى مِنْهُمْ } [ الأنعَام : 157 ] .
{ وعُلِّمتُم } على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } ، زيادة على ما في التوراة وبيانًا لما التبس عليكم على آبائكم الذين كانوا أعلم منكم . ونظيرهُ : { إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَقَصُّ عَلَى بَني إِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الِّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النَّمل : 76 ] أو : وعُلِّمتم من التوراة ما لم تكونوا تعلَّمتم أنتم ولا آباؤكم قبل إنزاله ، وإن كان الخطاب لقريش؛ فالذي عُلِّموه : ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم من القَصص والأخبار .
ثم أجاب عن استفهامه بقوله : { قُل اللهُ } أي : أنزلَه الله ، أو الله أنزله . قال البيضاوي : أمره بأن يجيب عنهم؛ إشعارًا بأن الجواب بهذا مُتَعيّن لا يمكن غيرُه ، وتنبيهًا على أنهم بُهتُوا بأنهم لا يقدرون على الجواب ه . { ثم ذَرهُم في خوضهم يلعبون } في أباطيلهم . فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة ، وأصلُ الخَوض في الماء ، ثم أستُعير للمعاني المُشكِلة ، وللقلوب المتفرقة في أودية الخواطر .
الإشارة : يُفهَم من الآية أنَّ من أقَرَّ بإنزال الكتب وآمن بجميع الرسل ، فقد قَدَر الله حق قدره وعظَّمه حق تعظيمه . وهذا باعتبار ضعف العبد وعجزه وجهله؛ وإلاَّ فتعظيم الحق حق تعظيمه ، ومعرفته حق معرفته ، لا يمكن انتهاؤها ، ولا الوصول إلى عشر العشر منها .
(2/172)
قال تعالى { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [ طه : 110 ] ، وقال : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } [ عَبَسَ : 23 ] فلو بقي العبد يترقى في المعرفة أبدًا سرمدًا ، ما عرف الله حق معرفته ، حتى ينتهي إلى غايتها ، ولو بقي يعبد أبد الأبد ما قام بواجب حقه .
وقوله تعالى : { قل الله } استشهد به الصوفيةُ ، في طريق الإشارة ، على الانفراد والانقطاع إلى الله ، وعدم الالفتات إلى ما عليه الناس من الخوض والاشتغال بالأغيار والأكدار ، والخروج عنهم إلى مقام الصفا ، وهو شهود الفردانية ، والعكوف في أسرار الوحدانية . قال ابن عطاء الله لما تكلم على أهل الشهود قال : ( لأنهم لله لا لشيء دونه ، { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } ) . وقد يُنكِر عليهم من لم يفهم إشارتهم ، تجمدًا ووقوفًا مع الظاهر ، وللقرآن ظاهر وباطن لا يعرفه إلا الربانيون . نفعنا الله بهم ، آمين .
(2/173)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك } أي : كثير البركة ، حسًا ومعنًى ، لكثرة فوائده وموم نفعه ، أو : كثير خيره ، دائم منفعته ، قال القشيري : مبارك : دائم باق ، لا ينسخُه كتابٌ ، من قولهم : بَرك الطير على الماء . ه . { مُصدقُ الذي بين يديه } من الكتب المتقدمة . { ولتُنذر } أنت { أُمَّ القرى } أي : مكة ، { ومَنْ حولها } من المشرق والمغرب أو لينذر القرآنُ أمَّ القرى ومن حولها أي : أنزلناه للبركة والإنذار ، وإنما سميت مكة أمَّ القرى؛ لأنها قبلة أهل القرى وحجهم ومجمعهم ، وأعظم القرى شأنًا . وقيل : لأن الأرض دُحِيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضُع للناس .
{ والذين يؤمنون بالآخرة } هم الذين { يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون } ؛ لأنَّ من مصدق بالآخرة ، وخاف عاقبتها ، تحرى لنفسه الصواب ، وتفكر في صدق النجاة ، فآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدّق بما جاء به ، وحافظ على مراسم الشريعة ، وأهمها : الصلاة؛ لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ، من حافظ عليها حفظ ما سواها ، ومن ضيَّعها ما سواها .
الإشارة : مفتاح القلوب هو كتاب الله ، وهو عُنوان السير ، فمن فُتح له في فهم كتاب الله ، عند سماعه والتدبر في معانيه ، فهو علامة فتح قلبه ، فلا يزال يزداد في حلاوة الكلام ، حتى يُشرف على حلاوة شهود المتكلم من غير واسطة؛ وذلك غاية السير ، وابتداء الترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، التي لا نهاية لها . والله تعالى أعلم .
(2/174)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قلت : { كما خلقناكم } : بدل من { فُرَادى } ، أو حال ثانية ، و { لقد تقطع بينكم } ؛ من قرأ بالرفع ، فهو فاعل ، أي : تقطع وصلُكم ، ومن قرأ بالنصب ، فظرف ، على إضمار الفاعل ، أي : تقطع الاتصال بينكم ، أو على حذف الموصول؛ لقد تقطع ما بينكم .
يقول الحقّ جلَ جلاله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا } فزعم أنه يوحى إليه ، كمسيلمة الكذاب والأسود العَنسي ، أو : غيَّر الدين ، كعَمرو بن لحي وأمثاله { أو قال أُوحي إليَّ ولم يُوحَ إليه شيء } كابن أبي سَرح ومن تقدم ، إلا من تاب ، كابن أبي سرح . { ومَن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } الذين قالوا : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلِ هَذَا } [ الأنفَال : 31 ] كالنضر بن الحارث وأشباهه .
{ ولو ترى إذ الظالمون } من اليهود والكذابين والمستهزئين ، حين يكونون { في غمرات الموت } : شدائده { والملائكة باسطو أيديهم } لقبض أرواحهم ، أو بالضرب لوجوههم وأدبارهم ، قائلين لهم : { أخرجوا أنفسكم } من أجسادكم؛ تغليظًا عليهم ، { اليوم } وما بعده { تُجزون عذاب الهون } أي : الهوان ، يريد العذاب المتضمن للشدة والهوان ، وإضافته للهوان لتمكنه فيه . وذلك العذاب { بما كنتم تقولون على الله غير الحق } ، كادعاء النبوة كذبًا ، وادعاء الولد والشريك لله ، { وكنتم عن آياته تستكبرون } فلا تستمعون لها ، ولا تؤمنون بها ، فلو أبصرت حالهم ذلك الوقت لرأيت أمرًا فظيعًا وهولاً شنيعًا .
يقول الحق سبحانه لهم : { ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء ، { فُرادى } . متفرَّدين عن الأعوان والأوثان ، أو عن الأموال والأولاد ، وهذا أولى بقوله : { كما خلقناكم أول مرة } أي : على الهيئة التي وُلدتم عليها من الانفراد والتجريد حفُاة عُراة غُرلاً { وتركتم ما خولناكم } أي : تفضَّلنا به عليكم من الدنيا فشُغلتم به عن الآخرة ، { وراء ظهوركم } ، فلم تقدموا منه شيئًا ، ولم تحملوا معكم منه نقيرًا ، { وما نرى معكم شفعاءكم } أي : أصنامكم { الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي : أنهم شركاء مع الله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم ، { لقد تقطَّع بينكم } أي : تفرَّق وصلُكم وتشتت شملكم ، { وضَلَّ } أي : غاب { عنكم ما كنتم تزعمون } أنهم شفعاؤكم ، أو لا بعث ولا حساب الظهور كذبكم .
الإشارة : كل من ادعى حالاً أو مقامًا ، يعلم من نفسه أنه لم يُدركه ولم يتحقق به ، فالآية تَجُرُّ ذيلَها عليه . وفي قوله : { ولقد جِئتُمُونَا فرادى . . . } الخ ، إشارة إلى أن الدخول على الله والوصول إلى حضرته ، لا يكون إلا بعد قطع الطلاق والعوائق والشواغل كلها ، وتحقيق التجريد ظاهرًا وباطنًا؛ إذًا لا تتحقق الفردانية إلا بهذا .
وقال الورتجبي : ولي هنا لطيفةٌ أخرى ، أي : ولقد جئتمونا موحدِّين بوحدانيتي شاهدين بشهادتي ، بوصف الكشف والخطاب ، كما جئتمونا من العدَم في بدء الأمر ، حين عَرَّفتُكم نفسي بقولي : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } [ الأعرَاف : 172 ] بلا إشارة التشبيه وغلط التعطيل ، كما وصفهم نبيه صلى الله عليه وسلم :
(2/175)
" كُلُّ مَولُد يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ " ، يعني : على فطرة الأزل بلزوم سمة العبودية بلا علة الاكتساب ، عند سبق الإرادة . انتهى . قلت : وحاصل كلامه ، أن مجيئهم فُرادى ، كناية عن دخولهم الحضرة القدسية بعد تقديس الأرواح وتطهيرها ، حتى رجعت لأهلها ، كما خلقها أول مرة ، أعني : مقدسة من شواهد الحس ، مُطهرة من لُوثِ الإغيار ، على فطرة الأزل ، فشبه مجيئها الثاني بعد التطهير ببروزها الأول ، حين كانت على أصل التطهير ، كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى من الحس وشهود الغير كما خلقناكم كذلك في أول الأمر . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } أي : من العلوم الرسمية ، والطاعات البدنية والكرامات الحسية ، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي العارف : كنت أعرف أربعة عشر عِلمًا ، فلما علمت علم الحقيقة شرطت ذلك كله ، فلم يبق لي إلا التفسير والحديث والمنطق . ه . وقوله تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم } إشارة إلى أنهم دخلوا من باب الكرم لا من باب العمل . والله تعالى أعلم .
(2/176)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قلت : { ومُخرج } : معطوف على { فالق } ، على المختار؛ لأنَّ { يُخرج الحي } واقع موقع البيان له ، و { سكنًا } : مفعول بفعل محذوف ، أي : جعله سكنًا ، إلا أن يريد بجاعل : الاستمرار ، فحينئذٍ ينصب المفعول .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الله فالق الحب والنوى } أي : يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها ، ويفلق النوى لخروج الشجر منها ، { يُخرج الحي } أي : كل ما ينمو من الحيوان والنبات؛ ليطابق ما قبله ، { من الميت } مما لا ينمو كالنطف والحب . { ومُخرِج الميت من الحي } أي : ومخرج الحب والنُّطَف من الحي ، { ذلكم الله } أي : ذلكم المخرج والمحيي المُميت هو الله المستحق للعبادة دون غيره ، { فأَنَّى تُؤفكون } ؛ تُصرفون عنه إلى غيره .
{ فالق الإصباح } أي : شاقّ عَمُود النهار عن ظُلمة الليل ، { وجاعل الليل سكنًا } أي : يُسكن فيه من تَعَب النهار للاستراحة ، { و } جعل { الشمس والقمر حُسبانًا } أي : على أدوار مختلفة ، يُعلم بها حساب الأزمنة والليل والنهار ، أو حُسبانًا كحسبان الرَّحا يدور بهما الفلك دورة بين الليل والنهار ، { ذلك } التسيير بالحساب المعلوم ، هو { تقدير العزيز العليم } الذي قهرهما بعزته ، وسيرهما على ذلك السير البديع بعلمه وحكمته .
الإشارة : إذا أحب الله عبدًا فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته ، وفلق نواة عقله بالتبصر في عجائب قدرته ، فلا يزال قلبُه يميل إلى حضرته ، وعقلُه يتشعشع أنواره بازدياد تفكره في عجائب عظمته ، حتى تُشرق عليها شمس العرفان ، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان ، فيصير حيًّا بمعرفته ، بعد أن كان ميتًا بجهله وغفلته ، فيميته عن شهود نفسه ، ثم يُحييه بشهود ذاته ، يُخرج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحي ، جاعل ليل العبودية سكنًا ، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسبانًا ، تدور الفكرة بأنوارهما ، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحِسيِّين ذلك تقدير العزيز العليم .
(2/177)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } أي : ببعضها { في ظلمات البر والبحر } أي : في ظلمات الليل في البر والبحر ، وأضاف الظلمات إليهما؛ لملابستها بهما ، أول في مشتبهات الطرق في البر والبحر ، وسماها ظلمات على الاستعارة ، { قد فصلنا الآيات } ؛ بيناها { لقوم يعلمون } فإنهم المنتفعون بها .
الإشارة : جعل الحق جل جلاله نجوم العلم يهتدي السائرون بها في مشكلات أمور الشريعة وأمور الحقيقة ، فلبر الشريعة علم يسير به أهلُه إلى جنته ورضوانه ، ولبحر الحقيقة علم يسير به أهلها الطالبون لها إلى معرفة ذاته وصفاته ، وشهودها في حال جلاله وجماله ، ولله در المجذوب رضي الله عنه ، حيث قال :
العلم مرايا من هند ، والجهل صندوق راشي ... من لا قرايش يعرف الله ما هو مبني على شي
(2/178)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قلت : من قرأ ( مستقر ) بفتح القاف ، فمصدر ، أو اسم مكان ومن قرأه بالكسر ، فاسم فاعل ، وعلى كل هو مبتدأ ، حذف خبره؛ الجار والمجرور ، أي : لكم مستقر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } آدم عليه السلام { فمستقر ومستودع } أي : فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض ، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض ، أو موضع استقرار واستيداع فيهما ، أو : فمنكم مُستَقِّر في الأصلاب أو في الأرض ، أي : قارٌّ فيهما ، ومنكم مستودَع في الأرحام أو تحت الأرض .
وقيل : الاستقرار : في الأرحام ، والاستيداع : في الصلب ، بدليل قوله : { وَنُقِرُّ في الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ } [ الحَجّ : 5 ] .
{ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون } أي : يفهمون دقائق أسرار القدرة ، ذكر مع النجوم ، { يعلمون } ؛ لأن أمرها ظاهر ، وذكر مع تخليق بني آدم؛ { يفقهون } ؛ لأن إنشاءهم من نفس واحدة ، وتصريفهم على أحوال مختلفة ، دقيق يحتاج إلى زيادة تفهم وتدقيق نظر .
الإشارة : بعض الأرواح مستقرها الفناء في الذات ، ومستودعها الفناء في الصفات ، وهم العارفون من أهل الإحسان ، وبعضها مستقرها الفناء في الصفات ، ومستودعها الاستشراف على الفناء في الذات ، وهم أهل الإيمان بالغيب . وقال الورتجبي : بعض الأرواح مستقرها الصفات ، ومستودعها الذات ، بنعت البقاء في الصفات ، والفناء في الذات ، لأن القَدَم مُنزه أن يحل فيه الحدث . ه .
(2/179)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قلت : الضمير في { منه } : يعود على النبات ، و { خَضِرًا } : نعت لمحذوف ، أي : شيئًا خضرًا ، و { قِنوَانٌ } : مبتدأ ، و { من النخل } : خبر ، و { مِن طَلعها } : بدل ، والطَّلع : أول ما يخرج من التمر في أكمامه ، والقنوان : جمع قنو ، وهو العنقود من التمر ، و { مُشتبهًا } : حال من الزيتون والرمان ، أو من كل ما تقدم من النبات ، و { جنات } : عطف على { نبات كل شيء } . و { ينعِهِ } أي : نضجه وطيبه ، يقال : يَنَعتِ الثمرة ، إذا أدركت وطابت .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي أنزل من السماء } أي : السحاب أو جانب السماء ، { ماء فأخرجنا } ، فيه الالتفات من الغيبة إلى التكلم ، { به } أي : بذلك الماء ، { نبات كل شيء } أي : نبت كل صنف من النبات على اختلاف أنواعه ، فالماء واحد والزهر ألوان ، { فأخرجنا منه } أي : من النبات ، شيئًا { خَضِرًا } وهو ما يتولد من أصل النبات من الفراخ ، { نُخرجُ منه } أي : من الخَضِر ، { حبًّا مُترَاكبًا } وهو السنبل؛ لأن حبه بعضه فوق بعض ، وكذلك الرمان والذرة وشبهها ، { ومن النخل من طلعها قِنوانٌ دانية } أي : ويخرج من طلع النخل عناقيد متدانية مقريبة من المتناول ، أو ملتفة ، قريب بعضها من بعض ، وإنما اقتصر على المتداني دون العالي؛ لزيادة النعمة والتمكن من النظر فيه ، دون ضده .
{ و } أخرجنا أيضًا بذلك الماء ، { جناتٍ } أي : بساتين ، { من أعناب } مختلفة الألوان والأصناف { و } أخرجنا به { الزيتونَ والرمانَ } على اختلاف أصنافها ، { مُشتبِهًا وغير مُتشَابه } أي : من النبات والثمار ما يُشبه بعضه بعضًا ، في اللون والطعم والصورة ، ومنه ما لا يُشبه بعضُه بعضًا ، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد ، ولذلك أمر بالنظر والاعتبار فقال : { انظروا إلى ثمره } أي : انظروا إلى ثمرة كل واحد من ذلك { إذا أثمر } ، { و } انظروا إلى { يَنعِه } ؛ إذا ينع ، أي : طاب ونضج ، والمعنى : انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفًا لا منفعة ، فيه ، ثم ينتقل من طَور إلى طور ، حتى يينع ويطيب .
{ إنَّ في ذلكم لآياتٍ } دالة على وجود الحكيم ووحدانيته ، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة ، ونقلها من حال إلى حال ، لا يكون إلا بإحداث قادر ، يعلم تفاصيلها ، ويُرجَّح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ، ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه ، أو ضد يعانده ، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك فقال : { وجعلوا لله شركاء . . . } الخ . قاله البيضاوي .
الإشارة : مَن كحَّل عينه بإثمد التوحيد ، غرق الكائنات كلها في بحر التوحيد والتفريد ، فكل ما يبرز لنا من المظاهر والمطالع ففيه نور من جمال الحضرة ساطع ، ولذلك قال ابن الفارض رضي الله عنه :
عَينِي لِغَيرِ جَمَالِكُمُ لا تَنظرُ ... وَسِوَاكُمُ فِي خَطِرِي لا يَخطُرُ
وقال الششتري رضي الله عنه :
انظُر جَمالِي شاهدًا ... في كلِّ إنسان
كالماءِ يَجرِي نافِذًا ... في أُس الإغصان
يُسقَى بِماءٍ واحِد ... والزَّهرُ ألوان
وقال صاحبُ العَينية :
تَجلَّى حَبِيِبي فِي مَرَائِي جَمَالِهِ ... فَفي كُلِّ مَرئًى لِلحبِيبِ طَلاَئِعُ
فَلَمّا تَبَدى حُسنُهُ مُتَنَوّعًا ... تَسَمَّى بأسمَاءٍ فَهُون مَطَالِعُ
فما برز في عالم الشهادة هو من عالم الغيب على التحقيق ، فرياض الملكوت فائضة من بحر الجبروت ، ( كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان ) ، ولا يعرف هذا ذوقًا إلا أهل العيان ، الذين وحدوا الله في وجوده ، وتخلصوا من الشرك جليه وخفيه .
(2/180)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قلت : { الجن } : مفعول أول لجعلوا ، و { شركاء } : مفعول ثانٍ ، وقدّم لاستعظام الإشراك ، أو { شركاء } : مفعول أول ، و { لله } : في موضع المفعول الثاني ، و { الجن } : بدل من شركاء ، وجملة { خلقهم } : حال ، و { بديع } : خبر عن مضمر ، أو متبدأ وجملة { أنَّى } : خبره ، وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي : مبدع السماوات ، أو إلى فاعلها : أي : بديع سماواته ، من بَدُعَ؛ إذا كان على نمط عجيب ، وشكل فائق ، وحُسن لائق .
يقول الحقّ جلّ جلاله : توبيخًا للمشركين : { وجعلوا لله شركاء } في عبادته ، وهم { الجن } أي : الملائكة؛ لاجتنانهم أي : استتارهم ، فعبدوهم واعتقدوا أنهم بنات الله ، أو الجن حقيقة ، وهم الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يُطاع الله تعالى ، أو : عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم ، فقد أشركوا مع الله ، و { و } الحال أن الله قد { خلقهم } أي : الجن أي : عبدوهم وهم مخلوقون ، أو الضمير للمشركين ، أي : عبدوا الجن ، وقد عَلِمُوا أن الله قد خلقهم دون الجن لعجزه ، وليس من يَخلُق كمَن لا يَخلُق .
{ وخرقوا له } أي : اختلفوا وافترَوا ، أو زوَّرُوا برأيهم الفاسد له { بنين } كالنصارى في المسيح ، واليهود في عُزَير ، { وبنات } كقول العرب في الملائكة : إنهم بنات الله تعالى الله عن قولهم قالوا ذلك { بغير علم } أي : بلا دليل ولا حجة ، بل مجرد افتراء وكذب ، { سبحانه وتعالى } أي : تنزيهًا له ، وتعاظم قدره { عما يصفون } من أن له ولدًا أو شريكًا .
وكيف يكون له الولد أو الشريك ، وهو { بديعُ السماوات والأرض } ؟ . أي : مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ، ولا قانون ينتحيه ، والمعنى : أنه تعالى مُبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة : لأنه تعالى مُنزه عن الأفعال بالمادة . والوالد عنصر الولد ، ومُنفصل بانتقال مادته عنه ، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟ . ولذلك قال : { أَنى يكونُ له ولدٌ } أي : من أين ، أو كيف يكون له ولد ، { ولم تكن له صاحبة } يكون منها الولد ، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد ، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة في العادة ، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه ، وكيف أيضًا يكون له ولد { و } قد { خلقَ كلَّ شيء } ، فيكف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه؟ { وهو بكل شيء عليم } أي : أحاط بما من شأنه أن يعلُم كائنًا ما كان ، فلا تخفى عليه خافية مما كان ، ومما سيكون من الذوات والصفات ، ومن جملتها : ما يجو عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك .
{ ذلكم } المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات ، هو { الله } المستحق للعبادة خاصة ، { ربُكم } أي؛ مالك أمركم لا شريك له أصلاً ، { خالقُ كل شيء } ، مما كان وسيكون ، ولا تكرار مع ما قبله؛ لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لِمَا كان فقط ، كما تقتضيه صيغة الماضي ، بخلاف الوصف يصلح للجميع ، وإذا تقرر أنه خالق كل شيء { فاعبدوه } ؛ فإن من كان خالقًا لكل شيء ، جامعًا لهذه الصفات ، هو المستحق للعبادة وحده ، { وهو على كل شيء وكيل } أي : هو متولي أمور جميع عباده ومخلوقاته ، التي أنتم من جملتها ، فَكِلُوا أمركم إليه ، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية ، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه .
(2/181)
الإشارة : كل من خضع لمخلوق في نيل حظ دنيوي ، إنسيًا أو جنيًا ، أو أطاعه في معصية الخالق ، فهو مشرك به مع ربه ، { وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا } [ النساء : 116 ] ، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم في مخالفة الهوى؛ لئلا تميل بهم إلى شيء من السِّوى ، وتحرروا من رق الطمع ، وتوجهوا بمهمتهم إلى الحق وحده ، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها ، جليها وخفيها . حفظنا الله بما حفظهم به . آمين .
(2/182)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لا تدركه الأبصار } أي : لا تحيط به ، ولا تناله بحقيقته ، وعن ابن عباس : ( لا تدركه في الدنيا ، وهو يُرى في الآخرة ) ، ومذهب الأشعرية : أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً ، لأن موسى عليه السلام سألها ، ولا يسأل موسى ما هو محال ، وأحالته المعتزلة مُطلقًا ، وتمسكوا بالآية ، ولا دليل فيها؛ لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية ، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات ، فلعله مخصوص ببعض الحالات ، ولا في الأشخاص؛ فإنه في قوة قولنا : لا كل بصر يدركه ، مع أن النفي لا يوجب الامتناع . قاله البيضاوي .
ثم قال تعالى : { وهو يُدرك الأبصارَ } أي : يحيط علمه بها؛ إذ لا تخفى عليه خافية ، { وهو اللطيف الخبير } فيدرك ما لا تدركه الأبصار ، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ ، أي : لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف ، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير ، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف ، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها . قاله البيضاوي وأبو السعود .
الإشارة : اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهره الأكوان ، لكنه لحكمته وقدرته ، قد تجلى بين الضدين ، بين الأنوار والأسرار ، بين الحس والمعنى ، بين مظهر الربوبية والب العبودية ، فالأنوار ما ظهر من الأواني ، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني ، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر ، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة . فالحس رداء للمعنى ، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره ، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني ، فلم تحجبه الأواني عن المعاني ، بل تمتحق في حقه الأواني ، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني . لذلك قال الحلاج ، لما سئل عن المعرفة ، قال : ( استهلاك الحس في المعنى ) . فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه ، غاب وجوده في وجود معبوده ، فشاهد الحقَّ بالحق . فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم ، لا يقع بصرهم إلا على المعاني ، فهم يشاهدون الحق عيانًا . ولذلك قال شاعرُهم :
مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا ... وعذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ
وقال في الحِكَم : " ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه؛ إذ لا شَيءَ مَعَهَ ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ " .
وقوله تعالى : { لا تُدركه الأبصارُ } أي : الأبصار الحادثة ، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء . وقال الورتجبي : لا تدركه الأبصار ، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله ، وكيف يدركه الحدثان؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم . ه . أو لا تحيط به ، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة . وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول ، قال : إدراك الهوية ممتنع ، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته .
وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني ، ناقلاً عن المشايخ : إنما يتجلى الله لأهل الجنة ، ويريهم ذاته تعالى ، في حجاب صفاته ، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات .
(2/183)
وقال الورتجبي : التجلي لا يكون بكلية الذات ، ولا بكلية الصفات ، وإنما يكون على قدر الطاقات ، فيستحيل أن يقال : تجلى كل الهوى لذرة واحدة ، وإنما يتجلى لها على قدرها . ه .
وتتفاوت الناس في لذَّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم في الدنيا ، وتدوم لهم النظرة على قدر اسغراقهم هنا ، فمن كان هنا محجوبًا لا يرى إلا الحس ، كان يوم القيامة كذلك ، إلا في وقت مخصوص ، يُغيبه الحق تعالى عن حسه ، فيشاهد معاني أسرار الربوبية في مظاهر أنوار صفاته . ومن كان هنا مفتوحًا عليه في شهود المعاني ، كان يوم القيامة كذلك ، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة .
قال الغزالي في كتاب الأربعين : إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة .
قلت : ومعنى كلامه : أن ما عرفه به هنا من التجليات ، صار بعينه هناك مشاهدة؛ لأن المعنى هناك غالب على الحس ، بخلاف دار الدنيا ، الحس فيها غالب ، إلاَّ لمن غاب عنه واستهلكه . ثم قال : ويكون لكل واحد على قدر معرفته ، ولذلك تزيد لذة أولياء الله تعالى في النظر على لذة غيرهم ، ولذلك يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة ، ويتجلى للناس عامة .
وقال في الإحياء : ولَمَّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة ، ثم ذكر حديث التجلي لأبي بكر المتقدم . ثم قال : فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر ، ممن هو دونه ، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر ، بل لا يجده ، إلا عُشرَ عُشرِه ، إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشره ، ولما فَضَل الناسَ بسر وقر في صدره ، فضل لا محالة بِتَجلًّ انفرد به .
وقال أيضًا : يتجلى الحق للعبد ، تجليًا يكون انكشاف تجلَّيه ، بالإضافة إلى ما علمه ، كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله أي : إلى ما وصفه له الواصف . ثم قال : وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية ، ثم قال : المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تستكمل ، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة ، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف ، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح . وقال أيضًا : وبحر المعرفة لا ساحل له ، والإحاطة بكنه جلاله مُحال ، وكلما كثرت المعرفة وقويت؛ كثر النعيم في الآخرة ، وعظم ، كما أنه كلما كثر البذر وحسن؛ كثر الزرع وحسن ، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا ، ولا يزرع إلا في صعيد القلب ، ولا حصاد إلا في الآخرة . ه .
قال شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه : بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم ، وفي تفسير الأقليشي لقوله : { اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] : ليس لهذه الهداية ما دام العبد في الدنيا نهاية ، حتى إذا حصل في جوار الجبار ، ونظر إلى وجهه العظيم ، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه في الدنيا لصراطه المستقيم .
(2/184)
ه . وقال في نوادر الأصول : في الحديث : " إنَّ مِن أهل الجنَّة من ينظرُ إلى الله عزَّ وجَلَّ غُدوَةً وعَشيًّا " ورُوِي عن معاذ أنه قال : " صِنفٌ مِن أهلِ الجَنَّة مَن يَنظُر إلى الله عزَّ وجَلَّ ، لا يُستر الربُّ عنهم ولا يحتَجِبُ " ثم قال : وذُكر أن الرضوان آخر ما ينال أهلُ الجنة ، ولا شيء أكبر منه ، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا . ه .
وقوله تعالى : { وهو اللطيف الخبير } ، قال الورتجبي : هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه ، مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم ، وجودًا وعدمًا ، أي : وإنما يُرى بنوره ، لا بالحواس الخفاشية ، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه ، وتنخنس عند انكشاف سبحاته . ه . على نقل الحاشية الفاسية . والله تعالى أعلم .
(2/185)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قلت : البصائر : جمع بصيرة ، وهي عَينُ القلب ، كما أن البصر عين البدن ، فالبصيرة ترى المعاني القديمة ، والبصر يرى الحسيات الحادثة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قد جاءكم } أيها الناس { بصائرُ من ربكم } أي : براهين توحيده ، ودلائل معرفته ، حاصلةَ من ربكم ، تنفتح بها البصائر ، وتبصر بها أنوار قدسه ، { فمن أبصرَ } الحق ، وآمن به ، واستعمل الفكر فيه حتى عرفه ، { فلنفسه } أبصر ، ولها نفع ، { ومن عَميَ } عنها ، ولم يرفع رأسًا ، وضل عن الحق ، { فعليها } وباله وضرره ، ولا يتضرر بها غيره ، { وما أنا عليكم بحفيظ } أرقب أعمالكم وأُجازيكم ، وإنما أنا منذر ، والله هو الحفيظ عليكم ، يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها .
الإشارة : البصيرة كالبصر ، أدنى شيء يقع فيها يَضُرُّ بناظرها ، وهي على أقسام : منها ما تكون عمياء ، والعياذ بالله ، وهي التي فسد ناظرها بفساد الاعتقاد ، كبصيرة الكفار ومن قاربهم ، ومنها ما تكون مريضة فقط ، لا تقاوم شعاع شمس التوحيد الخاص ، وهي بصيرة أهل الغفلة ، ومنها ما يخف مرضها فيكون لها شعاع ، تدرك قرب نور الحق منها؛ وهي بصيرة المتوجهين من العباد والزهاد ونهاية الصالحين .
ومنها ما تكون قريبة البُرء والصحة ، قد انفتحت ، لكنها حيرى؛ لما فاجأها من النور ، وهي بصيرة المريدين السائرين من أهل الفناء ، ومنها ما تكون صحيحة قوية ، قد تمكنت من شهود الأنوار ، ورسخت في بحر الأسرار ، وهي بصيرة العارفين المتمكنين في مقام البقاء ، وقد أشار في الحِكَم إلى الثلاثة فقال : " شُعاعُ البصيرة يُشهدك قرب الحق منك ، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده ، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق لا عدمك ولا وجودك ، كان اللهُ ولا شيءَ معهُ ، وهو الآنَ علَى ما عليه كان " .
(2/186)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قلت : تصريف الشيء : إجراؤه على أحوال متعاقبة وجهات مختلفة ، ومنه : تصريف الرياح لهبوبه من جهات مختلفة ، ولما كانت آيات القرآن تنزل على أنواع مختلفة في أوقات متعاقبة ، شبهت بتصريف الرياح على أنحاء مختلفة ، { وليقولوا } : متعلق بمحذوف ، أي : وليقولوا : درست ، صرفنا الآيات ، واللام للعاقبة ، وكذلك : { ولنبينه } : المتعلق واحد .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ومثل ذلك التصريف الذي صرفنا من الآيات ، من قوله : { إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } [ الأنعَام : 95 ] ، إلى قوله : { قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِِرُ مِن رَّبِكُمْ } [ الأنعَام : 104 ] { نُصرِّف الآيات } في المستقبل لتكون عاقبة قوم الشقاء بها بتكذيبهم إياها ، { وليقولوا } لك : { دارسْتَ } أهل الكتاب ، وتعلمت ذلك منهم ، وليس بوحي ، أو { درسَت } هذه الأخبار وعفت ، وأخبرت بها من إملاء غيرك عليك ، كقولهم : أساطير الأولين ، وليكون عاقبة قوم آخرين الاهتداء ، وإليهم الإشارة بقوله : { ولنبينه لقوم يعلمون } أي : وليتضح معناه عند قوم آخرين ، فيهتدوا به إلى معرفتي وتوحيدي ومحل رضواني وكرامتي ، فالخطاب متحد ، والأثبر مختلف على حسب السابقة .
الإشارة : ظهور الآيات على يد أهل الخصوصية كالعلوم اللدنية والمواهب الربانية لا يوجب لهم التصديق لجميع الخلق ، فلو أمكن ذلك لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى به ، بل لا بد من الاختلاف ، فقوم قالوا : هذه العلوم . . . دارس فيها وتعلمها ، وقوم قالوا : بل هي من عند الله لا كسب فها ، قال تعالى : { وَلاَ يَزَالُون مُخْتَلِفِينَ } [ هُود : 118 ] .
(2/187)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { اتبع ما أُوحى إليك من ربك } بالدوام على التمسك به ، والاهتداء بهديه ، ودم على توحيده ، { لا إله إلا هو } ؛ فلا تصغ إلى من يعبد معه غيره ، { وأعرض عن المشركين } ، فلا تحتفل بأقوالهم ، ولا تلتفت إلى رأيهم ، وهذا محكم ، أو : أعرض عن عقابهم وقتالهم ، وهو منسوخ بآية السيف ، { ولو شاء الله ما أشركوا } : لكن سبقت مشيئته بإشراكهم ، ولو أراد إيمانهم لآمنوا ، وهو حجة على المعتزلة ، { وما جعلناك عليهم حفيظًا } : رقيبًا ، { وما أنت عليهم بوكيل } تقوم بأمرهم ، وتُلجئهم إلى الإيمان؛ { إَن أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } [ فَاطِر : 23 ] .
الإشارة : الإعراض عن الخلق والاكتفاء بالملك الحق ركن من أركان الطريق ، قال الشيخ زروق رضي الله عنه : أصول الطريقة خمسة أشياء : تقوى الله في السر والعلانية ، واتباع الرسول في الأقوال والأفعال ، والإعراض عن الخلق في الإقبال والإدبار ، والرجوع إلى الله في السراء والضراء ، والرضا عن الله في القليل والكثير . ه .
(2/188)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولا تَسُبُّوا } أصنامهم { الذين } يدعونها آلهة ، ويخضعون لها { من دون الله } أي : ولا تذكروا آلهتهم بسوء ، { فيَسُبوا الله عَدْوًا } أي : ظُلْمًا وتجاوزًا عن الحق إلى الباطل ، { بغير علم } أي : على جهالة بالله تعالى ، وبما يجب أن يذكر به من التعظيم ، رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم ، فقالوا : لتنتهين عن آلهتنا أو لنَهجُونَّ إلهك ، فنزلت . وقيل : كان المسلمون يسبون آلهتهم ، فنُهوا؛ لئلا يكون سبهم سببًا لسب الله تعالى ، واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع . قال البيضاوي : وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت لمعصية راجحة وجب تركها ، فإنَّ ما يُؤدي إلى الشر شر . ه . وقال ابن العربي : وقاية العرض بترك سنة واجب في الدنيا . ه .
قال تعالى : { كذلك زينَّا لكل أمة عملهم } من الخير والشر ، نحملهم على ما سبق لهم توفيقًا أو تخذيلاً ، أو يكون مخصوصًا بالشر ، أي : زيَّنا لكل أمة من الكفرة عملهم السوء؛ كَسَب الله تعالى وغيره من الكفر ، { ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئُهم بما كانوا يعملون } من الخير فيُجازيهم عليه ، أو من الشر فيعاقبهم عليه .
الإشارة : العارف الكامل لا يُنقِص شيئًا من مصنوعات الله ، ولا يصغر شيئًا من مقدورات الله ، بل يتأدب مع كل شيء؛ لرؤية صنعة الله في كل شيء ، وكذلك المريد اللبيب ، يتأدب مع كل من ظهر بالخصوصية في زمنه ، كان صادقًا أو كاذبًا؛ لئلا يؤدي إلى تنقيص شيخه ، حين يذكر غيره بنقص أو غض . وفي الحديث : " لَعَن الله مَن يَسُبُّ والدَيهِ " فقالُوا : وكيف يسبُّ والدَيه يا رسول الله؟ قال " يَسُبُّ أبا الرجُلِ فيسُبُّ الرجلُ أباهُ وأُمه " أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
(2/189)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قلت : { جهد } : مصدر لعامل محذوف ، أي : واجتهدُّوا جهد أيمانهم ، وهو حال ، أي : وأقسموا جاهدين أيمانهم ، ومن قرأ : { أنها } ؛ بالفتح ، فهو مفعول بيُشعركم ، أي : وما يُدريكم أن الآيات إذا جاءت لا يؤمنون ، وقيل : { لا } : مزيدة ، أي : وما يدريكم أنهم لا يؤمنون إذا رأوها ، وقيل : إن ، هنا ، بمعنى لعل . ومَن قرأ بالكسر فهو استئناف ، وتم الكلام في قوله : { وما يشعركم } أي : وما يشعركم ما يكون منهم ، فعلى القراءة بالكسر ، يُوقف على : { ما يشعركم } ، وأما على القراءة بالفتح ، فإن كانت أنَّ مصدرية لم يوقف عليه؛ لأنه عامل فيها ، وإن كانت بمعنى : لعل ، فأجاز بعض الناس الوقف ، ومنعه بعضهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأقسموا } أي : المشركون ، { بالله } واجتهدوا في أيمانهم ، { لئن جاءتهم آية } ظاهرة يشهدونها ، { ليُؤمنن بها } وبمن جاء بها ، { قل } لهم : { إنما الآيات عند الله } وفي قدرته وإرادته ، يُظهرها حيث شاء ، وليس في قدرتي منها شيء ، { وما يُشعركم } أي : وما يُدريكم أيها المؤمنون ، { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } بها ، لما سبق لهم من الشقاء ، وقد كان المؤمنون يتمنَّون إنزالها طمعًا في إيمانهم ، وفي تنبيه على أنه تعالى إنما لم ينزلها؛ لعلمه بأنها { إذا جاءت لا يؤمنون } بها . وقيل : الخطاب للمشركين ، ويتأتى هذا على كسر " إن " ، أو على قراءة ابن عامر وحمزة : { لا تؤمنون } ؛ بتاء الخطاب ، وقرىء : { وما يُشعركم } بالغيبة ، فيكون إنكارًا لهم على حلفهم .
ثم ذكر سبب عدم إيمانهم فقال : { ونُقلب أفئدتهم وأبصارهم } عند نزول الآية ، أي : نصرف قلوبهم ونحولها عن الحق ، فلا يفقهون بها ، ونقلب أبصارهم عن النظر والتفكر ، فلا يُبصرون بها الحق ، فيصرون عن الإيمان بما أنزل إليك { كما لم يؤمنوا به } أي : بما أنزل من الآيات ، { أول مرة ونذرهم في طغيانهم } أي : في كفرهم وجحدهم { يعمهون } أي : يتحيرون ، فلا نهديهم هداية المؤمنين .
الإشارة : سألني بعض العوام ، فقال لي : ليس لكم ولا لأصحابكم كرامات تظهر فيمن آذاكم ، فقد كان أصحاب سيدي فلان وفلان يُظهرون الكرامات ، وينفذون في من آذاهم؟ فقلت له : نحن على دم نبينا صلى الله عليه وسلم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، فقد أُوذي وضُرِب ، فلما خيَّره ملكُ الجبال في أن يُطبق عليهم الأخشَبين أي الجَبلَين قال : " لا ، لعل الله تعالى يُخرج منهم مَن يعبُد الله " وقال حين أكثروا إيذاءه : " اللهُمَّ اغفِر لِقَومي فإنَّهُم لا يَعلَمُون " فالأولياء المحققون : رحمة للعباد ، يتحملون أذاهم ، ويتوجهون لمن آذاهم في الدعاء له بالهداية والتوفيق ، فهم قوم لا يشقَى جليسهم ، جالَسَهم بالإنكار أو بالإقرار ، وقد ظهرت الكرامات على بعض الأولياء ولم ينقطع عنهم الإنكار ، فإنَّ الإيمان أو التصديق بالنبي أو الولي إنما هو محض هداية من الكبير العلي .
(2/190)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قلت : { قبلاً } : بكسر القاف؛ معاينة ، وبضمتين : جمع قبيل ، أي : ضمناء ، وهو حال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على المشركين ، حين أقسموا : لئن رأوا آية ليؤمنن بها ، فقال تعالى : { ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة } تشهد لك بالنبوة كما اقترحوا ، { وكلمهم الموتى } كما طلبوا بقولهم : { فَأتُواْ بِأَبَآئِنَآ } [ الدخان : 36 ] ، وقالوا : إنَّ قُّصيًّا كان شيخ صِدق ، فابعثه لنا يكلمنا ويشهد لك بما تدعي .
{ و } لو { حشرنا عليهم } أي : جمعنا عليهم ، { كل شيء } من الحيوانات والجمادات ، معاينة ، أو ضمناء ، تشهد لك بالرسالة والنبوة ، { ما كانوا ليؤمنوا } بك في حال من الأحوال ، { إلا أن يشاء الله } إيمانهم فيمن لم يسبق له الشقاء ، { ولكن أكثرهم يجهلون } أنهم لو أُوتوا بكل آية لم يؤمنوا ، فكيف يقسمون بالله جَهدَ أيمانهم على ما لا يعلمون؟ ، فالجهل بهذا المعنى حاصل لأكثرهم ، ومطلق الجهل حاصل لجميعهم ، أو : ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون ، فيتمنون نزول الآية طمعًا في إيمانهم . قاله البيضاوي .
الإشارة : في الآية تسكين لقلوب الأولياء الداعين إلى الله ، حين يرون الخلق قد حادوا عن باب الله ، وتعلقت هممهم بالدنيا الدنية ، وتشتتت قلوبهم ، وضاعت عليهم أعمارهم ، فيتأسفون عليها ، فإذا تفكروا في هذه الآية وأمثالها سكنوا وردوا أمر عباد الله إلى مشيئته وإرادته ، فلو شاء الله لهدى الناس جميعًا ، ولا يزالون مختلفين : { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } . وبالله التوفيق .
(2/191)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قلت : { شياطين } : بدل من { عدو } ؛ إذ هو بمعنى الجمع ، أو مفعول أول لجعلنا ، و { عدوًا } : مفعول ثان ، والضمير في { فعلوه } : للوحي ، أو للعداوة ، و { غرورًا } : مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال { لتصغى } : عطف على غرورًا ، أو متعلق بمحذوف ، أي : فعلنا ذلك لتصغى . . . الخ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في تسلية نبيه عليه الصلاة والسلام : وكما جعلنا لك أعداء من الكفار ، { جعلنا لكل نبيٍّ عدُوًّا } من شياطين { الإنس والجن } أي : من مردة الفريقين ، وشياطين الإنس أقبح؛ لأنه يأتي في صورة ناصح ، لا يدفع بتعوذ ولا غيره . { يُوحِي } أي : يُوسوس ، { بعضهم إلى بعض } ، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس ، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه ، يُلقى إليه ذلك الشيطان { زخرف القول } أي : أباطيله ، أي : قولاً مزخرفًا مُزَوَّقًا { غرورًا } أي : لأجل الغرور ، فإن أراد الله خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه ، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه ، وكل شيء يقدره وقضائه ، { ولو شاء ربك } هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحي ، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء ، { فذرهم وما يفترون } على الله من الكفر وغيره ، فلا تهتم بشأنهم .
وإنما فعلنا ذلك الإيحاء { لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة } فيغتروا به ، { وليَرضَوهُ } لأنفسهم ، { وليقترفوا ما هم مقترفون } أي : وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحي من الجن أو الأنس ، وفي الآية دليل لأهل السنة في أن الله خالق الكفر والإيمان ، والطاعة والمعصية ، فالمعصية خلقها وقدرها ، ولم يَرضهَا ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] .
الإشارة : كما جعل الله لكل نبي عدوًا من شياطين الإنس والجن؛ جعل للأولياء كذلك؛ تحويشًا لهم إليه ، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته ، قال في الحِكَم : " إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكنًا إليهم ، أراد أن يُزعجك عن كل شيء حتى لا يشغلك عنه شيء " . وقال في لطائف المنن : اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا ، وتكمل فيهم المزايا ، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد ، أو يميلوا إليهم باستناد ، ومن آذاك فقد أعتقك من رزق إحسانه ، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه ، فإن لم تقدروا فادعوا له " كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق ، ويتعلق بالملك الحق . ه .
وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا ، فرأيتُ يُقال لي : مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم . وقال بعضهم : الصيحة من العدو ، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره ، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه ، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم .
(2/192)
ه .
وقال شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه : ( عداوة العدو حقًا : اشتغالك بمحبة الحبيب حقًا ، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك ، وفاتتك محبة الحبيب ) . وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له : لا تشتغل قط بمن يؤذيك ، واشتغل بالله يرده عنك؛ فإنه هو الذي حركه عليك؛ ليختبر دعواك في الصدق ، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير ، فاشتغلوا بأذى من آذاهم ، فدام الآذى مع الإثم ، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم . ه .
وهذا كله إنما يكون في البدايات ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه : ( اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا ) . . فإذا تمت أنوارهم وتطهرت من البقايا أسرارهم ، حكَّمهم في العباد ، وأذلهم لهم ، فيكون العبد المجتبى سيفًا من سيوف الله ، ينتصر الله به لنفسه؛ كما نبه على ذلك في لطائف المنن . وذلك من أسرار عدم مشروعية الجهاد من أول الإسلام؛ تشريعًا لما ذكرنا ، وتحذيرًا من الانتصار للنفس ، وعدم تمحض النصرة للحق . وعند الرسوخ في اليقين ، والأمن من مزاحمة الصدق غيره ، وقع الإذن في الجهاد ، هذا بالنسبة إلى الصحابة الكرام ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكامل من أول نشأته ، وإنما ذلك تشريع لغيره ، وترفيع لرتبته . والله تعالى أعلم .
(2/193)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قلت : { غير } : مفعول ، و { حَكَمًا } : حال ، وهو أبلغ من حاكم ، ولذلك لا يوصف به غير العادل ، و { صدقًا وعدلاً } : تمييز ، أو حال ، أو مفعول به .
يقول الحقّ جلّ جلاله : قل يا محمد : { أفغير الله } أطلبُ { حَكَمًا } يحكم بيني وبينكم ، ويفصل المحق مِنَّا من المبطل ، { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } أي : القرآن المعجز ، { مُفصَّلاً } ؛ مُبينًا قد بيّن فيه الحق من الباطل ، بحيث انتفى به الالتباس ، فهو الحاكم بيني وبينكم ، فلا أطلب حاكمًا غيره ، وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه مُغنٍ عن سائر الآيات . { والذين آتيناهم الكتاب } كأحبار اليهود ، { يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } ؛ لتصديقه ما عندهم ، وموافقته له في كثير من الأحبار ، { فلا تكونن من الممترين } في أنهم يعلمون ذلك ، أو في أنه منزل من ربك ، والمراد غيره عليه الصلاة والسلام ممن يطرقه ارتياب ، والمعنى : أن الأدلة تعاضدت على صحته ، فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه .
{ وتمت كلمة ربك } ؛ آيات القرآن ، بلغت الغاية في التمام والكمال ، { صِدقًا وعدلاً } أي : من جهة الصدق والعدل ، صدقًا في الأخبار والمواعيد ، وعدلاً في الأقضية والأحكام ، فلا أصدَق منها فيما أخبرت ، ولا أعدل منها فيما حكمت ، { لا مبدل لكلماته } أي : لا أحد يقدر أن يبدل منها شيئًا بما هو أصدق وأعدل ، ولا أن يحرف شيئًا منها ، كما فُعل بالتوراة ، فهو ضمان من الحق لحفظ القرآن ، كما قال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحِجر : 9 ] أو : لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها ، { وهو السميع } لكل ما يقال ، { العليم } بكل ما يضمر ، فمن ألحد أو بدل فالله عليم به .
الإشارة : من قواعد أهل التصوف : الرجوع إلى الله في كل شيء ، والاعتماد عليه في كل نازل ، والتحاكم إلى الله في كل أمر ، إن توقفوا في حكم رجعوا إلى كتاب الله ، فإن لم يجدوه نصًا ، رجعوا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يجدوه ، استفتوا قلوبهم ، وفي الحديث عنه : " استَفت قلبَكَ وإن أفتَاكَ المُفتُونَ وأفتوك " وفي بعض الآثار قالوا : يا رسول الله؛ أرأيت إن اختلفنا بعدك ، ولم نجد نصًا في كتاب الله ولا في سنة رسول الله؟ قال : " ردوه إلى صلحائكم ، واجعلوه شُورَى بينهم ولا تَتَعَدّوا رأيهم " أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
(2/194)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قلت : { من يضل } : موصولة ، أو موصوفة في محل نصب بفعل دل عليه { أعلم } ، أي : يعلم من يضل ، فإن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به إجماعًا . أو مبتدأ ، والخبر : { يضل } على أن { من } استفهامية ، والجملة : معلق عنها الفعل المقدر ، كقوله تعالى : { لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى } [ الكهف : 12 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : لرسوله عليه الصلاة والسلام ولمن كان على قدمه : { وإن تُطع أكثر من في الأرض } ؛ من الكفار أو الجهال أو من اتبع هواه { يضلوك عن } طريق { الله } ، الموصلة إلى معرفته ، وحلول رضوانه ، فإن الضال لا يأمر إلا بما هو فيه ، مقالاً أو حالاً . والمراد بهم : من لا يقين عندهم ، بل { إن يتبعون إلاَّ الظن } ، وهو ما استحسنته عقولهم ، إما تقليدًا ، كظنهم أن آباءهم كانوا على الحق ، أو ما ابتدعوه برأيهم الفاسد من العقائد الزائفة والآراء الفاسدة ، { وإن هم إلا يخرصون } أي : يكذبون على الله فيما ينسبون إليه؛ كاتخاذ الولد ، وجعل عبادة الأوثان وصُلة إلى الله ، وتحليل الميتة وتحريم البحائر ، أو يقدّرون في عقولهم أنهم على شيء ، وكل ذلك عن تخمين وظن لا يقين فيه ، ثم قال لنبيه : { إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } أي : هو عالم بالفريقين ، لا يخفى عليه أهل الحق من أهل الباطل .
الإشارة : مخالطة العموم والركون إليهم والمعاملة معهم سموم قاتلة ، قال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال : كيف الطريق إلى التحقيق والوصول إلى الحق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم؛ فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بُد لي ، قال : فلا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين آظهرهم ، لا بد لي من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم؛ فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا ، تنظر إلى اللاعبين ، وتسمع إلى كلام الجاهلين ، وتعامل البطَّالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة المعاملة في قلبك مع الله عز وجل!! هيهات ، هذا لا يكون أبدًا . ه .
وفي الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخوَفُ ما أخافُ على أمَّتِي ضَعفُ اليَقِين " وإنما يكون برؤية أهل الغفلة ومخالطة أرباب البطالة والقسوة ، وتربية اليقين وصحته إنما تُكتسب بصحبة أهل اليقين واستماع كلامهم ، والتودد إليهم وخدمتهم . وفي بعض الأخبار : ( تعلموا اليقينَ بمجالسةِ أهل اليقين ) ، وفي رواية : " فَإنَّي أتعلَّمُه " ، والحاصل : أن الخير كله في صحبة العارفين الراسخين في عين اليقين . أو حق اليقين ، وما عداهم يجب اعتزالهم ، كيفما كانوا ، إلا بقصد الوعظ والتذكير ، ثم يغيب عنهم ، وإلى هذا أشار ابن الفارض رضي الله عنه بقوله :
تَمَسّك بأذيالِ الهَوَى واخلعَ الحَيَا ... وخَلّ سَبِيلَ النَّاسِكينَ وإن جَلُّوا
وبالله التوفيق .
(2/195)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فكلوا مما ذُكر اسم الله عليه } عند ذبحه ، ولا تتورعوا منه ، { إن كنتم بآياته مؤمنين } ، فإن الإيمان يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى ، واجتناب ما حرمه ، { وما لكم ألاَّ تأكلوا مما ذُكر اسم الله عليه } أي : ما يمنعكم منه ، وأيّ غرض لكم في التحرُّج عن أكله؟ . { وقد فصَّل لكم } في الكتاب ، أو فصَّل الله لكم { ما حرم عليكم } مما لم يحرم بقوله : { حُرِمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ . . . } [ المَائدة : 3 ] الآية { إلا ما اضطررتم إليه } مما حرم عليكم؛ فإنه حلال حال الضرورة .
{ وإنَّ كثيرًا ليُضلون } بتحليل الحرام وتحريم الحلال { بأهوائهم } أي : بمجرد أهوائهم { بغير علم } ولا دليل ، بل بتشهي أنفسهم ، { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } المجاوزين الحق إلى الباطل ، والحلال إلى الحرام ، { وذَرُوا } أي : اتركوا { ظاهرَ الإثم وباطنه } أي : سره وعلانيته ، أو ما يتعلق بالجوارح والقلب ، { إن الذين يكسبون الإثم } سرًا أو علانية ، { سيُجزون بما كانوا يقترفون } ؛ يكتسبون .
ولما أمرهم بأكل الحلال نهاهم عن الحرام ، فقال : { ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه } ، بأن ترك التسمية عليه عمدًا لا سهوًا؛ كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة . وقال الشافعي : تؤكل مطلقًا ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " ذَبِيحَةُ المُسلِم حَلالٌّ وإن لَم يُذكَر اسمُ اللهِ عَلَيهِ " ، وقال أحمد وداود : لا تؤكل إن تركت مطلقًا ، عمدًا أو سهوًا .
وقال ابن جزي : إنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها مما ذُبح للنُصب ، فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين ، وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك . وقال عطاء : هذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب . ه .
{ وإنه } أي : الأكل مما لم يُذكر اسم الله عليه { لفسق } أو : وإنه أي : عدم ذكر اسم الله على الذبيحة ، لفسق ومن تزيين الشياطين ، { إن الشياطين ليُوحون } ؛ ليوسوسون { إلى أوليائهم } من الكفار { ليُجادلوكم } بقولهم : إنكم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله . وهذا يؤيد أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو الميتة ، { وإنْ أطعتموهم } في استحلال ما حرمتُ عليكم ، { إنكم لمشركون } مثلهم ، لأن مَن أحلّ ما حرّم الله فقد كفر ، والجواب عن شبهتهم : أن الذكاة تطهير لخبث الميتة ، مع ضرب من التعبّد .
الإشارة : ليس المراد من التسمية على الطعام أو غيره مجرد اللفظ ، وإنما المراد حضور المسمى ، وهو شهود المنعم في تلك النعمة؛ لأن الوقت الذي يغلب فيه حظ النفس ، ينبغي للذاكر المتيقظ أن يغلب فيه جانب الحق ، فيكون تناوله لتلك النعمة بالله من الله إلى الله ، وهذا هو المقصود من الأمر بذكر اسم الله ، لأن الاسم عين المسمى في التحقيق ، فإن كان الأكل أو غيره مما شرعت التسمية في أوله ، على هذا التيقظ ، فهو طائع لله وعابد له في أكله وشربه ، وسائر أحواله ، وإن كان غافلاً عن هذا ، فأكله فسق ، قال تعالى : { وَلا تَأكُلُوا مِمَّا لَم يُذكَرِ اسمُ اللهِ عَلَيهِ وَإنَّهُ لَفسقٌ } ، سبب ذلك : غلبة الغفلة .
(2/196)
والغفلة من وحي الشيطان ، { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } . أو : ولا تنظروا إلى الأشياء بعين الفرق والغفلة ، بل اذكروا اسم الله عليها وكلوها بفكرتكم { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله } عليه من الأشياء؛ فإنه غفلة وفسق في الشهود ، وقوله تعالى : { وَذَرُوا ظاهِرَ الإثمِ } ؛ هو ما ظهر على الجوارح من الذنوب ، وقوله : { وباطنه } ؛ هو ما كمن في السرائر من العيوب . والله تعالى أعلم .
(2/197)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قلت : { كَمَنَ } : موصولة ، و { مَّثَلُه } : مبتدأ ، و { في الظلمات } : خبره ، وقيل : مثل هنا زائدة ، أي : كمن هو في الظلمات ، و { ليس بخارج } : حال من الضمير في الخبر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أو من كان ميتًا } بالكفر والجهل { فأحييناه } بالإيمان والعلم ، { وجعلنا له نورًا } في قلبه أي : نور الإيمان والعلم ، { يمشي به في الناس } ، فيذكرهم بالله ، ويدلهم على الله ، { كمن مثله } غريق { في الظلمات } في ظلمة الكفر والجهل والتقليد والذنوب ، { ليس بخارج منها } أي : لا يفارق ضلالته بحال . { كذلك } أي : كما زُين الإيمان لهؤلاء { زُين للكافرين ما كانوا يعملون } .
قال البيضاوي : مَثل به من هداه الله تعالى وأنقذه من الضلال ، وجعل له نورَ الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء ، فيميز بين الحق والباطل ، والمحق والمبطل ، ثم قال : والآية نزلت في حمزة وأبي جهل ، وقيل : في عمّار وعُمر وأبي جهل . ه . ولفظها أعم ، وفي الآية من أنواع البيان : الطباق؛ في قوله : { ميتًا فأحييناه } .
الإشارة : الروح تكون أولاً على الفطرة التي فطرها الله عليها ، من العلم والإقرار بالربوبية ، فإذا بلغت قد تطرأ عليها موتات ، ثم تحيا من كل واحدة على حسب المشيئة ، فقد تموت بالكفر ، ثم تحيا بالإيمان ، وقد تموت بالذنوب والجرائم ، ثم تحيا بالتوبة ، وقد تموت بالحظوظ والشهوات ، ثم تحيا بالزهد والورع والرياضة ، وقد تموت بالغفلة والبطالة ثم تحيا باليقظة والإنابة ، وقد تموت برؤية الحس وسجن الأكوان والهيكل ، ثم تحيا برؤية المعاني وخروج الفكرة إلى فضاء الشهود والعيان ، ثم لا موت بعد هذا إلى أبد الأبد . والله تعالى أعلم .
(2/198)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قلت : { جعلنا } بمعنى صيَّرنا ، يتعدى إلى مفعولين ، و { مجرميها } : مفعول أول ، مؤخر ، و { أكابر } : مفعول ثان ، وفيه ضعف من جهة الصناعة؛ لأن أكابر جمع أكبر ، وهو من أفعل التفضيل ، فلا يستعمل إلا بالإضافة ، أو مقرونًا بمن . قاله ابن جزي .
قلت : ويُجاب بأنه لم يقصد به المفاضلة ، وإنما المراد مطلق الوصف ، أي : جعلناهم كبراء ، فلا يلزم إفراده ولا اقترانه بمن . فتأمله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وكذلك } أي : كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ، ليمكروا فيها بأهلها ، { جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } أي : مجرميها أكابر ، { ليمكروا فيها } بمن فيها ، فيمكروا بالناس فيتبعوهم على ذلك المكر ، لأنهم أكابر تصعب مخالفتهم ، فيحملونهم على الكفر والعصيان ، ويخذلونهم عن الإسلام والإيمان ، { وما يمكرون إلا بأنفسهم } ؛ لأن وبال مكرهم راحج إليهم ، { وما يشعرون } بذلك .
الاشارة : إذا أراد الله بقومٍ خيرًا جعل الخير في أكابرهم : فيجعل أُمراءهم عُدولاً حُلَماء ، وعلماءهم زهَّادًا أعفَّاءً ، وأغنياءهم رحماء أسخياء ، وصُلحاءهم قانعين أغنياء ، وإذا أراد بهم شرًا جعل الشر في كبرائهم ، فيجعل أمراءهم فجارًا يحكمون بالهوى ، وعلماءهم حراصًا جامعين للدنيا ، وأغنياءهم أشحاء قاسية قلوبهم ، وصلحاءهم طماعين في الناس ، منتظرين لما في أيديهم ، فبهؤلاء يصلح الدين إذا صلحوا ، ويفسد إذا فسدوا ، وفي ذلك يقول ابن المبارك رحمه الله :
وَهَل أفسَدَ الدِّينَ إلا المُلُوكُ ... وأحبارُ سُوءٍ وَرُهبَانُها
وقد تقدم تمامه في تفسير سورة البقرة . وبالله التوفيق .
(2/199)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قلت : { حيث } : مفعول بفعل مقدر ، لا بأعلم؛ لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به ، أي : يعلم حيث يجعل رسالته ، أي : يعلم المكان الذي يصلح للرسالة ، إلا إن أوِّلَ أفعل بما لا تفضيل فيه ، فينتصب المفعول به ، ويحتمل أن يكون هذا منه ، قال أبو حيان : ويحتمل أن تكون حيث على بابها من الظرفية المجازية ، ويُضَمَّنُ أعلم معنى يتعدى إلى الظرف ، والتقدير : الله أنفذ علمًا حيث يجعل رسالته . انظر المحشي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا جاءتهم } أي : هؤلاء المجرمين الأكابر ، { آية } نزلت على نبي ، { قالوا لن نؤمن } بها { حتى نُؤتى } من النبوة { مثل ما أُوتي رسلُ الله } ، فنكون أنبياء مثلهم ، والقائل لهذه المقالة أبو جهل ، قال : تزاحمنا : بنو عبد مناف الشرف مع بني هاشم ، حتى إذا صِرنا كَفَرَسَى رهان ، قالو : منا نبي يوحى إليه ، والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ، فنزلت الآية . وقيل : في الوليد بن المغيرة ، قال : أنا أولى بالنبوة من محمد . فرد الله على من قال ذلك بقوله : { اللهُ أعلَمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتَهُ } . فَعَلِم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أهل للرسالة ، فخصه بها ، وعلم أنهم ليسوا بأهل لها ، فحرمهم إياها ، فإن النبوة ليست بمجرد النسب والمال ، وإنما هي بفضائل نفسانية يَخُصُّ الله بها من يشاء من عباده ، بل بمحض الفضل والكرم ، فيجتبى لرسالته من علم أنه يصلح لها ، وهو أعلم بالمكان الذي فيه يضعها .
ثم ذكر وعيد المنكرين ، فقال : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } أي : ذل وحقارة يوم القيامة ، بعد تكبرهم وارتفاعهم في الدنيا . رُوِي " أنهم يُبعثون في صورة الذَّرِّ ، يطؤهم الناس في المَحشَر " . { و } يصيبهم { عذاب شديد بما كانوا يمكرون } أي : بسبب مكرهم ، أو جزاء مكرهم . كما تدين تدان .
الإشارة : ما حَرَم الناسَ من الخير إلا خصلتان : التكبر والحسد ، فمن طهر قلبه من الحسد ، وتواضع لكل أحد ، نال الرفعة والشرف عند الله في الدنيا والآخرة ، ولا يضع الله سر الخصوصية إلا في قلب طاهر متواضع ، يحط صاحبه رأسه لأقدام الرجال ، ويذل نفسه لأهل الصفاء والكمال ، وفي ذلك يقول الشاعر :
يا مَن يَلُوم خمْرَة المحَبَّة ... قُولُوا له عَنِّي هَيَ حَلالْ
ومَن يُرِدْ يُسْقَى منها غِبَّا ... خَدّ يضَع لأقدام الرَجالْ
رأسِي حطَطت بكُلِّ شَيبه ... هُم المَوالِي سَقَونِي زلالْ
فكما أن الحق تعالى علم حيث يجعل رسالته ، علم حيث يجعل سر ولايته ، وهي النفوس المتواضعة المتطهرة من رذائل النفوس؛ كالحسد والكبر وسائر الأوصاف المذمومة .
(2/200)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قلت : من قرأ { حرَجًا } ؛ بالفتح ، فهو مصدر وُصف به للمبالغة ، ومن قرأ بالكسر ، فوصف ، أي : شديد الضيق ، ومن قرأ { يَصَّعَّد } ؛ بالشد والقصر ، فأصله : يتصعد ، أدغم التاء في الصاد ، ومن قرأ : { يصّاعد } ؛ فأصله : يتصاعد ، فأدغم أيضًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فمن يُرد الله أن يهديه } أي : يعرِّفه طريق الحق ويوفقه للإيمان { يشرح صدرَه } أي : يوسعه { للإسلام } ، فيتسع له ، ويقبله ، ويغتبط به ، ويبتهج ، فرحًا وسرورًا . والشرح : كناية عن جعل النفس قابلة للحق ، مهيأة لحلوله فيها ، مصفاة عما يمنعها منه ، وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم ، حين سُئل عنه ، فقال : " نُورٌ يقذفه الله في قَلبِ المؤمن ، فينشرح له وينفسح " قالوا : هل لذلك أمارة يعرف بها؟ قال " نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول " .
ثم ذكر ضدَّه ، فقال : { ومن يُرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا } ؛ شديد الضيق ، بحيث ينبو عن قبول الحق ، فلا يدخله الإيمان ، ولا ينشرح صدره له ، بل يفر منه ، ويثقل عليه { كأنما يصَّعَّد في السماء } أي : يتكلف الصعود فيه . شَبَّههُ على وجه المبالغة بمن يُحاول ما لا يقدر عليه ، فإن صعود السماء غاية فيما يبعد عن الاستطاعة ، تنبيهًا على أن الإيمان تَمَنَّع عليه كما يمتنع عليه الصعود إلى السماء ، { كذلك } أي : كما يضيق صدر الكافر ويبعد قلبه عن الحق ، { يجعل الله الرجس } أي : العذاب والخذلان ، { على الذين لا يؤمنون } ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل .
{ وهذا } البيان الذي جاء به القرآن ، أو ما سبق من التوفيق والخذلان ، { صراط ربك } أي : الطريق الذي ارتضاه ، إن قلنا : الإشارة للبيان ، أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته ، إن قلنا ما سبق من التوفيق والخذلان ، حال كونه { مستقيمًا } لا عوج فيه ، أو عادلاً مطردًا لا جور فيه ، { قد فصَّلنا الآيات } أي : بينَّاها { لقوم يذكَّرون } فيعلمون أن الفاعل هو الله وحده ، وأن كل ما يحدث من خير وشر ، أو إيمان وكفر ، بقضائه وخلقه ، فإنه عالم بأفعال العباد ، حكيم عادل فيما يفعل بهم من تقريب أو إبعاد .
الإشارة : فمن يُرد الله أن يهديه لسر الخصوصية ونور الولاية يشرح صدره للدخول في طريقها ، ويوفقه لبذل نفسه وروحه في تحصيلها ، ويصبَّرُه على حمل لأوائها ، وينهضه إلى السير في ميدانها ، بعد أن يسقطه على شيخ كامل عارف بطريقها ، فيحققه بخصوصيته ، ويطلعه على سر ولايته ، حتى يُلقى القياد إليه بكليته ، فلا يَزَالُ يُسَايره حتى يقول له : ها أنت وربك . ومن يريد أن يضله عنها يجعل صدره ضيقًا عن قبولها ، حرجًا عن الدخول فيها ، حتى يثقل عليه حمل أعبائها ، أو ينكر وجود أهلها ، كذلك يجعل الله رجس حجابه على الذين لا يؤمنون بطريق الخصوص ، فإنه طريق مستقيم يُوصل إلى حضرة النعيم في الدنيا والآخرة . وبالله التوفيق .
(2/201)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لهم دار السلام } التي هي الجنة . والسلام اسم الحق تعالى ، وأضافها إلى نفسه تعظيمًا لها ، أو دار السلامة من المكاره ، أو دار التحية؛ { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ إبراهيم : 23؛ يونس : 10 ] ، { عند ربهم } ذخيرة لهم عنده حين يقدمون عليه ، لا يعلم كنهها غيره ، أو في ضمانه وكفالته ، { وهو وليهمُ } أي : مولاهم وناصرهم في الدارين ، { بما كانوا يعملون } أي : بسبب أعمالهم ، أي : تولاهم بسبب أعمالهم الصالحة ، فيحفظهم في الدنيا ، هم وذريتهم ، ويحفظهم في الآخرة كذلك .
الإشارة : من هداه الله لطريق الخصوصية ، واستعمله في الوصول إليها ، ووصله إلى من يسيره إليها ، فقد دخل دار السلام قبل موته ، فللَّه جنتان؛ جنة المعارف وجنة الزخارف ، من دخل جنة المعارف لم يشتق إلى جنة الزخارف ، لأن الله تولاه وأغناه عما سواه .
(2/202)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قلت : { خالدين } : حال مقدَّرة من الكاف ، والعامل فيه : { مثواكم } ، إن جعل مصدرًا ، أو معنى الإضافة ، إن جعل مكانًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { يوم نحشرهم } أي : الثقلين ، { جميعًا } ونقول : { يا معشر الجن } أي : الشياطين { قد استكثرتم من الإنس } أي : من إغوائهم وإضلالهم ، أو استكثرتم منهم بأن جعلتموهم في أتباعكم ، فحُشروا معكم ، { وقال أولياؤهم من الإنس } الذين أطاعوهم في الكفر : { ربنا استمتع بعضنا ببعض } أي : انتفع الإنس بالجن ، بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها ، وانتفع الجن بالإنس بأن أطاعوهم وحَصَّلوا مرادهم : وقيل : استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذُون بهم في المفارز وعند المخاوف ، كان الرجل إذا نزل واديًا يقول : أعوذ بصاحب هذا الواد ، يعني كبير الجن ، واستمتاعهم بالإنس : اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم ، { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } وهو الموت أو البعث والحشر ، وهو اعترافٌ بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وتحسرٌ على حالهم ، وإظهار للأستكانة والضعف . أقروا بذنبهم لعله ينفعهم .
{ قال النار مثواكم } : منزلكم ، { خالدين فيها إلا ما شاء الله } ؛ إلا أوقات ، ينتقلون فيها من النار إلى الزمهرير ، وقيل : ليس المراد بالاستثناء هنا الإخراج ، وإنما هو على وجه الآدب مع الله وإسناد الأمور إليه . وسيأتي في الإشارة تكميله إن شاء الله ، { إن ربك حكيم } في أفعاله ، { عليم } بأعمال الثقلين .
{ وكذلك } أي : كما ولينا الشياطين على الكفرة ، { نُوَلِّي بعض الظالمين بعضًا } أي : نَكَّل بعضهم إلى بعض ، أو نجعل بعضًا يتولى بعض فيقويهم ، أو : أولياءهم وقرناءهم في العذاب ، كما كانوا قرناء في الدنيا ، وذلك التولي والتسليط { بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي .
الإشارة : ليست الآية خاصة بالكفار ، بل كان عَوَّق الناسَ عن طريق الخصوص ، واستكثر من العموم؛ بأن أبقاهم في حزبه ، يقال له : يا معشر أهل الرياسة قد استكثرتم من العموم ، فيقول أهل اليمين من العموم : ربنا استمتع بعضنا ببعض فتبعناهم في الوقوف مع الحظوظ والعوائد ، وتمتعوا بتكثير سوادهم بنا وتنعيش رياستهم ، مع ما يلحقهم من الارتفاق من قِبلنا ، فيقول الحق تعالى : نار القطيعة والحجاب مثواكم خالدين فيها ، إلا وقت الرؤية مع عوام الخلق ، وهذه عادته تعالى : يولي بعض الغافلين بعضًا بسبب غفلتهم .
وفي قوله تعالى : { إلا ما شاء الله } إرشاد إلى استعمال الأدب ، وردُ الأمور كلها إلى رب الأرباب ، وعدم التحكيم على غيب مشيئته وعلمه ، وقوفًا مع ظاهر الوعد أو الوعيد ، فالأكابر لا يقفون مع وعد ولا وعيد ، كقول عيسى عليه السلام : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المَائدة : 118 ] ، وكقوله إبراهيم عليه السلام : { وَلآ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلآَّ أَن يَشَآءَ رَبِي شَيْئًا } [ الأنعَام : 80 ] الآية ، وكقوله :
(2/203)
{ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وكقول شعيب عليه السلام : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلآَّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبُّنَا } [ الأعرَاف : 89 ] ، وكاستغفار نبينا صلى الله عليه وسلم للمنافقين قبل نزول النهي ، وبعد نزوله ، { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً . . . } [ التّوبَة : 80 ] الآية . وكقوله ، يوم بدر : " إن تهلك هذه العصابة لن تعبد " ، مع تقدم الوعد بالنصر ، وكخوف موسى بعد قوله : { لآ تَخَافَآ إِنَّني مَعَكُمَآ . . . } [ طه : 46 ] الآية .
ومنه : خوف الأكابر بعد تأمينهم؛ لأن ظاهر الوعد والوعيد لا يقضي على باطن المشيئة والعلم ، ومثله يجري في سورة هود في قوله : { إَلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هُود : 107 ] ، وفي سورة يوسف : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } [ يُوسُف : 110 ] بالتخفيف ، وغير ذلك مما ورد في الكتاب والسنة ، وانظر الورتجبي . فقد انفرد بمقالة ، بعد حكاية اتفاق مذاهب المسلمين جميعًا على عدم غفران الشرك ، ولكن قول عيسى عليه السلام : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ . . . } الآية ، يشير إلى ما أشار إليه ابن عباس وابن مسعود في قوله تعالى : { خَالِدينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 107 ] قال : تؤمر النار أن تأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم ، ويرجى من كرم الله ولطفه إدخالهم بعد ذلك الجنة ، قال : وهذا مرجو ، ليس بمعتقد أهل السنة . ه .
قال في الحاشية : وهو يرجع عند التحقيق إلى طرح الأسباب وعدم الوقوف معها ، نظرًا إلى أن الحق تعالى لا يتقيد في وعيد ولا وعد ، فمن غلبه النظر إليه ، سرى إليه الرجاء في عين التخويف ، كما أنه يسري الخوف في عين الرجاء ، لكونه اقتطع من الوقوف مع خصوص وصف ، ولما كانت تلك الحالة هي عين الأدب اللائق بالعبودية مع الله تعالى أرشد تعالى إليها بقوله : { إلا ما شاء الله } ، { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } [ هُود : 107 ] ، وهو حال أهل الحقيقة ، والوقوف مع خصوص الوعد أو الوعيد حال أهل الشريعة . انتهى ببعض اختصار . وقد رد الثعالبي هذه المقالة التي حكاها الورتجبي .
(2/204)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قلت : { ذلك أن لم يكن ربك } : خبر عن مضمر ، وأن على حذف لام العلة ، أي : الأمر ذلك؛ لأجل أن لم يكن ربك متصفًا بالظلم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : يوم القيامة في توبيخ الكفار : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } أي : من مجموعكم ، أو رسل الجن : نُذُرُهم الذين يبلغون لهم شريعة الأنس؛ إذ ليس في الجن رسل على المشهور . ورَوى الطبري من طريق الضحاك بن مزاحم إثبات ذلك ، واحتج بأنا لله تعالى أخبَر أن من الجن والإنس رسلاً أرسلوا إليهم ، يعني ظاهر هذه الآية . وأجاب الجمهور بأن معنى الآية : أن رسل الإنس رسل من قبل الله أليهم ، ورسل الجن يبلغون كلام رسل الأنس إليهم ، ولهذا قال قائلهم : { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى } [ الأحقاف : 30 ] الآية ، فالرسالة إلى الجن خاصة بنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : مع الإنس .
حال كون الرسل الذين أتوكم { يقصون عليكم آياتي ويُنذرونكم لقاء يومكم هذا } يعني يوم القيامة ، قالوا في الجواب : { شهدنا على أنفسنا } بالكفر والعصيان ، وهو اعتراف منهم بما فعلوا .
قال تعالى : { وغرتهم الحياة الدنيا } ؛ ألهتهم بزخرفها عن النظر والتفكر ، { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ، وهذا ذم لهم على سُوء نظرهم وخطأ رأيهم ، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات الفاتية ، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية ، حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد؛ تحذيرًا للسامعين وإرشادًا لهم . قاله البيضاوي .
ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : { ذلك } الإرشال حكمته ل { أن لم يكن ربك مُهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } أي : إنما أرسلَ الرسل لئلا يكون ظالمًا لهم بإهلاكهم بسبب ظلم فعلوه ، وهم غافلون عن الإنذار ، بحيث لم ينذرهم أحد ، أو : لم يكن مهلك القرى ملتبسًا بظلم حيث أهلكهم من غير إنذار ، ففاعل الظلم ، على الأول : القرى ، وعلى الثاني : الله تعالى ، على تقدير إهلاكهم من غير إنذار . والأول يتمشى على مذهب المعتزلة ، والثاني على مذهب أهل السنة . انظر ابن جزي .
{ ولكلٍّ } من الإنس والجن { درجات } ؛ مراتب ، { مما عملوا } من أجل أعمالهم بالخير والشر ، فهم متفاوتون في النعيم والعذاب ، وظاهر الآية : أن الجن يُثابون ويُعاقبون؛ لأنهم مكلفون ، وهو المشهور ، واختلف : هل يدخلون الجنة أم لا؟ فروى الطبري وابنُ أبي حاتم عن أبي الدرداء موقوفًا : أنهم يكونون ترابًا كسائر الحيوانات ، ورُوِي عن أبي حنيفة مثله ، وذهب الجمهور وهو قول الأئمة الثلاثة والأوزاعي وأبي يوسف ، وغيرهم؛ أنهم يثابون على الطاعة ويدخلون الجنة . ثم اختلفوا ، هل يدخلون مدخل الإنس ، وهو الأكثر ، أو يكونون في ربض الجنة ، وهو عن مالك وطائفته ، أو أنهم أصحاب الأعراف ، أو التوقف عن الجواب؟ في هذا أربعة أقوال ، والله تعالى أعلم بغيبه .
(2/205)
{ وما ربك بغافل عما يعملون } فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق عليه من ثواب أو عقاب .
{ وربك الغني } عن العباد وعبادتهم ، { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف ، تكميلاً ، ويمهلهم على المعاصي حلمًا ، وليس له حاجة في طاعة ولا معصية ، { إن يشأ يُذهبكم } أيها العصاة ، { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } من الخلق ، { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } ؛ فأنشأكم قرنًا بعد قرن ، لكنه أبقاكم رحمة بكم ، { إنَّ ما توعدون } من البعث وما بعده ، { لآتٍ } لا محالة ، { وما أنتم بمعجزين } ؛ تعجزون قدرة الله الطالب لكم بالبعث والحساب .
الإشارة : كما أن الحق تعالى لم يُعذب الكفار إلا بعد إرسال الرسل ، كذلك لا يُعاقب أهل الإصرار إلا بعد بعث الأطباء؛ وهم أهل التربية النبوية ، فكل من لم يصحبهم وينقد إليهم مات مصرًا على الكبائر أي : كبائر القلوب وهو لا يشعر ، فيلقى الله بقلب سقيم ، فيعاقبه الحق تعالى على عدم صحبتهم ، ومعاتبته له : بُعدُهُ عن مشاهدته وعن مقام المقربين ، فإذا رأى مقام المقربين وقربهم من الحضرة ، قال : غرتنا الحياة الدنيا ورخارفها ، وجاهها ورياستها ، وشهد على نفسه أنه كان غافلاً .
فحِكمة وجود الأولياء في كل قرن؛ لتقوم الحجة على أهل الغفلة ، فإذا وقع البعد لقوم لم يكن الحقّ ظالمًا لهم ، فالدرجات على حسب المقامات ، والمقامات على حسب الأعمال ، وأعمال القلوب هي التي تقرب إلى حضرة علام الغيوب ، بها يقع القرب ، وبالخلو عنها يقع البعد . وعليها دلت الأولياء بعد الأنبياء ، لأن الأنبياء جاؤوا بالشريعة الظاهرة والحقيقة الباطنة ، فمن رأوه أهلاً لسر الحقيقة دلًّوه عليها ، فكان من المقربين ، ومن رأوه ضعيفًا عنها دلوه على الشريعة ، فكان من أصحاب اليمين . وبالله التوفيق .
(2/206)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قلت : { من تكون } : إما مفعول { تعلمون } ، أو مبتدأ ، وهي إما موصولة أو استفهامية ، والمكانة : التمكن أو الجهة ، يقال : مكان ومكانة كمقام ومقامة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { يا قوم اعملوا على مكانتكم } أي : تمكنكم من هواكم وشهواتكم التي أنتم عليها ، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من الكفر والهوى ، والمعنى : اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والعداوة ، { إني عامل } على ما أنا عليه من المصابرة والثبات على الدين الحق . والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد ، كأن الذي يهدده يريد تعذيبه لا محالة ، فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه ، وتسجيلٌ بأن المهدد لا يأتي منه إلا الشر ، كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه . قاله البيضاوي .
ثم صرح بالتهديد فقال : { فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } أي : أيُّنا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار ، أي : وهي الدار الآخرة ، أو : فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة سكنى الدار الآخرة والنعيم المقيم ، أو : من تكون له عاقبة هذه الدار بالنصر والظهور على الأديان أنا أو أنتم ، وفيه إنصاف في المقال حال الإنذار ، وحسن الأدب ، وتنبيهٌ على وثوق المنذِر لأنه محق . قال تعالى { إنه } ، أي : الأمر والشأن ، { لا يُفلح الظالمون } ، والظلم أعلم من الكفر ، ولذلك وضُع موضعه؛ لعمومه .
الإشارة : إذا انكب الناس على الدنيا ، وأخذتهم الغفلة ، وغلب عليهم الهوى ، ثم وقع الوعظ والتذكير من أهل الإنذار ، فقابَلوهم بالإبعاد والإنكار ، يقول لهم المذكور والواعظ : { يا قوم اعلموا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار . . . } الآية .
(2/207)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وجعلوا } أي : مشركو العرب ، { لله مما ذرأ } أي : خلق ، { من الحرث والأنعام نصيبًا } ، وهم حي من خولان ، يقال لهم : الأديم ، كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم وأنعامهم نصيبًا ، { فقالوا هذا لله بزعمهم } أي : بدعواهم من غير دليل ، وأكثر ما يستعمل الزعم في الكذب ، { وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يَصِلُ إلى الله وما كان لله فهو يَصِلُ إلى شركائهم } .
رُوِي أنهم كانوا يُعينون شيئًا من حرث أو نتاج إلى الله ، فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين ، وشيئًا منها إلى آلهتهم ، فينفقونه على سدنتهم أي : خدَّامهم ، والقيام بأصنامهم ، ويذبحون عندها ، ثم إذا رأوا ما عينوا لله أزكى وأكثر ، بدلوه لآلهتهم وقالوا : الله غني عنه ، وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها؛ حبًا لآلهتهم ، وإذا هبت ريح فحملت شيئًا من الذي لله إلى الذين للأصنام أقروه ، وإن حملت شيئًا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه ، وإذا أصابتهم سَنَةٌ ، أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم ، تعظيمًا لها .
وفي قوله : { مما ذرأ } : تنبيه على فرط جهالتهم ، فإنهم أشركوا الخالق في خلقه ، جمادًا لا يقدر على شيء ، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له ، وفي قوله : { بزعمهم } : تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه ، ولم يأمرهم الله تعالى به . { ساء } أي : قبح ، { ما يحكمون } حكمهم هذا الذي اخترعوه من عند أنفسهم .
الإشارة : مما ينخرط في سلك الآية . وتجر ذيلها عليه ، ما يفعله بعض الناس من التساهل في حقوق الله الواجبة ، والمسارعة إلى حقوق الناس التي ليست بواجبة عليه ، فترى بعض العوام يقدمون مد أبي العباس السبتي ، ويتساهل في الزكاة ، وترى بعض الناس يُسارع إلى إطعام الطعام وقرى الأضياف ، وهو لا يفي زكاته . وبعضهم يجعلون للصالحين شيئًا من أموالهم لتصلح وتنمو ويعتني بشأنها ، وقد لا يعتني بزكاته ولا يخرجها ، وهذا كله شعبة من فعل أهل الشرك ، وعلامة اتباع الهوى . وبالله التوفيق .
(2/208)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
قلت : قرأ الجمهور : { زَيَّن } ؛ بالبناء للفاعل ونصب قتل ، على أنه مفعول به ، وخفض { أولادهم } بالإضافة ورفع { شركاؤهم } ؛ فاعل { زين } ، فالشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل ، وقرأ ابن عامر : بضم الزاي؛ على البناء للمفعول ، ورفع { قتل } ؛ على النيابة عن الفاعل ، ونصب { أولادهم } على أنه مفعول بقتل ، وخفض " شركائهم " بالإضافة إلى قتل ، إضافة المصدر إلى فاعله ، أي : زُين لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم ، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بأولادهم ، وهو معمول للمصدر ، وهو جائز في العربية ، قال ابن مالك في الألفية :
فَصلَ مُضَافٍ شِبهِ فِعلٍ مَا نَصب ... مَفعولاً أو ظَرفًا أجِز ، ولم يُعب
وهذا من فصل المفعول ، فهو جائز في السعة؛ خلافًا للزمخشري ومن تبعه ، وقد شنَّع عليه الشاطبي في حرز الأماني .
يقول الحقّ جلّ جلاله : ومثل ذلك التزيين الذي وقع لهم في الحرث والأنعام ، { زَيَّن لكثير من المشركين قتل أولادهم } ؛ زين لهم ذلك شركاؤهم من الجن ، أو من السدنَة ، وحملوهم عليه ، خوفًا من الجوع أو من العار ، وكانوا يقتلون البنات دون البنين ، زينوا لهم ذلك { لُيردُوهم } أي : ليهلكوهم بالإغواء ، { وليلبسوا عليهم دينهم } أي : ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل ، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به ، { ولو شاء الله ما فعلوه } أي : ما فعل المشركين ما زين لهم ، أو ما فعل الشركاء التزيين ، أو الفريقان جميع ذلك ، { فذرهم وما يفترون } أي : اتركهم مع افترائهم ، أو : والذي يفترونه من الإفك ، وهذا قبل الأمر بالسيف ، ثم نسخ به .
الإشارة : مما ينخرط في سلك الآية : إهانة البنات وتعظيم البنين ، وقد نهى الشارع عليه الصلاة والسلام عن تخصيص الذكور بالوصية ، وقال للذي أراد أن يفعله : " لا تُشهدني على جور " ، وهنا إشارة أرق من هذا ، وهو أن يراد بالأولاد ما تنتجه الفكرة الصافية من العلوم والمواهب ، وقتلها : إهمال الفكرة عن استخراجها حتى ضاعت عليه ، والذي زين له ذلك هو شرك القلب ، واشتغاله برسوم الفرق ، حتى تعطلت الفكرة ، وماتت تلك العلوم من قلبه ، وقع ذلك التزيين بأهل الفرق ليسقطوهم عن درجة المقربين؛ أهل العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وليلبسوا عليهم دينهم بالخواطر والشكوك ، والأوهام ، ولو شاء الله لهدى الناس جميعًا .
(2/209)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قلت : { حِجْر } : فعل ، بمعنى مفعول ، يستوي فيه الواحد والكثير ، والمذكر والمؤنث ، ومعناه : حرام ، و { افتراء } : حال ، أو مفعول من أجله ، أو مصدر .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } أيضًا : { هذه } الأشياء التي جعلوها لأصنامهم ، وهي { أنعام وحرث } ، هي { حِجْرٌ } أي : حرام محجر ، { لا يَطعمها } ، لا يأكلها { إلا من نشاء } ، وهم خُدام الأوثان وسدنتها ، والرجال دون النساء . قالوا ذلك { بزعمهم } وافترائهم من غير حجة ، { وأنعام } أخرى { حُرمت ظهورها } ؛ وهي البحائر والسوائب والحوامي ، { وأنعام } أخرى { لا يذكرون اسم الله عليها } في الذبح ، وإنما يذكرون عليه اسم آلهتهم؛ { افتراء } على الله ، لأنهم قسموا أموالهم على هذه القسمة ، ونسبوا ذلك إلى الله؛ افتراءً وكذبًا ، { سيجزيهم بما كانوا يفترون } أي : بسببه فيعذبهم الله .
الإشاره : ما عاب الله على المشركين إلا الشرك والتحكم على الله ، فالواجب على من أراد السلامة أن يُوحد ربه ، وينفرد بكُلِّيته إليه ، ويُخلص أعماله لله ، ويصرف أمواله في مرضاة الله ، ويقف في أموره كلها عندما حدد له الله ، وبَيَّنه رسولُ الله؛ يكونُ من أولياء الله . والله تعالى أعلم .
(2/210)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قلت : { خالصةٌ } : خبر ل { ما } ، وأنثه؛ حملاً على المعنى ، لأن { ما } واقعة على الأجنة ، وذكّر { محرم } ؛ حملاً على لفظ { ما } ، ويحتمل أن تكون التاء للمبالغة ، ومن قرأ : { تكن } ، بالتأنيث ، فالمراد : الأجنة ، ومن قرأ بالتذكير فراعى لفظ { ما } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا ما } استقر { في بطون هذه الأنعام } ، بمعنى : البحائر والسوائب ، من الأجنة ، { خالصة لذكورنا } لا يشاركون فيه ، { ومحرم على أزواجنا } أي : نسائنا ، يعني : أن ما يولد للبحائر والسوائب ، قالوا هو حلال لذكورهم دون نسائهم ، هذا إن وُلد حيًا ، { وإن يكن ميتة } ؛ بأن ولد ميتًا { فهم فيه شركاء } ؛ فالذكور والإناث سواء ، { سيجزيهم وصفهم } أي : سيجزيهم على ما صفوا وافترا على الله من الكذب في التحليل والتحريم ، فهو كقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ } [ النّحل : 62 ] ، { أنه حكيم } في صنعه ، { عليم بخلقه } ؛ فيجزي كلاًّ على قدر جُرمه .
الإشارة : اعلم أن جيفة الدنيا اشترك النساء مع الرجال فيها ، لقوله تعالى : { وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء } ، والزهد في النساء قليل بالنسبة إلى الرحال ، واعلم أيضًا أن الحق تعالى يجازي عبده جزاء موافقًا لوصفه ، فإن كان وصفه التعظيم لكل شيء عظمه الله ، ومن كان وصفه التصغير صغره الله ، ومن كان وصفه الإحسان أحسن الله إليه ، ومن كان وصفه الإساءة أساء الله إليه ، ومن كان وصفه الفرق فرقه الله ، ومن كان وصفه الجمع جمعه الله ، وهكذا : كما تدين تدان ، كما تقابل الأشياء تقابلك ، قال تعالى : { سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم } .
(2/211)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قلت : { سفهًا } : حال أو مصدر ، وكذلك : { افتراء } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم } ؛ يعني : العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي أو الفقر ، { بغير علم } ولا دليل؛ لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله رازق أولادهم كما يرزقهم ، وليسوا هم الرزاقين لهم ، { وحرَّموا ما رزقهم الله } من البحائر والسوائب ونحوهما؛ { افتراء على الله } من عند أنفسهم ، { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } إلى الحق الصواب .
الإشارة : قد خسر الذين ضيعوا قلوبهم فلم تنتج لهم شيئًا من أبكار الحقائق وأسرار العلوم ، بل اشتغلوا بالسفه من القول والفعل ، بغير علم ولا بصيرة نافذة ، وحرموا ما رزقهم الله من العلوم والأسرار ، لو طهروا قلوبهم ، وخربوا ظواهرهم وخرقوا عوائدهم ، لكنهم حكموا على فعل ذلك بالتحريم ، تجمدوا على علم الرسوم وحفظ المروءة ، والمروءة إنما هي التقوى والدين ، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه ، قد ضلوا عن طريق الوصول ، وما كانوا مهتدين إلى طريق الخصوص ، ما داموا على ما هم عليه من زيّ اللصوص .
(2/212)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قلت : { مختلفًا } : حال مقدَّرة؛ لم يكن كذلك عند الإنشاء ، والضمير في { أُكله } : يعود على النخل ، والزرعُ مقيس عليه ، أو للجميع؛ على تقدير : كل واحد منهما .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي أنشأ } أي : خلق { جنات } ؛ بساتين مشتملة على كروم أي : دوالي { معروشات } أي : مرفوعة بالعرشان والدعائم ، { وغير معروشات } أي : مبسوطة على وجه الأرض ، قيل : المعروشات : ما غرسه الناس في العمران ، وغير المعروشات : ما أنبته في الجبال والبراري .
{ و } أنشأ { النخل والزرع مختلفًا أُكله } أي : ثمره الذي يؤكل منه ، واختلافه في اللون والطعم والرائحة والحجم والهيئة والكيفية ، وذلك دليل على عظمة القادر المريد ، { و } أنشأ { الزيتون والرمان متشابهًا وغير متشابه } أي : تتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ، ولا يتشابه بعضها . { كُلوا من ثمره } أي : من ثمر كل واحد منهما ، { إذا أثمر } وإن لم يطب ، قيل : فائدة الأمر بالأكل : رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله منه قبل الطيب ، أي : قبل أن تجب زكاته ، وأما إذا طاب فلا بد من التخريص .
{ وآتوا حقه يوم حصاده } ؛ يريد : ما كان يتصدق به يوم الحصاد ، لا الزكاة المقدرة؛ لأنها فرضت بالمدينة ، وكان ذلك واجبًا ثم نسخ بالعشر . وقيل : الزكاة حقيقةً ، والآية مدنية ، وقيل : مكية ، ولم يعيَّن قدرها إلا بالمدينة ، والأمر بإتيانها يوم الحصاد؛ ليُهتم به حينئذٍ ، حتى لا يؤخر عن وقت الأداء ، خلاف ما يفعله العامة من خزنها مع ماله ، حتى يدفعها في نوائب المخزن ، وليعلم أن الوجوب بالإفراك والطيب ، لا بالتصفية ، ولذلك شرع التخريص ، { ولا تُسرفوا } بصرفها في غير محلها ، ولا تتعدوا ما أمرتم به فتجعلوا ما أنشأ الله للأصنام ، أو : لا تسرفوا في التصدق بالكل ، كقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } [ الإسرَاء : 29 ] ، { إنه لا يحب المسرفين } أي : لا يرضى فعلهم .
وهو الذي أنشأ جنات المعارف لمن خرق عوائده ، معروشات بشهود أسرار الحبروت ، وغير معروشات بشهود أنوار الملكوت ، أو معروشات بشهود المعاني مع الأواني ، وغير معروشات بشهود الأواني فقط ، أو معروشات بشهود المؤثر والأثر ، وغير معروشات بشهود المؤثر فقط ، ولكها ترجع لمعنى واحد ، والمعروش أرفع من غيره وأكمل ، والأول : مقام البقاء والصحو ، والثاني : مقام الفناء والسكر ، والنخل والزرع : الحقيقة والشريعة على اختلاف علومهما ، والزيتون والرمان : الأعمال والأحوال ، متفقة وغير متفقة ، وثمره : حلاوة الشهود ، فليأكل منها المريد إذا طاب وقته ، ولا تُسرفوا في الأحوال ، إنه لا يحب المسرفين .
(2/213)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قلت : { حَمولة وفرشًا } : عطف على جنات ، و { ثمانية أزواج } : بدل من حَمولة ، و { من الضأن اثنين } : بدل من ثمانية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أنشأ أيضًا { من الأنعام } أنعامًا { حَمولة } ؛ ما يحمل الأثقال ، كالكبار منها ، { وفَرشَا } ؛ ما لا يحمل ، كالصغار لدنوها من الأرض ، أو حمولة للإبل ، وفرشًا للغنم ، لأنها تفرش للذبح ، ويُفرَشُ ما ينسج من صوفها ، { كلوا مما رزقكم الله } أي : كلوا ما أحل الله لكم منها ، { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم ، { إنه لكل عدو مبين } ؛ ظاهر العداوة .
ثم فصلها فقال : { ثمانية أزواج } ؛ ذكر وأنثى من كل صنف ، والصنف : ما معه آخر من جنسه يزاوجه ، ثم بيَّنها فقال : { من الضأن اثنين } ؛ ذكر وأنثى؛ كبش ونعجة ، { ومن المعز أثنين } ؛ التيس وهو الذكر ، والعنز وهي الأنثى ، { قل } لهم { آلذكرين } أي : ذكر الضأن والمعز ، { حرَّم أم الأنثيين } منهما؟ { أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } من الأجنة ذكرًا كان أو أنثى؟ { نبّئوني بعلم } يدل على أن الله تعالى حرم شيئًا من ذلك ، { إن كنتم صادقين } في دعوى التحريم عليه .
{ ومن الإبل اثنين } ؛ ذكر وأنثى ، { ومن البقر اثنين } كذلك . { قل آلذكرين حرَّم أم الأُنثيين } أم حرم ما { اشتملت عليه أرحام الأُنثيين } من الجنين مطلقًا؟ وهذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله ، وتوبيخ لهم ، حيث حرموا بعض الذكور مرة وبعض الأناث مرة ، فألزمهم تحريم جميع الذكور ، إن كان علة التحريم وصف الذكورة ، أو تحريم جميع الإناث ، إن كانت العلة الأنوثة ، أو تحريم الجميع إن كان المُحرم ما اشتملت عليه الأرحام ، ولا وجه للتخصيص ، فالاستفهام للإنكار ، وأكده بقوله : { أم كنتم شهداء } حاضرين حين { وصّاكم الله بهذا } التحريم ، ولا طريق لكم إلى معرفة هذا إلا المشاهدة والسماع ، وليس لك شيء من ذلك ، وإنما أنتم مفترون على الله .
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا } ؛ فنسب إليه تحريم ما لم يحرم ، والمراد : كبراؤهم الأوائل كعمرو بن لحي وأمثاله ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، { ليُضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } إلى مراشدهم ، أو إلى ما ينفعهم .
الإشارة : ومن الأحوال ما تحمل صاحبها إلى مقام الحرية ، بشهود الربوبية ، فيغلب عليه العز والاستظهار ، ومنها ما تحمله إلى مقام العبودية ، فيغلب عليه الذل والإنكسار ، وإليه الإشارة بقوله : { حمولة وفرشًا } ، فليتمتع المريد بما يظهر عليه منهما ، ولا يتبع خطوات الشيطان فيتعدى طوره ، ولا يعرف قدره .
وهذه الأحوال ثمانية أنواع : أربعة سفلية تناسب العبودية ، وأربعة علوية تناسب الربوبية . فالإربعة السفلية : الذل ، والفقر ، والعجز والضعف . والأربع العلوية : العز ، والغنى ، والقدرة ، والقوة . فمن أراد التعلق بهذه الأوصاف فليناد من كوة الذل : يا عزيز من للذليل سواك؟ ، ومن كوة الفقر : يا غني من للفقير سواك؟ ، ومن كوة العجز : يا قدير من للعاجز سواك؟ ومن كوة الضعف : يا قوي من للضعيف سواك؟ ، ير الإجابة طوع يديه ، ومن أراد التحقيق بها ، فليتحقق بذله يمده بعزه ، وليتحقق بفقره يمده بغناه ، وليتحقق بعجزه يمده بقدرته ، وليتحقق بضعفه يمده بقوته ، " تحقق بوصفك يمدك بوصفه " . وبالله التوفيق .
(2/214)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { لا أجد فيما أُوحي إليَّ } في القرآن أو مطلق الوحي ، { محرمًا } أي : طعامًا محرمًا ، { على طاعم يطعمه } ، أو يطعم منه غيره ، { إلاَّ أن يكون } الطعام { ميتة } ، وفي قراءة بالتاء؛ لتأنيث الخبر ، { أو } يكون { دمًا مسفوحًا } أي : مصبوبًا كدم المنحر ، { أو لحم خنزير فإنه رجس } أي : خبيث ، قيل : إنه يورث عدم الغيرة بالخاصية { أو } يكون { فسقًا } ، من صفته : { أُهِلَّ لغير الله به } أي : ذبح لغير الله ، وذكر عليه اسم الصنم ، وإنما سمي فسقًا؛ لتوغله في الفسق .
والآية تقتضي حصر المحرمات ، فيما ذكر ، وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا ، كلحوم الحمر الإنسية والكلاب ، وغيرها ، فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر ، وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب ، فلا تقتضي الحصر ، وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر : مكروه .
وقال البيضاوي : والآية مُحكمة؛ لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أُوحي إليه إلى تلك الغاية محرمًا غير هذه ، ولا ينافي ورود التحريم في شيء آخر ، فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ، ولا على حل الأشياء غيرها ، إلا مع الاستصحاب . ه .
ثم استثنى المضطر ، فقال : { فمن اضطُرَّ } إلى تناول شيء من ذلك ، { غير باغٍ } على مضطر مثله ، { ولا عادٍ } أي : متجاوز قدر الضرورة ، { فإن ربك غفور رحيم } لا يؤاخذه .
الإشارة : الأحوال كلها تتقوت منها الروح ، إلا ما كان غير مباح في الشرع ، فلا سير فيه ، والمراد بالأحوال : خرق عوائدها ، بكل ما يثقل عليها ، وأما ما كان محرمًا في الشرع فلا بركة في تناوله؛ لأنه رجس ، وأجازه بعض الصوفية محتجًا بقضية لص الحمام ، وفيه مقال ، فمن اضطر إلى تناوله ، لغلبة حال عليه ، غير قاصد لمخالفة الشرع ، فإن الله غفور رحيم ، وعليه حمل بعضهم قصة لص الحمَّام . والله تعالى أعلم .
(2/215)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
قلت : { الحوايا } هي الأمعاء ، أي : المصارين التي فيها البعر ، وتسمى المباعر ، جمع حوية ، فعيلة ، فوزنها على هذا : فعائل ، فصنع بها ما صنع بهرَاوا ، وقيل : جمع حاوية ، فوزنها : فواعل ، كقوارب ، وهو عطف على ما في قوله : { إلا ما حملت } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } ؛ ماله أصبع ، كالإبل والأوز والنعام ، وغيرها من الحيوان ، الذي هو غير منفرج الأصابع وله ظفر ، وقيل : كل ذي مخلب وحافر ، وسمي الحافر ظفرًا؛ مجازًا .
{ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } كالثروب وشحوم الكُلى ، { إلا ما حملت ظُهورهما } أي : إلا ما علق من الشحم بظهور البقر والغنم ، فهو حلال عليهم ، لكنهم اليوم لا يأكلونه ، حدثني شيخي الفقيه الجنوي أنه سأل بعض أحبارهم : هل هو حرام في كتابكم؟ فقال له : لا ، لكنهم قاسوه سدًا للذريعة . ه . فلما شددوا شدد الله عليهم ، { أو الحوايا } أي : ما احتوت عليه الأمعاء والحشوة مما يتحوى في البطن من الشحوم ، فهو حلال عليهم { أو ما اختلط بعظم } في جميع الجسد ، فإنه حلال عليهم ، لكنهم شددوا فحرموا الجميع عقوبة من الله { ذلك } التحريم جزاءٌ { جزيناهم } به بسبب بغيهم ، أي : ظلمهم ، { وإنا لصادقون } فيما أخبرنا به من التحريم ، وفي ذلك تعريض بكذب من حرّم غير ما حرم الله .
الإشارة : يؤخذ من الآية أن الذنوب والمعاصي تضيق على العبد لذائذ متعته ، وتقتر عليه طيب رزق بشريته ، وتضيق عليه آيضًا حلاوة المعاملة في قلبه ، ولذة الشهود في روحه وسره ، لقوله تعالى : { ذلك جزيناهم ببغيهم } . وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىَ ءَامَنُواْ وَاتَّقوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتِ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } [ الأعرَاف : 96 ] ، وقال في شأن القلب : { إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } [ الأنفَال : 29 ] ، أي : نورًا يفرق بين الحق والباطل ، وقال تعالى : { وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِمُكُمُ اللهُ } [ البَقَرَة : 282 ] ، أي : علمًا لدُّنيا ، فالمعصية كلها تُبعد العبد من الحضرة ، إن لم يتب ، والطاعة كلها تقرب من الحضرة . والتنعم إنما هو على قدر القرب ، ونقصانه على قدر البُعد . والله تعالى أعلم .
(2/216)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فإن كذبوك } يا محمد ، { فقل } لهم : { ربكم ذو رحمة واسعة } يُمهلكم على التكذيب ، فلا تغتروا بإمهاله؛ فإنه يُمهل ولا يُهمل . ولذلك أعقبه بقوله : { ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين } حيث ينزل بهم ، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين ، وذو بأس شديد على المجرمين ، فأقام مقامه : { ولا يُرَدُّ بأسه عن القوم المجرمين } ، لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم ، مع الدلالة على أنه لازب لا يمكن رده . قاله البيضاوي . وفي ابن عطية : ولكن لا تغتروا بسعة رحمته ، فإن له بأسًا لا يُرد عن القوم المجرمين . ه .
الإشارة : يُؤخذ من تقديم الرحمة الواسعة على البأس الشديد أن جانب الرجاء أقوى من جانب الخوف؛ لأن حسن الظن بالله مطلوب من العبد على كل حال ، لأن الرجال وحسن الظن يستوجبان محبة العبد وإيحاشه إلى سيده بخلاف الخوف ، وهذا مذهب الصوفية : أن تغليب الرجاء هو الأفضل في كل وقت ، ومذهب الفقهاء أن حال الصحة ينبغي تغليب الخوف لينزجر عن العصيان ، وحال المرض يغلب الرجاء؛ إذ لا ينفع حينئذٍ ، فالصوفية يرون أن العبد معزول عن الفعل ، فليس له قدرة على فعل ولا ترك . وإنما ينظر ما تفعل به القدرة ، فهو كحال المستشرف على الموت . والفقهاء يرون أن العبد له كسب واختيار . والله تعالى أعلم .
(2/217)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قلت : { هَلُم } : اسم فعل ، وهو عند البصريين بسيط ، وعند الكوفيين مركب . انظر البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { سيقول الذين آشركوا } في الاحتجاج لأنفسهم : { لو شاء الله } عدم شركنا { ما أشركنا ولا } أشرك { آباؤنا ولا حرمنا من شيء } من البحائر وغيرها ، فلو لم نكن على حق مرضى عند الله ما أمهلنا ولا تركنا عليه؛ فإمهاله لنا وتركه لنا على ما نحن فيه دليل على أنه أراده منا .
والجواب عن شُبهتهم : أنه خلاف ما أنزل الله على جميع رسله ، والحق تعالى لم يتركهم على ذلك ، بل بعث لهم الرسل يكلفهم بالخروج عنه ، والإرادة خلاف التكليف ، وأيضًا : قولهم هذا لم يصدر منهم على وجه الاعتذار؛ وإنما صدر منهم على وجه المخاصمة والاحتجاج . ولا يصح الاحتجاج بالقدر . والحاصل أنهم تمسكوا بالحقيقة ورفضوا الشريعة ، وهو كفر وزندقة ، إذ لا بد من الجمع بين الحقيقة في الباطن ، والتمسك بما جاءت به الرسل من الشريعة في الظاهر ، وإلاَّ فهو على باطل .
ولذلك ردّ الله تعالى عليهم بقوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم } الرسل ، فتمسكوا بالحقيقة الظلمانية ، { حتى ذاقوا بأسنا } أي : عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم { قل } لهم : { هل عندكم من علم } يدل على أن الله أمركم بالشرك ، وتحريم ما أحل ، وأنه رضي ذلك لكم ، { فتخرجوه } أي : فتظهروه { لنا } ، بل { إن تتبعون } في ذلك { إلا الظن } ولا تحقيق عندكم ، { وإن أنتم إلا تخرصون } ؛ تكذبون على الله تعالى ، وفيه دليل على أن الظن لا يكفي في العقائد .
{ قل } لهم : { فللَّه الحجة } على عباده ، { البالغة } ، حيث بعث الرسل مبشرين ومنذرين ، وأمروا بتوحيد الله وطاعته ، فكل من خالفهم قامت الحجة عليه ، هذا باعتبار التشريع الظاهر ، وأما باعتبار باطن الحقيقة ، فالأمور كلها بيد الله؛ يضل من يشاء بعدله ، ويهدي من يشاء بفضله ، { فلو شاء لهداكم أجمعين } ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ، { لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبيَاء : 23 ] ، فقول المشركين : { لو شاء الله . . . } الخ ، حق في نفسه ، لكنهم لم يعذَروا؛ لإهمالهم الشريعة .
{ قل هلُم } أي : أحضروا ، { شهداءكم } أي : كبراءكم وأئمتكم ، { الذين يشهدون أن الله حرّم هذا } ، استحضرهم ليلزمهم الحجة ، ويَظهر بانقطاعهم ضلالهم ، وألاَّ متمسك لهم في ذلك . ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : { فإن شهدوا } بشيء من ذلك ، { فلا تشهد معهم } أي : لا تصدقهم وبيِّن لهم فساده؛ { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } ، والأصل أن يقول : ولا تتبع أهواءهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على أن مكذب الآية متبع الهوى لا غير ، وأن متبع الحق لا يكون إلا مصدقًا لها . { و } تتبع أيضًا { الذين لا يؤمنون بالآخرة } ؛ كعبدة الأوثان ، { وهم بربهم يعدلون } ؛ يجعلون له عديلاً ومثيلاً .
(2/218)
الإشارة : اعلم أن الحقّ جلّ جلاله كلف عباده في هذا الدار ، بالقيام بوظيفتين : الشريعة والحقيقة ، الشريعة محلها الظواهر ، والحقيقة محلها البواطن ، الشريعة تقتضي التكليف ، والحقيقة تقتضي التعريف ، الشريعة شهود الحكمة ، والحقيقة شهود القدرة ، وجعل الشريعة رداء الحقيقة ولباسًا لها ، ثم جعل سبحانه في القلب عينين ، وتسمى البصيرة ، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع ، والأخرى تنظر للقرة فتقوم بالحقائق . فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعموا عين الشريعة ، وهم أهل الكفر والزندقة ، ولذلك قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا } ، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة ، ثم وهم عوام المسلمين من أهل اليمن ، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها ، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم .
وقوم أحبهم الله ، ففتح لهم عين الحقيقة ، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه ، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها ، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي ، وهم الأولياء العارفون بالله ، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا ، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا ، ومن تمسك بهما كان صدِّيقًا ، فمن رام تمسك بالشرائع ، ولم تُسعفه الأقدار ، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور ، وإن كان عن كسل فهو مخذول ، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان ، والعياذ بالله .
(2/219)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قلت : { تعالوا } : أمر من التعالي ، وأصله : أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل ، فاتسع فيه بالتعميم في كل أمر بالقدوم ، و { ألاَّ تشركوا } : فيه تأويلات؛ أحدها : أن كون مفسرة لا موضع لها ، و { لا } : ناهية جزمت الفعل ، أو تكون مصدرية في موضع رفع ، أي : الأمر ألاَّ تشركوا ، و { لا } : نافية حينئذٍ ، أو بدل من { ما } و { لا } : زائدة ، أو على حذف الإغراء ، أي : عليكم إلا تشركوا .
قال ابن جزي : والأحسن أن يكون ضَمَّنَ { حرَّم } معنى وَصَّى ، وتكون { أن } مصدرية ، و { لا } نافية ، ولا تفسد المعنى؛ لأن الوصية في المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب ، ويدل على هذا قوله بعد ذلك : { ذلكم وصاكم به } ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية؛ لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص ، وتريد به العموم ، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص ، فتقدير الكلام على هذا : قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم ، ثم أبدل منه ، على وجه التفسير والبيان ، فقال : ألاَّ تشركوا ، ووصاكم بالإحسان بالوالدين ، وهكذا . . فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين ، وما بعد ذلك . انظر بقية كلامه .
وإنما قال الحق سبحانه : { من إملاق } ، وقدّم الكاف في قوله { نرزقكم } ، وفي الإسراء قال : { خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ } [ الإِسرَاء : 31 ] ، وأخر الكاف؛ لأن ما هنا نزل في فقراء العرب ، فكان الإملاق نازلاً بهم وحاصلاً لديهم ، فلذلك قال : { من إملاق } ، وقدم الخطاب لأنه أهم . وفي الإسراء نزلت في أغنيائهم ، فكانوا يقتلون خوفًا من لحوق الفقر ، لذلك قال : { خشية إملاق } ، وقدم الغيبة فقال : { نحن نرزقهم } ؛ حين نخلقهم وإياكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { تعالَوا } أي : هلموا ، { أتلُ } أي : أقرأ { ما حرم ربكم عليكم } ، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم ، ولم يُنسخ قط في ملة من الملل ، بل وصى به جميع الملل ، و { ألاَّ تُشركوا به شيئًا } بل توحدوه وتعبدوه وحده ، { و } أن تحسنوا { بالوالدين إحسانًا } ، ولا تُسيئوا إليهما؛ لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما . { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } أي : من أجل الفقر الحاصل بكم ، وكانت العرب تقتل أولادها خوفًا من الفقر فنزلت فيهم ، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره ، { نحن نرزقكم وإياهم } ، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم .
{ ولا تقربوا الفواحش } ؛ كبار الذنوب { ما ظهر منها } للناس { وما بَطَنَ } في خلوة ، أو : ما ظهر منها على الجوارح ، وما بطن في القلوب من العيوب ، { ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق } ؛ كالقود ، وقتل المرتد ، ورجم المحصن . قال صلى الله عليه وسلم : " لا يحلُّ دَمُ امرىءٍ مُسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ : زِنَىً بعد إحصَانٍ ، وكُفرٍ بعد إيمَانٍ ، وقَتل نَفسٍ بغيرِ نَفسٍ "
(2/220)
{ ذلكم } المتقدم ، { وصّاكم به لعلكم تعقلون } ، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم .
{ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي } بالخصلة التي { هي أحسن } ؛ كحفظه وتثميره . والنهي عن القرب : يعم وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة؛ لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى ، { حتى يبلغ أشده } وهو البلوغ مع الرشد ، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير ، فيدفع له ، { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } ؛ بالعدل والتوفية ، { لا نُكلِّف نفسًا إلا وسعها } ؛ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها ، ولمَّا أمر بالقسط في الكيل والوزن ، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج أمر بالوسع في ذلك وعفا عما سواه .
{ وإذا قلتم } في حكومة ونحوها ، { فاعدلوا ولو كان } المقول له في شهادة أو حكومة { ذا قربى } ؛ فيجب العدل في ذلك ، { وبعهد الله أوفوا } أي : ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع ، أو ما عاهدتم مع عباده ، { ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون } ؛ تتعظون به .
{ وأنَّ هذا } أي : ما تقدم في السورة كلها ، { صراطي مستقيمًا فاتبعوه } ؛ لأن السورة بأسرها إنما هي في إثبات التوحيد ، والنبوة ، وبيان الشريعة ، { ولا تتبعوا السُّبل } ؛ الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى ، فإن مقتضى الحجة واحد ، ومقتضى الهوى متعدد؛ لاختلاف الطبائع والعادات ، ولذلك تَفرقت . والمراد بالطرق : اليهودية والنصرانية وغيرهما من الأديان الباطلة ، ويدخل فيه البدع والأهواء ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطًا ، ثم قال : " هذا سبيل الله " ، ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله ، ثم قال : " هذه سُبُلٌ ، وعلى كُلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعُو إليها " { ذلكم } الاتباع { وصّاكم به لعلكم تتقون } الضلال والتفرق عن الحق . وبالله التوفيق .
الإشارة : قد وصّى الحقّ جلّ جلاله على التخلص من الشرك ، جليه وخفيه ، ولا يكون إلا بتحقيق الإخلاص والتوحيد الخاص . وهو مطلب الصوفية ، وبالإحسان بالوالدين الروحانيين والبشريين ، أي : والد الأرواح وهو الشيخ المربي ووالد الأشباح ، ولا بد للمريد من طاعتهما ، إلاَّ أنه يقدم طاعة الشيخ ، كما تقدم عن الجنيد في ( سورة النساء ) .
ووصى بعدم قتل الأولاد ، وهم المواهب والعلوم بإهمال القلب في الغفلة ، وعدم قرب الفواحش : الظاهرة الحسية ، والباطنية القلبية؛ كالحسد ، والكبر ، وحب الجاه والدنيا ، وسائر العيوب . وعدم قتل النفس بالانهماك في الهوى والغفلة حتى تموت بالجهل عن المعرفة . وعدم قرب مال اليتيم ، وهو الذي ليس له شيخ ، فإن الغالب عليه عدم المسامحة ، وسيأتي عند قوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَرِنِيَ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعرَاف : 143 ] ، إشارة لها أرق من هذه ، وعلى التوفية في الأمور كلها؛ لأن الصوفي من أهل الصفاء والوفاء ، وعلى الصدق في الأقوال والأفعال والأحوال . وعلى الوفاء بالعهد ، وأعظمها عهد الشيوخ المُربين ، وعلى اتباع طريق السلوك الموصلة للحضرة وهي ما عينه الشيوخ للمريدين ، فلا يتعدى نظرهم ولو لحظة . وبالله التوفيق .
(2/221)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
قلت : { ثم } : هنا للترتيب الإخباري ، وقال ابن جزي : هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها ، فصح الترتيب . وقال البيضاوي : { أو } للتفاوت في الرتبة ، كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديمًا وحديثًا ، ثم أعظم من ذلك : أنا آتينا موسى الكتاب . . . الخ . وهو عطف على { وصّاكم } ، و { تمامًا وتفصيلاً } : حالان ، أو علتان ، أو مصدران .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم } نخبرك أنا { آتينا موسى الكتاب } ؛ التوراة ، { تمامًا على الذي أحسن } القيام به من بني إسرائيل ، ويدل عليه قراءة : { أحسنوا } ، أي : تمامًا للنعمة على العاملين به ، أو تمامًا على موسى الذي أحسن القيام به ، أي : آتيناه الكتاب تفضلاً وإتمامًا للنعمة؛ جزاء على ما أحسن من طاعة ربه وتبليغ رسالته ، ففاعل أحسن : ضمير موسى . أو : { تمامًا } أي : إكمالاً على ما أحسن الله به إلى عباده ، فالفاعل على هذا : ضمير الله تعالى ، { وتفصيلاً } أي : تبيينًا { لكل شيء } يحتاجون إليه في الدين . { وهدى } أي : هداية للظواهر ، { ورحمة } للقلوب ، { لعلهم } أي : بني إسرائيل ، { بلقاء ربهم } للجزاء ، { يُؤمنون } إيمانًا صحيحًا ، وهو اللقاء بالأجسام والأرواح ، والنعيم أو العذاب للأشباح . الله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من أحسن عبادة ربه في الظاهر ، وحقق في الباطن ، أتم الله عليه نعمته بشهود ذاته وأنوار صفاته ، ووهب له علومًا لدنية تفصل له ما أشكل ، يكون له هداية لزيادة الترقي ، ورحمةً يتهيأ بها قلبه لوحي الإلهام والتلقي . وبالله التوفيق .
(2/222)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قلت : { أن تقولوا } : مفعول له ، أي : كراهة أن تقولوا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهذا } القرآن { كتاب أنزلناه مبارك } كثير النفع { فاتبعوه } في الأصول والفروع ، { واتقوا } الشرك والمعاصي ، { لعلكم تُرحمون } ببركة أتباعه؛ فتحيا به قلوبكم ، وتنتعش به أرواحكم ، وإنما أنزلناه؛ كراهة { أن تقولوا يوم القيامة } في الحجة : { إنما أُنزل الكتابُ على طائفتين من قبلنا } ؛ اليهود والنصارى ، وإنما خصهما بالذكر لشهرتهما دون الكتب السماوية ، { وإن كنا } وإنه ، أي : الأمر والشأن ، كنا { عن دراستهم } أي : قراءتهم { لغافلين } أي : كنا غافلين عن قراءة أهل الكتاب ، لا ندري ما هي ولا نعرف مثلها ، أو لم ندرس مثل دراستهم ، ولم نعرف ما درسوا من الكتب ، فلا حجة علينا ، فقد قامت الحجة عليكم بنزول القرآن .
{ أو } كراهة أن { تقولوا } أيضًا : { لو أنا أُنزل علينا الكتابُ } كما أنزل إليهم ، { لكُنا أهدى منهم } لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ، ولذلك تلقفنا فنونًا من العلم ، كالقصص والأشعار والخطب والأنساب ، مع كوننا أميين ، قال تعالى لهم : { فقد جاءكم بينة من ربكم } وهو القرآن؛ حجة واضحة تعرفونها؛ { وهدى ورحمةٌ } لمن تدبره وعمل به ، { فمن أظلم } أي : لا أحد أظلم { ممّن كذَّب بآيات الله } بعد أن عرف صحتها ، { وصَدَف } ؛ أعرض { عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب } ؛ ألمه وقبحه ، { بما كانوا يصدفون } أي : يعرضون ويصدون عنها .
الإشارة : جعل الله رحمة القلب وحياة الأرواح في شيئين : في التمسك بالقرآن العظيم وتدبر معانيه ، واتباع أوامره واجتناب نواهيه ، وفي التحصن بالتقوى جهد استطاعته ، فبقدر ما يتحقق بهذين الأمرين تقوى حياة قلبه وروحه وسره ، حتى يصل بالحياة السرمدية ، وبقدر ما يُخل بهما يحصل له موت قلبه وروحه ، والإنسان إنما فضل وشرف بحياة قلبه وروحه ، لا بحياة جسمه ، ولا حجة له أن يقول : كنت مريضًا ولم أجد من يعالجني ، ففي كل زمان رجال تقوم الحجة بهم على عباد الله ، فيقال لهم : قد جاءكم بينة من ربكم ، وهو الولي العارف ، وهدى ورحمة لأهل عصره ، لمن تمسك به وصحبه ، وأما من أعرض عنه بعد معرفته فلا أحد أظلم منه ، { فَمَن أظلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنهَا . . . } الآية .
(2/223)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { هل ينظرون } أي : ما ينتظر أهل مكة { إلا أن تأتيهم الملائكة } لقبض أرواحهم ، أو بالعذاب ، لأجل كفرهم ، وهم لم يكونوا ينتظرون ذلك ، ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين ، { أو يأتي ربك } أي : أمره بالعذاب ، { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني : أشراط الساعة .
وعن حذيفة والبراء بن عازب : كنا نتذاكر الساعة ، إذ أشرق علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ما تداكرون " قلنا : نتذاكر الساعة ، فقال : " إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات : الدجال ودابة الأرض ، وخسفًا بالمشرق ، وخسفًا بالمغرب ، وخسفًا بجزيرة العرب ، والدخان ، وطلوع الشمس مغربها ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى ، ونارًا تخرج من عدن " .
{ يوم يأتي بعض آيات ربك } ، وهو طلوع الشمس من مغربها ، كما في حديث الصحيحين ، قال الأقليشي : وذلك أن الله تعالى ، إذا أراد طلوعها من مغربها ، حبسها ليلة تحت العرش ، فكلما سجدت وأستأذنت لم يجر لها جواب ، حتى يحبسها مقدار ثلاث ليال ، فيأتيها جبريل عليه السلام فيقول : إن الرب تعالى يأمرك أن ترجعي إلى مغربك فتطلعي منه ، وأنه لا ضوء لك عندنا ولا نور ، فتبكي عن ذلك بكاء يسمعها أهل السبع سماوات ، ومن دونها ، وأهل سرادقات العرش وحملته من فوقها ، فيبكون لبكائها مما يخالطهم من خوف الموت ، وخوف يوم القيامة ، قال : فيبيت الناس ينتظرون طلوعها من المشرق ، فتطلع الشمس والقمر خلف أقفيتهم من الغرب ، أسودين مُكدرين ، كالقارتين ، ولا ضوء للشمس ولا نور للقمر ، فيتصايح أهل الدنيا ، وتذهل الأمهات عن أولادها ، والأحبة عن ثمرة قلوبها ، فتشتغل كل نفس بنفسها ، ولا ينفع التوحيد حينئذٍ . ه .
وهو معنى قوله تعالى : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها } ؛ كالمختصر إذا صار الأمر عيانًا ، وإنما ينفع الإيمان بالغيب ، وقد فات يومئذٍ ، فلا ينفع الإيمان نفسًا { لم تكن آمنت من قبل } ؛ ولا تنفع التوبة من المعاصي وترك الواجبات حينئذٍ؛ لقوله : { أو كسبت في إيمانها خيرًا } أي : لا ينفع نفسًا مؤمنة لم تكن كسبت خيرًا قبل ذلك اليوم ، حيث كانت فرطت فيه قبل : وينفع اكتسابه بعد .
والحاصل : أن طلوع الشمس من مغربها يُغلق بعده بابُ التوبة؛ فلا يقبل الإيمان من كافر ، ولا التوبة من عاصٍ ، وأما الإيمان المجرد عن العمل ، إذا كان حاصلاً قبل ذلك اليوم ، فإنه ينفع على مذهب أهل السنة ، وكذلك العاصي بالبعض ينفعه بعض الذي كان يعمله ، كالزاني مثلاً ، إذا كان يصلي ، فتنفعه صلاته ويعاقب على العصيان ، وهكذا ، والمنفي قبوله : إنما هو الخير المتروك قبل ذلك اليوم ، فلا ينفع استدراكه بعد .
ثم قال تعالى : { قل انتظروا } إتيان أحد الثلاثة؛ الملائكة بعذابكم ، أو أمر الله تعالى بإهلاككم ، أو بعض آياته ، { إنا منتظرون } ذلك ، لنا الفوز وعليكم الويل .
الإشارة : ما ينتظر الغافلون والمنهمكون في اللذات والشهوات والإعراض عن الله إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم فجأة ، فيموتون على الغفلة ، فتنزل بهم الحسرة والندم ، وقد زلت القدم بهم ، أو يأتي أمر الله بطردهم والطبع على قلوبهم ، فلا ينفعهم وعظ ولا تذكير ، أو يأتي بعض آيات ربك؛ مصيبة أو داهية تثقل قلوبهم عن التوجه إلى الله ، وجوارحهم عن طاعة الله . فالغافل والعاصي بين هذه الثلاثة ، إن لم يقلع ويتب . والله تعالى أعلم .
(2/224)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين فرقوا دينهم } ؛ فآمنوا بالبعض وكفروا بالبعض ، وهم اليهود والنصارى ، وقيل : أهل الأهواء والبدع ، فيكون إخبارًا بغيب ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " قيل : يا رسول الله ، وما تلك الواحدة؟ قال : " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " .
وقرىء : " فارقوا " أي : تركوا دينهم ، { وكانوا شيعًا } ؛ جمع شيعة ، أي : فرقًا متشيعة ، كل فرقة تتشيع لمذهبها وتتشيع إمامها ، أي : تنتسب إليه . { لستَ منهم في شيء } أي : أنت بريء منهم ، فلست في شيء من السؤال عنهم وعن تصرفهم ، أو عن عقابهم ، وقيل : هو نهي عن التعرض لهم؛ فيكون منسوخًا بآية السيف ، { إنما أمرهم إلى الله } يتولى جزاءهم ، { ثم ينبئُهم بما كانوا يعملون } من التفرق فيعاقبهم عليه .
الإشارة : الافتراق المذموم ، إنما هو في الأصول؛ كالتوحيد وسائر العقائد ، فقد افترقت المعتزلة وأهل السنة في مسائل منه ، فخرج من المعتزلة اثنان وسبعون فرقة ، وأهل السنة هي الفرقة الناجية ، وأما الاختلاف في الفروع فلا بأس به ، بل هو رحمة لقوله عليه الصلاة والسلام : " خلاف أمتي رحمة " ، كاختلاف القراء في الروايات ، واختلاف الصوفية في كيفية التربية ، فكل ذلك رحمة وتوسعه على الأمة المحمدية ، إذ كل من أخذ بمذهب منها فهو سالم ، ما لم يتبع الرخص . وقال بعضهم : ما دامت الصوفية بخير ما افترقوا ، فإذا اصطلحوا فلا خير فيهم . ومعنى ذلك : إنما هو في التناصح والإرشاد والنهي بعضهم لبعض عما لا يليق في طريق السير ، فإذا سكت بعضهم عن بعض؛ مداهنةً وحياءً فلا خير فيهم ، وأما قلوبهم فلا بد أن تكون متفقة متوددة ، لا بغض فيها ولا تحاسد ، وإلا لم يكونوا صوفية . والله تعالى أعلم .
(2/225)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { من جاء بالحسنة } قولية أو فعلية أو قلبية ، { فله عشر أمثالها } من الحسنات ، فضلاً من الله ، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف ، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة ، وبغير حساب ، ولذلك قيل : المراد بالعشر : الكثرة دون العدد ، { ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها } ؛ قضية للعدل ، { وهم لا يظلمون } بنفس الثواب وزيادة العقاب .
الإشارة : إنما تضاعف أعمال الجوارح وما كان من قبل النيات ، وأما أعمال القلوب فأجرها بغير حساب ، قال تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزُّمَر : 10 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة " وق الشاعر :
كُلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبي ... قَدْرُه كَأَلْفِ حِجَّهْ
وقد تقدم هذا في سورة البقرة .
(2/226)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قلت : { دينًا } : بدل من محل ، " صراط "؛ لأن الأصل : هداني صراطًا مستقيمًا دينًا قيمًا ، و { قَيَّمًا } : فيعل من القيام ، فهو أبلغ من مستقيم ، ومن قرأ بكسر القاف : فهو مصدر وصف به؛ للمبالغة ، و { ملة إبراهيم } : عطف بيان الدين ، { وحنيفًا } : حال من إبراهيم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج والآيات ، { دينًا قيمًا } ؛ مستقيمًا يوصل من تمسك به إلى جوار الكريم ، في حضرة النعيم ، وهو { ملة إبراهيم } أي : دينه ، حال كونه { حنيفًا } : مائلاً عما سوى الله ، { وما كان من المشركين } ، وهو تعريض لقريش ، الذين يزعمون أنهم على دينه ، وقد أشركوا بالله عبادة الأوثان .
الإشارة : قد أخذ الصوفية من هذا الدين القيم ، الذي هدى الله إليه نبيه عليه الصلاة والسلام خلاصته ولبابه ، فأخذوا من عقائد التوحيد : الشهود والعيان على طريق الذوق والوجدان؛ ولم يقنعوا بالدليل والبرهان ، وأخذوا من الصلاة : صلاة القلوب ، فهم على صلاتهم دائمون من صلاة الجوارح ، على نعت قوله : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 2 ] ، وأخذوا من الزكاة : زكاة نفوسهم بالرياضة والتأديب وإضافة الكل إليه . ( العبد وما كسب لسيده ) ، مع أداء الزكاة الشرعية لمن وجبت عليه . وكان الشيخ أبو العباس السبتي رضي الله عنه يعطي تسعة أعشار زرعه ، ويمسك العشر لنفسه .
وأخذوا من الصيام : صيام الجوارح كلها ، مع صيام القلب عن شهود السِّوى . وأخذوا من الحج : حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب ، فالكعبة تشتاق إليهم وتطوف بهم ، كما تقدم في آل عمران ، ومن الجهاد : الجهاد الأكبر ، وهو جهاد النفوس ، وهكذا مراسم الشريعة كلها عندهم صافية خالصة من الشوائب ، بخلاف غيرهم ، فلم يأخذ منها إلا قشرها الظاهر وعمل الأشباح ، فهي صُور قائمة لا روح فيها؛ لعدم الإخلاص والحضور فيها . والله تعالى أعلم .
(2/227)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قلت : ( ربًّا ) : حال من ( غير ) .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : { إن صلاتي ونسكي } أي : عبادتي كلها ، وقرباتي أو حجي ، { ومحياي ومماتي } أي : وعملي في حياتي ، وعند موتي من الإيمان والطاعة ، أو الحياة والممات أنفسهما ، { لله رب العالمين لا شريك له } أي : هي خالصة لله لا أشرك فيها غيره ، { وبذلك } أي : بذلك القول والإخلاص ، أمرني ربي ، { وأنا أول المسلمين } ؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته .
{ قل } لهم : { أغير الله أبغي ربًا } فأشرك مع الله ، { وهو ربُّ كل شيء } ؛ لأن كل شيء مربوب لا يصلح للربوبية . وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم . { ولا تَكسِبُ كلُّ نفس } من شرك أو غيره { إلا عليها } وزره ، فلا ينفعني ضمانكم وكفالتكم من عقاب ربي ، وهو رد على الكفار حيث قالوا له : اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك ، ثم أوضح ذلك بقوله : { ولا تزر } أي : تحمل نفس { وازرة } أي : آثمة { وزر } نفس { أخرى } أي : لا يحمل أحد ذنوب أحد ، { ثم إلى ربكم مرجعكم } بالبعث والحساب ، { فينبئُكم } ، أي : يُخبركم { بما كنتم فيه تختلفون } من أمر الدين؛ فيبين الرشد من الغي ، والمحق من المبطل .
الإشارة : الإخلاص سر من أسرار الله ، يُودعه القلب من أحب من عباده ، وهو أخلاص العبودية لله وحده ، ولا يتحقق ذلك للعبد إلا بعد تحرره من رق الهوى وخروجه من سجن وجود نفسه ، وهذا شيء عزيز . ولذلك قيل :
وقال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه : الإخلاص عند المخلصين : إخراج الخلق من معاملة الخالق ، وأول الخلق : النفسن والإخلاص عند المحبين : ألا يعمل عملاً لأجل النفس ، وألاَّ يدخل عليه مطالعة العوض ، أو تشوف إلى حظ طبع ، والإخلاص عند الموحدين : خروج الخلق من النظر إليهم ، أي : لا يرون مع الله غيره في الأفعال ، وترك السكون إليهم ، والاستراحة إليهم في الأحوال . ه .
(2/228)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي : يخلف بعضكم بعضًا ، أو خلفاء الله في أرضه؛ تتصرفون فيها بإذنه ، على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السابقة ، على أن الخطاب للمسلمين ، { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الشرف والغناء والقوة والجاه ، وفي العلوم والأعمال والأحوال والإخلاص والمعارف ، وغير ذلك مما يقع به التفاضل بين العباد ، { ليبلوكم فيما آتاكم } أي : ليختبر شكركم على ما أعطاكم ، وأعمالَكم فيما مكنكم فيه من الخلافة .
{ إن ربك سريع العقاب } لمن كفر نعمه ، إما في الدنيا لمن عجل أخذه؛ لأن كل آت قريب ، { وإنه لغفور رحيم } لمن شكر نعمه وآمن وعمل بطاعته ، جمع بين التخويف والترجيه ليكون العبد بينهما . وبالله التوفيق .
الإشارة : من شرف هذا الآدمي أن جعله خليفة عنه ، في ملكه ، يتصرف فيه بنيابته عنه ، ثم إن هذا التصرف يتفاوت على قدر الهمم ، فبقدر ما ترتفع الهمة عن هذا العالم يقع للروح التصرف في هذا الوجود ، فالعوام إنما يتصرفون فيما ملَّكهم الله من الأملاك الحسية . والخواص يتصرفون بالهمة في الوجود بأسره ، وخواص الخواص يتصرفُون بالله ، أمرُهم بأمر الله ، إن قالوا لشيء : كن يكون بإذن الله ، مع إرادة الله وسابق علمه وقدره ، وإلا فالهمم لا تخرق أسوار الأقدار ، والحاصل : أن من بقي مع الأكوان شهودًا وافتقارًا ، كان محبوسًا معها ، ومن كان مع المكون كانت الأكوان معه ، يتصرف فيها بإذن الله ، خليفة عنه فيها ، وهم متفاوتون في ذلك كما تقدم .
وقال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أي : خلفاء عنه تتصرفون في الوجود بأسره بأرواحكم ، وأنتم في الأرض بأشباحكم ، { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } ؛ من أقطاب وأوتاد ونجباء ونقباء وغير ذلك ، مما هو مذكور في محله . خرطنا الله في سلكهم ومنحنا ما منحهم ، بمنَّه وكرمه ، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حبيبه ونبيه . آمين والحمد لله رب العالمين .
(2/229)
المص (1)
إما أن تكون مختصرة من المصطفى ، على عادة العشاق؛ يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب ، اتقاء الرقباء ، أي : يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا؛ هذا كتاب أنزل إليك ، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة : الجبروت والملكوت والملك . وزاد هنا الصاد ، إشارة إلى صدقه فيما يُخبر به من علم الغيوب ، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار .
وقال الورتجبي : كان الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بقصص الأنبياء ، وما جرى عليهم في الدهور والأعصار ، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع ، وأراد أن يخصه صلى الله عليه وسلم بشريعته ، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته ، ويخبره بما كان وما يكون ، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي ، واعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب ، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق ، ونبأٍ صادق ، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة ، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن؛ ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه ، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها ، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء ، كأنَّ حروف المقطعات رموز ومعاني سور القرآن ، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين . ه .
(2/230)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قلت : { كتاب } : خبر ، أي : هذا كتاب ، و { أُنزل } : صفته ، والحرج : الضيق ، و { لتنذر } : متعلق بأُنزل ، أو بلا يكن ، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم ، و { ذكرى } : يحتمل النصب بإضمار فعل ، أي : لتُنذر ولتذكر ذكرى ، والجر عطف على { لتنذر } ، أي : للإنذار والتذكير ، والرفع عطف على { كتاب } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : هذا { كتابٌ أُنزل إليك } من ربك ، { فلا يكن في صدرك حرجٌ منه } أي : ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يُكذب به ، مخافة أن تكذّب فيه ، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه ، أو بحقوقه ، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة ، كقولك : لا أرينك ها هنا ، كأنه قال : فلا يحرج صدرك منه ، وإنما أنزلناه إليك لتُنذر به من بلغه ، { وذكرى للمؤمنين } أي : وتذكيرًا وموعظة للمؤمنين؛ لأنهم هم المنتفعون بمواعظة .
الإشارة : تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم ، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله؛ كالأنبياء والصديقين ، لسعة معرفتهم ، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى ، ونهيه تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام عن ضيق صدره : تشريع لورثته من بعده؛ الداعون إلى الله عز وجل وإلاَّ فهو صلى الله عليه وسلم بحر واسع ، لا تكدره الدِّلاءُ ، كما قال البوصيري .
فَهو البَحرُ والأَنَامُ إِضاء ... والله تعالى أعلم .
(2/231)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
قلت : { قليلاً } : صفة لمصدرٍ ، أو زمانٍ محذوف ، أي : تتذكرون تذكرًا قليلاً ، أو زمانًا قليلاً ، والعامل فيه : تذكرون ، و { ما } : زائدة لتأكيد القلة .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { اتَّبِعُوا } أيها الناس { ما أُنزل إليكم من ربكم } من أحكام القرآن والسنة؛ إذ كله وحي يوحى ، { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىَ } [ النّجْم : 3 ] ، { ولا تتبعوا من دونه } أي : الله ، { أولياءَ } من الجن والإنس يضلونكم عن دينه ، أو : ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء ، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم ، وتتركون ما أنزل إليكم من ربكم ، { قليلاً ما تذكَّرون } : تتعظون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره ، بعد كما إنذاره ووضوح تذكاره ، وذلك لانطماس البصيرة وعمي القلوب ، والعياذ بالله .
الإشارة : اتباع الحبيب في أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة ، ومخالفته يدل على بطلانها .
تَعصِي الإله وأنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ ... هذَا محَالٌ في القِيَاسِ بَدِيعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأطَعتَهُ ... إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
وجمع المحبة في محبوب واحد يدل على كمالها ، وتفرق المحبة يدل على ضعفها ، ولذلك قال الشاعر :
كَانَت لَقلبِي أهواءٌ مُفرَّقةٌ ... فَاستَجمَعَتْ مُذ رَأتكَ العَيْنُ أهوائي
فلا تجتمع المحبة في محبوب واحد إلا بعد كمال معرفة المحبوب ، وشهود أنوار جماله وكمال أسراره . والله تعالى أعلم .
(2/232)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
قلت : { كم } : خبرية ، مفعول { أهلكنا } ، وهو على حذف الإرادة ، أي : في الحال أردنا إهلاكها ، و { بياتًا أو هم قائلون } : حالان ، أي : بائتين أو قائلين ، وأغني الضمير في { هم } عن واو الحال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : كثيرًا من القرى { أهلكناها } لما عصت أمرنا ، وخالفت ما جاءت به رسلنا ، { فجاءها بأسُنَا } أي : عذابنا { بياتًا } أي : ليلاً ، كقوم لوط؛ قلبت مدينتهم ، عاليها سافلها ، وأرسلت عليهم الحجارة بالسَّحَر ، { أو هم قائلون } نصف النهار ، كقوم شعيب ، نزلت عليهم نار فأحرقتهم ، وهو عذاب يوم الظلمة ، وإنما خص الوقتين؛ لأنهما وقت دعة واستراحة ، فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع .
{ فما كان دعواهم } أي : دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا ، { إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } أي : إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه ، تحسرًا ، أو : ما كان دعاؤهم إلا قولهم : { يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 14 ، 15 ] : ميتين ، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم ، فوالله { لنسألن الذين أُرسل إليهم } عن قبول الرسالة وإجابة الرسل ، { ولنسألن المرسلين } عما أُجيبوا به ، والمراد بهذا السؤال : توبيخ الكفرة وتقريعهم ، وأما قوله تعالى : { وَلاَ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [ القَصَص : 78 ] ، فالمنفي : سؤال استعلام؛ لأن الله أحاط بهم علمًا ، أو الأول في موقف الحساب ، وهذا عند حصول العقاب .
{ فلَنقصَّنَّ عليهم } أي : على الرسل والأمم ، فنقص على الرسل ما قُوبلوا به من تصديق أو تكذيب ، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار ، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون : { لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } [ المَائدة : 109 ] . نقص ذلك عليهم { بعلْمٍ } وتحقيق؛ لاطلاعنا على أحوالهم ، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانيتهم . { وما كنا غائبين } عنهم ، فيخفى علينا شيء من أحوالهم ، بل كنا حاضرين لديهم ، محيطين بسرهم وعلانيتهم .
الإشارة : ما أهلك الله قومًا وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق ، فمن قام بهما معًا كان مصحوبًا بالسلامة ، موصوفًا بالكرامة في الدارين ، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال في الدارين ، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير ، حيث فاته الحزم والتشمير ، فإذا ندم لم نفعه الندم ، حيث زلت به القدم ، فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والانكسار ، والتمسك بشريعة النبي المختار ، والتحقق بمعرفة الواحد القهار ، وصحبة الصالحين الإبرار ، والعارفين الكبار ، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار .
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به ، يسأل خلفاءهم وهم الأولياء والعارفون عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار ، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين ، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين . وبالله التوفيق .
(2/233)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
قلت : { الوزن } : مبتدأ ، و { يومئذٍ } : خبره ، و { الحق } : صفته ، أي : الوزن العدل حاصل يومئذٍ .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والوزن } أي : وزن الأعمال ، على نعت الحق والعدل ، حاصل يوم القيامة ، حين يسأل الرسل والمُرسل إليهم . والجمهور على أن صحائف الأعمال تُوزن بميزان له لسان وكفتان ، ينظر إليه الخلائق؛ إظهارًا للمعدلة وقطعًا للمعذرة ، كما يسألهم عن أعمالهم ، فتعترف بها ألسنتهم ، وتشهد بها جوارحهم ، ويؤيده ما رُوِي : " أن الرجل يُؤتى به إلى الميزان ، فيُنشَر عليه تسعَةٌ وتِسعُونَ سِجلاًّ ، كُلُّ سِجِلًّ مَد البَصَرِ ، فَتُخرَحُ لَهُ بطَاقة فِيهَا كَلِمةُ الشهَادِة ، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفةٍ ، والبطاقة في كفّة ، فَتثقُل البطاقةُ ، وتَطِيشُ السِّجلاَّتُ " .
وقيل : توزن الأشخاص؛ لما رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنّهُ ليأتِي العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيَامَة لا يَزنُ عندَ اللهِ تَعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " والتحقيق : أن المراد به الإهانة والتصغير ، وأنه لا يساوي عند الله شيئًا؛ لاتباعه الهوى .
ثم فصل في الأعمال فقال : { فمن ثَقُلَتْ موازينه } أي : حسناته ، أو الميزان الذي يوزن به حسناته ، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن ، فعلى الأول هو جمع موزون ، وعلى الثاني جمع ميزان ، فمن رجحت حسناته { فأولئك هم المفلحون } الفائزون بالنجاة والثواب الدائم ، { ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسَهُمْ } بتضييع الفطرة السليمة التي فُطِروا عليها ، واقتراف ما عرضها للهلاك ، { بما كانوا بآياتنا يَظلمُون } حيث بدلوا التصديق بها بالتكذيب ، والعمل فيها بالتفريط . نسأل الله تعالى الحفظ .
الإشارة : العمل الذي يثقل على النفس كله ثقيل في الميزان؛ لأنه لا يثقل عليها إلا ما كان حقًا ، والعمل الذي يخف على النفس كله خفيف؛ لأنه فيه نوع من الهوى؛ إذ لا يخف عليها إلا ما لها فيه حظ وهوى ، وفي الحكم : " إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلها على النفس فاتبعه؛ فإنه لا يثقل عليها إلا بما كان حقًا " . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق ، وما خف إلا باتباعه الهوى . قال تعالى : { والوزن يومئذٍ الحق } . ه . بمعناه ذكره في القوت . وهذا في غير النفس المطمئنة ، وأما هي فلا يثقل عليها شيء ، وقد يثقل عليها الباطل ، ويخف عليها الحق ، لكمال رياضتها . والله تبارك وتعالى أعلم .
(2/234)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد مكناكم في الأرض } ؛ تتصرفون فيها بالبناء والسكن ، والغرس والحرس والزرع ، وغير ذلك من أنواع التصرفات ، { وجعلنا لكم فيها معايش } : أسبابًا تعيشون بها؛ كالتجارة وسائر الحرف ، { قليلاً ما تشكرون } على هذه النعم ، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان ، فأنتم جديرون بسلبها عنكم ، وإبدالها بالنقم ، لولا فضله ورحمته .
الإشارة : نعمة التمكين في الأرض متحققة في أهل التجريد ، والمنقطعين إلى الله تعالى ، فهم يذهبون في الأرض حيث شاؤوا ، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاؤوا ، فهم متمكّنون من أمر دينهم؛ لقلة عوائدهم ، ومن أمر دنياهم؛ لأنها قائمة بالله ، تجري عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون ، تخدمهم ولا يخدمونها؛ " يا دنياي اخدمي من خدمني ، وأتعبي من خدمك " . فمن قصّر منهم في الشكر توجه إليه العتاب بقوله : { ولقد مكناكم في الأرض } إلى قوله : { قليلاً ما تشكرون } ، ومن تحقق شكره قيل له : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ } [ القصص : 5 ، 6 ] . والله تعالى أعلم .
(2/235)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد خلقناكم } أي : خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور ، { ثم صوّرناكم } أي : صوّرنا خلقة أبيكم آدم . نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره؛ لأنه المادة الأصلية ، أي : ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم ، ثم صورناه ، { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } تعظيمًا له ، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم ، واختبارًا له ليظهر من يخضع ممن لم يخضع ، { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } لآدم .
{ قال } له الحق تبارك وتعالى : { ما منعك ألا تسجد } أي : تسجد ، فلا : زائدة ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه ، ومنبهة على أن الموبَّخ عليه ترك السجود ، وقيل : الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه ، فكأنه قال : ما اضطرك إلى ترك السجود { إذ أمرتك } .
وفيه دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور ، فأجاب بقوله : { قال أنا خيرٌ منه } ، أي : المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه ، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول ، فكيف يحسُن أن يؤمر به ، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر ، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً ، وبهذا الاعتراض كفر إبليس؛ إذ ليس كفره كفر جحود .
ثم بيَّن وجه الأفضلية ، فقال : { خلقتني من نار وخلقته من طين } ، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين ، وقد غلط في ذلك ، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات ، لا باعتبار العنصر والمادة فقط ، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات؛ كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه .
قال البيضاوي : رأى الفضل كله باعتبار العنصر ، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل ، كما أشار إليه بقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ صَ : 75 ] أي : بغير واسطة ، وباعتبار الصورة ، كما نبه عليه بقوله تعالى : { ونفخت فيه من روحي } وباعتبار الغاية ، وهو ملاكه ، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له؛ لما تبين لهم أنه أعلم منهم ، وأنه له خواصًا ليست لغيره . ه .
ولما تبين عناده قال له تعالى : { فاهبط منها } أي : من السماء أو من الجنة ، { فما يكونُ لك } أي : فما يصح لك { أن تتكبَّر فيها } وتعصى؛ فإنها موطن الخاشع المطيع ، وفيه دليل على أن الكبر لا يليق بأهل الجنة ، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه؛ لتكبره لا لمجرد عصيانه ، { فاخرج إنك من الصاغرين } أي : ممن أهانه الله لتكبره . قال صلى الله عليه وسلم : " مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله ، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله " .
ولما تحقق إبليس أنه مطرود ، سأل الإمهال فقال : { أنظرني } أي : أخزني ، { إلى يوم يُبعثون } فلا تمتني ، ولا تعجل عقوبتي ، { قال إنك من المنظرين } ؛ يقتضي أنه أجابه إلى ما سأل ، لكنه محمول على ما في الآية الأخرى :
(2/236)
{ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحِجر : 38 ] ؛ وهو نفخ الصور النخة الأولى ، { قال فبِمَا أغويتني } أي : بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني ، بسبب إغوائك إياي ، والله { لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم } ، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك ، فأقعد فيه ، وأردهم عنه ، { ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } ؛ فآتيهم من الجهات الأربع ، وذلك عبارة عن تسلطه على بني آدم كيفما أمكنه .
قال ابن عباس : { من بين أيديهم } : الدنيا يُزيّنها لهم ، { ومن خلفهم } : الآخرة يُنسيها لهم ، { وعن أيمانهم } : الحسنات يُثبطهم عنها ، { وعن شمائلهم } : السيئات يُزينها في أعينهم . ه . ولم يجعل له سبيلاً من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم؛ لأن الرحمة تنزل من أعلى ، فلم يحل بينهم وبينها ، والإتيان من تحت موحش ، وأيضًا : السفليات محل للتواضع والخشوع ، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها . وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : ( لإنَّ فوق : التوحيد ، وتحت : الإسلام ، ولا يمكن أن يأتي من توحيد ولا إسلام ) .
ثم قال تعالى : { ولا تجدُ أكثرَهم شاكرين } ؛ مطيعين ، قال بعض الصوفية : ( لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس ) ؛ فالشكر أعظم المقامات ، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس ، والشكر : هو إلا يُعصى الله بنعمه ، أو : صرف الجوارح كلها في طاعة الله ، أو رؤية المنعم في النعمة ، وإنما قال إبليس ذلك؛ ظنًا لقوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [ سَبَأ : 20 ] ، وسيأتي في الإشارة حقيقته .
{ قال } تعالى لإبليس : { اخرج منها } ؛ من السماء أو الجنة ، { مذءومًا } أي : مذمومًا ، من ذامه ، أي : ذمه ، { مدحورًا } أي : مطرودًا . والله { لمن تَبِعَكَ منهم } في الكفر { لأملانَّ جهنم منكم أجمعين } أي : منك وممن تبعك .
تنبيه : ذكر الفخر الرازي ، في تفسيره ، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم ، فقال لهم : إني أسلم أن الله خالقي وموجدي ، وهو موجد الخلق ، ولكن لي على حكمته أسئلة : الأول : ما الحكمة في إيجاد خلقه ، لا سيما وكان عالمًا بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟ الثاني : ما الفائدة في التكليف ، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر ، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غيره واسطة التكليف؟ الثالث : هب أنه كلفني بطاعته ومعرفته ، فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟ الرابع : لما عصيته فلمَ لعنني وأوجب عقابي ، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره منه ، وفيه أعظم الضرر؟ الخامس : لما فعل ذلك فلِمَ مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم؟ السادس : ثم لما فعل ذلك ، فلم سلطني على أولاده . ومكنني من إغوائهم وإظلالهم؟ السابع : ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ، ومعلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا . ه . قال شارح الأناجيل : فأوحى الله إليه من سرادقات الكبرياء : إنك ما عوفتني ، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي ، فأنا الله لا إله إلا أنا لا أُسألُ عما أفعل .
(2/237)
قال الشهرستاني : اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون ، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصًا ، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق سبحانه زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات . ه . قلت : من تشمرت فكرته بنور المعرفة ، وعرف أسرار الحكمة والقدرة ، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات ، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار :
أما الحكمة في أيجاد خلقهم؛ فخلقهم ليعرف بهم . وفي الحديث القدسي : " كنت كنزًا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت خلقًا لأعرف بهم " ، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته . وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم .
أما فائدة التكليف؛ فلتقوم الحجة على العبيد ، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب ، فإذا عذبه لم يكن ظالمًا له؛ { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] ، ولتظهر صورة العدل في الجملة . وأما تكليفه بالسجود لآدم؛ فلأنه ادعى المحبة ، ومقتضاها الطاعة للحبيب في كل ما يشير إليه ، ولا تصعب إلا في الخضوع للجنس ، أو مَن دونه ، فأمره بالسجود لمن دُونه في زعمه؛ ليظهر كذبه في دعوى محبته ، وأما لعنه وطرده؛ فهو جزاء من كذب وعصى . وهذا الطرد كان في علمه تعالى ، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات ، فكان امتناعه واعتراضه سببًا لإظهار ما سبق له في علم الله ، كما كانت وسوسته لآدم سببًا في إظهار خروجه من الجنة السابق في علم الله . وأما تمكينه من دخول الجنة؛ فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق في علمه؛ لأن الحكمة اقتضت أن لكل شيء سببًا . أما تسلطه على أولاده ، فليكون منديلاً تمسح به أوساخ الأقدار؛ إذا إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار ، ولا فعل لغيره ، لكن الحق تعالى علمنا الأدب ، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل ، فما كان فيه كما نسبه لله ، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس؛ أدبًا مع الحضرة .
وأما إمهاله؛ فليدوم هذا المنديل عندهم ، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجري عليهم إلى انقضاء وجودهم . وقوله : ( معلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا ) ، مغالطة؛ لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين : الخير الشر ، وبهما وقع التجلي والظهور؛ ليظهر آثار أسمائه تعالى؛ فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضي وجود الشر ، فيما نفهم ، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان ، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالي أو جمالي لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره في مملكته . وقوله : ( إنك ما عرفتني . . . ) الخ . . يقتضي أنه لو عرف الله حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الأكوان ظاهرها أغيار ، وباطنها أنوار وأسرار ، فمن وقف مع ظاهرها لزمه الاعتراض والإنكار ، ومن نفذ إلى شهود باطنها لزمه المعرفة والإقرار ، ولعل إبليس لم في حال الأمر بالسجود من آدم إلا الأغيار ، ولو رأى باطنه لكان أول ساجد لله الواحد القهار .
(2/238)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ويا آدمُ اسكُن أنت وزوجُك } حواء { الجنة فكُلاَ من حيث شئتما } من ثمارها ، { ولا تقربَا هذه الشجرة } ؛ التين أو العنب أو الحنطة ، { فتكونا من الظالمين } لأنفسكما بمخالفتكما ، { فوسوس لهما الشيطان } أي : فعل الوسوسة لأجلهما ، وهوة الصوت الخفي ، { ليُبدِي } أي : ليظهر { لهما ما وُورِيَ } أي : ما غطى { عنهما من سَوآتِهما } أي : عوارتهما ، واللام : للعاقبة ، أي : فعل الوسوسة لتكون عاقبتهما كشف عورتهما ، وكانا لا يريانها من أنفسهما ، ولا أحداهما من الآخر . وفيه دليل على أن كشف العورة ، ولو عند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع .
{ وقال } لهما : { ما نهاكما ربُّكما عن هذه الشجرة إلا } كراهية { أن تكونا مَلَكين } . واستدل به من قال بفضل الملائكة على الأنبياء ، وجوابه : أنه كان من المعلوم عندهما أن الحقائق لا تَنقَلبن وإنما كانت رغبتهما فيما يحصل لهما من الغنى عن لطعام والشراب ، فيمكن لهما الخلود في الجنة ، ولذلك قال : { أو تكونا من الخالدين } الذين يخلدون في الجنة .
ويؤخذ من قوله تعالى : { ما نهاكما ربكما } ، أن آدم عليه السلام لم يكن ناسيًا للنهي ، وإلا لما ذكره بقوله : { ما نهاكما ربكما } ، وقوله في سورة طه : { فنسي } ، أي : نسي أنه عدو له ، ولذلك ركن إلى نصيحته ، وقبل منه حتى تأول أن النهي عن عين الشجرة لا عن جنسهان فأكل من جنسها؛ رغبة في الخلود ، ولكنه غره من حيث الأخذ بالظواهر وترك الاحتياط .
ولم يقصد إبليسُ إخراجهما من الجنة ، وإنما قصد أسقاطهما من مرتبتهما ، وإبعادهما كما بعُد هو ، فلم يلبغ قصده ولا أدرك مراده ، بل ازداد سخينة عين ، وغيط نفس ، وخيبة ظن . قال الله تعالى : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } [ طه : 122 ] ، فصار عليه السلام خليفة لله في أرضه ، بعد أن كان جارًا له في داره ، فكم بين الخليفة والجار؟
{ وقاسَمَهُما } أي : خلف لهما { إني لكما لمنَ الناصحين } فما قلت لكما . وذكر قَسَم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين مبالغة؛ لأنه اجتهد فيه ، أو لأنه أقسم لهما ، وأقسما له أن يقبلا نصيحته .
{ فدلاّهُما } ، أي : أنزلهما إلى الأكل من الشجرة ، { بغُرور } أي : بما غرهما به من القَسَم ، لأنهما ظنًا أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا ، { فلما ذَاقَا الشجرة } أي : وجدا طعمها ، آخذين في الأكل منها ، { بدت لهما سَوآتُهما } ، وتهافت عنهما ثيابُهما ، فظهرت لهما عوراتهما؛ أدبًا لهما . وقيل : كان لباسهما نورًا يحول بينهما وبين النظر ، فلما أكلا انكشف عنهما ، وظهرت عورتهما ، { وطَفِقَا } أي : جعلا { يَخصِفَانِ عليهما من وَرَقِ الجنّة } أي : أهذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ليستترا به ، قيل : كان ورقَ التين . فآدم أول من لبس المرقعه ، { وناداهما ربُّهما ألم أنهكُمَا عن تلكما الشجرة وأقل لكُمَا إن الشيطانَ لكما عدوٌ مبين } ؛ هذا عتاب على المخالفة ، وتوبيخ على الاغترار بالعدو .
(2/239)
وفيه دليل على ان مطلق النهي للتحريم .
ثم صرّحا بالتوبة فقالا : { ربنا ظلمنا أنفسنا } حين صدّرناها للمعصية ، وتعرضنا للإخراج من الجنة ، { وإن لم تغفر لنا وترحَمنا لنكُوننَّ من الخاسرين } ؛ وهذه هي الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بها . قال البيضاوي : فيه دليل على أن الصغائر يُعاقب عليها إن لم تغفر ، وقالت المعتزلة : لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ، ولذلك قالوا : إنما قالا ذلك على عادة المقربين في تعظيم الصغير من السيئات ، واستحقار العظيم من الحسنات . ه .
{ قال اهبطوا } ؛ الخطاب لآدم وحواء وذريتهما ، أو : لهما ولإبليس ، وكرر الأمر له تبعًا؛ ليعلم أنهم قرناء له أبدًا . حال كونكم { بعضُكم لبعض عدوٌ } أي : متعادين ، { ولكم في الأرض مستقر } أي : استقرار ، { ومتاعٌ } أي : تمتع ، { إلى حين } انقضاء آجالكم ، { قال فيها } أي : في الأرض { تحيون وفيها تموتون ومنها تُخرجون } للجزاء ، بالنعيم ، أو بالعذاب الأليم ، على حسب سعيكم في هذه الدار الفانية .
الإشارة : قال بعض العارفين : كل ما نهى الله تعالى عنه فهو شجرة آدم ، فمن دخل جنة المعارف ، ثم غلبه القدر فأكل من تلك الشجرة وهي شجرة سوء الأدب أخرج منها ، فإن كان ممن سبقت له العناية أُلهم التوبة ، فتاب عليه وهداه ، وأهبطه إلى أرض العبودية؛ ليكون خليفة الله في أرضه ، فأنعِم بها معصية أورثت الخلافة والزلفى . وفي الحكم : " ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول " . وقال أيضًا : " معصية أورثت ذُلاً وافتقارًا ، خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا " . وقال بعضهم : كل سوء أدب يثمر لك أدبًا فهو أدب . والله تعالى أعلم
(2/240)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قلت : من قرأ : { لباس } ؛ بالرفع ، فهو متبدأ ، والجملة : خبر ، والرابط : الإشارة ، والريش : لباس الزينة ، مستعار من ريش الطير .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا } أي : خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة ، ونظيره : قوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزُّمر : 6 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ } [ الحَديد : 25 ] . من صفة ذلك اللباس : { يُواري } أي : يستر { سوآتكم } التي قصد إبليس إبداءها ، ويغنيكم عن خصف الورق . رُوِي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ، ويقولون : لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها ، فنزلت . ولعل ذكر قصة آدم تقدمه لذلك؛ حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان ، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم . قاله البيضاوي .
{ وريشًا } أي : ولباسًا فاخرًا تتجملون به { ولباسُ } أي : وأنزلنا عليكم لباس { التقوى } ، وهي خشية الله تعالى ، أو الإيمان ، أو السمت الحسن ، واستعار لها اللباس؛ كقولهم : ألبسك الله لباس تقواه ، وقيل : لباس الحرب . ومن قرأ بالرفع؛ فخبره : { ذلك خير } أي : لباس التقوى خير من لباس الدنيا؛ لبقائه في دار البقاء دون لباس الدنيا؛ فإنه فانٍ في دار الفناء ، { ذلك } أي : إنزال اللباس من حيث هو خير { من آيات الله } الدالة على فضله ورحمته ، { لعلهم يذَّكَّرون } فيعرفون نعمه ، فيشكرون عليها ، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح .
الإشارة : اللباس الذي يواري سوءات العبودية أي : نقائصها هي أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية؛ من عز وغنى ، وعظمة وإجلال ، وأنوار وأسرار ، التي أشار إليها في الحكم بقوله : " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ، ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدًا ، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونعتك بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه " . والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأواني ، أو بهجة الأنوار التي تُفني الأغيار ، ولباس التقوى هي حفظه ورعايته لأوليائه في الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم . والله تعالى أعلم .
(2/241)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا بني آدم لا يَفتِنَنَّكُمُ الشيطانُ } ؛ بأن يشغلكم عما يقربكم إلى الله ، ويحملكم على ما يمنعكم من دخول جنته ، { كما أخرج أبويكُم من الجنة } بسبب غروره ، والنهي ، في اللفظ ، للشيطان ، والمراد : نهيهم عن اتباعه . حال كون أبويكم { ينزعُ } الشيطان { عنهما لباسَهما } بسبب غروره لهما ، وإسناد النزع إليه : مجاز؛ للسببية؛ { ليُريهما سوءاتِهما إنه يراكم هو وقبيلُه من حيث لا تَرونهم } ، وهو تعليل للنهي . وتحذير من فتنته ، و { قبيله } : جنوده . ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتصي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا ، وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة؛ فتحمل الآية على الأكثر والغالب . قال تعالى : { إنا جعلنا الشياطينَ أولياءَ للذين لا يؤمنون } ؛ بما أوجدنا بينهم من التناسب ، أو بإرسالهم عليهم ، وتمكينهم من خذلانهم ، وحملهم على ما سولوا لهم ، والآية هي مقصود القصة وفذلكة الحكاية . قاله البيضاوي .
الإشارة : الحكمة في خلق الشيطان هي كونه منديلاً تمسح فيه أوساخ الأقدار ، وكونه يحوش أولياء الله إلى الله ، كلما نخسهم بنزعه فزعوا إلى مولاهم ، فلا يزال بهم كذلك حتى يوصلهم إلى حضرته ، فحينئذٍ ينقاد إليهم ، ويخدمهم بأولادهم . وفي الحِكَم : " إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك ، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده " .
قال محمد بن واسع : تمثل إلى الشيطان في طريق المسجد ، فقال لي : يا ابن واسع ، كلما أردتك وجدت بيني وبينك حجابًا ، فما ذلك؟ قال : أقرأُ ، كلما أصبحتُ : اللهم إنك سلطت علينا عدوًا من أعدائنا ، بصيرًا بعيوبنا ، مطلعًا على عوراتنا ، يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم ، اللهم آيسه منا كما آيسته من رحمتك ، وقنطه منا كما قنطته من عفوك ، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب وفي رواية : كما باعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير . ه .
(2/242)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف المشركين : { وإذا فعلوا فاحشة } أي : فعلة متناهية في القبح؛ كعبادة الصنم ، وكشف العورة في الطواف ، احتجوا بفعل آبائهم فقالوا : { وجَدنَا عليها آباءنا واللهُ أمرنَا بها } فاعتذروا بعذرين باطلين : أحدهما : تقليد آبائهم ، والآخر : افتراؤهم على الله ، فأعرض عن الأول؛ لظهور فساده ، ورد الثاني بقوله : { قل إنَّ الله لا يأمرُ بالفحشاء } ؛ لأن الله تعالى جرت عادته على الأمر بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال . ولا حجة فيه للمعتزلة . انظر البيضاوي .
والآية كأنها جواب سؤالين مترتبين؛ كأنه قيل لهم : لِمَ فعلتم هذه الفواحش؟ قالوا : وجدنا آباءنا ، فقيل : ومن أين أخذها آباؤكم؟ قالوا : الله أمرنا بها ، فكذبهم الله بقوله : { إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون } ، أي : أتتقولون على الله ما لا علم لكم به؛ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله .
{ قل أمرَ ربي بالقسط } أي : العدل ، وهو الوسط من كل أمر ، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط ، وأمر بأن قال : { وأقيموا وجوهَكم عند كل مسجد } أي : افعلوا الصلاة في كل مكان يمكن في السجود إذا حضرتكم ، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم . والمعنى : إباحة الصلاة في كل موضع ، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم : " جُعِلَت لِيَ الأرضُ مَسجدًا وَطَهورًا " وقيل : المراد إحضار النية والإخلاص لله في كل صلاة بدليل قوله : { وادعوه } ؛ أي : اعبدوه { مخلصين له الدين } أي : الطاعة ، فلا تعبدوا معه غيره ، فإنكم راجعون إليه ، { كما بدأكم تعودون } فيجازيكم على أعمالكم ، فاحتج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى؛ لاشتراكهما في تعلق القدرة بهما ، بل العود أسهل باعتبار العادة ، وقيل : كما بدأكم من التراب ، تعودون إليه ، وقيل : كما بدأكم حفاة عراة غرلاً ، تعودون ، وقيل : كما بدأكم مؤمنًا وكافرًا ، يُعيدكم . قاله البيضاوي .
{ فريقًا هدى } ؛ بأن وفقهم للإيمان ، { وفريقًا حق عليهم الضلالة } ؛ بمقتضى القضاء السابق ، أي : خذل فريقًا حق عليهم الضلالة ، { إنهم اتخذوا الشياطينَ أولياءَ } يطيعونهم فيما يأمرونهم به ، { من دون الله } ، وهذا تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالتهم ، { وَيحسَبُون } أي : يظنون { أنهم مهتدون } ؛ فهم على جهل مركب ، وفيه دليل على أن الكافر المخطىء والمعاند : سواء في الذم واستحقاق العذاب؛ إذ لا يعذر بالخطأ في أمر التوحيد .
الإشارة : تقليد الآباء في المساوىء من أقبح المساوىء ، واحتجاج العبد بتخليته مع هواه هو ممن اتخذ إلهه هواه ، إن الله لا يأمر بالفحشاء ، فإذا قال العبد في حال انهماكه : هكذا أحبني ربي ، فهو خطأ في الاحتجاج؛ بل يجاهد نفسه في الإقلاع ، ويتضرع إلى مولاه في التوفيق؛ فإن الحق تعالى إنما يأمر بالعدل والإحسان ، ودوام الطاعة والإذعان ، والخضوع لله في كل زمان ومكان ، والتحقق بالإخلاص في كل أوان ، وإفراد المحبة والولاية للكريم المنان . وبالله التوفيق .
(2/243)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا بني آدم خُذوا زينتكم } أي : ثيابكم التي تستر عورتكم ، { عند كل مسجدٍ } لطواف أو صلاة ، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة ، ومن السًّنة أن يأخذ الرجل أحسن ثيابه للصلاة ، وقيل : المراد بالزينة : زيادة على الستر ، كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب ، { وكُلوا واشربوا } ؛ أمر إباحة؛ لِمَا رُوِي أن بني عامر ، في أيام الحج ، كانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا ، ولا يأكون دسمًا؛ يعظمون بذلك حجهم ، وهَمَّ المسلمون بذلك ، فنزلت .
{ ولا تُسرفوا } ؛ بتحريم الحلال ، أو بالتقدم إلى الحرام ، أو بإفراط الطعام والشره إليه ، وقد عَدَّ في الإحياء من المهلكات : شره الطعام ، وشره الوقاع ، أي : الجماع؟ { إنه لا يحب المسرفين } ؛ لا يرتضي فعلهم . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ( كُل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سَرفٌ ومخيلة ) أي : تكبر . وقال علي بن الحسين بن واقد : جمع الله الطب في نصف آية؛ فقال : { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } .
الإشارة : إنما أمر الحقّ جلّ جلاله بالتزين للصلاة والطواف؛ لأن فيهما الوقوف بين يدي ملك الملوك ، وقد جرت عادة الناس في ملاقاة الملوك : التهيىء لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة؛ لأن ذلك زيادة تعظيم للملك ، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن؛ " إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم ولاَ إلى أموَالِكُم ، وإنَّمَا يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم " وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار . والله تعالى أعلم .
(2/244)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قلت : من قرأ : { خالصة } ؛ بالرفع ، فخبر بعد خبر ، أو خبر عن مضمر ، ومن قرأ بالنصب ، فحال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم : { مَن حرَّم زينةَ اللهِ } ؛ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها ، { التي أخرج لعباده } من النبات؛ كالقطن والكتان ، أو الحيوان؛ كالحرير والصوف والوبر ، والمعادن؛ كالدروع والحلي ، { و } قل أيضًا : من حرم { الطيبات مِنَ الرزقِ } أي : المستلذات من المآكل والمشارب ، ويدخل فيها المناكح؛ إذ هي من أعظم الطيبات . وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات : الإباحة؛ لان الاستفهام للإنكار ، وبه رد مالك رحمه الله على من أنكر عليه من الصوفية ، وقال له : اتق الله يا مالك؛ بلغني أنك تلبس الرقيق ، وتأكل الرقاق ، فكتب إليه بالآية .
قال تعالى : { قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا } ، ويشاركهم فيها الكفار ، ويوم القيامة تكون { خالصة } لهم دون غيرهم ، { كذلك نُفصّل الآياتِ } أي : كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام { لقوم يعلمون } فينزلونها في محلها بخلاف الجهال .
{ قل إنما حرَّم ربي الفواحشَ } ؛ وهي ما تزايد قبحها من المعاصي ، وقيل : ما يتعلق بالفروج ، { ما ظهرَ منها وما بَطَنَ } أي : جهرها وسرها ، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهي القلوب ، { والإثم } ؛ كقطع الرحم ، أو عام في كل ذنب ، { والبغيَ } ؛ وهو الظلم؛ كقطع الطريق والغصب ، وغير ذلك من ظلم العباد ، أو التكبر على عباد الله؛ وقوله : { بغير الحق } : تأكيد له في المعنى . { وأن تُشركوا الله ما لم يُنزل به سُلطانًا } أي : حجة على استحقاق العبادة ، وهو تهكم بالمشركين ، وتنبيهٌ على تحريم ما لم يدل عليه برهان . { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من الإلحاد في صفاته ، والافتراء عليه؛ كقولهم : { وَاللهُ أَمَرَنَا } [ الأعراف : 28 ] ، و { لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا } [ الأنعَام : 148 ] .
{ ولكل أمة أجل } أي : مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا ، وهو تهديد لأهل مكة ، { فإذا جاء أجَلُهم } أي : انقرضت مدتهم ، أو دنى وقت هلاكهم ، { لا يستأخرون ساعةَ } عنه { ولا يستقدمون } أي : لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصَر وقت ، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول ، وجعل بعضهم : { ولا يستقدمون } استئنافًا؛ لأن الأجل إذا جاء لا يتصور التقدم ، وحينئذٍ يوقف على : { ساعة } ، ثم يقول : ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله .
الإشارة : قال شيخنا البوزيدي رضي الله عنه : زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة ، وهو نور التجلي ، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود . ه . وهي لمن كمل إيمانه وصِدقه في الحياة الدنيا ، وتصفو له إلى يوم القيامة ، فهي حلال على أهل التجريد؛ يتمتعون بها في الدارين ، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر ، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن ، وسوء الأدب مع الله ، والتعرض لعباد الله ، والشرك بالله؛ بأن يشهدوا معه سواه ، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصًا أو خللاً في أنوار جماله وسناه .
(2/245)
والله تعالى أعلم .
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها؛ لئلا تركن إليها نفوسهم ، فيثبط سيرهم ، وأما الواصلون فهم مع الله ، لا مع شيء سواه ، يأخذون من الله بالله ، ويدفعون بالله ، وقد اتسعت دائرة علمهم ، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع ، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات . والله تعالى أعلم .
(2/246)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
قلت : { إما } : شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك؛ للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز ، غير واجب ، كما ظنه المعتزلة ، وجوابه : { فمن اتقى . . . } الخ ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني؛ للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد . قاله البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا بني آدم } مهما { يأتينكم رسل منكم يقصُّون عليكم آياتي } الدالة على توحيدي ومعرفتي ، { فمن اتَّقَى } الشرك والتكذيب ، و { أصلح } فيما بيني وبينه ، منكم ، بالعمل الصالح ، { فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون } . { والذين كذّبوا بآياتنا واستكبرُوا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } ، فمِن كمال الإيمان : أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان في زمان كل رسول ، لكان أول من تبعه ، ولكان من خواص أصحابه ، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السلام إلى مبعث رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قد جعل الله لكل نبي خلفاء يخلفونه في تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة ، وهم العلماء الأتقياء ، والأولياء العارفون الأصفياء ، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فليتبع علماء أهل زمانه في الشريعة ، وأولياء أهل عصره في تربية الحقيقة . وبالله التوفيق .
(2/247)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { فمن أظلمُ ممن افترى على الله كذبًا } ؛ بأن نسب إليه الولد والشريك ، { أو كذَّب بآياته } التي جاءت بها الرسل من عنده ، أي : لا أحد أظلم منه ، أو تَقوَّل على الله ما لم يقله ، وكذّب بما قاله ، { أولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتاب } أي : يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ؛ من الأرزاق والآجال ، { حتى إذا } انقضت أعمارهم و { جاءتُهم رسلُنا يَتوفَّونهم } أي : يتوفون أرواحهم ، { قالوا } لهم توبيخًا : { أين ما كنتم تدّعون من دون الله } أي : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله؛ لتدفع عنكم العذاب؟ { قالوا ضلُّوا عنا } ؛ غابوا عنا { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه ، وندموا حيث لم ينفع الندم ، وقد زلت بهم القدم .
الإشارة : كل من أعرض عن خصوص أهل زمانه واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها؛ فإذا جاءت منيته ندم وتحسر ، وقيل له : أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك؟ فيقول : قد غاب ذلك وفنى وانقضى ، وكأنما كان برقًا سَرَى ، أو طَيفَ كَرَى ، والدهر كله هكذا؛ لمن سدد نظرًا ، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى ، وستعلم ، إذا انجلى الغبار ، أفرس تحتك أم حمار .
وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض خطبه : " لا تَخدَعَنَّكُم زخارفُ دُنيا دَنِيَّة ، عن مَراتب جَنَّاتٍ عَالِية؛ فكان قد كِشفَ القِناع ، وارتفع الارتياب ، ولاقى كل امرىءٍ مستقَرِّه ، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه " وفي حديث آخر : " مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة ، ولم يُدرك منها ما يريد ، ومن بدأ بنصيبه من الآخرة ، وصل إليه نصيبه من الدنيا ، وأدرك من الآخرة ما يريد " .
(2/248)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } الله تعالى أي : يوم القيامة للكفارٍ ، بواسطة ملك ، أو بغيرها : { ادخلوا في } جملة { أممٍ } كانوا من قبلكم؛ { من الجن والإنس } متفقين معكم في الكفر والضلال ، فادخلوا مصاحبين معهم { في النار } . قال تعالى ، مخبرًا عن حالهم : { كلما دخلت أمةٌ } منهم في النار { لعنت أختها } التي ضلت بالاقتداء بها ، { حتى إذا أدَّاركوا } أي : تداركوا وتلاحقوا ، { فيها جميعًا قالت أُخراهم } ؛ دخولاً أو منزلة ، وهم الأتباع السفلة ، { لأُولاهم } وهم المتبوعون الرؤساء أي : قالت لأجلهم؛ لأن الخطاب مع الله لا معهم ، قالوا : { ربنا هؤلاء } الرؤساء { أضلونا } ؛ حيث سنُّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم ، { فآتِهم عذابًا ضِعفًا } أي : مضاعفًا { من النار } ؛ لأنهم ضلوا وأضلوا . { قال } تعالى : { لكلٍّ } واحد منكم { ضِعفٌ } أي : عذابًا مضعفًا ، أما القادة؛ فلكفرهم وتضليلهم ، وأما الأتباع؛ فلكفرهم وتقليدهم ، { ولكن لا تعلمون } ما لكم ، أو ما لكل فريق منكم .
{ وقالت أُولاهم لأُخراهم } أي : المتبوعون للأتباع : { فما كان لكم علينا من فضل } في الإيمان والتقوى تُوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم ، حتى يتضاعف علينا العذاب دونكم؛ فإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب ، { فذوقوا } أي : باشروا { العذاب بما كنتم تكسبون } ؛ هو من قول القادة ، أو من قول الله تعالى لجميعهم .
الإشارة : إذا قامت القيامة تحققت الحقائق ، وتميزت الطرائق ، للخاص والعام ، فيرتفع المقربون في أعلى عليين ، ويبقى أهل اليمين في أسفل منازل أهل الجنة مع عوام المسلمين ، فيتعلق عوامهم بخواصهم ، فيقولون لهم : أنتم رددتمونا عن صحبة هؤلاء ، وأنتم خذلتمونا عنهم ، ثم يقولون : ربنا هؤلاء أضلونا عن صحبة هؤلاء المقربين ، فآتهم حجابًا ضعفًا مما لنا ، قال : لكل ضِعف من الحجاب ، هم بتضليلهم لكم عن صحبتهم ، وأنتم بتقليدكم لهم ، ولكن لا تعلمون ما أعددت للمقربين حين صبروا على جفاكم ، وتحملوا مشاق طاعتي ومعرفتي؛ لأن كل آية في الكفر تجر ذيلها على أهل الغفلة من المؤمنين . والله تعالى أعلم .
(2/249)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
قلت : { سَمّ الخياط } : عين الإبره ، وفي السين : الفتح والكسر والضم ، والخياط : ما يخاط به ، على وزن حِزام ، والتنوين في { غواشٍ } : للعوض عن الياء ، عند سيبويه ، وللصرف عند غيره .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنَّ الذين كذَّبوا بآياتنا واستكبروا } عن : الإيمان بها ، { لا تُفتَّح لهم أبوابُ السماء } ؛ لأدعيتهم وأعمالهم؛ فلا تقبل ، أو لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا ، بل تغلق دونها إذا وصلت بها الملائكة إليها ، فيطرحونها فتسقط من السماء ، بخلاف أرواح المؤمنين؛ تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى . { ولا يدخلون الجنة حتى يَلجَ } أي : يدخل ، { الجمَلُ } وهو البعير { وفي سَمِّ الخِياط } أي : في ثقب الإبرة ، والمعنى : لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدًا ، فلا يدخلون الجنة أبدًا ، وقرأ ابن عباس { الجُمل } ، بضم الجيم وسكون الميم ، وهو حبل السفينة ، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون .
ثم قال تعالى : { وكذلك نَجزي المجرمين } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين ، { لهم من جهنم مهادٌ } أي : فراش ، { ومِن فوقهم غَوَاشٍ } أي : أغطية من النار . { وكذلك نجزي الظالمين } عبَّر عنهم بالمجرمين تارة ، وبالظالمين أخرى؛ إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات ، اتصفوا بالجرم والظلم ، وذكر مع الحرمان من الجنة : الجرم ، ومع التعذيب بالنار : الظلم؛ تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام .
الإشارة : أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين : آية من آيات الله ، من كَذَّب بهم ، واستكبر عن الخضوع لهم ، لا تفتح لفكرته أبواب السماء ، بل يبقى مسجونًا بمحيطاته ، محصورًا في هيكل ذاته ، ولا يدخل جنة المعارف أبدًا ، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله ، فتنحصر روحه في الأكوان ، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان .
وفي الحِكَم : " الكائن في الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور في هيكل ذاته " . وقال أيضًا : " وسعك الكون من حيث جثمانيتك ، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك " ، فكل من لم تثبت له الروحانية : فهو محصور في الكون ، وكل من ثبتت له الروحانية؛ بأن استولى معناه على حسه ، لم يسعه الكون ، ولم يحصره عرش ولا فرش ، وكذلك الصوفي؛ لا تظله السماء ولا تقله الأرض ، أي : لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ . والله تعالى أعلم .
(2/250)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قلت : جملة { لا نُكلف } : معترضة بين المبتدأ والخبر؛ للترغيب في اكتساب النعيم المقيم ، بما تسعه طاقتهم ، ويسهل عليهم ، و { ما كنا لنهتدي } : اللام لتأكيد النفي ، وجواب " لولا " : محذوف ، أي : لولا هدايته إيانا ما اهتدينا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين آمنوا } بالرسل ، { وعملوا } الأعمال { الصالحات } على قدر طاقتهم ، { لا نكلِّف نفسًا إلا وُسعَها } أي : ما تسعه طاقتها ، فمن فعل ذلك ف { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ونزعنا ما في صدورهم من غِلٍّ } أي : نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة ، ونطهرها منه ، حتى لا يكون بينهم إلا التودد ، فيصيرون أحبابًا وإخوانًا ، وإما عبّر بالماضي؛ لتحقق وقوعه ، كأنه وقع ومضى ، وكذلك ما يجيء بعدها ، ثم وصف الجنة فقال : { تجري من تحتهم } أي : من تحت قصورهم ، { الأنهارُ } ؛ من عسل وخمر وماء ولبن؛ زيادة في لذتهم وسرورهم ، فالقصور مرتفعة في الهواء ، والأنهار تجري تحتها .
{ وقالوا } حينئذٍ : { الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي : لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح ، { وما كنا لنهتدي } بأنفسنا { لولا أن هدانا الله } بتوفيقه وإرادته ، { لقد جاءت رُسلُ ربنا بالحق } فاهتدينا بإرشادهم ، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا ، صار لهم عين اليقين في الآخرة ، { ونُودوا } أي : نادتهم الملائكة ، أو الحق تعالى : { أن تلكُم الجنةُ } أي : هذه الجنة { أُورِثتُموها } أي : أُعطِيتموها { بما كنتم تعملون } أي : بسبب أعمالكم ، وهذا باعتبار الشريعة ، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه . ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ ، قالوا : ولا أنت ، قال : ولا أنا ، إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ الله برحمَتِه " فالشريعة تنسب العمل للعبد ، والحقيقة تعزله عنه ، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله : { وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله } ، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة .
وقال القشيري : إنما قال : { أورثتموها بما كنتم تعملون } ؛ تسكينًا لقلوبهم ، وتطييبًا لهم ، وَإلاَّ ، فإذا رأوا تلك الدرجات ، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات . ه . وعن ابن مسعود أنه قال : ( يجوزون الصراط بعفو الله ، ويدخلون الجنة برحمة الله ، ويقتسمون المنازل بأعمالهم ) . ه .
الإشارة : والذين آمنوا بطريق الخصوص ، وعملوا الأعمال التي تناسبها ، من خرق العوائد واكتساب الفوائد ، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة؛ أولئك أصحاب جنة المعارف ، هم فيها خالدون في الدنيا والآخرة ، قد نزع الله من قلوبهم المساوىء والأكدار ، وطَهَّرها من جملة الأغيار ، حتى صاروا إخوانًا متحابين؛ لا لَغوَ بينهم ولا تأثيم ، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم ، وتفتح لهم مخازن الفهوم ، فإذا تمكنوا من هذه الحضرة ( قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ) ، تحققوا أنهم محمولون بسابق العناية ، محفوفون بعين الرعاية ، فتحققوا بما جاءت به الرسل من عند الله ، وما نالوه على يد أولياء الله من الذوق والوجدان ، وكشف الغطاء عن عين العيان ، منحنا الله من ذلك حظًا وافرًا ، بمنِّه وكرمه .
(2/251)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قلت : { أن } : في هذه المواضع؛ مخففة من الثقيلة ، أو : تفسيرية ، وحذف مفعول : { وعد } الثاني؛ استغناء بمفعول وعد الأول ، أو لإطلاق الوعد ، فيتناول الثواب والعقاب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ونادى أصحابُ الجنةِ أصحاب النار أن قد وجَدَنا ما وعدنا ربُّنا } من النعيم { حقًا فهل وجدتم } أنتم { ما وَعَدَ ربُّكم } من البعث والحساب { حقًا } ، إنما قال أهل الجنة ذلك؛ تبجحًا بحالهم ، وشماتة بأصحاب النار ، وتحسيرًا لهم ، فأجابهم أهل النار بقولهم : { نعم } ، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا ، { فأذن مؤذن بينهم } بين الفريقين : { أن لعنةُ الله على الظالمين } ؛ الكافرين ، { الذين يصدُّون } الناس { عن سبيل الله } وهي الإسلام ، { ويبغونها } أي : يطلبون بها { عِوجًا } ، زيغًا وميلاً عما هو عليه من الاستقامة ، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج ، { وهم بالآخرة كافرون } أي : جاحدون .
{ وبينهما } أي : بين الفريقين { حجابٌ } ، أو بين الجنة والنار حجاب ، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى ، { وعلى الأعراف } ؛ وهو السور المضروب بين الجنة والنار ، { رجالٌ } ؛ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم ، كما في الحديث . وقال في الإحياء : يشبه أن يكونوا من لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد ، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية ، فلا وسيلة تقربهم ، ولا جناية تبعدهم ، ولهم السلامة فقط ، لا تقريب ولا تبعيد . ه .
قلت : لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة .
ثم وصفهم بقوله : { يعرفون كُلاًّ } من أهل الجنة والنار ، { بسيماهم } : بعلامتهم التي أعلمهم الله بها؛ كبياض الوجوه من أهل الجنة ، وسوادها في أهل النار ، أو غير ذلك من العلامات . { ونادوا أصحابَ الجنة } ، إذا نظروا إليهم ، فقالوا لهم : { أن سلامٌ عليكم } ، أي : نادوهم بالسلام عليهم ، { لم يدخلوها } أي : الجنة ، { وهم يطمعون } في دخولها .
{ وإذا صُرِفت أبصارُهم تلقاءَ أصحابِ النار } أي : التفتوا إليهم على وجه القلة ، تعوذوا من حالهم ، { قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين } في النار .
الإشارة : إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العي الكبير؛ نادوا أهلَ البطالة والتقصير ، فقالوا لهم : قد وجدنا ما وعدنا ربنا؛ من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب ، حقًا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا كما وجدنا نحن؟ قالوا على وجه الدعوى والغلط : نعم ، فأذن مؤذن بينهم ، بلسان الحال : أن لعنة الله على الظالمين؛ الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم ، ولم يخرقوا شيئًا من عوائدهم ، مع تراميهم على مراتب الرجال ، وادعائهم بلوغ غاية الكمال ، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجًا ، وهم بالخصلة الآخرة وهي إشراق نور الحقيقة على أهل التربية هم كافرون ، وبينما حجاب كبير ، وهو حجاب الغفلة ، فلا يعرفون أهل اليقظة ، وهم أهل مقام الإحسان ، بل بينهما مفاوز ومهَامِه ، كما قال الشاعر :
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا ... فَمِن أين يَدري النَّاسُ أينَ توجَّهنَا
وعلى الأعراف؛ وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة ، رجال من أهل الاستشراف ، يعرفون كلاًّ من العوام والخواص بسيماهم ، ونادروا أصحاب الجنة أي : الواصلين إلى جنة المعارف : أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ، لأنهم في حالة السير وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ، أي : نار الحجاب والتعب ، وهم العوام ، قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين .
(2/252)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قلت : { ما أغنى } استفهامية أو نافية ، و { ما كنتم } : مصدرية ، و { ادخلوا } : محكى بقول محذوف ، أي : قيل لهم ادخلوا . . . الخ .
يقول الحقٌ جلّ جلاله : { ونادى أصحابُ الأعراف رجالاً } من رؤساء الكفرة ، { يعرفونهم بسيماهم } ؛ بعلامة فيهم من سوء حالهم ، { قالوا } لهم : { ما أغنى عنكم جمعكم } أي : كثرتكم ، أو جمعكم للمال ، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم ، { وما كنتم تستكبرون } ؟ أي : واستكباركم؟ { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالُهم اللهُ برحمةٍ } وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا ، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة ، قد قيل لهم : { ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون } . أو تقول الملائكة لأهل الأعراف : { ادخلوا الجنة لا خوفٌ عليكم ولا أنتم تحزنون } ، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم ، وقالوا لهم ما قالوا ، تفضل الله عليهم ، فقيل لهم : ادخلوا الجنة .
وقيل : لما عيَّر أصحابُ الأعراف أهل النار ، أقسموا أي : أهل النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة ، فقال لهم الله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم برحمة ادخلوا } يا أهل الأعراف { الجنة } . والله تعالى أعلم .
الإشارة : أصحاب الأعراف : قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم ، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين ، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين ، والترفع عليهم ، قالوا لهم : ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم ، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم ، وأقسمتم أنهم ليسوا على شيء؟ قد قيل لهم : ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، وأنتم حصل لكم الخيبة ، والحرمان ، والأسر في أيدي النفوس ، والحصر في سجن الأكوان . عائذًا بالله من ذلك .
(2/253)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
قلت : { هدى ورحمة } : حال من مفعول { فصَّلناه } ، { فيشفعوا } : جواب الاستفهام ، { أو نُرد } ؛ بالنصب : عطف عليه ، وبالرفع : استئناف ، فعلى الأول : المسؤول أحد الأمرين؛ إما الشفاعة أو الرد ، وعلى الثاني : المسؤول الشفاعة فقط .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ونادى } ، يوم القيامة ، { أصحابُ النار أصحابَ الجنةِ أن أفيضُوا } أي : صبوا { علينا من الماء } ، وفيه دليل على أن الجنة فوق النار ، أو : صبوا علينا مما رزقكم الله؛ من سائر الأشربة ، ليلائم قوله { أفيضوا } ، أو : من الطعام؛ على حذف الفعل ، أي : أو أعطونا مما رزقكم الله ، { قالوا إن الله حرمهما على الكافرين } ، أي : منعهما عنهم ، { الذين إتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا } ؛ كتحريم البحائر والسوائب ، والتصدية حول البيت ، والطواف به؛ عريانًا ، وغير ذلك مما أحدثوه ، واللهو : صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي . واللعب : طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به؛ لخلوه عن منفعة دينية ، { وغرّتهم الحياة الدنيا } ؛ بأن أنستهم القيامةَ ، { فاليوم نَنساهُم كما نَسُوا لقاءَ يومهم هذا } ، والكاف : أي : ننساهم؛ لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا ، فلم يخطروه ببالهم ، ولم يستعدوا له ، { وما كانوا بآياتنا يجحدون } أي : نُهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء ، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند الله .
{ ولقد جِئناهم بكتاب فصّلناه على علمٍ } أي : بيَّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ ، مفصلةً { على علم } ، أي : عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان ، { وهدىً ورحمةً لقوم يؤمنون } فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم .
{ هل ينظرون } أي : ما ينتظر الكفار به { إلا تأويلَه } ، أي : ما يؤول إليه أمره؛ من تبين صدقه ، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد ، بقيام الساعة وما بعدها ، { يوم يأتي تأويلُه } ؛ بظهور ما نطق به ، { يقول الذين نَسُوه من قبل } ، ولم يؤمنوا به : { قد جاءت رسُل ربنا بالحق } أي : قد تبين أنهم جاؤوا بالحق ، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع ، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا : { فهل لنا من شفعاءَ فيشفعوا لنا } اليوم ، { أو نُردُّ } أي : وهل نرد إلى الدنيا { فنعملَ غيرَ الذي كنا نعملُ } فنستبدل الكفر بالإيمان ، والعصيان بالطاعة والإذعان ، أو : فيشفعوا لنا في أحد الأمرين : إما السلامة من العذاب ، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان . قال تعالى : { قد خسروا أنفسهم } ؛ أي : بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم ، { وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون } أي : غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم .
الإشارة : إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير ، وأفاض عليهم من ماء غيبه ، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم ، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية؛ ناداهم أهل البطالة والتقصير : أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه ، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف .
(2/254)
قالوا : إن الله حرمهما على البطالين؛ الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا ، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها ، فيقول تعالى : فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي ، وحلاوة معرفتي ، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي ، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي ، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي ، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء؛ فقلنا فيه : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأتِ بِخَيْرٍ مِنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ } [ البَقَرَة : 106 ] إلى يوم القيامة ، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين ، في أعلى عليين ، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين ، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين ، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم ، أو يرد إلى العمل بعملهم . . هيهات! قد بُعثر ما في القبور ، وحُصّل ما في الصدور ، فخسر المبطلون ، وفاز المجتهدون السابقون . جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه .
(2/255)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قلت : { حثيثًا } أي : سريعًا؛ صفة لمصدر محذوف ، أي : طلبًا حثيثًان أو حال من الفاعل ، أي : حاثًا ، و { مسخراتٍ } حال فيمن نصب ، وخبر فيمن رفع ، و { تضرعًا وخفية } : مصدران ، حالان من الواو ، وكذلك { خوفًا وطمعًا } .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنَّ ربكم } الذي يستحق أن تعبدوه ، وهو { اللهُ } وحده { الذي خلق السماوات والأرض } أي : أظهرهما { في ستة أيامٍ } أي : مقدار ستة أيام من أيام الدنيا؛ إذ لم يكن ثَمَّ شمس ، ولو شاء خلقهن في لمحة ، والعدول إليه؛ لتعليم خلقه التأني والتثبت .
{ ثم استوى على العرش } استواء يليق به ، والعرش : جسم عظيم محيط بالأكوان . سمي به؛ لارتفاعه ، وللتشبيه بسرير الملك ، فالأكوان في جوفه ممحوقة؛ فقد استولى عليها ومحقها ، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه وحقته ، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء ، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله .
وقال القشيري : ثم استوى على العرش ، أي : تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت ، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية؛ برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم . فأخبر الحقُّ سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات ، بأنه استوى على العرش ، ومعناه : اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية ، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية ، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار ، والمعبودُ عن الحدود . ه .
{ يُغشي الليلَ النهارَ } أي : يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل ، { يطلبه حثيثًا } أي : يعقبه سريعًا؛ كالطالب له ، لا يفصل بينهما شيء ، { و } خلق { الشمسَ والقمرَ والنجومَ مُسخرات بأمره } أي : بقضائه وتصريفه ، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية ، دالة على ظهور شيء منها .
والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين؛ إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها ، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به؛ لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل ، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء ، ثم اندرس ذلك العلم ، فلم يبق إلا ما هو مختلط ، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله تعالى بها في الأرض ، وفي النبات والحيوان شيئًا ، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين ، بل هو الحق ، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل : قادر في الدين ، فالكواكب ما خلقت عبثًا ، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء وقرأ قوله تعالى : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً . . . } [ آل عِمرَان : 191 ] الآية . انظر الإحياء للغزالي .
ثم قال تعالى : { إلا له الخلقُ والأمرُ } أي : الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي ، { تبارك الله رب العالمين } أي : تعاظم في ألوهيته ، وتعالى في ربوبيته ، وتفرد في وحدانيته .
(2/256)
قال البيضاوي : ( وتحقيق الآية والله أعلم أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا ، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله تعالى؛ لأنه الذي له الخلق والأمر ، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم ، وتدبير حكيم؛ فأبدع الأفلاك العلوية ، والأجرام السفلية ، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره؛ كالملِكِ الجالس على عرشه وسريره لتدبير مملكته ، فدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب ، وتكوير الليالي والأيام ، فله الخلق والأمر . وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِرُ الأَمْرَ } [ يُونس : 3 ، السجدة : 4 ] ، فربُّ الخلائق : مَن هذا صفته ، لا غيره ، انتهى المعنى .
ثم أمرهم بأن يدعوه ، متذللين مخلصين ، فقال : { ادعوا ربكم تضرعًا وخُفيةً } أي : ذوي تضرع وخفاء؛ فإن الإخفاء دليل الإخلاص ، { إنه لا يحب المعتدين } المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به؛ كرتبة الأنبياء ، وقيل : الاعتداء في الدعاء ، هو الصياح به ، والتشدق ، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ . ثم قرأ { إنَّه لا يُحبُّ المُعتَدِين } " .
{ ولا تُفسدوا في الأرض } بالكفر والمعاصي ، { بعد إصلاحها } ببعث الأنبياء ، وشرع الأحكام ، أو : ولا تفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن ، بعد إصلاحها بالخصب والأمان ، { وادعوه خوفًا وطمعًا } أي : خوفًا من الرد لقصور الأعمال ، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم؛ { إن رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين } المخلصين .
قال البيضاوي : هو ترجيح للطمع ، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة ، وتذكير قريب؛ لأن الرحمة بمعنى الترحم ، أو لأنه صفة محذوف؛ أي : أمر قريب ، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول ، أو للفرق بين القريب من النسب ، والقريب من غيره . ه . قلت : والأحسن أنه إنما ذكره؛ لأن المراد بالرحمة هنا : سر الخصوصية ، وهو مذكر ، فراعى معنى اللفظ ، كأنه قال : إن سر الولاية وهي الخصوصية قريب من المحسنين . والله تعالى أعلم .
الإشارة : قوله تعالى : { في ستة أيام } : قال الورتجبي : في كل يوم من هذه الأيام : ظهور صفة من صفاته الست : أولها : العلم ، والثاني : القدرة : والثالث : السمع ، والرابع : والبصر ، والخامس : الكلام ، والسادس : الإرادة ، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة ، ولما أتمها صارت الحدثان؛ كجسد آدم بلا روح ، فتجلى من صفته السابعة . وهي حياته القديمة الأزلية الباقية ، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته ، ويكون إلى الأبد؛ لحياتها بروح حياته ، المقدسة عن الاتصال والانفصال . قلت : وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني .
(2/257)
ثم قال : وفي أدق الإشارة : السماوات : الأرواح ، والأرض : الأشباح ، والعرش : القلوب ، بدأ بكشف الصفات للأرواح ، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح ، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب؛ لأن مناظر القلوب للغيوب ، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم ، استوى قهر القدم ، بنعت الظهور للعدم ، أي : فتلاشى العدم ، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال ، واستوى تجلّي الذات على الصفات ، فاستوى بنفسه لنفسه ، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان .
قلت : أي : إذ لا حدثان ولا أكوان؛ لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت ، وما بقي إلا نعت القدم .
ثم قال : خصَّ السماوات والأرض بتجلي الصفات ، وخص العرش بتجلي الذات . قلت : لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها ، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء ، وهو حجاب الحس الظاهر ، بخلاف المعاني القائمة بالأواني ، وهي أنوار الصفات ، تجلت مرتدية بحجاب القهرية ، فقيل لها : تجلي الصفات .
ثم قال : السماوات والأرض جسد العالم ، والعرش قلب العالم ، والكرسي دماغ العالم ، خص الجميع بالأفعال والصفات ، وخص العرش بظهور الذات؛ لأنه قلب الكل ، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته ، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا ، بلا جسم ولا مكان ولا صورة ، يتلألأ ، فسألت عن ذلك ، فقيل لي : هذا عالم يسمى عرشًا . انتهى .
قلت : وأقرب من هذا كله : أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم ، حتى صارت في وسطه كلا شيء ، ومعاني أسرار الربوبية ، وهي العظمة الأصلية قد استولت عليه ، وأحاطت به ، ومحت وجوده ، فعبَّر الحق جل جلاله عن استيلاء هذه العظمة التي هي أسرار الربوبية على العرش بالاستواء . وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله : " يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبًا في رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه ، محقت الآثار بالآثار ، ومحوت الآثار وهي العرش وما احتوى عليه بمحيطات أفلاك الأنوار " وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار من العرش إلى الفرش ، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية؛ لأن الرحمانية صفة الذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فافهم .
قلت : ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستعبد أن يكون الحق جل جلاله يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته ، يستوي بتلك العظمة على العرش ، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، إذ تجلياته لا تنحصر ، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته . وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا من أسرار التوحيد ، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء ، وأطال فيهما ، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر ، وقد تقرر في محله .
وقوله تعالى : { إن رحمة الله قريب من المحسنين } : هو تقييد لقوله : { يختص برحمته من يشاء } ؛ فالمختص بالرحمة هم المحسنون . انظر لفظ الحكم . والله تعالى أعلم .
(2/258)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قلت : ( نُشُرًا ) : حال من الرياح ، وهو جمع نشور ، بمعنى ناشر ، ومن قرأ بسكون الشين ، فهو تخفيف منه ، ومن قرأ بفتح النون ، فمصدر في موضع الحال ، بمعنى : ناشرات ، أو مفعول مطلق؛ فإن الإرسال والنشر متقاربان ، ومن قرأه بالباء وسكون الشين فهو جمع بشير ، مخفف ، و ( أقَلَّت ) : مشتق من القلة؛ لأن الحامل للشيء يستقله ، و ( ثقالاً ) : جمع؛ لأن السحاب جمع بمعنى السحائب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وهو الذي يرسل الرياح } أو الريح ( نُشْرًا ) أي : تنشر السحاب ، وتفرقه إلى الأرض التي أراد الله أن تمطر ، أو بشارة بالمطر ، { بين يدي رحمته } أي : قبل نزول المطر ، فهي قدامَه؛ فإن الصبا تثير السحاب ، والشمال تجمعه ، والجنوب تذره ، والدبور تُفرقه . قاله البيضاوي .
{ حتى إذا أقلَّت } أي : حملت { سحابًا ثِقالاً } بالماء؛ لأنها تحمل الماء فتثقل به ، { سُقناه } أي : السحاب بما اشتمل عليه من الماء ، { لبلدٍ ميِّتٍ } أي : لإحيائه أو لسَقيه بعد يبسه ، كأنه ميت ، { فأنزلنا به } أي : بالبلد ، أو بالسحاب ، أو بالسوق ، أو بالريح ، { الماء } الذي في السحاب ، { فأخرجنا به } أي : الماء ، { من كل الثمرات } من كل أنواعها وأصنافها ، { كذلك نُخرج الموتى } من القبور ، أي : كما نُحيي البلد بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات { كذلك نُخرج الموتى } من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقُوى الحسية . قاله البيضاوي .
وقال ابن جزي : هو تمثيل لإخراج الموتى من القبور بإخراج الزرع من الأرض ، وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها : { كَذَلِكَ النُّشُورُ } [ فَاطِر : 9 ] ، و { كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } [ قَ : 11 ] . ه . { لعلكم تذكَّرون } ؛ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على إحياء الموتى ، إذ لا فرق .
{ والبلدُ الطيب } أي : الأرض الكريمة والتراب الجيد { يَخرج نباتُه } بسهولة ، حسنًا قويًا نضرًا ، { بإذن ربه } أي : بمشيئته وقدرته ، { والذي خبُث } من الأرض؛ كالحرة والسبخة ، { لا يخرج إلا نَكِدًا } ؛ قليلاً عديم النفع ، أو عسيرًا بمشقة ، { كذلك نُصرِفَ الآيات } ؛ نُكررها ونُرددها { لقوم يشكرون } نعمة الله ، فيتفكرون فيها ، ويعتبرون بها .
قال البيضاوي : والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها ، ولمن لم يرفع إليها رأسًا ولم يتأثر بها ، ومثلُه في البخاري في حديث طويل . وقال ابن عباس وغيره : هو ضرب مثل للمؤمن والكافر . وقال ابن جزي : يحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر ، وأن تكون تمثيلاً للقلوب؛ فالطيب : قلب المؤمن ، والخبيث : قلب الكافر ، وقيل : هما للفِهم والبليد . ه .
الإشارة : وهو الذي يرسل رياح الهداية ، تنشر سحاب الواردات الإلهية والنفحات الربانية ، بين يدي معرفته ، أو تُبشر بها قبل وصولها ، حتى إذا أقلت سحابًا ثقالاً بالعلوم اللدنية ، سقناه لقلبٍ ميت بالجهل والهوى ، فأنزلنا مما فيه من ماء ذلك الأمطار ، فأخرجنا به من ثمرت العلوم وأزهار الحِكَم ونوار اليقين .
(2/259)
وفي الحكم : " لا تزكين واردًا لم تعلم ثمرته ، فليس المقصود من السحابة الأمطار ، وإنما المقصود وجود الأثمار " . { كذلك نخرج الموتى } أي : نحيي القلوب الموتى بالجهل ، { لعلكم تذكرون } . والبلد الطيب ، وهو القلب الطيب ، إذا هبت عليه هذه الواردات ، ونزلت فيه أمطار النفحات ، يُخرج نباته من العلوم والمعارف بإذن ربه ، والذي خبث من القلوب لا يخرج ما فيه إلا نكدًا أي : ضعيفًا؛ لعدم تأثره بالواردات والمواعظ .
وقال الورتجبي : ذكر سبحانه القلب الذي هو بلد الله الذي مُطر عليه من بحر امتنانه ، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات . ثم قال : وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات . ه .
(2/260)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
قلت : { أوَ عَجبتم } : الهمزة للإنكار ، والواو للعطف ، والمعطوف عليه محذوف ، أي : أكذبتم وعجبتم ، و { في الفلك } : يتعلق بأنجينا ، أو بمن معه ، أو حال من الموصول .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه } ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أدريس ، نبىء بعده ، بعث ابن خمسين سنة أو أربعين ، وعاش ألفًا وثلاثمائة سنة ، { فقال يا قوم اعبدوا الله } وحده { ما لكم من إله غيرُه } يستحق أن يُعبد ، { إني أخاف عليكم } ، إن لم تُؤمنوا وتُوحدوا الله { عذابَ يوم عظيم } وهو يوم القيامة ، أو يوم نزول الطوفان .
{ قال الملأُ } أي : الأشراف { من قومه } ؛ لأنهم يملأون العيون عند رؤيتهم ، قالوا له : { إنا لنَراكَ في ضلالٍ مبين } أي : في خطأ بيِّن عن الحق ، { قال يا قوم ليس بي ضلالةٌ } أي : ليس بي شيء من الضلال ، بالغ لهم في النفي كما بالغوا له في الإثبات ، وعرض لهم به ، وتلطف لهم في القول ، { ولكني رسولُ من ربّ العالمين } أي : لست في ضلال كما اعتقدتم ، ولكني في غاية من الهدى؛ لأني رسول من رب العالمين ، { أبلغكم رسالاتِ ربي } كما أمرني ، { وأنصحُ لكم } جُهدي ، { وأعلمُ من الله ما لا تعلمون } من صفاته الجلالية والجمالية ومن رحمته وعذابه ، أو من قدرته وشدة بطشه ، أو أعلم من جهة وحيه أشياء لا علم لكم بها ، وجمع الرسالات؛ لاختلاف أوقاتها ، أو لتنوع معانيها ، كعلم العقائد والمواعظ والأحكام .
ثم قال لهم : { أو عَجبتُم } أي : أكذبتم وعجبتم من { أن جاءكم ذِكرٌ } أي : تذكير ووعظ { من ربكم } { على } لسان { رجل منكم } أي : من جملتكم ، أو من جنسكم؛ كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون : { وَلَوْ شَآءَ اللهُ لأَنزَلَ مَلآئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي ءَابآئِنَا الأَوَّلِينَ } [ المؤمنون : 24 ] ، قال القشيري : عجبوا مِن كونِ شخص رسولاً ، ولم يَعجبوا من كون الصنم شريكًا لله ، هذا فَرطُ الجهالة وغاية الغواية . ه . وحكمة إرساله؛ كونه جاءكم { لينذركم } عاقبة الكفر والمعاصي ، { ولتتقوا } الله بسبب تلك الإنذار ، { ولعلكم ترحمون } بتلك التقوى ، وفائدة حرف الترجي؛ التنبهُ على أن التقوى غير مُوجب للترحم بذاته ، وإنما هو أي : الترحم فضل من الله ، وأن المتقي ينبغي ألا يعتمد على تقواه ، ولا يأمَن من عذاب الله .
{ فكذبوه فأنجيناه والذين معه } هو ومن آمن به ، وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة ، وقيل : عشرة ، وقيل : ثمانية ، حَملناهم { في الفلك } أي : السفينة ، { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } بالطوفان؛ { إنهم كانوا قومًا عَمِينَ } أي : عُمي القلوب ، غير مستبصرين ، وأصله : عَميين ، مخفف . قاله البيضاوي .
الإشارة : الشريعة المحمدية : سفينة نوح عليه السلام ، فمن ركب بحر الحقائق وحاد عنها؛ حال بينه وبينها الموج فكان من المغرقين في بحر الزندقة والكفر ، ومن تمسك بها في ذلك كان من الناجحين الفائزين .
(2/261)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قلت : { أخاهم } : عطف على نوح ، و { هودًا } : عطف بيان أو بدل ، وكذلك { أخاهم صالحًا } وما بعده؛ حيث وقع .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أرسلنا { إلى } قبيلة { عادٍ أخاهم } أي : واحد من قبيلتهم ، كقولهم : يا أخا العرب ، فإنه هود بن عبدالله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، وقيل : هو هود بن شاح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، فهو ابن عم أبي عاد ، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله ، وأعرف بحاله ، وأرغب في أتباعه ، ثم وعظهم فقال : { يا قوم اعبدوا الله } وحده؛ { ما لكم من إله غيره أفلا تتقون } عذاب الله ، { قال الملأ الذين كفروا من قومه } ، كان قومه أحسن من قوم نوح ، إذ كان من أشرافهم من آمن به؛ كمرثد بن سعد ، ولذلك قيد الملأ بمن كفر ، بخلاف قوم نوح؛ لم يكن أحد منهم آمن به ، فأطلق الملأ ، قالوا لهود عليه السلام : { إنا لنراك في سفاهة } أي : متمكنًا في خفة العقل ، راسخًا فيها ، حيث فَارَقتَ دين قومك ، { وإنا لنظنك من الكاذبين } في ادعاء الرسالة .
{ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من ربّ العالمين أُبلغكم رسالاتِ ربي وأنا لكم ناصح أمين } ، يحتمل أن يريد أمانته على الوحي ، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة . ثم قال : { أوَ عجبتم } من { أن جاءكم ذِكرٌ من ربكم على رجل منكم لينذركم } ، تقدم تفسيرها .
قال البيضاوي : وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم : كمال النصح والشفقة ، وهضم النفس ، وحسن المجادلة ، وهكذا ينبغي لكل ناصح ، وفي قوله : { وأنا لكم ناصح أمين } : تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين . ه .
ثم قال لهم : { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } في مساكنهم ، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا ، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض ، من رمل عالج إلى بحر عمان ، خوفهم أولاً من عقاب الله ، ثم ذكرهم بإنعامه؛ { وزادكم في الخلق بسطة } أي : قامة وقوة ، فكانوا عظام الأجساد ، فكان أصغرهم : ستين ذراعًا ، وأطولهم : مائة ذراع . { فاذكروا آلاء الله } أي : نعمه ، تعميم بعد تخصيص ، { لعلكم تفلحون } أي : لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح ، ومن شكرها : الإيمان برسولهم .
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونَذَرَ ما كان يعبد آباؤنا } من الأصنام ، استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم؛ انهماكًا في التقليد ، وحبًا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية ، ولذلك قال لهم هود عليه السلام : { قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } ، بعد أن قالوا : { فأْتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } فيه .
(2/262)
{ قال قد وقع } أي : وجب { عليكم من ربكم رجسٌ } ؛ عذاب { وغضب } إرادة الانتقام ، { أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم } أي : أتجادلونيي في عبادة مسميات أسماء ، ففي الكلام حذف . وأراد بقوله : { سميتموها أنتم وآباؤكم } أي : جعلتم لها أسماء ، فدل ذلك على أنها محدثة ، فلا يصح أن تكون آلهة ، أو سميتموها آلهة من غير دليل ، وهو معنى قوله : { ما نزَّل اللهُ بها من سلطان } أي : حجة تدل على استحقاقها للعبادة ، فالمجادلة يحتمل أن تكون في عبادتها ، أو في تسميتها آلهة ، والمراد بالاسم على الأول المسمى ، وعلى الثاني : التسمية . قاله ابن جزي : { فانتظروا } نزول العذاب ، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد ، { إني معكم من المنتظرين } نزوله .
قال تعالى : { فأنجيناه والذين معه برحمة منا } عليهم . قال القشيري : لا رتبةَ فوق رتبة النبوة ، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة ، وقد أخبر سبحانه : أنه نجَّى هودًا برحمته ، وكذا نجَّى الذين آمنوا معه برحمته ، ليُعلَم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل ، وإنما تكون ابتداء فضلٍ من الله ورحمة ، فما نَجَا مَن نَجَا إلا بفضل الله سبحانه وتعالى . ه .
{ وقطعنا دابر الذين كذَّبوا بآياتنا } أي : استأصلناهم ، { وما كانوا مؤمنين } ، تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك : هو الإيمان .
رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام ، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه ، وزادوا عتوا ، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذٍ ، مسلمهم ومشركهم ، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج ، فجهزوا إليه " قيل بن عنز " ، ومرثد بن سعد ، في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة؛ أولاد عمليق بن لاود بن سام ، وسيدهم : معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه ، وهو بظاهر مكة ، أنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر ، وتغنى عليهم الجرادتان قَينَتَانِ له فلما رأى ذهولهم عما بعثوا له أهمه ذلك ، واستحيا أن يكلمهم فيه؛ مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم ، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر ، وأمرهما أن تغنيا به وهما :
ألاَ قَيلُ ويَحكَ ، قُم ، فَهَينِم ... لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا
فيسقيِ أرضَ عَادٍ ، إنَّ عَادًا ... قَدَ امسَوا لاَ يُبِينُونَ الكَلامَا
فلما غنيتا به أزعجهم ذلك ، فقال مرثد : والله لا يُسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وتبتم إلى الله ، سقيتم ، فقالوا لمعاوية : أحبسه عنا ، لا يقدمنّ معنا مكة؛ فإنه قد أتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة ، فقال قيل : اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله سحابات ثلاثًا؛ بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه منادٍ من السماء : يا قيل؛ اختر لنفسك ولقومك . فقال : اخترت السوداء؛ فإنها أكثرهن ماءً ، فخرجت إلىعاد من وادي المغيث ، فاستبشروا بها ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، فجاءتهم ، فيها ريح عقيم ، فأهلكتهم ، رُوِي أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم في الهواء ، كأنها جراد ، فاستمرت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام ، شدخَت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعًا ، ونجا هو والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله حتى هلكوا .
(2/263)
قاله البيضاوي وغيره .
وهاهنا بحث؛ وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح ، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها ، وهود كان قبل إبراهيم ، والبيت حينئذٍ خرب ، كان خربه الطوفان ، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن؟ .
ويمكن الجواب : بأنهم كانوا يلتجؤون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان؛ لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره ، فكانوا يتبركون به ، وفي بعض التواريخ : أن العماليق بنوه قبل إبراهيم ، فكانوا يطوفون به ويتبركون ، ثم هُدم ، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم . وبهذا إن صح - يزول الإشكال . والله تعالى أعلم . وأما من قال : إن هودًا تعدد ، فغير سديد .
الإشارة : قد تضمنت موعظة هود عليه السلام لقومه خصلتين ، بهما النجاة من كل هول وشر ، والفوز بكل خير ، وهما : التوحيد والتقوى ، وهي الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهي . فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلي والخفي ، والتقوى : حفظ الجوارح من المخالفة في السر والعلانية ، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته . والله تعالى أعلم .
(2/264)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قلت : { آية } : حال ، والعامل فيها : الإشارة ، و { بيوتًا } : حال من الجبال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أرسلنا { إلى ثمود } ؛ قبيلة أخرى من العرب ، سُموا باسم أبيهم الأكبر : ثمود بن غابر بن إرم بن سام ، وقيل : سُموا به؛ لقلة ما بهم من التثميد ، وهو الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجرَ ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ؛ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم " .
أرسلنا إليهم { أخاهم صالحًا } ، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود . وقال وهب بن منبه : بعث الله صالحًا حين راهق الحلم . وقال الكواشي : أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة ، وأقام في قومه ينذرهم عشرين . ه .
{ قال يا قوم اعبدوا ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } ؛ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي ، وهي : { هذه ناقة الله لكم آية } ؛ لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب ، على ما سيأتي ، { فذروها } أي : اتركوها ، { تأكل في أرض الله } العشب ، { ولا تمسوها بسوء } ، نهى عن المس ، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى؛ مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر . قاله البيضاوي . { فيأخذكم } إن مستموها بسوء { عذاب أليم } ، وهو الهلاك بالصيحة .
{ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوّأكم } أي : هيأ لكم القرار { في الأرض } أي : أرض الحجاز ، { تتخذون من سهولها قصورًا } أي : تبنون مما انبسط منها قصورًا ، فالسهل ضد الجبل ، { وتنحتون الجبال بيوتًا } أي : تنجُرون بيوتًا من الجبال ، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء . { فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين } بالمعاصي والكفر .
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } عن الإيمان ، { للذين استضعفوا } أي : للذين استضعفوهم واستذلوهم أعني لمن آمن منهم : { أتعلمون أن صالحًا مرسل من ربه } ؟ ، قالوه على وجه الاستهزاء ، { قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون } ، لم يقولوا في الجواب : نعم؛ تنبيهًا على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي ، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر؛ فلذلك قال : { قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون } ؛ على المقابلة ، ووضعوا { آمنتم به } موضع { أُرسل به } ؛ ردًا لما جعلوه معلومًا مسلمًا .
{ فعقروا الناقة } ؛ نحروها ، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتي؛ لأنه كان برضاهم ، { وعتوا عن أمر ربهم } أي : استكبروا عن امتثال أمره ، وهو ما بلغهم صالح بقوله : { فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء } ، { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة } أي : صيحة جبريل ، { فأصبحوا في دارهم جاثمين } ؛ باركين على ركبهم ، ميتين .
(2/265)
رُوِي : أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم ، وكثروا ، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية ، فنحتوا البيوت من الجبال ، وكانوا في خِصب وسعة ، فتعوا وأفسدوا في الأرض ، وعبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم فأنذرهم ، فسألوه آية ، فقال لهم : أيّ آية تريدون؟ فقالوا : اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فمن استجيب له اتبع ، فخرج معهم ، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ، ثم أشار سيدهم " جندع بن عمرو " إلى صخرة منفردة يقال لها : " الكاثبة " ، قال له : أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء ، فإن فعلت صدقناك ، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم : لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن؟ قالوا : نعم ، فصلى ، ودعا ربه ، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها ، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا ، وهم ينظرون ، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم ، فآمن به جندع في جماعة ، ومنع الناس من الإيمان : ذُؤاب بن عمرو ، والحباب صاحب أصنامهم ، ورباب كاهنهم .
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر ، وترد الماء غِبًّا ، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ، ثم تنفحج ، فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلىء أوانيهم ، فيشربون ويدخرون ، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه ، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره؛ فشق ذلك عليهم ، فزينت عقرها لهم " عنيزة أم غنم " وصدقة بنت المختار ، فعقروها واقتسموا لحمها ، وعاقرها : الأحمر ، واسمه قدار " استعان برجل آخر ، فلما شربت أختبأ لها في جانب تل ، فضربها صاحبه بالسهم ، وعقرها قدار بسيفه ، واقتسموا لحمها ، فرقى ولدها جبلاً اسمه : قارة ، فرغى ثلاثًا ، ودخل صخرة أمه ، فقال لهم صالح عليه السلام : أدركوا الفصيل ، عسى أن يرفع عنكم العذاب ، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه ، فقال لهم صالح عليه السلام : تصبح وجوهكم غدًا مصفرة ، وبعد غد محمرة ، واليوم الثالث مسودة ، ويصبحكم العذاب ، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه ، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين . ولما كان ضحوة اليوم الرابع : تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع ، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا .
{ فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحتُ لكم ولكن لا تُحبون الناصحين } ، ظاهره : أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين؛ ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم ، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر ، وقال لهم : " قد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا ، فَهَل وَجَدتُم مَا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا؟ " أو ذَكَرَ ذلك على سبيل التحسّر عليهم . قاله البيضاوي .
الإشارة : كل ما قصّ علينا الحقّ جلّ جلاله من قصص الأمم الماضية ، فالمراد به : تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة في يقينهم ، فالواجب على من أراد السلامة في الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان ، ويتحرى في ذلك جهده؛ يقصد بذلك رضا الله ورسوله . { وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِىَ إلىَ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ] ، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم . والله تعالى أعلم .
(2/266)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قلت : { شهوة } : مفعول له ، أو مصدر في موضع الحال .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أرسلنا { لوطًا إذ قال لقومه } ، ؛ واعظًا لهم : { أتأتون الفاحشةَ } أي : اللواط؛ توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح ، { ما سبقكُم بها من أحدٍ من العالمين } أي : ما فعلها أحد قبلكم ، وبخهم على أمرين : إتيان الفاحشة ، واختراعها أولاً ، ثم قال لهم : { إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء } ، وصفهم بالشهوة البهيمية ، وفيه تنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة : طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر ، { بل أنتم قومٌ مسرفون } أي : عادتكم السرف في كل شيء ، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إيتان الذكور ، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها؛ وهي اعتياد الإسراف في كل شيء ، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لم على جميع معايبهم ، أو عن محذوف ، مثل : لا عذر لكم فيه ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف . قاله البيضاوي .
{ وما كان جواب قومه } له حين وعظهم ، { إلا أن قالوا أخرجوهم } أي : لوط ومن آمن به ، { من قريتكم } أي : ما أجابوه بشيء يصلح للجواب ، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم ، والاستهزاء بهم ، حيث قالوا : { إنهم أُناس يتطهرون } من الفواحش .
قال تعالى : { فأنجيناه وأهله } أي : من آمن معه ، { إلا امرأته } فإنها كانت تسر الكفر؛ { كانت من الغابرين } أي : الباقين في ديارهم فهلكوا وهلكت معهم .
{ وأمطرنا عليهم مطرًا } أي : نوعًا عجيبًا من المطر ، بيَّنه بقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } [ الحِجر : 74 ] { فانظر كيف كان عاقبةُ المجرمين } .
رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام ، ونزل بالأردن ، وكان هاجر هو معه ، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم ، ليدعوهم إلى الله ، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة ، فلم ينتهوا عنها ، فقلع جيريل مدينتهم ، وجعل عاليها سافلها ، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى ، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم ، إن شاء الله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : إنما أهلك اللهُ قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم ، وغلبهم الطبع البهيمي على مقتضى العقل الصافي ، وقد تقدم الغزالي : إن الشَّره إلى الوِقاع من جملة المهلكات . فعلى المريد أن يصفي قصده ، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين ، ولا ينزل بالشهوة والمتعة . وقد قال عليه السلام : " المؤمن يأكل بشهوة أهله " فلا يأتي ما أحلَّ اللهُ لَهُ مِن متعة النِّساء إلا قيامًا بحقِّ الغَير وطلبًا للنسلِ . وبالله التوفيق .
(2/267)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } أرسلنا { إلى مدين أخاهم شعيبًا } ، ومدين : قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم ، شعيب بن ميكائيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل ، على ما قيل . وقد تقدم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام ، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء؛ لحسن مراجعته قومه .
{ قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهِ غيره قد جاءتكم بينةٌ من ربكم } يريد المعجزة التي كانت له ، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته . وحمل الواحدي البينة على الموعظة . وقال في الكشاف : ومن معجزات شعيب : ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين ، حين دفع إليه غنمه ، وولادة الغنم الدرع خاصة ، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع ، وغير ذلك من الآيات . ه . وفيه نظر؛ لأن هذه وقعت بعد مقالته لقومه ، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام ، وفي حديث البخاري : " مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عليه البشرُ ، وإنما كَان الذي أُوتِيتُه وحيًا ، وأرجوُ أن أكون أكَثَرهُم تابعًا يومَ القيامَةِ " وهو صريح في أنه لا بد من الآية لكل رسول ، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها؛ لظاهر الحديث .
ثم قال لهم : { فأوفوا الكيلَ والميزانَ } ، وكانوا مطففين ، أي : فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل ، أي : كبروها؛ بدليل قوله : { والميزان } الذي هو الآلة ، ويحتمل أن يريد بهما المصدر ، أي الكيل والوزن .
{ ولا تَبخسوا الناس أشياءهم } أي : لا تنقصوهم حقوقهم ، وإنما قال : { أشياءَهم } ، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير ، والقليل والكثير ، وقيل : كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه . { ولا تُفسدوا في الأرض } بالكفر والظلم ، { بعد إصلاحها } بإقامة الشرائع وظهور العدل ، { ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين } أي : ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه ، ومعنى الخيرية : الزيادة مطلقًا؛ إذ لا خير فيما هم فيه ، أو : في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال . قاله البيضاوي .
{ ولا تقعُدُوا بكل صِراطٍ } أي : طريق { تُوعِدُون } من أراد الإيمان بالعقوبة ، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد ، يقولون لمن يريد شعيبًا : إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك؛ ويوعدون من آمن ، وقيل : كانوا يقطعون الطريق .
{ وتَصُدُّون عن سبيل الله } أي : تصدون الناس عن طريق الله ، وهو الإيمان به وبرسوله ، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق ، وقوله : { من آمن به } ؛ من أراد الإيمان به ، أو من آمن حقيقة؛ كانوا يصدونه عن العمل ، { وتبغونها عِوَجًا } أي : وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها ، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة .
(2/268)
{ واذكروا إذ كنتم قليلاً } عَددهم وعُددكم { فكثَّرَكُم } بالبركة في النسل والمال ، { وانظروا كيف كان عاقبةِ المفسدين } من الأمم قبلكم ، فاعتبروا بهم .
{ وإن كانت طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلتُ به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا } أي : تربصوا { حتى يحكم اللهُ بيننا } أي : بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين ، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ، { وهو خير الحاكمين } ؛ إذ لا معقب لحكمه ، ولا حيف فيه .
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } في جوابه عن وعظه : { لنُخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتُعودنَّ في ملتنا } أي : ليكونن أحد الأمرين؛ إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر ، وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا ، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد؛ فخُوطب هو وقومه بخطابهم ، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله : { قال أوَ لو كنا كارهين } . قاله البيضاوي . وقال ابن عطية : وعاد : قد يكون بمعنى صار ، فلا يقتضي تقدم ذلك المحال ، قلت : ويؤيده ما في حديث الجَهنميين : " قد عادوا حممًا " أي : صاروا .
ثم قال شعيب عليه السلام : { قد افترينا على الله كذبًا إن عُدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها } أي : إن رجعنا إلى مثلكم بعد الخلاص منها ، فقد اختلقنا على الله الكذب ، وهذا كله في حق قومه كما تقدم . { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربُّنا } خذلاننا وارتدادنا ، وفيه تسليم للإدارة المغيبة ، والعلم المحيط ، فإن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء . فإن قلت : هو معصوم فلا يصح فيه العود؟ قاله أدبًا مع الربوبية ، واستسلامًا لقهر الألوهية ، كقول نبينا صلى الله عليه وسلم " يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي عَلَى دِينِكَ " { وَسِع ربُّنا كلَّ شيءٍ علمًا } أي : أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم ، { على الله توكلنا } في أن يثبتنا على الإيمان ، ويخلصنا من الإشراك . { ربنا افتح بيننا } أي : احكم بيننا { وبين قومنا بالحق } بالعدل ، بتمييز المحق من المبطل ، { وأنت خير الفاتحين } أي الفاصلين .
{ وقال الملأُ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتُم شعيبًا } وتركتم دينكم { إنكم إذًا } أي : إذا اتبعتموه { لخاسرون } ؛ لاستبدالكم ضلالته بهداكم ، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف . { فأخذتهم الرجفةُ } أي : الزلزلة . وفي سورة الحجر .
{ الصيحة } ، ولعلها كانت من مبادئها ، { فأصبحوا في دارهم } أي : في مدينتهم { جاثمين } باركين ميتين .
{ الذين كذَّبوا شعيبًا كأن لم يَغنَوا فيها } أي : استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة . { الذين كذَّبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين } دينًا ودُنيا ، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا؛ فإنهم الرابحون ، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول ، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين .
(2/269)
{ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتُكم رسالات ربي ونصحتُ لكم } ، قاله بعد هلاكهم ، تأسفًا عليهم ، ثم أنكر على نفسه فقال : { فكيف آسى على قومٍ كافرين } ليسوا أهلاً للحزن عليهم ، لاستحقاقهم ما نزل بهم .
الإشارة : يؤخذ من قوله : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } أن إقامة الشرائع ، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها ، وخصبها وعافيتها ، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها . ويؤخذ من قوله : { ولا تقعدوا بكل صراط . . . } الآية ، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على الله من أفضل القربات عند الله ، وأعظم الوسائل إلى الله .
ويؤخذ من قوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد ، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها ، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره ، ولا يكون مع غير الله قراره . وفي بعض الآثار القدسية : " يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك ، فعلمي لا يحيط به محيط " والله تعالى أعلم .
(2/270)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وما أرسلنا في قرية من نبي } أي : رسول { إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } أي : بالبؤس والضر ، كالقحط والأمراض ، { لعلهم يضَّرَّعون } أي : يتضرعون ويتذللون ، { ثم بدَّلنا مكانَ } الحالة { السيئةِ } الحالة { الحسنةَ } أي : أعطيناهم ، بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة ، السلامة والسعة ، { حتى عَفَوا } : كثروا عَددًا وعُددًا ، يقال : عفا النبات : إذا كثر ، ومنه : " اعفُو اللِّحى " { وقالوا قد مسَّ آباءنا الضراءُ والسراءُ } ؛ كُفرًا لنعمة الله عليهم ، ونسيانًا لذكره ، واعتقادًا بأنه من عادة الدهر يتعاقب في الناس بين السراء والضراء ، فقد مس آباءنا منه شيء مثل ما مسنا ، { فأخذناهم بَغتةً } : فجأة { وهم لا يشعرون } بنزول العذاب .
{ ولو أن أهل القرى } المتقدمة في قوله : { وما أرسلنا في قرية من نبي } وقيل : مكة وما حولها . وقيل : مطلقًا ، { آمنوا واتقَوا } مكان كفرهم وعصيانهم ، { لفتحنا عليهم بركاتٍ من السماء والأرض } ؛ لوَسعنا عليهم الخير ، ويسرناه لهم من كل جانب . وقيل : المراد : المطر والنبات . { ولكن كذبوا } بالرسل ، وكفروا النعم ، { فأخذناهم بما كانوا يكسبون } من الكفر والمعاصي .
{ أفأمِن أهل القرى } أي : أبعد ذلك أمن أهل القرى { أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون } ؟ أي : ليلاً ، في حال نومهم . { أوَ أمِنَ أهل القرى أن يأتيهم بأسنا } أيضًا { ضُحىً } ؛ ضحوة النهار { وهم يلعبون } من فرط الغفلة ، أو يشتغلون بما لا ينفعهم ، { أفأمِنُوا مكرَ الله } وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة؟ { فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون } الذين خسروا أنفسهم ، بترك النظر والاعتبار ، حتى هلكوا ، فلم ينفعهم حينئذٍ الندم .
الإشارة : إظهار المِحَن والمِنَن وتعاقبهما على الإنسان ، حكمتها : الرجوع إلى الله ، وتضرع العبد إلى مولاه ، فمن فعل ذلك كان معتمدًا عليه في الحالتين ، مغترفًا من بحر المنة بكلتا اليدين ، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن ، فلم يرجع إلى مولاه ، ولا شكره على ما خوله من نعماه ، بل قال : هذه عادة الزمان؛ يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان ، فهذا عبد منهمك في غفلته ، قد اتسعت دائرة حسه ، وانطمست بصيرة قدسه ، يصدق عليه قوله تعالى : { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ أُوْلِئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ } [ الأعرَاف : 179 ] .
وقال القشيري في قوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا . . . } الآية : أي : لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } بأسباب العطاء ، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا ، والرضا أتم من العطاء . ويقال : ليس العبرة بالنعمة؛ العِبرة بالبركة في النعمة . ه .
قوله تعالى : { ولكن كذَّبوا } أي : شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب ، والشاك في الصادق المصدوق مكذب . وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه : للناس أسباب ، وسببنا الإيمان والتقوى ، ثم تلا هذه الآية : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا . . . } الآية ، وقد تقدم عند قوله : { الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُوَاْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ } [ الأنعَام : 82 ] . ما يتعلق بالأمن من مكر الله .
(2/271)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قلت : { أن لو نشاء } : " أن " مخففة ، وهي وما بعدها : فاعل { يَهدِ } أي : أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك؟ وإنما عدى " يهدي " باللام؛ لأنه بمعنى يتبين ، و { نطبع } : استئناف ، أي : ونحن نطبع على قلوبهم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أوَ لم يهدِ } أي : يتبين { للذين يرثون الأرضَ من بعد أهلها } أي : يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم ، { أن لو نشاء أصبناهم } أي : أهلكناهم { بذنوبهم } بسبب ذنوبهم ، كم أهلكنا من قبلهم ، لكن أمهلناهم ولم نهملهم ، { و } نحن { نَطبَعُ على قلوبهم } بالغفلة والانهماك في العصيان ، { فهم لا يسمعون } سماع تدبر واعتبار .
{ تلك القرى } ، التي قصصنا عليك آنفًا ، { نقصّ عليك من أنبائها } من أخبارها ، أي : بعض أخبارها ، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك { ولقد جاءتهم رسُلهم بالبينات } : بالمعجزات ، { فما كانوا ليؤمنوا } عند مجيئهم ، بها { بما كذَّبوا من قبل } مجيئها ، يعني : أن ظهور المعجزات لم ينفعهم ، بل الشي الذي كذبوا به قبل مجيئها ، وهو التوحيد وتصديق الرسل؛ استمروا عليه بعد مجيئها .
أو : { فما كانوا ليؤمنوا } مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً ، حيث جاءتهم الرسل ، فلم تؤثر فيهم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة . { كذلك يطبعُ الله على قلوب الكافرين } فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر .
{ وما وجدنا لأكثرهم } أي : لأكثر أهل القرى { من عهدٍ } ، بل جُلُّهم نقصوا ما عَهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج ، { وإن وجدنا أكثرَهم } أي : علمناهم { لفاسقين } ، و " إن " مخففة ، واللام : فارقة .
الإشارة : ينبغي لمن فتح الله بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله ، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها ، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم؟ قَدِموا على ما قدَّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفعهم الندم وقد زلت بهم القدم ، فالدهر خطيب يُسمع القاصي والقريب ، وهو ينادي بلسان فصيح ، عادلاً عن الكتابة إلى التصريح ، قائلاً : أمَا حَصلَ لكم الإنذار؟ أما كفاكم ما تشاهدون في الاعتبار؟ أين من سلف قبلكم؟ . أوَ ما كانوا أشد منكم أو مثلكم؟ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم ، وخسف بعد الكمال بدرهم ، فكأنهم ما كانوا ، وعن قريب مضوا وبانوا ، أفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرًا إلى القضاء وسلموا ، في أيها الغافلون ، أنتم بمن مضى لاحقون ، ويا أيها الباقون؛ أنتم إليهم تساقون ، قَضاءٌ مبرم ، وحُكمٌ ملزم ، ليس عند محيد لأحد من العبيد .
(2/272)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ثم بعثنا } من بعد الرسل المتقدمين { موسى } بن عمران { بآياتنا } : بمعجزاتنا الدالة على صدقه ، { إلى فرعون ومَلَئِهِ فظلموا بها } أي : طغوا بسببها ، وزادوا عتوًا على عتوهم ، { فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } كيف غرقوا عن آخرهم ، وأكلهم البحر .
الإشارة : إذا أراد الله تعالى أن يُهلك قومًا بعث إليهم من يُذكرهم ، فإذا زادوا في العتو والطغيان عاجلهم بالعقوبة . ذكر الشعراني : أن مدينة بالمشرق صنعوا وليمة يتنزهون فيها ، فخرجوا إلى بستان ، فلما صنعوا الطعام دخل عليهم فقير ، فقال : أعطوني ، فأعطوه ، ثم قال : أعطوني فزادوه ، ثم قال أعطوني ، فجروه حتى أخرجوه ، فأرسل عليهم مَن أخرجهم من تلك المدينة وخربها ، فهي خربة إلى اليوم . سبحان المدبر الحكيم الواحد القهار! .
(2/273)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
قلت : من قرأ : ( عليّ ) ؛ بشد الياء ، فحقيق : مبتدأ ، و ( عليّ ) : متعلق به ، و ( ألاَّ أقول ) : خبره ، أي : حقيق عَلَيَّ قولُ الحق . ومن قرأ : { عَلَى } ؛ بالتخفيف ، فحقيق : صفة لرسول ، و ( على ) : حرف جر ، و ( ألاَّ أقول ) : مجرور ، أي : إني رسول حقيق على قول الحق ، وعدَّاه بعلى؛ لتضمنه معنى حريص ، أو تكون ( على ) بمعنى الباء أي : حقيق بقول الحق ، وقد يبقى على أصله لأمن الالتباس؛ والمعنى : حقيق على قول الحق أنا أكون أنا قائله ، لا يرضى إلا مثله ناطقًا به . انظر البيضاوي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقال موسى يا فرعونُ إني رسولٌ من ربِّ العالمين حقَيقٌ } واجب { على أن لا أقول على الله إلا الحقَّ } ؛ لأنني معصوم من النطق بغيره ، فإن كذَّبتني فقد { جئتكم ببيّنة من ربكم } أي : بمعجزة واضحة ، تدل على صدقي ، وهي العصا : { فأرْسِلْ معي بني إسرائيل } أي : فخل سبيلهم ، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة : التي هي وطنُ آبائهم ، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة؛ وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى ، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون : أربعمائة عام .
(2/274)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قلت : يقال : أرجأ ، بالهمز ، يرجىء بمعنى آخر؛ فمن قرأ بالهمزة فعلى الأصل ، ومن قرأه بغير الهمزة فيحتمل أن يكون بمعنى المهموز ، وسهلت الهمزة ، أو يكون بمعنى الرجاء ، أي : أطعمه ، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان ، وأما إسكانها فلغة؛ أجرى فيها الوصل مجرى الوقف . وقد تتبع البيضاوي توجيه القراءات ، فانظره إن شئت .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال } فرعون لموسى عليه السلام : { إن كنتَ جئتَ بآيةٍ } مَن عند مَن أرسلك ، كما ذكرتَ ، { فأتِ بها } وأحضرها ليَثبت بها صدقك { إن كنت من الصادقين } في دعواك ، { فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبين } أي : ظاهر أمره ، لا يشك في أنه ثعبان ، وهي الحية العظيمة .
رُوِي أنه لما ألقاها صار ثعبانًا أشعر ، فاغرًا فاه ، بين لحييه ثمانون ذراعًا ، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ، ثم توجه نحو فرعون ، فهرب منه وأحدَثَ ، وانهزم الناسُ مُزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا ، وصاح فرعون : يا موسى ، أنشدك الذي أرسلك خذه ، وأنا أُومن بك ، وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذه فعاد عصًا . قاله البيضاوي .
ثم أظهر له معجزة أخرى : { ونَزَعَ يدهُ } من جيبه ، أو من تحت إبطه ، { فإذا هي بيضاءُ للناظرين } أي : بيضاء بياضًا خارجًا عن العادة ، يجتمع عليها النظارة ، أو بيضاء للنظار ، لا أنها كانت بيضاء في خلقتها ، بل كانت شديدة الأدمة كلون صاحبها . رُوِي أنه كان شديد الأدمة فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ، ثم نزعها ، فإذا هي بيضاء نورانية ، غلب شعاعُها شعاعَ الشمس .
{ قال الملأُ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } ، قيل : هو وأشرافُ قومه ، على سبيل المشاورة في أمره ، فحكى عنه في سورة الشعراء ، وعنهم هنا ، أو قاله هو ووافقوه عليه ، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم . { يريد أن يُخرجكم من أرضِكم } بالحيل ، أو بالقتال ، أو بإخراج بني إسرائيل ، وكانوا خدامًا لهم ، فتخرب البلد من بعدهم ، لأنهم خدامها وعمارها . قال فرعون : { فماذا تأمرون } أي : تُشيرون عليَّ أن أفعل؟ { قالوا أرجِه } أي : أخّره { وأخاه } أي : أخرّهما حتى تنظر في أمرهما ، وقيل : أمروه بسجنهما ، { وأرسل في المدائن } أي : مدائن عمالتك { حَاشرين } يحشرون لك السحرة ، { يأتوك بكلِّ ساحرٍ عليم } .
(2/275)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
قلت : من قرأ : ( أإن ) بهمزتين ، فهو اسم استفهام ، ومن قرأ بهمزة واحدة ، فيحتمل أن يكون خبرًا ، كأنهم قالوا : لا بد لنا من أجر ، أو استفهامًا حُذفت منه الهمزة ، والتنكير للتعظيم ، واستأنف الجملة ، كأنها جواب عن سائل قال : فماذا قالوا إذ جاؤوا؟ قالوا : إن لنا لأجرًا . . . الخ ، و ( إنكم ) : عطف على ما سدّ مسده نعم ، من تمام الجواب ، كأنه قال : نعم نعطيكم الأجر ونقربكم .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وجاء السحرةُ فرعونَ } بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم ، { قالوا } لما وصلوا إليه : { إن } أئن { لنا لأجرًا إن كنا نحن الغالبين } لموسى؟ { قال نعم } إن لكم أجرًا { وإنكم لَمِنَ المقربين } إليّ . فأنعم لهم بالأجر ، وزادهم التقريب منه والجاه عنده؛ تحريضًا لهم . واختُلف في عدد السحرة اختلافًا متباينًا ، من سبعين رجلاً إلى سبعين ألفًا ، وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل .
ولمَّا خرجوا إلى الصحراء لمقابلته { قالوا يا موسى إما أن تُلقي وإما أن نكونَ نحن الملقين } ؛ خيّروا موسى مراعاة للأدب ، وإظهارًا للجلادة ، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله ، ولذلك عبَّروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقائهم بالجملة الاسمية ، وفيه إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه . ولذلك أسعفهم ، { قال ألقوا } أسعفهم كرمًا ومسامحة وازدراءً بهم ، { فلما ألقوا سحروا أعين الناس } ، بأن خيلوا إليها خلاف ما في حقيقة الأمر ، { واسترهبوهم } أي : خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر ، { وجاؤوا بسحر عظيم } في فَنّه . رُوِي أنهم ألقوا حبالاً غلاظًا ، وخشبًا طوالاً ، كأنها حيات ، ملأت الوادي ، وركب بعضها بعضًا .
{ وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاكَ } ، فألقاها ، فصارت ثعبانًا عظيمًا ، على قدر الجبل ، وقيل : إنه طال حتى جاوز النيل ، { فإذا هي تَلقَفُ } أي : تبتلع { ما يأفِكُون } ما يُزَوِّرُونَهُ من إفكهم وكذبهم ، رُوِي أنها لما ابتلعت حبالهم وعصيهم ، وكانت ملأت الوادي ، فابتلعتها بأسرها ، أقبلت على الحاضرين ، فهربوا وازدحموا حتى هلك منهم جمع عظيم ، ثم أخذها موسى فصارت عصًا كما كانت ، فقال السحرة : لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا .
{ فوقعَ الحقُّ } أي : ثبت بظهور أمره ، { وبَطَلَ ما كانوا يعملون فَغُلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين } أي : صاروا أذلاء مبهوتين ، أو انقلبوا إلى المدينة مَقهورين .
(2/276)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وأُلقى السحرةُ } على وجوهم { ساجدين } لما عرفوا الحق وتحققوا به ، فآمنوا؛ لأن الحق بهرهم ، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا ، أو ألهمهم الله ذلك وحملهم عليه ، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسف موسى ، وينقلب الأمر عليه .
{ قالوا آمنا بربِّ العالمين ربِّ موسى وهارون } أبدلوا الثاني من الأول؛ لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون . { قال فرعونُ آمنتم به } أي : بالله أو بموسى ، { قبل أن آذن لكم إنَّ هذا لمكرٌ مكرتموه } أي : إن هذه لَحيلة صنعتموها أنتم وموسى { في المدينة } ؛ في مصر ، ودبرتموها قبل أن تخرجوا للميعاد؛ { لتُخرِجُوا منها أهلها } أي : القبط ، وتخلص لكم ولبني إسرائيل ، { فسوف تعلمون } عاقبة ما صنعتم .
ثم فصّل ما هددهم به ، فقال : { لأقطعّن أيديكم وأرجلكم من خلاف } من كل شق عضو ، كَيَدٍ ورِجل من كل واحد { ثم لأُصلبنَكم أجمعين } تفضيحًا لكم وتنكيلاً لأمثالكم ، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك ، ولكن رُوِي عن ابن عباس وغيره أنه فعله . قيل : إنه أول من سنَّ ذلك أي : القطع من خلاف فشرعه الله للقطاع تعظيمًا لجرمهم ، فلذلك سماه الله محاربة لله ورسوله .
{ قالوا } أي : السحرة لما خوفهم : { إنا إلى ربَّنا منقلبون } بالموت ، فيكرم مثوانا ، فلا نُبالي بوعيدك ، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء ، فهان عليهم وعيده ، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون ، فيحكم بيننا وبينك ، { وما تَنقِمُ منا } أي : وما تعيب علينا { إلا أن آمنا بآيات ربَّنا لما جاءَتنا } ، وهو لا يعاب عند العقلاء ، لأنه خير الأعمال ، وأصل المناقب ومحاسن الخلال ، ثم فزعوا إلى الله فقالوا : { ربنا أفرِغ علينا صبرًا } أي : اصبب علينا صبرًا يغمرنا ، كما يُفرغ الماء على الشيء فيغمره ، { وتوفنا مسلمين } ثابتين على الإسلام . قال البيضاوي : قيل إنه فعل بهم ذلك ، وقيل : إنه لم يقدر عليه ، لقوله : { أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } [ القَصَص : 35 ] . ه . وقد تقدم قول ابن عباس وغيره . والله تعالى أعلم .
الإشارة : انظر من سبقت له العناية ، هؤلاء السحرة جاؤوا يُحادون الله فأمسوا أولياء الله ، فكم من خصوص تخرج من اللصوص ، وانظر أيضًا صبرهم وثباتهم على دينهم ، وعدم مبالاتهم بعدوهم ، هكذا ينبغي أن يكون مَن مراده مولاه ، لا يلتفت إلى شيء سواه ، وعند هذه التصرفات يفتضح المُدّعُون ويثبت الصادقون ، عند الامتحان يعز المرء أو يُهان .
(2/277)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقال الملأُ من قوم فرعون أَتذَرُ موسى وقومَه } أي : تتركهم يخالفون دينك { ليُفسدوا في الأرض } أي : يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك ، { ويَذَرك وآلهتك } أي : يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد ، قيل : كان يعبد الكواكب ، وقيل : صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه . ولذلك قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } [ النَّازعَات : 24 ] . قال فرعون في جوابهم : { سَنُقتِّل أبناءَهم } أي : ذكورهم { ونستحي نساءهم } أي : بناتهم ، كما كنا نفعل من قبل ، ليُعلم أَنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه . { وإنا فوقهم قاهرون } غالبون ، وهم مقهورون تحت أيدينا .
{ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } ، قاله تسكينًا لهم حين سمعوا قول فرعون وما هددهم به ، ثم قال لهم : { إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده } وسيورثها لكم إن صبرتم وآمنتم . { والعاقبة للمتقين } ، فتكون العاقبة لكم إن اتقيتم ، وهو وعدٌ لهم بالنصر والعز ، وتذكير بما وعدم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وملكهم .
{ قالوا } أي : بنوا إسرائيل : { أُوذينا من قبل أن تأتينا } بقتل الأبناء ، { ومن بعد ما جئتنا } بإعادته ، فلم يرتفع عنا الذل بمجيئك ، { قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوكم ويستخلِفَكم في الأرض } ، تصريحًا بما كِنّى عنه أولاً ، لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك ، ولعله أتى بحرف الطمع ، أي : الترجي؛ لعدم جزمه بأنهم المستخلَفون بأعيانهم ، أو أولادهم ، وقد رُوِي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام ، قاله البيضاوي . { فينظرَ كيف تعملون } أي : فإذا استخلفكم يرى ما تعملون من شكر أو كفران ، أو طاعة أو عصيان ، فيجازيكم على حسب ما يُوجد منكم من كفر أو إحسان .
الإشارة : ما وقع للأنبياء مع قومهم وقع مثله لأشياخ هذه الأمة وفقرائها مع أهل زمانهم ، ولما كثرت الأحوال من الفقر أو خرق العوائد ، وظهروا بتخريب ظواهرهم ، وقعت بهم الشكاية إلى السلطان ، وقالوا له : هؤلاء يخربون ملكك ، فآل على نفسه إنَّ مكنه الله منهم لا يترك منهم أحدًا ، فكفى الله بأسه ، فاستعانوا بالله وصبروا ، واشتغلوا بذكر الله ، وغابوا عمن سواه ، فكانت العاقبة للمتقين .
(2/278)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
قلت : عبَّر في جانب الحسنة بإذاء المفيدة للتحقيق ، وعرَّف الحسنة؛ لكثرة وقوعها ، وعبَّر في جانب السيئة بإن المفيدة للشك ، ونكّر السيئة لنُدورها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد أخذنا آلَ فرعوَن بالسنين } أي : بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه ، { ونقصٍ من الثمرات } بكثرة العاهات ، { لعلهم يذّكَّرون } أي : لكي ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم ، ويتعظوا ، وترق قلوبهم بالشدائد ، فيفزعوا إلى الله ، ويرغبوا فيما عنده .
{ فإذا جاءتهم الحسنةُ } ، من الخصب والسعة والرخاء ، { قالوا لنا هذه } أي : قالوا : هذه لنا ولسعودنا ، ونحن مستحقون له . { وإن تُصبهم سيئة } : جدب وبلاء { يطيَّروا بموسى ومن معه } أي : يتشاءموا بهم ، ويقولون : ما أصابتنا إلا بشؤمهم ، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة؛ فإن الشدائد تُرقق القلوب ، وتُذلل العرائك أي : الطبائع ، وتُزيل التماسك ، سيما بعد مشاهدة الآيات ، وهي لم تؤثر فيهم ، بل زادوا عندها عتوًا وانهماكًا في الغي .
قال تعالى : { ألا إنما طائرُهم عند الله } أي : سبب طائرهم وشرهم عنده ، وهو حكمه ومشيئه ، أو سبب شؤمهم عند الله ، وهو أعمالهم المكتوبة عنده ، فإنها التي ساقت إليهم ما يسؤوهم . قال ابن جزي : أي : حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله ، وهو مأخوذ من زجر الطير ، ثم سمى به مَا يُصيب الإنسان ، ومقصود الآية : الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم . ه ، { ولكنّ أكثرهم لا يعلمون } أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة ، أو من شؤم أعمالهم .
الإشارة : هذه الخصلة جارية أيضًا في هذه الأمة ، أعني التطاير ، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا : بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع ، ولقد سمعتُ ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء ، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدًا ، فأرسل الله عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانًا ، فقالوا : ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت ، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل الله . والله تعالى أعلم .
(2/279)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
قلت : { مهما } : اسم شرط جازم ، و { تأتنا } : شرطها ، وجملة { فما نحن } : جوابها ، قيل : مركبة ، وأصلها : " ما " الشرطية ، ضُمت إليها " ما " الزائدة ، نحو : أينما ، ثم قُلبت الألف هاء ، والمشهور : أنها بسيطة ، ومحلها : رفع بالابتداء ، أو نصب بفعل يفسره : " تأتنا " والضمير في : " به " عائد على " مهما " .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقالوا } أي : فرعون وقومه : { مهما تأتنا به من آيةٍ } ، وإنما سموها آية على زعم موسى ، لا لاعتقادهم ، ولذلك قالوا : { لتسحرنا بها } أي : لتسحر بها أعيينا وتشبه علينا ، { فما نحن لك بمؤمنين } . وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر .
قال تعالى : { فأرسلنا عليهم الطوفانَ } وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل ، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون ، وامتنعوا من الزراعة ، وقيل : الطاعون ، وقيل : الجدري ، وقيل الموتان ، { والجراد } وهو المعروف ، أكل زروعهم وثمارهم ، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم ، { والقُمَّلَ } قيل : أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها ، وقيل : البراغيث ، وقيل السوس ، والتحقيق : أنه صغار القراد ، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم ، وقرىء : " القَملَ " بفتح القاف وهو القمل المعروف ، دخل ثيابهم وامتلأت منها ، { والضفادعَ } ، وهي المعروفة ، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم ، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه . { والدمَ } صارت مياههم دمًا ، فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد ، فيخرج ما يلي القبطي دمًا ، وما يلي الإسرائيلي ماء .
قال البيضاوي : رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة ، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته ، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم ، فلم يدخل فيها قطرة ، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها ، ودام ذلك عليهم أسبوعًا ، فقالوا لموسى عليه السلام : أدع لنا ربك بما عهد عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك ، فدعا الله فكشف عنهم ، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله ، ولم يؤمنوا ، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم ، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ، ففزعوا إليه ثانيًا ، فدعا ، وخرج إلى الصحراء ، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب ، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها ، فلم يؤمنوا ، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد ، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها ، ففزعوا إليه فرفع عنهم ، فقالوا : قد تحققنا الآن أنك ساحر ، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه ، وكانت تملأ مضاجعهم ، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم ، ففزعوا وتضرعوا ، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ، ثم نقضوا العهد ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياههم دمًا ، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء ، فيكون ما يلي القبطي دمًا ، وما يلي الإسرائيلي ماء ، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه ، وقيل : سلط عليهم الرعاف .
(2/280)
ه .
{ آياتٍ } أي : حال كون ما تقدم آيات { مُفصَّلاتٍ } ، مبينات ، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته . قيل : كان بين كل واحدة منها شهر ، وامتداد كل واحدة منها شهر ، وامتداد كل واحدة أسبوعًا ، وقيل : إن موسى ثبت فيهم ، بعد ما غلب السحرة ، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل ، { فاستكبروا } عن الإيمان { وكانوا قومًا مجرمين } أي : عادتهم الإجرام .
{ ولمّا وقع عليهم الرَّجزُ } يعني : العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك ، { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي : بعهده عندك ، وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك . والمعنى : ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه ، أو بدعائك إليه ووسائلك ، { لئن كشفت عنا الرجز } : العذاب { لنُؤمنن لك } أي : أقسمنا بعهد الله لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك { ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل } كما طلبت ، قال تعالى : { فلما كشفنا عنهم الرِّجزَ إلى أجل هم بالغوه } إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يُهلكون ، وهو وقت الغرق أو الموت ، وقيل : إلى أجل عينوه لإيمانهم ، { إذا هم ينكُثُون } ؛ جواب " لَمَّا " أي : فلما كشفنا عنهم جاؤوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف ، { فانتقمنا منهم } أي : فأردنا الانتقام منهم ، { فأغرقناهم في اليم } أي : البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته ، { بأنهم } أي : بسبب أنهم { كذَّبوا بآياتنا } التي أرسلناها عليهم . { وكانوا عنها غافلين } أي : أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها .
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون } بالاستعباد وذبح الأبناء { مشارقَ الإرضِ ومغاربها } يعني : أرض الشام ، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة ، وتمكنوا من نواحيها { التي باركنا فيها } بالخصب وسعة العيش ، وهي أرض الشام . وزاد ابن جزي : ومصر .
{ وتمّتْ كلمةُ ربك الحسنى على بني إسرائيل } أي : نفذت ومضت واستقرت ، والكلمة هنا : ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم ، وقيل : قوله : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعفُواْ فِي الأَرْضِ } [ القَصَص : 5 ] وكانت حسنى؛ لما فيها من النصر والعز ، { بما صبروا } أي : بسبب صبرهم على الشدائد { ودمَّرنا } أي : خربنا { ما كان يصنعُ فرعونُ وقومهُ } من القصور والعمارات ، { وما كانوا يعْرِشُون } من البنيان المرتفع كصرح هامان ، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان ، فالأول من العرش والثاني من العَريش .
الإشارة : قد جرت عادة الله في خلقه أن يظهر الخواص من عباده ، فَيُنكَرُوا أو يستضعفوا ، حتى إذا طُهّروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق ، مَنَّ الله عليهم بالعز والنصر والتمكين ، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى ، ويقره الوجود بأسره ، ومنهم من يمكَّن من التصرف في الكون بهمته ، ولكنه تحت أستار الخمول ، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته ، وهذا من شهداء الملكوت ، ضنَّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه . والله تعالى أعلم وأحكم .
(2/281)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وجاوزنا بِبني إسرائيل } أي : قطعنا بهم { البحرَ } ، رُوِي أنهم عبروه يوم عاشوراء ، بعد مهلك فرعون ، فصاموه شكرًا ، { فأَتَوا على قوم } أي : مروا على قوم من العمالقة ، وقيل : من لخم ، { يعكُفُون على أصنام لهم } أي : يقيمون على عبادتها ، قيل : كانت تماثيل البقر ، وذلك أول شأن عبادة العجل ، وهؤلاء القوم ، قيل : هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام ، ولما رأهم بنو إسرائيل { قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا } أي : مثالاً نعبده { كما لهم آلهة } يعبدونها ، { قال } لهم موسى عليه السلام : { إنكم قوم تجهلون } ، وَصَفَهُم بالجهل المطلق ، وأكده بإن؛ لبُعد ما صدر منهم ، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى .
قال البيضاوي : ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام ، وآراهم من الآيات العظام ، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب ، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم . ه . وذكر في " القوت " أن يهوديًّا قال لعلي رضي الله عنه : كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف ، ونبيكم قريب عهد بكم؟ فقال : أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم : { اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة } . ه .
ثم قال لهم موسى رضي الله عنه : { إن هؤلاء مُتَبَّرٌ } : مدمر هالك { ما هُم فيه } يعني : أن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه ، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا . { وباطلٌ } مضمحل { ما كانوا يعملون } من عبادتها ، وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى ، وإنما بالغ في هذا الكلام تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا . { قال أغيرَ اللهِ أبغيكم } أطلب لكم { إلهًا } أي : معبودًا { وهو فضّلكم على العالمين } أي : والحال أنه قد خصكم بنعم لم يُعطها غيركم ، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله لهم بما استحقوه تفضلاً ، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته وأبلدَه ، وهو البقر .
{ وإذ أنجيناكم من آل فرعون } أي : واذكروا صُنعه معكم في هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه { يسومُونَكم } أي : يذيقونكم { سوءَ العذاب } ، ثم بينَّه بقوله : { يقتلون أبناءَكم } ذكورهم { ويستحيون نساءَكم } أي : بناتكم ، { وفي ذلكم بلاءٌ من ربكم عظيم } أي : وفي ذلك القتل امتحان عظيم ، أو في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم .
الإشارة : من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه ، ولم يغرق فيه ، لا يخلو من طلب شرك جلي أو خفي؛ لأن النفس ما دامت لم تغرق في بحر الوحدة ، ولم تسبها جمال المعاني ، قطعًا تميل إلى شيء من جمال الحس ، لأن الروح في أصلها عشاقة ، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس ، ومن ركن إلى شيء مما سوى الله فهو شرك عند الموحدين من المحققين ، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد ، وانفراد الوجهة إلى الله تعالى؛ لأن بني إسرائيل لمَّا أنعم الله عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك ، فسقطوا من عين الله واستمر ذلهم إلى يوم القيامة . والله تعالى أعلم .
(2/282)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وواعدنا موسى } ؛ لإنزال الكتاب { ثلاثين ليلة } من ذي القعدة ، { وأتممناها بعشر } من ذي الحجة ، { فتمَّ ميقاتُ ربه } بالغًا { أربعين ليلة } ، رُوِي أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل ، بمصر ، أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب الله تعالى ، فيه بيان ما يأتون وما يذرون ، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين ، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك ، فقالت الملائكة : كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدتَه بالسواك ، فأمره الله تعالى أن يزيد عليه عشرًا ، ثم أنزل عليه التوراة .
{ وقال موسى لأخيه هارون } ، عند ذهابه إلى الطور للمناجاة : { أخلُفني في قومي } أي : كن خليفتي فيهم { وأصلح } ما يجب أن يصلح من أمورهم ، أو كن مصلحًا ، { ولا تتبع سبيلَ المفسدين } أي : لا تتبع سبيل من يسلك الإفساد ، ولا تطع من دعاك إليه .
الإشارة : كل من انقطع إلى الله تعالى بكليته واعتزل عن الخلق ، وأخلى قلبه عما سوى الحق ، حصلت له المناجاة والمكالمة ، كما وقعت للكليم عليه السلام ، وكل ما منحه الله للأنبياء يكون منه نصيب للأولياء من هذه الأمة ، والله تعالى أعلم . وفي الحديث : " مَن أخلَصَ أربَعِينَ صبَاحًا ظَهَرَت يَنابِيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلَى لِسَانِه " .
قال بعض الحكماء : والسر في ذلك أن الله تعالى أمر بطينة آدم فخمرت في الماء أربعين يومًا ، فتربى فيها أربعون حجابًا ، فلولا تلك الحجب ما استطاع المقام في الأرض ، فمن أيده الله على زوالها تشبه بالملأ الأعلى ، وخرقت له العوائد ، وأشرق النور من قلبه . ولهذا المعنى بقي داود عليه السلام ساجدًا أربعين يومًا ، فقبلت توبته ، ومكث إبراهيم عليه السلام في نار النمرود أربعين يومًا ، فاتخذه الله خليلاً ، وكان بعد ذلك يقول : ما رأيت أحلى من تلك الأيام ، فمن أخلص في عبادته وأزال تلك الحجب عن قلبه كان ربانيًا . قال تعالى : { وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّنَ } [ آل عِمرَان : 79 ] . انظر الشطيبي .
ويؤخذ من الآية أن الشيخ إذ أراد أن يسافر من زاويته ينبغي له أن يخلف خليفة عنه ليقوم له بنظام الزاوية ، إذ لا خير في قوم ليس فيهم من يعظهم في الله . وبالله التوفيق .
(2/283)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولما جاء موسى لميقاتنا } الذي وقتنا له { وكلَّمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملائكة . وفيما رُوِي : أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة ، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين . قاله البيضاوي . وقال الورتجبي : أي أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه؛ لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات . ه . وقال ابن جزي : لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته ، فسألها ، كما قال الشاعر :
وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا ... إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ
{ قال ربِّ أرني أنظر إليك } أي : أرني نفسك أنظر إليك ، بأن تكشف الحجب عني ، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة ، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة . قال البيضاوي : وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة؛ لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال ، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله ، ولذلك رده بقوله تعالى : { لن تراني } دون لن أُرِى ولن أريك ، ولن تنظر إليّ ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي ، لم توجد فيه بعدُ ، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا : { أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً } [ النَّساء : 153 ] خطأ ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم ، كما فعل بهم حين قالوا : { أجْعَل لَّنَآ إِلَهًا } [ الأعرَاف : 138 ] ، والاستدلال بالواجب على استحالتها أشد خطأ ، إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته أياه على أنه لا يراه أبدًا ، وألا يراه غيره أصلاً ، فضلاً عن أن يدل على استحالتها . ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية . ه .
وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه ، فإنه أطلق لسانه في أهل السنة عفا الله عنه . والتحقيق : أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء وهي أنوار الصفات جائرة واقعة ، وأما رؤية أسرار الذات وهي المعاني الأزلية ، التي هي كنه الربوبية فغير جائزة؛ إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت ، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام ، فلذلك قال له : { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرَّ مكانه } عند تجلي هذه الأسرار له ، { فسوف تراني فلما تجلى ربُّه للجبل } أي : أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية ، { جعله دكًا } أي : مدكوكًا مفتتًا ، والدك والدق واحد ، وقرأ حمزة : " دكاء " بالمد ، أي : أرضًا مستوية ، ومنه : ناقة دكاء لا سنم لها . { وخرَّ موسى صَعِقًا } مغشيًا عليه من هول ما رأى ، { فلما أفاق قال } تعظيمًا لما رأى : { سبحانك تُبت إليك } من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن ، وقال بعضهم : تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله : { لن تراني } حتى نظر إلى الجبل ، { وأنا أولُ المؤمنين } أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات ، أو أول أهل زماني إيمانًا .
(2/284)
الإشارة : رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين ، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص ، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان ، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء ، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها ، ثم الغيبة عن حسها ورسمها ، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل ، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات ، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده ، حتى يقول له : ها أنت وربك ، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني ، وهو حس الأكوان ، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني ، أو تقول : أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات ، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت ، كما في الحديث : " حِجَابُهُ النُّورُ ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ من خلَقِهِ " .
فالمراد بالنور نور الصفات ، وهو الأواني الحاملة للمعاني ، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كل شيء أدركه بصره . والواسطة عند المحققين هي عين عين الموسوط ، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية ، أو تقول : لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان ، فتغيب الأواني في ظهور المعاني ، فيقع العيان على فقد الأعيان ، " كان الله ولا شيء معه ، وهو الآن على ما عليه كان " ، " ما حجبك عن الحق وجود موجود معه ، إذ لا شيء معه ، وإنما حجبك توهم موجود معه " .
والحاصل : أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر ، لأن البصيرة تدرك المعاني ، والبصر يدرك الحسيات ، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر ، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة . قال بعض العارفين : هذه المزية العظمى وهي رؤية الحق تعالى في الدنيا على هذا الوجه : خاص بخواص الأمة المحمدية دون سائر الأمم وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء . وإلى ذلك أشار ابن الفارص في تائيته ، مترجمًا بلسان الحقيقة المحمدية ، حيث قال :
ودونَكَ بحرًا خُضتُهُ ، وقَف الألي ... بساحِلِه ، صَونًا لمَوضِع حُرمتي
ولا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ إشارةٌ ... لكَفَّ يدٍ صُدَّت له ، إذ تَصَّدِت
وما نالَ شيئًا منُه غيري سوى فتىً ... على قَدَمي في القبض والبسطِ ما فتى
قال شارحه القاشاني : أراد بهذا البحر : الرؤية التي مُنع منها موسى عليه السلام ، وخص بها محمد عليه الصلاة والسلام وأفراد من أتباعه . ثم قال : ورد في الخبر : أنه لما أفاق موسى عليه السلام من صعقته قيل له : ليس ذلك لك ، ذلك ليتيم يأتي من بعدك ، ثم قال : سبحانك تبتُ إليك عما تعديتُ لما ليس لي ، وأنا أول المؤمنين بتخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بهذا المقام .
(2/285)
ه .
وقيل في قوله : { فلما تجلى ربُّه للجبل } أي : جبل العقل ، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان ، وخر موسى صعقًا ، أي : ذهب وجوده في وجود محبوبه ، وحصل له الزوال في مكان الفناء والسكر ، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال : { سبحانك تبتُ إليك } من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى ، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأواني ، لا يدرك إلا بعد الصعقة ، والله تعالى أعلم .
(2/286)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
قلت : الرُّشد والرَّشَد : لغتان ، قُرىء بهما .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قال يا موسى إني اصطفيتُك } اخترتك { على الناس } الموجودين في زمانك ، وهارون ، وإن كان نبيًا ، كان مأمورًا باتباعه ، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع . فقد اصطفيتك على أهل زمانك { برسالتي } لك إليهم ، ومن قرأ بالجمع فالمراد : أوقات التبليغ بأنواع الأحكام أو أسفار التوراة ، { و } خصصتك { بكلامي } ، وقد شاركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع زيادة الرؤية ، { فخُذ ما آتيتك } أي : أعطيتك من الرسالة والتكليم ، وأقنع بهما ولا تطلب غير ذلك ، { وكن من الشاكرين } على هذه النعمة ، وفيه نوع تأديب له . رُوِي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة ، وأعطاه التوراة يوم النحر .
قال تعالى : { وكتبنا له في الألواح من كل شيءٍ } يحتاجون إليه { موعظةً } أي : تذكيرًا { وتفصيلاً لكل شيءٍ } يتوقفون عليه في الأحكام والوعظ . واختلف في الألواح : هل كانت سبعة أو عشرة أو اثنين ، وهل كانت من زمرد أو زبرجد أو ياقوت أحمر ، أو خشب ، أو صخرة صماء ، شقها الله تعالى لموسى عليه السلام فقطعها بيده ، وكان فيها التوراة .
قال تعالى لموسى عليه السلام : { فخُذهَا } أي : الألواح أو الرسالة { بقوة } أي : بجد واجتهاد ، { وأْمُرْ قومكَ يأخذوا بأحسنها } بأحسن ما فيها ، فإن فيها ما هو حسن وأحسن منه؛ كالقصاص مع العفو ، أو بواجباتها ، فإن الواجب أفضل من المندوب ، وهذا كقوله في كتابنا : { وَاتَّبِعُوَاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِكُم } [ الزُّمَر : 55 ] ، ويجوز أن يراد بالأحسن : البالغ في الحسن مطلقًا ، لا بالإضافة إلى غيره ، كقولهم : الصيف أحر من الشتاء ، فيكون الأمر بأخذ كل ما فيها لأنه بالغ الحسن ، ثم بشرهم بخراب ملك عدوهم ، فقال : { سأُريكُم دارَ الفاسقين } أي : دار فرعون وقومه خاوية على عروشها ، أي : أريكم كيف أقفَرَت منهم لمّا هلكوا ، وقيل : منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم ، لتعتبروا بها ، وقيل : جهنم .
وقرأ ابن عباس : " سأورثكم " بالثاء المثلثة ، كقوله : { وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إِسْرَآءِيلَ } [ الشُّعَرَاء : 59 ] .
{ سَأصرِفُ عن آياتي } المنصوبة في الآفاق والأنفس الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا من عجائب المصنوعات فلا يتفكرون فيها ، أو القرآن وغيره من الكتب ، أصرفُ عنها { الذين يتكبّرون في الأرض } بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ، ولا يعتبرون ، ولا يؤمنون بها ، عقوبة لهم على تكبرهم ، وقيل : الصرف : منعهم من إبطالها وإطفاء نورها ، وإن اجتهدوا ، كما فعل فرعون وغيره ، فعاد عليهم بإعلائها وإظهار نورها ، وذلك التكبر صدر منهم { بغير الحق } أي : تكبروا بما ليس بحق ، وهو دينهم الباطل .
{ وإن يروا كل آية } مُنزلةٍ أو معجزة { لا يُؤمنوا بها } لعنادهم ، واختلال نظرهم ، بسبب انهماكهم في الهوى وحب الجاه ، { وإن يَرَوا سبيل الرُّشد } أي : طريق الصواب والحق { لا يتخذوه سبيلاً } لاستيلاء الشيطان عليهم ، { وإن يَرَوا سبيلَ الغيِّ } أي : الظلال { يتخذوه سبيلاً } أي : يسلكونه ويتبعونه ، لأن سجيتهم الضلال ، { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } أي : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم الآيات .
(2/287)
{ والذين كذَّبوا بآياتنا ولقاءِ الآخرة } أي : وبلقائهم الدار الآخرة ، أو : ما وعد الله في الآخرة ، { حَبِطَت أعمالُهم } لا ينتفعون بها ، { هل يُجزَون إلا ما كانوا يعملون } أي : لا يجزون إلا مقدار أعمالهم { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [ الكهف : 49 ] .
الإشارة : كل من أقامه الله في مقام من المقامات ، أو حال من الأحوال ، كيفما كان ، يقال له : خذ ما آتيتك ، واقنع بما أوليتك ، وكن من الشاكرين عليه ، وإلا سلبناك ما أعطيناك ، فالرضا بالقسمة واجب ، وطلب باب الفضل والكرم لازب ، والأمر مُبهم ، والعواقب مُغيبة ، ومنتهى المقام على التعيين لا يعلم إلا بعد الموت . وقوله تعالى : { فخذها بقوة } أي : بجد واجتهاد . قال في الإحياء : الأخذ بالجد أن يكون القارىء متجردًا لله عند قراءته ، منصرف الهمّة إليه عن غيره ، وهو يشير للحضور .
وقول تعالى : { يأخذوا بأحسنها } قال الورتجبي : يأخذون بأبينها لهم ، وهي المحكمات التي توجب العبودية ، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها ، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين . قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالْرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ . . . } [ آل عِمرَان : 7 ] الآية . ه . وقوله تعالى : { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض } . قال القشيري : سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع ، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول ، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان . ه .
(2/288)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
قلت : { عِجلاً } : مفعول أول لاتخذ ، و { جسدًا } : بدل منه ، وحذف الثاني أي : " إلهًا " لدلالة أوله ، و { له خوار } : نعت له .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واتخذ قُوم موسى من بعده } أي : من بعد ذهابه للميقات ، { من حُليَّهم } التي كانوا استعاروها من القبط ، حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم؛ لأنها كانت تحت أيديهم ، فصنع لهم منها السامري { عِجلاً جسدًا } بلا روح ، فألقى في جوفه من تراب أثر فرس جبريل ، فصار { له خُوارٌ } ، فقال لهم : { هذا إلهكم وإله موسى } ، فعكفوا على عبادته ، واتخذوه إلهًا .
قال تعالى : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً } أي : ألم يروا ، حين اتخذوه إلهًا ، أنه لا يقدر على كلام ، ولا على إرشاد سبيل ، كآحاد البشر ، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر ، وهذا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر . قال تعالى : { اتخذوه } إلهًا { وكانوا ظالمين } في اتخاذه ، وضعوا الأشياء في غير محلها ، أي : كانت عادتهم الظلم ، فلم يكن اتخاذ العجل بدعًا منهم .
{ ولما سُقِطَ في أيديهم } ؛ كناية عن اشتداد ندمهم ، فإن النادم المتحسر يعض يده غمًا ، فتصير يده مسقوطًا فيها . أو يسقط رأسه ، أي : يطأطئها لبعض يده . وقال الدمياميني : العرب تضرب الأمثال بالأعضاء ، ولا تريد أعيانها ، تقول للنادم : يُسقط في يده ، وفي الذليل : رغم أنفه . ه . أي : ولَمَّا ندموا على ما فعلوا ، { ورأوا } أي : علموا { أنهم قد ضلّوا } باتخاذ العجل ، { قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا } بالتجاوز عن خطيئتنا ، { لنكونَنّ من الخاسرين } دنيًا وأخرى .
الإشارة : كلّ مَن ركن إلى شيء وعكف على محبته من دون الله فهو في حقه عجل يعبده من دون الله ، " ما أحببت شيئًا إلا وكنت عبدًا له ، وهو لا يحب أن تكون عبدًا لغيره " . عافانا الله من ذلك .
(2/289)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
الإشارة : { بئسما } : " ما " نكرة موصوفة : تمييز ، تفسير للضمير المستكن في ( بئس ) ، والمخصوص : محذوف ، أي : بئس شيئًا خلفتموني خلافتكم هذه ، و { ابن أم } : منادى مضاف ، منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم ، وأصله : ابن أمي ، فحذفت الياء ، وفتحت الميم تخفيفًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولما رجعَ موسى } من ميقاته { إلى قومه غضبان } على قومه ، { أسِفًا } أي : حزينًا عليهم حيث ضلوا ، { قال } لهم ، أو لأخيه ومن معه من المؤمنين : { بئسما خلفتُموني من بعدي } أي : من بعد انطلاقي إلى المناجاة ، { أعَجِلتُم أمرَ ربكم } أي : أسابقتم قضاء ربكم ووعده ، واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدَّر فيه ، أو أعجلتم عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره .
{ وألقى الألواحَ } ؛ طرحها من شدة الغضب حمية للدين ، رُوِي أن التوراة كانت سبعة أسفار في سبعة ألواح ، فلما ألقاها انكسرت ، فرفع ستةَ أسبَاعِها ، وكان فيها تفصيل كل شيء ، وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكام ، { وأخذَ برأسِ أخيه } : بشعر رأسه { يَجرُّه إليه } ؛ توهمًا في أنه قصَّر في زجرهم ، وهارونُ كان أكبر منه بثلاث سنين ، وكان حمولاً لَيِّنًا ، ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل ، ولما رأى هارونُ ما يفعل به أخروه { قال ابنَ أُمَّ } ؛ ذكر الأم ليرقّقه ، وكان شقيقًا له ، { إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني } حين أنكرتُ عليهم ، فقد بذلتُ جهدي في كفهم ، وقهروني حتى قاربوا قتلي ، فلم أُقَصِّر ، { فلا تُشمت بي الأعداء } ؛ فلا تفعل بي ما يشمتون بي ، أي : يستشفون بي لأجله ، { ولا تجعلني مع القوم الظالمين } معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة ، أو نسبة التقصير .
{ قال } موسى : { ربِّ أغفر لي } ما صنعتُ بأخي ، { ولأخي } ؛ إن فرَّط في كفَّهم ، { وأدخلنا في رحمتك } بمزيد الإنعام علينا ، { وأنت أرحمُ الراحمين } فأنت أرحم منا على أنفسنا .
قال تعالى : { إن الذين اتخذوا العِجلَ سينالُهم غضبٌ من ربهم } ؛ وهو ما أمرهم من قتل أنفسهم ، أو الطاعون الذي سلط عليهم ، { وذلةٌ في الحياة الدنيا } وهي ضرب الجزية والهوان إلى يوم القيامة ، { وكذلك نجزي المفترين } على الله ، ولا فرية أعظم من فريتهم ، حيث { قالوا هذا إلهكم وإله موسى } ، ولعله لم يفترِ أحدٌ مثلها قبلهم ولا بعدهم ، حيث جعلوا البقر إلههم وإله الرسول ، نسأل الله الحفظ .
ثم ذكر توبتهم ، فقال : { والذين عَمِلُوا السيئات } من الكفر والمعاصي ، { ثم تابوا من بعدها } ؛ من بعد السيئات { وآمنوا } واشتغلوا بما يقتضيه الإيمان من الأعمال الصالحات ، { إنَّ ربك من بعدها } من بعد التوبة { لغفورٌ رحيم } وإن عَظُم الذنب؛ كجريمة عَبَدَة العجل وكَثُر؛ كجرائم بني إسرائيل .
الإشارة : الغضب لله وبالله ، والأسف على دين الله ، من أمارة الغَيرة على دين الله ، لكنَّ صاحب هذا المقام مالك نفسه ، يظهر الغلظة ويبطن الرحمة ، قيامًا بشهود الحكمة والقدرة ، وأما ما صدر من سيدنا موسى عليه السلام فتشريع لأهل التشريع ، لئلا يقع التساهل في تغيير المناكر .
(2/290)
وساق الإمام الهروي هذه الآية في منازل السائرين في باب المراد ، وهو المخصوص من ربه بما لم يُرِده هو ولا خطر بباله ، والإشارة بذلك إلى الضَّنَائِن الذين وَرَدَ فيهم الخبر : " إنَّ للهِ ضَنَائِن من خَلقِه ، ألبَسَهُم النُور السَّاطِع ، وغذاهُم فِي رَحَمِتِه ، وفَعَلَ بِهم وفَعَلَ . . . " أورده الإمام أو نعيم في الحلية .
وحاصله : أن المُرادين هم قوم مخصوصون ، ملطوف بهم ، محمول عنهم ، ومنه : { ومَا كُنتَ تَرْجُوَاْ أَن يُلْقَىَ إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَّبِكَ } [ القَصَص : 86 ] فقد خُص عليه الصلاة والسلام بما لم يخطر على باله قبل النبوة .
قال الهروي : والمراد : ثلاث درجات : الدرجة الأولى : أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا؛ اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ ، وسد مسالك المعاطب عليه ، إكرامًا ، والدرجة الثانية : أن توضع عن العبد عوارض النقص ، ويعافيه من سمة اللائمة ، ويملكه عواقب الهفوات ، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل؛ حمله على الريح الرُخاء ، فأغناه عن الخيل ، وكما فعل لموسى عليه السلام؛ حين ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس عليهم السلام . ه .
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري : وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال ، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها ، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات وصيانة عن الآفات؛ جبرًا وقهرًا وحفظًا ، وهذا حفظ عنها؛ بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف ، فتقوى المحبة في القلب ، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة ، ومتى عرف العبد تقصيره في حق مولاه ، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه ، وإحسانه إليه ، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه ، انغرس في قلبه محبته ، وقوى بذلك نشاطه ، وخفت عليه الأعمال ، وقويت منه الأحوال ، فكلاهما محفوظ مُعَان ، إلا أن الأول قهر مع تعلقه ، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته ، ثم ذكر الدرجة الثالثة ، فانظره . ه . بنقل المحشي .
(2/291)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { لما سكت } أي : سكن { عن موسى الغضبُ } ؛ لَمَّا كان الغضب هو الحامل له على ما فعل صار كأنه كان يأمره به ويغريه عليه ، حتى عبَّر عن سكونه بالسكوت ، أي : لما سكن غضبه { أخذَ الألواحَ } التي ألقاها ، { وفي نُسختها } أي : وفيما نسخ فيها ، أي : كُتب { هُدَىً ورحمة } أي : بيان للحق وإرشاد إلى الصلاح والخير ، { للذين هم لربهم يرهبون } أي : للذين يخافون ربهم ويهابونه؛هم المنتفعون بها ، ودخلت اللام في المفعول؛ لضعف العامل بتأخره .
الإشارة : الغضب لأجل النفس يُفسد الإيمان ، كالحنظل مع العسل ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام للذي قال له : أوصني ، قال : " لا تَغضَب " ، ثم كرر عليه : أوصني ، قال : " لا تَغضَب " ، ثلاثًا ، لأن الغضب المفرط يغطي نور العقل ، فيصدر من صاحبه أمور منكرة ، قد يخرج بها عن الإيمان بالكلية ، وقد يؤدي إلى قتل نفسه والعياذ بالله ، والغضب معيار الصوفية؛ قال بعضهم : إذا أردت أن تعرف الرجل فغضبه وانظر ما يخرج منه ، إلى غير ذلك مما ورد فيه ، فإن كان غضبه لله أو بالله فلا كلام عليه ، وهو حال الأنبياء وأكابر الأولياء رضي الله عنهم .
(2/292)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ . . . } يقول الحقّ جلّ جلاله : { واختارَ موسى قومه } من قومه { سبعين رجلاً } يعتذرون عن قومهم في عبادة العجل ، { لميقاتنا } الذي وقتنا لهم يأتون إليه ، وقيل : إن الله تعالى أمره به بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل ، فاختار من كل سبط ستةً ، فزاد على السبعين اثنان ، فقال : يتخلف منكم رجلان ، فتشاجروا ، فقال : إن لِمن قعد أجر من خرج ، فقعد كالب ويوشع ، وذهب معه الباقون ، فلما دنوا من الجبل غشية غمام ، فدخل موسى بهم الغمام وخروا سُجدًا ، فسمعوه يكلم موسى ، يأمره وينهاه ، ثم انكشف الغمام ، فأقبلوا إليه ، وقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً } [ البَقَرَة : 55 ] ، { فأخذتهم الرجفة } أي : الصعقة ، أو رجفة الجبل ، عقابًا لهم على قولهم ، فصعقوا منها ، يحتمل أن تكن رجفة موت أو إغماء . والأول أظهر؛ لقوله : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } [ البَقَرَة : 56 ] .
{ فلما أخذتهُم الرّجفَةُ قال } موسى : { ربِّ لو شئتَ أهلكتَهم من قبل وإيّايَ } ، تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ذلك الوقت ، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه ، إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين ، ربما قالوا : عرّضهم للهلاك ، أو يكون قال ذلك على وجه الاستسلام والانقياد للقضاء ، أي : لو شئت أن تُهلكنا من قبل ذلك لفعلت ، فإنا عبيدك وتحت قهرك تفعل بنا ما تشاء ، أو يكون قاله على وجه التضرع والرغبة ، أي : لو ئشت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت ، لكنك عافيتنا وأنقذتنا وأغرقت عدونا ، فافعل بنا الآن كما عودتنا ، وأحيي هؤلاء الذي أمتهم ، إذ ليس ببعيد من عميم إحسانك ، { أَتُهلِكُنا بما فعلَ السفهاءُ منّا } من العناد والتجاسر على طلب الرؤية ، أو بما فعل السفهاء من عبادة العجل .
{ إن هي إلا فتنتُك } أي : ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك ، حتى طمعوا في الرؤية ، أو فتنتك لهم بأن أجريت الصوت من العجل حتى افتتنوا به ، وهذا اعتراف بالقدر ، ورجوع إلى قوله : { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ . . . } [ طه : 85 ] الآية ، ولذلك قيل : إنه قال له تعالى : نعم هي فتنتي يا حكيم الحكماء . ه . أي : ما هذه الأمور كلها التي صدرت من بني إسرائيل إلا فتنتك { تُضلَّ بها من تشاء } ضلالته ، باتباع المخايل ، { وتهدي من تشاء } هدايته ، فيقوي بها إيمانه ، وهو اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته .
{ أنت وليُّنا } القائم بأمرنا ، أو ناصرنا من الوقوع في أسباب المهالك ، { فاغفر لنا } ما قارفنا من الذنوب ، { وارحمنا } أي : اعصمنا من الوقوع في مثله ، { وأنت خير الغافرين } ؛ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة ، { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } أي : حالة حسنة من حسن معيشة وتوفيق طاعة ، { وفي الآخرة } حسنة؛ نعيم الجنة ، { إنا هُدنا إليك } أي : تبنا إليك ، من هادَ يهود : إذا رجع ، أي : رجعنا إليك بالتوبة مما سلف منا .
(2/293)
الإشارة : السلامة من العطب هو في مقام الهيبة والأدب ، ولذلك قيل : قف بالبساط ، وإياك والانبساط . وأما مقام الإدلال فلا يصح إلا من أكابر الأنبياء ، والأولياء المحققين بمقام المحبوبة ، المتحَفين بغاية الخصوصية ، ومنه قول سيدنا موسى عليه السلام : { أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } ، كما قال في الإحياء . والإدلال : هو انبساط يثور من مقام الأنس والتحقق بالمحبة الخاصة ، ولا يتفق إلا من محبوب مأخوذ عنه ، ليس عليه بغية من نفسه ، ولا شعور بوجوده وأنانيته ، وإلا ردّ في وجهه وكان سبب عطبه . ومن الإدلال : ما وقع لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه في حزبه الكبير ، من قوله : وليس من الكرم إلا تحسن إلا لمن أحسن إليك . . . الخ . وقد وقع لغيره من المحبوبين . والله تعالى أعلم .
ثم أجاب الحق سبحانه وتعالى سؤال موسى عليه السلام في قوله : { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } فقال :
{ . . . قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ أولئك هُمُ المفلحون }
يقول الحقّ جلّ جلاله : في جواب سيدنا موسى عليه السلام : { قال عذابي أُصيب به من أشاءُ } ممن أخذّته الرجفة وغيرهم ، { ورحمتي وَسِعت كلَّ شيء } في الدنيا للمؤمنين والكافرين ، وفي الآخرة مخصوصة بالمؤمنين ، { فسأكتبها } كتابة خاصة لا تليق بكم يا بني إسرائيل ، إنما تليق بالأمة المحمدية الموسومة بالآداب المرضية ، الذين { يتقون } الكفر والمعاصي ، وإن وقعت هفوة بادروا إلى التوبة ، { ويُؤتون الزكاة } ، خصصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم . { والذين هم بآياتنا يؤمنون } فلا يكفرون بشيء منها ، بل يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء ، وليس ذلك لغيرهم . ولذلك خصهم الله بهذه الرحمة؛ فَنَصرَهم على جميع الأمم ، وأعلى دينهم على جميع الأديان ، ومكّن لهم ما لم يمكن لغيرهم .
{ الذين يتبعون الرسول } صلى الله عليه وسلم { النبي الأميَّ } وهو نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم ، وكونه أُميًّا شرفٌ له ، إذ الكتابة وسيلة للعلوم ، وقد أُعطي منها ما لم يُعطَ أحَدٌ من العالمين ، من غير تعب تعلمها ، ولارتفاع الارتياب في نبوته صلى الله عليه وسلم ، فهي من جملة معجزاته؛ قال تعالى :
(2/294)
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ . . . } [ العَنكبوت : 48 ] الآية . قال بعضهم : لما قال الله تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } طمع فيها كل أحد ، حتى إبليس ، فلما قال : { فسأكتبها للذين يتقون } يئس إبليس ، وبقيت اليهود والنصارى ، فلما قال : { الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ } يئس اليهود والنصارى . ه .
{ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل } اسمًا وصفة ، ونص ما في التوراة على ما في صحيح البخاري ، عن عبد الله بن سلام : " يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونَذِيرًا ، وحِرزًا للأمِّيينَ ، أنتَ عَبدِي ورَسُولِي ، سَمَّيتُكَ المُتَوكلَ ، لِيسَ بفظٍ ولا غليظ ولا صَخَّابِ في الأسوَاقُ ، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةَ السَّيِّئة ، ولكِن يَعَفُو ويَصفَحُ ، ولَن يَقبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ؛ بِأن يَقُولُوا : لا إله إلاَّ الله ، فَيفَتَح بِها أعيُنًا عُميًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقُلُوبًا غُلفًا " .
ومما في التوراة أيضًا ، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب ، وهو باق في أيديهم إلى الآن؛ أن الملك قد نزل على إبراهيم ، فقال له : في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق ، فقال إبراهيم : يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك ، فقال الله لإبراهيم : ذلك لك ، قد استجيب لك في إسماعيل ، وأنا أباركه ، وأنميه ، وأكثره ، وأعظمه بما ذماذ ، وتفسيره : محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ذلك مما في التوراة أيضًا : أن الرب تعالى جاء من طور سيناء ، وطلع على " ساغين " ، وظهر من جبل فاران ، ويعني طور سيناء : موضع مناجاة موسى ، وساغين موضع عيسى ، وفاران هي مكة ، موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي التوراة أيضًا : أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة ، تراءى لها ملكٌ ، فقال لها : يا هاجر ، أين تريدين ، ومن أين أقبلتِ؟ فقالت : أهرب من سيدتي سارة ، فقال لها : يا هاجر ، ارجعي إلى سارة ، وستحملين وتلدين ولدًا اسمه إسماعيل ، وهو يكون عَين الناس ، وتكون يده فوق الجميع ، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع . ه .
وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو مكانه ، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده ، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه ، وفي التوراة أيضًا : أن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام : قد أجبت دعاءك في إسماعيل ، وباركت عليه ، وسيلد اثني عشر عظيمًا ، وأجعله لأمة عظيمة . وفي بعض كتبهم : لقد تقطعت السماء من بهاء مُحمدٍ المحمود ، وامتلأت الأرض من حمده ، لأنه ظهر بخلاص أمته . ه . ونص ما في الإنجيل : أن المسيح قال للحواريين : إني ذاهب عنكم ، وسيأتيكم الفارقَليط ، الذي لا يتكلم من قِبل نفسه ، إنما يقول كما يقال له . ه . والفارقليط بالعبرانية : اسم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل معناه : الشافع المشفع .
(2/295)
وعن شَهر بن حَوشبٍ في قصة إسلام كعب الأحبار ، وهو من اليمن من حمير : أن كعبًا أخبره بأمره ، وكيف كان ذلك ، وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل ظهوره ، قال كعب : وكان أبي من أعلم الناس بالتوراة وكُتب الأنبياء ، ولم يكن يدخر عني شيئًا مما كان يعلم ، فلما حضرته الوفاة دعاني فقال : يا بني ، قد علمتَ أني لم أكن أدخر عنك شيئًا مما كنتُ أعلم ، إلا أني حَبَستُ عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يُبعث ، وقد أطل زمانه ، فكرهت أن أخبرك بذلك ، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين فتتبعه ، وقد قطعتهما من كتابي ، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى ، وطينت عليهما ، فلا تتعرض لهما حتى يخرج هذا النبي ، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما ، فإن الله تعالى يزيدك بهذا خيرًا ، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إليّ من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين ، فإذا فيهما : " محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خاتم النبيين لا نبي بعده ، مولده بمكة ، ومهاجره طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ، ويعفو ويغفر ويصفح ، أمته الحمَّادون ، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال ، وتُذلل ألسنتهم بالتكبير ، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه ، يغسلون فروجهم بالماء ، ويتأزرون على أوساطهم ، وأنَاجِيلُهُم في صدورهم ، ويأكلون قربانهم في بطونهم ، ويؤجرون عليها ، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب ، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم ، وهم السابقون المقربون ، والشافعون المشفع فيهم " ثم أسلم على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بقية أوصاف نبينا عليه الصلاة والسلام : { يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحِلُّ لهم الطيبات } مما حرم على اليهود؛ كالشحوم وغيرها ، { ويُحرَّم عليهم الخبائث } كالدم والحم الخنزير وسائر الخبائث ، أو كالربا والرشوة وغيرهما من المحرمات . قال ابن جزي : مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال ، وأن الخبائث هي الحرام . ومذهب الشافعي : أن الطيبات هي المستلذات ، إلا ما حرمه الشرع منها ، كالخمر والخنزير ، وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب . ه .
{ ويضعُ عنهم إصرَهم } أي : الثقل الذي عليهم ، وهو مثال لما كُلفوا به أي : بنو إسرائيل في شرعهم من المشقات؛ كقتل الأنفس في التوبة ، وقطع موضع النجاسة من الثوب ، وتعيين القصاص في العمد والخطأ . { والأغلآل التي كانت عليهم } ؛ عبارة عما منعت منه شريعتهم ، كتحريم الشحوم ، وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك . { فالذين آمنوا به وعزّرُوه } أي : منعوه وحفظوه من عدوه ، حتى لا يقوى عليه ، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر ، وأصله : المنع ، ومنه التعزير ، { ونصروه } حتى أظهروا دينه في حياته وبعد مماته ، { واتبعوا النورَ الذي أُنزل معه } وهو القرآن ، وإنما سماه نورًا؛ لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره ، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها .
(2/296)
{ أولئك هم المفلحون } الفائزون بالرحمة الأبدية ، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السلام .
الإشارة : قوله تعالى { ورحمتي وسعت كل شيء } ، قال القشيري : لم يُعَلَّقها بالمشيئة يعني : كما قال في العذاب لأنها نفس المشيئة ، ولأنها قديمة ، والإرادة لا تتعلق بالقديم ، فلمَّا كان العذاب من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة ، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات . ويقال في قوله تعالى : { وسعت كل شيء } : مجالٌ لآمال العُصَاة؛ لأنهم ، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين ، فيهم " شيء " . ه .
قلت : وبهذا العموم تشبث إبليس في قضية له مع سهل ، وذلك أنه لما تراءى له ، ضحك ، فقال له : كيف تضحك وقد أبلست من رحمة الله؟ فقال له : قال تعالى : { ورحمتي وسعت كل شيء } وأنا شيء فسكت سهل ، ثم تذكر تما الآية ، فقال : قال تعالى : { فسأكتبها للذين يتقون } ، فهي مُقيدة لا مطلقة ، فقال له : التقوى فعل العبد ، والرحمة صفة الرب ، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد ، فعجز سهل .
قلت : والجواب : أن إبليس جاء من جهة الفرق ، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه ، والتقوى فعله ، وفعله يغير وصفه ، والكل منه وإليه . والله تعالى أعلم .
وقال الورتجبي : جميع الخلائق مستغرقون في بحر الرحمة ، لأن إيجاد الحق إياهم ، على أي : وصف كانوا ، عين رحمته ، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته ، ومباشرة قدرته فيهم ، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة فالجمادات مستغرقة في نور فعله ، وهي الرحمة الفعلية ، والحيوانات مستغرفة في نور صفاته ، وهي الرحمة الصفاتية ، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون في نور ذاته ، وهي الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته ، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها ، في الرحمة العامة ، ومن جهة الأرواح وما يجري عليها ، في الرحمة الخاصة ، وهم فيها بالتفاوت ، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا ، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا ، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا ، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة ، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم ، وفنى عن الرحمة ، فصار رحمة للعالمين ، وهذا وصف نبينا عليه الصلاة والسلام ، لأنه وصل بالكل إلى الكل ، فوصفه برحمة الكل بقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إَلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الأنبيَاء : 107 ] ، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية ، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير الله ، القانتين بعظمته في عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله : { فسأكتبها للذين يتقون . . . } . ه .
قال في الحاشية : واعتبر قوله : { فسأكتبها } ، فإنه يقتضي كون الرحمة السابقة مطلقة ، والتغيير طارىء ، والطارىء لا ينافي الذات .
(2/297)
ه .
قلت : فتكون على هذا الرحمة التي وسعت كل شيء رحمة عامة ، إذ لا يخلو مخلوق من رحمته في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فالخلق كلهم مرحومون إيجادًا وإمدادًا ، وأما في الآخرة فما من عذاب إلا والله أشد منه في قدرته ، والرحمة التي كتبت للمتقين رحمة خاصة ، ويدل على هذا ما في القوت على قوله : { فسأكتبها للذين يتقون } ، قال : معناه خصوص الرحمة وصفوها لا كلها ، إذ لا نهاية للرحمة ، لأنها صفة الراحم الذي لا حد له ، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء ، كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء . ه .
وقال السيوطي : فسأكتبها في الآخرة ، ووجه تخصيصها في الآخرة بالمؤمنين : تمحضها هنالك من غير شوب بضد ، ولا كذلك في الدنيا ، وإن كانت غالبة ، والكافر عمته في الدنيا عمومًا ظاهرًا ، وسلب منها في الآخرة بحسب الظاهر ، وإن لم يخل عنها في الجملة ، لأن عضبه تعالى لا حدّ له لولا رحمته .
وحاصله : أنه لم تفي جهنم بغضبه ، لأنه لا يفي المتناهي بغير المتناهي ورحمته عمت الكافر في الدنيا لإمهاله وبسط نعمه عليه ، وفي الإمهال فسحة في الحال وأمل الإقلاع في المآل ، وقد يتفق كثيرًا ، أي : الإقلاع ، فلا يتعين أن يكون الإمهال استدراجًا ، على أنه إنما يتجلى تجليًا أوليًا ذاتيًا برحمة مطلقة من غير تفصيل ، إذ لا تعدد في الذات ، وإنما يظهر التفصيل بالصفات ، وإن كان يسري إليها من الذات ، ولكن الرحمة تظهر أولاً من الذات ، مع قطع النظر عن الصفات؛ لظهورها ، ولا تظهر النقمة إلا من الصفات ، وهي خفية في تجلي الذات المطلق ، ولذلك قال : { ورحمتي وسعت كل شيء } ، وعلق العذاب على المشيئة ، فخص به دونها . ه . من الحاشية مع زيادة بيان .
(2/298)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } يا محمد : { يا أيها الناس إَني رسولُ الله إليكم جميعًا } ؛ الأحمر والأسود ، والعرب والعجم ، والإنس والجن ، خص بهذه الدعوة العامة ، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة . فادع الناس أيها الرسول إلى الله تعالى ، { الذي له ملك السماوات والأرض } يتصرف فيهما كيفما شاء ، { لا إله إِلا هو } ؛ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير ، { يُحيي ويميت } ؛ لعموم قدرته ونفوذ أمره ، { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي الذي يُؤمن بالله وكلماته } أي : ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه . وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة ، أي : ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه . وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة ، أي : لم يقل : فآمنوا بالله وآمنوا؛ لإجراء هذه الصفات عليه ، الداعية إلى الإيمان به وأتباعه ، ولذلك قال : { واتبعوه لعلكم تهتدون } إلى طريق الحق والرشد ، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين؛ تنبيهًا على أن من صدّقه ، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة . قاله البيضاوي .
الإشارة : لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو بلغ ما بلغ ، لقوله تعالى : { واتبعوه لعلكم تهتدون } ، وغاية الاهتداء غير متناهية ، لأن آدب العبودية مقرونٌ مع عظمة الربوبية ، فكما أن الترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له ، كذلك أدب العبودية لا نهاية له ، ولا تُعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام ، فواسطة النبي صلى الله عليه وسلم لا تفارق العبد ، ولو عرف ما عرف ، وبلغ ما بلغ . والله تعالى أعلم .
(2/299)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ومن قوم موسى } ، يعني بني إسرائيل ، { أمةٌ } طائعة { يهدون } الناس بكلمة الحق ، أو متلبسين { بالحق } ؛ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعباده العجل ، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف ، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، { وبه } أي : بالحق { يعدِلُون } في أحكامهم وقضاياهم . قال البيضاوي : أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن؛ تنبيهًا على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر . ه .
الإشارة : في كل أمة ، وفي كل عصر ، أمة صالحة ، يُبَصِّرُونَ الناس بالحق ، ويدعون إلى الله ، فمنهم مَن يهدي إلى تزيين الظواهر بالشرائع ، وهم العلماء الأتقياء ، ومنهم من يَهدي إلى تنوير السرائر بالحقائق ، وهم الصوفية الأولياء ، المحققون بمعرفة الله . وبالله التوفيق .
(2/300)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
قلت : { أسباطًا } : بدل لا تمييز؛ لأن تمييز العدد يكون مفردًا ، والتمييز محذوف ، أي : فرقة أسباطًا . وقال الزمخشري : يصح تمييزًا؛ لأن كل قبيلة أسباطٌ لا سبط . ه . فكأنه قال : وقطعناهم اثنتي عشر سبطًا سبطا . والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب ، و { أُممًا } : بدل بعد بدل على الأول ، وعلى الثاني بدل من أسباط .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقطَّعناهم } أي : بني إسرائيل : فرقناهم { أثنتي عشر أسباطًا } ؛ أثني عشر سبطًا ، { أُممًا } : متميزة ، كل سبط أمة مستقلة ، { وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه } في التيه ، { أن اضرب بعصاك الحجر فانبجَست } ؛ انفجرت ، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار ، أي : فضرب فانبجست ، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف في الامتثال ، وأن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل ذاته ، بل سبب عادي وحكمة جارية ، والفعل إنما هو القدرة الإلهية ، أي : نبعت { منه اثنتا عشرةَ عينًا قد علم كلُّ أُناس } ؛ كل سبط { مشربهم وظلّلنا عليهم الغمام } لتقيهم من حرّ الشمس ، { وأنزلنا عليهم المنَّ والسلوى } ، وقلنا لهم : { كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } سبق في سورة البقرة ، وكذلك الإشارة .
(2/301)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إذ قيلَ } لبني إسرائيل : { اسكنوا هذه القرية } ؛ بيت المقدس ، { وكُلوا منها حيث شئتم وقولوا } : أمرنا { حِطةٌ وادخلوا الباب سُجّدًا } سجود أنحناء ، { نغفر لكم خطيئاتِكم } التي سلفت ، { سنزيد المحسنين } ؛ وعد بالغفران والزيادة عليه ، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف ، يعني : سنزيد ، ولم يقل : وسنزيد؛ للدلالة على أنه تفضل محض ، ليس في مقابلة ما أمروا به ، { فبدل الذين ظلموا منهم قولاً غير الذي قيل لهم } ؛ قالوا : حبة في شعرة ، مكان حطة ، لأنهم حملوا الحطة؛ على الحنطة . { فأرسلنا عليهم رجزًا من السماء بما كانوا يظلمون } قد مر تفسيره ، وإشارته ، في سورة البقرة .
تنبيه : وقع اختلاف كثير في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة ، في { انفجرت } و { انبجست } ، وقوله : { وإذ قلنا ادخلوا } و { إذا قيل لهم اسكنوا } ، وقوله هنا : { وكُلُوا } ، وهناك { فكُلُوا } . فقال الزمخشري : لا بأس باختلاف العبارتين ، إذا لم يكن هناك تناقض . ووجّه بعضهم الفرق بأن ما في هذه السورة سيق في محل الغضب والعقاب على عبادة العجل ، وما في سورة البقرة سيق في محل الامتنان ، فلذلك عبَّر هنا بانبجست؛ لأنه أقل من انفجرت ، وعبَّر هنا بقيل؛ مبنيًا للمجهول؛ تحقيرًا لهم أن يذكر نفسه لهم ، وعبَّر هنا بالسكنى؛ لأنه أشق من الدخول ويستلزمه ، وعبَّر هنا بالواو؛ لأن السكنى تجامع الأكل ، بخلاف الدخول ، فإن الأكل مسبب عنه ، فعبَّر بالفاء ، وزاد في البقرة الواو في : { سنزيد } ، كأنه نعمة أخرى ، بخلاف هذا ، وزاد هنا { منهم } ؛ لتقدم ذكرهم في قوله : { وإذ قيل لهم } ، وعبّر هنا بالظلم؛ لأنه أعم من الفسق وغيره . والله تعالى أعلم .
(2/302)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قلت : { إذ يَعْدُون } : بدل من { القرية } ، بدل اشتمال ، أو منصوب بكانت ، أو بحاضرة و { إذ تأتيهم } : منصوب بيعدون ، و { سبتهم } : مصدر مضاف للفاعل ، يقال : سبت اليهود سبتًا : إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه ، و { شُرَّعًا } : حال ، ومعناه : ظاهرة قريبة منهم ، يقال : شرع منه فلان إذا دنا منه .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واسألهم عن القرية } أي : اليهود ، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم ، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي ، وقد تحققوا أنك أُمي ، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم ، { عن القرية } أي : عن خبرها وما وقع لها ، { التي كانت حاضرةَ البحر } قريبة منه ، وهي " إيلة " ، قرية بين مدين والطور ، على شاطىء البحر ، وقيل : مدين ، وقيل : طبرية ، { إذ يَعدُون في السّبِت } : يتجاوزون حدود الله بالاصطياد في يوم السبت ، وكان حرامًا عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة ، { إذ تأتيهم حيتانُهم يوم سبتهم شُرّعًا } : ظاهرة على وجه الماء ، دانية منهم ، { ويوم لا يَسبِتُون لا تأتيهم } بل تغوص كلها في البحر ، { كذلك } أي : مثل هذا البلاء الشديد { نَبلوهم بما كانوا يفسقون } أي : بسبب فسقهم . وقيل " كذلك " : متصل بما قبله ، أي : لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت .
ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق : فرقة عصت بالصيد يوم السبت ، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم ، وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص . { وإذ قالت أُمةٌ منهم } ، وهي التي لم تنه ولم تعص . لَمَّا رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية : { لِمَ تَعِظُون قومًا اللهُ مهلكهم } بالموت بصاعقة ، { أو معذبهم عذابًا شديدًا } في الآخرة؟ { قالوا } : نهينا لهم { معذرة إلى ربكم } أي : عذرًا إلى الله تعالى ، حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر ، { ولعلهم يتقون } فينزجرون عن العصيان ، إذ اليأس منهم لا يحصل إلا بالهلاك .
{ فلما نَسُوا ما ذُكِّروا به } أي : تركوا ما وُعظوا به ترك الناسي ، { أنجينا الذين ينهون عن السوءِ وأخذنا الذين ظلموا } ؛ بالاعتياد ومخالفة أمر الله ، { بعذابٍ بئيس } : شديد ، من بؤس يبؤس بؤسًا ، وقرىء ( بيْئَسٍ ) على وزن ضيغم ، و " بِئْس " بالكسر والسكون ، كحذر ، وبيس بتخفيف الهمزة ، ومعناها واحد ، أي : بما عاقبناهم بالمسخ ، { بما كانوا يفسقون } أي : بسبب فسقُهم .
قال ابن عباس : لا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة؟ وقال عكرمة : لم تهلك؛ لأنها كرهت ما فعلوه . ورجع إليه ابن عباس وأعجبه ، لأن كراهيتها تغيير المنكر في الجملة ، مع قيام الفرقة الناهية به؛ لأنه فرص كفاية . قال تعالى : { فلما عتوا عما نُهوا عنه } ؛ تكبرًا عن ترك ما نُهوا عنه ، { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } أذلاء صاغرين .
(2/303)
قال البيضاوي : { قلنا لهم كونوا } ، وهو كقوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذَّبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك ، فمسخهم قردة وخنازير ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلاً للأولى .
رُوِي أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين ، كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق ، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين ، فقالوا : إن لهم شأنًا ، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة ، فلم يعرفوا أنسباءهم ، ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم ، وتدور باكية حولهم ، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام . ه .
الإشارة : المسخ على ثلاثة أقسام : مسخ الأشباح ، ومسخ القلوب ، ومسخ الأرواح ، فمسخ الأشباح هو الذي وقع لبني إسرائيل ، قيل : إنه مرفوع عن هذه الآمة ، والصحيح : أنه يقع في آخر الزمان ، ومسخ القلوب يكون بالانهماك في الذنوب ، والإصرارعلى المعاصي ، وعلامته : الفرح بتيسير العصيان ، وعدم التأسف على ما فاته من الطاعة والإحسان ، ومسخ الأرواح : الانهماك في الشهوات ، والوقوف مع ظواهر الحسيات ، أو تكثيف الحجاب ، والوقوف مع العوائد والأسباب ، دون مشاهدة رب الأرباب . والله تعالى أعلم .
(2/304)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قلت : { تأذن } : أعلم ، وهي تفعل ، وهي من الإيذان بمعنى الإعلام ، كتوعّد وأوعد ، أو : عزم ، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله ، وأجرى مجرى القسم كعَلِم الله وشهد الله ، ولذلك أجيب باللام القسمية .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إذ تأَذَّن ربُّك } أي : أعلم وأظهر ذلك في عالم الشهادة ، { ليبعثنَّ } على بني إسرائيل ، أيك ليسلطن { عليهم إلى يوم القيامة مَن يسومُهم سُوءَ العذابِ } ؛ كالإذلال وضرب الجزية ، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بُختنصر ، فخرب ديارهم ، وقتل مقاتلتهم ، وسبى نساءهم وذراريهم ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وكانوا يؤدونها إلى المجوس ، حتى بعث الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ففعل بهم ما فعل ، في بني قريظة والنضير وخبير ، ثم ضرب الله عليهم الجزية إلى آخر الدهر ، { إن ربك لسريع العقاب } فعاقبهم في الدنيا ، { وإنه لغفور رحيم } لمن تاب وآمن ، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما في آخر الأنعام ، لأن ما هنا في اليهود ، وما في آخر الأنعام في المؤمنين ، فأكد ما هنا باللام ، فقال : { لسريع العقاب } ؛ زيادة في توبيخهم ونكالهم .
الإشارة : مواطن الذل والهوان هو الانهماك في المخالفة والعدوان ، وقد ينسحب ذلك في الذرية إلى آخر الزمان ، فإن الله تعالى يقول : أنا الملك الودود ، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود ، ومواطن العز والحرمة والأمان : هو الطاعة والتعظيم والإحسان ، ينسحب ذلك على الأحفاد ، إلى منتهى الزمان ، فإن الله تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد . وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون في آخر الزمان من الفتن والفساد ، فقال بعضهم : يا ليتني كنت عقيمًا أو لم أتزوج ، فقال له من هو أكبر منه : ألا أدلك على ما يحفظ الله عقبك؟ قال : نعم ، دلني ، قال : قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً . . . } [ النِّساء : 9 ] الآية . وبالله التوفيق .
(2/305)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
قلت : { أُمَمًا } : مفعول ثانٍ لقطَّعنا ، أو حال ، وجملة { منهم الصالحون } : صفة ، وجملة { يأخذون } : حال من فاعل ورثوا ، و { يقولون } عطف على { يأخذون } ، أو حال ، والفعل من { سيغفر } : مسند إلى الجار والمجرور ، أو إلى مصدر { يأخذون } ، و { أن لا يقولوا } : عطف بيان من { ميثاق الكتاب } ، أو تفسير له ، أو متعلق به ، أي : لأن لا يقولوا ، و { درسوا } : عطف على { ألم يُؤخذ } من حيث المعنى ، أي : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه ، أو حال ، أي : وقد درسوا ، و { الذين يُمَسِّكُون } : مبتدأ ، وجملة : { إنا لا نضيع أجر المصلحين } : خبر ، والرابط : ما في المصلحين من العموم ، فوضع موضع الضمير؛ تنبيهًا على أن الإصلاح كالمانع من التضييع ، أو حذف العائد ، أي : منهم ، ويحتمل أن يكون عطفًا على { الذين يتقون } أي : خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وقطَّعناهم } أي : فرقناهم { في الأرض أُممًا } : فرقًا ، ففي كل بلد من البلدان فرقة منهم ، فليس لهم إقليم يملكونه ، تتمةً لإذلالهم ، حتى لا تكون لهم شوكة قط ، { منهم الصالحون } وهو من تمسك بدين التوراة ، ولم يحرف ، ولم يفرق ، أو من آمن منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في زمانه وبعده ، { ومنهم دون ذلك } أي : ومنهم ناس دون ذلك ، أي : منحطون عن الصلاح ، وهم كفرتهم وفسقتهم ، { وبلوناهم } أي : اختبرناهم { بالحسنات والسيئات } أي : بالنعم والنقم ، { لعلهم يرجعون } ؛ ينتبهون فينزجرون عمًّا هُم عليه .
{ فخلَفَ من بعدهم خلفٌ } أي : فخلف ، من بعد الأولين ، خلف ، أي : بدل سوء ، وهو مصدر نعت به ، فالخلف ، بالسكون ، شائع في الشر ، يقال : جعل الله منك خلفًا صالحًا . والمراد بالخلف في الآية : اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ، { وَرِثوا الكتابَ } ؛ التوراة ، من أسلافهم ، يقرؤونها ويقفون على ما فيها ، { يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى } ؛ حطام هذا الشيء الحقير ، من الدنو ، أو من الدناءة ، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الأحكام ، وعلى تحريف الكلام ، { ويقولون سيُغفرُ لنا } ؛ لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه ، اغترارًا وحمقًا .
{ وإن يأتهم عَرَضٌ مثلُه يأخذوه } أي : يرجون المغفرة ، والحال أنهم مصرون على الذنب ، عائدون إلى مثله ، غير تائبين منه ، { ألم يُؤخذْ عليهم ميثاقُ الكتاب } أي : في الكتاب ، وهو التوراة ، { أن لا يقولوا على الله إِلا الحق } ، وهو تكذيب لهم في قولهم : { سيُغفر لنا } ، والمراد : توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة ، والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب ، { ودَرَسُوا ما فيه } أي : وقد درسوا ما فيه ، وعلموا ما أُخذ عليهم فيه من المواثيق ، ثم تجرأوا على الله ، { والدارُ الآخرة خير للذين يتقون } مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني .
(2/306)
{ أفلا يعقلون } فيعلموا ذلك ، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدي إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد في دار الثواب ، ومن قرأ بالخطاب فهو لهم ، من باب التلوين في الكلام .
{ والذين يُمَسِّكُون بالكتاب } أي : يتمسكون بالتوراة ، { وأقاموا الصلاة } المفروضة عليهم ، { إنا لا نضيع أجر المصلحين } منهم . وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام ، أو : والذين يمسكون بالقرآن ، { وأقاموا الصلاة } مع المسلمين ، { إن لا نضيع أجر المصلحين } .
الإشارة : تفريق النسب في البلدان ، إن كان في الذل والهوان ، فهو من شؤم المخالفة والعصيان ، وإن كان مع العز وحفظ الحرمة ، فقد يكون لقصد الخير والبركة ، أراد الله أن يُنمي تلك البلاد ، بنقل ذلك إليها ، كأولاد الصالحين والعلماء وأهل البيت . ويؤخذ من قبوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون } ، أن العبد مأمور بالرجوع إلى الله في السراء والضراء ، في السراء بالحمد والشكر ، وفي الضراء بالتسليم والصبر .
ويؤخذ من مفهوم قوله : { وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار . وفي قوله : { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب . . . } الآية ، تحذير لعلماء السوء . وقوله : { والذين يُمسكون بالكتاب . . . } الآية ، أي : والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح ، { إنا لا نضيع أجر المصلحين } مع عامة أهل اليمين ، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب التي هي العكوف في الحضرة حضرة الغيوب إنا لا نضيع أجر المصلحين لقلوبهم ، وهو شهود رب العالمين مع المقربين ، في حضرة الأنبياء والمرسلين ، جعلنا الله منهم وفي حزبهم ، آمين .
(2/307)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قلت : جملة { خُذوا } : محكية ، أي : وقولنا لهم : خذوا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { إِذْ نَتقْنا } أي : قلعنا ورفعنا { الجبلَ فَوقَهم } أي : فوق بني إسرائيل ، { كأنه ظُلّة } أي : سقيفة ، والظلة : كل ما أظلك ، { وظنّوا } أي : تيقنوا { أنه واقع بهم } أي : ساقط عليهم بسبب عصيانهم؛ لأن الجبل لا يثبت في الجو؛ لأنهم كانوا يوعدون به ، وإنما عبَّر بالظن؛ لأنه لم يقع بالفعل حين الظن ، وسبب نتق الجبل أنهم امتنعوا من أحكام التوراة ، فلم يقبلوها؛ لثقلها ، فرفع الله الطور فوقهم ، وقيل لهم : إن قبلتم ما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم ، فقلنا لهم حين الرفع : { خُذُوا ما آتيناكم } من الأحكام { بقوةٍ واذكروا ما فيه } بالعمل به ، ولا تتركوه كالمنسى ، { لعلكم تتقون } قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق .
الإشارة : من لم ينقد إلى الله بملاطفة الإحسان ، قيد إليه بسلاسل الامتحان ، عجب ربك من قوم يُساقون إلى الجنة بالسلاسل .
(2/308)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
قلت : { من ظهورهم } : بدل من { بني آدم } ، أي : من ظهور بني آدم ، و { ذريتهم } : مفعول به ، و { بلى } : حرف جواب ، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي ، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير ، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي ، نحو : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشّرح : 1 ] ، فيجاب ببلى ، أي : شرحت ، وكذا نظائرها ، ومنه : { إلست بربكم . . . } الآية .
وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي ، كما في الحديث : " أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ؟ قالوا : بلى " ولكنه قليل ، فلا يُقاس عليه ، بل يوقف على ما سمع ، والكثر : أنها جواب للنفي ، ومعناها : إثبات ما نفي ، ورفع النفي ، لا إثباته وتقريره ، بخلاف " نعم "؛ فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي ، ولذا قال ابن عباس : ( ولو قالوا : نعم ، لكفروا ) ، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة ، ثم الكثير : مراعاة صورة النفي ، فيجاب ببلى ، وقد ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي ، فيصير الكلام إيجابًا ، فيصح الجواب بنعم في الجملة ، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية : انظر المغني . وقوله : { أن تقولوا } : مفعول من أجله .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكروا { إِذْ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم } ؛ من ظهور بني آدم { ذريَّتهم } ؛ وذلك أن الله تعالى لَمَّا خلق آدم ، وأهبطه إلى الأرض ، أخرج من صلبه نسيم بنيه ، بعضهم من صلب بعض ، على نحو ما يتوالدون ، قرنًا بعد قرن كالذر ، وكان آدم بنَعمان ، وهو جبل يواجه عرفة ، وقال لهم حين أخرجهم : { ألستُ بربكم } ؟ فأقروا كلهم ، و { قالوا بلى } أنت ربنا ، { شهِدْنا } بذلك على أنفسنا ، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة ، علاّمة دَرَّاكة ، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة ، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد ، فمن أقرّ به نجا ، ومن أنكره هلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل ، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن أيجادهم في الدنيا ، وأما إشهادهم فمعناه : أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته ، وشهدت بها عقولهم ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم ، وقال : { ألست بربكم } ؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال : أنت ربنا .
والأول هو الصحيح؛ لتواتر الأخبار به ، فقوله : { شَهِدنا } : هو من تمام الجواب ، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك ، فينبغي أن يوقف عليه ، وقيل : إنَّ { شهدنا } : من قول الله أو الملائكة ، فيوقف على { بلى } ، لكنه ضعيف .
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ ، فقال : { إن تقولوا } أي : فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا { يوم القيامة إِنا كنا عن هذا غافلين } ، أو كراهية أن تقولوا : { إنما أشرك آباؤنا من قبلُ وكنا ذرية من بعدهم } فاقتدينا بهم ، { أفتُهلكنا بما فعل المبطِلُون } ، يعني : آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك ، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الححجة ، والتقدير : أخذنا ذلك العهد في عالم الأرواح ، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح ، كراهة أن تقولوا : إنا كنا عن هذا غافلين ، ويدل على هذا قوله تعالى :
(2/309)
{ وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً . . . } [ الإسرَاء : 15 ] الآية . وقوله : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ } [ النساء : 165 ] ، ولا يكفي مجرد الإشهاد الروحاني في قيام الحجة؛ لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت في عالم الأشباح ، فلا تهتدي إليه إلا بدليل يُذكرها ذلك .
قال البيضاوي : والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا : إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام ، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم ، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ، ومنعهم من التقليد ، وحملهم على النظر والاستدلال ، كما قال تعالى : { وكذلك نفصل الآيات } الدالة على وحدانيتنا سمعاً وعقلاً ، { ولعلهم يرجعون } عن التقليد واتباع الباطل .
الإشارة : أَخَذَ الحقّ جلّ جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتُوحده مرتين ، أحدهما : قبل ظهور الكائنات ، والثاني : بعد ظهورها . والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية ، والثاني تجديدًا له مع القيام بآداب العبودية . قال بعضهم : أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير ، وذلك قبل السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها في عالم الأشباح ، كما نبهت عليه الآية والأحاديث .
وقال ابن الفارض في تائيته :
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ ... ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ
قال القاشاني : أراد بالعهد السابق : ما أخذه الله على الأرواح والإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعضم ، الذي هو آدم الكبير ، في صور المثل ، قبل تعلقها بالأشباح ، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب ، في قوله سبحانه : { وإذ أخذ ربك . . . } الآية . وبالعهد اللاحق : ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء ، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان ، وهو توكيدٌ للعهد الأول ، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها . ه . وقال في الحاشية : كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول ، الروحاني ، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني ، وهو ظاهر الآية . ه . قلت : وفيه نظر ، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على الهدين معًا ، الروحاني في الشطر الأولى ، والنفساني في الشطر الثاني .
والحاصل مما تقدم : أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات ، أحدها : حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير ، وهو معنى القبضة النورانية ، التي آخذت من عالم الجبروت . والثاني : حينن استخرجت من صلب آدم الأصغر ، كالذر ، والثالث : حيث دخلت في عالم الأشباح ، على ألسنة الرسل ، ومن ناب عنهم ، فالمذكور في الآية هو الثاني ، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول .
فالحاصل : أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل ، بإقرارها إقرار النفوس ، لا إقرار الألسنة ، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني ، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية ، من سمع وبصر ولسان وغيرها ، في عالم المثال ، بصور مقالية؛ لتُبصر بها ظهور الرب ، وتسمع خطابه ، وتجيب سؤاله ، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية . وأما العهد الذي أخذه عليها ، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة ، كما تقدم .
فالموجدات ثلاث : علمي ، ثم خيالي مثالي ، ثم نوعي حسي . فَأُخِذَ على كل واحد عهد؛ من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة ، والثالث بواسطة الرسل . والله تعالى أعلم .
(2/310)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
قلت : أتبعه الشيطانُ : أدركه ، يقال : أتبع القوم : لحقهم ، ومنه : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } [ يُونس : 90 ] ، أي : لحق بني إسرائيل . قاله في الأساس .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { واتلُ عليهم } ؛ على اليهود { نبأَ } أي : خبر { الذي آتيناه آيايِنا } ؛ علمًا بكتابنا ، { فانسَلَخ منها } ؛ بأن كفر بها ، وأعرض ، { فأَتبعه الشيطانُ } فأدركه { فكان من الغاوين } . قال عبد الله بن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين ، داعيًا إلى الله ، فرشاه الملكُ ، وأعطاه المُلك على أن يترك دين موسى ، ويُتابع الملكَ على دينه ، ففعل وأضل الناس على ذلك .
وقال ابن عباس : هو رجل من الكنعانيين ، اسمه : " بلعم " ، كان عنده الاسم الأعظم ، فلما أراد موسى قتل الكنعانيين ، وهم الجبارون ، سألوه أن يدعو على موسى باسم الله الأعظم ، فأبى ، فألحوا عليه حتى دعا ألا يدخل المدينة ، ودعا موسى عليه . فالآيات التي أعطيها ، على هذا : اسم الله الأعظم ، وعلى قول ابن مسعود : هو ما علمه موسى من الشريعة . قيل : كان عنده من صحف إبراهيم . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكان قد أُوتي علمًا وحكمة ، وأراد أن يُسلم قبل غزوة بدر ، ثم رجع عن ذلك ومات كافرًا ، وكان قد قرأ الكتب ، وخالط الرهبان ، وسمع منهم أن الله تعالى مرسِلٌ رسولاً في ذلك الزمان ، فَرَجَا أن يكون هو ، فلما بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم حسده ، وقال : ما كنت لأؤمن لرسول من ثقيف .
قال تعالى : { ولو شئنا لرفعناه } إلى منازل الأبرار { بها } أي : بسبب تلك الآيات وملازمتها ، { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي : مال إلى الدنيا وحطامها ، أي : أخلد إلى أرض الشهوات ، { واتبع هواه } في إيثار الدنيا واسترضاء قومه ، أو صيانة رئاسته وجاهه . قال البيضاوي : وكان من حقه أن يقول : ولكنه أعرض عنها ، فأوقع موقعه : { أخلد إلى الأرض واتبع هواه } مبالغةً وتنبيهًا على ما حمله عليه ، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة . ه . { فمثله } أي : فصفته التي هي مثلٌ في الخسة ، { كمَثَل الكلب } أي : كصفته في أخس أحواله ، وهو { إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث } أي : يلهث دائمًا ، سواء حمل عليه بالزجر والطرد ، أو ترك ولم يتعرض له ، بخلاف سائر الحيوانات؛ لضعف فؤاده ، واللهث : إدلاع اللسان من التنفس الشدد ، والمراد : لازم اللهث ، وهو نفي الرفع ووضع المنزلة .
قال ابن جزي : اللهث : هو تنفس بسرعة ، وتحريك أعضاء الفم ، وخروج اللسان ، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب ، وهي حالة دائمة للكلب ، ومعنى " إن تحمل عليه " : أن تفعل معه ما يشق عليه ، من طرد أو غيره ، أو تتركه دون أن تحمل عليه ، فهو يلهث على كل حال .
(2/311)
ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال ، وإن لم تعظه فهو ضال ، فضلالته على كل حال . ه . وقال الواحدي : وذلك أنه زجر في المنام عن الدعاء على موسى ، فلم ينزجر ، وترك عن الزجر ، فلم يهتد . ه . وقيل . ه . أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره ، فصار مثل الكلب ، وصورته ولهثه حقيقة . ه . وفعل به ذلك حين دعا على موسى عليه السلام . وفي ابن عطية : ذكر " المعتمد " أن موسى قتله .
قال تعالى : { ذلك مَثَل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا } ؛ صفتهم كصفة الكلب في لهثه وخسته ، أو كصفة الرجل المشبه به ، لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا ، وإن تركوا لم يهتدوا . أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات فلم تنفعهم ، كما أن الرجل لم ينفعه ما عنده من الآيات . وقال الواحدي : يعني : أهل مكة كانوا متمنين هادياً يهديهم ، فلما جاءهم من لا يشكُّون في صدقه كذبوه ، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا ، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول ، فكانوا ضالين عن الرسول في الحالتين . ه .
{ فاقصص القصَصَ } المذكور على اليهود ، فإنها نحو قصصهم ، { لعلهم يتفكرون } تفكرًا يُؤدي إلى الاتعاظ ، فيؤمنوا به ، فإنَّ هذه القصص لا توجد عند من لم يقرأ إلا بوحي ، فيتيقنوا نبوتك . { ساءَ } أي : قبح { مثلاً } مثل { القومُ الذين كذَّبوا بآياتنا } ؛ حيث شُبهوا بالكلاب اللاهثة ، { وأنفسَهم كانوا يظلمون } بتعريضها للهلاك . قال البيضاوي : إما أن يكون داخلاً في الصلة ، معطوفًا على { الذين كذبوا } ، بمعنى : الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم ، أو منقطعًا عنها ، بمعنى : وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، فإن وباله لا يتخطاها ولذلك قدّم المفعول . ه .
{ مَن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } ، هو تصريح بأن الهدى والضلال بيد الله تعالى ، وأنَّ هداية الله يخص بها بعضًا دون بعض ، وأنها مستلزمة للاهتداء ، والإفراد في الأول والجمع في الثاني؛ لاعتبار اللفظ والمعنى ، تنبيهًا على أن المهتدين كواحد؛ لاتحاد طريقهم ، بخلاف الضالين . والاقتصار في الإخبار عمّن هداه الله بالمهتدي : تعظيمٌ لشأن الاهتداء ، وتنبيه على أنه ، في نفسه ، كمال جسيم ، ونفع عظيم ، لو لم يحصلُ له غيره لكفاه ، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها . قاله البيضاوي .
الإشارة : في الحديث : " أشَدُّ النَّاس عَذَابًا يَومَ القِيَامَةِ عَالِمٌ لَم يَنفَعهُ عِلمُه " والعلم النافع هو الذي تصحبه الخشية والمراقبة والتعظيم والإجلال ، ويوجب لصاحبه الزهد والسخاء والتواضع والأنكسار ، وهو علم التوحيد الخاص ، الذي هو مشاهدة الحق . وقال الورتجبي في قوله : { آتيناه آياتنا فانسلخ منها } : ذكر أنه تعالى أعطاه أياته ، ولو أعطاه قرب مشاهدته ما انسلخ منه ، لأن من رآه أحبه ، ومن أحب استأنس به واستوحش مما سواه ، فمن ذلك تبين أنه كان مستدرجًا بوجدان آياته ، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه ، واشتغاله بهواه وعداوة كليمه بقوله : { فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } ، ولو ذاق طعم حبه لم يلتفت إلى غيره ، مُكِرَ به في الأزل ، فكان مكره مستدامًا إلى الأبد ، فالكرامات الظاهرة عارضه للامتحان بين الأزل والأبد ، وعند الأصل القديم لا يعتبر العرض الطارىء .
(2/312)
ه .
وقال في الإحياء : إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات ، فشُبه بالكلب ، أي : سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات . ه . وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها . وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات ، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات ، فدواؤه في حرفين ، أحدهما : أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام ، ويقيد هذه النعمة بالشكر ، لئلا تفلت من يده ، والثاني : أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار ، آناء الليل والنهار ، وفي رمضان راجيًا الإجابة ، قائلاً : اللهم سَلِّم سَلِّم . فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له . ه . بالمعنى لطول العهد به . وبالله التوفيق .
(2/313)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد ذرأنا } ؛ خلقنا { لجهنم كثيرًا من الجن والإنس } ؛ كتبنا عليهم الشقاء في سابق الأزل ، فهم من قبضة أهل النار ، كما قال : " هؤلاء إلى الجنة ولا أُبالي ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي " .
ثم ذكر علامتهم فقال : { لهم قلوبٌ لا يفقهون بها } المواعظ والتذكير؛ للأكنة التي جعلت عليها ، { ولهم أعين لا يبصرون بها } دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا ، فلا ينظرون بها نظر اعتبار ، { ولهم آذان لا يسمعون بها } الآيات والمواعظ ، سماع تأمل وتدبير ، { أولئك كالأنعام } في عدم التفقه والاستبصار ، أو في أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش ، مقصورة عليها ، فهممهم في بطونهم وفروجهم ، { بل هم أضلُّ } من الأنعام ، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة ، وأيضًا : الأنعام رُفع عنها التكليف فلا تعذب ، يخلاف الكافر ، وأيضًا : البهائم تقبل الرياضة والتأديب لِمَا يراد بها ، والكافر عاص على الدوام ، { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة المنهمكون فيها .
الإشارة : النار على قسمين : حسية ومعنوية ، كما أن الجنة كذلك ، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح ، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح ، والجنة الحسية لنعيم الأشباح ، والمعنوية لنعيم الأرواح . النار الحسية معلومة . والنار المعنوية هي نار القطيعة وغم الحجاب ، وأهلها هم أهل الغفلة ، وهم كثير من الجن والإنس ، ليس لهم قلوب تجول في معاني التوحيد ، وليس لم أعين تنظر بعين الاعتبار ، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار ، إن هم إلا كالأنعام ، غير أن الله تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام . والجنة الحسية هي جنة الزخارف ، والجنة المعنوية هي جنة المعارف ، وأعدها الله لقلوب تجول في الأنوار والأسرار ، ولأعين تنظر بعين الأعتبار والاستبصار ، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار ، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار ، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار ، وبالله التوفيق .
(2/314)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولله الأسماءُ الحسنى } تسعة وتسعين ، { فادعوه بها } أي : سموه بها . قال ابن جزي : أي : سموه بأسمائه ، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله سبحانه ، فأما ما ورد منها في القرآن والحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا ، وأما ما لم يرد ، وفيه مدح ولا تتعلق به شُبهة ، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره ، ورأوا أن أسماء الله تعالى موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث . وقد ورد في حديث الترمذي عدتها ، أعني : تعيين التسعة والتسعين .
واختلفت أهل الحديث : هل هي مرفوعة أو موقوفة على أبي هريرة؟ والذي في الصحيح : " إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعِينَ اسمًا ، مائَةً إلاَ وَاحِدًا ، مَن أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ " وهل الإحصاء بالحفظ أو بالعلم أو بالتخلق أو بالتعلق أو بالتحقق؟ أقوال . قلت : كونها موقوفة بعيد جدًا؛ إذ ليس هذا مما يقال بالرأي .
وسبب نزول الآية : إن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ ، فيذكر الله مرة ، والرحمن أخرى ، فقال : يزعم محمد أن الإله واحد ، وها هو يعبد آلهة كثيرة ، فنزلت الآية مُبيِّنة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد ، { الحسنى } : مصدر وُصف به ، أو تأنيث أحسن ، وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد ، وقيل : الدعاء بها : التوسل بكل واحد منها .
قال تعالى : { وذَرُوا } أي : اتركوا { الذين يُلحدون } أي : يميلون { في أسمائه } عن الكمال؛ إما بتعطيلها ، أو إنكار شيء منها ، وإما بزيادة فيها ، مما يوهم نقصًا أو فسادًا .
قال القشيري : الإلحاد : هو الميل عن القصد ، وذلك على وجهين : بالزيادة والنقصان؛ فأهل التمثيل زادوا فألحدوا ، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا . ه . قال البيضاوي : أي : اتركوا تسمية الزائغين فيها ، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه ، إذ ربما يوهم معنىً فاسدًا ، كقولهم : يا أبا المكارم ، يا أبيض الوجه ، أو لا تبالُوا بإنكارهم ما سمى به نفسه ، كقولهم؛ ما نعرف إلا رحمان اليمامة ، أو : وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام ، واشتقاقها منه؛ كاللات من الله ، والعزى من العزيز ، فلا توافقوهم عليه ، أو أعرضوا عنهم ولا تحاوروهم . ه .
قال ابن جزي : قيل : معنى { ذروا } : اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم ، فالآية ، على هذا ، منسوخة بالقتال ، وقيل : معنى { ذروا } للوعيد والتهديد ، كقوله : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ } [ المزمل : 11 ] ، وهو الأظهر . ه . قلت : وهو أليق بقوله بعده : { سيُجزون ما كانوا يعملون } من الإلحاد وغيره .
الإشارة : قال القشيري بعد كلام : ويقال إن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه ، فهم يذكرونها قالةً ، وتعزَّزَ بذاته ، والعقول وإن صَفَت لا تهجم على حقائق الإشراف؛ إذ الإدراك لا يجوز على الحق ، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك ، وطلبه في أحوال الرؤية . والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي مُتَفَرِّد . ه .
قلت : وأسماء الله الحسنى كلها تتجلى في مظاهر الإنسان ، وتتوارد عليه انفرادًا واجتماعًا ، وقد تجتمع في واحد إذا كان عارفًا ، كلها بحيث يتخلق بها ، غير أن تجلياتها تختلف عليه ، تارة ملكًا قدوسًا ، وتارة رحمانيًا رحيمًا ، وهكذا . وقد تقدم بيان كيفية التعلق والتخلق والتحقق بها ، في شرحنا : الفاتحة الكبير ، والله تعالى أعلم .
(2/315)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وممن خلقنا } أي : ومن جملة ما خلقنا : { أمة } : طائفة { يهدون } الناس { بالحق } ويحملونهم عليه ، { وبه يَعْدِلُون } في حكوماتهم وقضاياهم . رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هذه الآية لكم ، وقد تقدم مثلها لقوم موسى " .
قال البيضاوي : ذكر ذلك بعدما ما بيَّن أنه خلق للنار طائفة ضالين ، ملحدين عن الحق ، للدلالة على أنه خلق أيضًا للجنة أمة ، هادين بالحق ، عادلين في الأمر ، واستدل به على صحة الإجماع ، لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَزالُ مِنْ أمَّتِي طَائِفةٌ عَلى الحَقِّ ، إِلى أن يأتيَ أَمرُ اللهِ " إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة ، فإنه معلوم . ه .
الإشارة : هذه الأمة التي خلقها الله لهداية خلقه ، وهي اطائفة التي لا تزال على الحق ، وهي مؤلفة من العلماء الأتقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم ، ومن الأولياء العارفين ، بالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها ، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها ، فالعلماء داعون إلى أحكام الله ، والعارفون داعون إلى معرفة ذات الله ، العلماء لإصلاح الظواهر ، والأولياء لإصلاح البواطن ، ولا يقوم هذا إلا بهذا ، فالظاهر من غير باطن فسق ، والباطن من غير ظاهر إلحاد ، وسيأتي عند قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِ فِرْقَةٍ . . . } [ التّوبَة : 122 ] الآية ، تمثيل منزلتهم عند الله ، والله تعالى أعلم .
(2/316)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قلت : أصل الاستدراج : الاستصعاد ، أو الاستنزال درجة بعد درجة ، ومعناه : نسوقهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { والذين كذَّبوا بآياتنا } ، وألحدوا في أسمائنا ، { سَنَسْتَدْرِجُهُم } أي : ندرجهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا ، { من حيث لا يعلمون } ما نريد بهم ، وذلك أَن تتواتر النعم عليهم ، فيظنوا أنها لطفٌ من الله بهم ، فيزدادوا بطرًا وانهماكًا في الغي ، حتى تحق عليه كلمة العذاب . { وأُملي لهم } أي : وأمهلهم ، أي : وأمدهم بالأموال والبنين والعُدة والعَدد ، حتى نأخذهم بغتة ، { إنَّ كيدي متين } أي : أخذي شديد ، وإنما سماه كيدًا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان .
الإشارة : قال الشيخ زروق رضي الله عنه : الاستدراج : هو كُمون المحنة في عين المنة ، وهو من درج الصبي؛ إذا أخذ في المشي شيئًا بعد شيء ، ومنه : الدرج الذي يرتقي عليه إلى العلو ، كذلك المستدرج هو الذي تُؤخذ منه النعمة شيئًا بعد شيء وهو لا يشعر . قال تعالى : { سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون } . ه . فالاستدراج ليس خاصًا بالكفار ، بل يكون في المؤمنين؛ خواصهم وعوامهم .
قال في الحكم : " خف من وجود إحسانه إليك ، ودوام إساءتك معه ، أن يكون ذلك استدراجًا لك؛ { سَنَسْتَدرِجُهُم من حيث لا يعلمون } " . وقال سهل بن عبدالله رضي الله عنه : نمدهم بالنعم ، وننسيهم الشكر عليها ، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم : أُخذوا .
وقال ابن عطاء رضي الله عنه : كلما أحدثوا خطيئة جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة . وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين ، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين . يقال : من أمارات الاستدراج : ركوب السيئة والاغترار بزمن المُهلة ، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة ، وهذا من المكر الخفي . قال تعالى : { سَنَسْتدرِجُهُم من حيث لا يعلمون } أي : لا يشعرون بذلك ، وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء ، وليسوا كذلك ، يستدرجهم في ذلك شيئًا فشيئًا ، حتى يأخذهم بغتة ، كما قال تعالى : { فلما نسوا ما ذُكروا به } ؛ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم ، بعدما رأوا من الشدة ، { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي : فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية ، { حتى إذا فرحوا بما أُوتوا } من الحظوظ الدنيوية ، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا ، { أخذناهم بغتة } أي : فجأة ، { فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ } [ الأنعَام : 44 ] ؛ آيسون قانطون من الرحمة . ه .
(2/317)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قلت : { وما خلق } : عطف على { ملكوت } ، و { أن عسى } : مخففة ، و { أن يكون } : مصدرية ، أو عطف على { ملكوت } أيضًا .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أوَ لم يتفكروا } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يتحققوا أنه { ما بصاحبهم من جِنَّة } ؛ يعني : نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم . رُوِي أنه صلى الله عليه وسلم لما أُمر بالإنذار صعد الصَّفا ، فدعاهم ، فَخْذًا فخذًا ، يُحذّرهم بأس الله تعالى ، فقال قائلهم : إن صاحبكم لمجنون ، بات يُصوِّت إلى الصباح ، فنزلت .
{ إن هو إِلا نذير مبين } أي : بيّن الإنذار واضح أمره ، لا يخفى على ناظر . { أو لم ينظروا } نظر استدلال { في ملكوت السماوات والأرض } أي : في عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب ، { وما خَلَق الله من شيء } أي : وينظروا فيما خلق الله من شيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها ، وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها ، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه .
{ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم } أي : أوَ لم ينظروا أيضًا في اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم ، فيسارعوا إلى طلب الحق ، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه ، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب . { فبأي حديث بعده } أي : بعد القرآن ، { يُؤمنون } إن لم يؤمنوا به ، وهو النهاية في البيان؟ كأنه إخبار عنهم بالطبع على القلوب والتصميم على الكفر ، بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر ، وقيل : هو متعلق بقوله : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلُهم } ؛ كأنه قيل : لعل أجلهم قد اقترب ، فما لهم لا يُبادرون بالإيمان بالقرآن ، وماذا ينتظرون بعد وضوحه؟ وإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به؟! . . قاله البيضاوي .
ثم بيَّن أن أمرهم بيده ، فقال : { من يُضلل الله فلا هاديَ له } أصلاً ، ولا يقدر أحد عليه ، { ونذرهم في طُغيانهم يعمهون } : يتحيرون . ومن قرأ بالياء فمناسب لقوله : { من يضلل } ، ومن جزمه فعطف على محل : { فلا هادي له } ؛ لأنه جواب الشرط .
الإشارة : قد أرشد الحق تعالى عباده إلى التفكر والاعتبار ، وقد تقدم الكلام عليه في " آل عمران " ، وقد علَّم هنا أهل الاستدلال كيفيته؛ وهو أن ينظر الإنسان في آمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما ظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، وأعظمها القرآن العظيم ، ثم ما أتى به من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، وما نطق به من الحكم العجيبة ، وما أخبر به من قصص الأمم الدارسة والشرائع المتقدمة ، مع كونه أميًّا لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يجالس أحدًا ممن له خبرة بذلك ، فتطلع عليه شمس المعرفة به حتى لا يخالطه وهمٌ ، ولا يخطر بساحته خاطر سوء ، ثم يتفكر في عجائب ملكوت السماوات والأرض ، وما اشتملتا عليه من ضروب المصنوعات ، وعجائب المخلوقات ، فيتحقق بوجود الصانع القادر على كل شيء ، هذا إن لم يجد شيخًا يُخرجه من سجن الدليل ، وإن وجده استغنى عن هذا بإشراق شمس العرفان ، والخروج إلى فضاء الشهود والعيان .
(2/318)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قلت : إنما سميت القيامة ساعة : لسرعة حسابها ، أو وقوعها ، لقوله : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النّحل : 77 ] .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { يسألونك } أي : قريش ، { عن الساعة } أي : قيام الناس من قبورهم للحساب ، { أيَّان مُرسَاها } أي : متى إرساؤها ، أي : ثبوتها ووقوعها؟ { قل إنما علمها عند ربي } ؛ استأثر بعلمها ، لم يطلع عليها ملكًا مقربًا ، ولا نبيًا مرسلاً { لا يُجلِّيها لوقتها } أي : لا يُظهرها عند وقت وقوعها ، { إلا هو } ، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها ، { ثَقُلَت في السماوات والأرض } ؛ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها ، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها . أو ثَقُلَت على السماوات والأرض أنفسهما؛ لتبدلهما وتغير حالهما ، { لا تأتيكم إلا بغتةً } : فجأة على غفلة ، كما قال صلى الله عليه وسلم " إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ ، والرَّجُلُ يَسقِي مَاشِيتَهُ ، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه ، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه " والمراد : النفخ في الصور للصعق ، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه .
{ يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها } أي : عالم بها ، من حفى على الشيء : إذا سأل عنه ، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء ، والبحث عنه ، استحكم علمه فيه ، أي : يسألونك عن وقت قيامها ، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها ، وليس كما يزعمون ، وأما قوله : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَآ } [ النَّازعَات : 43 ] : فقيل : معناه : التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال ، أي : في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها؟ ولا يُعارض ما هنا؛ لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية ، وبعدها نزلت هذه ، والله أعلم .
وقيل : " عنها " : يتعلق ب { يسألونك } ، أي : يسألونك عنها كأنك حفي بهم ، أي : شفيق بهم ، قيل : إن قريشًا قالوا : إنَّ بيننا وبينك قرابة ، فقل لنا : متى الساعة؟ فقال له الحق تعالى : { قبل إنما علمها عند الله } ؛ لا يعلمها غيره ، وكرره؛ لتكرر " يسألونك " . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه .
الإشارة : إذا أشرق نور اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة ، والغائبة حاضرة ، والآجلة عاجلة ، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا ، فحاسبوا أنفسهم قبل أن يُحاسبوا ، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم ، وجازوا الصراط بلسوكهم المنهاج المستقيم ، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف ، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حال إلى حال ، ومن مقام إلى مقام ، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور . وفي الحِكم : " لو أشرق لك نور اليقين في قلبك ، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفَنَاء عليها " .
قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : نور اليقين تتراءىء به حقائق الأمور على ما هي عليه ، فيحق به الحق ، ويبط به الباطل ، والآخرة حق ، والدنيا باطل ، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه ، حتى كأنها لم تزل ، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها ، فحق بذلك حقها عنده ، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه ، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب ، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة ، فظهر له بطلانها ، حتى كأنها لم تكن ، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة في الدنيا والتجافي في زهرتها ، والإقبال على الآخرة ، والتهيؤ لنزول حضرتها ، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور .
(2/319)
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسَحَ " ، وقِيلَ يا رَسُولَ اللهِ : هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يُعرَفُ بِها؟ قال : " نعَمَ . التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم .
وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه ، فلا تأمره بسوء ، ولا تطالبه بارتكاب منهي ، ولا تكون لهم همة إلا المسارعة إلى الخيرات ، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات ، وذلك لاستشعاره حلول الأجل ، وفوات صالح العمل ، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ رضي الله عنهما . رَوى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ؟ " قال : أصبحت مؤمنًا بالله حقًا ، قال : " انظر ما تقول ، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة؟ " فقال : يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري ، وكأني بعَرش ربي بارزًا ، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها ، وكأني أنظرُ إلى أهل النار يتعاوون فيها ، فقال : " أبصَرتَ فالزَم ، عَبدٌ نور اللهُ الإيمانَ في قلبه . . " إلى آخر الحديث .
وروى أنس رضي الله عنه أيضًا : أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له : " كيف أصبحتَ يا معاذ؟ " فقال : أصبحتُ بالله مؤمنًا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لكل قول مصداقًا ، ولكل حق حقيقة ، فما مصداق ما تقول؟ " فقال : يا نبيَّ اللهِ ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي ، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح ، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننتُ أني لا أُتبِعُها أُخرَى ، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها ، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عَرَفَت فالزَم " انظر بقية كلامه رضي الله عنه .
(2/320)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قلت : { وما مسني السوء } : عطف على " استكثرتُ " ، أي : لو علمتُ الغيب لاستكثرتُ الخير واحترست من السوء ، أو استئناف ، فيوقف على ما قبله ، ويراد حينئذٍ بالسوء : الجنون ، والأول أحسن؛ لاتصاله بما قبله ، و { لقوم } : يجوز أن يتعلق ببشير ونذير ، أي : أُبشر المؤمنين وأُنذرهم ، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما ، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ، فيُوقف على { نذير } ، ويكون المتعلق بنذير محذوف ، أي : نذير للكافرين ، والأول أحسن . قاله ابن جزي .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { قل } لهم يا محمد : أنا { لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضَرًا } أي : لا أجلب لها نفعًا ولا أدفع عنها ضررًا ، { إلا ما شاء الله } من ذلك ، فيعلمَني به ، ويوقفني عليه ، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب ، { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } أي : لو كنت أعلم ما يستقبلني من الأمور المغيبة؛ كشدائد الزمان وأهواله ، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر ، حتى لا يمسني سوء ، { إن أنا إَلا نذير وبشير } أي : ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة { لقوم يؤمنون } ؛ فإنهم المنتفعون بهما ، أو نذير لمن خالفني بالعذاب الأليم ، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم .
الإشارة : العبودية محل الجهل وسائر النقائص ، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات ، فمن آداب العبد أن يعرف قدره ، ولا يتعدى طوره ، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من الله عليه ، وإن ورد عليه شيء من النقائص فهو أصله ومحله ، فلا يستوحش منه ، وكان شيخنا يقول : إن علمنَا فمن ربنا ، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا . أو كلام هذا معناه ، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول ، وموجب للمقت من علام الغيوب . والله تعالى أعلم .
(2/321)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة } ؛ آدم عليه السلام ، { وجعل منها زوجها } أي : خلق من ضلعها زوجها حواء ، سلها منه وهو نائم ، { ليَسكُنَ إليها } ؛ ليستأنس بها ، ويطمئن بها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه .
{ فلما تغشاها } أي : جامعها حين رُكبت فيه الشهوة ، { حملت حملاً خفيفًا } أي : خف عليها ، ولم تلق منه ما تلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الأذى والكرب ، أو حملاً خَفيفًا ، يعني النطفة قبل تصورها ، { فمرت به } أي : ذهبت وجاءت به ، مخففة ، واستمرت إلى حين ميلاده ، { فلما أثقلت } أي : ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبره في بطنها ، { دَعَوا الله ربهما } آدم وحواء ، قائلين : { لئن آتيتنا } ولدًا { صالحًا } أي : سويًا سالمًا في بدنه ، تام الخلقة ، { لنكونن } لك { من الشاكرين } على هذه النعمة المجددة .
{ فلما آتاهما } ولدًا { صالحًا } كما سألا ، جعل أولادُهما { له شركاءَ فيما آتاهما } ، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار . فالآية إخبار بالغيب في أحوال بني آدم ممن كفر منهم وأشرك ، ولا يصح في آدم وحواء هذا الشرك؛ لعصمة الأنبياء ، وهذا هو الصحيح . وقد يُعاتبُ المِلكُ الأب على ما فعل أولادهُ ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له : أولادك فعلوا وفعلوا ، على عادة الملوك .
وقيل : لما حملت حواء أتاها إبليسُ في صورة الرجل ، فقال لها : وما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب ، وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك ، ثم قال لها : إن أطعتيني ، وسميته عبد الحارث ، فسأخلصه لك ، وكان اسم إبليس في الملائكة : الحارث ، وإن عطيتني قتلته ، فأخبرت بذلك آدم ، فقال لها : إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة ، فلما ولدت مات الولد ، ثم حملت مرة أخرى ، فقال لها إبليس مثل ذلك ، فعصته ، فلما ولدت مات الولد ، ثم حملت مرة ثالثة ، فسمياه عبد الحارث؛ طمعًا في حياته فقوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } أي : في التسمية لا غير ، لا في عبادة غير الله .
والقول الأول أصح ، لثلاثة أوجه : أحدها : أنه يقتضي براءة آدم وحواء من الشرك ، قليله وكثيره ، وذلك هو حال الأنبياء عليه السلام . والثاني : أنَّ جمع الضمير في قوله : { فتعالى الله عما يشركون } ، يقتضي أن الشرك وقع من أولادهما ، لا منهما . الثالث : أن هذه القصة تفتقر إلى نقل صحيح ، وهو غير موجود . انظر : ابن جزي .
الإشارة : قال الورتجبي : في قوله { ليسكن إليها } : لم يجد آدم عليه السلام في الجنة إلا سنًا تجلى الحق ، فكاد أن يضمحل بنور التجلي ، لتراكمه عليه ، فعلم الله سبحانه أنه لا يتحمل أثقال التجلي ، وعرف أنه يذوب في نور حسنه ، وكل ما في الجنة مستغرق في ذلك النور ، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت ، فخلق منه حواء ليسكن آدم إليها ، ويستوحش بها سُوَيعات من سطوات التجلي ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : " كلميني يا حُميراء " ثم قال : وقال بعضهم : خلقها ليسكن آدم إليها ، فلما سكن إليها غفل عن مخاطبة الحقيقة ، بسكونه إليها ، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة . ه . فكل من سكن إلى غير الله تعالى كان سكونه بلاء في حقه ، يخرجه من جنة معارفه . والله تعالى أعلم .
(2/322)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { أيُشرِكون } مع الله أصنامًا جامدة ، لا يخلقون شيئًا { وهم يُخلَقون } ، فهي مخلوقة غير خالقة . والله تعالى خالق غير مخلوق ، { ولا يستطيعون لهم نصرًا } أي : لا يقدرون أن ينصروا من عبدهم ، { ولا أنفسَهم ينصرون } فيدفعون عنها ما يعتريها ، فهي في غاية العجز والذلة ، فكيف تكون آلهة؟ .
{ وإِن تدعوهم إلى الهُدى لا يتبعوكم } أي : وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا تجيبكم ، فلا تهتدي إلى ما دعيت إليه؛ لأنها جمادات ، أو : وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى الحق لا تجيبكم ، { سواءٌ عليكم أدَعوتُموهم أم أنتم صامتون } عن دعائهم ، فالدعاء في حقهم وعدمه سواء ، وإنما لم يقل : أم صمتم؛ ليفيد الاستمرار على عدم إجابتهم : لأن الجملة الاسمية تقتضي الاستمرار .
ثم قال تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله } أي : تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله ، هم { عبادٌ أمثالُكم } من حيث أنها مسخرة مملوكة ، فكيف يعبد العبد مع ربه ، { فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين } في أنها تستحق أن تُعبد ، والأمر للتعجيز؛ لأن الأصنام لا تقدر أن تجيب فلا تستحق أن تعبد .
ثم عاد عليهم بالنقض فقال : { ألهُم أرجلٌ يمشون بها أم لهم أيدٍ يبشطون بها أم لهم أعينٌ يبصرون بها أم لهم آذانٌ يسمعون بها } ، ومعناه : أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة ، ومن كان كذلك لا يكون إلهًا ، فإنَّ من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة . وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام؛ لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي ، ولا تبطش ، ولا تبصر ، ولا تُسمع ، فلزمتهم الحجة ، والهمزة في قوله : { ألهم } : للاستفهام مع التوبيخ ، و { أم } ، في المواضع الثلاثة : تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل ، وليس عاطفة . قاله ابن جزي : { قل ادعوا شركاءَكم } ؛ استعينوا بهم في عداوتي ، { ثم كِيدُون فلا تُنظِرُون } أي : لا تؤخرون ، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي وكيدي ، ومفهوم الآية : الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة .
الإشارة : كل ما سوى الله قد عمه العجز والتقصير ، فليس بيده نفع ولا ضر ، وفي الحديث : " لو اجتَمَعَ الإنسُ والجنُّ على أن ينفَعُوكَ بشَيءٍ لم يَنفَعُوكَ إلاَّ بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهَ لك ، ولو اجتَمَعُوا على أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليكَ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فالخلق كلهم في قبضة القهر ، مصروفون بقدرة الواحد القهار ، ليس لهم أرجل يمشون بها ، ولا أيد يبطشون بها ، ولا أعين يبصرون بها ، ولا آذان يسمعون بها ، وإنما هم مجبورون في قوالب المختارين ، فلا تركن إليهم أيها العبد في شيء ، إذ ليس بيدهم شيء ، ولا تخف منهم في شيء ، إذ لا يقدرون على شيء . قال ابن جزي : وفيها أي : في الآية إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده ، وأن غيره لا يقدر على شيء .
(2/323)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
يقول الحقّ جلّ جلاله : قل لهم أيضًا يا محمد : { إنَّ وَليّيَ اللهُ } أي : هو ناصري وحافظني منكم ، فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم ، { الذي نزَّل الكتاب } أي : القرآن ، { وهو يتولى الصالحين } أي : ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه ، فلا أخافكم بعد أن تَولى حفظي منكم .
الإشارة : قال القشيري : مَن قام بحقِّ الله تولّى أمورَه على وجه الكفاية ، فلا يحوجه إلى أمثاله ، ولا يَدَعُ شيئًا من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحُسنِ إفضاله ، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيًا بما يفعله ، فرَوحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب . ه .
(2/324)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
يقول الحقّ جلّ جلاله : في إتمام الرد على المشركين : { والذين تدعون من دونه } أي : تعبدونها من دونه ، { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } ، فلا تُبال بهم أيها الرسول ، { إن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا } ، يحتمل أن يريد الأصنام ، فيكون تحقيرًا لها ، وردًا على عبدها؛ فإنها جماد موات لا تسمع شيئًا ، أو يريد الكفار ، ووصفهم بأنهم لا يسمعون ، يعني : سمعًا ينتفعون به ، لإفراط نفورهم ، أو لأن الله طبع على قلوبهم ، { وتراهم } أي : الأصنام ، { ينظرون إليك وهم لا يُبصرون } ؛ لأنهم مصورورن بصورة من ينظر ، فقوله : { وتراهم ينظرون إليك } : مجاز ، { وهم لا يُبصرون } حقيقةً ، لأن لهم صورة الأعين ، وهم لا يرون بها شيئًا ، هذا إن جعلنا وصفًا للأصنام ، وإن كان وصفًا للكفار فقوله : { وتراهم ينظرون إليك } حقيقة ، { وهم لا يُبصرون } مجاز ، لأن الأبصار وقع منهم في الحس ، لكن لمَّا لم ينفعهم؛ لعمى قلوبهم ، نفاه عنهم كأنه لم يكن .
قال المحشي : شاهدوا بأبصار رؤوسهم ، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم ، فلم يعتد برؤيتهم . ه .
الإشارة : في الآية تحويش للعبد إلى الأعتماد على الله واستنصاره به جميع أموره ، فلا يركن إلى شيء سواه ، ولا يخاف إلا من مولاه ، إذ لا شيء مع الله .
وقوله تعالى : { وتراهم ينظرون إليك . . . } الآية . قال المحشي : يقال : رُؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم ، لكن لِما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب ، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان . ه . يعني : أن النظر إلى الأكابر ، من العارفين بالله ، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم ، وإنما هي مقصودة لفيضان أمدادهم ، وذلك على قدر التعظيم والاحترام ، وصدق المحبة والاحتشام ، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه . رُوِي أن بعض الملوك زار قبر أبي يزيد البسطامي ، فقال : هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي؟ فأتى بشيخ كبير ، فقال : أنت أدركته ، فقال : ما سمعتَه يقول؟ فقال : سمعتُه يقول : ( من رآني لا تأكله النار ) . فقال الملك : هذا لم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام ؛ فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار ، فكيف يكون لغيره؟ فقال له الشيخ : يا هذا ، الكفار لم يروه صلى الله عليه وسلم على أنه رسول الله ، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله ، فسكت . والله تعالى أعلم .
(2/325)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذ العفوَ } أي : اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها ، أو : خذ من الناس ، في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم ، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم؛ لئلا ينفروا . فهو كقول الشاعر :
خُذِ العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي . . . ... أو : خذ في الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط ، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم ، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه ، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي ، { وأْمر بالعُرْفِ } أي : المعروف ، وهو أفعال الخير ، أو العرف الجاري بين الناس . واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس . { وأعرض عن الجاهلين } أي : لا تكافىء السفهاء على قولهم أو فعلهم ، واحلم عليهم . ولمّا نَزَلَت سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عنها ، فقال : " لا أَدري حَتَّى أسأَلَ ، فعرج ، ثم رَجَعَ فَقَالَ : يا مُحَمَدَّ ، إِنَّ الله يَأمُركَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك ، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ ، وتَعفُو عَمَّن ظَلَمَكَ " . وعن جعفر الصادق : ( أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بمكارم الأخلاق ) ، وهي على هذا ثابتة الحكم ، وهو الصحيح . وقيل : كانت مداراة للكفار ، ثم نسخت بالقتال .
{ وإِمَا يَنزَغَنَّك من الشيطان نَزغٌ } ؛ ينخسنك منه نخس ، أي : وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به؛ كاعتراء غضب ، ومقابلة سفيه ، { فاستعذ بالله } والتجىء إليه؛ { إنه سميعٌ عليمٌ } يسمع استعاذتك ، ويعلم ما فيه صلاح أمرك ، فالاستعاذة عند تحريك النفس مشروعة ، وفي الحديث : أن رجلاً اشتد غضبه ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إنّي لأَعلَمُ كلِمة لو قالَهَا لذَهَبَ عنهُ ما به؛ أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ " .
الإشارة : كل ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم تُؤمر به أمته ، وخصوصًا ورثته من الصوفية ، فهم مطالبون بالتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم ، لأن غيرهم لم يبلغ درجتهم . وقال الورتجبي : { خذ العفو } : أي : فاعف عنهم من قلة عرفانهم حقك ، { وأمر العُرف } أي : تلطف عليهم في أمرك ونهيك لهم ، فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك ، { وأعرِض عن الجاهلين } الذي ليس لهم استعداد النظر إليك ، ولا يعرفون حقوقك ، فإنَّ منكر معجزات أنبيائي وكرامات أوليائي لا يبلغ إلى درجة القوم . قال بعض المشايخ حين ذكر أهل الظاهر : دع هؤلاء الثقلاء . ه . فوصف علماء الظاهر بالثقلاء؛ لثقل ظهورهم بعلم الرسوم ، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم ، وفي تائية ابن الفارض :
وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ ... بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه
قال شارحه : أمره بالمجاوزة عن المثقلين بأثقال العلوم الظاهرة ، من الفقهاء ، والمتكلمين بأحكام المنقولات ، والفلاسفة الموكلين بالمعقولات والحكمة ، ووصف مُثقلاً بأنه : لو خف طفا ، أي : لأنه لو كان خفيفًا بوضع الأثقال عنه كان طفيفًا ، لا يرى لنفسه قدرًا ، واللازم منتف فالملزوم مثله . ه .
(2/326)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قلت : الطيف بسكون الياء : مصدر طاف به الخيال يطيف طيفًا ، أو مخفف؛ من طيّف؛ كهين ولين وميت . ومن قرأ { طائف } : فاسم فاعل ، والمراد به : لَمَّةُ الشيطان ووسوسته . وحذف مفعول { تذكروا } ؛ للعموم على ما يأتي في المعنى . وقوله : { فإذا هم مبصرون } : أتى بإذا الفجائية؛ ليقتضي سرعة تيقظهم ، وبالجملة الاسمية ولم يقل : تذكروا فأبصروا؛ ليفيد أنهم كانوا على البُصرى ، وإنما السَّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها .
يقول الحقّ جلّ جلاله : { إن الذين اتَّقَوا } الشرك والمعاصي ، { إذا مسَّهُم طائفٌ من الشيطان } أي : لَمَّةُ منه ، كما في الحديث : " إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ . . . " الخ ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا { تذكّروا } عقابَ الله وغضبه ، أو ثواب الله وإنعامه ، أو مراقبته والحياء منه ، أو مننه وإحسانه ، أو طرده وإبعاده ، أو حجبه وإهماله ، أو عدواة الشيطان وإغواءه ، كلٌ على قدر مقامه ، فلما تذكروا ذلك { فإذا هم مبصرون } بسبب ذلك التذكر ، أي : فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس ، أو : فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها ، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة ، كما قال تعالى : { وإِخوانُهم يَمدُّونهم في الغَي } أي : وإخوان الشياطين ، الذين لم يتقوا ، يمدونهم ، أي : ينصرونهم ، ويكونون مددًا لهم في الضلال والغي؛ بالتزيين والحمل عليه ، { ثم لا يُقصرون } ؛ لا يُمسكون عن إغوائهم حتى يُوردوهم النار ، أو : لا يقصر الكفار عن غيهم وضلالهم حتى يهلكوا .
الإشارة : البصيرة حارسة للقلب ، الذي هو بيت الرب ، فإذا نامت طرقها الشيطان ، فإن كان نومها خفيفًا أحست به وطردته ، وهذه بصيرة المتقين ، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله : { إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } ، وإذا كان نومها ثقيلاً سرق الشيطان ما فيها ، ولم تفطن به ، وهذه بصيرة الغافلين ، الذين هم أخوان الشياطين .
قال القشيري : إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله ، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان ، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله؛ لأنه يخنس عند ذلك ، ولكل عازمٍ فترة ، ولكلِّ عالم هفوة ، ولكل عابد شدة ، ولكل قاصد فترة ، ولكل سائر وقفة ، ولكل عارفٍ جحبة . قال عليه الصلاة والسلام : " الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي " فأخبر بأن خيار الأمة ، وإن جلت رتبتهم ، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم ، فتخرجهم عن دوام الحلم . ه . وكأنه يشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين ، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله : { وإما ينزغنك . . . } الآية ، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به ، وترقية له ، وتحويش له إلى ربه ، والله تعالى أعلم .
(2/327)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا لم تأْتِهم } أي : الكفار ، { بآية } ؛ بمعجزة مما اقترحوا ، أو من القرآن حين يتأخر الوحي ، { قالوا لولا } ؛ هلا { اجتبيتها } أي : تخيرتها وطلبتها من ربك ، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ؟ { قل إِنما أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي } فلا أطلب منه آية ، { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، أو : لا أخترع القرآن من عند نفسي ، بل أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي .
{ هذا } القرآن { بصائرُ } للقلوب { من ربكم } ، أي : من عند ربكم ، بها تُبصر الحق وتُدرك الصواب ، { وهُدىً ورحمةٌ لقوم يؤمنون } ؛ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين .
الإشارة : قد تقدم مرارًا ما في طلب الآيات من ضعف اليقين ، وعدم الصدق بطريق المقربين ، وإنما على الأولياء أن يقولوا : { هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يُؤمنون } بطريق المخصوصين . وبالله التوفيق .
(2/328)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا قُرىء القرآنُ } ، مطلقًا ، { فاستمعوا له وأنصتُوا } ؛ لكي تعتبروا وتتدبروا ، فإنما نزل لذلك ، وهل على الوجوب أو الاستحباب وهو الراجح؟ قولان : وقيل : الاستماع المأمور به لقراءة الإمام في الصلاة ، وقيل : في الخطبة ، والأول الراجح ، لوجهين : أحدهما : عموم اللفظ ، ولا دليل على تخصيصه ، والثاني : أن الآية مكيّة ، والخطبة إنما شُرعت بالمدينة ، وقوله تعالى : { لعلكم تُرحمون } أي : بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن ، قال بعضهم : الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن؛ لهذه الآية . قاله ابن جزي .
الإشارة : الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب ، لا سيما لمن سمعه بلا واسطة ، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم ، وكل واحد ينال من لذة شهود المتكلم على قدر الحجاب عن المستمع ، والله تعالى أعلم .
(2/329)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمن تبعه : { واذكر ربك في نفسك } أي : في قلبك؛ بحركة لسان القلب ، أو في نفسك؛ سرًا بحركة لسان الحس ، { تضرُّعًا وخِيفَةً } أي : متضرعًا وخائفًا ، { ودونَ الجهر من القول } أي : متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر ، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص ، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا؛ لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا ، فكانوا يسبون الذكر والمذكور ، ولما هاجر المصطفى عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر . فالآية منسوخة . انظر : الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي . فقد أجاب عن الآية بأجوبة .
فقوله : { بالغُدوِّ والآصال } أي : في الصباح والعشي ، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث ، وحين تريد النوم الشبيه بالموت ، وقيل : المراد صلاةَ العصر والصبح ، وقيل : صلاةَ المسلمين ، قبل فرض الخمس ، وقيل : للاستغراق ، وإنما خص الوقتين؛ لأنهما محل الاشتغال ، فأولى غيرهما . { ولا تكن من الغافلين } عن ذكر الله .
{ إن الذين عند ربك } ؛ يعني ملائكة الملأ الأعلى ، { لا يستكبرون عن عبادته ويُسبحونه } ؛ يُنزهونه عما لا يليق به ، { وله يسجدون } أي : يخصونه بالعبادة والتذلل ، لا يشركون به غيره ، وهو تعريض بالكفار ، وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى ، ولذلك شرع السجود عند قراءتها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قَرَأَ ابنُ آدمَ السجدةَ ، فَسَجَدَ ، اعتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي ، يَقُولُ : يَا وَيْلهُ ، أمِرَ هذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فعصَيت فَلِي النارُ " .
الإشارة : اعلم أن الذكر على خمسة أقسام : ذكر اللسان فقط؛ لعوام المسلمين ، وذكر اللسان مع القلب ، لخواص الصالحين وأول المتوجهين ، وذكر القلب فقط؛ للأقوياء من السائرين ، وذكر الروح؛ لخواص أهل الفناء من المُوحدين ، وذكر السر؛ لأهل الشهود والعيان من المتمكنين ، وفي قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين ، فيترقى من مقام ، إلى مقام ، حتى يبلغ إلى ذكر السر ، فيكون ذكر اللسان في حقه غفلة .
وفي هذا المقام قال الواسطي رضي الله عنه : الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره؛ لأن ذكره سواه . وفيه أيضًا قال الغزالي : ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب . وقال الشاعر :
مَا إِنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُني ... سرِّي ، وقَلْبِي ، وَرُوحِي ، عِنْدَ ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأنَّ رَقِيبًا مِنْكَ يهْتِفُ بِي : ... إِيَّاكِ ، وَيْحَكَ ، والتَّذكَارَ إيَاكِ
أَمَا تَرَى الحَقِّ قَدْ لآحَتْ شَوَاهِدِهُ ... وَوَاصِل الكُلِّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ
وقوله تعالى : { إِن الذين عند ربك } . . . الآية ، قال القشيري : أثبت لهم عندية الكرامة ، وحفظ عليهم أحكام العبودية؛ كي لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواص عباده ، يلقاهم بخصائص عين الجمع ، ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق ، لئلا يُخِلّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة . ه .
(2/330)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
يقول الحق جل جلاله : { يسألونك عن } قسمة { الأنفالِ } وهي الغنائم ، سميت الغنيمة نفلاً لأنها عطية من الله تعالى ، وزيادة فضل ، كما يسمى ما يشترط الإمام للشجاع المقتحم خطراً ، نفلاً؛ لأنه عطية له زيادة على سهمه ، وكما سمى يعقوب عليه السلام نافلة؛ لأنه عطية زائدة على ولد إبراهيم عليه السلام ، حيث كان حفيده ، ثم أجابهم الحق تعالى فقال : { قل الأنفال لله والرسول } أي : أَمرها إلى الله ورسوله ، يقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يأمره الله تعالى ، وفي الوضع الذي يعينه له .
وسبب نزولها : اختلاف المسلمين في غنائم بدر كيف تقسم ، هل في المهاجرين لفقرهم ، أو في الأنصار لنصرهم ، أو فيهما معاً . قال ابن جزي : وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق : فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وتؤنسه ، وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم ، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا ، فلما انجلت الحرب واجتمع الناس ، ورأت كل فرقة أنها بالغنيمة من غيرها ، اختلفوا فيما بينهم . فنزلت الآية . ه .
وقيل : شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناء أن ينفله ، فتسارع شبابهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين ، ثم طلبوا نفلهم ، وكان المال قليلاً ، فقال الشيخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات : كنا رداءاً لكم ، وفئة تنحازون إلينا ، فلا تختصوا بشيء دوننا ، فنزلت ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء . ولهذا قيل : لا يلزم الإمام الوفاء بما وعد ، وهذا قول الشافعي رضي الله عنه .
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : لمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتل أَخي عُمَيْرٌ ، وقتلتُ سَعِيدَ بْنَ العَاصِ ، وأخذتُ سَيْفَهُ وأتيتُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستوهبته منه ، فقال : " لَيْسَ هَذَا لِي ، ولكن ضَعهُ في القَبض " . فَطَرحْتُهُ ، وفي قلبي مَا لا يَعْلَمُهُ إِلا الله من قَتَلِ أَخِي وأَخْذِ سَلَبي ، فَمَا جَاوَزْتُها إلا قليلاً حتى نزلت سُورَةُ الأَنْفَال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " سَأَلَتنِي السَّيف ولَيْس لِي ، وإِنّهُ قد صَارَ لِي فاذْهَبْ فَخُذْهُ " .
{ فاتقوا الله } في المشاجرة والاختلاف ، { وأَصلحوا ذات بينكم } أي أصلحوا الحال التي بينكم بالمواساة والمواددة وسلامة الصدور ، ولمساعدة فيما رزقكم الله ، وتسليم أمره إلى الله تعالى ورسوله ، { وأطيعوا الله ورسوله } فيما يأمركم به { إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن الإيمان يقتضي الاستماع والاتباع ، أو إن كنتم كاملي الإيمان؛ فإن كمال الإيمان يقتضي التمسك بهذه الخصال الثلاث : امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان .
ثم ذكر شروط كمال الإيمان ، فقال : { إنما المؤمنون } الكاملون في الإيمان : { الذين إذا ذُكر الله وَجَلتْ قلوبُهم } ؛ خافت واقشعرت لذكره؛ استعظاماً له وهيبة من جلاله ، وقيل : هو الرجل يهم بالمعصية فقال له اتق الله ، فينزع عنها خوفاً من عقابه ، { وإِذا تُلِيت عليهم آياته } القرآنية { زادتهم إيماناً } أي : يقيناً وطمأنينة بتظاهر الأدلة التي اشتملت عليها ، أو بالعمل بموجبها .
(2/331)
وهو دليل على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، بناء على أن العمل داخل فيه ، والتحقيق : أن العمل خارج عنه ، لكن نوره يتقوى به وينقص بنقصانه أو بالمعصية وسيأتي في الإشارة الكلام عليه .
ومن أوصاف أهل الإيمان : التوكل على الله والاعتماد عليه ، كما قال : { وعلى ربهم يتوكلون } وقد تقدم في " آل عمران " الكلام على التوكل ، ثم وصفهم بإقامة الدين فقال : { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } في الواجب والتطوع . { أولئك هم المؤمنون حقاً } ؛ لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه مكارم أعمال القلب ، من الخشية والإخلاص والتوكل ، ومحاسن أعمال الجوارح التي هي العِيار عليها ، كالصلاة والصدقة ، { لهم درجات عند ربهم } أي كرامات وعلو منزلة ، أو درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم ، { ومغفرة } لما فرط من ذنوبهم ، { ورزقٌ كريم } أعده لهم في الجنة ، لا ينقطع مدده ، ولا ينتهي أمده ، بمحض الفضل والكرم .
الإشارة : الانفال الحقيقة هي المواهب التي ترد على القلوب ، من حضرة الغيوب؛ من العلوم اللدنية والأسرار الربانية ، لا تزال تتوالى على القلوب ، حتى تغيب عما سوى المحبوب ، فيستغني غناء لا فقر معه أبداً ، وهذه غنائم خصوص الخصوص ، وغنائم الخصوص : هي القرب من الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، بكمال الطاعة والجد والاجتهاد ، وهذه غنائم العباد والزهاد ، وغنائم عوام أهل اليمين : مغفرة الذنوب ، والستر على العيوب ، والنجاة من النار ، ومرافقة الأبرار ، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَالَ عِندَ نَوْمِهِ : أسْتَغْفِر اللِّه َالعَظِيمَ الذي لا إله إلاّ هُوَ الحَيُّ القَيّومَ وَأَتُوبُ إِليْهِ ، غَفَرَ الله ذُنُوبَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَد البَحَرِ ، وعَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا " .
قال الشيخ زروق : وهذه هي الغنيمة الباردة ، وهذه الأمور بيد الله وبواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قوله { قل الأنفال لله والرسول } ثم دل على موجباتها فقال : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم . . . } الآية ، وقوله تعالى : { زادتهم إيماناً } : اعْلم أن الإيمان على ثلاثة أقسام : إيمان لا يزيد ولا ينقص وهو إيمان الملائكة ، وإيمان يزيد وينقص ، وهو إيمان عامة المسلمين ، وإيمان يزيد ولا ينقص وهو إيمان الأنبياء والرسل ، ومن كان على قدمهم من العارفين الروحانيين الراسخين في علم اليقين ، ومن تعلق بهم من المريدين السائرين ، بالطاعة والمعصية؛ لتيقظهم وكمال توحيدهم ، وفي الحكم : " وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول " وقال أيضاً : " معصية أورثت ذلاً وافتقاراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً " والله تعالى أعلم .
(2/332)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قلت : { كما أخرجك } خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : هذه الحال ، وهي عزلهم عن تولية الأَنفال في كراهتهم لها ، كحال إخراجك في الحرب في كراهتهم لها ، أو حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيلك للغزاة ، مثل حالهم في كراهية خروجك ، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله : { لله والرسول } أي : الأنفال تثبت لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ، مع كراهتهم ، ثباتاً مثل ثبات إخراجك ربُّك من بيتك ، يعني المدينة؛ لأنها مسكنه أو بيته منها ، وجملة : { وإن فريقاً } حال مِن أخرجك ، أي : أخرجك في حال كراهية فريق من المؤمنين .
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم : قد كره أصحابُك قسمتك للأنفال كما كرهوا إخراجك { ربُّك من بيتك بالحق } لقتال العدو ، والحال أن { فريقاً من المؤمنين لكارهون } خروجك لذلك ، وتلك الكراهية من قِبل النفس وطبع البشرية ، لا من قِبل الإنكار في قلوبهم لأمر الله ورسوله ، فإنهم راضون مستسلمون ، غير أن الطبع ينزع لِحَظَّه ، والعبد مأمور بمخالفته وجهاده .
وذلك الفريق الذي كره خروجك للقتال { يُجادلونك في الحق } أي : يخاصمونك في إيثارك الجهاد لإظهار الحق ، حيث أرادوا الرجوع للمدينة ، وقالوا : إنا لم نخرج لقتال ، قالوا ذلك { بعد ما تَبَيّن } لهم أنهم منصرون أينما توجهوا ، بإعلام الرسول لهم ، لكن الطبع البشري ينزع إلى مواطن السلامة { كأنما يُساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي : يكرهون القتال كراهة من يُساق إلى الموت ، وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم ، إذ رُوي أنهم كانوا رجّالة ، وما كان فيهم إلا فارسان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لقصد الجهاد ، وإنما لملاقاة عير قُرَيْش ، لمّا سمع أنها قدمت من الشّام ، وفيها تجارةٌ عَظيِمةٌ ، ومعها أربعُون رَاكباً ، فيهم أَبُو سُفْيان ، وعمرو بنُ العاص ، ومخرفة بن نوفل ، وعمروبن هِشَام ، فأراد رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لها ويأخذها غنيمة ، حيث أخبره جبريلُ بقدومها من الشام ، فأخبرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، فأعْجَبَهُم تلقيها ، لكثرةِ المال وقلةِ الرجالِ ، فلما خرجُوا ، بَلَغ الخبرُ أبا سفيان ، فسلك بالعير طريق السَاحِل ، واستأجر من يذهب إلى مكة يستنفرها ، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيرهم ، نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة ، النَّجَاء ، النجاء على كل صَعْبٍ وذَلُولٍ ، عِيرُكُمْ وأَمْوالكم إن أصَابَهَا مُحَمَّدٌ لن تُفْلِحُوا بعدها أبداً .
وقد رأت ، قبل ذلك بثلاث ليال ، عاتكةُ بنت المطلب ، رؤيا؛ وهو أن رجلاً تمثل على جبل قبيس فنادى : يا آل لكع ، اخرجوا إلى مصارعكم ، ثم تمثل على الكعبة ، فنادى مثل ذلك ، ثم أخذ حجراً فضرب به ، فلم يبق بيت في مكة إلا دخلة شيء من ذلك الحجر ، فحدثت بها العباس ، وبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أما ترضى رجالهم أن يتنبؤوا حتى تتنبأ نساؤهم؟ لنتربص ثلاثاً ، فإن لم يظهر ما تقول لنكتبن عليكم يا بني هاشم أنكم أكذب بيت في العرب ، فلما مضت ثلاث ليال جاء رسولُ أبي سفيان ليستنفرهم .
(2/333)
فخرج أبو جهل بجموع أهل مكة ، ومضى بهم إلى بدر ، وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوماً في السنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذَفِران ، فنزل عليه جبريل بالوعد بإحدى الطائفتين : إما العيرُ وإما قُرَيْش ، فاستشار فيه أصحابه ، فقال بعضهم : ما خرجنا لقتال ولا تهيأنا له ، وردد عليهم وقال : إن العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله ، عَلَيكَ بالعيرِ ودَع العَدو ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر وعُمَرُ فأحْسَنَا ، ثم قام سَعْدُ بن عُبادة فقال : انظرُ في أمْرِكَ ، وامْضِ ، فواللَّهِ لَو سِرْتَ إلى عَدَنٍ ما تَخَلَفَ رجلٌ مِنْ الأنْصارِ ، ثم قام المقِدَادُ بنُ عَمْرٍو فقال : امْضِ يا رسول الله لما أمرك ربك ، فإنا معك حيثما أحببتَ ، لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل : { فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَتِلاَ إِنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتِلاَ إنا معكُما مقاتلونَ ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أشيروا عَلَيَّ أيّها الناسُ " ، يريدُ الأنصار؛ لأنهم كانوا عددهم ، وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم بُرءاء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف ألاّ يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سَعْدُ بنُ معَاٍذ وقال : لَكأنَّكَ تُرِيدُنَا يا رسولِ الله؟ فقال : أجَلْ ، فقال : قد آمنّا بِك وصَدَّقْنَاكَ ، وشهدنا أن ما جئْتَ بِهِ هو الحقُّ فأعطَيْنَاكَ على ذلِك عُهُودَنَا ومَوَاثِيقَنَا على السَّمْعِ والطَّاعّةِ ، فامْضِ يا رَسُولَ اللهِ لما أرْدتَ ، فوالذي بَعَثَكَ بالْحق لو اسْتَعْرَضت بنا هذا البَحْرَ فخُضته لخضْنَاهُ مَعَكَ ، ما تَخَلَّفَ مِنّا رَجُلٌ واحِدٌ ، وما نَكرَهُ أن تَلقِي بِنَا عَدُوِّنَا ، وإنا لَصُبُرٌ عِندَ الحَربِ ، صُدُقٌ عندَ الِّلقَاءِ ، ولعَلَّ اللَّهَ يُريكَ منا ما تقرُّ بِه عينُكَ ، فَسِرْ بنا على بَركَةِ اللهِ ، فنشطه قوله ، ثم قال : " سِيرُواعَلَى بَركَةِ الله ، وأبْشِرُوا؛ فِإنَّ الله قد وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائفَتَينِ ، واللهِ لكأنّي أنْظرُ إلى مَصارع القَوْم " .
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بأصحابه آخر مياه من مياه بدر ، فَبُني له هناك عريش ، فجلس فيه هو وأبو بكر ، فلما انتشب القتال أخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم تبق عين من الكفار إلا وقع فيها شيء منها ، ونزلت الملائكة في العنان ، أي : السماء ، فقتل منهم سبعون ، وأُسر سبعون ، وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من غزوة بدر ، قيل له : عليك بالعير ، فقال العباس وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله ، ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة منصوراً فرحاً مسروراً ، وقد أنجزه الله ما وعده .
(2/334)
الإشارة : من حكمته تعالى الجارية في عبادة أن كل ما يثقل على النفوس ويشق عليها في بدايته تكون عاقبته الفتح والنصر ، والهناء والسرور ، فكل ما تكرهه النفوس فغايته حضرة القدوس ، وما تحقق سير السائرين إلا بمحاربة نفوسهم ومخالفة عوائدهم . وفي الحديث عنه صلىلله عليه وسلم ، قال لابن عباس في حديث طويل : " وَفِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْر كَثِير " والله تعالى أعلم .
(2/335)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قلت : { وإذ } : ظرف لاذكر ، محذوفة ، و { أنها لكم } : بدل اشتمال من { إحدى الطائفتين } ؛ والشوكة : الحدة ، مستعارة من واحد الشوك ، وسميت الحرب شوكة لحدة سلاحها .
يقول الحق جل جلاله : { و } اذكروا { إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } ؛ قريشاً أو عِيرهَم ، وعدكم { أنها لكم وتَودون } ؛ وتتمنون { أنَّ غير ذات الشوكة } أي : ذات الحرب { تكونُ لكم } وهي العير ، فإنها لم يكن فيها إلا أربعون رجلاً ، وتكرهون ملاقاة النفير لكثرة عَدَدِهِمِْ وعُددهم ، { ويريد الله أن يُحق الحق } أي : يظهر الحق ، وهو الإسلام ، بقتل الكفار وهلاكهم في تلك الغزوة ، { بكلماته } أي : بإظهار كلماته العليا ، أو بكلماته التي أوحى بها في هذه الحال ، أو بأوامره للملائكة بالأمداد ، أو بنفود كلماته الصادقة بهلاكهم ، { ويقطع دابر الكافرين } أي : يستأصلهم ويقطع شوكتهم .
ومعنى الآية : أنكم تُريدون أن تُصيبوا مالاً ولا تلقوا مكروهاً ، والله يريد إعلاء الدين وإظهار الحق ، وما يحصل لكم من فوز الدارين ، وإنما فعل ما فعل من سوقكم إلى القتال؛ { ليُحق الحق ويُبطل الباطل } أي : ليُظهر الدين ويبطل الكفر .
قال البيضاوي : وليس بتكرار؛ لأن الأول لبيان المراد ، وما بينه وبين مرادهم من التفاوت ، والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلى الله عليه وسلم على اختيار ذات الشوكة وقصره عليها . ه . وقال ابن جزي : ليس تكرار للأول؛ لأن الأول مفعول يريد ، هذا تعليل لفعل الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة ، وبالحق الثاني الإسلام ، فيكون المعنى : أنه نصرهم ليظهر الإسلام ، ويؤيد هذا قوله : { ويُبطل الباطل } أي : يُبطل الكفر ، { ولو كره المجرمون } ذلك ، فإن الله لا بد أن يظهر دينه على الدين كله ، ولو كره الكافرون .
الإشارة : وعد الله المتوجهين إليه بالوصول إلى سر الخصوصية ، وهي الولاية ، لكن بعد المجاهدة والمحاربة للنفوس؛ لأن الحضرة لا يدخلها إلا أهل التهذيب والتدريب ، وترى كثيراً من الناس يتمنون أن تكون لهم من غير حرب ولا قتال ، ويريد الله أن يحق الحق بكشف الحجب عن القلوب ، حتى لا يشاهدوا إلا الحق ، ويُبطل الباطل ، وهو السَّوي ، ولا يكون في العادة إلا بعد موت النفوس وتهذيبها وتطهيرها بالرياضة على شيخ عارف . قال الششتري مترجماً عن لسان الحقيقة :
أن تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتكَ شَرْطٌ ... لا يَنَالُ الوِصَالَ مَنْ فِيهِ فَضْلَه
(2/336)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قلت : { إذ } : بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله : { ليحق الحق } أو باذكر .
يقول الحق جلاله : واذكروا حين كنتم { تستغيثون ربكم } وتدعون بالغوث والنصر ، وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لمّا علموا ألاّ محيص لهم عن القتال أخذوا يقولون : ربنا انصرنا على عدوك ، يا غياث المستغيثين أغثنا .
وعن عمر رضي الله عنه : أنه نَظَرَ إلى المُشْرِكِينَ وهُمْ أَلفٌ ، وإلى أَصْحَابِهِ وهُمْ ثَلاثُمائةٍ ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةِ ومدَّ يديهِ يدعوه : " اللهم أَنْجِزْ لي ما وَعدْتَنِي ، اللهُم إن تَهْلِكْ هذه العصابة لم تُعْبَد في الأرْضِ " ، فما زَالَ كَذَلِك َحتى سَقَطَ رِدَاؤُهُ ، فقال أَبُو بكر ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتك رَبَّكَ ، فإِنَّهُ سيُنْجِزُ لَكَ ما وَعَدَكَ " . وقد تقدم أن الأنبياء وكبراء الأولياء لا يقفون مع ظاهر الوعد والوعيد لسعة دائرة علمهم ، بل لا يزول اضطرارهم ، ولا يكون مع غير الله قرارهم ، ولعل ذلك الوعد يكون متوقفاً على شروط أخفاها الحق تعالى؛ لتظهر قهريته وانفراده بالعلم المحيط .
ولما استغاثوا بالله وأظهروا الحاجة إليه أجابهم فقال : { فاستجاب لكم أني مُمدكم } ؛ مقويكم ومكثركم { بأَلْفٍ من الملائكة مُردفين } يتبع بعضهم بعضاً ، ويتبع المؤمين ، فكانوا خلفهم ردْءاً لهم ، فمن قرأ بفتح الدال فهو اسم مفعول ، ومن قرأه بالكسر فاسم فاعل ، وصح معنى القرءتين ، لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضاً ، فمنهم تابعون ومتبوعون ، ومن قرأ بالفتح فالمراد مردفين بالمؤمنين ، فكانوا مقدمة الجيش ، ومن قرأ بالكسر فالمراد مردفين للمؤمنين تابعين لهم ، فكانوا ساقة للجيش .
ثم ذكر حكمة الإمداد بقوله : { وما جعله الله } أي : الإمداد { إلا بُشرى } أي : بشارة بالنصر ، { ولتطمئن به قلوبكم } فيزول ما بها من الوجل لقلتكم ، { وما النصر إلا من عند الله } ؛ لا يتوقف على سبب ، { إن الله عزيز } لا يغلب { حكيم } في تدبير الأسباب وترتيبها رداء للقدرة الأزلية ، فإمداد الملائكة ، وكثرة العدد ، والتأهب ، وسائط ، لا تأثير لها ، فلا تحسبوا النصر منها ، ولا تيأسوا منه بفقدها ، فحكم الأزل جلّ أن يضاف إلى العلل .
الإشارة : إظهار الفاقة الابتهال لا يقدح في صحة التوكل على الكبيرالمتعال ، بل هو شرف للإنسان ، وتقريب من الكريم المنان ، بل من شأن العارف الكامل الرجوع إلى الله في كل شيء ، والتعلق به في كل حال ، ولو وعده بالنصر أو الإجابة ، لا يقطع عنه السؤال ، عبوديةً وتملقاً بين يدي الحبيب .
وقد اختلف الصوفية : أي الحالين أشرف : هل الدعاء والتضرع؟ أو السكوت والرضى تحت مجاري الأقدار؟ وقال بعضهم : يجب أن يكون العبد صاحب دعاء بلسانه ، صاحب رضى بقلبه ، ليجمع بين الأمرين . قال القشيري : والأَوْلى أن يُقال : إن الأوقات مختلفة ، ففي بعض الأحوال الدعاء أفضلُ ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل ، وإنما يُعرف ذلك في الوقت؛ لأن علم الوقت يحصل في الوقت ، فإذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء؛ فالدعاء منه أولى ، وإذا وجل إشارة إلى السكوت فالسكوت أتم . ه . وقد تقدم في آل عمران إشارة الإمداد . وبالله التوفيق .
(2/337)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قلت : ( إذا ) بدل ثان من ( إذ يعدكم ) ، أو متعلق بالنصر ، لِمَا في ( عند الله ) من معنى الفعل ، أو بإضمار اذكروا ، ومن قرأ بضم الياء ، فهو من أغشى ، أي : غطى ، ومن قرأ بالتشديد ، فهو من غشي المضعف ، وكلاهما يتعدى إلى مفعولين ، الكاف الأول والنعاس الثاني ، ومن قرأ بالفتح والتخفيف ، فهو من غشى يغشى؛ المتعدي إلى واحد و ( وأمنة ) : مفعول من أجلة .
يقول الحق جل جلاله : واذكروا { إذ يُغشيكم } ، أي : حين كان يغشيكم { النُعاسَ } وأنتم في القتال ، حين ينزل عليكم الأمْن من العدو بعد شدة الخوف ، وذلك لأجل الأمن الذي نزل من الله عليكم بعد شدة خوفكم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : النعاس عند حضور القتال علامة أَمْنٍ مِنَ العدو .
ثم ذكّرهم بمنة أُخرى ، فقال : { ويُنزل عليكم من السماء ماء ليُطهركم به } من الحدث والجنابة ، { ويُذهب عنكم رجز الشيطان } أي : وسوسته وتخويفه إياهم من العطش ، رُوي أنهم نزلوا في كثيب رمل دهس ، تسوخ فيه الأقدام على ماء قليل ، وناموا فاحتلم أكثرهم ، فوسوس إليهم الشيطان ، وقال : كيف تُنصرون وأنتم تصلون محدثين مجنبين ، وتزعمون أنكم أولياء الله فيكم رسوله؟ فأشفقوا ، فأنزل الله المطر ، فمُطروا ليلاً حتى جرى الوادي ، فاتخذوا الحياض على عدوته ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا وتوضؤوا ، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو ، حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الدهوسة ، وهذا معنى قوله : { وليَرِبطَ على قلوبكم ويُثبتَ به الأقدام } أي؛ وليربط على قلوبكم بالوثوق على لطف وزوال ما وسوس إليهم الشيطان ، وذهاب الكسل عنها . { ويُثبت به الأقدام } حتى لا تسوخ في الرمل ، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في مداحض الحرب .
واذكروا أيضاً : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم } أي : أُثبت أقدامكم حين أُوحي إلى الملائكة أني معكم في نصر المؤمنين وتثبيتهم { فثبتوا الذين آمنوا } بتكثير عددهم ، أو بالبشارة لهم ، أو بمحاربة أعدائهم ، على قول من قال : إنهم باشروا القتال . { سأُلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } والجزع حتى لا يثبتوا لقتالكم ، يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة ، أو استئناف؛ إخباراً للمؤمنين عما يفعله بعدوهم عاجلاً وآجلاً . ثم قال للملائكة أو للمؤمنين : { فاضربوا فوق الأعناق } أي : أعاليها التي هي المذابح والرؤوس ، { واضربوا منهم كل بَنَان } أي : أصابعهم ، أي : جزوا رقابهم واقطعوا أطرافهم .
الإشارة : كان شيخ شيخنا يُشير على الفقراء ، إذا كثرت عليهم الخواطر والهواجس ، بالنوم ، ويقول؛ من تشوش خاطره فليرقد حتى يشبع من النعاس ، فإنه يجد قلبه؛ لأن النعاس أمنة من الله يذهب به رجز الشيطان وثقله ، ويربط على القلوب في الحضرة؛ لأنه زوال ، وإذا زال العبد ظهر الحق وزهق الباطل .
وقوله تعالى : { ويُنزل عليكم من السماء ماء } : هو ماء الغيب الذي يطهر القوب من شهود السَّوى ، ويذهب به رجز الشيطان ، وهي ظلمة الأكوان ، التي تنعقد في القلب من حب الهوى الذي هو من تزيين الشيطان ، ويثبت به الأقدام ، حتى تثبت عند مصادمة أنوار الحضرة ، التي هي تجلي الذات ، فلا يثبت لها إلا الشجعان والأبطال وأكابر الرجال . والله تعالى أعلم .
(2/338)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
قلت : ( ذلكم ) : مبتدأ حُذف خبره ، أي : ذلكم العقاب أو العذاب ، أو خبر ، أي : الأمر ذلكم ، أو منصوب بمضمر يفسره فذوقوه ، و ( الكافرون ) : عطف على ( ذلكم ) ، أو نصب على المفعول معه ، وقرئ بالكسر؛ استئنافاً .
يقول الحق جل جلاله : { ذاك } الضرب لأعناق الكفار ، أو الأمر به { بأنهم } ؛ بسبب أنهم { شاقوا } أي : خالفوا { الله ورسوله } ، وصاروا كأنهم في شق وهو في شق؛ مبالغة في المخالفة والمباعدة ، { ومن يشاقق الله ورسوله } ويبعد عنهما { فإن الله شديد العقاب } لكم من خالفه أو خالف رسوله ، وهو تقرير للتعليل ، أو وعيد بما أعد الله لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا ، { ذلكم } العذاب { فذوقوه } وباشروا مرارته ، { وأنَّ للكافرين عذابَ النار } ، والمعنى : ذُوقوا ما عجل لكم من النقمة في الدنيا مع ما يحل عليكم في الآخرة من عذاب النار ، ووضع الظاهر موضع المضمر؛ للدلالة على أن الكفر سبب العذاب العاجل والآجل .
الإشارة : مخالفة الله ورسوله توجب الطرد والبعاد ، وموافقة الله ورسوله توجب القربة والوداد ، وهذا الموافقة التي توجب للعبد المحبة والوداد تحصل بخمسة أشياء : امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، والإكثار من ذكره ، الاستسلام لقهره ، والاقتداء بنبيه صلىلله عليه وسلم والتأدب بآدابه ، والتخلق بأخلاقه ، وبأضداد هذه الأشياء يحصل للعبد المخالفة التي توجب طرده وبُعده ، وهي مخالفة أمره ، وارتكاب نهيه ، والغفلة عن ذكره ، والتسخط عند نزول قهره ، وعدم الاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم ؛ بارتكاب البدع المحرمة والمكروهة ، حتى يُفضى به الحال إلى المشاققة والمباعدة ، { ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب } بالله التوفيق .
(2/339)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قلت : ( زحْفاً ) : مصدر ، وزحف الصبي إذا دب على مقعده قليلاً قيلاً ، سمى به الجيش المقابل للقتال؛ لأنه يندفع للقتال شيئاً فشيئاً ، ونصبه على الحال من فاعل " لقيتم " أو " من الذين كفروا " و ( متحرفاً ) و ( متحيزاً ) : حالان ، و ( إلا ) مُلغاة ، ووزن متحيز : متفيْعل ، لا متفعل ، وإلا كان متحوزاً؛ لأنه من حاز يحوز .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } زاحفين لهم ، تدبون إليهم ويدبون إليكم ، تريدون قتالهم متوجهين إليهم ، { فلا تُولوهم الأدبارَ } بالانهزام عنهم ، فإنه حرام ، وهو من الكبائر ، ويفيد بألا يكون الكفار أكثر من ثلثي المسلمين ، فإن زادوا على ثلثي المسلمين حلَّ الفرار ، وأن يكون المسلمون مسلحين ، وإلا جاز الفرار ممن هو بالسلاح دونه ، { ومن يُولَّهم يومئذ دُبُره إلا متحرفاً لقتالِ } ، وهو أن يكرّ راجعاً أمام العدو ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه ، وهو من مكائد الحرب ، { أو متحيزاً إلى فئة } أي : منحازاً إلى جماعة من المسلمين ليستعين بهم ، فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب ، أو قريبة فالتحيز إليها جائز باتفاق ، واختلف في التحيز إلى المدينة ، والإمام والجماعة إذا لم يكن شيء من ذلك حاضراً .
ويُروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أنا فئة لكل مسلم . ورُوي عن ابن عمر : أنه كان في سرية بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وففَرُّوا إلى المدينة ، فقلت : يا رَسُولَ اللَّهِ ، نحن الفَرَّارُونَ ، فقال : " أًنْتُم الكرَّارُونَ ، وأنا فِئَتُكُمْ " .
فمن فرَّ من الجهاد بالشرط المتقدم { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنمُ وبئس المصيرُ } ، ومن هذا يفهم أنه من الكبائر . قال البيضاوي : وهذا إذا لم يزد العدو على الضعف لقوله { الئَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُم . . . } [ الأنفال : 66 ] الآية ، وقيل : الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرون معه في الحرب . ه .
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمتوجهين إليه بالمجاهدة والمكابدة : إذا لقيتم أعداءكم من القواطع؛ كالحظوظ ، والشهوات ، وسائر العلائق ، فاثبتوا حتى تظفروا ، ولا ترجعوا وتولوهم الأدبار فيظفروا بكم ، إلا متحيزاً لقتال؛ بإيثار بعض الرخص ، ليقوى على ما هو أشد منها مشقة عليها ، أو متحيزاً إلى جماعة من أكابر العارفين ، فإنهم يُغنونه بالمشاهدة عن المجاهدة ، إذا ملكهم زمام نفسه ، وفعل كل ما يُشيرون به عليه ، فإن ذلك يُفضي به إلى الراحة بعد التعب ، والمشاهدة بعد المجاهدة ، إذا لا تجتمع المجاهدة في الظاهر مع مشاهدة الباطن عند أهل الذوق .
قال القشيري بعد كلامه على الآية : فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خَدَمِهم من نعمهم ، والأصفياء من الأولياء يُنفقون على مريديهم من هِمَمِهم؛ يجبرون كَسْرَهم وينوبون عنهم ، ويساعدونهم بحسن إرشادهم ، ومَنْ أهمل مريداً وهو يعرف صِدْقه ، أو خالف شيخاً وهو يعرف فضله ، وحَقَّه ، فقد بَاءَ من الله بسخط ، واللّهُ تعالى حسيبُه في مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه . ه .
(2/340)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
يقول الحق جل جلاله : فَلَمْ تقتلوا الكفار بحولكم وقوتكم وذلتكم ، وقلّة عُدتكم وعدَدكم ، وكثرة عدوكم وعُدتهم ، { ولكن اللَّه قتلهمْ } بواسطة مباشرتكم ، حيث أيدكم وسلطكم عليهم ، وإمداد الملائكة لكم ، وإلقاء الرعب في قلوب عدوكم .
قال البيضاوي : رُوي أنه لما أَطلَّتْ قريش من العقنقل اسم جبل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بخُيَلائِهَا وفَخْرِهَا ، يُكَذِّبُونَ رَسُولَكَ ، اللَّهُمَّ إِنَّي أَسْأَلُكَ مَا وَعَدْتَنِي " ، فأَتَاهُ جِبْرِيلُ ، وَقَال له : خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فارْمِهِمْ بِهَا ، فلمَّا التَقَى الجَمعَأن تناول كفّاً من الحَصْبَاءِ فَرَمَى بها في وُجُوهِهِم ، وقال : " شَاهَتْ الوُجُوهُ " فَلَمْ يَبق مُشْرِكٌ إلا شُغِلَ بَعَيْنَيْهِ ، فانْهَزَمُوا . وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم ، ثم لما انصرفوا أقبلوا على التفاخر ، فيقول الرجل : قتلتُ وأسرتُ ، فنزلت الآية ، وإلغاء جواب شرط محذوف ، تقديره : إن افتخرتم بقتلهم فلَمْ تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، { وما رميتَ } يا محمد رمياً توصها إلى أعينهم . ولم تقدر عليه { إذْ رميتَ } أي : حين ألقيت صورة الرمي ، { ولكنَّ الله رَمَى } ، أتى بما هو غاية الرمي ، فأوصلها إلى أعينهم جميعاً ، حتى انهزموا وتمكنتم من قطع دابرهم . ه . فالرمي ، حقيقة ، إنما وقع من الله تعالى ، وإن ظهر حساً من النبي صلى الله عليه وسلم .
وإنما فعل ذلك ليقطع طرفاً من الكفار ، ويحد شوكتهم ، { وليُبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } أي : ليختبر المؤمنين منه اختباراً حسناً ، ليظهر شكرهم على هذه النعمة ، أو لينعم عليهم نعمة عظيمة؛ بالنصر والغنيمة ومشاهدة الآيات ، { إن الله سميع } لاستغاثتهم ودعائهم ، { عليم } بنياتهم وأحوالهم . { ذلكم } أي : البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي ، واقع لا محالة ، أو الأمر ذلكم ، { وأن الله موهن كيد الكافرين } أي : مضعف كيد الكافرين ، ومبطل حيلهم ، أي : المقصود بذلك القتل أو الرمي إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم .
الإشارة : يقول الحق جل جلاله للمريدين المتوجهين لحضرة محبوبهم : فلَمْ تقتلوا نفوسكم بمجاهدتكم؛ إذ لا طاقة لكم عليها ، ولكن الله قتلها بالنصر والتأييد ، حتى حييت بمعرفته ، ويقول الشيخ : وما رميت القلوب بمحبتي ومعرفتي ، ولكن الله رمى تلك القلوب بشيء من ذلك ، وإنما أنت واسطة وسبب من الأسباب العادية ، لا تأثير لك في شيء من ذلك .
حُكي أن الحلاج ، لما كان محبوساً للقتل ، سأله الشبلي عن المحبة ، فقال : الغيبة عما سوى المحبوب ، ثم قال : يا شبلي ، ألست تقرأ كتاب الله؟ فقال الشبلي : بلى ، فقال : قد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، يا شبلي؛ إذ رَمَى اللَّهُ قَلْبَ عبده بِحَبََّةٍ من حُبّه ، نادى عليه مدى الأزمان بلسان العتاب . ه . والمقصود بذلك : تخصيص أوليائه المقربين بالمحبة والمعرفة والتمكين ، وتوهين كيد الغافلين المنكرين لخصوصية المقربين . والله تعالى أعلم .
(2/341)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يقول الحق جل جلاله لكفار مكة على جهة التهكم : { إن تستفتحوا } أي : تطلبوالفتح ، أي : الحكم على أهْدى الفئتين وأعلى الجندين وأكرم الحزبين { فقد جاءكم } الحكم كما طلبتم ، فقد نصر الله أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه ، { وإن تنتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول ، { فهو خيرٌ لكم } ؛ لتضمنه سلامة الدارين وخير المنزلين ، { وإن تعودوا } لمحاربته { نعد } لنصره ، { ولن تغني } ؛ تدفع { عنكم فئتكم } ؛ جماعتكم { شيئاً } من المضار { ولو كثُرت } فئتكم ، إذ العبرة بالنصرة لا بالكثره ، { وإن الله مع المؤمنين } بالنصر والمعونة .
ومن قرأ بالفتح؛ فعلى حذف الجار ، أي : ولأن الله مع المؤمنين ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر ، وإن تنتهوا عن التكاسل في القتال ، والرغبة عما يختاره الرسول ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إليه نعد عليكم الإنكار ، أو تهييج العدو ، ولن تغني ، حينئذٍ عنكم كثرتكم؛ إذ لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم . قال البيضاوي .
الإشارة : إن تستفتحوا أيها المتوجهون ، أي؛ تطلبوا الفتح من الله في معرفته ، فقد جاءكم الفتح ، حيث صح توجهكم وتركتم حظوظكم وعلائقكم ، لأن البدايات مَجْلاَةُ النهايات ، من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو علامة القبول آجلاً ، وإن تنتهوا عن حظوظكم وعوائقكم فهو خير لكم ، وبه يقرب فتْحُكُم ، وإن تعودوا إليها نعد إليكم بالتأديب والإبعاد ، ولن تغني عنكم جماعتكم شيئاً في دفع التأديب ، أو البعد ولو كثرت ، وأن الله مع المؤمنين الكاملين في الإيمان؛ بالنصر والرعاية .
(2/342)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } فيما أمركم به ونهاكم عنه ، { ورسولَه } فيما ندبكم إليه من الجهاد وغيره ، { ولا تَولوا } أي : تُعرضوا عن الرسول { وأنتم تسمعون } القرآن يأمركم بالتمسك به ، والاقتداء بهديه . والمراد بالآية : النهي عن الإعراض عن الرسول . وذكرُ طاعة الله إما هو للتوطئة والتنبيه على أن طاعة الله في طاعة الرسول ، لقوله : { مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ اللَّه } [ النساء : 80 ] ، ثم أكد النهي بقوله : { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا } بآذاننا ، كالكفرة والمنافقين ، ادَّعَوْا السماع ، { وهم لا يسمعون } سماعاً ينتفعون به ، فكأنهم لا يسمعون رأساً .
الإشارة : لما غلب عليه الصلاة والسلام بقي خلفاؤه في الظاهر والباطن؛ وهم العلماء الأتقياء ، والعارفون الأصفياء . فمن تمسك بهم ، واستمع لقولهم ، فقد تمسك بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن أعرض عنهم فقد أعرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فمن تمسك بما جاءت به العلماء ، فاز بالشريعة المحمدية ، وكان من الناجين الفائزين . ومن تمسك بالأولياء العارفين ، واستمع لهم ، وتبع إرشادهم ، فاز بالحقيقة الربانية ، وكان من المقربين . ومن سمع منهم الوعظ والتذكير ، ثم صرفه عن نفسه إلى غيره ، يصدق عليه القوله تعالى { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } وكان من شر الدواب .
(2/343)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
يقول الحق جل جلاله : { إن شر الدوابّ عند الله } ؛ وهو كل من يدب على وجه الأرض ، { الصمُّ } عن سماع الحق ، { البُكمُ } عن النطق به ، { الذين لا يعقلون } الحق ولا يعرفونه ، عدهم من البهائم ثم جعلهم شرها؛ لإبطالهم ما مُيزوا به وفُضلوا لأجله ، وهو استعمال العقل فيما ينفعهم من التفكر والاعتبار . قال ابن قتيبة : نزلت هذه الآية في بني عبد الدار ، فإنهم جدوا في القتال مع المشركين ، يعني يوم بدر ، وحكمها عام .
{ ولو علِمَ الله فيهم خيراً } ؛ سعادة كتبت لهم ، أو انتفاعاً بالآيات ، { لأسمعهُم } سماع تَفَهُّم ، { ولو أسمعهم } ، مع كونه قد علم الأخير فيهم ، { لتولَّوا } عنه ، ولم ينتفعوا به ، وارتدوا بعد التصديق والقبول ، { وهم مُّعرضون } عنه لعنادهم ، وقيل : إنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحيي لهم قُصي بن كلاب ، ويشهد له بالرسالة ، حتى يسمعوا منه ذلك ، فأنزل الله : { ولو عَلِمَ اللَّهُ فيهم خيراً لأسمعهم } كلامه بعد إحيائه ، { ولو أسمعهم لتولوا وهم مُّعرضُون } ، لسبق الشقاوة في حقهم .
الإشارة : اعلم أن الأمر الذي شرف به الآدمي وفضل غيره هو معرفة خالقه ، واستعمال العقل فيما يقربه إليه ، وسماع الوعظ الذي يزجره عن غيه ، فإذا فقد هذا كان كالبهائم أو أضل ، ولله در ابن البنا ، حيث يقول في مباحثه :
وَاعْلَمْ أَنَّ عُصْبَةَ الجُهَّالِ ... بَهَائِمٌ في صُوَرِ الرِّجَال
واعلم أيضاً أن بعض القلوب لا تقبل علم الحقائق ، فأشغلها بعلم الشرائع ، ولو علم فيها خيراً لأسمعها تلك الأسرار ، ولو أسمعها ، مع علمه بعدم قبولها ، لتولت عنها وأعرضت؛ لضيق صدرها وعدم التفرغ لها .
(2/344)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله } أي : أجيبوا فيما دعاكم إليه ، { وللرسول } فيما دلكم عليه من الطاعة والإحسان ، { إذا دعاكم لما يُحييكم } من العلوم الدينية؛ فإنها حياة القلب ، كما أن الجهل موته ، أو { إذا دعاكم لما يُحييكم } الحياة الأبدية ، في النعيم الدائم ، من العقائد والأعمال ، أو من الجهاد ، فإنه سبب بقائكم؛ إذ تركتموه لغلبكم العدو وقتلكم ، أو الشهادة ، لقوله تعالى : { أَحيَاءُ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، ووحد الضمير في قوله : { إذا دعاكم } باعتبار ما ذكر ، أو لأن دعوة الله تُسمع من الرسول .
وفي البخاري : أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أبيّ بْنَ كَعْبٍ ، وهو في الصَّلاة ، فلم يجب ، فلما فرغ أجاب ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " ما مَنَعَكَ أن تجيبني " فقال : كُنْتُ أُصلّي ، فقال : " أَلمْ تَسْمَعَ قوله : { استَجِيتُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول } " فاختلف فيه العلماء ، فقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة ، فيُجيب ، ويبقى على صلاته ، وقيل : إن دعاءه كان لأمر لا يقبل التأخير ، وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله ، كإنقاذ أعمى وشبهه .
ثم قال تعالى : { واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المرء وقلبه } ؛ فينقله من الإيمان إلى الكفر ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن اليقين إلى الشك ومن الشك إلى اليقين ، ومن الصفاء إلى الكدر ، ومن الكدر إلى الصفاء . وقيل البيضاوي : هو تمثيل لغاية قربه من العبد؛ كقوله تعالى : { وَنَحنُ أَقرَبُ إِلَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، وتنبيه على أنه مطلع على مكنونات القلوب ، مما عسى أن يغفل عنها صاحبها ، أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها ، قبل أن يحول الله بينه وبين قلبه بالموت أو غيره ، أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه؛ فيفسخ عزائمه ، ويغير مقاصده ، ويحول بينه وبين الكفر ، إن أراد سعادته ، وبينه وبين الإيمان ، إن قضى شقاوته . ه . { و } اعلموا أيضاً { أنه إليه تُحشرون } ؛ فيجازيكم بأعمالكم وعقائدكم .
الإشارة : قد جعل الله ، من فضله ورحمته ، في كل زمان وعصر ، دعاة يدعون الناس إلى ما تحيا به قلوبهم ، حتى تصلح لدخول حضرة محبوبهم ، فهم خلفاء عن الله ورسوله ، فمن استجاب لهم وصحبهم حيي قلبه ، وتطهر سره ولبه ، ومن تنكب عنهم ماتت روحه في أودية الخواطر والأوهام .
وقوله تعالى : { واعلموا أن الله يَحُولُ بين المرء وقلبه } ؛ حيلولة الحق تعالى بين المرء وهو تغطيته وحجبه عن شهود أسرار ذاته وأنوار صفاته ، بالوقوف مع الحس ، وشهود الفرق بلا جمع ، ويعبر عنه أهل الفن بفَقْد القلب ، فإذا قال أحدهم : فقدتُ قلبي ، فمعناه : أنه رجع لشهود حسه ووجود نفسه ، ووجدان القلب هو احتضاره بشهود معاني أسرار الذات وأنوار الصفات ، فيغيب عن نفسه وحسه ، وعن سائر الأكوان الحسية ، وفقدان القلب يكون بسبب سوء الأدب ، وقد يكون بلا سبب؛ اختباراً من الحق تعالى ، هل يفزع إليه في فقدان أو يبقى مع حاله .
(2/345)
وقد تكلم الغزالي على القلب فقال ، في أول شرح عجائب القلب من الإحياء : إن المطيع بالحقيقة لله هو القلب ، وهو العالم بالله ، وهو الساعي إلى الله ، والمتقرب إليه ، المكاشف بما عند الله ولديه ، وإنما الجوارح أتباع ، والقلب هو المقبول عند الله ، إذا سَلِمَ من غير الله ، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً في غير الله وهو المطالب والمخاطب ، وهو المعاتب والمعاقب ، وهو الذي يسعد بالقرب من الله ، فيفلح إذا زكاه ، ويخيب ويشقى إذا دنسه ودساه . ثم قال : وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه ، وإذا جهله فقد جهل نفسه ، وإذا جهل نفسه ، جهل ربه ، ومن جهل قلبه فهو لغيره أجهل ، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم ، فإن الله يحول بين المرء وقلبه ، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ، ومعرفة صفاته ، وكيفية تقلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن ، إلى أعلى عليين ، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين ، ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ، ويترصد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ، فهو ممن قال الله تعالى فيهم : { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم } [ الحشر : 19 ] الآية . ه .
وقد أنشد من وجد قلبه ، وعرف ربه ، وغنى بما وجد ، فقال :
أَنَا القُرآنُ والسَّبْعُ المَثَانِي ... وروحُ الرُّوح لا روح الأَوَاني
فؤادي عند معلوم مقيم ... تناجيه وعندكم لساني
فَلاَ نَنْظُرْ بِطَرْفِكَ نَحْوَ جِسْمِي ... وعُدْ عن التنعيم الأواني
فأَسْرارِي تراءت مبهمات ... مُسَتَّرَةً بأَنْوار المَعَاني
فَمَنْ فَهِمَ الإشَارَةَ فليَصُنْها ... وإلاّ سوف يقتل بالسنانِ
كَحَلاَّج المحبة إذْ تبدَّتْ ... له شمسُ الحقيقة بالتداني
(2/346)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قلت : دخلت النون في ( لا تصيبن ) ؛ لأنه في معنى النهي ، على حد قوله : { لاَ يَحطِمَنَّكُم سُلَيَمَان } [ النمل : 18 ] انظر البيضاوي .
يقول الحق جل جلاله : { واتقوا فتنة } ، إن نزلت { لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } ، بل تعم الظالم وغيره ، ثم يبعث الناس على نيتهم ، وذلك كإقرار المنكَر بين أظهركم ، والمداهنة في الأمر بالمعروف ، واقتراف الكبائر ، وظهور البدع ، والتكاسل في الجهاد ، وعن الفرائض ، وغير ذلك من أنواع الذنوب ، وفي الحديث : " لَتأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهُونَّ عن المُنْكَرِ ، أو لَيَعُمَّنَّكُمْ اللَّهُ بِعَذَابِهِ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . قالت عائشة رضي الله عنها : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : " نعم ، إذا كثُر الخبث " .
قال القشيري . في معنى الآية : احذروا أن ترتكبوا زلَّةً توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها ، بل يعمُّ شؤمُها مَنْ تعاطاها ومن لم يتعاطاها . وغير المجرم لا يُؤخْذَ بجُرْم من أذنب ، ولكن قد ينفرد واحدٌ بجُرم فيحمل أقوامٌ من المختصين بفاعل هذا الجُرْم ، كأن يتعصبوا له إذا أُخِذَ بحكم ذلك الجرّم ، فبعد ألا يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم؛ فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالماً في الحا ل ، بل تصيب أيضاً ظالماً في المستقبل؛ بسبب تعصبه لهذا الظالم ، ورضاه به . ه . وسيأتي تمامه في الإشارة .
وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير ، وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل . ه . قال تعالى؛ { واعلموا أن الله شديد العقاب } لمن ارتكب معاصيه وتسبب في فتنة غيره .
الإشارة : في القشيري ، لما تكلم على تفسير الظاهر ، قال : وأما من جهة الإشارة فإن العبدّ إذا باشر زّلّةٍ بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة ، وهي العقوبة المعجلة ، ونصيب النفس من الفتنة العقوبة ، والقلبُ إذا حصلت منه فتنة ، وهو همه بما لا يجوز ، تَعدَّتْ فتنته إلى السر وهي الحُجْبَةُ . وكذلك المُقَدًّمُ في شأنه ، إذا فعل ما لا يجوز ، انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى مُتَّبعِيهِ وتلامذتِهِ ، فكان انقطاع تلك البركات عنهم نصيبهم من الفتنة ، وهم لم يعملوا ذنباً ، ويقال : إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر أصابتهم فتنة بتَرْكِهِم الإنكار عليهم فيما فعلوا من الإجرام .
ثم قال : ويقال : إنًّ الزاهد إذا انحط إلى رخصة الشرع في اخذ الزيادة من الدنيا بما فوق الكفاية وإن كانت من وجه حلال تعدت فتنتهُ إلى من يتخرج على يديه من المبتدئين ، فيحمله على ما رأى منه على الرغبة في الدنيا ، وتَرْكِ التقلل ، فيؤديه إلى الانهماك في أودية الغفلة في الأشغال الدنيوية ، والعابد إذا جَنَحَ إلى سوء ترك الأوراد تعدَّى ذلك إلى ما كان ينشط في المجاهدة به ، ويتوطَّن الكسل ، ثم يحمله الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصير كما قيل :
إن الشبابَ والفراغ والجدَةْ ... مفسدةٌ للمرء أي مفسده
فهذا يكون نصيبهم من الفتنة ، والعارف إذا رجع إلى ما فيه حَظَّ له ، نَظَرَ إليه المريدُ فتتداخله فتنة فَتْرَةٌ فيما هو به من الصدق المنازلة ، فيكون ذلك نصيبه من فتنة العارف . وبالجملة : إذا غفل المَلِكُ ، وتَشَاغَلَ عن سياسة رعيته ، تَعَطَّلَ الجندُ والرعية ، وعَظُمَ فيهم الخَلَلُ والبَليَّة ، وفي معناه أنشدوا :
رُعَاتُك ضيَّعوا بالجهل منهم ... غُنَيْمَاتٍ فَساسَتْها ذِئابُ
انتهى كلامه رضي الله عنه .
(2/347)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
يقول الحق جل جلاله : { واذكروا إذ أنتم قليل } أي؛ اذكروا هذه النعمة ، حيث كنتم بمكة وأنتم قليل عَددكم مع كثرة عدوكم ، { مستضعفون في الأرض } أي : أرض مكة ، يستضعفكم قريش ويعذبونكم ويضيقون عليكم ، { تخافون أن يتخطفكم الناسُ } أي : قريش ، أو من عداهم ، { فآواكم } إلى المدينة ، وجعلها لكم مأوىً تتحصنون بها من أعدائكم ، { وأَيَّدكم } أي : قواكم { بنصره } على الكفار ، أو بمظاهرة الأنصار ، أو بإمداد الملائكة يوم بدر ، { ورزَقكم من الطيبات } ؛ من الغنائم ، { لعلكم تشكرون } هذه النعم .
والخطاب للمهاجرين ، وقيل : للعرب كافة؛ فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم ، يخافون أن يتخطفهم الناس من كثرة الفتن ، فكان القوي يأكل الضعيف منهم ، فآواهم الله إلى الإسلام ، فحصل بينهم الأمن والأمان ، وأيدهم بنصره ، حيث نصرهم على جميع الأديان ، وأعزهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورزقهم من الطيبات ، حيث فتح عليهم البلاد ، وملكوا ملك فارس والروم ، فملكوا ديارهم وأموالهم ، ونكحوا نساءهم وبناتِهم ، لعلهم يشكرون .
الإشارة : التذكير بهذه النعمة يتوجه إلى خصوص هذه الأمة ، وهم الفقراء المتوجهون إلى الله ، فهم قليل في كل زمان ، مستضعفون في كل أوان ، حتى إذا تمكنوا وتهذبوا ، وطهروا من البقايا منَّ عليهم بالنصر والعز والتأييد ، كما وعدهم بقوله : { وَنُرِيدُ أًن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ فىِ الأَرضِ . . . } [ القصص : 5 ] الآية ، والغالب عليهم شكر هذه النعم ، لَمَا خصهم به من كمال المعرفة . والله تعالى أعلم .
(2/348)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله } ؛ بتضييع أوامره ، وارتكاب نواهيه ، { والرسول } ؛ بمخالفة أمره وترك سنته ، أو بالغلول في الغنائم ، أو بأن تُبطنوا خلاف ما تظهرون .
قيل : نزلت في أبي لبابة في قصة بَني قُرَيْظَةَ . روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصرهم إِحْدَى وعشرين ليلةً ، فَسَأَلوا الصُّلْحَ كما صَالَحَ إِخْوانَهُمْ بَني النَّضِير ، عَلَى أَنْ يَصيروا إلى إخوانهم بأذْرِعَاتٍ وأريحا من الشَّام ، فأبَى إلا أن يَنْزِلوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، فَأبَوْا وقَالوا : أرْسِلَ لنا أبا لُبَابَةَ ، وكان مُنَاصِحاُ لهُمْ؛ لأنَّ عيَالهُ ومَالَهُ في أَيْدِيِهِمْ ، فَبَعَثَه إليْهِمْ ، فقالوا : ما تَرَى؟ هَلْ نَنْزِلُ على حُكْم سَعْدٍ؟ فأَشارَ إلى حَلْقِهِ ، أنه الذَّبْحُ ، فقال أبو لُبَابَة : فما زَالت قَدَمَاي حَتَّى عَلِمْتُ أَنِّي قَدْ خُنْتُ الله ورسُولَهُ ، فنزل وشدَّ نَفْسَهُ إلى ساريةٍ في المسجد ، وقال : والله لا أَذُوقُ طعاماُ ولا شَرَاباً حتى أمُوتَ ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيهِ ، ثم تَابَ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ؛ تِيب عَلَيْكَ فحُلّ نفسك ، فقال : لاً والله أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه ، فقال صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني ، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فحلَّه ، فقال : إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب ، وأن أنخَلِعَ من مَالِي ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه " .
ثم قال تعالى : { وتخونوا أماناتكم } فيما بينكم ، أو فيما أسر الرسول إليكم من السر فتفشوه ، { وأنتم تعلمون } أن الخيانة ليست من شأن الكرام ، بل هي من شأن اللئام ، كما قال الشاعر :
لا يَكتُمُ السرَّ إلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ ... فالسرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ
أو : وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح .
{ واعلموا أنما أموالكم وأولادُكُم فتنةٌ } ؛ لأنه سبب الوقوع في الإثم والعقاب ، أو محنة من الله ليبلوكم فيها ، فلا يحملنكم حبهم على الخيانة ، كما فعل أبو لبابة . { وأنَّ الله عنده أجرٌ عظيم } لمن آثر رضا الله ومحبته عليهم ، وراعى حُدود الله فيهم ، فعلّقوا هممكم بما يؤديكم إلى أجره العظيم ، ورضاه العميم ، حتى تفوزوا بالخير الجسيم .
الإشارة : خيانة الله ورسوله تكون بإظهار الموافقة وإبطان المخالفة ، بحيث يكون ظاهره حسن وباطنه قبيح ، وهذا من أقبح الخيانة ، وينخرط فيه إبطان الاعتراض على المشايخ وإظهار الوفاق ، فمن فعل ذلك فسيف الشريعة فوق رأسه ، إذا كان سالكاً غير مجذوب ، لأن من أفشى سر الملك استحق القتل ، وكان خائناً ، ومن كان خائناً لا يُؤمن على السر ، فهو حقيق أن ينزع منه ، إن لم يقتل أو يتب ، ولله در القائل :
سَأَكْتُم عِلْمِي عَنْ ذَوِي الجَهْلِ طَاقَتِي ... وَلاَ أَنْثُرُ الدُّر النفيس على الْبَهَمْ
فإنْ قَدَّرَ اللَّهُ الكريمُ بلُطْفِهِ ... وَلاَ أَهلاً للعلوم وللحِكَمْ
بَذَلْتُ عُلومِي واسْتَنَفَدْتُ عُلُومَهُم ... وإِلاّ فمخزونٌ لديَّ ومُكْتَتَمْ
(2/349)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } ، كما أمركم ، { يجعل لكم فرقاناً } ؛ نوراً في قلوبكم ، تُفرقون به بين الحق والباطل ، والحسن والقبيح . قال ابن جزي : وذلك دليل على أن التقوى تُنور القلب ، وتشرح الصدر ، وتزيد في العلم والمعرفة . ه . أو : نصراً يُفرق بين المحق والمبطل؛ بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجاً من الشبهات ، أو نجاة مما تحذرون في الدارين من المكروهات ، أو ظهوراً يشهر أمركم ويثبت صِيتَكم ، من قولهم : فرقان الصبح ، أي نوره ، { ويُكفِّر عنكم سيئاتكم } أي : يسترها ، فلا يفضحكم يوم القيامة ، { ويغفرْ لكم } ؛ يتجاوز عن مساوئكم ، أو يكفر صغائركم ويغفر كبائركم ، أو يكفر ما تقدم ويغفر ما تأخر ، { والله ذوالفضل العظيم } ، ففضله أعظم من كل ذنب ، وفيه تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، لا أن تقواهم أو جبت ذلك عليه ، كالسيد إذا ما وعده عبده أن يعطيه شيئاً في مقابلة عمل امره به ، مع أنه واجب عليه لا محيد له عند . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الفرقان الذي يلقيه الله في قلوب المتقين من المتوجهين هو نور الواردات الإلهية ، التي ترد على القلوب من حضرة الغيوب ، وهي ثلاثة أقسام : وارد الانتباه : وهو نور يفرق به بين الغفلة واليقظة ، وبين البطالة والنهوض إلى الطاعة ، فيترك غفلته وهواه ، وينهض إلى مولاه ، ووارد الإقبال : وهو نور يفرق به بين الوقوف مع ظلمة الحجاب وبين السير إلى شهود الأحباب ، ووارد الوصال : وهو نور يفرق به بين ظلمة الأكوان ، ونور الشهود ، أو بين ظلمة سحاب الأثر وشهود شمس العرفان .
وإلى هذه الواردات الثلاثة أشار في الحكم بقوله : " إنما أورد عليك الوارد لتكون به عليه وارداً ، أورد عليك الوارد ليسلمك من يد الأغيار ، ويحررك من رق الآثار ، أورد عليك الوارد ليخرجك من سجن وجودك إلى فضاء شهودك " .
(2/350)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر ، يا محمد ، نعمة الله عليك بحفظه ورعايته لك { إذ يمكُر بك الذين كفروا } من قريش ، حين اجتمعوا في دار الندوة { ليُثْبِتُوكَ } أي : يحبسوك في الوثاق والسجن { أو يقتلوك } بسيوفهم ، { أو يخرجوك } من مكة .
وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، خافوا على أنفسهم ، واجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره ، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ ، وقال : أنا من نجد ، سمعت اجتماعكم فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً ، فقال أبو البحتري : أرى أن تحبسوه في بيت ، وتسدوا منافذه ، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه فيها ، حتى يموت ، فقال الشيخ : بئس الرأي ، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ، ويخلصه من أيديكم . فقال هشام بن عمرو : أرى أن تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم ، فلا يضركم ما صنع ، فقال الشيخ : بئس الرأي ، يُفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم . فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً ، وتعطوه سيفاً ، فتضربوه ضربة واحدة ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم ، فإن طلبوا العَقَلَ عقلناه . فقال الشيخ : صدق هذا الفتى ، فتفرقوا على رأيه ، فأتى جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، وأمره بالهجرة فبيت عليّاً رضي الله عنه على مضجعه ، وخرج مع أبي بكر إلى الغار ، ثم سافر مهاجراً إلى المدينة .
قال تعالى : { ويمكرون ويمكر اللَّهُ } ؛ برد مكرهم عليهم ، أو مجازاتهم عليه ، أو بمعاملة الماكرين معهم ، بأن أخرجهم إلى بدر ، وقلل المسلمين في أعينهم ، حتى تجرأوا على قتالهم ، فقُتِلوا وأُسِروا ، { والله خيرُ الماكرين } ؛ إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره ، وإسناد أمثال هذا مما يحسن للمزاوجة ، ولا يجوز إطلاقها ابتداء؛ لما فيه من إيهام الذم . قاله البيضاوي .
الإشارة : وإذ يمكر بك أيها القلب الذين كفروا ، وهم القواطع من العلائق والحظوظ والشهوات ، ليحبسوك في سجن الأكوان ، مسجوناً بمحيطاتك ، محصوراً في هيكل ذاتك ، أو يقتلوك بالغفلة والجهل وتوارد الخواطر والأوهام ، أو يُخرجوك من حضرة ربك إلى شهود نفسك ، أو من صحبة العارفين إلى مخالطة الغافلين ، أو من حصن طاعته إلى محل الهلاك من موطن معصيته ، أو من دائرة الإسلام إلى الزيغ والإلحاد ، عائذاً بالله من المحن ، والله خير الماكرين ، فيرد كيد الماكرين ، وينصر أولياءه المتوجهين والواصلين ، وبالله التوفيق .
(2/351)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قلت : " إذا " : ظرفية شرطية ، خافضة لشرطها ، معمولة لجوابها ، أي قالوا وقت تلاوة الآيات : لو نشاء . . . لخ .
يقول الحق جل جلاله : { وإذا تُتلى عليهم آياتنا } القرآنية { قالوا قد سمعنا } ما تتلوه علينا { لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين } أي : اخبارهم المسطورة أو أكاذيبهم المختلقة . قال البيضاوي؛ وهذا قول النَّضْر بن الحارث ، وإسناده إلى الجمع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم ، فإنه كان قاصهم ، أي : يقص عليهم أخبار فارس والروم ، فإذا سمع القرآن يقص أخبار الأنبياء قال : لو شئت لقلتُ مثل هذا ، أو قول الذين ائتمروا في شأنه : وهذا غاية مكائدهم ، وفرط عنادهم ، إذ لو استطاعوا ذلك لسارعوا إليه ، فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ، ثم قارعهم بالسيف ، فلم يعارضوا ، مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلَبوا ، خصوصاً في باب البيان؟ ه . بالمعنى .
الإشارة : هذه المقالة بقيت سُنَّةً في أهل الإنكار على أهل الخصوصية ، إذا سمعوا منهم علوماً لدنية ، أو أسراراً ربانية ، أو حِكماً قدسية ، قالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، وهم لا يقدرون على كلمة واحدة من تلك الأسرار ، وهذا الغالب على المعاصرين لأهل الخصوصية ، دون من تأخر عنهم ، فإنهم مغرورون عنده { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحوِيلا } [ فاطر : 43 ] .
(2/352)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قلت : " الحق " : خبر كان .
يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { إذ قالوا اللهم إن كان هذا } الذي أتى به محمد { هو الحقَّ من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماءِ } ؛ كأصحاب لوط ، { أو ائتنا بعذاب أليم } ، قيل : القائل هذا هو النَّضْر بن الحارث ، وهو أبلغ في الجحود . رُوي أنه لما قال : { إن هذا أساطير الأولين } ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ويلك إنه كلام الله " فقال هذه المقالة . والذي في صحيحي البخاري ومسلم : أن القائل هو أبو جهل ، وقيل : سائر قريش لمّا كذبوا الني صلى الله عليه وسلم دعوا على أنفسهم ، زيادة في تكذيبهم وعتوهم . وقال الزمخشري : ليس بدعاء ، وإنما هو جحود ، أي : إن كان هو الحق فأمطر علينا ، لكنه ليس بحق فلا تستوجب عقاباً . بالمعنى .
الإشارة : قد وقعت هذه المقالة لبعض المنكرين على الأولياء ، فعجلت عقوبته ، ولعل ذلك الولي لم تتسع دائرة حلمه ومعرفته ، وإلا لكان على قدم نبيه صلى الله عليه وسلم .
(2/353)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
يقول الحق جل جلاله : { وما كان الله ليُعذبهم وأنت } موجود { فيهم } ، ونازل بين أظهرهم ، وقد جعلتلك رحمة للعالمين ، خصوصاً عشيرتك الأقربين ، { وما كان الله مُعَذِّبَهُم وهم يستغفرون } قيل : كانوا يقولون : غفرانك اللهم ، فلما تركوه عُذبوا يوم بدر ، وقيل : وفيهم من يستغفر ، وهو من بقي فيهم من المؤمنين ، فلما هاجروا كلهم عُذبوا ، وقيل : على الفرض والتقدير ، أي : ما كان الله ليعذبهم لو آمنوا واستغفروا .
قال بعض السلف : كان لنا أمانان من العذاب : النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار ، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر ، والمقصود من الآية : بيان ما كان الموجب لإمهاله لهم والتوقف على إجابة دعائهم ، وهو وجوده صلى الله عليه وسلم أو من يستغفر فيهم .
ثم قال تعالى : { وما لهم ألا يعذبهم الله } أي : وأيُّ شيء يمنع من عذابهم؟ وكيف لا يعذبون { وهم يصُدُّون } الناس { عن المسجد الحرام } ؟ أي : يمنعُون المتقين من المسجد الحرام ، ويصدون رسوله عن الوصول إليه . { وما كانوا أولياءَهُ } المستحقين لولايته مع شركهم وكفرهم ، وهو ردٌّ لما كانوا يقولون : نحن ولاة البيت الحرام؛ فنصد من نشاء ونُدخل من نشاء . قال تعالى : { إنْ أولياؤُه إلا المتقون } أي : ما المستحقون لولايته إلا المتقون ، الذين يتقون الشرك والمعاصي ولا يعبدون فيه إلا الله ، ويعظمونه ، حق تعظيمه . { ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون } أن لا ولاية لهم عليه ، وإنما الولاية لأهل الإيمان ، وكأنه نبه بالأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ويعاند أو أراد به الكل ، كما يراد بالقلة العدم . قاله البيضاوي .
الإشارة : قد جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم أماناً لأمته ما دام حياً ، فلما مات صلى الله عليه وسلم بقيت سنته أماناً لأمته ، فإذا أُميتت سنته أتاهم ما يوعدون من البلاء والفتن ، وكذلك خواص خلفائه ، وهم العارفون الكبار ، فوجودهم أمان للناس . فقد قالوا : إن الإقليم الذي يكون فيه القطب لا يصيبه قحط ولا بلاء ، ولا هرج ولا فتن؛ لأنه أمان لذلك الإقليم ، خلافة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
(2/354)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
يقول الحق جل جلاله : { وما كان صلاتهم } التي يصلونها في بيت الله الحرام ، ويسمونها صلاة ، أو ما يضعون موضعها ، { إلا مكاءً } أي : تصفيراً بالفم ، كما يفعله الرعاة ، { وتصديةً } أي : تصفيقاً باليد ، الذي هو من شأن النساء ، مأخوذ من الصدى ، وهو صوت الجبال والجدران . قال ابن جزي : كانوا يفعلون ذلك إذا صلى المسلمون ، ليخلطوا عليهم صلاتهم .
وقال البيضاوي : رُوي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء ، مشبكين بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفقون ، وقيل : كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلي ، يخلطون عليه ، ويرون أنهم يصلون أيضاً ، ومساق الآية : تقرير استحقاقهم العذاب المتقدم في قوله : { وما لهم ألا يعذبهم الله } ، أو عدم ولايتهم للمسجد ، فإنها لا تليق بمن هذه صلاته . ه .
قال تعالى : { فذوقوا العذاب } الذي طلبتم ، وهو القتل والأسر يوم بدر ، فاللام للعهد ، والمعهود : ( أو ائتنا بعذاب أليم ) ، أو عذاب الآخرة ، { بما كنتم تكفرون } أي : بسبب كفركم اعتقاداً وعملاً .
الإشارة : وما كان صلاة أهل الغفلة عند بيت قلوبهم إلا ملعبة للخواطر والهواجس ، وتصفيقاً للوسواس والشيطان ، وذلك لخراب بواطنهم من النور ، حتى سكنتها الشياطين واستحوذت عليها ، والعياذ بالله ، فيقال لهم : ذوقوا عذاب الحجاب والقطيعة ، بما كنتم تكفرون بطريق الخصوص وتبعدون عنهم . والله تعالى أعلم .
(2/355)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
يقول الحق جل جلاله : { إنَّ الذين كفروا يُنفقون أموالهم ليصدوا } بذلك { عن سبيلِ الله } ، ويُحاربون الله ورسوله . قيل : نزلت في أصحاب العير؛ فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم : أعينوا بهذا المال على حرب محمد ، لعلنا ندرك منه ثأرنا ، ففعلوا ، وقيل : في المطْعمين يوم بدر ، وكانوا اثني عشر رجلاً من قريش ، يطعم كل واحد منهم ، كل يوم ، عشر جزر ، وقيل : في أبي سفيان ، استأجر ليوم أُحد ألفين من العرب ، وأنفق عليهم أربعين أوقية .
قال تعالى : { فسينفقونها } بتمامها ، { ثم تكون عليهم حسرةً } يتأسفون على إنفاقها من غير فائدة ، فيصير إنفاقها ندماً وغمَّاَ ، لفواتها من غير حصول المقصود ، وجعل ذاتها تصير حسرة ، وهي عاقبة إنفاقها؛ مبالغةً . قال البيضاوي : ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال ، وهو إنفاق بدر ، والثاني عن إنفاقها فيما يُستقبل ، وهو إنفاق غزوة أحد ، ويحتمل أن يراد بهما واحد ، على أن مساق الأول لبيان غرض الإنفاق ، ومساق الثاني لبيان عاقبته ، وهو لم يقع بعد . ه . قلت : وهذا الأخير هو الأحسن .
ثم ذكر وعيدهم فقال : { والذين كفروا } أي؛ الذين ثبتوا على الكفر منهم؛ إذ أسلم بعضهم ، { إلى جهنم يُحشرون } ؛ يُضمون ويُساقون ، { ليميزَ الله الخبيثَ من الطّيبِ } ؛ الكافرين من المؤمنين ، أو الفساد من الصلاح ، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنفقه المسلمون في نصرته ، أي : حشرهم إليه ليفرق بين الخبيث والطيب ، { يجعل الخبيثَ بعضَهُ على بعض فيَركُمَه } أي : يجمعه ، أو يضم بعضه إلى بعض ، حتى يتراكمون من فرط ازدحامهم ، { فيجعَلهُ في جهنم } كله ، { أولئك هم الخاسرون } الكاملون في الخسران ، لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم ، والإشارة تعود على الخبيث؛ لأنه بمعنى الفريق الخبيث ، أو على المنفقين ليصدوا عن سبيل الله . والله تعالى أعلم .
الإشارة : كل من أنفق ماله في لهو الدنيا ، وفرجتها ، من غير قصدٍ حسن ، بل لمجرد الحظ والهوى ، تكون عليه حسرة وندامة ، تنقضي لذاته وتبقى تبعاته ، وهو من كفران نعمة المال ، فهو معرض للزوال ، وإن بقي فهو استدراج ، وعلامة إنفاقه في الهوى : أنه أتاه فقير يسأله درهماً منعه ، وينفق في النزهة والفرجة الثلاثين والأربعين ، فهذا يكون إنفاقه حسرة عليه ، والعياذ بالله .
(2/356)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
يقول الحق جل جلاله : { قل للذين كفروا } ؛ كقريش وغيرهم : { إن ينتهوا } عن الكفر ومعاداة الرسول بالدخول في الإسلام ، { يغفر لهم ما قد سلف } من ذنوبهم ، ولو عظمت ، { وإن يعودوا } إلى الكفر وقتاله { فقد مضت سُنَّتُ الأولين } أي : مضت عادتي مع الذين تحزبُوا على الأنبياء بالتدمير والهلاك ، كعاد وثمود وأضرابهم ، وكما فعل بهم يوم بدر ، فليتوقعوا مثل ذلك ، وهو تهديد وتخويف .
الإشارة : قل للمنهمكين في الذنوب والمعاصي : لا تقنطوا من رحمتي ، فإني لا يتعاظمني ذنب أغفره ، فإن تنتهوا أغفر لكم ما قد سلف ، وأنشدوا :
يستوجب العَفْوَ الفتى ، إذا اعترف ... بما جَنى ، وما أتى ، وما اقْتَرفْ
لقوله : ( قُل للذين كفروا ... إنْ ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف )
وللشافعي رضي الله عنه :
فَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنَّي لعَفْوكَ سُلما
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي ، فَلَمّا قَرَنْتهُ ... بعَفْوِكَ رَبِّي ، كانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فَمَا زِلْتَ ذَا جُودِ وَفَضْلٍ وَمِنَّةٍ ... تَجُودُ وتَعْفُو مِنَّهً وتَكَرُّمَا
فإن لم ينته المنهمك في الهوى فقد مضت سُنة الله فيه؛ بالطرد والإبعاد ، ويخاف عليه سوء الختام ، والعياذ بالله .
(2/357)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يقول الحق جل جلاله : وقاتلوا من لم ينته عن كفره { حتى لا تكونَ فتنة } ، أي : حتى لا يوجد منهم شرك ، فهو كقوله عليه السلام : " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ حَتَّى يَقُولُوا : لا إله إلاَّ الله " . { ويكون الدين كلُّه لله } بحيث تضمحل الأديان الباطلة ويظهر الدين الحق ، { فإن انتهوا } عن الكفر وأسلموا ، { فإن الله بما يعملون بصير } ؛ فيجازيهم على انتهائهم ، وقرأ يعقوب بتاء الخطاب؛ على معنى : { فإن الله بما تعملون } يا معشر المسلمين؛ من الجهاد ، والدعوة إلى الإسلام ، والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، { بصير } فيجازيهم ، ويضاعف أجوركم بمن أسلم على أيديكم .
{ وإن تَولَّوا } ، ولم ينتهوا عن كفرهم ، { فاعلموا أن الله مولاكم } ؛ ناصركم ، فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم ، { نِعْمَ المولى } ؛ فلا يضيع من تولاه ، { ونِعْمَ النصير } ؛ فلا يغلب من نصره .
الإشارة : يُؤمر المريد بجهاد القواطع والعلائق والخواطر ، حتى لا يبقى في قلبه فتنة بشيء من الحس ، ويكون القلب كله لله ، فإن انتهت القواطع فإن الله بصير به ، يجازيه على جهاده ، ومجازاته : إدخال الحضرة المقدسة ، مع المقربين ، وإن لم ينته فليستمر على مجاهداته وانقطاعه إلى ربه ، وليستنصر به في مجاهدته ، فإن الله مولاه وناصره ، وهو نعم المولى ونعم النصير .
(2/358)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قلت : ( فأن لله ) : مبتدأ حُذف خبره ، أي : فكون خمسة لله ثابت ، أو خبر ، أي : فالواجب كون خمسه لله .
يقول الحق جل جلاله : { واعلموا أنما غَنِمتُم من شيء } مما أخذتموه من الكفار؛ قهراً بالقتال ، لا الذي هربوا عنه بلا قتال ، فكله للإمام فَيء ، يأخذ حاجته ويصرف باقيه في مصالح المسلمين ، ولا الذي طرحه العدو خوف الغرق ، فلواجده ، بلا تخميس ، وكذا ما أخذه من كان ببلاد العرب على وجه التلصيص ، فأما ما أخذه بالقتال : فللَّه { خُمُسَه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ؛ الجمهور على أن ذكر الله للتعظيم كقوله : { واللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرضُوه } [ التوبة : 62 ] ، وإنما المراد : قسم الخمس على الخمسة الباقية .
واختلف العلماء في الخمسة ، فقال مالك : الرأي للإمام ، يلحقه ببيت الفَيء ، ويعطي من ذلك البيت لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه ، كما يعطي منه اليتامى والمساكين ، وغيرهم ، وإنما ذكر من ذكر على جهة التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم ما يدفع إليهم . وقال الشافعي : يعطي للخمسة المعطوفة على ( الله ) ، ولا يجعل لله سهماً مختصاً ، وإنما ذكر ابتداء تعظيماً ، لأن الكل ملكه ، وسهم الرسول يأخذه الإمام ، يصرفه في المصالح ، فيعطي للأربعة المعطوفة على الرسول ، ويفضل أهل الحاجة . قال مالك : لا يجب التعميم ، فله أن يعطي الأحوج ، وإن حرم غيره ، ومبني الخلاف : هل اللام لبيان المصرف أو للاستحقاق ، كما في آية الزكاة .
وقال أبو حنيفة : على ثلاثة أسهم ، لليتامى والمساكين وابن السبيل ، قال : وسقط الرسول وذوو القربى بوفاته عليه الصلاة والسلام . وقال أبو العالية : يقسم على ستةٍ ، أخذاً بظاهر الآية ، ويصرف سهم الله إلى الكعبة ، وسهم الرسول في مصالح المسلمين ، وسهم ذوي القربى لأهل البيت الذين لا تحل لهم الزكاة ، ثم يعطى سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل .
قال البيضاوي : وذوو القربى : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، لِمَا رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى عليهما ، فقال عثمان وجبير بن مطعم : هؤُلاء إِخْوانك بَنُو هِاشِمٍ لا ننكر فَضْلَهُمْ لمَكَانِك الذي جَعَلَك اللَّهُ مِنْهُمْ ، أرأيت إخواننا من بَني المُطَّلِب ، أعْطَيْتَهُمْ وحَرَمْتَنَا ، وإنَّما نَحنُ وَهُمْ بمَنْزِلَةٍ وَاحِدةٍ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام : " إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا في جَاهِلِيَّةٍ ولا إٍسْلاَم " وشَبَّكّ بَيْنَ أَصَابِعِهِ . وقيل : بنو هاشم وحدهم . قلت : وهو مشهور مذهب مالك وقيل : جميع قريش . ه .
ثم قال تعالى : { إنْ كنتم آمنتم بالله } ، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنه جعل الخمس لهؤلاء ، فسلموه إليه ، واقنعوا بالأخماس الأربعة ، { وما } وكذا إن كنتم آمنتم بما { أنزلنا على عبدنا } محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، في شأن الأنفال ، ومن النصر والملائكة ، { يوم الفرقان } ؛ يوم بدر ، فإنه فرّق فيه بين الحق والباطل ، { يوم التقى الجمعان } ؛ المسلمون والكفار ، { والله على كل شيء قدير } ؛ فيقدر على نصر القليل على الكثير ، بالإمداد بالملائكة ، وبلا إمداد ، ولكن حكمته اقتضت وجود الأسباب والوسائط ، والله حكيم عليم .
(2/359)
الإشارة : واعلموا أنما غنمتم من شيء من العلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، والأسرار الربانية ، بعد مجاهدة العلائق والعوائق ، حتى صار دين القلب كله لله ، فللَّه خمسه؛ فناء ، وللرسول؛ بقاءً ، ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل؛ تعظيماً وآداباً . يعني : أن العلم بالله يقتضي بهذه الوظائف : الفناء في الله ، بالغيبة عما سواه ، وشهود الداعي الأعظم ، وهو رسول الله ، والأدب مع عباد الله ، ليتحقق الأدب مع الله . ثم تعالى أعلم بأسرار كتابه .
(2/360)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قلت : ( إذ ) : بدل من ( يوم الفرقان ) ، أو ظرف لالْتقى ، أو لاذكر ، محذوفة ، والعدوة مثلث العين : شاطئ الوادي و ( الدنيا ) أي : القربى ، نعت له ، و ( القصوى ) : تأنيث الأقصى ، وكان قياسه : قلب الواو ياء ، كالدنيا والعليا؛ تفرقة بين الاسم والصفة ، فجاء على الأصل ، كالقَود ، وسُمع فيه : " القصيا " على الأصل ، وهو شاذ . و ( الركب ) : مبتدأ ، و ( أسفل ) : ظرف خبره .
يقول الحق جل جلاله : واذكروا { إذ أنتم بالعُدْوَة الدنيا } أي؛ بعدوة الوادي القريبة من المدينة ، { وهم } أي : كفار قريش ، { بالعُدْوة القصوى } أي : البعيدة منها ، { والركبُ } أي : العير التي قصدتكم ، { أسفل منكم } أي : في مكان أسفل منكم ، يعني الساحل ، ثم جمع الله بينكم على غير ميعاد ، { ولو تواعدتُم } لهذا الجمع ، أنتم وهم للقتال ، ثم علمتم حالكم وحالهم { لاختلفتم في الميعاد } ؛ هيبة منهم؛ لكثرتهم وقلتكم ، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعاً من الله تعالى خارقاً للعادة ، فتزدادوا إيماناً وشكراً ، { ولكن } الله جمع بينكم من غير ميعاد؛ { ليقضي اللَّهُ أمراً كان مفعولا } ؛ سابقاً في الأزل ، وهو نصر أوليائه وقهراً أعدائه في ذلك اليوم ، لا يختلف عنه ساعة . رضي الله عنR>> { ليَهلِكَ من هلك عن بينة ويحيى مَنْ حَيَّ عن بينة } ، أي : قدَّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها ، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة ، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه . أو ليهلك بالكفر من هلك عن بينة وحجة قائمة عليه ، ويحيى بالإيمان من حي به عن بينة من ربه ، { وإنَّ الله لسميع عليمٌ } بكفر من كفر وإيمان من أمن ، فيجازي كلاًّ على فعله . ولعل الجمع بين صفة السمع والعلم؛ لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد .
واذكر أيضاً { إذْ يُريكَهُمُ الله في منامك قليلاً } ، كان صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلاً ، فأخبر بذلك أصحابه ، فقويت نفوسهم وتجرؤوا على قتالهم ، وكانوا قليلاً في المعنى ، { ولو أراكَهُمْ كثيراً } في الحس { لفشلْتُمْ } لجبنتم ، { ولتنازعتم في الأمر } ؛ في أمر القتال ، وتفرقت آراؤكم ، { ولكنَّ الله سلَّم } أي : أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع؛ { إنه عليمٌ بذات الصدور } أي : يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها .
{ و } اذكر أيضاً { إذْ يُريكموهم } أي : يريكم الله الكفار ، { إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } ، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه : أتراهم سبعين؟ فقال : أراهم مائة ، تثبتاً وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم ، { ويُقلِّلكم في أعينهم } ، حتى قال أبو جهل : إن محمداً وأصحابه أَكَلَهُ جزور بفتح الهمزة والكاف جمع آكل ، أي : قدر ما يكفيهم جذور في أكلهم .
(2/361)
قال البيضاوي : قللهم في أعينهم قبل التحام القتال؛ ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم ، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم؛ لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم ، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الوقعة ، فإن البصر ، وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً ، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد ، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصارَ عن إبصار بعضٍ ، مع التساوي في المرئي . ه .
وإنما فعل ذلك في الجهتين؛ { ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً } أي : ليظهر الله أمراً كان سبق به القضاء والقدر ، فكان مفعولاً في سابق العلم ، لا محيد عنه ، ومن شأن الحكمة إظهار الأسباب والعلل ، كما أن من شأن القدرة إبراز ما سبق في الأزل ، وإنما كرره؛ لاختلاف الفعل المعلل به؛ لأن الأول علة لالتقائهم من غير ميعاد ، وهنا لتقليلهم في أعين الكفرة ، أو للتنبيه على أن المطلوب من العبد هو النظر إلى سابق القدر ، ليخف عليه ما يبرز منه من الشدائد والأهوال ، ولذلك قال أثره : { وإلى الله تُرجع الأمور } ، وإذا كانت الأمور كلها راجعة إلى الله تعالى فلا يسع العبد إلا الرضا والتسليم لكل ما يبرز منها ، فكل ما يبرز من عند الحبيب حبيب . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق ، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية ، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة ، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه ، والقلب ، الذي هو الركب المنازع فيه ، بينهما ، أسفل من الروح ، وفوق مقام النفس ، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة ، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها ، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية ، التي هي جند الروح ، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد ، فتجذبه إلى الحضرة .
وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه ، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار ، حتى يراها كل شيء ، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار ، وقوى عليه مدد الأغيار ، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار ، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر ، وإليه الإشارة بقوله : { ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة } الآية . والله تعالى أعلم .
(2/362)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
قلت : ( بطراً ورئاء ) : مصدران في موضع الحال ، أي : بطرين ومراءين ، أو مفعول لأجله ، و ( ويصُدُّون ) : عطف على ( بطراً ) ؛ على الوجهين ، أي : صادين ، أو للصد .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً } ؛ جماعة من الكفار عند الحرب { فاثبتُوا } للقائهم ، ولا تفروا ، { واذكروا الله } في تلك الحال سراً داعين له ، مستظهرين بذكره ، متوجهين لنصره ، معتمدين على حوله وقوته ، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال؛ إذ لا يذكر الله تعالى في ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال { لعلكم تفلحون } بالظفر وعظيم النوال . قال البيضاوي : وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله ، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره ، فارغ البال ، واثقاً بأن لطفه لا ينفعك عنه في جميع الأحوال . ه .
{ وأطيعوا الله ورسوله } فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات ، { ولا تنازعوا } باختلاف الآراء كما فعلتم في شأن الأنفال ، { فتفشلوا } وتجبنوا ، { وتذهب ريحُكم } أي : ريح نصركم بانقطاع دولتكم ، شبه النصر والدولة بهبوب الريح؛ من حيث إنها تمشي على مرادها ، لا يقدر أحد أن يردها ، وقيل : المراد بها الريح حقيقة ، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول . وفي الحديث : " نُصِرتُ بالصِّبَا ، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ " . { واصبروا إن الله مع الصابرين } بالمعونة والكلاءة والنصر .
{ ولا تكونُوا كالذين خرجُوا من ديارهم } ، يعني : أهل مكة ، خرجوا { بطراً } أي : فخراً وشَرّاً { ورئاء الناس } ؛ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة ، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسولُ أبي سفيان ، يقول لهم : ارجعوا فقد سلمت عيركم ، فقال أبو جهل : لا والله حتى نأتي بدراً ، ونشرب بها الخمور ، وتغني علينا القيان ، ونطعم بها من حضرنا من العرب ، فتسمع بنا سائر العرب ، فتهابُنا ، فوافوها ، ولكن سُقوا بها كأس المنايا ، وناحت عليهم النوائح؛ مما نزل بهم من البلايا ، فنهى الله المؤمنين أن يكون أمثالهم بطرين مراءين ، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص ، لأن النهي عن الشيء امرٌ بضده . { ويصدّون عن سبيل الله } أي : خرجوا ليصدوا الناس عن طريق الله ، باتباع طريقهم ، { والله بما يعملون محيطٌ } فيجازيهم عليه .
الإشارة : خاطب الله المتوجهين إليه ، السائرين إلى حضرته ، وأمرهم بالثبوت ودوام السير ، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب ، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة ، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه ، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره ، فمن صبر ظفر ، ومن دام على السير وصل ، وأمرهم ايضاً بطاعة الله ورسوله ، ومن يدلهم على الوصول إليه ، ممن هو خليفة عنه في أرضه ، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة ، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان ، ويوجب الفشل والوهن ، ويذهب بريح النصر والإعزاز ، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز .
ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير ، ممن أولع بالطعن والتنكير ، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم ، دالين على الله ، داعين إلى طريق الله ، يُحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، وهذه صفة أهل الله . نفعنا الله بذكرهم . آمين .
(2/363)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
يقول الحق جل جلاله : { وإذْ زيّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم } السيئة ، ومن جملتها : خروجهم إلى حربك؛ بأن وسوس لهم ، { وقال لا غالبَ لكم اليومَ من الناس وإني جارٌ لكم } قيل : قال لهم ذلك مقالة نفسانية ، بأن ألقي في رُوعهم ، وخيَّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون ، لكثرة عَددهم وعُددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه في ذلك قربة مجيرة لهم من المكاره .
{ فلما تراءت الفئتان } أي : تلاقي الفريقان ، ورأى بعضهم بعضاً ، { نَكصَ على عقبيه } ؛ رجع القهقري ، أي : بطل كيده ، وعاد ما خيل لهم أنه مجير لهم سبب هلاكهم ، { وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله } ، أي : تبرأ منهم وخاف عليهم ، وأيس من حولهم ، لمّا رأى إمداد المسلمين بالملائكة .
وقيل : إن هذه المقالة كانت حقيقة لسانِيَّة . رُوي أن قريشاً لما اجتمعت على المسير إلى بدر ، ذكرت ما بينهم وبين بني كنانة من العداوة ، فهموا بالرجوع عن المسير ، فمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني ، وقال : لا غالب لكم اليوم وإني جارٌ لكم ، وإني مجيركم من بني كنانة ، فلما رأى الملائكة تنزل نكص على عقبيه ، وكانت يده في يد الحارث بن هشام ، فقال له : إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، ودفع في صدر الحارث ، فانطلق وانهزموا ، فلما بلغوا مكة ، قالوا : هزم النَّاسَ سُراقَةُ ، فبلغه ذلك ، فقال : والله ما شعرت بسيركم حتى بلغني هزيمتكم! فلما أسلموا علموا أنه الشيطان .
وعلى هذا ، يحتمل أن يكون معنى قوله : { إني أخافُ الله } أي : أخاف أن يصيبني مكروهاً من الملائكة ، أو يهلكني ، ويكون هذا الوقت هو الوقت الموعود ، إذ رأى فيه ما لم ير قبله . والأول : ما قاله الحسن ، واختاره ابن حجر . وقال الورتجبي : أي : إني أخاف عذاب الله ، وذلك بعد رؤية البأس ، ولا ينفع ذلك ، ولو كان متحققاً في خوفه ما عصى الله طرفة عين . ه .
وذكر ابن حجر عن البيهقي ، عن عليّ كرم الله وجهه ، قال : هبت ريح شديدة ، فلم أر مثلها ، ثم هبت ريح شديدة ، وأظنه ذكر ثالثة ، فكانت الأولى جبريل ، والثانية : ميكائيل ، والثالثة : إسرافيل ، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها أبو بكر ، وإسرافيل عن يساره ، وأنا فيها . وعن عليّ ايضاً : قيل ليَّ ولأبي بكر يوم بدر : مع أحدكما جبريل ، ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يحضر لصف ويشهد القتال . انتهى .
وقوله تعالى : { والله شديدُ العقاب } ، يجوز أن يكون من كلام إبليس ، وأن يكون مستأنفاً .
الإشارة : عادة الشيطان مع العوام أن يُغريهم على الطعن والإنكار على أولياء الله ، وإيذائهم لهم ، فإذا رأى غيرة الله على أوليائه نكص على عقبيه ، وقال : إني منكم بريء؛ إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله ، والله شديد العقاب .
(2/364)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
يقول الحق جل جلاله : واذكروا { إذْ يقول المنافقون } من أهل المدينة ، أو نفر من قريش كانوا أسلموا وبقوا بمكة ، فخرجوا يوم بدر مع الكفار ، منهم : قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو القبس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن ربيعة بن الأسود ، وعلي بن أمية بن خلف ، { و } هم { الذين في قلوبهم مرض } أي : شك؛ لم تطمئن قلوبهم ، بل بقي فيها شبهة ، قالوا : { غرَّ هؤلاء دينُهُم } أي : اغتر المسلمون بدينهم ، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف . فأجابهم الحق تعالى بقوله : { ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ } أي : غالب لا يذل من استجار به ، وإن قلَّ ، { حكيمٌ } يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ، ويعجز عن دركه الفهم .
الإشارة : إذا عظم اليقين في قلوب أهل التقى أقدموا على أمور عظام ، تستغرب العادة إدراكها ، أو يغلب العطب فيها ، فيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : غرَّ هؤلاء طريقتهم ، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز لا يُغلبْ ، ولا يُغلبْ من انتسب إليه ، وتوكل في أموره عليه ، حكيم فلا يَخرج عن حكمته وقدرته شيء ، أو عزيز لا يُذل من استجار به ، ولا يضيع من لاذ به ، والتجأ إلى ذماره ، حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره ، قاله في الإحياء . ثم قال : وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد هو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار ، والتوكل على الواحد القهار . ه . وبالله التوفيق .
(2/365)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
قلت : جواب ( لو ) محذوف أي : لرأيت أمراً عظيماً ، و ( الملائكة ) : فاعل ( يتوفى ) فلا يوقف على ما قبله ، ويرجحه قراءة ابن عامر بالتاء ، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير ( الله ) ، و ( الملائكة ) مبتدأ ، و ( يضربون ) : خبر ، والجملة : حال من ( الذين كفروا ) ، والرابط : ضمير الواو ، وعلى هذا فيوقف على ما قبله ، وعلى الأول ( يضربون ) : حال من الملائكة ، ( وذُوقوا ) : عطف على ( يضربون ) على حذف القول ، أي : ويقولون ذوقوا . و ( ذلك ) : مبتدأ ، ( بما قدمت ) : خبر ، و ( أن الله ) : عطف على " ما "؛ للدلالة على أن مقيدة بانضمامه إليه . انظر البيضاوي .
يقول الحق جل جلاله : { ولو ترى } يا محمد ، أو يا من تصح منكم الرؤية ، حال { الذين كفروا } حين تتوفاهم { الملائكةُ } ببدر ، أو مطلقاً ، وهم { يضربون وجوهَهُم وأدبارَهم } ، أو حين يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم ، حال كونهم الملائكة يضربون وجوههم وظهورهم ، أو أستاهَهُم ، لرأيت أمراً فظيعاً . { و } يقولون لهم : { ذُوقوا } أي : باشروا { عذابَ الحريق } يوم القيامة؛ بشارة لهم بما يلقون من العذاب في الآخرة . وقيل : تكون معهم مقامع من حديد ، كلما ضربوا التهبت النار منها ، { ذلك } العذاب إنما وقع بكم { بما } ؛ بسبب { قدمت أيديكم } أي : بما كسبتم من الكفر والمعاصي ، { وأَنَّ الله ليس بظلام للعبيد } ؛ حتى يعذب بلا سبب ، أو يهمل العباد بلا جزاء .
الإشارة : قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين في العصيان في هذه الآية ، وذكر في سورة النحل الكاملين في الطاعة بقوله : { الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين } [ النحل : 32 ] الآية ، وسكت عن المخلطين ، ولعلهم يرون طرفاً من هذا أو طرفاً من هذا ، والله تعالى أعلم .
(2/366)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قلت : ( كدأب ) : خبر عن مضمر ، أي : دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون ، وهو عملهم وطريقتهم ، التي دأبوا فيها ، أي : داموا عليها ( ذلك ) ؛ مبتدأ ، و ( بأنَّ الله ) : خبر ، وقال سيبويه : خبر ، أي : الأمر ذلك ، والفاء سببية .
يقول الحق جل جلاله : عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك ، في استمرارهم على الكفر والمعاصي ، كعادة { آل فِرعون والذين } مضوا { مِنْ قبلهم } ، ثم فسر دأبهم فقال : { كفروا بآيات الله } الدالة على توحيده ، المنزلة على رسله ، { فأخذهم الله بذنوبهم } كما أخذ هؤلاء ، { إن الله قوي شديد العقاب } ؛ لا يغلبه في دفعه شيء .
{ ذلك } العذاب الذي حل بهم ، بسبب ذنوبهم وكفرهم؛ لأن { الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم } فيبدلها بالنقمة ، { حتى يغيروا ما بأنفسهم } أي : حتى يبدلوا ما بأنفسهم ، من حال الشكر إلى حال الكفر ، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية ، كتغيير قريش حالهم : من صلة الرحم ، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه ، بمعاداة الرسول ، والسعي في إراقة دم من تبعه ، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها . إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة ، { وأنَّ الله سميعٌ } لما يقولون : { عليم } بما يفعلون .
دأبهم في ذلك التغيير { كَدأْب آل فِرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آلَ فرعون } لمّا بدلوا وغيَّروا ، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم ، { وكلِّ } من الفرق المكذبة { كانوا ظالمين } ؛ فأغرقنا آل فرعون ، وقتلنا صناديد قريش؛ بظلمهم وما كنا ظالمين .
الإشارة : إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة ، ثم لم يشكروا الله عليها ، بل قابلوها بالكفران ، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان ، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم ، ويبدلها بأضدادها من النقم ، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها ، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها . فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، فمن أعطي ولم يشكر ، سُلب منها ولم يشعر ، والشكر؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه ، كما قال الجنيد رضي الله عنه . والله تعالى أعلم .
(2/367)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قلت : ( فهم لا يؤمنون ) : جملة معطوفة على جملة الصلة ، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف ، ( والذين عاهدت ) : بدل بعضٍ من ( الذين كفروا ) ، و ( فشرد ) : جواب ( إما ) ، والتشريد : تفريق على اضطراب .
يقول الحق جل جلاله : { إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله } منزلة { الذين كفروا } ، تحقق كفرهم ، وسبق به القدر ، { فهم لا يؤمنون } أبداً؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء . نزلت في القوم مخصوصين ، وهم بنو قريظة ، { الذين عاهدتَّ منهم } أي : أخذت عَليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار ، { ثم يَنقُصُونَ عهدَهم في كل مرةٍ } أي : يخونون عهدك المرة بعد المرة ، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أُحد ، وقالوا : نسينا ، ثم عاهدهم ، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق ، وركب كعبُ بن الأشرف في ملأ منهم إلى مكة ، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل مقاتلتهم سبا ذراريهم ، { وهم لا يتقون } شؤم الغدر وتبعته ، أو : لا يتقون الله في الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم .
قال تعالى لنبيه الصلاة والسلام : { فإما تَثقفنُهمْ } أي : مهما تصادفهم وتظفر بهم { في الحرب فشرِّدْ بهم } أي : فرِّق عنك من يُناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم ، أو نكِّل بهم { من خَلْفَهم } ؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجرُ غيرهم؛ { لعلهم يذكّرون } أي : لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك .
{ وإما تَخَافَنَّ من قوم } معاهدين { خيانةً } أي : نقص عهد بأمارات تلوح لك ، { فانبِذْ إليهم } أي : فاطرح إليهم عهدهم { على سواءٍ } أي : على عدل وطريق قصد في العداوة ، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ ، فإنه يكون خيانة منك ، أو على سواء في العلم بنقض العهد ، فتستوي معهم في العلم بنقض العهد ، { إنَّ الله لا يُحب الخائنين } أي : لا يرضى فعلهم ، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال .
{ ولا تحسبن } ، يا محمد ، { الذين كفروا سَبقُوا } قدرتنا ، ونجوا من نكالنا؛ { إِنهم لا يُعجزُون } أي : لا يفوتون في الدنيا والآخرة ، فلا يعجزون قدرتنا ، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم ، بل اللَّهُ محيط بهم أينما حلوا . والله تعالى أعلم .
الإشارة : شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء : الإيمان بالله ، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه ، والوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والرضى بالموجود ، والصبر على المفقود .
وقال القشيري في قوله تعالى : { فإما تثقفهم في الحرب . . . } الآية ، أي : إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد ، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم ، لئلا يسلكوا طريقَهم ، فيستوجبوا عُقُوبتهُم . كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه ، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات ، ونزول إلى السكون مع العادات ، يجعله الله نكالاً لمن بعده ، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه . ثم قال عند قوله : { وإما تخافن من قوم خيانة } ، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم ، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم ، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة ، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله . ه .
(2/368)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
يقول الحق جل جلاله : { وأعدوا لهم } ، أي : لناقضي العهد ، أو لمطلق الكفار ، { ما استطعتم من قوة } ، أي : ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به في الحرب . وعن عقبة ابن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " ألاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْي " قالها ثلاثاً ، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر؛ لأنه أعظم القوى ، { و } أعدوا لهم أيضاً { من رباط الخيل } اي : من الخيل المربوطة للجهاد ، وهو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، بمعنى مفعول ، أو مصدر ، أو جمع ربيط؛ كفصيل وفصال .
والمراد : الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد ، وهو من جملة القوة ، فهو من عطف الخاص على العام ، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب . ولذلك قال : { تُرهِبون به } أي : تخوفون بذلك الأعداء ، أو بما ذكر من الخيل المربوطة ، { عدو الله وعدوَّكم } يعني كفار مكة ، { وآخرين من دُونهم } أي : من غيرهم من الكفرة ، كفارس والروم وسائر الكفرة ، { لا تعلمونَهم } ، أي؛ لا تعرفونهم اليوم ، { الله يعلمهم } ، وسيمكنكم منهم ، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم ، { وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله } ، في شأن الاستعداد ، وغيره مما يستعان به على الجهاد ، { يُوف إليكم } جزاؤه ، { وأنتم لا تُظلمون } بتضييع عمل أو نقص أجر ، بل يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة ، بسبعمائة أو أكثر . والله تعالى أعلم .
الإشارة : وأعدوا لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة ، ما استطعتم من قوة ، وهو العزم على السير من غير التفات ، ومن رباط القلوب في حضرة الحق ، تُرهبون به عدو الله ، وهو الشيطان ، وعدوكم ، وهي النفس ، وآخرين من دونهم : الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس ، لا تعلمونهم ، الله يعلمهم؛ كالرياء والشرك الخفي ، فإنه يدب دبيب النمل ، وما تنفقوا من شيء يُوف إليكم أضعافاً مضاعفة ، بالعز الدائم والغنى الأكبر ، وأنتم لا تُظلمون .
وقال الورتجبي : أَعلم الله المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء الله ، وسمى آلة القتال بقوة ، وتلك القوة قوة الإلهية التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه ، بنعت الفناء في جلاله ، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته ، ويغريه إلى الدعاء عليهم ، ويجعله منبسطاً ، حتى يقول في سره : إلهي خذهم ، فيأخذهم بلحظة ، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه ، ويسلي قلب وليه بتفريجه من شرور مُعارضيه ومنكريه ، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة ، كما رمى نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى منكريه حين قال : " شاهت الوجوه " وهذا الرمي من الله بقوله : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } .
سمعت أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان في غزو ، وغلب المشركون على المؤمنين ، فقيل له : لو دعوت الله ، فنزل عن دابته وسجد ، فهُزم المشركون في لحظة ، وأُخذوا جميعاً ، وأُسروا ، وقُتلوا .
(2/369)
وأيضاً : وأعدوا : أي اقتبسوا من الله قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم في محاربتها . قال أبو علي الروذباري ، في قوله : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ، فقال : القوة هي الثقة بالله ، قيل ظاهر الآية : إنه الرمي بسهام القِسي . وفي الحقيقة : رمي سهام الليالي في الغيب؛ بالخضوع والاستكانة ، ورمي القلب إلى الحق؛ معتمداً عليه ، راجعاً إليه عما سواه . ه .
ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته ، لا على السلاح والآلات بقوله : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } ، أي : قواك بقوته الأزلية ، ونصرك بنصرته الأبدية ، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك . ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم ، وجمعهم على محبة الله ومحبة رسوله ، بعد تباينها بتفريقة الهموم في أودية الامتحان ، بقوله : { وألَّف بين قلوبهم } . وقال القشيري : الإشارة بقوله : { تُرهبون } : إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمةٍ ينالها ، أو إشفاء صدر عن قضية حقد ، بل قصده أن تكون كلمة الله هي العليا . ه .
(2/370)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
يقول الحق جل جلاله : { وإنْ جَنَحُوا للسَّلمْ } أي : وإن مالوا للصلح { فاجْنَح لها } أي؛ فصالحهم ، ومل إلى المعاهدة معهم ، وتوكل على الله؛ فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعاً؛ فإن الله يعصمك من مكرهم؛ { وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ } [ فاطر : 42 ] ، { إنه هو السميع } لأقوالهم ، { العليم } بأحوالهم .
{ وإنْ يُريدُوا أن يخدعُوك } بعد الصلح { فإن حَسْبَكَ الله } أي : فحسبك الله وكافيك شرهم ، { هو الذي أيدك } أي : قواك ونصرك { بنصرِه } ؛ تحقيقاً ، { وبالمؤمنين } ؛ تشريفاً ، أو { بنصره } قدرة ، { وبالمؤمنين } حكمةً ، والقدرة والحكمة منه وإليه ، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد ، وقالوا : العطف يقتضي المغايرة .
{ وألَّفَ بين قلوبهم } مع ما كان فيها من زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام ، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان ، ثم صاروا كنفس واحدة ، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً } ، في إصلاح ما بينهم ، { ما ألفت بين قلوبهم } ؛ لتناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في
إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم ، { ولكنَّ الله ألفَ بينهم } بقدرته البالغة؛ فإنه المالك للقلوب يُقبلها كيف يشاء . { إنه عزيز } تام القدرة ، لا يَعصي عليه ما يريده ، { حكيم } يعلم كيف ينبغي أن يفعل ما يريده .
قيل : إن الآية نزلت في الأوس والخزرج ، كان بينهم إِحنٌ وضغائن لا أمد لها ، ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم الله ذلك ، وألَّف بينهم بالإسلام ، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين . وبالله التوفيق .
الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها؛ بأن ألقت السلاح ، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح ، وعقدت الرجوع عن هواها ، والدؤوب على طاعة مولاها ، فالواجب عقد الصلح معها ، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه ، مما يرد عليها ، مع التوكل على مولاها ، فإن خدعت بعد ذلك ، أو رجعت إلى مألوفها ، فالله يكفي أمرها ، ويقوي صاحبها على درها ، إما بسبب شيخ كامل ، أو أخ صالح ، فإن الصحبة فيها سر كبير ، لا سيما مع أهل الصفاء ، الذين صفت قلوبهم ، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد ، وحسن الظن والاعتقاد ، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية . وبالله التوفيق .
(2/371)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قلت : ( حسبك ) : مبتدأ ، و ( الله ) : خبر ، ويصح العكس ، و ( من اتبعك ) : إما عطف على ( الله ) ، أي : كفاك الله والمؤمنون ، أو في محل نصب على المفعول معه ، أو في محل جر؛ عطف على الضمير ، على مذهب الكوفيين ، أي : حسبك وحسب من اتبعك الله ، والأول : أصح .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها النبي حَسْبُكَ الله } أي : كافيك الله ، فلا تلتفت إلى شي سواه ، أي : لَمّا مَنَنْتُ عليك بائتلاف قلوب المؤمنين في نصرتك ، فلا تلتفت إليهم في محل التوحيد ، فإني حسبك وحدي بغير معاونة الخلق ، فينبغي أن تفرد القدم عن الحدوث في سيرك مني إليَّ ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دوني ، وإن كان مَلَكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً ، ولا ينبغي في حقيقة التوحيد النظر إلى غيري ، إنما أيدتك بواسطة المؤمنين ، وذَكَرتُهم معي؛ تشريفاً لأمتك ، وستراً لقدرتي ، وإظهار لكمال حكمتي ، وإلا فقدرتي لا يفوتها شيء ، ولا تتوقف على شيء؛ " جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل " .
قال البيضاوي : نزلت الآية تأييداً في غزوة بدر ، وقيل : أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضي الله عنه . فنزلت . ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في إسلامه .
الإشارة : ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به ورثته الكرام ، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه ، وتصحيح عقد التوحيد ، والاعتماد على الكريم المجيد . والله تعالى أعلم .
(2/372)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قلت : التحريض : هو الحث على الشيء والمبالغة في طلبه ، وهو من الحرض ، الذي هو الإشفاء على الهلاك .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها النبي حرّض المؤمنينَ } أي : حثهم { على القتال } أي : الجهاد . ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله : { إنْ يكنْ منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا } ، وهذا خبر بمعنى الأمر ، أي : يقاتل العشرون منكم المائتين ، والمائة الألف ، وليثبتوا لهم ، ولا يصح أن يكون خبراً محضاً؛ إذ لو كان خبراً محضاً لَمَا تخلف في الواقع ، ولو في جزئية؛ إذ خبره تعالى لا يخلف .
قال الفخر الرازي : حَسُن هذا التكليف لِما كان مسبوفاً بقوله : { حسبُكَ الله ومن اتبعك من المؤمنين } ؛ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً؛ لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته . ه .
وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار { بأنهم } ؛ بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } ، أي : لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر ، فلا يثبتون ثبات المؤمنين ، رجاء الثواب والترقي في الدرجات ، قتلوا أو ماتوا ، بخلاف الكفار؛ فلا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان .
ولمّا كلفهم بهذا في أول الإسلام ، وشقَّ ذلك عليهم ، خفف عنهم فقال : { الآن خففَ الله عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً } ؛ فلا يقاوم الواحدُ منكم العشرة ، ولا المائةُ الألفَ ، { فإن يكن منكم مائة صابرة يَغْلِبُوا مائتين ، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله } ؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين . وقيل : كان فيهم قلة ، فلما كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد ، والضعف : ضعف البدن ، لا ضعف القلب .
قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار ، وبقي العشر . ولذلك قال تعالى هنا : { والله مع الصابرين } أي : بالنصر والمعونة ، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده؟ .
الإشارة : ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم ، الذي هو الجهاد الأكبر ، وإنما كان أكبر؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله ، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب ، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال ، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها ، ويهونوا لهم شأنها ، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها ، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت ، وسهل علاجها ، وإذا خِفت منها ، وسوَّفت لها ، طالت عليك وملكتك ، ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها ، ويعينك بهمته على قتلها ، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها ، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها ، وهي المعرفة بسيدها وخالقها . والله تعالى أعلم .
(2/373)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
يقول الحق جل جلاله : { ما كان لنبي أن يكونَ له أسرى } يقبضها { حتى يُثخِنَ } أي : يبالغ { في الأرض } ؛ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ويستولي أهله . { تُريدون } بقبض الأسارى { عَرَض الدنيا } ؛ حطامها بأخذ الفداء منهم ، { والله يُريدُ الآخرة } أي : يريد لكم ثواب الآخرة ، الذي يدوم ويبقى ، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه ، { والله عزيز } يغلب أولياءه على أعدائه ، { حكيم } يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها ، كما أمر بالإثخان ، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال ، وصارت الغلبة للمؤمنين .
رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً ، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ ، فاستأْذن فِيهِمْ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه : قَومُكَ وأهلُك ، اسْتَبِقهِمْ ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ . وقال عمر رضي الله عنهم : اضْربْ أعْنَاقَهُمْ ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما ، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى عليه وسلم ، وقال : " إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين ، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم " ، قال : { فَمَن تَبِعَنىِ فَإِنَّهُ مِنّىِ وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح ، قال : { رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَىلأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً } [ نوح : 26 ] . فخيَّر أصحابه ، فأخذوا الفداء ، فنزلت ، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ ، فقال : يا رسول الله : أخْبِرْنيِ ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ ، وإلا تَبَاكيْتُ؟ فقال : " أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء ، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة " لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ .
والآية دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يجتهدون ، وأنه قد يكون الخطأ ، ولكن لا يقرون عليه . قاله البيضاوي . قال القشيري : أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر منهم الفداء ، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة ، ولكن قتلهم كان أَوْلى . ه . وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم ، لا على الفداء؛ لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم ، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين ، كما تقدم في سورة آل عمران . ثم قال : والنبي عليه الصلاة السلام خارج عن ذلك الاستبقاء . انظر تمامه في الحاشية .
فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم ، وهم لم يرتكبوا محظوراً؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام ، فالخواص يُعاتبون على المباح ، إن كان فعله مرجوحاً ، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي ، وهو الفداء ، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه ، ويدل عليه قوله : { تُريدون عَرَض الدنيا } ، وهذا إنما كان في بعضهم ، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام .
(2/374)
والله تعالى أعلم .
ثم قال تعالى في تمام عتابهم : { لولا كتابٌ من الله سبق } أي : لولا حكم الله سبق إثباته في اللوح المحظوظ ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده ، أو أنه سيحل لكم الغنائم ، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم ، { لمسّكم فيما أخذتُم } ؛ من الفداء أو من الأسارى ، { عذابٌ عظيم } . رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال ، حيث نزلت : " لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " ؛ وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان .
ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال : { فكلوا مما غنمتُم } من الكفار ، ومن جملته : الفدية ، فإنها من الغنائم ، { حلالاً طيباً } أي : أكلاً حلالاً ، فائدته : إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على المتقدمين . رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت : { فكلوا مما غنمتم } ، ووصفة بالطيب؛ تسكيناً لقلوبهم ، وزيادة في حليتها . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْساً لِيَ لَمْ يُعْطَهُنَّ أّحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ " أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
ثم قال تعالى : { واتقوا الله } في مخالفته؛ { إن الله غفور رحيم } أي : يغفر لكم ما فرط ، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم؛ توسعةً عليكم . والله تعالى أعلم .
الإشارة : ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم ، عوضاً عن الدنيا ، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت ، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاة ، أو جمع المال ، والتمتع بالحظوظ ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده ، وتعجيل العقوبة له ، حتى إذا تداركه الله بلطفه ، وسبقت له عناية من ربه ، فيقال له حينئذٍ : لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم .
(2/375)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قلت : ( أسْرى ) : جمع أسير ، ويجمع على أسارى . وقرئ بهما ، و ( خيراً مما ) : اسم تفضيل ، وأصله : أًخْيَر ، فاستغنى عنه بخير ، وكذلك شر؛ أصله : أشر ، قال في الكافية :
وغالباً أغناهم خير وشر ... عن قولهم : أخيرُ منه وأشر
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى } الذين أخذتم منهم الفداء : { إنْ يعلم اللَّهُ في قلوبكم خيراُ } من الفداء .
رُوي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه؛ كلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه ، وابني أخويه : عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد ، تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت ، فقال له عليه الصلاة والسلام : وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك ، وقلت لها : لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا ، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك ، ولعبدِ الله ، وعُبيد الله ، والفضل ، وقُثَم ، قال له وما يُدْريكَ؟ قال : أخبرني به ربي تعالى ، قال : فأشهدُ أنكَ صادِقٌ ، وأن لا اله إلا الله ، وأنك رسول الله ، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ .
قال العباس : فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك ، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله ، ولي الآن عشرون عبداً ، إن أدناهم يضرب أي : يتجر في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة ، وأنا أنتظرُ المغفره مِنْ ربكم ، يعني : الموعود بقوله تعالى : { وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
{ وإنْ يُريدوا } ؛ الأسارى { خيانتك } ؛ بنقض ما عهدوك به ، { فقد خانوا الله من قبلُ } ؛ بالكفر والمعاصي { فأمْكَنَ منهم } وأمكنك من ناصيتهم ، فقُبِضوا وأُسروا ببدر ، { والله عليمٌ } لا يخفى عليه شيء ، { حكيمٌ } فيما دبر وأمضى .
الإشارة : يقال للفقراء المتوجهين إلى الله ، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم ، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم : إن يعلم الله في قلوبكم خيراً ، كصدق وإخلاص ، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم ، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس . وهو الغناء الأكبر ، والسر الأشهر ، الذي هو الفناء في الله ، والغيببة عما سواه ، وثمرته : المشاهدة التي تصحبها المكالمة ، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير ، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته ، وزكت تجارته ، مع غفران الذنوب ، وتغطية المساوئ والعيوب . وبالله التوفيق .
(2/376)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
يقول الحق جل جلاله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } أوطانهم في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لنصرة الدين بالجهاد ، { وجاهدوا بأموالهم } فصرفوها في الإعداد للجهاد ، كالكراع والسلاح ، وأنفقوها على المجاريح ، { وأنفسهم في سبيل الله } ؛ بمباشرة القتال ، { والذين آوَوْا } رسول الله ومن هاجر معه ، وواسوهم بأموالهم { ونصرُوا } دين الله ورسوله ، { أولئك بعضُهم أولياءُ بعض } في التعاون والتناصر ، أو في الميراث .
وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب ، حتى نسخ بقوله : { وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبعضٍ } [ الأحزاب : 6 ] .
ثم ذكر من لم يهاجر فقال : { والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ؛ لا في النصرة ، ولا في الميراث ، { حتى يُهاجِروا } إليكم ، { وإنِ استنصروكم } على المشركين { في } إظهار { الدين فعليكم النصرُ } أي : فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم ، لئلا يستولي الكفر على الإيمان ، { إلا على قوم } كان { بينكم وبينهم } عهد { ميثاق } ، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم . فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان ، { والله بما تعملون بصيرٌ } لا يخفى عليه من أوفى ومن نقص .
{ والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعضِ } في الميراث . ويدل بمفهومه ، على منع التوراث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين . { إلا تفعلُوه } أي : إلا تفعلوه ما أُمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم ، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر ، { تكن فتنةٌ في الأرضِ } ؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين ، { وفسادٌ كبير } بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم ، أو : إلاّ تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق ، تكن فتنة في الأرض ، فلا يفي أحد بعهد أبداً ، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس .
الإشارة : أهل التجريد ، ظاهراً وباطناً ، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم ، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم ، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم ، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله ، أينما حلوا من البلاد ، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار ، وكذلك في الأموال . فقد قال بعض الصوفية : ( الفقراء : لا رزق مقسوم ، ولا سر مكتوم ) . وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله .
والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين ، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد؛ لأنهم لا يطيقون ذلك؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية ، نعم ، إن وقعوا في شبهة أو حيرة ، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم ، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم . والله تعالى أعلم .
(2/377)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قال البيضاوي : لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام ، أي : مهاجرين ، وأنصار ، ومن آمن ولم يهاجر بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم ، بتحصيل مقتضاه من الهجرة ، والجهاد ، وبذل المال ، ونصرة الحق ، ووعد لهم الوعد الكريم ، فقال : { لهم مغفرة ورزق كريم } ؛ لا تبعة له ، ولا فتنة فيه . ثم ألحق بهم في الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال :
{ والَّذيِنَ ءَامَنُوا مِن بَعدُ وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا مَعَكُم فَأُولَئِكَ مَنكُم . . . }
أي : من جملتكم أيها المهاجرين والأنصار . ه .
ثم نسخ الميراث المتقدم ، فقال :
{ . . . وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول الحق جل جلاله : { وأولُوا الأرحامِ } من قرابة النسب ، { بعضُهم أوْلى ببعض } في التوارث من الأجانب ، وظاهره : توريث ذوي الأرحام ، كالخال والعمة وسائر ذوي الأرحام ، وبه قال أبو حنيفة ، ومنعه مالك ، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في النساء ، أو يراد بالأولية : غير الميراث ، كالنصرة وغيرها . وقوله : { في كتابِ الله } أي : في القرآن ، أو اللوح المحفوظ . { إن الله بكل شيء عليم } من أمر المواريث وغيرها ، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولاً ، بالقربة ثانياً ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : الناس ثلاثة : عوام ، وخواص ، وخواص الخواص . فالعوام : هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية . والخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية ، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد . وخواص الخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهراً وباطناً ، خربوا ظواهرهم ، وعمّوا بواطنهم ، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد ، وذاقوا أسرار التفريد . وهم الذين أشار المجذوب إلى مقاومهم بقوله :
يا قارئين علم التوحيد ... هنا البحور اليَّ تغْبي
هذامقام أهل التجريد ... الواقفين مع ربي
فأهل التجريد ، كالمهاجرين والأنصار ، وأهل الأسباب من أهل النسبة ، كمن لم يهاجر من الصحابة ، ومن تجرد بعدُ ودخل معهم ، والتحق بهم . قال تعالى؛ ق ل تعالى؛ { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } ، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله ، وصحبه ، وسلم تسليماً ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(2/378)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
قلت : ( براءة ) : خبر عن مضمر ، أي : هذه براءة و ( مِنَ ) : ابتدائية ، متعلقة بمحذوف ، أي : واصلة من الله ، و ( إلى الذين ) : متعلقة به أيضاً ، أ و مبتدأ لتخصيصها بالصفة ، و ( إلى الذين ) : خبر .
يقول الحق جل جلاله : هذه { براءة } أي : تبرئة { من الله ورسوله } واصلة { إلى الذين عاهدتم من المشركين } ، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين ، لأنهم نكثوا أولاً ، إلا أناساً منهم لم ينكثوا ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، وسيأتي استثناؤهم . قال البيضاوي : وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله ، والمعاهدة بالمسلمين؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم ، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول؛ فإنهما برئا منها . ه .
وقال ابن جزي : وإنما أسند العهد إلى المسلمين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين ، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة ، فمنهم من وفّى ، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ، ومنهم من نقص أو قارب النقض ، وجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد . ه . وإلى ذلك أشار بقوله : { فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهرٍ } آمنين لا يتعرض لكم أحد ، وبعدها لا عهد بيني وبينكم . وذكر الطبري : أنهم أسلموا كلهم في هذه المدة ولم يسح أحد . ه .
وهذه الأربعة الأشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأنها نزلت في شوال ، وقيل : هي عشرون من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من الآخر ، لأن التبليغ كان يوم النحر؛ لما روي ( أنها لَمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم ، وكان قد بعث أبا بكرٍ رضي الله عنه أميراً على الموسم ، فقيل : لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ؟ فقال : " لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رَجُلٌ مِنِّي " فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضي الله عنه ، سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ ، فوقف وَقَال : هذا رُغاء ناقَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فوقف ، فلمَّا لَحِقَهُ قال : أَمير أو مَأمُورٌ؟ قال : مَأمُورٌ ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضي الله عنه ، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم ، وقَامَ عليٌّ كرم الله وجهه يومَ النَّحر ، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ ، فقال : يا أَيُّها النّاس ، إني رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة ، ثم قال : أمرْتُ بأربَعٍ : أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ ، وأن يَتِمَّ كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ ) .
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم :
(2/379)
" ولا يؤدي عني إلا رجل مني " خاص بنقض العهود ، لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه ، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها . قاله البيضاوي مختصراً .
ثم قال تعالى لأهل الشرك : { واعلموا أنكم غير مُعجزي الله } أي : لا تفوتونه ، وإن أمهلكم ، { وأن الله مُخزي الكافرين } في القتل والأسر في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة .
الإشارة : وقد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقاً ، أما الشرك الجلي فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان ، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان ، ولا يدخل أحدٌ مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شيء ، ولا يستند إلى شيء ، إلا على من بيده ملكوت كل شيء ، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب ، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب ، حتى لا يبقى في نظره إلا الكريم الوهاب ، فمن أصرَّ على شوكه الجلي أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل ، فلا بد أن يلحقه وباله : إما خزي في الدنيا ، أو عذاب في الآخرة ، كل على ما يليق به .
وقال القشيري : إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ ، فأَمَّنهُم في الحَالِ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ . والإشارةُ فيه : أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال ، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال . وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة ، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة . ه . والله تعالى أعلم .
(2/380)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قلت : ( وأذان ) : مبتدأ ، أو خبر ، على ما تقدم في براءة ، وهو فَعال بمعنى إفعال؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أي : وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس ، ورفع " رسوله "؛ إما عطف على ضمير برئ ، أو على محل " إن " واسمها ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أي : ورسوله كذلك .
يقول الحق جل جلاله : { وأذانٌ من الله ورسوله } واصل إلى الناس ، ويكون { يومَ الحج الأكبر } وهو يوم النحر؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه . ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر ، عند الجمرات ، في حجة الوداع فقال : " هذا يوم الحج الأكبر " ، وقيل : يوم عرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : " الحج عرفة " ووصف الحج بالأكبر؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر .
وذلك الإعلام بأنَّ { الله بريء من المشركين ورسولُه } عليه الصلاة والسلام كذلك . قال البيضاوي؛ ولا تكرار؛ فإن قوله : { براءة من الله } : إخبار بثبوت البراءة ، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك ، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين . ه . { فإن تُبْتُم } يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك ، { فهو } أي : الرجوع { خيرٌ لكم } ، { وإن توليتم } أي : أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر { فاعلموا أنكم غيرُ معجزي الله } ؛ لا تفوتونه طلباً ، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا ، { وبَشّرِ الذين كفروا بعذاب أليمٍ } في الآخرة .
ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال : { إَلا الذين عاهدتُّم } أي : لكن الذين عاهدتم { من المشركين } ، وهم بنو ضمره وبنو كنانة ، { ثم لم يَنقُضُوكم شيئاً } من شروط العهد ، ولم ينكثوا ، ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط ، { ولم يُظاهروا عليكم أحداً } أي : لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم ، { فأتموا إليهم عهدهم إلى } تمام { مُدتهم } ، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر . ولا تجروهم مجرى الناكثين؛ { إن الله يحب المتقين } ، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى . قاله البيضاوي .
الإشارة : من أعظم شؤم الشرك : إن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين : خاصة وعامة ، فيجب على العبد التخلص منه خفياً أو جلياً ، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص ، حتى يُخلصوه من أنواع الشرك كلها ، فإن صدر منه شيء من ذلك فليبادر بالتوبة وأصر على شركه ، كان ذلك هوانه وخزيه ، وبالله التوفيق .
(2/381)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
يقول الحق جل جلاله : { فإذا انسلخ الأشهر } أي : انقضى الأشهر ، { الحُرم } وهي الأربعة التي امهلهم فيها ، فمن قال : إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فهي الحرم المعروفة ، زاد فيها شوال ، ونقص رجب ، وسميت حرماً؛ تغليباً للأكثر ، ومن قال : إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني ، فسميت حرماً؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ . وغلط من قال : إنها الأشهر الحرم المعلومة؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع؛ لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم . انظر البيضاوي .
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها { فاقتلوا المشركين } الناكثين { حيث وجدتموهم } من حل أو حرم ، { وخُذوهم } أسارى ، يقال للأسير : أخيذ ، { واحصروهم } ؛ واحبسوهم { واقعدوا لهم كل مرصد } ؛ كل ممر وطريق؛ لئلا ينبسطوا في البلاد ، { فإن تابوا } عن الشرك وآمنوا ، { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } ؛ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم؛ { فخلوا سبيلهم } أي؛ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك .
وفيه دليل على ان تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ، بل يقاتل؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه بأهل الردة . والآية : في معنى قوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله ، ويُقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكَاةَ . . . " الحديث .
{ أن الله غفور رحيم } ، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب ، أي : فخلوهم؛ لأن الله قد غفر لهم ، ورحمهم بسبب توبتهم .
الإشارة : فإذا انقضت ايام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها ، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم ، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم ، فإن أذعنوا ، وانقادوا ، وألقوا السلاح ، فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .
(2/382)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قلت : " أحد " : فاعل يفسره : " استجارك " .
يقول الحق جل جلاله : { وإنْ } أتاك { أحدٌ من المشركين } المأمورين بالتعرض لهم ، حيثما وجدوا ، { استجاركَ } ؛ يطلب جوارك ، ويستأمنك ، { فأجِرْهُ } أي : فأمنهُ؛ { حتى يسمع كلامَ الله } ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، لعله يُسلم ، { ثم أبلغه مأمنه } أي : موضع أمنه إن لم يسلم ، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه؛ { ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون } أي : ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان ، ولا تدعوهم إليه ، فلا بد من إيجارهم ، لعلهم يسمعون ويتدبرون؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم .
الإشارة : وإن استجارك أيها العارف أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق ، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم ، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم ، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم . ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام ، بل يتلطفوا معهم ، ويسمعوهم ما يليق بحالهم؛ لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص ، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم ، إن سبق لهم شيء من الخصوصية .
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم ، وإلاّ أنكرته البلد؛ لأن البلد أم تغير على غير أبنائها ، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم ، وإلا أنكرته البلد . ه .
(2/383)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قلت : ( إلا الذين ) : محله النصب على الاستثناء ، أو جر على البدل من المشركين ، أو رفع على الانقطاع ، أي : لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم ، و ( الإل ) : القرابة والحِلف ، وحذف الفعل في قوله : ( كيف وإن يظهروا عليكم ) ؛ للعلم به بما تقدم ، أي : كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم . . . الخ .
يقول الحق جل جلاله : في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به : { كيف يكونُ للمشركين عهدٌ عند الله وعندَ رسوله } ؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين ، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه ، { إلا الذين عاهدتُّم عند المسجد الحرام } قيل : هم المستثنون قبلُ . وقال ابن اسحاق : هي قبائل بني بكر ، كانوا دخلوا وقت الحديبية ، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش ، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر ، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض . وقال ابن عباس : هم قريش ، وقال مجاهد : خزاعة ، وفي القولين نظر؛ لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان؛ لأنهم أسلموا في الفتح ، والأذان بعده بسنة .
قال تعالى في شأن من استثنى : { فما استقاموا لكم } على العهد ولم يغدروا ، { فاستقيمُوا لهم } على الوفاء ، أي : تربصوا بهم وانتظروا أمرهم ، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، { إِن الله يحب المتقين } الذين إذا عاهدوا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا .
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال : { كيف } يصح منهم الوفاء بعهدكم { و } هم { إن يظهرُوا عليكم } ويظفروا بكم في وقعة { لا يرقُبوا } أي : لا يراعوا { فيكم إلاَّ } ؛ قرابة أو حلفاً ، وقيل : ربوبية ، أي : لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه ، { ولا ذمَّةً } أي : عهداً ، أو حقاً يعاب على إغفاله ، { يُرضونكم بأفواههم } ؛ بأن يعدوكم بالإيمان والطاعة ، والوفاء بالعهد ، في الحال ، مع استبطان الكفر والغدْر ، { وتأبى } أي : تمنع { قلوبهم } ما تفوه به أفواههم ، { وأكثرهم فاسقون } متمردون ، لا عقيدة تزجرهم ، ولا مروءة تردعهم ، وتخصيص الأكثر؛ لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد ، والتعفف عما يجر إلى احدوثة السوء . قاله البيضاوي .
{ اشْتَروا بآيات الله } أي : استبدلوا بها { ثمناً قليلاً } أي : عرضاً يسيراً ، وهو اتباع الأهواء والشهوات ، { فصدُّوا عن سبيله } ؛ دينه المُوصل إليه ، أو بيته بصد الحجاج عنه . { إنهم ساء ما كانوا يعملون } أيْ : قبح عملهم هذا ، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم { لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة } ؛ فيكون تفسيراً لعملهم السوء ، لا تكريراً . وقيل : الأول في الناقضين العهد ، وهذا خاص بالذين اشتروا ، وهم اليهود ، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم .
وقوله تعالى؛ { في مؤمن } : فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط ، وقوله أولاً : { فيكم } ، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم ، فزال هذا الاحتمال بقوله : { في مؤمن } .
(2/384)
قاله ابن عطية :
{ وأولئك هم المعتدون } في الشرارة والقبح . { فإن تابوا } عن الكفر ، { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين } ؛ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم ، { ونفصّلُ الآيات لقوم يعلمون } ، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين . قاله البيضاوي .
الإشارة : لا ينبغي للخواص أن يثقوا بمحبة العوام ، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم ، فإن محبتهم على الحروف ، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم ، وأطماعهم ، نكثوا وأدبروا ، فللعارف غِنّى بالله عنهم . وفي ذلك يقول سيدنا علي كرم الله وجهه :
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ ، إِنَّهُمُ ... عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ ... والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ
(2/385)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
يقول الحق جل جلاله : { وإن نكثُوا أَيمانَهم } أي : نقضوها { من بعدِ عهدهم } أي : من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها ، { وطعنوا في دينكم } بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام ، { فقاتِلُوا أئمّةَ الكفر } أي : فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر ، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير؛ للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر ، فهم أحِقاء بالقتل ، وقيل : المراد رؤساء المشركين ، والتخصيص : إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به ، أو للمنع من مراقبتهم ، { إنهم لا أَيمان لهم } على الحقيقة ، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها ، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم ، وهو ضعيف؛ لأن المراد ، نفي الوثوق عليها ، لا أنها ليست بأيمان . قاله البيضاوي . قلت : وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية ، إذا حنث في حال الكفر ، ثم أسلم ، فلا يلزمه شيء . وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة ، أي : لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم .
{ لعلهم ينتهون } أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه ، كما هي طريقة أهل الإخلاص لا إيصال الإذاية لهم ، أو مقابلة عداوة .
ثم حضَّ على قتالهم فقال : { أَلاَ تُقاتِلُون قوماً نَكَثُوا أَيمانهم } التي حلفوها للرسول صلىلله عليه وسلم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم ، فعاونوا بني بكر على خزاعة ، { وهمّوا بإخراج الرسول } حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مرّ ، { وهم بدؤوكم أول مرة } بالمعاداة والمقاتلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة ، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به ، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة ، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم ، { أتخشونهم } أي : أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمري ، { فالله أحقُّ أن تخشَوه إن كنتم مؤمنين } ؛ فإن قضية الإيمان ألا يُخاف إلا منه .
ثم وعدهم بالنصر فقال : { قاتلوهم يُعذِّبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهِمْ } ؛ يُهنهم بالقتل والأسر ، { وينصركُمْ عليهم } ، فيمكنكم من رقابهم ، ويملككم أموالهم ونساءهم ، { وَيشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين } ، يعني : بني خزاعة شفوا صدورهم من بني بكر؛ لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم . وقيل : بطوناً من اليمن قدموا مكة وأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديداً ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشروا ، فإن الفرج قريب " . { ويُذْهِبْ غيظَ قلوبهم } ؛ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم ، وقد أوفى الله بما وعدهم؛ بفتح مكة وهوازن .
والآية من المعجزات . قاله البيضاوي . وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح ، فيلتئم مع ما بعده ، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة ، ونبذ العهد والإعلام بذلك؛ لكونه بعد الفتح ، والله أعلم . قاله المحشي . ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة بعد الفتح ، وبعضها؛ من قوله : ( وإن أحد من المشركين . . . ) إلخ نزل قبل الفتح ، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلى الله عليه وسلم :
(2/386)
" اجعلوا هذه الآية في محل كذا " . والله تعالى أعلم .
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله : { ويتوبُ اللَّهُ على من يشاءُ } هدايته ، فيهديه للإيمان ، ثم يتوب عليه ، وقد كان ذلك في كثير منهم . { والله عليمٌ } بما كان يكون ، { حكيم } لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته .
الإشارة : من رجع عن طريق القوم ، ونقض عهد الأشياخ ، ثم طعن في طريقهم ، لا يرجى فلاحه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، أعني في طريق الخصوص؛ لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء ، وقد قال تعالى : " من آذى لي ولياً فقد آذنني بالحرب " ومن رجع عنها؛ لضعف ووهن ، مع بقاء الاعتقاد والتسليم ، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم ، بخلاف الأول ، فقد تقدم عن القشيري ، في سورة آل عمران ، أنهم يريدون الشفاعة فيه ، فيخلق الله صورة على مثله ، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه ، فيبقى مع عوام أهل اليمين . فانظره . وبالله التوفيق .
(2/387)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قلت : " أم " : منقطعة ، بمعنى الهمزة؛ للإنكار والتوبيخ على الحسبان ، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين ، والوليجة : البطانة والصحبة .
يقول الحق جل جلاله : { أم حسبتم } أي : أظننتم { أن تُتْركُوا } من غير اختبار ، { ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدُوا منكم } أي : ولم يتبين الخلَّص منكم ، وهم الذين جاهدوا ، من غيرهم ، والمراد : علمَ ظهور ، أي : أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره ، قال البيضاوي : نفى العلم ، وأراد نفي المعلوم؛ للمبالغة ، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه . ه . بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم .
{ ولم يتخِذوا من دون الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وَليجَةً } ؛ بطانة ، أي : جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولم يتخذوا من دونهم بطانة ، أي أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم ، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين ، دون موالاة من عاداهم ، والتعبير ب ( لما ) : يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع ، { واللَّهُ خبيرٌ بما تعملون } : تهديد لمن يفعل ذلك .
الإشارة : إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله ، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله ، والالتفات إلى أهل الغفلة؛ بالصحبة والمودة ، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ ، والعياذ بالله . وفي الحديث : " المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله " و " المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ " و " مَنْ أَحَبْ قَوْماً حُشِرَ مَعَهم " إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى .
(2/388)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
يقول الحق جل جلاله : { ما كان للمشركين } أي : ما صح لهم { أن يعمرُوا مساجدَ الله } أي : شيئاً من المساجد ، فضلاً عن المسجد الحرام ، وقيل : هو المراد ، وإنما جمع؛ لأنه قبلة المساجد وإمامها ، فأمره كأمرها ، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد ، أي : ليس لهم ذلك ، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً ، حال كونهم { شاهدين على أنفسهم بالكفر } ؛ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول ، أي : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين : عمارة بيت الله ، وعبادة غير الله ، { أولئك حَبِطَتْ أعمالُهم } في الدنيا والآخرة؛ لما قارنها من الشرك والافتخار بها ، { وفي النار هم خالدون } ؛ لأجل كفرهم .
{ إنما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة } ، أي : إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ، ومن عمارتها : تزيينها بالفرش ، وتنويرها بالسرج ، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها ، وصيانتها مما لم تبن له؛ كحديث الدنيا .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : " إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا ، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي ، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه " ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال : بأبي وأمي العلماء ، بروح الله ائتلفتم ، وكتاب الله تلوتم ، ومسجد الله عمرتم ، ورحمة الله انتظرتم ، أحبكم الله ، وأحب من أحبكم . ه .
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به ، ولدلالة قوله : " وأقام الصلاة وآتى الزكاة " عليه . قال البيضاوي .
{ ولم يخش } في أموره كلها { إلا الله } ، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله ، { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } ، وعبَّر بعسى ، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم ، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون؛ فإن كان اهتداء هؤلاء ، مع كمالهم ، ودائراً بين عسى ولعل ، فما ظنك بأضدادهم؟ ، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان " ثم تلا الآية .
الإشارة : مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي ، لا يدخل الحضرة إلا قلب مفرد ، فيه توحيد مجرد ، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله ، غائب عما سواه ، قد رفض الركون إلى الأسباب ، وأفراد الوجهة لمسبب الأسباب ، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق . وإنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن بالله واليوم الآخر ، وأقام صلاة القلوب ، وآتى زكاة النفوس ، ولم يراقب أحداً من المخلوقين ، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين .
(2/389)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قلت : السقاية والعمارة : مصدران ، فلا يشبهان بالجثة ، فلا بد من حذف ، أي : أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن ، أو جعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن .
يقول الحق جل جلاله : { أجعلتُم } أهل { سِقَايةَ الحاجِّ ، و } أهل { عمارة المسجدِ الحرام } من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم ، { كمن آمن باللَّهِ واليوم الآخر } من أهل الإيمان ، { وجاهَد في سبيل الله } ؛ لإعلاء كلمة الله ، المثبتة أعمالهم ، بل { لا يستوون عند الله } أبداً؛ لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين ، إن لم يتوبوا ، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين .
ونزلت الآية في علي كرم الله وجهه والعباس وطلحة بن شيبة ، افتخروا ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت ، وعندي مفاتحه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية ، وقال علي رضي الله عنه : لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل ، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال : { والله لا يهدي القوم الظالمين } أي : الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك ، ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وداموا على ذلك ، وقيل : المراد بالظالمين : الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين .
ثم أكد بقوله : { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً } ، وأعلى رتبة ، وأكثر كرامة ، { عند الله } ، ممن لم يستجمع هذه الصفات ، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم ، { وأولئك هم الفائزون } بكل خير ، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند الله ، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك .
ثم زاد في كرامتهم فقال : { يُبشرهم ربُّهم برحمةٍ منه } أي : تقريب ، وعطف منه { ورضوان وجنات لهم فيها } أي : في الجنان { نعيم مقيم } ؛ دائم ، لا نفاد له ولا انقطاع . وتنكير المبشر به؛ إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف ، حال كونهم { خالدين فيها أبداً } ، أكد الخلود بالتأبيد؛ لأنه قد يطلق على طُول المكث ، { إن الله عنده أجر عظيم } يُستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له ، أو نعيم الدنيا؛ إذ لا قدر له في جانب نعم الآخرة .
الإشارة : لا يستوي من قعد في وطنه مع عوائده وأسبابه ، راكناً إلى عشائره وأحبابه ، واقفاً مع هواه ، غافلاً عن السير إلى مولاه ، مع من هاجر وطنَه وأحبابَه ، وخرق عوائده هو أسبابَه ، وجاهد نفسه وهواه ، سائراً إلى حضرة مولاه ، لا يستوون أبداً عند الله؛ لأن هؤلاء مقربون عند الله ، والآخرون في محل البعد عن الله ، ولو كثر علمهم وعملهم عند الله ، شتان بين من همته القصور والحور ، وبين من همته الحضور ورفع الستور ، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم ، وهو الشهود والعيان ، لا يحجب عنهم طرفة عين ، إن الله عنده إجر عظيم ، لا يخطر على قلب بشر لا حرمنا الله من ذلك .
(2/390)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم } ؛ الذين بقوا على كفرهم { أولياءَ } ؛ توالونهم بالمحبة والطاعة ، { إِن استحبوا الكفرَ } واختاروه على الإيمان . نزلت في شأن المهاجرين؛ فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا ، وذهبت تجارتنا ، وبقينا ضائعين . وقيل : نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة ، فنهى الله عن موالاتهم . { ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون } ؛ بوضعهم الموالاة في غير موضعها .
{ قل إِن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإِخوانُكم وعشيرتُكم } أي : أصحابكم ، أو أقرباؤكم ، { وأموال اقترفتُموها } ؛ اكتسبتموها ، { وتجارة تخشوْنَ كسادَهَا } أي : فوات وقت إنفاقها ، { ومساكنُ ترضونها } ؛ لحسنها وسعتها ، فإن كان ذلك { أحبَّ إليكم من الله ورسولهِ } أي : من الإيمان بالله وصحبة ورسوله ، { وجهادِ في سبيله } ، فآثرتم ذلك ، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة ، { فتربصوا حتى يأتي اللَّهُ بأمره } أي : بعقوبة عاجلة أو آجلة ، أو بنصر وفتح على المؤمنين ، كفتح مكة وغيرها ، والمراد بالمحبة : الاختيارية دون الطبيعة؛ فإنها لا تدخل تحت التكليف ، والتحفظ عنها؛ لأن حب الأوطان والعشائر طبيعي ، والحب المكلف به اختياري ، بحيث يجاهد نفسه في إبدال الطبيعي بالاختياري .
ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله : { والله لا يهدي القوم الفاسقين } لا يرشدهم ولا يوفقهم . وفي الآية تهديد عظيم ، وقلَّ من تحفظ عنه . قاله البيضاوي .
الإشارة : الهجرة من أوطان الغفلة واجبة ، ومفارقة الأصحاب والعشائر؛ الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة ، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه ، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه ، كائنة ما كانت ، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده ، إلا القليل ، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم من وطنه إلى المدينة . وحينئذ نصر الدين ، بقيت سنة في الأولياء ، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده ، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل من يشغله عن الآباء والأبناء والأزواج والعشائر ، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله ، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة ، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة ، فلا يضيع من يعول ، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها ، ويذكر الله مع ذلك ، فيخالطهم بحسه ، ويفارقهم بقلبه ، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة ، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال ، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه ، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَّهُ مَخرَجَاً وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لاَ يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَّكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُه } [ الطلاق : 2 3 ] .
ولإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه :
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا ... وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا
فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً ... لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا
وبالله التوفيق .
(2/391)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قلت : { ويوم حنين } : عطف على { مواطن } ، أو منصوب بفعل مضمر ، وهذا أحسن؛ لأن قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } خاص بيوم حنين . انظر : ابن جزي .
يقول الحق جل جلاله : في تذكيرهم بالنعم : { لقد نصَركُم اللَّهُ في مواطنَ كثيرةٍ } أي : في مواقف الحرب ومداحضها في مواضع كثيرة ، { و } نصركم أيضاً { يومَ حُنينٍ } ، وهي غزوة كانت بعد فتح مكة ، متصلة بها ، في موضع يقال له : حنين ، سمي باسم رجل كان يسكنه ، وهو وادٍ بين مكة والطائف ، حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وكانوا اثنى عشر ألفاً : عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة ، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء ، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب . وكانوا ثلاثين ألفاً ، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين : لن نُغلَبَ اليوم من قلة ، إعجاباً بكثرتهم ، واقتتلوا قتالاً شديداً ، فأدرك المسلمين إعجابهم ، واعتمادهم على كثرتهم ، فانهزموا حتى وصل جُلهم إلى مكة ، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ، ليس معه إلا عمه العباس ، آخذاً بلجامه ، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك شهادة على تناهي شجاعته صلى الله عليه وسلم ، فقال العباس وكان صيِّتاً : صِحْ بالناس ، فنادى : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقاً واحداً ، يقولون : لبيك لبيك ، ونزلت الملائكة ، فالتقوا مع المشركين ، فقال عليه الصلاة والسلام : " هذا حين حَمِي الوَطيس " ، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم ، وقال : " شاهت الوجوه " ، ثم قال : " انهزموا وربِّ الكعبة " ، فانهزموا .
فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتباً لهم عليها بقوله : { إذْ أعجبتكُم كثرتُكم فلم تُغن عنكم شيئاً } أي : فلم تُغن تلك الكثرة عنكم شيئاً من الإغناء ، أو من أمر العدو . وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم؛ لأنه معصوم من الإعجاب ، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب ، بل على وجه الإخبار ، وعلى ذلك جرى الحكم في المذهب : من حرمة الفرار عند بلوغ اثني عشر ألفاً ، وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً بالطلقاء؛ وهم مسلمة الفتح : وكانوا ألفين ، وسُموا بالطلقاء؛ لمنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، يقال لمن أطلق من أسر : طليق ، وجمعه على طلقاء نادر؛ لأنه يشترط في فعيل ، الذي يجمع على فعلاء ، أن يكون بمعنى فاعل ، كظريف وشريف ، لا بمعنى مفعول ، كدفين ودفنى ، وسخين وسخنى ، منه . طليق .
ثم قال تعالى : { وضاقتْ عليكم الأرضُ بما رحُبَتْ } ؛ برحبها ، أي : ضاقت على كثرة اتساعها ، فلم تجدوا فيها مكاناً تطمئن إليه نفوسكم من الدهش ، { ثم وليتم مدبرين } ؛ هاربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { ثم أنزل الله سكينته } أي : طمأنينته { على رسوله وعلى المؤمنين } بعد انهزامهم ، فرجعوا وقاتلوا ، أو على من بقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يفروا .
(2/392)
وإعادة الجار؛ للتنبيه على اختلاف حالهما .
{ وأنزل جنوداً } من الملائكة { لم تروها } بأعينكم ، وكانوا خمسة آلاف ، أو ثمانية ، أو ستة عشر ، على اختلاف الأقوال . { وعذَّبَ الذين كفروا } بالقتل والأسر والسبيٍ ، { وذلك جزاءُ الكافرين } أي : ما فعل بهم هو جزاء كفرهم في الدنيا ، { ثم يتوبُ الله من بعد ذلك على من يشاء } منهم ، بالتوفيق للإسلام ، { والله غفور رحيم } يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية .
رُوي أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسْلَمُوا ، وقالوا : يا رسولَ الله ، أنْتَ خيرُ الناس وأبرهم ، وقد سُبي أهلُونا وأولادُنا ، وأُخِذَتْ أموالُنَا وقد سُبي يومئذ ستة آلاف نفس ، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى ، فقال : " اختاروا ، إما سَبْيكُمْ ، وإما أمْوالَكُم " . فقالوا ما كُنَّا نَعدِلُ الأحسابِ شيئأً ، فمنْ كان بيَدِهِ سبي فطابتْ نفسُهُ أنْ يرُدَّهُ فشأنُهُ ، ومن لا ، فليُعْطِنَا ، وليكُنْ قَرْطاً علينا حتَّى نُصيب شيئاً فنُعطِيِه مثله " ، فقالوا : رضينا وسَلَّمنا ، فقال : " إنِّي لا أدري ، لَعَلَّ فِيكُمْ مَنْ لا يَرضَى ، فارجعوا حتى يرفع إِليَّ عُرفَاوكُمُ أمرَكم " فرفعوا إليه أمْرَهمْ ، وقالوا : قد رضُوا ، فردَّ السبي إليهم ، وقسم الأموال في المؤلفة قلوبهم ، ترغيباً في تسكين قلوبهم للإسلام . والغزوة مطولة في كتب السيرة ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : لقد نصركم الله ، يا معشر المريدين ، على جهاد نفوسكم وتيسير أموركم ، في مواطن كثيرة ، إذا رجعتم إلى ربكم ، واعتزلتم من حولكم وقوتكم في جميع أموركم ، فمن علامة النجاح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية ، ما تعذر مطلب أنت طالبه بربك ، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك ، فمن رجع إلى نفسه ، أو استند إلى عقله وحدسه ، لم تغن عنه شيئاً ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت ، ورجع من حيث جاء ، فإن انتبه ، ورجع إلى ربه ، أنزل سكينة عليه ، وأيده باليقين ، ورجا أن يدرك أمله من رب العالمين .
قال الورتجبي : قوله تعالى : { ثم أنزل الله سكينتة على رسوله } ، سكينته عليه الصلاة والسلام زيادة أنوار كشف مشاهدة الله ، له ، حين خاف من مكر الأزل ، فأراه الله اصطفائيته الأزلية ، وأمنة من مكره ، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين ، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث اثراً ، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة ، ففزع منه به ، فآواه الله منه إليه ، حتى سكن به عنه . ه .
(2/393)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نَجَس } أي : عين الخبث ، مبالغة في خبثهم ، إما لخبث باطنهم بالكفر ، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات ، ولا يتوقون منها ، فهم ملابسون لها غالباً . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن أعيانهم نجسة كالكلاب . قاله البيضاوي . { فلا يقربوا المسجدَ الحرام } ، وهو نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام ، وهو مجمع عليه ، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد ، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد .
وجعلها الشافعي عامة في الكفار ، خاصةً بالمسجد الحرام ، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة ، وأباح دخول غيره ، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهي ، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم سائر المساجد ، وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره . قاله ابن جزي .
قوله تعالى : { بعدَ عامهم هذا } يعني : سنة تسع من الهجرة ، حين حج أبو بكر بالناس ، وقرأ عليٌّ رضي الله عنه عليهم سورة براءة .
{ وإن خِفْتُمْ عَيلةً } أي : فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم ، وكانوا يجلبون لها الطعام ، فخاف الناس قلة القوت منها ، إذا انقطع المشركون عنهم ، فوعدهم الله بالغنى بقوله : { فسوف يغْنيِكُم الله من فضله } ؛ من عطائه وتفضله بوجه آخر . وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً ، وأسلمت العرب كلها ، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة ، ثم فتح عليهم البلاد ، وجلبت لهم الغنائم ، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض ، وما زال كذلك إلى الآن .
وقيده بالمشيئة؛ لتنقطع الآمال إلى الله ، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض ، وفي عام دون عام ، { إن الله عليمٌ } بأحوالكم ، { حكيم } فيما يعطي ويمنع .
الإشارة : بيوت الحضرة وهي القلوب المقدسة لا ينبغي أن يدخلها شيء من شرك الأسباب ، أو الوقوف مع رفق الأصحاب ، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم ، ولا ينبغي أيضاَ أن يدخلها شيء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها ، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر ، والعزلة عن أربابها؛ لئلا يدخل فيها شيء من نجاستها ، فتموت بعد حياتها ، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه : ( لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم ، قالوا : من الموتى يا روح الله؟ قال : المحبون للدنيا الراغبون فيها ) . فإن خفتم علية؛ بالفرار منهم واعتزال نجاستهم ، فسوف يغنيكم الله من فضْلِ غَيْبه إن شاء في الوقت الذي يشاء ، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء . والله تعالى أعلم
قال القشيري : { إنما المشركون نجس } أي : لأنهم فقدوا طهارة الأسرار ، فبقوا في مزابل الظنون والأوهام ، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجد التي هي مساجدُ القرب ، وأما المؤمنون فطهَّرهم عن التدنُّس بشهود الأغيار ، فطالعوا الحقَّ فرْدوا فيما ينشيه من الأمر ويُمضيه من الحُكم . ه .
(2/394)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
يقول الحق جل جلاله للمؤمنين : { قاتِلوا } أهل الكتاب من اليهود والنصارى { الذين لا يؤمنون بالله } على ما يجب له ، لإشراكهم عُزير وعيسى ، ولتجسيمهم ، { ولا باليوم الآخر } ؛ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني ، فإيمانهم في الجانبين كلا إيمان { ولا يحرِّمون ما حرَّمَ الله ورسولُه } محمّد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير ، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية ، { ولا يَدينونَ دينَ الحق } أي : لا يدخلون في الإسلام ، الذي هو الدين الحق ، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها .
ثم بيَّن الذين أّمر اللَّهُ بقتالهم بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } ؛ وهم اليهود والنصارى ، وحين نزلت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك لقتال النصارى ، ووصل إلى أوائل بلد العدو ، فصالح أهل أدرج وأيلة ، وغيرهما ، على الجزية وانصرف ، ذلك امتثال للآية .
قال تعالى : { حتى يُعطوا الجزبة } أي : ما تقرر عليهم أن يعطوه ، وقدْرها عند مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهماً على أهل الورق ، يؤخذ ذلك من كل رأس ، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ، ويلحق بهم المجوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " سُنُّوا بِهِمْ سُنًّةَ أَهْلِ الكتاب " لأن لهم شبهة كتاب ، فألحقوا بهم . واختلفوا في قبولها من عَبدة الأوثان؛ قال مالك : تؤخذ من كل كافر إلا المرتد ، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين .
وقوله تعالى : { عن يدٍ } أي : يباشر إعطاءها بيده ، لا يبعثها مع أحد ، أو لا يمطل بها ، كقولك : يداً بيد ، أو عن استسلام وانقياد ، كقولك : ألقى فلان بيده . { وهم صاغرون } ؛ أذلاء محقرون . وعن ابن عباس رضي الله عنه : تؤخذ الجزية من الذمي ، وتوجأ عنقه ، أي : تصفع .
الإشارة : يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه ، وأعظمها : حب الدنيا والرئاسة والجاه ، ولا يزال يخالف هواها ، ويعكس مراداتها ، ويحملها ما يثقل عليها ، حتى تنقاد إليه بالكلية ، بحيث لا يثقل عليه شيء ، ويستوي عندها العز والذل ، والفقر والغنى ، والمدح والذم ، والمنع والعطاء ، والفقد والوجد ، فإن استوت عندها الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها ، فيجب حفظها ورعايتها ، وتصديقها فيما يرد عليها . وبالله التوفيق .
(2/395)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قلت : ( عزيز ) : مبتدأ ، و ( ابن الله ) : خبر ، فمن نونه جعله مصروفاً؛ لأنه عنده عربي ، ومن حذف تنوينه : إما لمنعه من الصرف؛ للعلمية والعجمية عنده ، وإما لالتقاء الساكنين؛ تشبيهاً للنون بحروف اللين ، وهو ضعيف ، والأول أحسن .
يقول الحق جل جلاله : { وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله } ، قال ابن عباس : هذه المقالة قالها أربعة منهم ، وهم : سَلامُ بن مُشْكم ، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى ، وشَاسُ بنُ قَيس ، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ . وقيل : لم يقلها إلا فنحاص ، ونسب ذلك لجميعهم؛ لسكوتهم عنه . قال البيضاوي : إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم ، أو ممن كانوا بالمدينة ، وإنما قالوا ذلك؛ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة ، وهو أي عزير لما أحياه الله بعد مائة عام ، أملى عليهم التوراة حفظاً ، فتعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله ، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب . ه .
{ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله } ، هو أيضاً قول بعضهم ، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب ، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وتقدم الرد عليهم ، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم ، في سورة المائدة .
قال تعالى : { ذلك قولُهم بأفواههم } من غير دليل ولا برهان ، بل قالوا به من عندهم { يُضاهِئون } أي : يشابهون في هذه المقالة { قولَ الذين كفروا من قبلُ } ، يعني : قدماءهم ، على معنى أن الكفر قديم فيهم . قال ابن جزي : فإن كان الضمير لليهود والنصارى ، أي المتقدمين ، فالإشارة بقوله : ( الذين كفروا من قبل ) للمشركين من الغرب ، إذ قالوا : الملائكة بنات الله ، وهم أول كافر ، أو للصابئين ، أو لأمم تقدمت ، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ من اليهود والنصارى ، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون . ه .
{ قاتَلهُم اللَّهُ } أي : أهلكهم ودمرهم؛ لأن من قاتله الله هلك ، فيكون دعاء ، أو تعجباً من شناعة قولهم ، { أنَى يُؤفكون } أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل .
{ اتخذوا أحبارَهم } أي : علماءَهم { ورهبانَهم } ؛ عُبَّادَهم { أرباباً من دون الله } ؛ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، وفي السجود لهم ، { والمسيحَ ابنَ مريمَ } ؛ بأن جعلوه ابن الله ، { وما أمروا إلا ليعبدوا إِلهاً واحداً } وهو الله الواحد الحق ، وأما طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر من أمر بطاعته ، فهو في الحقيقة طاعة الله ، { لا إله إلا هو } ؛ تقرير للتوحيد ، { سبحانه عما يشركون } ؛ تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك .
{ يريدون أن يُطفئوا } أي : يُخمدوا { نورَ الله } ؛ القرآن أو الإسلام بجملته ، { بأفواههم } كقولهم فيه : سحر ، وشعر ، وغير ذلك ، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا ، { ويأبى اللَّهُ } ؛ لا يرضى { إلا أن يُتِمَ نوره } بإعلاء التوحيد وإظهار الإسلام ، وإعزاز القرآن وأهله ، { ولو كره الكافرون } ذلك ، فإن الله لا محالة يُتم نوره ، ويظهر دينه .
(2/396)
{ هو الذي أرسلَ رسولهُ } محمداً صلى الله عليه وسلم { بالهدى ودين الحق ليُظهرَهُ على الدين كله } ، الضمير في " يُظهره " . للدين الحق ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم . واللام في " الدين " . للجنس ، أي : على سائر الأديان فينسخها ، أو على أهلها فيخذلهم ، وقد أنجز وعده ، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها ، حتى عم المشارق والمغارب ، { ولو كَرِهَ المشركون } ذلك الإظهار ، فيظهره الله رغماً من أنفهم . وقيل : يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام ، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته ، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط ولم ينفذ إلى شهود الوسائط ، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، وقال ، في شأن الواسطة العظمى؛ غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره : { ليسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيء } [ آل عمران : 128 ] ، { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [ هود : 12 ] ، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي ، فقال : وما يبكيك؟ فقال له : مات أستاذي ، فقال له ذلك العارف : ولم جعلت أستاذك من يموت؟ .
فالوسائط؛ كالأنبياء والأولياء ، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله ، دالون عليه ، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص .
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق ، وإن كان وسيلة منه ، فإن في إفراد القدم من الحدوث ، النظر إلى الوسائط ، وهو شرك ، وتصديق ذلك تمام الآية؛ { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً } . غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق . قال الله تعالى : { قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم } [ الأنعام : 91 ] . ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح " .
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم ، فطلبوا الحق من غير مظانه ، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق ، وبصر سبل التحقيق ، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق ، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق ، وركونهم إلى أهل التقليد ، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد ، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين ، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا ، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة ، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث حيث علموا أن الولاية بالنسب ، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله ، وقلبُه معلق بغير الله ، هو من أولياء الله .
(2/397)
قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية ، ووقاه من صحبة القراء . ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم ، ولم يتعرضوا لأولياء الله ، ولم يقصدوا إسقاط جاههم ، لكفيهم شقاوتهم ، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين . قال الله في شأنهم : { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } ، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات ، التي من جباه وجوههم ، ولئالئ خدودهم ، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية ، ويزيد نورهم على نور؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته .
قوله تعالى : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله ، وبسِّر دينه وربوبيته ، فيدله إلى منهاج عبوديته ، ومعارج روحه وقلبه ، إلى مشاهدة ربوبيته ، ويكون هو واسطة بينه وبين الله ، وإن كان الفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب ، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب ، وصيره شفيعاً للجنايات ، لا شريكاً في الهدايات ، هداه نور القرآن ، وبيّنه حقيقة البيان ، مع إظهار البرهان . قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه ، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم ، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين ، قال الله تعالى : { أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } ، انتهى كلامه .
(2/398)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قلت : ( يحمى عليها ) : الجار والمجرور : نائب الفاعل ، وأصله : يوم تحمى النار الشديدة الحمى عليها ، فجعل الإحماء للنار؛ مبالغةً ، ثم حذفت النار ، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور؛ تنبيهاً على المقصود ، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل } ؛ يأخذونها بالرشا في الأحكام ، وسَمى أخذ المال أكلاً؛ لأنه الغرض الأعظم منه ، { ويصدون عن سبيل الله } أي : يعوقون الناس عن الدخول في دينه ، { والذين يكنزون الذهبَ والفِضةَ } أي : يدخرونها { ولا يُنفقونها } أي : الأموال المفهومة من الذهب والفضة ، أو الكنوز ، أو الفضة ، واكتفى بذكرها عن الذهب؛ إذ الحُكم واحد ، { فبشِّرهم بعذاب أليم } ؛ وهو الكي بها ، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان ، فيكون مبالغة في وصفهم ، بالحرص على المال وجمعه ، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال ، ويقتنونها ولا يؤدون حقها ، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب؛ للتغليظ . ويدل عليه : أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " إِنَّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم " . وقوله عليه الصلاة والسلام : " ما أدى زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْز " . وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد : كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز ، وحمل الآية عليه .
ثم ذكر وعيدهم فقال : { يوم يُحمَى عليها } أي : على الأموال المكنوزة ، { في نار جهنم } أي : يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها ، حتى تكون صفيحة واحدة ، { فتُكوى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهُم } ، خصهم بالعذَاب ، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل ، ويُولون ظهره ، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم . أو لأنها أشرف الأعضاء ، لاشتمالها على الدِّماغ والقلب والكبد . أو لأنها أصول الجهات الأربع ، التي هي مقادم الإنسان؛ مؤخره وجنبتاه .
يقال لهم : { هذا ما كنزتم لأنفسكم } أي : لمنفعتها ، وكان عينَ مضرتها وسببَ تعذيبها ، { فذُوقوا ما كنتم تكنِزُون } أي : وبال كنزكم ، أو ما كنتم تكنزونه . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ صَاحِب ذهبٍ ولا فضْةٍ لا يُؤدِّي منها حقّها إلاّ إذا كان يومُ القيامة صُفحت له صفائح من نَار ، فأحمي عليها من نار جهنم ، فيُكوى بها جبينُه وجنبه وظهرُه ، كلما بردت أُعيدت له ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله : إما إلى الجنة وإما إلى النار " . رواه مسلم بطوله .
قال ابن عطية : روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد ذم الله تعالى كسب الذهب والفضة ، فلو علمنا أي المال خير حتى نَكْسبه؟ فقال عمر : أنا أَسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله ، فقال :
(2/399)
" لِسان ذاكر ، وقلب شَاكر ، وزَوْجَة تُعينُ المرء على دينهِ " . ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ، لما نزلت الآية : " تَبّاً للذَّهَبِ والفِضَّةِ " . فحينئذٍ أشفق أصحابه ، وقالوا ما تقدم . ه . لابن حجر .
من خير ما يتخذ الإنسانُ ... في دنياه كيما يستقيمَ دينُه
قلبٌ شكور ، ولسانٌ ذاكر ، ... وزوجةٌ صالحة تُعينُه
وهو نظم لهذا الحديث ، وقد تكلم عليه في المجامع وشرحِه . قاله المحشي .
الإشارة : هذه الآية تغبُر في وجوه علماء السوء ، الذين يتساهلون في أكل الدنيا بالعلم ، كقبض الرشا ، وقبض ما فوق أجرته في الأحكام ، فترى بعض قضاة الجور يقبضون المثاقيل على إنزال يده على الحكم ، مع أنه واجب عليه ، حيث تعين عليه بنصب الإمام له ، وتجر ذيلها على أغنياء الدنيا ، الذين يجمعون الأموال ويكنزونها ، فترى أحدهم ينفق في نزهته وشهوة نفسه الأموال العريضة ، وإذا أتاه فقير يسأله درهماً أو درهمين ، تَمَعَّر وجهه ، وتغير لونه ، فبشرهم بعذاب أليم . وبالله التوفيق .
(2/400)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قلت : ( عند الله ) : معمول لعدة؛ لأنها مصدر ، و ( في كتاب الله ) : صفة لاثني عشر ، و ( يوم ) : متعلق بالثبوت المقدر في الخبر ، أي : ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان . وقوله : ( منها ) : أي : الأشهر ، ثم قال : ( فيهن ) . وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة ، حقيقة أو مجازاً ، إن كانت أكثر من عشرة ، قلتَ : منها وفيها ، وإن كانت أقل من عشرة ، قلت : منهن وفيهن ، قال تعالى : { يَأكُلُهُنّ } [ يوسف : 46 ] وقال هنا : ( فيهن ) . انظر الإتقان . و ( كافة ) : حال من الفاعل أو المفعول .
يقول الحق جل جلاله : { إِنَّ عِدَّة الشهور } في كل سنة { عند الله } ؛ في علم تقديره ، { اثنا عشرَ شهراً } : أولها المحرم ، وآخرها ذو الحجة . وأول من جعل أولها المحرم : عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وهذه العدة ثابتة { في كتاب الله } ؛ اللوح المحفوظ ، أو في حكمه ، أو القرآن ، { يومَ خَلَقَ السموات والأرض } ، هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة ، { منها } أي : الأشهر { أربعة حُرُم } ، واحد فرد ، وهو رجب ، وثلاثة سَرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، { ذلك الدين القيم } أي : تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم ، دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء ، { فلا تظلموا فيهن أنفسَكم } ؛ بهتك حرمتها والقتال فيها ، ثم نسخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافةً } أي : في الأزمنة كلها؛ { كما يُقاتلونكم كافة } ؛ لأنهم ، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم .
وقال عطاء : لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم ، ولا في الحَرم ، إلا أن يُبدئوا بالقتال ، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة . { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر والمعونة ، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم .
الإشارة : أهل الفهم عن الله : الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم ، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع . قال الحسن البصري : أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم ، يقول : كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه ، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضي الله عنه : الوقت إذا فات لا يُستدرك ، وليس شيء أعز من الوقت . ه .
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح ، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى ، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك؛ لأنه في غاية الشرف والنفاسة ، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفسهم ، ولحظاتهم ، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير ، وإلى هذه الإشارة بقوله : ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ؛ بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله . ثم أمر بجهاد القواطع ، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي ، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد ، والمعونة والتسديد .
(2/401)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قلت : ( النسيء ) : التأخير ، يقال بالهمزة وبقلبها ياء .
يقول الحق جل جلاله : { إنما النسيءُ } ، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر ، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات ، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم ، فيشق عليهم تركها ، فيجعلونها في شهر حرام ، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه ، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر ، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة ، وإنما ذلك { زيادةٌ في الكفر } ؛ لأنه تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله ، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم ، { يُضَلُّ به الذين كفروا } عن الحق ، ضلالاً زائداً على ضلالهم ، أو يضلهم الله بذلك ، { يُحلونه عاماً } أي : يحلون الشهر الحرام عاماً ، ويجعلون مكانه آخر ، { ويحرمونه عاما } ، فيتركونه على حرمته ، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون .
قيل : أول من أحدث ذلك : جُنادَهُ بن عوف الكناني؛ كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ، ثم ينادي من قابل : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه ، فتتبعه العرب .
ثم حرّموا شهراً آخر مكان المحرم { ليواطئُوا } ؛ ليوافقوا { عِدَّةَ ما حرّمَ الله } ، وهي الأربعة الحرم ، { فيُحلّوا ما حرّم الله } عليهم من القتال في الأشهر الحرم ، { زُيِّنَ لهم سوء أعمالهم } أي : خذلهم وأضلهم ، والمُزين حقيقة : الله ، أو الشيطان؛ حكمةً وأدباً . { والله لا يهدي القوم الكافرين } إلى طريق الرشد ، ما داموا على غيهم ، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلى الله عليه وسلم .
الإشارة : إنما تأخير التوبة واليقظة ، وترك السير إلى مقام التصفية والترقية ، زيادة في البعد والقسوة ، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية ، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة ، فتارةً يُحلون المقام مع النفس الأمارة ، ويقولون : قد انقطعت التربية ، وعُدِمَ الطبيبُ الذي يداويها ويخرجها عن وصفها ، وتارة يُحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها ، ويقولون : البركة لا تنقطع ، والمدد لا ينعدم ، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها في قوله : { والذين جاهدوا فينا } ، وبين من قال : قد انقطعت التربية ، زُين له سواء أعمالهم ، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم .
(2/402)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قلت : ( اثاقلتم ) ، أصله : تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء ، وجلبت الهمزة للساكن ، وقرئ على الأصل ، وضمن الإخلاد ، فَعُدِّيَ بإلى .
يقول الحق جل جلاله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } ؛ للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { اثَّاقلتُم } أي : تباطأتم وأخلدتم { إلى الأرض } كسلاً وفشلاً ، وكان ذلك في غزوة تبوك ، أُمروا بها بعد رجوعهم من الطائف ، في وقت عسر ، وحَر ، وبُعد الشقة ، وكثرة العدو ، فشق عليهم ذلك ، { أرضيتُم بالحياة الدنيا } وكدرها ، { من الآخرة } ، بدل الآخرة ونعيمها ، { فما متاع الحياة الدنيا } أي : التمتع بها في جانب الآخرة ، { إلا قليلٌ } ؛ مستحقر ، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر .
{ إلاّ تنفرُوا } مع رسوله إلى ما استنفرتم إليه ، { يُعذبكم عذاباً إليماً } في الدنيا والآخرة ، في الدنيا : بالإهلاك بأمر فظيع ، كقحط وظهور عدو ، وغير ذلك من المهلكات ، وفي الآخرة : بعذاب النار . { ويستبدلْ } مكانكم { قوماً غيركم } في الدنيا ، يكونون مطيعين لله ورسوله ، كأهل اليمن ، وأمثالهم ، { ولا تضرُّوه شيئاً } ؛ إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً ، فإنه الغني عن كل شيء ، في كل وقت . وقيل : الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله وعده بالعصمة والنصرة ، ووعده حق ، { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء ، فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد ، كما فعل معه في الغار والهجرة ، على ما ياتي .
الإشارة : ما لكم إذا قيل لكم : انفروا إلى من يُعرفكم بالله ، ويعلمكم كيف تجاهدون نفوسكم في طلب مرضاة الله ، اثاقلتم وأخلدتم إلى أرض الحظوظ والشهوات ، أرضيتم بالحياة الدنيا الدنية ، بل الحياة الأبدية ، في الحضرة القدسية؟ أرضيتم بحياة الأشباح بدل حياة الأرواح؟ فما متاع الحياة الدنيا الفانية في جانب الحياة الأبدية في الحضرة العلية ، إلا نزر قليل حقير ذليل ، إلا تنفروا لجهاد نفوسكم ، يعذبكم عذاباً أليماً ، بغم الحجاب ، وشدة التعب والنصب ، وتوارد الخواطر والهموم ، وترادُف الأكدار والغموم ، ويستبدل قوماً غيركم يكونون عارفين بالله ، مَرْضيين عند الله ، راضين عن الله ، والله على كل شيء قدير .
(2/403)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قلت : " إن " : شرط ، وجوابه محذوف ، دلّ عليه قول : { فقد نصره الله } أي : إن لم تنصروه فسينصره الله ، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا ، حال ثاني اثنين ، فدل بنصره في الماضي على نصره في المستقبل ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة؛ لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سبباً لإذن الله له في الخروج ، و ( إذ هُما ) : بدل من ( أخرجه ) ؛ بدل البعض ، و ( إذ يقول ) : بدل ثان ، و ( كلمة الله ) : مبتدأ ، و ( العليا ) : خبر ، وقرأ يعقوب : بالنصب؛ عطفاً على { كلمة الذين كفروا } ، والأول : أحسن؛ للإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها ، فاقت غيرها أم لا .
يقول الحق جل جلاله : { إلاّ تنصروهُ } ؛ تنصروا محمداً ، وتثاقلتم عن الجهاد معه ، فسينصره الله ، كما نصره حين { أخرجه الذين كفروا } من مكة ، حال كونه { ثاني اثنين } أي : لم يكن معه إلا رجل واحد ، وهو الصدِّيق ، { إِذْ هما في الغار } ؛ نقب في أعلى غار ثور ، وثور جبل عن يمين مكة ، على مسيرة ساعة . { إِذْ يقول لصاحبه } : أبي بكر رضي الله عنه : { لا تحزنْ إنَّ الله معنا } بالعصمة والنصرة .
رُوي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين فقدوه من مكة ، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهِما " فأعماهم الله عن الغار ، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه . وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين ، فباضتا في أسفله ، والعنكبوت نسجت عليه .
{ فأنزل اللَّهُ سكِينَتُه } أي : أًمْنَه الذي تسكن إليه القلوب ، { عليه } أي : على رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه ، { وأيَّده بجنودٍ لم تَرَوها } ، يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو يوم بدر وأحد وغيرهما ، فتكون على هذا : الجملة معطوفة على : { فقد نصره الله } . { وجعلَ كلمةَ الذين كفروا } وهي الشرك ، أو دعوى الكفر ، { السفلى وكلمةُ الله } التي هي التوحيد ، أو دعوة الإسلام ، { هي العُليا } ؛ حيث خلص رسوله صلى الله عليه وسلم من بين الكفار ، ونقله إلى المدينة ، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر ، { والله عزيزٌ } ؛ غالب على أمره ، { حكيم } في أمره وتدبيره .
الإشارة : ما قيل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يقال في حق ورثته ، الداعين إلى الله بعده؛ من العارفين بالله ، فيقال لمن تخلف عن صُحبَة ولي عصره وشيخ تربية زمانه : إلا تنصروه فقد نصره الله وأعزه ، وأغناه عن غيره ، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه ، فقد نصره الله حين أنكره أهله وأبناء جنسه ، كما هي سنة الله في أوليائه ، لأن الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، فمن دخل مع الخصوص قطعاً أنكرته العموم ، فنخرجه ثاني اثنين هو وقبله ، فيأوي إلى كهف الأنس بالله ، والوحشة مما سواه ، فيقول لقلبه : لا تحزن إن الله معنا ، فينزل الله عليه سكينة الطمأنينة والتأييد ، وينصره باجناد أنوار التوحيد والتفريد ، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى ، وكلمة الداعين إلى الله هي العليا ، والله عزيز حكيم .
(2/404)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
قلت : ( يُهلكون ) : حال من فاعل ( يحلفون ) ، أو بدل منه . قال في القاموس : ( الشقة ) بالضم والكسر : البُعد والناحية يقصدها المسافر ، والسفر ، البعيد والمشقة . ه .
يقول الحق جل جلاله : { انفرُوا } للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، حال كونكم { خِفافاً } ؛ نشاطاً ، { وثِقالاً } ؛ كسالى لمشقته ، أو ( خفاقاً ) لمن قَلَّ عياله ، ( وثقالاً ) لمن كثر عياله ، أو خفافاً لمن كان فقيراً ، وثقالاً لمن كان غنياً ، أو خفافاً ركباناً ، وثقالاً مشاة ، أو خفافاً بلا سلاح ، وثقالاً بالسلاح ، أو خفافاً شباباً ، وثقالاً شيوخاً ، أو خفافاً أصحاء ، وثقالاً مرضى . ولذلك قال ابنُ أمِّ مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أَعَليَّ الغزو يا رسول الله؟ قال : " نعم " حيث نزل : { ليسَ عَلَيكُم جُناح } [ النور : 61 ] . { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } أي : بما أمكن؛ إمّا بهما أو بأحدهما ، { ذلكم خير لكم } ، مِنْ تركه ، { إن كنتم تعلمون } ما في ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم ، أي : لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية .
ثم عاتب من أراد التخلف ، فقال : { لو كان عرضاً قريباً } من الدنيا ، { وسفراً قاصداً } ؛ متوسطاً أو قريباً ، { لاتَّبعوك } أي : لو كان ما دعوا إليه أمراً دنيوياً ، كغنيمة كبيرة ، أو سفراً متوسطاً ، لاتبعوك ولوافقوك على الخروج ، { ولكن بَعُدتْ عليهم الشُّقَّةُ } أي : المسافة التي تقطع بمشقة ، وذلك أن الغزوة أي : تبوك كانت إلى أرض بعيدة ، وكانت في شدة الحر ، وطيب الثمار ، فشقت عليهم . { وسيحلفون بالله } أي : المتخلفون إذا رجعت من تبوك ، معتذرين ، يقولون : { لو استطعنا } الخروج { لخرجنا معكم } ، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العُدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه . { يُهلِكُونَ أنفسهم } بوقوعها في العذاب ، { والله يعلم إِنهم لكاذبون } في ذلك؛ لأنهم كانوا مستطيعين الخروج ، وإنما قعدوا كسلاً وجُبْناً ، والله تعالى أعلم .
الإشارة : انفروا إلى الجهاد أنفسكم وقطع علائقكم وعوائقكم ، لكي تستأهلوا لدخول حضرة ربكم ، وسافروا إلى من يعينكم ويقوي مدد أجناد أنواركم ، وهم المشايخ العارفون ، فسيروا إليهم خفافاً وثقالاً ، ونشاطاً وكُسَّالاً ، والغالب أن النفس يشق عليها ما يكون سبباً في قتلها فلا ينفر إليها خفافاً أول مرة إلا النادر .
ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله ، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه . قال القشيري : أمرهم بالقيام بحقه ، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم ، { خفافاً } أي : في حال حضور قلوبكم ، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات ، { وثقالاً } أي : إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات . فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره . ه . ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال : خفافاً وثقالاً؛ في وقت النشاط والكراهية ، فإن البيعة على هذا وقعت ، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال : بايعنا رسول الله على المنشط والمكره . ه .
(2/405)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
يقول الحق جل جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام ؛ ملاطفاً له في الكلام : { عفا اللَّه عنك لم أذنتَ لهم } ، لِمَ بادرت إلى الإذن إلى المنافقين في التخلف ، واستكفيت بالإذن العام في قولنا : { فَأذَن لِّمن شئتَ مَنهُم } [ النور : 62 ] ، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام ، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص . ولذلك عُوتِبَ يونس عليه السلام . والمعنى : لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب؟ وهلا توقفت { حتى يتبين لك الذين صدقوا } في الاعتذار ، { وتعلم الكاذبين } فيه .
قال ابن عطية : قوله : { الذين صدقوا } يريد : في استئذانك ، وأَنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك ، وقوله : { وتعلم الكاذبين } يريد : أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدِّك ، وهم كَذَبة ، قد عزموا على العصيان ، أذِنتَ أو لم تأذن . ه . قال ابن جزي : كانوا قد قالوا : استأذنوه في القعود ، فإن إذن لنا قعدنا ، وإن لم يأذن قعدنا ، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم ، فحينئذٍ كان يقعد العاصي والمنافق ، ويسافر المطيع الصادق . ه .
{ لا يستأذنُك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي : ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، بل الخُلَّص منهم يُبادرون إليه ، ولا يوقفُونه على الإذن فيه ، فضلاً عن أن يستأذنوا في التخلف عنه ، { والله عليم بالمتقين } ؛ فيثيبهم ويقربهم ، وهي شهادة لهم بالتقوى وَعِدَةً لهم بثوابه .
{ إنما يستأذنكَ } في التخلف { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } ، وخصص ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر؛ إشعاراً بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه : الإيمان وعدم الإيمان بهما ، { وارتابت قلوبهم } أي : شكَّت في الإيمان والبعث ، { فهم في ريبهم يترددُون } : يتحيرون . ونزلت الآية في عبد الله بن أُبيّ والجَدُّ بن قيْس ، وأمثالهما من المنافقين .
الإشارة : لا ينبغي للعارفين بالله؛ الداعين إلى الله ، أن يأذنوا لمن استأذنهم في التخلف عن الجهاد الأكبر ، ويرخصون له في البقاء مع النفس والهوى ، وجمع حطام الدنيا ، شفقةُ ورحمةً؛ لأن الشفقة في هذا المعنى لا تليق بأهل التربية ، فقد قالوا : الشفقة والرطوبة لا تليق بشيوخ التربية ، بل لا يليق بهم إلا الأمر بما تموت به النفوس ، وتحيا به الأرواح ، وإن كان فيه حتفُهم . وقد قالوا أيضاً : إذا كان الشيخ يحرش على المريد ، ويقدمه للمهالك في نفسه أو ماله أو جاهه ، فهو دليل على أنه يحبه وينصحه ، وإذا كان يرخص له في أمورنفسه ، ويأمره بالمقام معها ، فهو غير ناصح له .
وأما الإذن في التجريد وعدمه : فإن رآه أهلاً له؛ لنفوذ عزمه ، فيجب عليه أن يأمره به ، وإن رآه لا يليق به؛ لعوارض قامت به؛ منعه منه ، حتى ينظر ما يفعل الله به ، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش ، فقال له : يا سيدي؛ استأذنك في مجاهدة نفسي؟ فقال له : { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } .
(2/406)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
قلت : { ما زادوكم إلا خبالاً } قال بعضهم : هو استثناء منقطع ، أي : ما زادوكم شيئاً ، لكن خبالاً يُحدِثُونه في عسكركم بخروجهم . قال ذلك : لئلا يلزم أن الخبال واقع في عسكر المسلمين ، لكن خروجهم يزيد فيه . وفيه نظر؛ لأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعاً ، ويمكن هنا أن يكون متصلاً؛ لأن غزوة تبوك خرج فيها كثير من المنافقين ، فحصل الخبال ، فلو خرج هؤلاء المستأذنون في التخلف ، القاعدون ، لزاد الخبالُ بهم .
وقوله : ( ولأوضعوا ) أي : أسرعوا ، والإيضاع : الإسراع ، ( وخلالكم ) : ظرف ، أي : لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة ، وجملة : ( يبغونكم ) : حال من فاعل " أوضعوا " .
يقول الحق جل جلاله : { ولو أرادوا } ؛ أراد المنافقون { الخروجَ } إلى الغزو معكم ، وكانت لهم نية في ذلك { لأعدُّوا له عُدَّةً } أي : لاستعدوا له أهبتَهُ قبل أوانه . فما فعلوا ، { ولكن } تثبطوا؛ لأنه تعالى كره { انبعاثهم } ، أي : نهوضهم للخروج ، { فثبَّطهم } أي : حبسهم وكسر عزمهم ، كسلاً وجبناً ، { وقيلَ } لهم : { اقعدوا مع القاعدين } من النساء والصبيان وذوي الأعذار ، وهو ذم لهم وتوبيخ . والقائل في الحقيقة هو الله تعالى ، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود ، وبناه للمجهول تعليماً للأدب . قال البيضاوي : هو تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم ، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو إذن الرسول لهم . ه .
{ لو خرجوا فيكم } ما زادكم خروجهم شيئاً { إلا خبالاً } ؛ فساداً وشراً . والاستثناء من أعم الأحوال ، فلا يلزم أن يكون الخبال موجوداً ، وزاد بخروجهم ، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم ما زادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالاً زائداً على ما وقع . { ولأوْضَعُوا } أي : لأسرعوا { خِلالَكُم } أي : فيما بينكم ، فيسرعون في المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل ، { يبغونَكُم الفتنة } أي : حال كونهم طالبين لكم الفتنة ، بإيقاع الخلل بينكم ، قلوبكم ورأيُكم ، فيذهب ريح نصركم ، { وفيكم } قوم { سماعُون لهم } ؛ فيقبلون قولهم ، إما بحسن الظن بهم ، أو لنفاق بهم ، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم ، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم ، { والله عليم بالظالمين } ؛ فيعلم ضمائرهم ، وما ينشأ عنهم ، وسيجازيهم على فعلهم .
{ لقد ابْتَغَوُا الفتنة } أي : تشتيت أمرك وتفْريق أصحابك { من قبلُ } أي : من قبل هذا الوقت ، كرجوعهم عنك يوم أُحد ، ليوقعوا الفشل في الناس ، { وقلَّبوا لك الأمور } أي : دبروها من كل وجه ، فدبروا الحيل ، ودوروا الآراء في إبطال امرك ، فأبطل الله سعيهم ، { حتى جاء الحقُّ وظهر أمرُ الله } أي : علا دينه ، { وهم كارهون } أي : على رغم أنفهم ، والآيتان تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على تخلفهم ، وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له ، وهتك أستارهم ، وكشف أسرارهم ، وإزاحة اعتذارهم . انظر البيضاوي .
الإشارة : الناس على ثلاثة أقسام : قسم أقامهم الحق تعالى لخدمة أنفسهم وحظوظهم؛ عدلاً .
(2/407)
وقسم أقامهم الحق تعالى لخدمة معبودهم؛ فضلاً . وقسم اختصهم بالتوجه إلى محبوبهم؛ رحمة وفضلاً .
فالأوّلون : أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق ، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد ، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين ، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة ، وأما أهل الخدمة : فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته ، فشغلهم بخدمته ، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة . وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء ، ولم يتركهم مع شيء ، بل اختصهم بمحبته ، وقام لهم بوجود قسمته ، { يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم } [ آل عمران : 74 ] . وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه ، لأفسده ، وما زاده إلا خبالاً وشراً . والله تعالى أعلم .
(2/408)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
يقول الحق جل جلاله : { ومنهم من يقولُ ائذن لي } في القعود ، { ولا تفتنِّي } ؛ ولا توقعني في الفتنة ، أي : في العصيان والمخالفة ، بأ تأذن لي ، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف ، أََذِنَ أو لم يأذن ، أو في الفتنة؛ بسبب ضياع المال والعيال؛ إذ لا كافل لهم بعدي ، أو في الفتنة بنساء الروم ، كما قال الجَدُّ بنُ قَيْس : قد علمت الأنصار أني مُولع بالنساء ، فلا تفتني ببنات بني الأصفر ، ولكني أُعينك بمال ، واتركني .
قال تعالى : { أَلاَ في الفتنةِ سقطُوا } أي : إن الفتنة التي سقطوا فيها ، وهي فتنة الكفر والنفاق ، لا ما احترزوا عنه ، { وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين } ، أي : دائرة بهم يوم القيامة ، أو الآن؛ لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها ، ومن أعظم أسبابها : بغضك وانتظارهم الدوائر بك .
{ إن تُصبْك حسنة } ؛ كنصر أو غنيمة في بعض غزواتك ، { تسؤوهم } ؛ لفرط حسدهم وبغضهم ، { وإن تُصبك } في بعضها { مصيبة } ؛ ككسر أو شدةٍ كيوم أحد ، { يقولوا قد أخذنا أمْرَنا من قبلُ } أي : يتبجحوا بتخلفهم أو انصرافهم ، واستحمدوا رأيهم في ذلك ، { ويتولوا } عن متحدِّثِهم ومجْمعهم ، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { وهم فَرحُون } مسرورون بما صنعوا من التخلف عن الجهاد .
الإشارة : ومن ضعفاء اليقين من يستأذن المشايخ في البقاء مع الأسباب وفتنة الأموال ، ويقول : لا تفتني بالأمر بالتجريد ، فإني لا أقدر عليه ، ويرضى بالسقوط في فتنة الأسباب والشواغل ، فإن ضم إلى ذلك الإنكار على أهل التجريد ، بحيث إذا رأى منهم نكبة أو كسرة من أجل التجريد ، والخروج عن عوائد الناس وما هم عليه ، فرح ، وإذا رأى منهم نصراً وعزاً انقبض ، ففيه خصلة من النفاق ، والعياذ بالله .
(2/409)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
يقول الحق جل جلاله : { قل } لهم يا محمد : { لن يصيبنا } من حسنة أو مصيبة ، { إلا ما كتبَ اللهُ لنا } في اللوح الحفوظ ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم ، { هو مولانا } ؛ متولي أمرنا وناصرنا ، { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } أي : وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم؛ رضاَ بتدبيره؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله؛ إذ لا فاعل سواه ، { قل } لهم : { هل تربّصُون } أي : تنتظرون { بنا إحدى الحُسنيين } أي : إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى : إما النصر وإما الشهادة ، { ونحنُ نتربصُ بكم } أيضاً إحدى العاقبتين السُوأتين : إما { أن يصيبَكم اللَّهُ بعذابٍ من عنده } بقارعة من السماء ، { أو بأيدينا } أي : أو بعذاب بأيدينا ، وهو القتل على الكفر ، { فتربصُوا } ما هو عاقبتنا ، { إنا معكم مُتَربِّصون } ما هو عاقبتكم .
الإشارة : ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب ، والسكون إلى رب الأرباب ، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختبار ، وظلمة الأكدار والأغيار : أحدها : تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر ، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وما أصابه لم يكن ليخطئه ، قال تعالى : { قل لن يصينا إلا ما كتب الله لنا } ، { وَإن يمْسسْك اللَّهُ بضُرِّ فَلا كَاشِفَ له إلاَّ هُوَ } ، وليتأمل قول الشاعر :
مَا لا َيُقَدِّرُ لا يَكُون بِحيلَةٍ ... أَبَداً ، وَمَا هُو كَائِنٌ سَيَكُونُ
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ في وَقْتِهِ ... وأخُو الجَهالَةِ مُتْعَبٌ مَخْزُون
وقد ورد عن سيدنا علي كرم الله وجهه أنه قال : سبع آيات : من قرأها أو حملها معه؛ لو انطبقت السماء على الأرض؛ لجعل الله له فرجاً ومخرجاً من أمره ، فذكر هذه الآية : { قل لن يصيبنا } ، وآية في سورة يونس : { وَإِن يَمسَسْك اللَّهُ بِضُرٍ . . . } [ يونس : 107 ] الآية ، وآيتان في سورة هود : { وَما مِن دآبَّةٍ . . . } [ هود : 6 ] ، الآية ، { إنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبَي وَرَبّكُم . . . } [ هود : 56 ] ، الآية ، وقوله تعالى : { وكأَيَّن مّنِ دَآبَّةٍ لاَّ تَحمِلُ رِزقُها اللَّهُ يرزُقُها وَإِيَّاكمُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ } [ العنكبوت : 60 ] ، { مَّا يَفتَحِ اللَّهُ للِنَّاسِ مِن رَّحمَةٍ فَلاَ مُمسكَ لَهَا وَمَا يَمسِك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ } [ فاطر : 2 ] ، و { ولَئن سَأَلتَهُم } . . في الزمر إلى قوله { عَلَيهِ يَتَوكَّلُ المُتَوَكِلُون } [ الزمر : 38 ] ، ونظمها بعضهم فقال :
عليك بقل وإن ، وما ، إني ، في هود ... وكأين ، مَا يفتحْ ، ولئن؛ مكملا
وإنما أشار رضي الله عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها؛ لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر ، والتوكل على الواحد القهار .
الأمر الثاني : تحقق العبد برأفته تعالى ورحمته ، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه ، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر ، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر ، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب .
(2/410)
وفي الحكم : " خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك ، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك ، إن أردت بسط المواهب عليك ، فصحح الفقر والفاقة لديك ، الفاقة أعياد المريدين " . إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى .
الأمر الثالث : تحققه بخالص التوحيد؛ فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه؛ رضي بفعل حبيبه ، كيفما كان ، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
أَحِبَّاي أَنْتُمْ أَحسَنَ الدَّهر أم أسا ... فكونوا كما شِئتُمْ أَنا ذلك الخِلّ
وكما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلام إذْ كُنْتَ مُسقِمي ... وإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني ... فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ
فهذه الأمور الثلاثة ، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره ، وسهلت عليه شؤونه وأموره .
وقوله تعالى : { قل هل تربصون بنا . . . } الآية ، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، إما حسن الختام بالموت على غاية الإسلام ، يموت المرء على ما عاش عليه ، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام ، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده؛ بسبب إذايتكم ، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا . وبالله التوفيق .
(2/411)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ }
ثم ذكر سبب إبطال عملهم وصدقاتهم ، فقال :
{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ }
قلت : ( أن تُقبل ) : بدل من ضمير ( منعهم ) ، أو على حذف الجار ، و ( إلا أنهم كفروا ) : فاعل ، أي : وما منع قبول نفقاتهم ، أو من قبول نفقاتهم ، إلا كفرهم بالله وبرسوله ، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميراً يعود على الله تعالى و ( إنهم ) مفعول من أجله .
يقول الحق جل جلاله : { وما منعهم } ؛ وما منع المنافقين من قبول نفقاتهم وأعمالهم { إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } ؛ إلا كُفرهم بالله وبرسوله ، أو : ما منعهم الله من قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم بالله وبرسوله ، وكونه { لا يأتُونَ الصلاةَ إلا وهم كُسَالى } ؛ متثاقلين ، { ولا ينفقون إلا وهم كَارِهُون } أي : لا يُعطون المال إلا في حال كراهيتهم للإعطاء؛ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون بتركها عقاباً ، فهم يعطون ذلك رياء ونفاقاً .
الإشارة : لا يتقبل الله إلا عمل المخلصين ، إما إخلاص العوام؛ لقصد الثواب وخوف العقاب ، أو إخلاص الخواص؛ لإظهار العبودية وإجلال الربوبية ، وعلامة الإخلاص : وجود النشاط والخفة حال المباشرة للعمل ، أو قبلها والغيبة عنه بعد الوقوع ، والله أعلم .
(2/412)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
يقول الحق جل جلاله : { فلا تُعْجِبُكَ } ، أيها الناظر إلى المنافقين ، كثرةُ { أموالهم ولا أولادهم } ؛ فإن ذلك استدراج ووبال لهم { إنما يريد اللَّهُ ليُعذِّبَهم بها في الحياة الدنيا } ؛ بسبب ما يكابدون في جمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الأمراض والمصائب ، أو ما ألزموا به من أداء زكاتها ، مع كونهم لا يرجون خَلَفها { وتَزْهقَ أنفُسُهم وهم كافرون } ؛ فلا يستوفون التمتع بها في الدنيا؛ لقصر مدتها ، ولا يجدون ثواب ما أعطوا منها؛ لعدم إيمانهم . وأصل الزهوق : الخروج بصعوبة ، لصعوبة خروج أرواحهم ، والعياذ بالله .
الإشارة : ينبغي لمريد الآخرة ألا يستحسن شيئاً من الدنيا ، التي هي مدْرجة الاغترار ، بل ينبغي له أن ينظر إليها وإلى إهلها بعض الغض والاحتقار ، حتى ترتفع همته إلى دار القرار ، وينبغي لمريد الحق تعالى ألا يحقر شيئاً من مصنوعاته ، ولا يصغر شيئاً من تجلياته ، إذ ما في الوجود إلا تجليات العلي الكبير ، إما من مظاهر اسمه الحكيم ، أو اسمه القدير ، فيعطي الحكمة حقها والقدرة حقها ، ويتلون مع كل واحدة بلونها ، وبالله التوفيق .
(2/413)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قلت : الفَرَقُ : الخوف ، و ( مُدَّخلاً ) : أصله : متدخلاً ، مفتعل من الدخول ، قبلت التاء دالاً وأدغمت .
يقول الحق جل جلاله : { ويحلفون } لكم { بالله إنهم لمنكم } أي : من جملة المسلمين ، { وما هم منكم } ؛ لكفر قلوبهم ، { ولكنهم قوم يَفْرقُون } : يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين ، فيظهرون الإسلام تقية وخوفاً { لو يجدون مَلْجأً } أي : حصناً يلتجئون إليه ، { أو مَغَاراتٍ } ؛ غيراناً ، { أو مُدَّخلاً } ؛ ثقباً أو جحراً يَنجَحِرُون فيه . وقرأ يعقوب : " مُدخِلاً "؛ بضم الميم وسكون الدال ، أي : دخولاً ، أو مكاناً يدخلون فيه ، { لَوَلّوا إليه وهم يجمحون } أي : يُسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح .
الإشارة : قد يتطفل على القوم من ليس منهم ، فيظهر الوفاق ويبطن النفاق ، كحال أهل النفاق ، فينبغي أن يستر ويُحلُم عليه ، كما فعل عليه الصلاة والسلام بالمنافقين ، تلطف معهم في حياتهم ، والله يتولى سرائرهم ، بالله التوفيق .
(2/414)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قلت : ( لو ) : شرطية ، و ( أنهم ) : قال سيبويه : مبتدأ ، والخبر محذوف : ولو رضاهم ثابت أو موجود . . . الخ . وقال غيره : فاعل بفعل محذوف؛ ولو ثبت رضاهم ، وجواب ( لو ) : محذوف ، أي : ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم .
يقول الحق جل جلاله : { ومنهم } ؛ ومن المنافقين { من يلمزك } أي : يعيبك ، ويعترض عليك { في } قسم { الصدقات } ، { فإن أُعطوا منها رَضُوا } وفرحوا ، { وإِنْ لمْ يُعْطُوا منها } شيئاً { إّذا هم يَسْخَطُون } . والآية نزلت في ابن أُبي؛ رأس المنافقين ، قال : ألا تَرونَ إلى صاحِبِكُم إِنَّما يقْسِمُ صَدقَاتكُمْ في رُعَاةِ الغَنَم ، ويَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْدل . وقيل : في ذي الخُوَيْصِرةِ رأس الخَوَارِجِ ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين ، فاستعطف قلوب أهل مكة ، فآثرهم بالعطاء ، فقال : اعْدِلَ يا رَسُول الله ، فقال : " ويلَكَ ، إنْ لَمْ أَعْدِلْ فمنْ يَعْدِل؟ " .
قال تعالى : { ولو أنهم رَضُوا ما أتاهم اللَّهُ ورسولُه } أي : بما أعطاهم الرسول من الغنيمة ، وذَكَرَ الله؛ للتعظيم ، وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمر الله ووحيه ، فكأنه فعله هو . { وقالوا حسبنا الله } أي : كفانا فضلُه ، { سيؤتينا اللَّهُ من فضله ورسولهُ } صدقة أو غنيمة أخرى ، فيؤتينا أكثر مما أتانا ، { إنا إلى الله راغِبُون } في أن يُغنينا من فضله وجوده . فلو فعلوا هذا لكان خيراً لهم من اعتراضهم عليك ، الموجب لهم المقت والعذاب .
الإشارة : لا يكون المؤمن كاملاً حتى يستوي عنده المنع والعطاء ، والفقد والوجد ، والفقر ، والغنى والعز والذل . وأما إن كان في حالة العطاء والوجد يفرح ، وفي حالة المنع والفقد يسخط ، فلا فرق بينه وبين أهل النفاق ، إلا من حيث التوسم بالإيمان ، ولو أنه رضي بما قسم الله له ، واكتفى بعلمه ، ورغب الله في زيادته من فضله ، لكان خيراً له وأسلم . والله تعالى أعلم وأحكم . .
(2/415)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
يقول الحق جل جلاله : { إِنما } تدفع { الصدقاتُ } الواجبة أي : الزكاة لهؤلاء الثمانية ، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم ، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه ، واختلف : هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك : ذلك إلى الإمام ، إن شاء عمم وإن شاء خصص ، وإن لم يلها الإمام؛ فصاحب المال مخير ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، وأفتى به بعض الشافعية ، وقال الشافعي : يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء ، إن وجدت .
أولها : الفقير : وهو من لا شيء له ، وثانيها : المسكين : وهو من له شيء لا يكفيه . فالفقير أحوج ، وهو مشتق من فقار الظهر ، كأنه أصيب فقاره ، والمسكين من السكون ، كأن العجز أسكنه . ويدل على هذا قوله تعالى : { أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَكِينَ } [ الكهف : 79 ] . فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة ، وأنه صلى الله عليه وسلم سأل المسكنة؛ وقيل بالعكس ، لقوله تعالى : { أًو مِسكيناً ذَا مَتربَةٍ } [ البلد : 16 ] وقيل : هما سواء . { والعاملينَ عليها } أي : الساعين في تحصيلها وجمعها ، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق ، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها ، ويضافون منها بلا سَرف . { والمؤلفة قلوبهم } قال مالك : هم كفار ظهر ميلهم للإسلام ، فيعطوا ترغيباً في الإسلام . وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة ، فيعطوا ليتمكن الإسلام في قلبهم ، وحكمُهم باق ، وقيل : أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم .
{ وفي الرقاب } أي : في فك الرقاب ، يشترون ويعتقون ، { والغَارِمينَ } ، أي : مَنْ عليهم دَيْن ، فيعطى ليقضي دينه ، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف ، وليس له ما يبيع في قضائه . { وفي سبيل الله } يعني : الجهاد ، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء ، ويشتري منها آلة الحرب ، ولا يبنى منها سور ولا مركب . { وابن السبيل } وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده ، ولم يجد مسلفاً ، إن كان مليَّاَ ببلده ، وإلا أعطي مطلقاً .
فرض الله ذلك { فريضة من الله } أي : حقاً محدوداً عند الله . قال ابن جزي : ونصبه على المصدر يعني : لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل : لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب : أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف؛ ليقطع طمع المنافقين فيها ، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات . . . } ه . { والله عليمٌ حكيم } ؛ يضع الأشياء في مواضعها .
الإشارة : إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين ، الذين افتقروا من السِّوى ، وسكنوا في حضرة شهود المولى . وفي الحكم . " ورود الفاقات أعياد المريدين ، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة ، الفاقات بسُطُ المواهب . إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك . { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } .
(2/416)
وقال الهروي : الفقر صفة مهجورة ، وهو ألذُّ ما يناله العارف ، لكونها تدخله على الله ، وتجلسه بين يدي الله ، وهو أعم المقامات حكماً؛ لقطع العوائق ، والتجرد من العلائق ، واشتغال القلب بالله . وقيل : الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك . وقال الشبلي : الفقير لا يستغني بشيء دون الله . وقال الشيخ ابن سبعين رضي الله عنه : الفقير هو الذي لا يحصره الكون . ه . يعني : لخروج فكرته عن دائرة الأكوان ، وقال القشيري : الفقير الصادق عندهم : مَنْ لا سماء تُظِله ، ولا أرضَ تُقِلُّه ، ولا سهم يتناوله ، ولا معلومَ يشغِله ، فهو عبد الله بالله . ه .
وقال السهروردي في عوارفه : الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه ، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر؛ لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد ، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي ، وإن كان فقيراً زاهداً . وقال بعضهم : نهاية الفقر بداية التصوف؛ لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني ، والخروج من كل خلق دنيء ، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر ، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم .
وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً : من أراد ان يبلغ الشرفَ كل الشرف؛ فليخترْ سبعاً على سبع ، فإن الصالحين اختاروا حتى بَلَغُوا سنام الخير . واختاروا الفقر على الغنى ، والجوع على الشبع؛ والدُّون على المرتفع ، والذلَّ على العز ، والتواضع على الكبر ، والحزن على الفرح ، والموت على الحياة . ه . وقال بعضهم : إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى؛ حذراً أن يدخله؛ فيفسد عليه فقره ، كما يحترز الغنى من الفقر؛ حذراً أن يفسد عليه غناه .
قال بعض الصالحين : كان لي مال ، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام ، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة ، فقلت : أُعنيه بهذا المال؛ فألقيته في حجره ، وقلت : استعن بهذا على دنياك ، فنفض بها في الحصباء ، وقال لي : اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت ، وأنت تفسدها عليَّ؟ ثم انصرف وتركني ألقُطها . فوالله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها ، ولا أذل مني لما كنت ألقطها . ه .
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء؛ اصبح حزيناً ، وإذا لم يصبح عنده شيء؛ أصبح فرحاً مسروراً ، فقيل له : إنما الناس بعكس هذا ، فقال : إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة ، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة . ه . وجمهور الصوفية : يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر ، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغني؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره ، وما كان ليختار المفضول . وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء .
قال القشيري : كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر ، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة ، فلما رجع إليه عقله قال : إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد .
(2/417)
وتكلم يحيى بن معاذ ، ففضل الغنى على الفقر ، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم ، فدعا بعض المشايخ عليه ، فقال : لا بارك الله له فيها ، فخرج عليه اللص فنهبه إياها . ه . وحكي عن أبي يزيد البسطامي : أنه قال : أًسري بروحي ، فرأيت كأني واقف بين يدي الله ، فسمعت قائلاً يقول : يا أبا يزيد ، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا ، فقلت : يا مولاي وأي شيء ليس عندك ، ولك خزائن السماوات والأرض؟ فسمعت : يا أبا يزيد ، ليس عندي ذل ولا فقر فمن أتاني بهما بلّغته . ه .
وقال في الإحياء : الفقر المستعاذ منه : فقر المضطر ، والمسؤول هو : الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عز وجل . ه . قلت : والأحسن أن المستعاذ منه هو : فقر القلوب من اليقين ، فيسكنها الجزع والهلع ، والفقر المسؤول هو : التخفيف من الشواغل والعلائق ، والله تعالى أعلم .
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها ، فقال : من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى ، قالوا : لأن الله سبحانه جعل ذلك مِلكاً للفقير ، فهو أحل له من المتطوع به . ومنهم من قال : الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة ، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى ، فلم يزاحموا أرباب السهمان ، وتحرجوا من أخذ الزكاة ، ومنهم من قال : إن ذلك وسخ الأموال ، وهو لأصحاب الضرورات . وقالوا : نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً . . . فلم يأخذوا الزكاة المفروضة . ه .
وقوله تعالى : ( والعاملين عليها ) : هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد ، و ( المؤلفة قلوبهم ) على حضرة محبوبهم ، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة؛ وهم أهل التذكير ، الداعون إلى الله ، ( والغارمين ) أي : الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم ، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار ، و ( في سبيل الله ) أي : المجاهدون أنفسهم في مرضاة الله . ( وابن السبيل ) : السائحين في طلب معرفة الله . والله تعالى أعلم .
(2/418)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
قلت : ( قل أُذُنُ خير ) : من قرأ بالإضافة؛ ف ( لكم ) : متعلق بالاستقرار ، أي : هو أذن خير كائن لكم . ومن قرأ بالتنوين؛ ف ( خير ) : خبر عن " أُذن "؛ خبر ثانٍ ، ومن قرأ : " ورحمة "؛ بالرفع فعطف على ( أذن خير ) ، ومن قرأ بالجر ، فعطف على " خير " ، المجرور .
يقول الحق جل جلاله : { ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون } فيه : { هو أُذُنُ } يسمع كل ما يقال له يصدقه؛ حقاً كان أو باطلاً ، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئاً صدقنا . والقائل لهذه المقالة : قيل : هو نَبْتَل بْن الحَارِثِ ، وكان من مردة المنافقين : وقيل : عتاب بن قشير ، في جماعة ، قالوا : محمد أذن سامِِعِه ، نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول . قال البيضاوي : سمي بالجارحة للمبالغة؛ كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع ، كما سمي الجاسوس عيناً . ه .
قال تعالى في الرد عليهم : { قل أُذُنُ خيرٍ لكم } أي : هو لكم سماع خير وحق ، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم ، أو قل : هو أذنٌ خيرٌ لكم من كونه غير أذن؛ لأن كونه أذناً يقبل معاذيركم؛ ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم . وفي ( الوجيز ) أي : مستمع خير وصلاح ، لا مستمع شر وفساد .
قال البيضاوي : وهو تصديق لهم بأنه أذن ، لكن لا على الوجه الذي ذموا به يعني من تنقصه بقلة الحزم والانخداع بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله . ثم فسر ذلك بقوله : { يؤمنُ بالله } ؛ يصدق بالله وبما له من الكمالات ، { ويُومنُ للمؤمنين } ؛ ويصدقهم؛ لما يعلم من خلوصهم ، واللام مزيدة؛ للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان ، { ورحمةٌ للذين آمنوا منكم } أي : هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم ، بحيث يقبله ولا يكشف سره . وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قلولكم؛ جهلاً بكم ، بل رفقاً بكم وترحماً عليكم ، قاله البيضاوي .
وفي ابن عطية : وخص الرحمة بالذين آمنوا؛ إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا . وفي الوجيز : وهو رحمة لهم ، لأنه كان سبب إيمانهم . ه . فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقياً ، وهو حُسنُ خلافٍ ظاهر . قال البيضاوي : أي : هو رحمة لمن وفقه الله للإيمان منكم .
{ والذين يُؤذون رسول الله } بأي نوع من الإيذاء ، { لهم عذابٌ أليم } موجع بسبب إذايته .
الإشارة : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه وذكر محاسنه ، من أجل القربات وأعظم الطاعات؛ لأن تعظيمه ناشئ عن محبته ، ومحبته عقد من عقود الإيمان ، لا يتم الإيمان إلا بها ، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند الله ، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود ، الذين يؤذون جانب النبوة ، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال .
(2/419)
قال القشيري : عابوه بما هو أماره كرمه ، ودلالة فضله ، فقالوا : إنه؛ لحُسن خُلُقه ، يسمع ما يقال له ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " المُؤمنُ غِرٌّ كَرِيمٌ والمُنافِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ " . قالوا : من الفاضل؟ قالوا : الفَطِنُ المُتَغَافِلُ ، وأنشدوا :
وإذا الكريمُ أَتَيْتَه بخدِيعَةٍ ... فرأيته فيما ترومُ يُسارعُ
فاعلمْ بأنَّك لم تخادِعْ جاهلاً ... إنَّ الكريمَ بفضله يتخادع
وكل ولي يتخلق بهذا الخلق السني؛ الذي هو التغافل والانخداع في الله ، وكان عبد الله بن عمر يقول : ( من خدعنا في الله انخدعنا له ) . ورأى سيدنا عيسى عليه السلام رجلاً يسرق ، فقال له : سرقت يا فلان؟ فقال : والله ما سرقت ، فقال عليه السلام : ( آمنتُ بالله وكذبتُ عيني ) . فمن أخلاق الصوفي أن يؤمن بالله ، ويؤمن للمؤمنين ، كيفا كانوا ، ورحمة للذين آمنوا ، فمن آذى من هذا وصفه فله عذاب أليم . وبالله التوفيق .
(2/420)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قلت : إنما وحّد الضمير في ( يُرضوه ) إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر ، فكأنهما شيء واحد ، أو لأن الكلام إنما هو في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه ، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول ، أو لأن التقدير : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله كذلك؛ فهما جملتان . والضمير في ( أنه من يُحادِدِ ) : ضمير الشأن : و ( فأن ) : إما تأكيد لأن الأُولى ، وجملة ( فله ) : جواب ، أو تكون بدلاً منها ، أو في موضع خبر عن مبتدأ محذوف ، أي : فحقٌ ، أو واجب له نار جهنم .
يقول الحق جل جلاله : { يحلفون بالله } أي : المنافقون ، { لكم } أيها المؤمنون ، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره ، { ليُرْضوكم } أي : لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم ، { واللَّهُ ورسولهُ أحقُ أن يرضُوه } بالطاعة والوفاق ، واتباع ما جاء به ، { إن كانوا مؤمنين } صادقين في إيمانهم . { ألم يعلموا أنه } أي : الأمر والشأن ، { من يُحادِدِ اللَّهَ ورسولهُ } يعاديهما ، ويخالف أمرهما { فأنّ له } ؛ فواجبٌ أن له { نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ } أي : الهول { العظيم } ، والهلاك الدائم ، والعياذ بالله .
الإشارة : من أرضى الناسَ بسخط الله أسخطهم عليه وسخط عليه ، ومن اسخط الناس في رضي الله أرضاهم عليه ، ورضي عنه ، فمن أقر منكراً؛ حياء أو خوفاً من الناس ، فقد أسخط مولاه ، ومن انكر منكراً ، ولم يراقب أحداً فقد أرضى مولاه ، ومن راقب الناس لم يراقب الله ، ومن راقب الله لم يراقب الناس ، { والله ورسوله أحق أن يُرضُوه إن كانوا مؤمنين } . وتأمل قول الشاعر :
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً ... وفَازَ باللذاتِ الجسُور
وبالله التوفيق .
(2/421)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قلت : الضمائر في " عليهم " ، و " تنبئهم " ، و " قلوبكم " ، تعود على المنافقين؛ خلافاً للزمخشري في الأولين ، فقال : يعود على المؤمنين ، وتبعه البيضاوي .
يقول الحق جل جلاله : { يحذَرَ المنافقون أن تُنَزّلَ عليهم } أي : في شأنهم ، { سورةٌ } من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، { تُنبئهم } أي : تخبرهم ، أي : المنافقين ، { بما في قلوبهم } من الشك والنفاق ، وتهتك أستارهم ، وكانوا يستهزئون بأمر الوحي والدين ، فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : { قل } لهم : { استهزئوا } ؛ تهديداً لهم ، { إن الله مُخرِجٌ ما تحذَرُون } من إنزال السورة فيكم ، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم .
{ ولئن سألتهم } عن استهزائهم ، { ليقولن إِنما كنا نخوضُ ونلعبُ } فيما بيننا . رُوي أن ركباً من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في غزوة تبوك ، فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل ، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه ، هيهات هيهات! فأخبر الله نبيه ، فدعاهم فقال : " قلتم : كذا وكذا؟ " فقالوا : لا ، والله ، ما كنا في شيء من أمرك ، ولا من أمر أصحابك ، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ، ليقصر بعضنا على بعض السفر .
قال تعالى : { قل أباللّهِ وآياتِه ورسوله كنتم تستهزئون } ، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به ، { لا تعتذروا } أي : لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة؛ { قد كفرتم بعد إيمانكم } أي : قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه ، بعد إظهار إيمانكم الكاذب . { إن نعفُ عن طائفةٍ منكم } ؛ بتوبتهم وإخلاصهم ، حيث سبق لهم ذلك؛ كانَ منهم رجل اسمه مَخشِيّ ، تاب ومات شهيداً . أو لكفهم عن الإيذاء ، { نُعَذِّب طائفة بأنهم كانوا } في علم الله { مجرمين } ؛ مُصرين على النفاق ، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء . والله تعالى أعلم .
الإشارة : الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من الله ، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة ، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسراهم ، وقد يُطلع الله أولياءه على ذلك ، وقد لا يطلعهم ، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهُم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية . والله تعالى أعلم .
(2/422)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
قلت : قال في الأساس : ومن المجاز : نَسيتُ الشيء : تركتُه ، ( نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ . قال في المشارق : ونسي بمعنى ترك ، معناه مشهور في اللغة ، ومنه : ( نسوا الله فنسيهم ) أي : تركوا أمره فتركهم . وقوله : ( كالذين من قبلكم ) : خبر ، أي : أنتم كالذين ، أو مفعول بمحذوف ، أي : فعلتم مثل فعل من قبلكم .
يقول الحق جل جلاله : { المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم من بعض } أي : متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان ، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر ، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين . وقيل : إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله : { إنهم لمنكم } وتقرير لقوله : وهو قوله : { يأمرون بالمنكر } ؛ كالكفر والمعاصي ، { وينْهَون عن المعروف } ؛ كالإيمان والطاعة ، { ويقبضُون أيديَهم } عن الإعطاءِ المبار ، وهو كناية عن البخل والشح . { نَسُوا الله } أي : غفلوا ، أي : أغفلوا ذكره ، وتركوا طاعته ، { فنسيهم } ؛ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله ، { إن المنافقين هم الفاسقون } ؛ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير .
{ وَعدَ اللَّهُ المنافقين والمنافقاتِ والكفارَ } أي : المهاجرين بالكفر ، { نارَ جهنم خالدين فيها } أي : مقدرين الخلود . قال ابن جزي : الأصل في الشر أن يقال : أوعد ، وإنما يقال فيه : " وعد " إذا صرح بالشر . ه . { هي حَسْبُهُم } أي : جزاؤهم عقاباً وعذاباً ، وفيه دليل على عظم عذابها ، { ولعنهم الله } ؛ أبعدهم من رحمته ، وأهانهم ، { ولهم عذابٌ مقيم } لا ينقطع ، وهو العذاب الذي وعدوه ، أو ما يقاسونه من تعب النفاق ، والخوف من المؤمنين .
{ كالذين من قبلكُم } أي : أنتم كالذين من قبلكم ، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم ، { كانوا أشدَّ منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً } ، وهو بيان لتشبيههم بهم ، وتمثيل حالهم بحالهم ، { فاستمتعوا بخلافكم } أي : نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها ، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً ، فرحلوا عنه وتركوه ، فلا ما كانوا أملوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم رجعوا ، { فاستمتعتُم } أنتم { بخلاقِكم } أي : بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل ، { كما استمتع الذين من قبلكُم بخلاقِهِم } ، ثم تركوا ورحلوا عنه ، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه .
قال البيضاوي : ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية ، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة ، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة؛ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم . ه .
{ وخُضْتُم } في الباطل { كالذي خاضُوا } أي : كخوضهم ، أو كالخوض الذي خاضوه ، وقيل : كالذين خاضوا فيه ، فأوقع الذم على الجميع . { أولئك حبِطَتْ أَعمالُهم في الدنيا والآخرة } أي : لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين ، { وأولئك هم الخاسرون } ؛ الكاملون في الخسران ، خسروا الدنيا والآخرة .
الإشارة : ينبغي لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار ، ويذكرون الله على سبيل الاستهتار ، حتى يذكرهم برحمته . ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار ، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة ، وحلاوة المشاهدات ، وبلطائف العلوم والمكاشفات ، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من الله في الدنيا والآخرة ، وأولئك هم الفائزون .
(2/423)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
يقول الحق جل جلاله : في شأن المنافقين : { ألم يأتهم نبأُ } : خبر { الذين من قبلِهمْ } ، كيف دمرهم الله وأهلكهم ، حيث خالفوا رسلهم ، { قوم نوح } ؛ أغرقهم بالطوفان ، { و } وقوم { عاد } ؛ أهلكهم بالريح ، { وثمودَ } ؛ أهلكهم بالصيحة ، { وقومِ إبراهيم } ؛ أهلك نمرود ببعوض ، وأهلك أصحابه به ، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم ، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه ، حتى هلك ، { وأصحاب مَدينَ } ، وهم قوم شعيب ، أُهلكوا بالنار يوم الظلة ، { والمؤتفكات } ؛ مدائن قوم لوط ، ائتفكت بهم ، أي انقلبت ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارات من سجيل . { أتتهم رسلُهم } أي : كل واحدة منهن أتاها رسول { بالبيات } ؛ بالمعجزات الواضحة ، { فما كان الله ليظلمهم } أي : لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس ، كالعقاب بلا جرم . { ولكن كانوا أنفسهم يَظلمُون } ؛ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب .
الإشارة : ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة ، فيجتنبها بقدر الإمكان؛ فينظرها ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي ، فيهرب منها بقدر إمكانه ، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين ، فيبادر إليها فوق ما يطيق ، ويعظم الرسل ، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم ، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم؛ فهذا يسعد سعادة الدارين . وبالله التوفيق .
(2/424)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
يقول الحق جل جلاله : { والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ } أي : أصدقاء { بعضٍ } ، هذا في مقابلة قوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } ، وحض المؤمنين بالوصف بالولاية ، { يأمرون بالمعروف وينهَونَ عن المنكر } ؛ ضد ما فعله المنافقون ، { ويُقيمون الصلاة وَيُؤتون الزكاة } ؛ ضد قوله : { وَيَقْبِضُون أَيْدِيَهُمْ } ، { ويُطيعون الله ورسوله } في سائر الأمور ، ضد قوله : { نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ } ، { أولئك سيرحمهم الله } لا محالة؛ لأن السين مؤكدة للوقوع ، { إن الله عزيزٌ } ؛ غالب على كل شيء ، ولا يمتنع عليه ما يريده ، { حكيم } يضع الأشياء مواضعها .
ثم ذكر ما أعد لهم فقال : { وَعَدَ اللَّهُ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ومساكن طيبةً } أي : تستطيبها النفس ، أو يطيب فيها العيش . وفي الحديث : " إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر " . وفي حديث آخر : " إنَّ في الجنَّة غُرفاً ظَاهِرُها من بَاطنِها مِنْ ظَاهِرهَا ، أَعَدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطعَمَ الطَّعَام ، وأَلانَ الكَلامَ ، وبذَل السَّلام ، وتَابَعَ الصِّيام ، وصلَّى باللَّيلِ والناس نِيامٌ " .
وذلك { في جنات عَدنْ } ، أي : إقامةٍ وخلود . وعنه عليه الصلاة والسلام : " جنات عدن : دار الله ، التي لم ترها عين ، ولا تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاث : النبيون ، والصديقون ، والشهداء . يقول الله تعالى : { طوبى لمن دخلك } قاله البيضاوي . ثم قال : ومرجع العطف فيها أي : في قوله : { ومساكن طيبة } يحتمل أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له ، أي : فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن ، أو للجميع؛ على سبيل التوزيع ، أي : فالجنات والمساكن معدة للجميع ، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا ، أو إلى تغاير وصفه أي : الموعود فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها؛ لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش ، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين . ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين ، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير .
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال : { ورضوانٌ من الله أكبرُ } ؛ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة ، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء . وعنه صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ : هَلْ رَضيتُم؟ " فَيَقُولونَ : وَما لَنَا لا نَرضى وَقَد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً مَنْ خَلقِكَ ، فيَقُول : أَنَا أُعطِيكُم أفضل مَنْ ذَلِكَ . قالوا : أَيّ شَيء أَفضَلُ مَنْ ذلِكَ؟ قال : " " أُحِلَ عَلَيكُم رِضوَاني فَلاَ أسخَطُ عَلَيكُم أَبَدا " { ذلك } أي : الرضوان ، أو جميع ما تقدم ، { هو الفوزُ العظيم } الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها .
(2/425)
ه .
الإشارة : قد أعد الله لأهل الإيمان الحقيقي؛ الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته ، جنات المعارف ، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحِكَم ، ومساكن طيبة ، وهي : عكوف أرواحهم في الحضرة ، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة ، في محل المشاهدة والمكالمة ، والمساررة والمناجاة ، ورضوان من الله ، الذي هو نعيم الأرواح ، أكبر من كل شيء؛ لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الأشباح ، حتى أن المقربين ليضحكون على أهل اليمين ، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور ، كما ذكر الغزالي . وأما المقربون فيشاركونهم في ذلك ، ويزيدون عليهم بلذة الشهود .
قال القشيري ، عند قوله تعالى : { إنَّ أصحبَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون } [ يس : 55 ] : إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم ، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها ، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم . انتهى لفظه ، وهو حسن . والله تعالى أعلم .
(2/426)