الكتاب : تفسير ابن عبد السلام
المؤلف : عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن السلمي الدمشقي، عز الدين الملقب بسلطان العلماء (المتوفى : 660هـ)
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
{ بسمِ اللَّهِ } أبدأ بسم الله ، أو بدأت بسم الله ، الاسم صلة ، أو ليس بصلة عند الجمهور ، واشتق من السمة ، وهي العلامة ، أو من السمو .
( الله ) أخص أسماء الرب لم يتسم به غيره { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] تسمى باسمه ، أو شبيهاً . أبو حنيفة : " هو الاسم الأعظم " وهو علم إذ لا بد اللذات من اسم علم يتبعه أسماء الصفات ، أو هو مشتق من الوله لأنه يأله إليه العباد : أي يفزعون إليه في أمورهم ، فالمألوه إليه إله ، كما أن المأموم [ به ] إمام أو اشتق من التأله وهو التعبدن تأله فلان : تعبد ، واشتق من فعل العبادة فلا يتصف به في الأزل ، أو من استحقاقها على الأصح فيتصف به أزلاً { الرَّحْمَن الرَّحِيمِ } الرحمن والرحيم الراحم ، أو الرحمن أبلغ ، وكانت الجاهلية تصرفه للرب سبحانه وتعالى ، الشنفري :
إلا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا هدر الرحمن ربي يمينها
ولما سُمي مسيلمة بالرحمن قُرِن لله تعالى الرحمن الرحيم ، لأن أحداً لم يتسم بهما ، ، واشتقا من رحمة واحدة ، أو الرحمن من رحمته لجميع الخلق ، والرحيم من رحمته لأهل طاعته ، أو الرحمن من رحمته لأهل الدنيا ، والرحيم من رحمته لأهل [ الآخرة ] ، أو الرحمن من الرحمن التي يختص بها ، والرحيم من الرحمن التي يوجد في العباد مثلها .
(1/1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{ الْحَمْدُ } الثناء بجميل الصفات والأفعال والشكر والثناء بالإنعام ، فالحمد أعم ، الرب : المالك كرب الدار أو السيد ، أو المدبر كربة البيت ، الربانيون يدبرون الناس بعلمهم ، أو المربى ، ومنه الربيبة ابنة الزوجة ، ( العالمين ) جمع عالم لا واحد له من لفظه ، كرهط وقوم ، أُخذ من العلم ، فيعبر به عمن يعقل من الجن والإنس والملائكة ، أو من العلامة ، فيكون لكل مخلوق ، أو هو الدنيا وما فيها ، أو كل ذي روح من عاقل وبهيم ، وأهل كل زمان عالم .
(1/2)

مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
{ مُلْكِ } { مالك } أُخذا من الشدة ، ملكت العجين عجنته بشدة ، أو من القدرة .
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالمالك من اختص ملكه ، والملك من عمَّ ملكه ، وملك يختص بنفوذ الأمر ، والمالك يختص بملك الملوك ، والملك أبلغ لنفوذ أمره على المالك ، ولأن كل ملك مالك ولا عكس ، أو المالك أبلغ لأنه لا يكون إلا على ما يملكه ، والملك يكون على من لا يملكه كملك الروم والعرب ، ولأن الملك يكون على الناس وحدهم والمالك يكون مالكاً للناس وغيرهم ، أو المالك أبلغ في حق الله تعالى من ملك ، إذ المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك بخلاف الرب سبحانه وتعالى . { يَوْمَ } أوله الفجر ، وآخره غروب الشمس ، أو هو ضوء يدوم إلى انقضاء الحساب . { الدِّينِ } الجزاء أو الحساب ، ويستعمل الدين في العادة والطاعة ، وخص المُلْك بذلك اليوم إذ لا مَلِك فيه سواه ، أو لأنه قصد ملكه للدنيا بقوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فذكر ملك الآخر ليجمع بينهما .
(1/3)

إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
{ إِيَّاكَ } الخليل : إيا : اسم مضاف إلى الكاف ، الأخفش إياك : كلمة واحدة ، لأن الضمير لا يضاف . { نَعْبُدُ } العبادة : أعلى مراتب الخضوع تقرباً ، ولا يستحقها إلا الله تعالى ، لإنعامه بأعظم النعم ، كالحياة والعقل والسمع والبصر ، أو هي لزوم الطاعة ، أو التقرب بالطاعة ، أو المعنى " إياك نؤمل ونرجوا " مأثور والأول أظهر { نَسْتَعِينُ } على عبادتك أو هدايتك أمروا بذلك كما أمروا بالحمد له ، أو أخبروا .
(1/4)

اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
{ اهْدِنَا } : دلنا ، أو وفقنا { الصِّرَاطَ } السبيل المستقيم أو الطريق الواضح ، مأخوذ من مسرط الطعام وهو ممره في الحلق ، طلبوا دوام الهداية ، أو زيادتها ، أو الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة ، أو طلبوها إخلاصاً للرغبة ، ورجاء ثواب الدعاء ، فالصراط : القرآن ، أو الإسلام أو الطريق الهادي إلى دين الله ، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر [ رضي الله عنهما ] أو طريق الحج أو طريق الحق . { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } الملائكة أو الأنبياء ، أو المؤمنون بالكتب السالفة أو المسلمون أو النبي ومن معه .
(1/5)

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
{ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } : اليهود ، والضالون ، النصارى . اتفاقاً خُصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها ، والغضب هو المعروف من العباد ، أو إرادة الانتقام ، أو ذمه لهم ، أو نوع من العقاب سماه غضباً كما سمى نعمته رحمة .
(1/6)

الم (1)
{ الم } اسم من أسماء القرآن ، كالذكر ، والفرقان ، أو اسم للسورة أو اسم الله الأعظم ، أو اسم من أسماء الله أقسم به ، وجوابه ذلك الكتاب ، أو افتتاح للسورة يفصل به ما قبلها ، لأنه يتقدمها ولا يدخل في أثنائها ، أو هي حروف قطعت من أسماء ، أفعال ، الألف من أنا ، اللام من الله ، الميم ، من أعلم ، معناه " أنا الله أعلم " ، أو هي حروف لكل واحد منها معاني مختلفة ، الألف مفتاح الله ، أو آلاؤه ، واللام مفتاح لطيف ، والميم مجيد أو مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون سنة ، آجالا ذكرها ، أو هي حروف من حساب الجُمَّل ، لما روى جابر قال : مر أبو ياسر بن أخطب بالنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ { الم } ، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في نفر من اليهود ، فقال : سمعت محمداً صلى الله عليه وسلم يتلو فيما أُنزل عليه { الم } ، قالوا : أنت سمعته قال : نعم ، فمشى حُيي في أولئك النفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أُنزل عليك { الم } ، قال : " بلى " فقال : أجاءك بها جبريل عليه السلام من عند الله تعالى قال : " نعم " ، قالوا : لقد بعث قبلك أنبياء ، ما نعلمه بُين لنبي منهم مدة ملكه ، وأجل أمته غيرك . فقال حُيي لمن كان معه : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، ثم قال : يا محمد هل كان مع هذا غيره قال : " نعم " ، قال : ماذا ، قال : { المص } قال : هذه أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، وهل مع هذا غيره قال : " نعم " فذكر { المر } فقال : هذه أثقل ، وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة ، ثم قال : لقد التبس علينا أمرك ، ما ندري أقليلاً أُعطيت أم كثيراً : ثم قاموا عنه . فقال لهم أبو ياسر؟ ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، قالوا : قد التبس علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب } [ آل عمران : 7 ] أو أعلم الله تعالى العرب لما تحدوا بالقرآن أنه مؤتلف من حروف كلامهم ، ليكون عجزهم عن الإتيان بمثله أبلغ في الحجة عليهم ، أو الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم ، أو افتتح به الكلام كما يفتتح بألا . . . . . . . .
أبجد : كلمات أبجد حروف أسماء من أسماء الله تعالى مأثور أو هي أسماء الأيام الستة التي خلق الله [ تعالى ] فيها الدنيا أو هي أسماء ملوك مدين قال :
(1/7)

ألا يا شعيب قد نطقت مقالة ... سَببْت بها عمرا وحي بني عمرو
ملوك بني حطي وهواز منهم ... وسعفص أصل في المكارم والفخر
هم صبحوا أهل الحجاز بغارة ... كمثل شعاع الشمس أو مطلع الفجر
أو أول من وضع الكتاب العربي ستة أنفس " أبجد ، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص ، قرشت " ، فوضعوا الكتاب على أسمائهم ، وبقي ستة أحرف لم تدخل في أسمائهم ، وهي الضاء ، والذال ، والشين ، والغين ، والثاء ، والخاء ، وهي الروادف التي تحسب بعد حساب الجُمَّل ، قاله عروة بن الزبير ، ابن عباس " أبجد " أبى آدم الطاعة ، وجد في أكل الشجرة ، " هوز " فزل آدم فهوى من السماء إلى الأرض ، " حطي " ، فحطت عنه خطيئته ، " كلمن " فأكل من الشجرة ، ومَنَّ عليه بالتوبة " سعفص " فعصى آدم فأُخرج من النعيم إلى النكد " قرشت " فأقر بالذنب ، وسلم من العقوبة .
(1/8)

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ ذّلِكَ الْكِتَابُ } : إشارة إلى ما نزل من القرآن قبل هذا بمكة أو المدينة ، أو إلى قوله { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] أو ذلك بمعنى هذا إشارة إلى حاضر ، أو إشارة إلى التوراة والإنجيل ، خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم : أي : الكتاب الذي ذكرته لك التوراة والإنجيل هو الذي أنزلته عليك ، أو خوطب به اليهود والنصارى : أي الذي وعدتكم به هو هذا الكتاب الذي أنزلته على محمد ، أو إلى قوله : { إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، أو قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : الكتاب الذي ذكرته في التوراة والأنجيل هو هذا الذي أنزلته عليك [ أو المراد ] بالكتاب : اللوح [ المحفوظ ] { لا رَيْبَ فِيهِ } : الريب التهمة أو الشك . { لِلْمُتَّقِينَ } الذين أقاموا الفرائض واجتنبوا المحرمات ، أو الذين يخافون العقاب ويرجون الثواب ، أو الذين اتقوا الشرك وبرئوا من النفاق .
(1/9)

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
{ يُؤْمِنُونَ } يصدقون أو يخشون الغيب ، أصل الإيمان التصديق { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] أو الأمان ، فالمؤمن يؤمن نفسه بإيمانه من العذاب ، والله تعالى مؤمِّن لأوليائه من عذابه ، أو الطمأنينة ، فالمصدق بالخبر مطمئن إليه ، ويُطلق الإيمان على اجتناب الكبائر ، وعلى كل خَصلة من الفرائض ، وعلى كل طاعة . { بِالْغَيْبِ } بالله ، أو ما جاء من عند الله ، أو القرآن ، أو البعث والجنة والنار ، أو الوحي . { وَيُقِيمُونَ } يديمون ، كل شيء راتب قائم ، وفاعله يقيم ، ومنه فلان يقيم أرزاق الجند ، أو يعبدون الله بها ، إقامتها : أداؤها بفروضها ، أو إتمام ركوعها وسجودها وتلاوتها وخشوعها " ع " ، سُمي ذلك إقامة لها من تقويم الشيء ، قام بالأمر أحكمه ، وحافظ عليه ، أو سمى فعلها إقامة لها لاشتمالها على القيام . { رَزَقْنَاهُمْ } أصل الرزق الحظ ، فكان ما جعله حظاً من عطائه رزقاً . { يُنفِقُونَ } وأصل الإنفاق الإخراج ، نفقت الدابة خرجت روحها ، والمراد الزكاة " ع " ، أو نفقة الأهل ، أو التطوع بالنفقة فيما يقرب إلى الله تعالى . نزلت هاتان الآيتان في مؤمني العرب خاصة ، واللتان بعدهما في أهل الكتاب " ع " ، أو نزلت الأربع في مؤمني أهل الكتاب ، أو نزلت الأربع في جميع المؤمنين ، فتكون الأربع في المؤمنين ، وآيتان بعدهن في الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين .
(1/10)

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
{ مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } القرآن . { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } : التوراة ، والإنجيل وسائر الكتب . { وَبِالأَخِرَةِ } : النشأة الآخرة ، أو الدار الآخرة لتأخرها عن الدنيا ، أو لتأخرها عن الخلق ، كما سميت الدنيا لدنوها منهم { يُوقِنُونَ } : يعلمون ، أو يعلمون بموجب يقيني .
(1/11)

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{ هُدىً } بيان ورشد ، { الْمُفْلِحُونَ } الناجون من عذاب الله ، والفلاح : النجاة أو الفائزون السعداء ، أو الباقون في الثواب ، الفلاح : البقاء ، أو المقطوع لهم بالخير ، الفلح : القطع ، الأكَّار : فلاح لشقه الأرض ، شعر :
لقد علمت يا ابن أم صحصح ... أن الحديد بالحديد يفلح
والمراد بهم جميع المؤمنين ، أو مؤمنو العرب ، أو المؤمنون من " العرب " وغير العرب ممن آمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى من قبله من الأنبياء .
(1/12)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ } : نزلت في قادة الأحزاب ، أو في مشركي أهل الكتاب ، أو في معينين من اليهود حول المدينة أو مشركو العرب ، والكفر : التغطية ، شعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ليلة كفرَ النجومَ غمامُها
والزارع ، كافر ، لتغطيته البذر في الأرض ، فالكافر مغطي نعم الله تعالى بجحوده .
(1/13)

خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ خَتَمَ اللَّهُ } حفظ ما في قلوبهم ليجازيهم عنه ، كأنه مأخوذ من ختم ما يُراد حفظه ، الختم : الطبع ، ختمت الكتاب . وذلك علامة تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين ، أو القلب كالكف إذا أذنب العبد ذنباً ختم منه كالإصبع ، فإذا أذنب آخر ختم منه كلإصبع الثانية حتى ينختم جميعه ، ثم يطبع عليه بطابع ، أو هو إخبار عن كفرهم ، وإعراضهم عن سماع الحق شبهة بما سد وختم عليه فلا يدخله خير ، أو شهادة من الله عليها أنها لا تعي الحق ، وعلى أسماعهم أنها لا تصغي إليه ، كما يختم الشاهد على الكتاب { غِشَاوَةٌ } والغشاوة الغطاء الشامل ، أراد بذلك تعاميهم عن الحق . سمى القلب قلباً ، لتقلبه بالخواطر .
ما سمى القلب إلا من تقلبه ... والرأي يصرف والإنسان أطوار
(1/14)

يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } أصل الخدع : الإخفاء ، مخدع البيت يخفي ما فيه ، جعل خداع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خداعاً له ، لأنه دعاهم برسالته . { وَمَا يَخْدَعُونَ } لما رجع وبال خداعهم عليهم قال ذلك . { وَمَا يَشْعُرُونَ } وما يفطنون .
(1/15)

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{ مَّرَضٌ } أصله الضعف أي شك ، أو نفاق ، أو غم بظهور النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه . { فَزَادَهُمُ } دعاء ، أو إخبار عن الزيادة عند نزول الفرائض والحدود { أَلِيمُ } مؤلم .
(1/16)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
{ لا تُفْسِدُواْ } بالكفر ، أو بفعل ما نهيتم عنه ، وتضييع ما أمرتم به ، أو بممايلة الكفار . نزلت في المنافقين ، أو في قوم لم يكونوا موجودين حنيئذٍ بل جاءوا فيما بعد قاله سلمان : { مُصْلِحُونَ } ظنوا ممايلة الكفار صلاحاً لهم ، وليس كذلك ، لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم ، أو مصلحون في اجتناب ما نهينا عنه إنكاراً لممايلة الكفار ، أو نريد بممايلتنا الكفار الإصلاح بينهم وبين المؤمنين ، أو إن ممايلة الكفار صلاح وهدى ليست بفساد ، عرَّضوا بهذا ، أو قالوه لمن خلوا به من المسلمين .
(1/17)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
{ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ } الناس : الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين { السُّفَهَآءُ } الصحابة عند عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنه ، أو النساء والصبيان عند عامة المفسرين ، والسفه خفة الأحلام ثوب سفيه خفيف النسج .
(1/18)

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
{ خَلَوْاْ إِلَى } إلى بمعنى " مع " أو خلوت إليه : إذا جعلته غايتك في حاجتك ، أو صرفوا خلاءهم إلى شياطينهم . { شَيَاطِينِهِمْ } رؤوسهم في الكفر ، أو اليهود الذي يأمرونهم بالتكذيب ، شيطان : فيعال من شطن إذا بعد نوىً شطون سمى به لبعده عن الخير ، أو لبعد مذهبه في الشر ، نونه أصلية ، أو من شاط يشيط إذا هلك زائد النون ، أو من التشيط وهو الاحتراق سمى ما يؤول إليه أمره . { إِنَّا مَعَكُمْ } على التكذيب والعداوة . { مُسْتَهْزِءُونَ } بإظهار التصديق .
(1/19)

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
{ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } يجزيهم على استهزائهم ، سمى الجزاء باسم الذنب { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أو نجزيهم جزاء المستهزئين ، أو إظهاره عليهم أحكام الإسلام مع ما أوجبه لهم من العقاب فاغتروا به كالأستهزاء بهم ، أو هو كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] للاستهزاء به ، أو يُفتح لهم باب جهنم فيريدون الخروج على رجاء فيزدحمون فإذا انتهوا إلى الباب ضُربوا بمقامع الحديد حتى يرجعوا فهذا نوع من العذاب على صورة الاستهزاء . { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم ، أو يزيدهم ، مددت وأمددت أو مددت في الشر وأمددت في الخير ، أو مددت فيما زيادته منه ، وأمددت فيما زيادته من غيره . { طُغْيَانِهِمْ } غلوهم في الكفر ، الطغيان : مجاوزة القدر . { يَعْمَهُونَ } يترددون أو يتحيرون ، أو يعمون عن الرشد .
(1/20)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
{ اشْتَرَوُاْ } الكفر بالإيمان على حقيقة الشراء ، أو استحبوا الكفر على الإيمان إذ المشتري محب لما يشتريه ، إذ لم يكونوا قبل ذلك مؤمنين ، أو أخذوا الكفر وتركوا الإيمان . { فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } في اشتراء الضلالة ، أو ما اهتدوا إلى تجارة المؤمنين ، أو نفى عنهم الربح والاهتداء جميعاً ، لأن التاجر قد لا يربح مع أنه على هدى في تجارته ، فلذلك أبلغ في ذمهم .
(1/21)

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
{ اسْتَوْقَدَ } أوقد ، أو طلب ذلك من غيره للاستضاءة { أَضَآءَتْ } ضاءت النار في نفسها ، وأضاءت ما حولها . قال :
أضاءت لهم أحسابُهم ووجوهُهم ... دُجَى الليل حتى نظَّمَ الجَزعَ ثاقبُه
{ بِنُورِهِمْ } أي : المُستوقد ، لأنه في معنى الجمع ، أو بنور المنافق عند الجمهور ، فيذهب في الآخرة فيكون ذهابه سمة يعرفون بها ، أو ذهب ما أظهروه للنبي صلى الله عليه وسلم من الإسلام { فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } لم يأتهم بضياء يبصرون به ، أو لم يخرجهم من الظلمات ، وحصول الظلمة بعد ضياء أبلغ ، لأن من صار في ظلمة بعد ضياء أقل إبصاراً ممن لم يزل فيها ، ثم الضياء دخولهم في الإسلام ، والظلمة خروجهم منه ، أو الضياء تعززهم بأنهم في عداد المسلمين ، والظلمة زواله عنهم في الآخرة .
(1/22)

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
{ صُمُّ } أصل الصم : الانسداد ، قناة صماء أي غير مجوفة ، وصممت القارورة سددتها ، فالأصم : المسند خروق المسامع . { بُكْمٌ } البكم : آفة في اللسان تمنع معها اعتماده على مواضع الحروف ، أو الأبكم الذي يولد أخرس ، أو المسلوب الفؤاد الذي لا يعي شيئاً ولا يفهمه ، أو الذي جمع الخرس ، وذهاب الفؤاد ، صموا عن سماع الحق ، فلم يتكلموا به ، ولم يبصروه ، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .
(1/23)

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
{ كَصَيِّبٍ } الصيب : المطر ، أو السحاب . { الرَّعْدُ } ملك ينعق بالغيث نعيق الراعي بالغنم ، سمى ذلك الصوت باسمه ، أو ريح تختنق تحت السماء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو اصطكاك الأجرم . { الْبَرْقُ } ضرب الملك الذي هو الرعد السحاب بمخراق من حديد قاله علي رضي الله عنه : أو ضربه بسوط من نور قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ما ينقدح من اصطكاك الأجرام .
{ الصَّاعِقَةُ } الشديد من صوت الرعد تقع معه قطعة نار . شبه المطر بالقرآن ، وظلماته بالابتلاء الذي في القرآن ، ورعده بزواجر القرآن ، وبرقه ببيان القرآن ، وصواعقه بوعيد القرآن في الآجل ، ودعائه إلى الجهاد عاجلاً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو شبه المطر بما يخافونه من وعيد الآخرة ، وبرقه بما في إظهارهم الإسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وإرثهم ، وصواعقه بزواجر الإسلام بالعقاب عاجلاً وآجلاً ، أو شبه المطر بظاهر إيمانهم ، وظلمته بضلالهم ، وبرقه بنور الإيمان ، وصواعقه بهلاك النفاق .
(1/24)

يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
{ يَكَادُ } يقارب ، الخطف : الاستلاب بسرعة . { أَضَآءَ لَهُم } الحق . { مَّشَوْاْ فِيهِ } تبعوه { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ } بالهوى تركوه ، أو كلما غنموا وأصابوا خيراً تبعوا المسلمين ، وإذا أظلم فلم يصيبوا خيراً قعدوا عن الجهاد . { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } أسماعهم .
كلوا في نصف بطنكم تعيشوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/25)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
{ أَندَاداً } أكفاء أو أشباهاً ، أو أضداداً . { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله خلقكم ، أو لأنه لا ند له ولا ضد ، أو وأنتم تعقلون .
(1/26)

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
{ عَبْدِنَا } العبد مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل ، فسُمي به المملوك من جنس ما يعقل لتذلُلِه لمولاه . { مِّن مِّثْلِهِ } من مثل القرآن ، أو من مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه بشر مثلكم . { شُهَدَآءَكُم } أعوانكم ، أو آلهتكم ، لاعتقادهم أنها تشهد لهم ، أو ناساً يشهدون لكم .
(1/27)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
{ وَقُودُهَا } الوقود : الحطب ، والوُقود : التوقد . { وَالْحِجَارَةُ } من كبريت أسود ، فالحجارة وقود للنار مع الناس . هول أمرها بإحراقها الأحجار كما تحرق الناس ، أو أنهم يعذبون فيها بالحجارة مع النار التي وقودها الناس . { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ } إعدادها مع اتحادها لا ينفي أن تعد لغيرهم من أهل الكبائر أو هذه نار أعدت لهم خاصة ، ولغيرهم نار آخرى .
(1/28)

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
{ وَبَشِّرِ } البشارة : أول خبر يرد عليك بما يسرّ ، أو هي أول خبر يسرّ أو يغم ، وإن كثر استعمالها فيما يسرّ ، أُخذت من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ، لتغيرها بأول خبر . { جَنَّاتٍ } سمي البستان جنة لأن شجره يستره ، المفضل : الجنة : كل بستان فيه نخل وإن لم يكن فيه شجر غيره ، فإن كان فيه كَرْم فهو فردوس سواء كان فيه شجر غير الكَرْم ، أو لم يكن . { مِن تَحْتِهَا } من تحت الأشجار ، قيل تجري أنهارها في غير أخدود . { رُزِقُواْ مِنْهَا } أي من ثمر أشجارها . { هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا } أي الذي رزقنا من ثمار الجنة كالذي رزقنا من ثمار الدنيا ، أو إذا استخلف مكان جَنى الجنة مثله فرأوه فاشتبه عليهم بالذي جنوه قبله فقالوا هذا الذي رزقنا من قبل . { مُتَشَابِهاً } يشبه بعضه بعضاً في الجودة لا رديء فيه ، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون دون الطعم ، أو يشبه ثمار الدنيا في اللون والطعم ، أو يشبهها في الأسم دون اللون والطعم ، وليس بشيء { مُّطَهَّرَةٌ } في الأبدان ، والأخلاق ، والأفعال ، فلا حيض ، ولا ولاد ، ولا غائط ، ولا بول ، إجماعاً .
(1/29)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
{ لا يَسْتَحْىِ } لا يترك ، أو لا يخشى ، أو لا يمنع ، أصل الاستحياء : الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من مواقعة القبيح . { بَعُوضَةً } صغار البق لأنها كبعض بقة كبيرة { فَمَا فَوْقَهَا } ما : صلة ، أو بمعنى الذي ، أو ما بين بعوضة إلى ما فوقها { فَوْقَهَا } في الكبر ، أو في الصغر . نزلت في المنافقين لما ضرب لهم المثل بالمُستوقد والصيب قالوا : الله أعلى أن يضرب هذه الأمثال ، أو ضربت مثلاً للدنيا وأهلها فإن البقة تحيا ما جاعت فإذا شبعت ماتت ، فكذا أهل الدنيا إذا امتلئوا منها أُخذوا . أو نزلت في أهل الضلالة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قالوا ما بالهما يذكران فنزلت . { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً } بالمثل كثيراً { وَيَهْدِى بِهِ كَثِيراً } أو يضل بالتكذيب بالأمثال المضروبة كثيراً ، ويهدي بالتصديق بها كثيراً ، أو حكاه عمن ضل منهم ، ومن اهتدى .
(1/30)

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
{ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } النقض : ضد الإبرام ، والميثاق : ما وقع التوثق به ، والعهد : الوصية ، أو الموثق ، فعهده : ما أنزله في الكتب من الأمر والنهي ، ونقض ذلك ، مخالفته ، أو العهد : ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب ، ونقضه : جحودهم له بعد إعطائهم ميثاقهم { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، أو العهد : ما جعل في العقول من حجج التوحيد ، وتصديق الرسل صلوات الله تعالى عليهم وسلامه بالمعجزات ، أو العهد : الذي أُخذ عليهم يوم الذر إذ أخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة والسلام ، والضمير في ميثاقه عائد على اسم الله تعالى ، أو على العهد . عُني بهؤلاء المنافقين ، أو أهل الكتاب ، أو جميع الكفار . { مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } هو الرسول ، قطعوه بالتكذيب والعصيان ، أو الرحم والقرابة ، أو هو عام في كل ما أمر بوصله . { وَيُفْسِدُونَ فِى الأَرْضِ } بإخافة السبيل ، وقطع الطريق ، أو بدعائهم إلى الكفر . { الْخَاسِرُونَ } الخسار : النقصان ، نقصوا حظوظهم وشرفهم ، أو الخسار : الهلاك ، أو كل ما نسب إلى غير المسلم من الخسار فالمراد به الكفر ، وما نسب إلى المسلم فالمراد به الذنب .
(1/31)

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ } توبيخ ، أو تعجب ، عجَّبَ المؤمنين من كفرهم { وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } أمواتاً : عَدَماً ، فأحياكم : خلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند الأجل { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القيامة ، أو أمواتاً في القبور ، فأحياكم فيها للمساءلة ، ثم يميتكم فيها ، ثم يحييكم للبعث ، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياة ، أو أمواتاً في الأصلاب ، فأحياكم أخرجكم من بطون الأمهات ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة ، أو كنتم أمواتاً بعد أخذ الميثاق يوم الذر ، فأحياكم خلقكم في بطون أمهاتكم ، ثم يميتكم عند الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة ، أو أمواتاً نطفاً . فأحياتكم بنفخ الروح ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة ، أو كنتم أمواتاً خاملي الذكر ، فأحياكم بالظهور والذكر ، ثم يميتكم في الأجل ، ثم يحييكم يوم القيامة . { تُرْجَعُونَ } إلى مجازاته على أعمالكم ، أو إلى الموضع الذي يتولى الله تعالى فيه الحكم بينكم .
(1/32)

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
{ اسْتَوَى إِلىَ السَّمَآءِ } أقبل عليها ، أو قصد إلى خلقها ، أو تحول فعله إليها ، أو استوى أمره وصنعه الذي صنع به الأشياء إليها ، أو استوت به السماء ، أو علا عليه وارتفع ، أو استوى الدخان الذي خلقت منه السماء وارتفع .
(1/33)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
{ وَإِذْ قَالَ } " إذ " صلة ، أو أصلية مقصودة ، لما ذكر نعمه لخلقه بما خلق لهم في الأرض ذكَّرهم نعمه على أبيهم آدم صلى الله عليه وسلم أو أنه ذكر ابتداء الخلق كأنه قال وابتدأ خلقكم إذ قال ربك . { لِلْملآئِكَةِ } الملك مأخوذ من ألك يألك إذا أرسل [ والألوك : الرسالة ] سميت بذلك ، لأنها تولك في الفم ، يقال : الفرس يألك اللجام ويعلكه ، ألكنى إليها : أرسلني إليها ، والملك : أفضل الحيوان ، وأعقل الخلق ، لا يأكل ، ولا يشرب ولا ينكح ، ولا ينسل ، وهو رسول لا يعصي الله تعالى في قليل ولا كثير ، له جسم لطيف لا يرى إلا إذا قوّى الله تعالى أبصرنا . { جَاعِلٌ } خالق ، أو فاعل . { فِى الأَرْضِ } قيل إنها مكة . { خَلِيفَةً } الخليفة من قام مقام غيره ، خليفة : يخلفني في الحكم بين الخلق ، هو آدم صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من ذريته ، أو بنو آدم يخلفون آدم ، ويخلف بعضهم بعضاً في العمل بالحق ، وعمارة الأرض ، أو آدم وذريته خلفاء من الذين كانوا فيها فأفسدوا ، وسفكوا الدماء . { أَتَجْعَلُ } استفهام لم يجبهم عنه ، أو إيجاب قالوه ظناً لما رأوا الجن قد أفسدوا في الأرض ألحقوا الإنس بهم في ذلك ، أو قالوه عن إخبار الله تعالى لهم بذلك ، فذكروا ذلك استعظاماً لفعلهم مع أنعامه عليهم ، أو قالوه تعجباً من استخلافه لهم مع إفسادهم . { وَيَسْفِكُ } السفك : صب الدم خاصة ، والسفح : مثله إلا أنه يستعمل في كل مائع على وجه التضييع ولذلك قيل للزنا سفاح . { نُسَبِّحُ } التسبيح : التنزيه من السوء على وجه التعظيم ، فلا يُسبَّح غير الله تعالى ، لأنه قد صار مستعملاً في أعلى مراتب التعظيم التي لا يستحقها سواه ، نسبح لك نصلي لك ، أو نعظمك ، أو التسبيح المعروف ، أو هو رفع الصوت بالذكر . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } التقديس : التطهير ، الأرض المقدسة : المطهرة . نقدس : نصلي لك ، أو نطهرك من الأدناس ، أو التقديس المعروف . { مَا لا تَعْلَمُونَ } ما أضمره إبليس من المعصية ، أو من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصلحين ، أو ما اختص بعلمه من تدبير المصالح .
(1/34)

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
{ ءَادَمَ } سُمي به ، لأنه خلق من أديم الأرض : " وهو وجهها الظاهر " ، أو أُخذ من الأُدمة . { الأَسْمَآءَ } أسماه الملائكة ، أو أسماء ذريته ، أو أسماء كل شيء ، عُلم الأسماء وحدها ، أو الأسماء والمسميات ، وعلى الأول علمها بلغته التي كان يتكلم بها ، أو علمها بجميع اللغات ، وعلمها آدم صلى الله عليه وسلم ولده فلما تفرقوا تكلمت كل طائفة بلسان ألفوه منها ، ثم نسوا الباقي بتطاول الزمان ، أو أصبحوا وقد تكلمت كل طائفة بلغة ، ونسوا غيرها في ليلة واحدة ، وهذا خارق . { عَرَضَهُمْ } الأسماء ، أو المسمين على الأصح ، وعرضهم بعد أن خلقهم ، أو صورهم لقلوب الملائكة ثم عرضهم قبل خلقهم . { أَنبِئُونِى } أخبروني ، مأخوذة من الإنباء ، وهو الإخبار على الأظهر ، أو الإعلام . { صَادِقِينَ } أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه ، لأنه وقع لهم ذلك ، أو فيما زعتمم أن الخليفة يفسد في الأرض ، أو أني إن استخلفتكم سبحتم ، وقدستم ، وإن أستخلف غيركم عصى ، أو أني لا أخلق خلقاً إلا كنتم أفضل منه ، أو صادقين : عالمين .
(1/35)

قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
{ الْعَلِيمُ } العالم من غير تعليم { الْحَكِيمُ } المحكم لأفعاله ، أو المصيب للحق ، ومنه الحاكم لإصابته ، أو المانع من الفساد ، وحكمة اللجام تمنع الفرس من شدة الجري . قال :
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا
(1/36)

قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
{ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } ما تبدون من قولكم { أَتَجْعَلُ فِيهَا } والمتكوم : ما أسرَّه إبليس من الكِبْرِ ، والعصيان ، أو ما أضمروه من أن الله تعالى لا يخلق خلقاً إلا كانوا أكرم عليه منهم .
(1/37)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
{ اسْجُدُواْ } أصل السجود : الخضوع ، والتطامن ، أُمروا بذلك تكريماً لآدم صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه ، أو جُعل قِبلة لهم ، وأُمروا بالسجود إليه . { إِلآ إِبْلِيسَ } امتنع حسداً ، وتكبراً ، وكان أبا الجن كما آدم صلى الله عليه وسلم أبو البشر ، أو كان من الملائكة فيكون قوله تعالى : { كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] وهم حي من الملائكة يسمون جِنّاً ، أو كان من خزان الجنة ، فاشتق اسمه منها ، أو لانه جن عن الطاعة ، أو الجن اسم لكل مستتر مجتنن . قال :
براه إلهي واصطفاه لدينه ... وملكه ما بين توما إلى مصر
وسخر من جن الملائك تسعة ... قياماً لديه يعملون بلا آجر
واشتق من الإبلاس ، وهو اليأس من الخير ، أو هو اسم أعجمي لا اشتقاق له .
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } صار منهم أو كان قبله كفار هو منهم ، أو كان من الجن وإن لم يكن قبله جن ، كما كان آدم صلى الله عليه وسلم من الإنس وليس قبله إنس .
(1/38)

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
{ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ } خلقت حواء من ضلع آدم صلى الله عليه وسلم وهو نائم ، ولهذا يقال لها ضلع أعوج ، وسميت امرأة لأنها خلقت من المرء ، وسمت حواء لأنها خلقت من حي ، أو لأنها أم كل حي ، وخلقت قبل دخوله الجنة ، أو بعد دخوله إليها . { الْجَنَّةَ } جنة الخلد ، أو جنة أعدها الله تعالى لهما . { رَغَداً } الرغد : العيش الهنيء ، أو الواسع ، أو الحلال الذي لا حساب فيه . { الشَّجَرَةَ } البر ، أو الكرم ، أو التين ، أو شجرة الخلد التي كانت الملائكة تَحنَك منها . { الظَّالِمِينَ } لأنفسهما ، أو المعتدين بأكل ما لم يبح ، وأكلها ناسياً فحكم عليه بالمعصية ، لترك التحرز ، لأنه يلزم الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه من التحرز ما لا يلزم غيرهم أو أكل منها وهو سكران ، قاله ابن المسيب : أو أكل عالماً متعمداً ، أو تأول النهي على التنزيه دون التحريم ، أو على عين الشجرة دون جنسها ، أو على قوله تعالى { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } [ الأعراف : 20 ] .
(1/39)

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
{ فَأَزَلَّهُمَا } أزالهما : نَحَّاهما ، وأزلهما : من الزلل وهو الزوال عن الحق . والشيطان : إبليس ، وسوس لهما من غير مشاهدة ، ولا خلوص إليهما ، أو خلص إليهما وشافههما بالخطاب ، وهو الأظهر ، وقول الأكثر . { فَأَخْرَجَهُمَا } نسب الخروج إليه ، لأنه سببه . { اهْبِطُواْ } الهُبوط : الزوال ، والهبوط : موضع الهَبوط ، المأمور به آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية ، أو آدم ، وإبليس وذريتهما ، أوآدم ، وحواء والوسوسة . { عَدُوٌّ } بنو آدم وبنو إبليس أعداء ، أو الذي أُمروا بالهبوط بعضهم لبعض أعداء ، { مُسْتَقَرٌّ } مقامهم عليها ، أو قبورهم . { وَمَتَاعٌ } كل ما انتفع به فهو متاع . { إِلَى حِينٍ } الموت ، أو قيام الساعة ، أو أجل .
(1/40)

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
{ كَلِمَاتٍ } الكلام من التأثير ، لتأثيره في النفس بما يدل عليه من المعاني ، والجرح كلم لتأثيره في الجسد . والكلمات قوله تعالى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ } الآية [ الأعراف : 23 ] أو قول آدم صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى " أرأيت إن تبت وأصلحت " فقال : إني راجعك إلى الجنة ، أو قوله : " لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ربي إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إي ظلمت نفسي فتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم " { فَتَابَ عَلَيْهِ } توبة العبد الرجوع عن المعصية ، وتوبة الرب عليه قبول ذلك ، ورجوعه له إلى ما كان عليه ، والتوبة واجبة عليه وعلى حواء ، وأفرد بالذكر ، لقوله تعالى { فَتَلَقَّى ءَادَمُ } أفرده بالذكر فرد الإضمار إليه ، أو استغنى باذكر أحدهما عن الآخر لاشتراكهما في حكم واحد { وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] { انفَضُّوَاْ إِلَيْهَا } { التَّوَّابُ } الكثير القبول للتوبة . { الرَّحِيمُ } الذي لا يخلي عباده من نعمه . ولم يهبط عقوبة ، لأن ذنبه صغير ، وهبوطه وقع بعد قبول توبته ، وإنما أُهبط تأديباً ، أو تغليظاً للمحنة . الحسن " خلق آدم للأرض ، فلو لم يعص لخرج على غير تلك الحال " أو يجوز أن يخلق لها إن عصى ولغيرها إن لم يعص .
(1/41)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
{ إِسْرَآءِيلَ } يعقوب ، إسرا بالعبرانية عبد ، وإيل هو الله تعالى فهو عبد الله . { أذْكُرُواْ } الذّكِر باللسان وبالقلب ، والذُّكر بالشرف بضم الذال وكسرها في القلب واللسان . أو بالضم في القلب وبالكسر في اللسان ، ومراد الآية ذكر القلب ، يقول : لا تتناسوا نعتمي . { نِعْمَتىَ } إنعامي العام على خلقي ، أو أنعامي على آبائكم بما ذكر في هذه السورة ، فالإنعام على الآباء شرف للأبناء . { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } أوفوا بما أمرتكم به { أوف } بما وعدتكم ، أو أوفوا بما أنزلته في كتابكم ، " أن تؤمنوا بي وبرسلي " أوف لكم بالجنة ، سماه عهداً ، لأنه عهد به إليهم في الكتب السالفة ، أو جعل الأمر كالعهد الذي هو يمين لاشتراكهما في لزوم الوفاء بهما .
(1/42)

وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
{ بِمَآ أَنزَلْتُ } على محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة في التوحيد ولزوم الطاعة ، أو مصدقاً لما فيها من أنها من عند الله ، أو لما فيها من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { أَوَّلَ كَافِرِ } بالقرآن من أهل الكتاب ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو بما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . { ثَمَناً قَلِيلاً } لا تأخذوا عليه أجراً ، وفي كتابهم " يا ابن آدم عَلم مجاناً كما عُلمت مجاناً " ، أو لا تأخذوا على تغييره وتبديله ثمناً ، أو لا تأخذوا ثمناً على كتم ما فيه من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
(1/43)

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
{ وَلا تَلْبِسُواْ } ولا تخلطوا الصدق بالكذب ، اللبس : الخلط ، أو اليهودية والنصرانية بالإسلام ، أو التوراة المنزلة بما كتبوه بأيديهم { وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ } نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه في كتبكم .
(1/44)

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ الزَّكَاةَ } من النماء والزيادة ، لأنها تثمر المال ، أو من الطهارة بأدائها يطهر المال فيصير حلالاً ، أو تطهر المالك من إثم المنع . { الرَّاكِعِينَ } الركوع من التطامن والانحناء ، أو من الذل والخضوع ، عُبِّر عن الصلاة بالركوع ، أو أراد ركوعها إذ لا ركوع في صلاتهم .
(1/45)

أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
{ بِالْبِرِّ } بالطاعة ، أُمروا بها وعصوا ، أو أُمروا بالتمسك بكتابهم ، وتركوه بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أُمروا بالصدقة وضنوا بها .
(1/46)

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
{ بِالصَّبْرِ } على الطاعة ، وعن المعصية ، أو بالصوم ، ويسمى صبراً لأنه يحبس نفسه عن الطعام والشراب ، والصبر : حبس النفس عما تنازع إليه . " كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر استعان بالصلاة والصوم " { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } وإن الصلاة لثقيلة إلا على المؤمنين ، أو إن الصبر والصلاة أرادهما وأعاد الضمير إلى أحدهما ، أو أن إجابة محمد صلى الله عليه وسلم لشديدة { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } الخشوع والخضوع : التواضع ، أو الخضوع في البدن ، والخشوع في الصوت والصبر .
(1/47)

الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
{ يَظُنُّون أَنَّهُم مُّلاقُواْ رَبِّهِمْ } بذنوبهم لإشفاقهم منها أو يتيقنون عند الجمهور . { رَاجِعُونَ } بالموت ، أو بالإعادة ، أو إلى أن لا يملك لهم أحد غيره ضراً ولا نفعاً كما كانوا في بدو الخلق .
(1/48)

وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
{ لاَّ تَجْزِى } لا تغني ، أو لا تقضي ، جزاه الله خيراً : قضاه . { شَفَاعَةٌ } لا يقدر على شفيع تقبل شفاعته ، أو لا يجيبه الشفيع إلى الشفاعة ، إن كان مشفعاً لو شفع . { عَدْلٌ } فدية ، وعِدْل : مثل " لا يقبل منه صرف ولا عدل " الصرف : العمل ، والعدل : الفدية . أو الصرف : الدية ، والعدل : رجل مكانه . أو الصرف : التطوع ، والعدل : الفرض أو الصرف : الحيلة ، والعدل : الفدية ، قاله أبو عبيدة .
(1/49)

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
{ ءَالِ فِرْعَوْنَ } آل الرجل : هم الذين تؤول أمروهم إليه في نسب أو صحبة ، والآل والأهل سوا [ أ ] و الآل يضاف إلى المُظهر دون المضمر والأهل يضاف إليهما ، أهل العلم وأهل البصرة ولا يقال آل العلم ولا آل البصرة . { فِرعَوْنَ } اسم رجل معين ، أو فرعون لملوك العمالقة ، كقيصر للروم وكسرى للفرس ، واسم فرعون " الوليد بن مصعب " { يَسُومُونَكُمْ } يولونكم " سامه خطة خسفٍ " : أولاه ، أو يجشمونكم الأعمال الشاقة ، أو يزيدونكم على ذلك سوء العذاب ومساومة البيع : مزايدة كل واحد من العاقدين . { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } يبقونهم أحياء للاسترقاق والخدمة فلذلك كان من سوء العذاب . والنساء يقع على الكبار والصغار ، أو تسمى به الصغار ، اعتباراً بما يصرن إليه { وَفِى ذَلِكُم } إنجائكم ، أو في سومهم إياكم سوء العذاب . والذبح والإبقاء ، والبلاء : يستعمل في الاختبار بالخير والشر . والأكثر في الخير : أبليته أبليه إبلاء ، وفي الشر : بلوته أبلوه بلاء .
(1/50)

وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
{ فَرَقْنَا } فصلنا " أو ميزنا " وسمى البحر بحراً لسعته وانبساطه ، تبحر في العلم اتسع فيه . { تُنظُرُونِ } إلى سلوكهم البحر ، وانطباقه عليهم .
(1/51)

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
[ { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى } ] ووجد موسى [ عليه السلام ] في اليم بين الماء والشجر فمسى لذلك موسى ، مو : هو الماء ، وساء : هو الشجر . { الْعِجْلَ } قال الحسن : صار لحماً ودماً له خوار ومنع غيره ذلك لما فيه من الخرق المختص بالأنبياء ، وإنما جعل فيه خروقاً تدخلها الريح فتصوت كالخوار . وعلى طريق الحسن فالخرق يقع لغير الأنبياء في زمن الأنبياء ، لانهم يبطلونه . وقد قال السامري : { هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] فأبطل أن يدعي بذلك أعجاز الأنبياء ، وسمي عجلاً ، لأنه عجل بأن صار له خوار ، أو لانهم عجلوا بعبادته قبل رجوع موسى .
(1/52)

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
{ الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } الكتاب : التوراة ، وهي الفرقان ، أو الفرقان ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل ، أو فرقة سبحانه وتعالى بين موسى وفرعون بالنصر ، أو انفراق البحر .
(1/53)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
{ بَارِئِكُمْ } خالقكم والبرية : الخلق متروك همزها من برأ الله الخلق ، أو من البري وهو التراب ، أو من بريت العود ، أو من تبرى شيء من غيره إذا انفصل منه ، كالبراءة من الدَّيْن والمرض . { فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } مكنوا من قتلها ، أو ليقتل بعضكم بعضاً . والقتل إماتة الحركة قتلت الخمر بالماء إذا مزجتها به ، فسكنت حركتها ، ابن جريج ، جُعلت توبتهم بالقتل ، لأن الذين لم ينكروا خافوا القتل فجعلت توبتهم به .
(1/54)

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
{ جَهْرَةً } علانية ، أو عياناً ، وأصل الجهر : الظهور ، ومنه جهر بالقراءة ، وجاهر بالمعاصي . { الصَّاعِقَةُ } الموت .
(1/55)

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
{ بَعَثْنَاكُم } أحييانكم ، أو سألوا أن يبعثوا بعد الإحياء أنبياء . والبعث هو الإرسال ، أو إثارة الشيء من محله ، وهؤلاء هم السبعون المختارون للميقات .
(1/56)

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
{ الْغَمَامَ } ما غطى السماء من السحاب ، غُم الهلال : غطاه السحاب ، وكل مُغطى مغموم . وهذا الغمام هو السحاب ، أو الذي أتت فيه الملائكة يوم بدر . { الْمَنَّ } ما سقط على الشجر فأكله الناس أو صمغة ، أو شراب كانوا يشربونه ممزوجاً بالماء . أو عسل ينزل عليهم أو الخبز الرقاق ، أو الزنجبيل . أو الترنجبين . { وَالسَّلْوَى } السماني أو طائر يشبهه . كانت تحشره عليهم ريح الجنوب . { طَيِّبَاتِ } اللذيذة ، أو الحلال .
(1/57)

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
{ الْقَرْيَةَ } بيت المقدس ، أو قرية بيت المقدس ، أو أريحيا . { الْبَابَ } باب القرية المأمور بدخولها ، أو باب حِطة ، وهو الثامن من بيت المقدس . { سُجَّداً } ركعاً ، أو متواضعين خاضعين ، أصل : السجود الانحناء تعظيماً وخضوعاً . { حِطَّةٌ } لا إله إلا الله ، أو أُمروا بالاستغفار أو حط عنا خطايانا ، أو قولوا : هذا الأمر حق كما قيل لكم . [ { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } ] نغفرها بسترها عليكم فلا نفضحكم ، من الغفر وهو الستر ، ومنه بيضة الحديد : مغفر .
(1/58)

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
{ فَبَدَّلَ } دخلوا الباب يزحفون على أستاههم ، وقالوا حنطة في شعيرة استهزاء منهم . { رِجْزاً } عذاب ، أو غضب أو طاعون أهلكهم كلهم ، وبقي الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه .
(1/59)

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
{ اسْتَسْقَى } طلب السقيا ، سقيته وأسقيته ، أو سقيته بسقى شفته ، وأسقيته دللته على الماء . { فَانفَجَرَتْ } الانفجار : الانشقاق ، والانبجاس أضيق منه . { عَيْناً } شبهت بعين الحيوان ، لخروج الماء منها كما يخرج الدمع . { كُلُّ أُنَاسٍ } لكل سبط عين عرفها لا يشرب من غيرها . { تَعْثَوْاْ } تطغوا ، أو تسعوا " العيث " : شدة الفساد . .
(1/60)

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{ وَفُومِهَا } الحنطة ، أو الخبز ، أو الثوم . { مِصْراً } مبهماً ، أو مصر فرعون ، والمصر من القطع لانقطاعه بالعمارة ، أو من الفصل ، قال :
وجاعل الشمس مصراً لاخفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا
{ الذِّلَّةُ } الصغار ، أو ضرب الجزية . { وَالْمَسْكَنَةُ } الفقر ، أو الفاقة . { وَبَآءُو } نزلوا من المنزلة ، قال رجل للرسول صلى الله عليه وسلم : هذا قاتل أخي [ قال ] : فهو بواء به : أي ينزل منزلته في القتل ، أو أصله التسوية أي تساووا في الغضب : عبادة بن الصامت : جعل الله تعالى الأنفال إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقسمها بينهم على بواء : أي سواءَ ، أو رجعوا . والبواء الرجوع لا يكون إلا بشر أو خير . { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّنَ } مكنهم من قتل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه ليرفع درجاتهم ، أو كل نبي أمره بالحرب نصره ، ولم يمكن من قتله قاله الحسن : والنبي من النبأ ، وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى أو من النبوة المكان المرتفع ، لارتفاع منزلته ، أو من النبي وهو الطريق ، لأنه طريق إلى الله تعالى .
(1/61)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ هَادُواْ } من هاد يهود هودا وهيادة إذا تاب . أو من قولهم { هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أو نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب عليه الصلاة والسلام فعربته العرب بالدال . { وَالنَّصَارَى } جمع نصراني ، أو نصرانِ عند سيبويه وعند الخليل نصري . لنصرة بعضهم لبعض ، أو لقوله تعالى : { مَنْ أنصارى إِلَى الله } [ آل عمران : 52 ] أو كان يقال لعيسى عليه الصلاة والسلام الناصري لنزوله الناصرة فنُسب إليه النصارى . { وَالصَّابِئِينَ } جمع صابىء ، من الطلوع والظهور ، صبأ ناب البعير : طلع ، أو من الخروج من شيء إلى آخر ، لخروجهم من اليهودية إلى النصرانية ، أو من صبا يصبو إذا مال إلى شيء وأحبه على قراءة نافع بغير الهمز ، ثم هم قوم بين اليهود والمجوس ، أو قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى القبلة ، ويقرؤون الزبور ، أو دينهم شبيه بدين النصارى ، قبلتهم نحو مهب الجنوب حيال منتصف النهار ، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام { مَنْ ءَامَنَ } نزلت في سلمان ، والذين نَصَّروه وأخبروه بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم أو هي منسوخة بقوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام } [ آل عمران : 85 ] والمراد بالنسخ التخصيص .
(1/62)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
{ الطُّورَ } جبل التكليم ، وإنزال التوراة ، أو ما أنبت من الجبال دون ما لم ينبت ، أو اسم كل جبل بالسرياني ، أو بالعربي ، قال :
داني جناحيه من الطور فمرَّ ... تَقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
{ بِقُوَّةٍ } بجد واجتهاد ، أو بطاعة الله تعالى ، أو بالعمل بما فيه .
(1/63)

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
{ اعْتَدَوْاْ } بأخذ الحيتان استحلالاً ، أو حبسوها يوم السبت ، وأخذوها يوم الأحد . { السَّبْتِ } من القطع ، فهو القطعة من الدهر ، أو سبت فيه خلق كل شيء : قطع وفرغ منه ، أو تسبت فيه اليهود عن العمل ، أو من الهدوء والسكون ، لأنهم يستريحون فيه { نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } [ النبأ : 9 ] والنائم مسبوت . { قِرَدَةً } صاروا في صورها ، أو لم يمسخوا بل مثلوا بالقردة ، كقوله { كَمَثَلِ الحمار } [ الجمعة : 5 ] قاله مجاهد . { خَاسِئِينَ } مطرودين مبعدين ، أو أذلاء .
(1/64)

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
{ فَجَعَلْنَاهَا } العقوبة ، أو القرية ، أو الأمة ، أو الحيتان ، أو القردة الممسوخ على صورهم .
{ نَكَالاً } عقوبة ، أو عبرة يَنْكُل بها من رآها ، أو النكال الاشتهار بالفضيحة . { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } من القرى ، أو ما بين يديها من يأتي بعدهم ، وما خلفها الذين عاصروهم . أو ما بين يديها من الذنوب ، وما خلفها عبرة لمن يأتي بعدههم . أو ما بين يديها ذنوبهم ، وما خلفها للحيتان التي أصابوها ، أو ما بين يديها ما مضى من ذنوبهم ، وما خلفها ذنوبهم التي أُهلكوا بها .
(1/65)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
{ هُزُواً } اللعب والسخرية ، قالوه استبعاداً لما بين السؤال والجواب .
(1/66)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)
{ بَقَرَةً } من البَقْرِ وهو الشق ، لأنها تشق الأرض ، والذكر : ثور . { فَارِضٌ } ولدت بطوناً كثيرة فاتسع جوفها ، لأن الفارض في اللغة : الواسع ، أو الكبيرة الهرمة عند الجمهور . { بِكْرٌ } صغيرة لم تحمل ، البكر من البهائم والناس : ما لم يفتحله الفحل ، والبكر بفتح الباء : فتى الإبل . { عَوَانٌ } النَّصَف ، قد ولدت بطناً أو بطنين .
(1/67)

قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
{ صَفْرَآءُ } اللون المعروف لقوله تعالى ، { فَاقِعٌ } [ يقال ] أسود حالك ، وأحمر قاني ، وأبيض ناصع ، وأخضر ناضر ، وأصفر فاقع ، وقال الحسن وحده : سوداء شديدة السواد ، كما قالوا : ناقة صفراء أي سوداء ، قال :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيبِ
وأُريد بالصفرة قرنها وظلفها ، أو جميع لونها . { فَاقِعٌ } شديد الصفرة ، أو خالصها ، أو صافيها .
(1/68)

قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
{ ذَلُولٌ } أذلها العمل . { تُثِيرُ الأَرْضَ } والإثارة تفريق الشيء { مُسَلَّمَةٌ } من العيوب ، أو من الشية : وهي لون يخالف لونها من سواد أو بياض من وشي الثوب : وهو تحسين عيوبه بألوان مختلفة ، الواشي : الذي يحسِّن كذبه عند السلطان ليقبله . { جِئْتَ بِالْحَقِّ } بينت الحق ، أو قالوا : هذه بقرة فلان جئت بالحق فيها . { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } لغلاء ثمنها ، لأنه كان بملء مَسْكها ذهباً أو بوزنها عشر مرات ، أو خوفاً من الفضيحة بمعرفة القاتل ، وكان ثمنها ثلاثة دناير .
(1/69)

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
{ فَادَّارَءْتُمْ } تدافعتم واختلفتم . { تَكْتُمُونَ } تسرون من القتل .
(1/70)

فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
{ بِبَعْضِهَا } بفخذها ، أو ذنبها ، أو عظم من عظامها ، أو بعض آرابها ، أو البعضة التي بين الكتفين . فلما حيي القتيل قال : قتلني ابن أخي ، ثم مات فحلف بنو أخيه بالله ما قتلناه .
(1/71)

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
{ قَسَتْ قُلُوبُكُم } في ابن أخي الميت لما أنكر قتله بعد سماعه منه ، أو في جملة بني إسرائيل قست قلوبهم من بعد جميع الآيات التي أظهرها الله تعالى على موسى . { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أو ها هنا وفيما أشبهه للإبهام على المخاطب . أبو الأسود الدؤلي :
أحب محمداً حباً شديداً ... وعباساً وحمزة أو علياً
فلما قيل له في ذلك استشهد بقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً } ، أو تكون بمعنى " الواو " قال جرير :
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
أو تكون بمعنى " بلى " أو تكون لإباحة التشبيه بكل واحد منهما . أو هي كالحجارة أو أشد قسوة عندكم . { يَهْبِطُ } هبوطه تفيؤ ظلاله أو هو لجلالة الله سبحانه أو [ يُرى ] كأنه هابط خاشع لعظم أمر الله تعالى .
لما أتى خبرُ الزبير تواضعت ... سورُ المدينة والجبالُ الخشعُ
أو كل حجر تردى من رأس جبل فمن خشية الله تعالى ، أو يعطي بعض الجبال المعرفة [ فيعقل طاعة الله تعالى ] وقد حن الجذع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسَلِّم عليه حجرٌ بمكة .
(1/72)

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ يُحَرِّفُونَهُ } نزلت فيمن حرّف التوراة فحرّم حلالها وأحل حرامها . أو في السبعين سمعوا كلام الله تعالى ثم حرّفوه لقومهم .
(1/73)

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
{ فَتَحَ اللَّهُ } ذكركم الله تعالى به ، أو أنزله في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو قول بني قريظة للرسول صلى الله عليه وسلم لما قال لهم : " يا إخوة القردة " من حدثك بهذا ، أو أسلم منهم ناس ، ثم نافقوا وحدثوا العرب بما عُذبوا به ، فقال بعضهم لبعض { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي بما قضى وحكم ، والفتح : القضاء والحكم .
(1/74)

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{ أُمِّيُّونَ } قوم لم يصدقوا رسولاً ، ولا كُتباً وكتبوا كتاباً بأيديهم وقالوا لجهالهم هذا من عند الله ، والأظهر أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، نسب إلى أصل ما عليه الأمَّة من أنها لا تكتب ابتداء ، أو أنه على ما ولدته أمه ، أو نسب إلى أمه ، لأن المرأة لا تكتب غالباً . { أمَانِىَّ } تلاوة ، أو كذباً ، أو أحاديث ، أو يتمنون على الله تعالى ما ليس لهم .
(1/75)

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{ فَوَيْلٌ } عذاب ، أو تقبيح ، أو حزن ، أو وادٍ في النار ، أو جبل فيها أو وادٍ من صديد في أصلها . { يَكْتُبُونَ } يغيرون ما في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم { بِأَيْدِيهِمْ } تحقيق للإضافة إليهم ، أو من تلقاء أنفسهم . { ثَمَناً قَلِيلاً } حراماً ، أو { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] .
(1/76)

وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
{ مَّعْدُودَةً } سبعة أيام ، زعموا أن عمر الدنيا سبعة آلاف وأنهم يعذبون على كل ألف يوماً واحداً من أيام الآخرة ، وهو ألف سنة من أيام الدنيا ، أو أربعون يوماً التي عبدوا فيه العجل ، أو زعموا أن في التوراة أن مسيرة ما بين طرفي [ جهنم ] أربعون سنة يسيرون كل سنة في يوم فإذا انقطع السير هلكت النار وانقطع عذابهم فتلك أربعون .
(1/77)

بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
{ بَلَى } إيجاب للنفي : إذا قال مالي عليك شيء فقال بلى [ كان رداً لقوله وتقديره " بلى لي عليك " ] . { سَيِّئَةً } شركاً ، أو ذنوباً وعد عليها بالنار . { وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } مات عليها ، أو سدت عليه مسالك النجاة .
(1/78)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
[ { لا تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ } ] لا تقتلون أنفسكم لا يقتل بعضكم بعضاً أو لا تقتلوا أحداً فيقتص منكم به ، فتكونوا قاتلين لأنفسكم بالتسبب ، والنفس من النفاسة ، لأنها أنفس ما في الإنسان . { دِيَارِكُمْ } الخليل : كل موضع حله قوم فهو دار وإن لم يكن فيه أبنية ، أو الدار موضع فيه أبنية المقام .
(1/79)

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
{ تَظَاهَرُونَ } تتعاونون . { الإِثْمِ } الفعل الذي يستحق عليه الذم . { العدوان } مجاوزة الحق ، أو الإفراط في الظلم . { أُسَارَى } أَسري جمع أسير ، وأُساري جمع أَسرى ، أو الأُساري : الذين في الوثاق ، والأَسرى : الذين في اليد وإن لم يكونوا في وَثاق ، قاله ابن العلاء .
(1/80)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
{ وَقَفَّيْنَا } أتبعنا ، التقفية : الإتباع . { الْبَيِّنَاتِ } الحجج ، أو الإنجيل أو إحياء الموتى ، وخلق الطير ، وإبراء الأسقام . { بِرُوحِ الْقُدُسِ } الاسم الذي كان يحيي به الموتى ، أو جبريل عليه السلام على الأظهر سمي به ، لأنه كالروح للبدن يحيا بما يأتي به من الوحي ، أو لأن الغالب على جسده الروحانية ، أو لأنه وجد قوله { كن } من غير ولادة القدس : البركة ، أو الطهر لبراءته من الذنوب ، والقدس والقدوس واحد .
(1/81)

وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ غُلْفُ } في أغطية لا تفقه ، أو هي أعية للعلم . { لَّعَنَهُمُ } طردهم وأبعدهم . { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } قليلاً من يؤمن منهم ، لأن من آمن من المشركين أكثر ممن آمن من أهل الكتاب ، أو لا يؤمنون إلا بالقليل من كتابهم ، و " ما " صلة .
(1/82)

وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
{ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } القرآن . { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة والإنجيل أنه من عند الله تعالى ، أو مصدق لما فيهما من الأخبار { يَسْتَفْتِحُونَ } يستنصرون .
(1/83)

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
{ اشْتَرَوُاْ } باعوا { بَغْياً } حسداً ، والبغي : شدة الطلب للتطاول ، أصله الطلب ، الزانية بغي ، لطلبها الزنا . { بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } الاول : كفرهم بعيسى صلى الله عليه وسلم ، والثاني كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أو الأول : قولهم : عزير ابن الله ، ويد الله مغلولة ، وتبديلهم الكتاب ، والثاني : كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو عبّر بذلك عن لزوم الغضب لهم . { مَهِينٌ } مذل ، عذاب الكافر مهين ، لأنه لا يمحص دينه بخلاف عذاب المؤمن ، لأنه محمص لدينه .
(1/84)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
{ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } القرآن . { بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } التوارة { بِمَا وَرَآءَهُ } بما بعده . { مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة ، وكتب الله تعالى يصدق بعضها بعضاً . { فَلِمَ تَقْتُلُونَ } فَلِمَ قتلتم ، أو فَلِمَ ترضون بقتلهم .
(1/85)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
{ وَاسْمَعُواْ } اعملوا بما سمعتم ، أو اقبلوا ما سمعتم ، سمع الله لمن حمده قبل حمده . { سَمِعْنَا } قولك { وَعَصَيْنَا } أمرك ، قالوه سراً ، أو فعلوا ما دل عليه ، ولم يقولوه فقام فعلهم مقام قولهم :
امتلأ الحوض وقال : قطني ... مهلاً رويداً قد ملأتُ بطني
{ وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ } حب العجل . أو بَرَده موسى عليه الصلاة والسلام وألقاه في اليم فمن شرب ممن أحب العجل ظهرت سُحَالة الذهب على شفتيه .
(1/86)

قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
{ مِّن دُونِ النَّاسِ } كلهم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لو تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار " فلم يتمنوه علماً منهم أنهم لم تمنوه لماتوا كما قال : أو صرفوا عن إظهار تمنيه آية للرسول صلى الله عليه سلم .
(1/87)

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ } اليهود . و { الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } المجوس . { يَوَدُّ } أحد المجوس { لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } { بِمُزَحْزِحِهِ } بمباعده .
(1/88)

قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
{ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } نزلت لما قال ابن صوريا للرسول صلى الله عليه وسلم : أي ملك يأتيك بما يقول الله تعالى قال : " جبريل عليه السلام " قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، وميكائيل يأتي باليسر والرخاء . فلو كان هو الذي يأتيك آمناً بك فنزلت . وجبر : عبد ، وميكا : عُبيد ، وأيل : هو الله تعالى ، وهما عبد الله وعُبيد الله ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ولم يخالف فيه أحد ، وخُصا بالذكر وإن دخلا في عموم الملائكة تشريفاً وتكريماً ، أو نص عليهما لأنهم يزعمون أنهم ليسوا بأعداء الله تعالى ولملائكته أجمع بل هم أعداء لجبريل وحده فأبطل مثل هذا التأويل بذكر جبريل عليه السلام .
(1/89)

مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
{ عَدُوٌ لِّلْكَافِرِينَ } لم يقل عدو لهم لجواز انتقالهم عن العداوة بالإيمان .
(1/90)

وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
{ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ } نزلت ، لأن كاتب سليمان " آصف بن برخيا " واطأ نفراً من الجن على أن دفنوا كتاب سحر تحت كرسي سليمان عليه الصلاة والسلام ثم أخرجوه بعد موت سليمان عليه الصلاة والسلام وقالوا : هذا سحر سليمان ، فبرأه الله تعالى من ذلك ، أو استرقت الشياطين السمع ، واستخرجت السحر ، فاطلع عليه سليمان عليه الصلاة والسلام فنزعه منهم ودفنه تحت كرسيه ، فلم يقدر الشياطين أن يدنوا إلى الكرسي في حياته ، فلما مات قالت : للإنس : إن العلم الذي سخر به سليمان الريح والجن تحت كرسيه فأخرجوه ، وقالوا : كان ساحراً ، ولم يكن نبياً ، فتعلموه وعلموه ، فبرأه الله تعالى من ذلك . { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ } بنسبتهم سليمان عليه الصلاة والسلام إلى السحر " أو بما استخرجوه من السحر " { يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } بإلقائه في قلوبهم " أو بدلالتهم عليه حتى أخرجوه " . { وَمَآ أُنزِلَ } " ما " بمعنى الذي ، أو نافيه . { الْمَلَكَيْنِ } بالكسر علجان من علوج بابل ، والقراءة المشهورة بالفتح ، زعمت سحرة اليهود أن جبريل وميكائيل أُنزل السحر على لسانهما إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فأكذبهم الله ، والتقدير : وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس { بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } وهم رجلان ببابل ، أو هاروت وماروت ملكان أُهبطا إلى الأرض في زمن إدريس عليه الصلاة والسلام فلما عصيا لم يقدرا على الرقي إلى السماء فكانا يعلمان السحر . { السِّحْرَ } خدع ومعانٍ تحول الإنسان حماراً وتُقلَب بها الأعيان وتنشأ بها الأجسام ، أو هو تخييل ولا يقدر الساحر على قلب الأعيان ولا إنشاء الأجسام ، قال الله تعالى { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] ، ولما سحر الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله قال الشافعي رضي الله تعالى عنه " الساحر يوسوس ويمرض ويقتل " ، إذ التخيل بدو الوسوسة ، والوسوسة بدو المرض ، والمرض بدو التلف . { بِبَابِلَ } الكوفة وسوادها ، سميت بذلك لتبلبل الألسن بها ، أو من نصيبين إلى رأس عين ، أو جبل نهاوند . { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } على هاروت وماروت أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر بما تتعلمه من السحر . { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } من هاروت وماروت ، أو من السحر والكفر أو من الشياطين والملكين السحر من الشياطين ، وما يفرق بين الزوجين من الملكين . { بِإِذْنِ } ما يضرون بالسحر أحداً { إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } بأمره ، أو بعلمه . { مَا يَضُرُّهُمْ } في الآخرة { وَلا يَنفَعُهُمْ } في الدنيا ، { مِنْ خَلاقٍ } لا نصيب لمن اشترى السحر ، أو لا جهة له ، أو الخلاق : الدين . { شَرَوْاْ } باعوا { بِهِ أَنفُسَهُمْ } من السحر والكفر بفعله وتعليمه ، أو من إضافتهم السحر إلى سليمان عليه الصلاة والسلام .
(1/91)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
{ رَاعِنَا } لا تقولوا : خلافاً ، أو أرعنا سمعك أي اسمع منا ونسمع منك . كانت الأنصار تقولها في الجاهلية فنهوا عنها في الإسلام ، أو قالتها اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الاستهزاء والسب ، أو قالها رفاعة بن زيد وحده فنهي المسلمون عنها . { انظُرْنَا } أفهمنا وبيّن لنا ، أو أمهلنا ، أو أقبل علينا وانظر إلينا ، { وَاسْمَعُواْ } ما تؤمرون به .
(1/92)

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
{ مَا نَنسَخْ } نسخها : قبضها ، أو تبديلها ، أو تبديل حكمها مع بقاء رسمها . { أَوْ نُنسِهَا } ننسكنها ، كان يقرأ الآية ثم ينسى وترفع ، أو يريد به الترك : أي ما نرفع من آية ، أو نتركها فلا نرفعها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، " قلت : وفيه إشكال ظاهر " ، أو يريد به نمحها { نَنْسَأَها } نؤخرها أنسأت أخرت ، ومنه بيع النسيئة . { بِخَيْرٍ مِّنْهَآ } أنفع ، وأرفق ، وأخف ، فيكون الناسخ أكثر ثواباً آجلاً ، كنسخ صوم أيام معدودات برمضان ، أو أخف عاجلاً ، كنسخ قيام الليل . { أَوْ مِثْلِهَا } مثل حكمها في الخفة والثقل والثواب ، كنسخ التوجه إلى القدس بالتوجه إلى الكعبة ، فإنه مثله في المشقة والثواب . { أَلَمْ تَعْلَمْ } بمعنى أما علمت ، أو هو تقرير وليس باستفهام ، أو خوطب به والمراد أمته ، ولذلك أردفه بقوله : { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ } .
(1/93)

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
{ وَدَّ كَثِيرٌ } دعا فنحاص وزيد بن قيس حذيفة وعماراً إلى دينها فأبيا عليهما فنزلت . { تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ } صحة الإسلام ، ونبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام . { فَاعْفُواْ } اتركوا اليهود ، { وَاصْفَحُواْ } عن قولهم . { بِأَمْرِهِ } بإجلاء بني النضير . وقتل بني قريظة وسبيهم . .
(1/94)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
{ مَسَاجِدَ اللَّهِ } المساجع المعروفة ، أو جميع الأرض التي تقام فيها العبادة " جعلت لي الأرض مسجدا " . أُنزلت في بختنصر وأصحابه المجوس خربوا بيت المقدس ، أو في النصارى الذي أعانوا بختنصر على خرابه ، أو في قريش لصدهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الكعبة عام الحديبية ، أو عامة في كل مشرك منع من مسجد . { خَرَابِهَآ } هدمها ، أو منعها من ذكر الله تعالى فيها . { خَآئِفِينَ } من الرعب إن قُدِرَ عليهم عوقبوا . { خِزْىٌ } الجزية ، أو فتح مدائنهم ، عمورية ، وقسطنطينية ، ورومية .
(1/95)

وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ } لما حولت [ القبلة إلى ] الكعبة تكلمت اليهود فيها فنزلت ، أو أذن لهم قبل فرض الاستقبال أن يتوجهوا حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، أو في صلاة التطوع في السفر ، وللخائف أيضاً ، أو في قوم من الصحابة خفيت عليهم القبلة فصلوا على جهات مختلفة ثم أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو في النجاشي فإنه كان يصلي إلى غير القبلة ، أو قالوا لما نزل قوله تعالى : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين؟ فنزلت ، أو أين ما كنتم من شرق أو غرب فلكم قبلة هي الكعبة . { فَثَمَّ } إشارة إلى المكان البعيد . { وَجْهُ ا للَّهِ } قبلته ، أو فثم الله كقوله تعالى : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ } [ الرحمن : 27 ] .
(1/96)

وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
{ وَلَداً } نزلت في النصارى ، لقولهم في المسيح صلى الله عليه وسلم ، أو في العرب ، قالوا : الملائكة بنات الله . { قَانِتُونَ } مطيعون أو مقرون بالعبودية ، أو قائمون يوم القيامة ، والقنوت : القيام .
(1/97)

بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
{ بَدِيعُ } منشئهما على غير مثال سبق ، وكل منشىء ما لم يسبق إليه فهو مبدع . { قَضَى } أحكم وفرغ .
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داودُ صَنَعُ السَّوابغ تُبعُ
{ كُن } هذا أمر للموجودات بالتحول من حال إلى أخرى كقوله تعالى : { كُونُواْ قِرَدَةً } [ البقرة : 65 ] وليس إنشاء للمعدوم ، أو هو لإنشاء المعدوم ، لأنه لما علم بها جاز أو يقول لها : " كن " لتحققها في علمه ، أو عبر عن نفوذ قدرته وإرادته في كل شيء بالقول ولا قول .
قد قالت الأنساع للبطن الحق .
(1/98)

وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
{ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } اليهود ، أو النصارى ، أو مشركو العرب { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } اليهود أو اليهود والنصارى . { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } شابهت قلوب النصارى قلوب اليهود ، أو قلوب مشركي العرب لقلوب اليهود والنصارى .
(1/99)

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
{ بَشِيراً } لمن أطاع بالجنة ، { وَنَذِيراً } لمن عصى بالنار . { وَلا تُسْئَلُ } لا تؤاخذ بكفرهم { وَلا تُسْئَلُ } نزلت لما قال : " ليت شعري ما فعل أبواي " .
(1/100)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب : القرآن ، أو علماء اليهود ، والكتاب : التوراة ، { يَتْلُونَهُ } يقرؤونه حق قراءته ، أو يتبعونه حق اتباعه بإحلال حلاله ، وتحريم حرامه ، قاله الجمهور . { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم .
(1/101)

وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
{ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ } بالسريانية آب رحيم . { بِكَلمَاتٍ } شرائع الإسلام ، ما ابتلى أحد بهذا الدين فقام به كله سواه ، فكتب الله تعالى له البراءة ، فقال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] وهي ثلاثون سهماً ، عشر في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] وعشر في " الأحزاب " { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] وعشر في المؤمنين [ 1-9 ] ، { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 1 ] إلى قوله { عَلَى صَلاتِهمْ يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 34 ] ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو هي عشر من سنن الإسلام : خمس في الرأس ، قص الشارب ، والمضمضة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الرأس ، وفي الجسد ، تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والختان ، ونتف الإبط ، وغسل أثر البول والغائط بالماء ، أو هي عشر : ست في الإنسان ، حلق العانة والختان ، ونتف الإبط ، وتقليم الإظفار ، وقص الشارب ، وغسل الجمعة ، وأربع في المشاعر : الطواف والسعي بين الصفا والمروة ، ورمي الجمار ، والإفاضة ، أو مناسك الحج خاصة ، أو الكواكب ، والقمر ، والشمس؛ والنار والهجرة والختان ، ابتُلي بهن فصبر ، أو ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله { الذي وفى } ؟ [ النجم : 37 ] لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] إلى قوله تعلى { تُظْهِرُونَ } ، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم " أتدرون ما { وَفَّيَ } ؟ " قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : " وفيَّ عمل يومه أربع ركعات في النهار " ، أو قاله له ربه : " إني مبتليك ، قال : أتجعلني للناس إماماً ، قال : نعم : قال : ومن ذريتي قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس قال : نعم ، قال : وأمنا قال : نعم ، قال : وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك . قال : وترينا مناسكنا وتتوب عليها قال : نعم ، قال : وتجعل هذا البيت آمناً ، قال : نعم ، قال : وترزق أهله من الثمرات ، قال : نعم ، فهذه الكلمات التي أبتُلى بها . { إمَاماً } متبوعاً . { عَهْدِى } النبوة ، أو الإمامة ، أو دين الله ، أو الأمان ، أو الثواب ، أو لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/102)

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
{ مَثَابَةً } مجمعاً يجتمعون عليه في النسكين ، أو مرجعاً ، ثابت العلة : رجَعَت . أي : يرجعون إليه مرة بعد أخرى ، أو يرجعون إليه في كلا النسكين من حل إلى حرم . { وَأَمْناً } لأهله في الجاهلية ، أو للجاني من إقامة الحد عليه فيه . { مَّقامِ إِبْرَاهِيمَ } عرفة ومزدلفة والجمار ، أو الحرم كله ، أو الحج كله . أو الحجر الذي في المسجد على الأصح . { مُصَلَّى } مُدَّعَى يُدْعَى فيه ، أو الصلاة المعروفة وهو أظهر { وَعَهِدْنَآ } أمرنا ، أو أوحينا . { طَهِّرَا بَيْتِيَ } من الأصنام ، أو الكفار ، أو الأنجاس ، أُمرا ببنائه مطهراً ، أو يُطهرا مكانه . { لِلطَّآئِفِينَ } الغرباء الذي يأتونه من غربة ، أو الذين يطوفون به . { وَالْعَاكِفِينَ } أهل البلد الحرام ، أو المصلون ، أو المعتكفون ، أو مجاورو البيت بغير طواف ولا اعتكاف ولا صلاة . { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } المصلون .
(1/103)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
{ مَنْ ءَامَنَ } إخبار من الله تعالى ، أو من دعاء إبراهيم ، ولم تزل مكة حرماً آمناً من الجبابرة والخوف والزلازل ، فسأل إبراهيم أن يجعله آمناً من الجدب والقحط ، وأن يرزق أهله من الثمرات ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم مكة يوم خلق الله السموات والأرض " ، أو كانت حلالاً قبل دعوة إبراهيم ، وإنما حرمت بدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، كما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة فقال : " وإن إبراهيم قد حرم مكة وإني قد حرمت المدينة " .
(1/104)

وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
{ الْقَوَاعِدَ } جمع قاعدة وهي كالأساس لما فوقها . { إِسَمَاعِيلَ } معناه أسمع يا إيل أي اسمع يا الله ، لما دعا بالولد فأجيب سُمي الولد بما دعا به .
(1/105)

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } المسلم : الذي استسلم لأمر الله وخضع له . { وَأَرِنَا } عرفنا { مَنَاسِكَنَا } مناسك الحج ، أو الذبائح والنسك : العبادة ، والناسك : العابد ، أو من قولهم لفلان منسك أي مكان يعتاد التردد إليه بخير أو شر ، فسميت مناسك ، لأنه يتردد إليها في الحج والعمرة .
(1/106)

رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
{ رَسُولاً مِّنْهُمْ } محمداً صلى الله عليه وسلم { ءَايَاتِكَ } الحجج ، أو يبيّن لهم دينك . { الْكِتَابُ } القرآن . { وَالْحِكْمَةَ } السنة ، أو معرفة الدين ، والتفقه فيه ، والعمل به . { وَيُزَكِّيهِمْ } يطهرهم من الشرك ، أو يزكيهم بدينه إذا تابعوه ، فيكونون عند الله تعالى أزكياء .
(1/107)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
{ سَفِهَ نَفْسَهُ } فعل بها ما صار به سفيهاً ، أو سفه في نفسه فحذف الجار كقوله تعالى { وَلا تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] أو هلك نفسه وأوبقها ، قال المبرد وثعلب : سفه بالكسر يتعدى وبالضم لا يتعدى . { اصْطَفَيْنَاهُ } من الصفوة ، اخترناه للرسالة .
(1/108)

وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
{ وَوَصَّى بِهَآ } بالملة لتقدم ذكرها . { إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي لا تفارقوا الإسلام عند الموت .
(1/109)

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
{ كُونُواْ هُوداً } قالت اليهود : " كونوا هوداً " وقالت النصارى : كونوا نصارى . { بَلْ مِلَّةَ } بل نتبع ملة ، أو نهتدي بملة . أو الملة من الإملال يُملونها من كتبهم . { حَنِيفاً } مخلصاً ، أو متبعاً ، أو حاجاً ، أو مستقيماً ، أخذ الحنيف ، من الميل ، رجل أحنف : مالت كل واحدة من قدميه إلى الأخرى ، سمى به إبراهيم ، لأنه مال إلى الإسلام أو أخذ من الاستقامة ، وقيل للرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة ، وتطيراً من الميل ، كالسليم للديغ ، والمفازة للمهلكة .
(1/110)

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
{ بِمِثْلِ مَآ ءَامَنتُم } بما آمنتم به . { شِقَاقٍ } عداوة من البعد ، أخذ فلان في شق ، وفلان في شق تباعدا وشق فلان عصا المسلمين : خرج عليهم وتباعد منهم .
(1/111)

صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
{ صِبْغَةَ اللَّهِ } دين الله لظهوره كظهور الصبع على الثوب ، وكانت النصارى يصبغون أولادهم في مائهم تطهيراً لهم كالختان ، فرد الله تعالى عليهم بأن الإسلام أحسن ، أو صبغة الله تعالى خلقة الله لإحداثها كحدوث اللون على الثوب .
(1/112)

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
{ وَالأَسْبَاطَ } الجماعة الذين يرجعون إلى آب واحد ، من السبط وهو الشجر الذي يرجع بعضه إلى بعض . { شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ } هم اليهود كتموا ما في التوراة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/113)

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
{ السُّفَهَآءُ } اليهود ، أو المنافقون ، أو كفار قريش . { وَلاهُمْ } صرفهم ، والقبلة التي كانوا عليها بيت المقدس " صلى إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً " أو ثلاثة عشر ، أو تسعة أشهر ، أو عشرة " ثم نسخت بالكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة قد صلى من الظهر ركعتين فانصرف بوجهه إلى الكعبة " . وقال البراء : " كان في صلاة العصر بقباء ، فمر رجل على أهل المسجد فقال : أشهد لقد صليت مع الرسول صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت " وقبلة كل شيء ما قابل وجهه ، واستقبل بيت المقدس بأمر الله تعالى ووحيه لقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ } ، أو استقبله برأيه واجتهاده تأليفاً لأهل الكتاب ، أو أراد [ الله تعالى ] أن يمتحن العرب بصرفهم عن البيت الذي ألفوه للحج إلى بيت المقدس . { لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ } فحيثما أمر باستقباله فهو له .
(1/114)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
{ وَسَطاً } خياراً ، رجل واسط الحسب رفيعه قال :
هم وسَطٌ يرضى الإله بحكمهم ... إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
أو لتوسطهم بين اليهود والنصارى في الدين ، غَلَتْ النصارى في المسيح وترهبوا ، وقصرت اليهود بتبديل الكتاب ، وقتل الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه والكذب على الله تعالى ، أو عدلاً بين الزيادة والنقصان . { شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } بتبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم الرسالة ، أو تشهدون على الأمم بتبليغ رسلهم إليهم الرسالة اعتماداً على إخبار الله تعالى وهذا مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو محتجين فعبّر عن الاحتجاج بالشهادة . { شَهِيداً } لكم بالإيمان فتكون " على " بمعنى " اللام " ، أو يشهد أنه بلغكم الرسالة ، أو محتجاً . { لِنَعْلَمَ } ليعلم رسولي وحزبي ، والعرب تضيف فعل الأتباع إلى الرئيس والسيد ، فتح عمر رضي الله تعالى عنه سواد العراق ، وجبى خراجها أي أتباعه أو لنرى بوضع الرؤية موضع العلم وبالعكس ، أو لنميز أهل اليقين من أهل الشك ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ليعلموا أننا نعلم . { يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } لما حولت ارتد جماعة من المسلمين . { وَإِن كَانَتْ } التولية لكبيرة ، أو القبلة التي هي بيت المقدس ، أو الصلاة إلى بيت المقدس . { إِيمَانَكُمْ } صلاتكم إلى بيت المقدس ، سماها إيماناً ، لاشتمالها على نية وقول وعمل . نزلت لما سألوا عمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس { لَرَءُوفٌ } الرأفة : أشد الرحمة ، قال أبو عمرو بن العلا : الرأفة أكثر من الرحمة .
(1/115)

قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
{ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } تحول وجهك نحو السماء ، أو تقلب عينيك في النظر إليها . { تَرْضَاهَا } تختارها وتحبها ، لأنها قبلة إبراهيم ، أو كراهة لموافقة اليهود لما قالوا : " يتبع قبلتنا ويخالفنا في ديننا " { شَطْرَ المَسْجِدِ } نحوه ، والشطر في الأضداد ، شطر إلى كذا أقبل نحوه ، وشطر عنه أعرض عنه وبَعُدَ ، رجل شاطر ، لأخذه في نحو غير الاستواء . والمسجد الحرام : الكعبة ، أمر بالتوجه إلى حيال الميزاب ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " البيت كله قبلة ، وقبلة البيت الباب " { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ } من الأرض ، واجه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الأول وواجه الأمة بالأمر الثاني ، وكلاهما يعم . { أُوتُواْ الكِتَابَ } اليهود والنصارى { لَيَعلَمُونَ أَنَّهُ } تحويل القبلة إلى الكعبة .
(1/116)

وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
{ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم } خوطب به والمراد أمته ، أو بيّن حكم ذلك لو وقع وإن كان غير واقع .
(1/117)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } اليهود والنصارى . { يَعرِفُونَهُ } يعرفون التحويل ، أو يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة { فَرِيقاً } علماءهم وخواصهم . { الحَقَّ } استقبال الكعبة ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/118)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
{ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ } استقبال الكعبة ، لا ما ذكرته اليهود من قبلتهم { المُمْتَرِينَ } الشاكِّين ، خوطب به والمراد أمته ، امترى بكذا : اعترضه اليقين تارة والشك أخرى يدافع أحدهما بالآخر .
(1/119)

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
{ وَلِكُلٍّ } أهل ملة { وِجْهَةُ } قبلة ، أو صلاة { هُوَ مُوَلّيهَا } أي المصلي ، أو الله يوليه إليها ، ويأمره باستقبالها . { فَاسْتَبِقُواْ الخَيرَاتِ } سارعوا إلى الأعمال الصالحة ، أو لا تغلبكم اليهود على قبلتكم بقولهم : " إن اتبعتم قبلتنا اتبعناكم " . { يَأتِ بِكُمُ } يوم القيامة جميعاً . { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ } من إعادتكم بعد الموت والبلى .
(1/120)

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
{ وَمِن حَيْثُ } لما حرضت اليهود وقالوا : " ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتابعك ، أكد الله تعالى الأمر باستقبالها بقوله : ثانياً { وَمِن حَيْثُ خَرَجتَ } ، ثم أكده ثالثاً ليخرج من قلوبهم ما أنكروه من التحويل فالأوامر الثلاثة ملزمة للتوجه إلى الكعبة إلا أن الأول : أفاد النسخ ، والثاني : أفاد التحويل إلى الكعبة لا ينسخ بقوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } والثالث : أفاد أنه لا حجة لأحد عليهم .
(1/121)

وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
{ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } فإنهم يحتجون بحجة باطلة كقوله تعالى { حُجَّتُهُهمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الشورى : 16 ] فسماها حجة ، أو إلاَّ بمعنى " بعد " كقوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وكقوله تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] بمعنى " بَعْد فيهما " ، والذين ظلموا : قريش واليهود ، قالت قريش بعد التحويل : " قد علم أنا على الهدى " ، وقالت اليهود : " إن يرجع عنها تابعناه " . { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } في المباينة ، { وَاخْشَوْنِى } في المخالفة .
(1/122)

كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
{ ءَايَاتِنَا } القرآن . { وَيُزَكِّيكُمْ } يطهركم من الشرك ، أو يأمركم بما تصيرون به عند الله تعالى أزكياء . { وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } القرآن ، أو ما في الكتب السالفة من أخبار القرون . { وَالْحِكْمَةَ } السنة ، أو مواعظ القرآن . { مَّا لَمْ تَكُونُوا } تعلمون من أمر الدين والدنيا .
(1/123)

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
{ فَاذْكُرُونِى } بالشكر . { أَذكُرْكُمْ } بالنعمة ، أو { اذكروني } بالقبول { أَذْكُرْكُمْ } بالجزاء .
(1/124)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
{ بِالصَّبْرِ } على أوامر الله تعالى " أو الصوم " .
(1/125)

وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
{ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَآءٌ } النفوس عند الله تعالى منعمو الأجسام وإن كانت أجسامهم كأجسام الموتى أو ليسوا أمواتاً بالضلال بل أحياء بالهدى . نزلت لما قالوا في قتلى بدر وأُحُد مات فلان وفلان .
(1/126)

وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } لما دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف عليه الصلاة والسلام أجابه بقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } يا أهل مكة . { الْخَوْفِ } الفزع في القتال . { وَالْجُوعِ } والجدب ، ونقص الأنفس : بالقتل والموت .
(1/127)

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
{ إذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ } في نفس ، أو أهل ، أو مال . { إِنَا لِلَّهِ } ملكه فلا يظلمنا بما يصنع بنا . { رَاجِعُونَ } بالبعث .
(1/128)

أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
{ صَلَوَاتٌ } يتلو بعضها بعضا ، والصلاة من الله تعالى الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الناس الدعاء وعطف الرحمة على الصلوات لاختلاف اللفظ .
(1/129)

إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
{ الصَّفَا } جمع صفاة ، وهي الحجارة البيض . { وَالْمَرْوَةَ } حجارة سود ، والأظهر أن الصفا : الحجارة الصلبة التي لا تنبت والمروة : الحجارة الرخوة ، وقد قيل ذُكِّر الصفا باسم إساف ، وأُنثت المروة بنائلة . { شَعَآئِرِ اللَّهِ } التي جعلها لعبادته معلماً ، أو أنه أشعر عباده وأخبرهم بما عليهم من الطواف بهما . { حَجَّ } الحج : القصد ، أو العود مرة بعد أخرى ، لأنهم يأتون البيت قبل عرفة وبعدها للإفاضة ، ثم يرجعون إلى منى ، ثم يعودون إليه لطواف الصَّدَر ، والعمرة : القصد ، أو الزيارة . { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أّن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية تعظيماً لإساف ونائلة تحرجوا بعد الإسلام أن يضاهوا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية فنزلت . وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن مسعود رضي الله عنه { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أّن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } فلذلك أسقط أبو حنيفة رحمة الله تعالى السعي ، ولا حجة في ذلك ، لأن " لا " صلة مؤكدة ك { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] { وَمَن تَطَوَّعَ } بالسعي بينهما عند من لم يوجبه ، أو من تطوع بالزيادة على الواجب ، أو من تطوع بالحج والعمرة بعد أدائهما .
(1/130)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
{ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ } رؤساء اليهود : كعب بن الأشرف وابن صوريا ، وزيد بن التابوه . { الْبَيِّنَاتِ } الحجج الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { وَالْهُدَى } الأمر باتباعه ، أو كلاهما واحد يراد بهما ما أبان نبوته وهدى إلى اتباعه . { بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ } أي القرآن . { الَّلاعِنُون } ما في الأرض من جماد وحيوان إلاَّ الثقلين ، أو المتلاعنان إذا لم يستحق اللعنة واحد منهما رجعت على اليهود ، وإن استحقها أحدهما رجعت عليه ، أو البهائم إذا يبست الأرض قالوا : هذا بمعاصي بني آدم . أو المؤمنون من الثقلين والملائكة فإنهم يلعنون الكفرة .
(1/131)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
{ تَابُوا } أسلموا . { وَبَيَّنُواْ } نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . { أَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أقبل توبتهم .
(1/132)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
{ لَعْنَةُ اللَّهِ } عذابه ، واللعنة من العباد : الطرد . { وَالْنَّاسِ أَجْمَعِينَ } أراد به غالب الناس ، لأن قومهم لا يعلنونهم ، أو أراد يوم القيامة إذ يكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً .
(1/133)

وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
{ وَإِِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا ثاني له ولا نظير ، أو إله جميع الخلق واحد بخلاف ما فعلته عبدة الأصنام فإنهم جعلوا لكل قوم إلهاً غير إله الآخرين . { الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } رَغَّبهم بذكر ذلك في طاعته وعبادته .
(1/134)

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
{ إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ } بغير عمد ولا عَلاَّقة ، وشمسها وقمرها ونجومها ، { وَالأَرْضِ } بسهلها ، وجبلها ، وبحارها ، وأنهارها ، ومعادنها ، وأشجارها { وَاخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } بإقبال أحدهما ، وإدبار الآخر . { وَالْفُلْكِ } باستقلالها وبلوغها إلى مقصدها ، وجمع الفلك ومفردها بلفظ واحد ، ويذكَّر ويؤنَّث . { مِن مَّآءٍ } مطر يجيء [ غالباً ] عند الحاجة إليه ، وينقطع إذا استُغني عنه . { فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ } بإنبات أشجارها وزروعها ، أو بإجراء أنهارها وعيونها ، فيحيا بذلك الحيوان الذي عليها . { دَآبَّةٍ } سمي الحيوان بذلك لدبيبه على وجهها ، والآية بعد القدرة على إنشائها فيها تباين خلقها ، واختلاف منافعها ، ومعرفتها بمصالحها . { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } جمع ريح أصلها " أرواح " .
إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به آلُ مي هاج شوقي هبوبُها
وتصريفها : انتقال الشمال جنوباً والصبا دَبورا ، أو ما فيها من الضر والنفع ، شريح : ما هاجت ريح قط إلا لسقم صحيح ، أو شفاء سقيم . { الْمُسَخَّرِ } المذلل . وآيته ابتداء نشوءه وتلاشيه ، وثبوته بين السماء والأرض ، وسيره إلى حيث أراده منه .
(1/135)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
{ أَندَاداً } أمثالاً يراد بها الأصنام . { يُحِبُّونَهُمْ } مع عجزهم كحبهم لله مع قدرته . { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } من حب أهل الأوثان لأوثانهم .
(1/136)

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
{ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ } وهم السادة والرؤساء من تابعيهم على الكفر ، أو الذين اتبعوا : الشياطين ، وتابعوهم الإنس ، ورأى التابع والمتبوع العذاب . { الأَسْبَابُ } تواصلهم في الدنيا ، أو الأرحام ، أو الحلف الذي كان بينهم في الدنيا ، أو أعمالهم التي عملوها فيها ، أو المنازل التي كانت لهم فيها .
(1/137)

وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
{ كَرَّةً } رجعة إلى الدنيا . { أَعْمَالَهُمْ } التي أحبطها كفرهم ، أو ما انقضت به أعمارهم من المعاصي أن لا يكون مصروفاً إلى الطاعة ، الحسرة : شدة الندامة على فائت .
(1/138)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
{ كُلُواْ } نزلت في خزاعة وثقيف وبني مدلج لما حرموه من الأنعام والحرث . { خُطُوَاتِ } جمع خطوة؛ أعماله ، أو خطاياه ، أو طاعته ، أو النذر في المعاصي .
(1/139)

إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
{ بِالسُّوءِ } بالمعاصي لمساءة عاقبتها . { وَالْفَحْشَآءِ } الزنا ، أو المعاصي أو كل ما فيه حد لفحشه وقبحه . { وَأّن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } من تحريم ما لم يرحمه ، أو أن له شريكاً .
(1/140)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
{ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } في تحليل ما حرمتموه { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ } آباءنا في تحريمه .
(1/141)

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فيما يوعظون به كمثل البهيمة التي تُنَعق فتسمع الصوت ولا تفهم معناه ، أو مثلهم في دعائهم آلهتهم كمثل راعي البهيمة تسمع صوته ولا تفهمه . { صُمُّ } عن الوعظ . { بُكْمٌ } عن الحق . { عُمْىٌ } عن الرشد ، والعرب تسمي من سمع ما لم يعمل به أصم ، قال :
أصم عما ساءه سميع ...
(1/142)

إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
{ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ } قصّر داود بن علي التحريم على اللحم ، وعداه الجمهور إلى سائر أجزائه . { أُهِلَّ بِهِ } سمى الذبح إهلالاً ، لأنه كانوا يجهرون عليه بأسماء آلهتهم ، فسمي كل ذبح إهلالاً ، كما سمي الإحرام إهلالاً للجهر للتلبية وإن لم يجهر بها { لِغَيْرِ اللَّهِ } ذبح لغيره من الأصنام . أو ذكر عليه اسم غيره . { اضْطُرَّ } أكره ، أو خاف على نفسه لضرورة دعته إلى أكله قاله الجمهور . { غَيْرَ بَاغٍ } على الإمام { وَلاَ عَادٍ } على الناس بقطع الطريق ، أو { غَيْرَ بَاغٍ } بأكله فوق حاجته . أو بأكله مع وجود غيره ، أو { غَيْرَ بَاغٍ } بأكله تلذذاً { وَلاَ عَادٍ } بالشبع ، وأصل البغي طلب الفساد ، ومنه البغي للزانية .
(1/143)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
{ الِّذِينَ يَكْتُمُونَ } علماء اليهود ، كتموا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبوته . { ثَمَناً } الرشا التي أخذوها على كتم رسالته ، وتغيير صفته ، وسماه قليلاً ، لانقطاع مدته ، وسوء عاقبته ، أو لقلته في نفسه . { إِلاَّ النَّارَ } سمى مأكولهم ناراً ، لأنه سبب عذابهم بالنار ، أو لأنه يصير يوم القيامة في بطونهم ناراً ، فسماه بما يؤول إليه . { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ } ولا يُسمعهم كلامه ، أو لا يُرسل إليهم بالتحية مع الملائكة ، أو عبَّر بذلك عن غضبه عليهم ، فلان لا يكلم فلاناً إذا غضب عليه { وَلا يُزَكِّيهِمْ } لا يثني عليهم ، أو لا يصلح أعمالهم الخبيثة .
(1/144)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
{ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } فما أجرأهم عليها ، أو على عمل يؤدي إليها ، أو أي شيء أصبرهم عليها ، أو ما أبقاهم عليها ، ما أصبر فلاناً على الحبس ما أبقاه فيه .
(1/145)

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
{ لَّيْسَ الْبِرَّ } الصلاة وحدها ، أو خاطب به اليهود والنصارى ، لصلاة اليهود إلى الغرب ، والنصارى إلى الشرق . { وَلكِنَّ الْبِرَّ } إيمان من آمن ، أو برّ من آمن بالله ، فأقر بوحدانيته { وَالْمَلآئِكَةِ } بما أُمروا به من كَتْب الأعمال . { وَالْكِتَابِ } القرآن { وَالنَّبِيِّنَ } فلا يكفر ببعضهم ويؤمن ببعض . { عَلَى حُبِّهِ } حب المال فيكون صحيحاً شحيحاً . ذهب الشعبي والسدي إلى وجوب ذلك خارجاً عن الزكاة ، فروى الشعبي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إن في المال حقاً سوى الزكاة وتلا هذه الآلية " ، والجمهور على ان الآية محمولة على الزكاة ، أو على التطوع ، وأنه لا حق في المال سوى الزكاة . { ذَوِى الْقُرْبَى } إن حُمل على الزكاة شَرَط فيهم الأوصاف المعتبرة في الزكاة وإن حُمل على التطوع فلا . { وَالْيَتَامَى } كل صغير لا أب له ، وفي اعتبار فقرهم قولان . { وَالْمَسَاكِينَ } مَنْ عُدِم قدر الكفاية . وفي اعتبار إسلامهم قولان . { وَابْنَ السَّبِيلِ } فقراء المسافرين . { وَالسَّآئِلِينَ } الذين ألجأهم الفقير إلى السؤال . { وَفِى الرِّقَابِ } المكاتبون أو عبيد يُعتقون . { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ } إلى الكعبة بواجباتها في أوقاتها . { وَءَاتَى الزَّكاةَ } لمستحقها . { بِعَهْدِهِمْ } بنذرهم لله تعالى ، أو العقود التي بينهم وبين الناس . { الْبَأْسَآءِ } الفقر . { وَالضَّرَّآءِ } السقم . { وَحِينَ الْبأْسِ } القتال . وهذه الأوصاف مخصوصة بالأنبياء لتعذرها فيمن سواهم . أو هي عامة في الناس كلهم .
(1/146)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
{ كُتِبَ } فرض .
يا بنت عمي كتاب الله أخرجني ... عنكم فهل أمنعن الله ما فعلا
{ الْقِصَاصُ } مقابلة الفعل بمثله من قص الأثر . نزلت في قبيلة من العرب أعزاء لا يقتلون بالعبد منه إلا السيد ، وبالمرأة إلا الرجل ، أو في فريقين اقتتلا فقتل منهما جماعة ، فقصاص الرسول صلى الله عليه وسلم دية الرجل بدية الرجل ، ودية المرأة بدية المرأة ، ودية العبد بدية العبد ، أو فرض في ابتداء الإسلام قتل الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، ثم نسخ بقوله تعالى : { النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو هو أمر بمقاصة دية الجاني من دية المُجنى عليه ، فإذا قتل الحر عبداً فلسيده القصاص ، ثم يقاصص بقيمة العبد من دية الحر ويدفع إلى ولي الحر باقي ديته ، وإن قتل العبد حراً فقتل به قاصص ولي الحر بقيمة العبد وأخذ باقي دية الحر ، وإن قتل الرجل امرأة فلوليها قتله ويدفع نصف الدية إلى ولي الرجل ، وإن قتلت المرأة رجلاً فقتلت به أخذ ولي الرجل نصف الدية قاله علي رضي الله تعالى عنه { فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } هو أن يطلب الولي الدية بالمعروف ، ويؤديها القاتل بإحسان { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ } أي فضل . إذا قلنا نزلت في فريقين اقتتلا ، وتقاصا ديات القتلى ، فمن بقيت له بقية فليتبعها بمعروف وليؤد من عليه بإحسان ، وعلى قول علي رضي الله عنه يؤدي الفاضل بعد مقاصصة الديات بمعروف ، فالاتباع بمعروف عائد إلى ولي القتيل ، والأداء بإحسان عائد إلى ولي الجاني ، أو كلاهما عائد إلى الجاني الدية بمعروف وإحسان { تَخْفِيفٌ } تخير ولي الدم بين القود والدية والعفو ، ولم يكن ذلك لأحد قبلنا ، كان على أهل التوراة القصاص أو العفو ولا أرش ، وعلى أهل الإنجيل الأرش أو العفو ولا قود . { فَمَنِ اعْتَدَى } فقتل بعد أخذ الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بالقصاص ، أو يقتله الإمام حتماً ، أو يعاقبه السلطان ، أو باسترجاع الدية منه ولا قود عليه .
(1/147)

وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } إذا ذكره الظالم كف عن القتل ، أو وجوب القصاص على القاتل وحده حياة له وللمعزوم على قتله فيحييان جميعاً وهذا أعم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أن تقلتوا فيقتص منكم .
(1/148)

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
{ خَيْراً } مالاً اتفاقاً ها هنا ، قال مجاهد : " الخير المال في جميع القرآن { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] { أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير } [ ص : 32 ] { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [ النور : 33 ] أراد المال في ذلك { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } [ هود : 84 ] بغنى ومال " . كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبة قبل نزول المواريث ، فلما نزلت المواريث نسخ وجوبها عند الجمهور ، أو نسخ منها الوصية لكل وارث وبقي الوجوب فيمن لا يرث من الأقارب . والمال الذي يجب عليه أن يوصي منه ألف درهم ، أو من ألف إلى خمسمائة ، أو يجب في كل قليل وكثير ، فلو أوصى بثلثه لغير قرابته رُد الثلث على قرابته ، أو يُرد ثلث الثلث على القرابة وثلثا الثلث للمُوصى له ، أو ثلثاه للقرابة وثلثه للمُوصى له . { عَلَى الْمُتَّقِينَ } التقوى في أن يقدم الأحوج فالأحوج من أقاربه .
(1/149)

فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
{ فَمَن بَدَّلَهُ } غَيَّرَ الوصية بعد ما سمعها . إنما ذكِّر ، لأن الوصية قول .
(1/150)

فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
{ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } الجنف الخطأ ، والإثم : العمد ، أو الجنف : الميل ، والإثم : أَثَرة بعضهم على بعض ، أصل الجنف الجور والعدول عن الحق { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ } فمن حضر موصياً يجور في وصيته خطأ أو عمداً فأصلح بينه وبين ورثته بإرشاده إلى الحق فلا إثم عليه ، أو خاف الوصي جنف المُوصي فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى له بردّ الوصية إلى العدل ، أو من خاف من جنف الموصي على ورثته بإعطاء بعض ومنع بعض في مرض موته فأصلح بين ورثته ، أو من خاف جنفه فيما أوصى به لآبائه وأقاربه على بعضهم لبعض فأصلح بين الآباء والقرابة ، أو من خاف جنفه في وصيته لغير وارثه بما يرجع نفعه إلى وارثه فأصلح بين ورثته فلا إثم .
(1/151)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
{ الصِّيَامُ } الصوم عن كل شيء الإمساك عنه ، ويقال عند الظهيرة صام النهار ، لإبطاء سير الشمس حتى كأنها أمسكت عنه . { كَمَا كُتِبَ } شبّه صومنا بصومهم في حكمه وصفته دون قدره ، كانوا يصومون من العتمة إلى العتمة ولا يأكلون بعد النوم شيئاً ، وكذا كان في الإسلام حتى نسخ ، أو في شبه عدده ، فرض على النصارى شهر مثلنا فربما وقع في القيظ فأخروه إلى الربيع وكفروه بعشرين يوماً زائدة ، أو شبّه بعدد صوم اليهود ثلاثة أيام من كل شهر وعاشوراء ، فصامهن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة سبعة عشر شهراً ثم نسخن برمضان . { الَّذِينَ من قَبْلِكُمْ } جميع الناس ، أو اليهود ، أو أهل الكتاب . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } محظورات الصوم ، أو الصوم سبب التقوى لكسره الشهوات .
(1/152)

أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
{ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } هي شهر رمضان عند الجمهور ، أو الأيام البيض عند ابن عباس رضي الله عنهما ثم نسخت برمضان ، وهي الثاني عشر وما يليه ، أو الثالث عشر وما يليه على الأظهر . { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } يجب القضاء عند داود على المسافر والمريض سواء صاما أو أفطرا ، وعند الجمهور لا يجب القضاء إلا على من أفطر .
{ يُطِيقُونَهُ } كانوا مخيّرين بين الصوم والفطر مع الإطعام بدلاً من الصوم ، ثم نسخ بقوله تعالى { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } ، أو بقوله تعالى { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أو وعلى الذين كانوا يطيقونه شباباً ثم عجزوا بالكبر أن يفطروا ويفتدوا ، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { يُطِيقُونَهُ } يُكلفونه فلا يقدرون عليه كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع الفدية ولا قضاء عليهم لعجزهم . { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } بالصوم مع الفدية ، أو بالزيادة على مسكين واحد .
(1/153)

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ } الشهر من الشهرة ، شهر سيفه أخرجه . { رَمَضَانَ } قيل أُخذ من الرمضاء لما كان يوجد فيه من الحر حتى يرمض الفصال ، وكره مجاهد أن يقال " رمضان " ، قائلاً لعله من أسماء الله تعالى . { أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، ثم نَزَلَ منجماً بعد ذلك ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " نزلت صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست مضين منه والإنجيل لتسع عشرة خلت منه ، والفرقان لأربع وعشرين منه " أو { أُنزِلَ فِيهِ } في فرض صومه . { هُدىً لِّلنَّاسِ } رشاداً . { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى } بينات من الحلال والحرام ، وفرقان بين الحق والباطل . { فَمَن شَهِدَ } أول الشهر مقيماً لزمه صومه وليس له أن يفطر في بقيته ، أو فمن شهده مقيماً فليصم ما شهد منه دون ما لم يشهده إلا في السفر ، أو فمن شهده عاقلاً مكلفاً فليصمه ولا يسقط صوم بقيته بالجنون . { مَرِيضاً } مرضاً لا يطيق الصلاة معه قائماً ، أو ما يقع عليه أسم المرض ، أو ما يزيد بسبب الصوم زيادة غير متحملة { أَوْ عَلَى سَفَرٍ } يبلغ يوماً وليلة ، أو ثلاثة أيام ، أو ما يقع عليه الإسم ، والفطر مباح عند الجمهور ، وواجب عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقال : " اليسر الإفطار في السفر ، والعسر الصوم فيه " { وَلِتُكْمِلُواْ } عدة ما أفطرتم منه بالقضاء من غيره . { وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ } تكبير الفطر حين يهل شوال . { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } من صوم الشهر .
(1/154)

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى } قيل للرسول صلى الله عليه وسلم : " أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه " أو سئل عن أي ساعة يدعون فيها ، أو سئل كيف ندعوا ، أو قال قوم : لما نزل : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] إلى أين ندعوا فنزلت . { قَرِيبٌ } الإجابة ، أو من سماع الدعاء . { أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } اسمع فعبّر عن السماع بالإجابة ، أو أُجيبه إلى ما سأل إذا كان مصلحة مستكملاً لشروط الطلب ، وتجب إجابته كثواب الأعمال ، فالدعاء عبادة ثوابها الإجابة ، أو لا تجب . وإن قصّر في شروط الطلب فلا تجب إجابته وفي جوازها قولان ، وإن كان سؤاله مفسدة لم تجز إجابته . { فَلْيَسْتَجِيبُواْ } فليجيبوني ، أو الاستجابة طلب الموافقة للإجابة ، أو فليستجيبوا لي بالطاعة ، أو فليدعوني .
(1/155)

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
{ الرَّفَثُ } من فاحش القول ،
عن اللغا ورفث التكلم ... عبّر به عن الجماع اتفاقاً ، لأن ذكره في غير موضعه فحش . { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد منهما ببشرته إلى صاحبه ، أو لاستتار أحدهما بالآخر ، أو سكن { الليل لِبَاساً } [ النبأ : 10 ] سكناً . { تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ } بالجماع والأكل والشرب ، أُبيحا قبل النوم وحرِّما بعده . فطلب عمر زوجته فقالت : قد نمت فظنها تعتل فواقعها ، وجاء قيس بن صرمة من عمله في أرضه فطلب الأكل فقالت زوجته نسخن لك شيئاً فغلبته عيناه ، ثم قدمت إليه الطعام فامتنع ، فلما أصبح لاقى جهداً وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما جرى لهما فنزلت . . . . { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } لما كان من مخالفتكم . { وَعَفَا } عن ذنوبكم ، أو عن تحريم ذلك بعد النوم . { بَاشِرُوهُنَّ } جامعوهن . { مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } الولد ، أو ليلة القدر ، أو ما رخص فيه . { الْخَيْطُ الأَبْيَضُ } قال علي رضي الله تعالى عنه : " الخيط الأبيض الشمس " . قال حذيفة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل . فقيل لحذيفة بعد الصبح فقال : هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمس " والإجماع على خلاف هذا ، أو الأبيض الفجر الثاني والأسود سواد الليل قبل الفجر الثاني ، كان عدي يراعي خيطاً أبيض وخيطاً أسود جعلهما تحت وسادته فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : " إنك لعريض الوساد ، إنما هو بياض النهار وسواد الليل ، أو كان بعضهم يربط في رجليه خيطاً أبيض وخيطاً أسود ولا يزال يأكل حتى يتبينا له فأنزل الله عز وجل { مِنَ الْفَجْرِ } ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار " { الْفَجْرِ } لانبعاث ضوئه : من فجر الماء يفجر فجراً : انبعث وجرى { تُبَاشِرُوهُنَّ } بالقبل واللمس ، أو بالجماع عند الأكثرين .
(1/156)

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
{ بِالْبَاطِلِ } بالغصب والظلم ، أو القمار والملاهي . { وَتُدْلُواْ } تصيروا ، أدليت الدلو أرسلته . { أَمْوَالَكُم } أموال اليتامى ، أو الأمانات والحقوق التي إذا جحدها قُبِلَ قوله فيها .
(1/157)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
{ الأَهِلَّةِ } من الاستهلال برفع الصوت عند رؤيته . " وهو هلال إلى ليلتين ، أو إلى ثلاث ، أو إلى أن يحجر بخطة دقيقة ، أو إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل فيسمى حنيئذٍ قمراً " .
{ مَوَاقِيتُ } مقادير لأوقات الديون ، والحج . { تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا } كنى به عن إيتان النساء في أدبارهن ، لأن المرأة يأوى إليها كما يأوى إلى البيت ، أو هو مثل لإتيان البيوت من وجهها ولا يأتونها من غير وجهها ، أو كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطاً من بابه فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار رفاعة الأنصاري فجاء فتسور الحائط على الرسول صلى الله عليه وسلم فلما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من الباب خرج معه رفاعة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما حملك على هذا " فقال : " رأيتك خرجت منه " ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إني رجل أحمس " ، فقال رفاعة : " إن تكن رجلاً أحمس فإن ديننا واحد فنزلت . . . . . " وقريش يُسمون الحمس لتحمسهم في دينهم ، والحماسة : الشدة .
(1/158)

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
{ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذه أول آية نزلت بالمدينة في قتال من قاتل خاصة { وَلا تَعْتَدُوَاْ } بقتال من لم يقاتل . ثم نسخت ب { بَرَآءَةٌ } أو نزلت في قتال المشركين كافة { وَلا تَعْتَدُواْ } بقتل النساء والصبيان ، أو لا تعتدوا بالقتل على غير الدين .
(1/159)

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
{ ثَقِفْتُمُوهُمْ } ظفرتم بهم . { وَالْفِتْنَةُ } الكفر ها هنا اتفاقاً لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة . { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } نهوا عن قتال أهل الحرم إلا أن يبدءوا بالقتال ثم نسخ بقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] ، أو هي محكمة فلا يُقَاتل أهل الحرم ما لم يبدءوا بالقتال .
(1/160)

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
{ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } لما اعتمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة فَصُدًّ ، فصالح على القضاء في العام المقبل ، فقضى في ذي القعدة نزل { الشَّهْرُ الْحَرَامُ } وهو ذي القعدة المقضي فيه { بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } المصدود فيه ، أُخذ ذو القعدة من قعودهم عن القتال فيه لحرمته ، { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } لما فخرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم حين صدته اقتص الله تعالى له ، أو نزلت لما قال المشركون : " أَنُهِيتَ عن قتالنا في الشهر الحرام ، فقال : " نعم " . فأرادوا قتاله في الشهر الحرام فقيل له : إن قاتلوك في الشهر الحرام فاستحل منهم ما استحلوا منك .
(1/161)

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
{ سَبِيلِ اللَّهِ } الجهاد . { وَلا تُلْقُوأ بِأَيْدِكُمْ } الباء زائدة ، أو غير زائدة أي لا تُلقوا أنفسكم بأيديكم . { التَّهْلُكَةِ } الهلاك لا تتركوا النفقة في الجهاد فتهلكوا بالإثم ، أو لا تخرجوا بغير زاد فتهلكوا بالضعف ، أو لا تيأسوا من المغفرة عن المعصية فلا تتوبوا ، ولا تتركوا الجهاد فتهلكوا ، أو لا تقتحموا القتال من غير نكاية في العدو ، أو هو عام محمول على ذلك كله . { وَأَحْسِنُواْ } الظن بالقدر ، أو بأداء الفرائض أو عودوا بالإحسان على المعدم .
(1/162)

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } أتموا كل واحد منهما بمناسكه وسننه ، أو الإحرام بهما إفراد من دويرة الاهل ، أو أن يخرج من دويرة أهله لأجلهما لا يريد غيرهما من كسب ولا تجارة ، أو إتمامهما واجب بالدخول فيهما ، أو إتمام العمرة الإحرام بها في غير أشهر الحج ، وإتمام الحج الإتيان بمناسكه بحيث لا يلزمه دم جبران نقص . { أُحْصِرْتُمْ } بالعدو دون المرض ، أو كل حابس من عدو أو مرض أو عذر { فَمَا اسْتَيْسَرَ } بدنة صغيرة أو كبيرة ، أو هو شاة عند الأكثرين . { الْهَدْى } من الهدية ، أو من هديته إذا سقته إلى الرشاد . { مَحِلَّهُ } محل الحصر حيث أُحصر من حل أو حرم ، أو الحرم ، أو مَحِله : تحلله بأداء نسكه ، فليس لأحد بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحلل من إحرامه فإن كان إحرامه عمرة لم يفت ، وإن كان حجاً ففاته قضاه بالفوات بعد تحلله منه . { صٍيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ } صيام ثلاثة أيام ، صدقة : إطعام ستة مساكين ، أو صيام عشرة أيام ، والصدقة أطعام عشرة ، والنسك شاة . { أَمِنتُمْ } من الخوف ، أو المرض ، { تَمَتَّعَ } بفسخ الحج ، أو فعل العمرة في أشهر الحج ثم حج في عامه ، أو إذا تحلل الحاج بالإحصار ثم عاد إلى بلده متمتعاً ثم قضى الحج من قابل فقد صار متمتعاً بإحلاله بين الإحرامين . { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } شاة أو بدنة . { ثلاَثَةِ أَيَّامٍ في الْحَجِّ } بعد الأحرام به وقبل يوم النحر ، أو في أيام التشريق . ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج أو يجوز في عشر ذي الحجة ولا يجوز قبله ، أو يجوز في أشهر الحج ولا يجوز قبلها . { رَجَعْتُمْ } من حجكم ، أو إلى أهلكم في أمصاركم . { كَامِلَةٌ } تأكيد ، أو كاملة من الهدي ، أو كملت أجره كمن أقام على الإحرام فلم يتحلل منه ولم يتمتع ، أو هو خبر بمعنى الأمر أي أكملوا صيامها . { حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أهل الحرم ، أو من بين مكة والمواقيت ، أو أهل الحرم ومن قرب منه كأهل عُرنة وعَرفة والرجيع ، أو من كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة .
(1/163)

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } شوال وذو القعدة وذو الحجة ، أو شوال ، وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة ، أو شوال وذو القعدة وعشر ليالي من ذي الحجة إلى طلوع الفجر يوم النحر . { فَرَضَ } أحرم ، أو أَهَلَّ بالتلبية . { رَفَثَ } الجماع ، أو الجماع والتعرض له بمواعدة ومداعبة أو الإفحاش بالكلام كقوله : " إذا حللت فعلت بكِ كذا من غير كناية " . { وَلا فُسُوقَ } منهيات الإحرام ، أو السباب ، أو الذبح للأصنام ، أو التنابز بالألقاب أو المعاصي كلها . { وَلا جِدَالَ } السباب ، أو المِراء والاختلاف أيهم أتم حجاً ، أو أن يجادل صاحبه حتى يغضبه ، أو اختلاف كان يقع بينهم في اليوم الذي يكون فيه حجهم ، أو اختلافهم في مواقف الحج أيهم أصاب موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو لا جدال في وقته لاستقراره وبطلان النسيء الذي كانوا ينسئونه فربما حجوا في صفر أو ذي القعدة . { وَتَزَوَّدُوأ } الأعمال الصالحة ، أو نزلت في قوم من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ، ويقولون نحن المتوكلون ، فنزل { وَتَزَوَّدُواْ } الطعام فإن خيراً منه التقوى .
(1/164)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
{ فَضْلاً } كانت ذو المجاز وعكاظ متجراً في الجاهلية فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } . { أَفَضْتُم } أسرعتم ، أو رجعتم من حيث بدأتم . { عَرَفَاتٍ } جمع عرفة ، أو اسم واحد وإن كان بلفظ جمع ، قاله الزجاج سميت به ، لأن آدم عليه الصلاة والسلام عرف بها حواء بعد هبوطهما ، أو عرفها عند رؤيتها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما تقدم له من وصفها ، أو لتعريف جبريل عليه الصلاة والسلام مناسكهم ، أو لعلو الناس على جبالها ، لأن ما علا عرفة وعرفات ، ومنه عرف الديك . { الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } سمي به لأن الدعاء فيه والمقام من معالم الحج .
(1/165)

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
{ أَفَاضَ النَّاسُ } إبراهيم عليه الصلاة والسلام عبّر عن الواحد بلفظ الجمع ، كقوله { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نُعيم بن مسعود ، أو أمر قريشا أن يفيضوا من حيث أفاض الناس وهم العرب كانوا يقفون بعرفة ، لأن قريشاً كانوا يقفون بمزدلفة ، ويقولون نحن أهل الحرم فلا نخرج منه فنزلت { وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ } من ذنوبكم ، أو من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة .
(1/166)

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
{ مَّنَاسِكَكُمْ } الذبائح ، أو ما أُمرتم به في الحج ، والمناسك المتعبدات . { فاذْكُرُواْ اللَّهَ } بالتكبير أيام منى ، أو بجميع ما سُّن من الأدعية بمواطن الحج كلها . { كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } كانوا إذا فرغوا من الحج جلسوا بمنى وافتخروا بمناقب آبائهم فنزلت ، أو كذكر : الصغير لأبيه إذا قال : يا بابا ، أو كان أحدهم يقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عظيم القبة كثير المال فاعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه .
(1/167)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
{ حَسَنَةً } العافية في الدنيا الآخرة ، أو نعيمهما قاله : الأكثر ، أو المال في الدنيا والجنة في الآخرة ، أو العلم والعمل في الدنيا والجنة في الآخرة .
(1/168)

وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
{ مَّعْدُودَاتٍ } أيام منى إجماعاً وإن شرك بعضهم بين بعضها وبين الأيام المعلومات . { تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ } النَّفْر الأول . { وَمَن تَأَخَّرَ } النَّفْر الثاني . { فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ } في تعجله ولا تأخره ، أو يغفر لكل واحد منهما ، أو لا إثم عليه إن أتقى فيما بقي من عمره ، أو لا إثم عليه إن اتقى قتل الصيد في الثالث من أيام التشريق ، أو إن اتقى ما نُهِي عنه غُفر له ما تقدم من ذنبه . { وَاذْكُرُواْ اللَّهَ } بالتكبير في الأيام المعدودات من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر آخر أيام التشريق ، أو من الفجر يوم عرفة إلى العصر يوم النحر ، أو من الظهر يوم النحر إلى بعد العصر آخر أيام التشريق ، أو بعد صلاة الصبح من آخر التشريق .
(1/169)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
{ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ } من الجميل والخير ، أو من حب الرسول صلى الله عليه وسلم والرغبة في دينه . { وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ } يقول اللهم اشهد عليَّ به ، أو في قلبه ما يشهد الله أنه بخلافه ، أو يستشهد الله على صحة ما في قلبه والله يعلم أنه بخلافه . { أَلَدُّ } الألد : الشديد الخصومة . { الْخِصَامِ } مصدر ، أو جمع خصيم أي ذو جدال ، أو كذاب ، أو شديد القسوة في المعصية ، أو غير مستقيم الخصومة . نزلت في الأخنس بن شَرِيق ، أو هي صفة للمنافقين .
(1/170)

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
{ تَوَلَّى } تصرف ، أو غضب . { لِيُفْسِدَ فِيهَا } بالكفر ، أو الظلم . { وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ } بالقتل والسبي ، أو بالإضلال المفضي إلى القتل والسبي .
(1/171)

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
{ أَخَذتْهُ الْعِزَّةُ } دعته إلى فعل الإثم ، أو يعز نفسه أن يقولها للإثم المانع منها .
(1/172)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
{ يَشْرِى } يبتع ، نزلت فيمن أمر بمعروف ونهى عن منكر فقتل ، أو في صهيب اشترى نفسه من المشركين بجميع ماله ولحق بالمسلمين ، وقال الحسن : العمل الذي باع به نفسه الجهاد .
(1/173)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
{ السِّلْمِ } والسَّلم واحد أو بالكسر الإسلام ، وبالفتح المسالمة . ادخلوا في الإسلام ، أو الطاعة . { كَآفَّةً } عائد إلى الطاعة ، أو إلى تأكد الداخل فيها . { مُّبِينٌ } أبان عداوته بامتناعه من السجود ، أو بقوله { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } [ الإسراء : 62 ] أُمر بها المسلمون أن يدخلوا في شرائع الإسلام كلها ، أو في أهل الكتاب آمنوا بمن سلف من الأنبياء ، فأُمروا بالدخول في الإسلام ، أو نزلت في ابن سلام وجماعة من اليهود لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم " السبت يوم كنا نعظمه ونَسْبُت فيه ، والتوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنقم بها بالليل " .
(1/174)

فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
{ زَلَلْتُم } عصيتم أو كفرتم ، أو ضللتم . { الْبَيِّنَاتِ } القرآن أو الحجج ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ، أو الإسلام .
(1/175)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
{ فِى ظُلَلٍ } بظلل ، أوأمرُ الله تعالى في ظلل .
(1/176)

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
{ سَلْ بَنِى إِسْرَآءِيلَ } توبيخاً لهم ، أراد علماءهم ، أو أنبياهم ، أو جميعهم . { ءَايَةٍ بَيِّنَةٍ } فلق البحر ، وتظليل الغمام وغيرهما . { نِعْمَةَ اللَّهِ } العلم برسوله صلى الله عليه وسلم .
(1/177)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } زينها الله بخلق الشهوات فيها ، أو زينها الشيطان ، أو المُغوي من الثقلين . { وَيَسْخَرُونَ } من ضعفاء المسلمين ، يوهمونهم أنهم على حق ، والمراد بذلك علماء اليهود ، أو مشركو العرب . { وَالَّذِينَ اتَّقَوْاْ } فوق الكفار . { بِغَيْرِ حِسَابٍ } عبّر بذلك عن سعة ملكه الذي لا يفنيه عطاء ولا يقدر بحساب ، أو هو دائم لا يفنى ، أو رزق الدنيا بغير حساب لأنه يعم المؤمن والكافر ، ولا يُعطى المؤمن على قدر إيمانه ، أو رزق المؤمن في الآخرة لا يحاسب عليه ، أو التفضل بغير حساب ، والجزاء بالحساب ، أو كفايتهم بغير حساب ولا تضييق .
(1/178)

كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
{ أُمَّةً وَاحِدَةً } على الكفر ، أو على الحق ، أو آدم عليه الصلاة والسلام كان إمام ذريته فبعث الله تعالى النبيين في ولده . أو يوم الذر لما خرجوا من صلب آدم أقروا بالعبودية ثم اختلفوا ، وهم عشرة قرون كانوا بين آدم ونوح على الحق ثم اختلفوا .
(1/179)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
{ مَاذَا يُنفِقُونَ } سألوا عن أموالهم اين يضعونها فنزلت ، أو نزلت في إيجاب نفقة الأهل والصدقة ثم نسخت بالزكاة .
(1/180)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } أراد به الصحابة رضي الله تعالى عنهم خاصة ، أو الناس عامة إلى حصول الكفاية ، أو هو فرض متعين على كل مسلم أبداً ، قاله ابن المسيب . { كُرْهٌ لَّكُمْ } الكُره : إدخال المشقة على النفس من غيره إكراه أحد ، والكَره : إدخال المشقة بإكراه غيره ، كره : ذو كره ، أو مكروه لكم فأقام المصدر مقامه . مكروه قبل الأمر به وأما بعده فلا ، أو كره الطباع قبل الأمر وبعده . { وَعَسَى } بمعنى " قد " ، أو طمع المشفق مع دخول الشك ، { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } من القتال ، { وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } بالظفر والغنيمة والأجر والثواب ، { وَعَسَى أَن تُحِبًّواْ شَيْئاً } من [ ترك ] القتال ، { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } بظهور عدوكم ، ونقصان أجوركم ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } مصلحتكم ، { وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ } .
(1/181)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } خرج عبد الله بن جحش بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم في سبعة نفر فلقوا ابن الحضرمي في عِير فَقُتل ابنُ الحضرمي وأسروا آخر ، وغنموا العير ، وذلك أول ليلة من رجب ، فلامه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون فنزلت فسأله المشركون عن ذلك ليعيّروه ويستحلوا قتاله فيه ، قاله الأكثرون . أو سأله المسلمون ليعرفوا حكمه ، سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، فأخبرهم أن الصد عن سبيله وإخراج أهل الحرم والفتنة أكبر من القتل في الشهر ، أو سألوا عن القتل في الحرم والشهر الحرام فأخبرهم بأن الصد والإخراج والفتنة أكبر من القتل في الحرم والشهر الحرام ، وتحريم ذلك محكم عند عطاء ، منسوخ على الأصح ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيفاً ، وأرسل أبا عامر إلى أوطاس في بعض الأشهر الحرم ، وبايع على قتال قريش بيعة الرضوان في ذي القعدة . { حَبِطَتْ } أصل الحبوط : الفساد ، فإذا بطل العمل قيل حبط لفساده .
(1/182)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } قال قوم من المسلمين في سرية أبن جحش : " إن لم يكونوا أصابوا وزراً فليس لهم في سفرهم أجر " . فنزلت { هَاجَرُواْ } دورهم كراهة المقام مع المشركين . { وَجَاهَدُواْ } جهد فلاناً كذا : إذا أكربه وشق عليه { سَبِيلِ اللَّهِ } طريقه وهي دينه . { يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ } إنما رجوها لأنهم لا يدرون الخواتيم ، أو لأنهم لم يتيقنوا آداء كل ما وجب عليهم .
(1/183)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الخمر : ما خامر العقل فيستره ، والميسر : القمار . { إِثْمٌ كَبِيرٌ } سكر الشارب وإيذاؤه الناس؛ وإثم الميسر بالظلم ومنع الحق ، أو إثم الخمر : زوال العقل حتى لا يعرف خالقه ، وإثم الميسر : صده عن ذكر الله وعن الصلاة ، وإيقاع العداوة والبغضاء . { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } منافع أثمانها ، وربح تجارتها ، والالتذاذ بشربها .
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأُسداً ما ينهنهنا اللقاء
ومنافع الميسر : كسب المال بغير كد ، أو ما كانوا يصيبون به من أنصباء الجزور . { وَإِثْمُهُمَآ } بعد التحريم { أُكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } قبل التحريم ، أو كلاهما قبل التحريم . { الْعَفْوَ } ما فضل عن الأهل ، أو ما لا يبين على من أنفقه أو تصدق به ، أو الوسط من غير إسراف ولا إقتار ، أو أخذ ما آتوه من قليل أو كثير ، أو الصدقة عن ظهر غنى ، أو الصدقة المفروضة ، وهي محكمة ، أو نُسخت بالزكاة ، وحُرمت الخمر بهذه الآية ، أو بآية " المائدة " على قول الأكثر .
(1/184)

فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } لما نزل { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأسراء : 34 ] و { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] تحرجوا من خلط طعامهم بأطعمة اليتامى فعزلوا أطعمة اليتامى حتى ربما فسدت عليهم ، فنزلت { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } في الطعام والشراب ، والسكنى ، والدابة ، واستخدام العبيد . { وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ } الذي يخلط ماله بمال اليتيم ، ليفسد مال اليتيم . والمصلح : الذي يريد بذلك إصلاح مال اليتيم . { لأَعْنَتَكُمْ } لشدد عليكم ، أو يجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً { عَزيزٌ } في سلطانه قادر على الإعنات . { حَكِيمٌ } في تدبيره بترك الإعنات .
(1/185)

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
{ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ } محكم في كل مشركة كتابية ، أو غير كتابية ، أو خُصِّصَ منه أهل الكتاب ، أو كانت عامة في كل مشركة فنسخ منها أهل الكتاب ، ومراده التزويج ، والنكاح : حقيقة في العقد مجاز في الوطء . { مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن } حرة { مُّشْرِكَةٍ } وإن شرف نسبها ، أو نزلت في عبد الله ابن رواحة ، كانت له أَمَة ، فخطب عليه حرة مشركة شريفة فلم يتزوجها فأعتق أمته وتزوجها ، فطعن عليه ناس من المسلمين فنزلت { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } بجمالها وحسبها ومالها . { وَلا تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ } هذا على عمومه إجماعاً .
(1/186)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
{ وَيَسْئَلُونكَ عَنِ الْمَحِيضِ } كانوا يجتنبون مساكنة الحائض والأكل والشرب معها ، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو سأله ثابت بن الدحداح الأنصاري ، أو كانوا يعتزلون الوطء في الفرج ويأتونهن في أدبارهن مدة الحيض فنزلت ، قاله مجاهد : { أَذىً } بِنَتَنِه وقذره ونجاسته . { فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ } فلا تباشروهن بشيء من أبدانكم ، أو ما بين السرة والركبة ، أو الفرج وحده . { يَطْهُرْنَ } ينقطع دمهن . { تَطَهَّرْنَ } اغتسلن بالماء : بالوضوء وبالغسل ، أو بغسل الفرج وحده . { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } في القُبُل ، أو بالنكاح دون السفاح ، أو من قُبُل الطهر لا من قُبُل الحيض ، أو لا تقربوها صائمة ولا محرمة ولا معتكفة { الْمُتَطَهِّرينَ } بالماء ، أو من أدبار النساء ، أو من الذنوب بالتوبة .
(1/187)

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
{ حَرْثٌ لَّكُمْ } مزدرع لنسلكم { أَنَّى شِئْتُمْ } زعمت اليهود أن من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول فأكذبهم الله تعالى بقوله { أَنَّى شِئْتُمْ } أو كيف شئتم عازلين أو غير عازلين ، أو حيث شئتم من قُبُل أو دُبُر روي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وبه قال ابن أبي مُلكية ، ويروى عن مالك رحمه الله تعالى وقد أُنكرت هذه عن ابن عمر ، أو من أي وجه شئتم من دبرها في قبلها ، أو من قبلها ، أو قال بعض الصحابة : إني لآتي امرأتي مضطجعة ، وقال آخر : إني لآتيها قائمة ، وقال آخر : إني لآتيها على جنبها ، وقال آخر : إني لآتيها باركة ، فقال يهودي بقربهم : ما أنتم إلا أمثال البهائم ، ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة فنزلت . . . . { وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ } الخير ، أو ذكر الله تعالى عند الجماع قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/188)

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
{ عُرْضَةً } من القوة والشدة ، فالعرضة أن يحلف في كل حق وباطل فيبتذل اسم الله تعالى ويجعله عرضة ، أو العرضة : علة يعتل بها فيمتنع من فعل الخير ، والإصلاح معتدلاً بأن حلفت ، أو يحلف في الحال فيعتل بيمينه في ترك الخير ، أو يحلف ليفعلن البر والخير فيقصد بفعله برّ يمينه دون الرغبة في فعل الخير . { أَن تَبَرُّواْ } في أيمانكم ، أو تبروا أرحامكم { وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ } . { سَمِيعٌ } لأيمانكم { عَلِيمٌ } باعتقادكم .
(1/189)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
{ بِاللَّغْوِ } كل كلام مذموم ، لغا فلان : قال قبيحاً ، فلغو اليمين : ما سبق إليه اللسان من غير قصد ، كلا والله ، وبلى والله ، مَّر الرسول صلى الله عليه وسلم بقوم يتناضلون فرمى رجل فقال : اصبت والله ، أخطأت والله ، فقال رجل مع الرسول صلى الله عليه وسلم حنث الرجل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كلا إن أيمان الرماة [ لغو ] لا كفارة ولا عقوبة " أو الحلف على شيء ظاناً ثم تبين بخلافه ، أو الحلف في حال الغضب من غير عقد ولا عزم بل صلة في الكلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يمين في غضب " ، أو الحلف على معصية فلا يؤاخذ بترك المعصية ويكفِّر ، وعن الرسول صلى الله عليه وسلم " من حلف على معصية فلا يمين له " أو دعاء الحالف على نفسه ، كقوله : " إن لم أفعل فأعمى الله بصري ، او أخرجني من مالي ، أو أنا كافر بالله ، قاله زيد بن أسلم " أو اللغو : الأيمان المكفَّرة ، أو ما حنث فيه ناسياً { كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } عمدتم ، أو الحلف كاذباً ، أو على باطل ، أو اعتقاد الشرك بالله تعالى والكفر ، عند زيد بن أسلم . { غَفُورٌ } للغو { حَلِيمٌ } بترك معاجلة العصاة .
(1/190)

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
{ يُؤْلُونَ } يقسمون ، والأليَّة : القسم ، يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم فترك لدلالة الكلام عليه ، ويختص باليمين بالله تعالى ، أو يعم في كل ما يُلزم الحانث ما لم يكن يلزمه . يختص بالجماع وبحال الغضب وقصد الإضرار ولا يجري في حال الرضا وبغير قصد الإضرار ، أو يعم الأحوال إذا حلف على الجماع ، أو يعم فيما يسوء به زوجته من جماع ، أو غيره ، كقوله : لأسوأنك أو لأغيظنك ، قاله الشعبي وابن المسيب والحكم . { فَآءُو } رجعوا إلى الجماع ، أو الجماع لغير المعذور ، والفيئة باللسان للمعذور ، أو الفيئة باللسان وحده عند من جعله عاماً في غير الجماع . { غَفُورٌ } بإسقاط الكفارة ، أو بإسقاط الإثم دون الكفارة .
(1/191)

وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
{ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ } بأن لا يطلقوا حتى تمضي الأشهر الأربعة فتطلق بائنة ، أو رجعية ، أو يوقف بعد مضي الأشهر ، فإن فاء وإلا طلق قاله : اثنا عشر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، أو الإيلاء ليس بشيء قاله ابن المسيب : { سَمِيعٌ } لإيلائه ، أو لطلاقه ، { عَلِيمٌ } بنيته ، أو بضره .
(1/192)

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
{ وَالْمُطَلَّقَاتُ } الطلاق : التخلية ، النعجة المهملة بغير راعٍ طالق وبه سميت المرأة . { ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } مدة ثلاثة قروء ، وهي الحيض ، أو الأطهار ، أخذ من الاجتماع ، لاجتماع الدم في الرحم عند من رآها الحيض ، أو لاجتماعه في البدن عند من رأها الأطهار ، قرأ الطعام في شدقه والماء في حوضه جمعهما ، أو القَرء : الوقت لمجىء ما يعتاد مجيئه ، أو لإدباره ، أقرأ النجم جاء وقت طلوعه أو أفوله . قال :
إذا ما الثريا وقد أقرأت ... أحس السِّما كان منها أفولاً
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . هبت لقارئها الرياح
فالقرء : وقت لخروج الدم ، أو لاحتباسه . { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ } الحيض أو الحمل ، أو كلاهما ، توعدها لأنها تمنع بالكتمان رجعة الزوج ، أو لإلحاق نسب الولد بغيره كفِعل الجاهلية . { وَبُعُولَتُهُنَّ } سموا بذلك لعلوهم عليهن ، بعلا : ربًّا ، لعلوه بالربوبية . { بِرَدِّهِنَّ } برجعهن . { وَلَهُنَّ } من حسن الصحبة مثل الذي للرجال عليهن من حسن الصحبة ، أو لهن على الأزواج من التصنع مثل ما لأزواجهن عليهن قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو لهن من ترك المضارة مثل ما عليهن . { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } بالميراث والجهاد ، أو بالإمرة والطاعة ، أو إعطاء الصداق والملاعنة إذا قذفها ، أو بالإفضال عليها وأداء حقها والصفح عن حقوقه عليها ، أو بأن جعل له لحية قاله حميد .
(1/193)

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
{ الطَّلاقُ مَرَّتَانِ } بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قرء طلقة ، أو بيان لعدد ما ثبت فيه الرجعة ، ولتقديره بالثلاث كان أحدهم يطلق ما شاء ثم يراجع ، فأراد رجل المضارة بزوجته بطلاقها ثم ارتجاعها كلما قرب انقضاء عدتها ولا يقربها فشكت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . . . .
{ فَإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ } الرجعة بعد الثانية ، والتسريح بالإحسان الطلقة الثالثة . قيل للرسول صلى الله عليه وسلم الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال : " إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان " ، أو التسريح بإحسان : ترك الرجعة حتى تنقضي العدة ، والإحسان : أداء حقها وكف الأذى عنها . { يَخَافَآ } يظنا . { أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } بظهور نشوزها وسوء الخلق ، أو لا تطيع أمره ولا تبر قسمه ، أو تصرح بكراهتها له ، أو يكره كل واحد منهما صاحبه فلا يؤدي حقه ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " المختلعات هن المنافقات " وهي التي تختلع لميلها إلى غير زوجها . { فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } من الصداق من غير زيادة ، أو يجوز أن تفتدي بالصداق وبجميع مالها . وجواز الخلع محكم عند الجمهور ، ومنسوخ عند بكر بن عبد الله . بقوله تعالى : { وَءَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] .
(1/194)

فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
{ فَإِن طَلَّقَهَا } الثالثة ، أو هو تفسير لقوله تعالى { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } { تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } الدخول شرط عند الجمهور خلافاً لابن المسيب .
(1/195)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
{ فَبَلَغْنَ أَجَلهُنَّ } قاربن انقضاء العدة ، بلغ البلد إذا قاربه { فَأَمْسِكُوهُنَ } ارتجعوهن . { سَرِّحُوهُنَّ } بتركهن حتى تنقضي العدة { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا } بالارتجاع كلما طلق ليطول العدة ، { وَلا تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } كان أحدهم يطلق ، أو يعتق ثم يقول " كنت لاعباً " فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " من طلق لاعباً ، أو أعتق لاعباً فقد جاز عليه " ، ونزلت { وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ } .
(1/196)

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
{ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } بانقضاء العدة . { تَعْضُلُوهُنَّ } العضل المنع ، داء عضال : ممتنع أن يداوي ، فلان عضلة : داهية ، لامتناعه بدهائه ، أو العضل : التضييق ، أعضل بالجيش الفضاء ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : " أعضل رأيي في أهل العراق لا يرضون عن والٍ ولا يرضى عنهم والٍ " . نزلت في معقل بن يسار لما طُلقت أخته ، رغب مطلقها في نكاحها فعضلها ، أو نزلت في جابر بن عبد الله طُلقت بنت عم له ثم رغب زوجها في نكاحها فعضلها ، أو تعم كل ولي عاضل . { تَرَاضَواْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ } بالزوج الكافي ، أو بالمهر .
(1/197)

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
{ حَوْلَيْنِ } من حال الشيء إذا انقلب ، لانقلابه عن الوقت الأول واستحالة الكلام انقلابه عن الصواب ، أو من التحول عن المكان ، لانتقاله من الزمن الأول . { كَامِلَيْنِ } قيدهما بالكمال ، لأنهم يطلقون الحولين يريدون أحدهما وبعض الآخر ، ومنه { فَمَن تَعَجَّلَ فَي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] ، أَمرٌ بإكمالها لمن كان حملها ستة أشهر لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، فإن كان حملها تسعاً أرضعت إحدى وعشرين شهراً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو هو عام في كل مولود طالت مدة حمله ، أو قصرت . { الْمَوْلُودِ لَهُ } الأب ، عليه رزق الأم المطلقة إذا أرضعت ولدها ومؤنتها { بِالْمَعْرُوفِ } بأجرة مثلها ، أو رزق الأم المنكوحة وكسوتها بالمعروف لمثلها على مثله من يسار ، أو إعسار . { لا تُضَآرَّ وَالدِةٌ } لا تمتنع من الإرضاع إضراراً بالأب عند الجمهور ، أو الوالدة هي الظئر ، ولا ينتزع الأب المولود له الولد من أمه إضراراً { وَعَلَى الْوَارِثِ } وهو المولود ، أو الباقي من أبويه بعد موت الآخر ، أو وارث الوالد ، أو وارث الابن من عصبته كالعم وابنه ، والأخ وابنه دون الوارث من النساء ، أو ذوي الرحم المَحْرم من الورثة ، أو الأجداد ثم الأمهات . { مِثْلُ ذَلِكَ } ما كان على الأب من أجرة رضاعه ونفقته ، أو من أن لا تضار والدة بولدها { فِصَالاً } فطاماً بفصل الولد من ثدي أمه ، فاصلت : فلاناً فارقته [ { وَتَشَاوُرٍ } ] التشاور : استخراج الرأي بالمشاورة . والفصال بالتراضي قبل الحوليين ، أو قبلهما وبعدهما . { تَسْتَرْضِعُواْ } لأولادكم بحذف [ اللام اكتفاء بأن الاسترضاع لا يكون إلا للولد ] وهذا عند امتناع الأم من رضاعه { سَلَّمْتُم } إلى الأمهات أجر رضاعهن قبل امتناعهن ، أو سلمتم الأولاد إلى المرضعة برضى الأبوين ، أو سلمتم إلى الظئر أجرها .
(1/198)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
{ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } زيدت العشر لأن الروح تنفخ فيها قاله ابن المسيب ، وأبو العالية ، وفي وجوب الإحداد فيها قولان : قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأسماء بن عميس لما أصيب جفعر بن أبي طالب : " تسلبي ثلاثاُ ثم أصنعي ما شئت " { فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ } أي في تزوجكم بهن ، أو سقط عنكم الإنكار عليهن إذا تزوجن بعد الأجل . { بِالْمَعْرُوفِ } بالنكاح المباح ، أو بالطيب والزينة والانتقال من المسكن نَسخت هذه لقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ } [ 240 ] وتقدم الناسخ على المنسوخ ، لأن القارىء إذا وصل إلى الناسخ واقتصر عليه أجزأه .
(1/199)

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
{ عَرَّضْتُم } الإشارة بالكلام إلى ما ليس له فيه ذكر ، كقوله ما عليكِ أيمة ، ورغب راغب فيك ، ولعل الله أن يسوق إليكِ خيراً { خِطْبَةِ } طلب النكاح ، والخُطْبة : الكلام الذي يتضمن الوعظ والإبلاغ { أَكْنَنتُمْ } سترتم . { سِرّاً } زنا ، أو الجماع ، أو قوله : " لا تفوتيني نفسك " أو نكاحها في العدة سِراً ، أو أخذه ميثاقها أن لا تنكح غيره . { قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو التعريض . { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ } على عقدة يريد التصريح { الْكِتَابُ أَجَلَهُ } فرض الكتاب ، أو أراد بالكتاب الفرض تشبيهاً بكتاب الدَّين .
(1/200)

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
{ أَوْ تَفْرِضُواْ } بمعنى " ولم تفرضوا " أو " فرضتم أو لم تفرضوا " فحذف فرضتم . { فَرِيضَةً } صداقاً ، سمي بذلك ، لأنه أوجبه على نفسه ، وأصل الفرض الواجب { وَمَتِّعُوهُنَّ } بمال ينتفعن به بقدر نصف صداق المثل ، أو يقدرها الحاكم باجتهاده ، أو خادم ودون ذلك الوَرِق ، ودون ذلك الكسوة وهي واجبة لكل مطلقة ، أو لغير المدخول بها إذا لم يسمِّ لها صداقاً ، أو لكل مطلقة إلا غير المدخول بها ، أو هي مندوب إليها .
(1/201)

وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
{ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فلكم استرجاعه ، أو فهو لهن ليس عليكم غيره . { إِلآ أَن يَعْفُونَ } ليكون مرغباً للأزواج في خطبتها . { الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِكَاحِ } الولي ، أو الزوج ، أو أبو البكر . { وَأَن تَعْفُواْ } أيها الأزواج أو الأزواج والزوجات . { لِلتَّقْوَى } إلى اتقاء المعاصي ، أو إلى أن يتقي كل واحد منهما ظلم الآخر .
(1/202)

حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } بذكرها ، أو تعجيلها . { الْوُسْطَى } خُصت بالذكر لانفرادها بالفضل ، وهي العصر ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " حبسونا عن الصلاة الوسطى . صلاة العصر " ، أو الظهرُ ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصيلها بالهاجرة فلم يكن على الصحابة أشد منها فنزلت ، لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ، أو المغرب لتوسط عددها ، وأنها لا تقصر ، أو الصبح ، لقوله تعالى { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } ولا قنوت في غيرها ، أو هي مبهمة في الخمس غير معينة ليكون أبلغ في المحافظة على جميعها . { قَانِتِينَ } القنوت من الدوام على أمر واحد ، أو من الطاعة ، أو من الدعاء يريد طائعين ، أو ساكتين عن منهي الكلام ، أو خاشعين عن العبث والتلفت ، أو داعين ، أو طول القيام ، أو القراءة .
(1/203)

فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
{ فَرِجَالاً } جمع راجل كقائم وقيام ، ولا يغير الخوف عدد الصلاة عند الجمهور ، وقال الحسن : " صلاة الخوف ركعة " وفي وجوب قضائها مذهبان { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } فصلوا كما علمكم ، أو فاذكروه بحمده ، والثناء عليه { كَمَا عَلَّمَكُم } من أمر دينكم { مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } .
(1/204)

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
{ وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ } نسخت الوصية بآية المواريث ، والحول بأربعة أشهر وعشر .
(1/205)

وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعُ } كل مطلقة ، أو الثيب المجامعة ، أو لما نزل { حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : " إن أحسنت فعلت وإن لم أرَ ذلك لم أفعل فنزل { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } وخُصوا بالذكر تشريفاً .
(1/206)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
{ أُلوُفٌ } مؤتلفو القلوب ، أو ألوف في عددهم أربعة آلاف أو ثمانية آلاف أو بضعة وثلاثون ألفاً ، أو أربعون ألفاً ، والألوف تستعمل فيما زاد على عشرة آلاف . { حَذَرَ الْمَوْتِ } فروا من الجهاد ، أو من الطاعون إلى أرض لا طاعون بها فلما خرجوا ماتوا ، فمر بهم نبي فدعا أن يُحيوا فأُجيب . { فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُواْ } عبّر عن الإماتة بالقولن كما يقال : قالت السماء فمطرت ، أو قال قولاً سمعته الملائكة ، وإحياؤهم معجزة لذلك النبي .
(1/207)

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
{ قَرْضاً حَسَناً } في الجهاد ، أو أبواب البر . { أَضْعَافًا كَثِيرةً } سبعمائة ضعف ، أو ما لا يعلمه إلا الله . { يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ } في الرزق ، أو { يَقْبِضُ } الصدقات { وَيَبْصُطُ } الجزاء .
(1/208)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
{ الْمَلإِ } الأشراف . { لِنَبِىٍّ لَّهُمُ } سمويل ، أو يوشع بن نون ، أو سمعون ، سمته أمه بذلك لأن الله تعالى سمع دعاءها فيه ، طلبوا ذلك لقتال العمالقة ، أو الجبارين الذي استذلوهم .
(1/209)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
{ طَالُوتَ } لم يكن من سبط النبوة ولا المملكة . { بَسْطَةً } زيادة في العلم ، وعظماً في الجسم ، كانا قبل الملك ، أو زاده ذلك بعد الملك . { وَاسِعٌ } الفضل ، أو موسع على خلقه ، أو ذو سعة .
(1/210)

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
{ سَكِينَةٌ } ريح هفافة لها جه كوجه الإنسان ، أو طست ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء ، أو روح من الله تتكلم ، أو ما تعرفونه من الآيات فتسكنون إليه ، أو الرحمة ، أو الوقار . { وَبَقِيَّةٌ } عصا موسى عليه الصلاة والسلام ، ورضاض الألواح ، أو العلم ، أو التوراة ، أو الجهاد في سبيل الله تعالى ، أو التوراة وشيء من ثياب موسى عليه الصلاة والسلام ، كان قدر التابوت ثلاثة أذرع في ذراعين { تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ } بين السماء والأرض يرونه عياناً ، ويقال نزل آدم عليه الصلاة والسلام بالتابوت والركن . وكان التابوت بأيدي العمالقة غلبوا عليه بني إسرائيل ، أو كان ببرية التيه خلفه بها يُوشع بن نون ، وقيل إن التابوت وعصا موسى عليه الصلاة والسلام في بحيرة الطبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة .
(1/211)

فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
{ بِنَهَرْ } نهر بين الأردن وفلسطين ، أو نهر فلسطين ابتلوا به لشكايتهم قلة الماء وخوف العطش . { مِنِّى } من أهل ولايتي . { غُرْفَةَ } الفعل والغُرفة اسم المغروف . { قَليلآً } ثلاثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر ، ومن استكثر منه عطش . { جَاوَزَهُ } مع المؤمنين والكافرين ثم انخزلوا عن المؤمنين ، وقالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت ، أو لم يجاوزه إلا مؤمن . { قَالُواْ لا طَاقَةَ } قاله الكفار المنخزلون ، أو من قلّت نصرته من المؤمنين . { يَظُنُّونَ } يوقنون ، أو يتوقعون { أَنَّهُم مُّلاَقُواْ اللَّهِ } بالقتل في تلك الواقعة . { مَعَ الصَّابِرِينَ } بالنصر والمعونة .
(1/212)

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
{ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ } بنصر الله ، أضاف الهزيمة إليهم تجاوزاً لأنهم بالإلجاء إليها صاروا سبباً لها . { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } رماه بحجر بين عينيه فخرج من قفاه فقتل جماعة من عسكره ، وكان نبياً قبل قتله لوقوع هذا الخارق على يديه ، أو لم يكن نبياً ، لأنه لا يجوز أن يولى على النبي من ليس بنبي . { الْمُلْكَ } السلطان . { وَالْحِكْمَةَ } النبوة . { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ } قيل صنعة الدروع ، والتقدير في السرد . { دَفْعُ اللَّهِ } الهلاك عن البر الفاجر ، أو يدفع باللطف للمؤمن وبالرعب في قلب الكافر . { لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ } لعم فسادها .
(1/213)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
{ الْحَىُّ } ذو الحياة ، أو تسمى به لتصريفه الأمور وتقديره الأشياء ، أو اسم تسمى به فيقبل تسليماً لأمره . { الْقَيُّومُ } القائم بتدبير الخلق ، أو القائم على كل نفس بما كسبت فيجزيها بما علمه منها ، أو القائم الموجود ، أو العالم بالأمور ، قام فلان بالكتاب إذا كان عالماً به ، أو أخذ من الاستقامة . { سِنَةٌ } نعاس ، والنعاس ما كان في العين ، فإذا صار في القلب صار نوماً . { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمَا خَلْفَهُمْ } الآخرة . { كُرْسِيُّهُ } علمه ، أو العرش ، أو سرير دون العرش ، أو موضع القدمين ، أو الملك وأصل الكرسي : العلم ومنه الكراسة ، والعلماء كراس ، لأنه يُعْتَمد عليهم كما قيل : أوتاد الأرض . { وَلا يَؤُدُهُ } لا يثقله إجماعاً ، والضمير عائد إلى الله تعالى أو إلى الكرسي . { الْعَلِىُّ } بالاقتدار ، ونفوذ السلطان ، أو العلي : عن الأشباه والأمثال .
(1/214)

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
{ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } في الكتابي إذا بذل الجزية ، أو نسخت بفرض القتال ، أو كانت المقلاة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده رجاءً لطول عمره ، وذلك قبل الإسلام ، فلما أجلى الرسول صلى الله عليه وسلم بني النضير وفيهم أولاد الأنصار ، قالت الأنصار كيف نصنع بأبنائنا فنزلت قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { بِالطَّاغُوتِ } الشيطان ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الأصنام ، أو مردة الإنس والجن ، أو كل ذي طغيان على الله تعالى عبده مَنْ دُونه بقهر منه أو بطا [ عة ] إنساناً كان أو صنماً . { بِالْعُرْوَةِ } الإيمان بالله تعالى . { لا انفِصَامَ } لا انقطاع ، أو لا انكسار ، أصل الفصم الكسر .
(1/215)

اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
{ مِّنَ الظُّلُمَاتِ } الضلالة إلى الهدى . { مِّنَ النُّورِ إِلى الظُّلُمَاتِ } نزلت في مرتدين ، أو في كافر أصلي ، لأنهم بمنعهم من الإيمان كأنهم أخرجوهم منه .
{ الَّذِى حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ } عليه الصلاة والسلام : النمرود بن كنعان أو من تجبر في الأرض وأدّعى الربوبية . { ءَاتَاهُ اللَّهُ الُمُلْكَ } الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو لنمرود . { أُحْىِ وَأُمِيتُ } أترك من لزمه القتل ، وأقتل بغير سبب يوجب القتل . عارض اللفظ بمثله ، وعدل عن اختلاف الفعلين ، فلذلك عدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى حجة أخرى لظهور فساد ما عارض به ، أو عدل عما شغب به إلى ما لا إشغاب فيه ، استظهاراً عليه . { فَأًتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } لم يعارضه نمرود بأن يأتي بها ربه ، لأن [ الله ] خذله بالصَّرفة عن ذلك ، أو علم أنه لو طلب ذلك لفعل لما رآه من الآيات فخاف ازدياد الفضيحة . { فَبُهِتَ } تحيّر ، أو انقطع .
(1/216)

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
{ كَالِّذِى مَرَّ } عُزير ، أو أرميا ، أو الخضر . { قَرْيَةٍ } بيت المقدس لما خربه بختنصر ، أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت . { خَاوِيَةٌ } خراب ، أو خالية من الخواء وهو الخلو ، ومنه خوت الدار ، والخواء الجوع لخلو البطن . { عُرُوشِهَا } العروش البناء . { يُحْىِ هَذِهِ اللَّهُ } بالعمارة { بَعْدَ مَوْتِهَا } بالخراب . { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } قال ذلك ، لأنه مات أول النهار ، وعاش بعد المائة آخر النهار فقال : يوماً ، ثم رأى بقية الشمس فقال : أو بعض يوم . { لَمْ يَتَسَنَّهْ } لم يأتِ عليه السنون فيتغير ، أو لم يتغير بالأسن . { نُنِشزُهَا } نحييها ، من نشر الثوب ، لأن الميت كالثوب المطوي ، لانقباضه عن التصرف فإذا عاش فقد انتشر بالتصرف . { نُنِشزُهَا } نرفع بعضها إلى بعض ، النشز المكان المرتفع ، نشزت المرأة لارتفاعها عن طاعة زوجها ، قاله ملك ، أو نبي ، أو بعض المعمرين ممن شاهد موته وحياته .
(1/217)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنىِ } لما حاجه نمرود في الإحياء ، أو رأى جيفة تمزقها السباع . { أَوَلَمْ تُؤْمِن } ألف إيجاب .
ألستم خير من ركب المطايا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } بعلم المشاهد بعد علم الاستدلال من غير شك . { أَرْبَعَةً } ديك وطاووس ، وغراب ، وحمام . { فَصُرْهُنَّ } بالضم والكسر واحد ضمهن إليك ، أو قطعهن فيتعلق إليك بخذ . { عَلَى كُلِّ جَبَلٍ } أربعة أجبال ، أو سبعة ، أو كل جبل .
(1/218)

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
{ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الجهاد ، أو أبواب البر كلها ، فالنفقة في الجهاد بسبعمائة ضعف ، وفي غيره بعشرة أمثاله ، أو تجوز مضاعفتها بسبعمائة . { وَاسِعٌ } لا يضيق عن الزيادة { عَلِيمٌ } بمستحقها ، أو { وَاسِعٌ } الرحمة لا يضيق عن المضاعفة { عَلِيمٌ } بالنفقة .
(1/219)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
{ مَنّاً } كقوله : أحسنت إليك ونعشتك . { أَذىً } كقوله : من أبلاني بك وأنت أبداً فقير . { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في ثواب الآخرة ، أو من أهوالها .
(1/220)

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
{ قَوْلٌ مَّعْروفٌ } حسن { وَمَغْفِرَةٌ } وعفو عن أذى السائل ، أو سلامة عن المعصية .
(1/221)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
{ لا تُبْطِلُواْ } فضل صدقاتكم دون ثوابها ، بخلاف المرائي فإنه لا ثواب له ، لانه لم يقصد وجه الله تعالى . { صَفْوَانٍ } جمع صفوانة وهي حجر أملس . والوابل : المطر الشديد الواقع . والصلد : من الحجارة ما صلب ، ومن الأرض : ما لم ينبت تشبيهاً بالحجر . { شَىْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } أنفقوا ، لما طلبوا بها الكسب سميت كسباً ، وهو مثل المرائي في بطلان ثوابه ، والمانَّ في بطلان فضله .
(1/222)

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
{ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ } أين يضعون الصدقة ، أو توطيناً لها بالثبوت على الطاعة ، أو بقوة اليقين ، ونصرة الدين . { بِرَبْوَةٍ } مكان مرتفع ، نبتها أحسن ، وريعها أكثر . { أُكُلَهَا } الأكل للطعام . { ضِعْفَيْنِ } مثلين ، ضعف الشيء : مثله زائداً عليه ، وضعفاه : مثلاه زائداً عليه عند الجمهور ، أو ضعف الشيء : مثلاه .
(1/223)

أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
{ إِعْصَارٌ } ريح تهب من الأرض إلى السماء كالعمود ، لأنها تلتف كالتفاف الثوب المعصور ، وتسميها العامة " الزوبعة " قال :
إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً ... مثل لانقطاع أجر المرائي عند حاجته ، أو مثل للمفرط في الطاعة بملاذ الدنيا ، أو للذي يختم عمله بفساد . قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/224)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
{ أَنفَقُواْ } الزكاة المفروضة ، أون التطوع . { كَسَبْتُمْ } من الذهب والفضة ، أو من التجارة . { أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ } من الزروع والثمار { وَلا تَيَمَّمُواْ } الخليل : " أممته : قصدت أمامه ، ويممته : تعمدته من أي جهة كان " ، أو هما سواء . { الْخَبِيثَ } حشف كانوا يجعلونه في تمر الصدقة ، أو الحرام ، والخبيث : الرديء من كل شيء . { تُغْمِضُواْ } تتساهلوا ، أو تحطوا في الثمن أو إلاَّ أن يُوكَسَ .
(1/225)

يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
{ الْحِكْمَةَ } الفقه في القرآن ، أو العلم بالدين ، أو الفهم أو البنوة ، أو الخشية ، أو الإصابة ، أو الكتابة .
(1/226)

إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
{ فَنِعِمَّا هِىَ } ليس في إبدائها كراهة . { وَإِن تُخْفُوهَا } صدقة التطوع ، أو الفرض والتطوع . { مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } من " زائدة " أو للتبعيض ، لأن الطاعة بغير التوبة لا تُكَفِّر إلا الصغائر .
(1/227)

لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
{ لِلْفُقَرَآءِ } فقراء المهاجرين . { أُحْصِرُواْ } امتنعوا من المعاش خوف الكمفار ، أو منعهم الكفار بخوفهم منهم . { ضَرْباً } تصرفاً أو تجارة . { بِسِيمَاهُمْ } بخشوعهم ، أو فقرهم ، { إِلْحَافاً } إلحاحاً في السؤال .
(1/228)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
{ الَّذِينَ يُنفِقُونَ } نزلت في علي رضي الله عنه كان معه أربعة دنانير فأنفقها على هذا الوجه ، أو في النفقة على خيل الجهاد ، أو في كل نفقة طاعة .
(1/229)

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
{ يَأْكُلُونَ } يأخذون عبّر به عن الأخذ ، لانه الأغلب والربا : الزيادة على الدَّيْن لمكان الأجل ، رَبَا السويق زاد . { لا يَقُومُونَ } من قبورهم يوم القيامة . { يَتَخَبَّطُهُ } يتخنقه الشيطان في الدنيا . { مِنَ الْمَسِّ } وهو الجنون ، وذلك لغلبة السوداء ، فنسب إلى الشيطان تشبيهاً بما يفعله من إغوائه به ، أو هو فعل للشيطان ، لجوازه عقلاً ، وهو ظاهر القرآن . { إِنَّمَا الْبَيْعُ } قالته ثقيف ، وكانوا من أكثر العرب رِباً . { مَا سَلَفَ } ما أَكل من الربا لا يلزمه رده .
(1/230)

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
{ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَوَاْ } ينقصه شيئاً بعد شيء ، من محاق الشهر ، لنقصان الهلال فيه . { وَيُرْبِى الصَّدَقَاتِ } يضاعف أجرها وعداً منه واجباً ، أو ينمي المال الذي أخرجت منه .
(1/231)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
{ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ } نزلت في بقية من الربا للعباس ، ومسعود ، وعبد يا ليل ، وحبيب ، وربيعة . { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } على ظاهره ، أو من كان مؤمناً فهذا حكمه .
(1/232)

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
{ لا تَظْلِمُونَ } بأخذ زيادة على رأس المال . { وَلا تُظْلَمُونَ } بنقص رأس المال .
(1/233)

وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
{ فَنَظِرَةٌ } يجب الإنظار في دَين الربا خاصة ، أو في كل دَين ، أو الإنظار في دَين الربا بالنص وفي غيره بالقياس . { مَيْسَرَةٍ } أن يوسر عند الأكثر ، أو الموت عند إبراهيم { وَأَن تَصَدَّقُواْ } على المعسر بالإبراء خير من الإنظار .
(1/234)

وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
{ إِلَى اللَّهِ } إلى جزائه ، أو ملكه . { مَّا كَسَبَتْ } من الأعمال ، أو الثواب والعقاب . { لا يُظْلَمُونَ } بنقص ما يستحقونه من الثواب ، ولا بالزيادة على ما يستحقونه من العقاب ، هذه آخر آية نزلت ، وقال ابن جريج : " مكث الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها تسع ليالٍ " .
(1/235)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
{ تَدَايَنتُم } تجازيتم ، أو تعاملتم ، { فاكْتُبُوهُ } ندب ، أو فرض . { فَلْيَكْتُبْ } فرض كفاية على الكاتب ، أو واجب في حال فراغه ، أو ندب ، أو نُسِخَ بقوله تعالى { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ } { وَلا يَبْخَسْ } لا ينقص . { سَفِيهاً } لا يعرف الصواب في إملاء ما عليه ، أو الطفل ، أو المرأة والصبي ، أو المبذر لماله المفسد لدينه . { ضَعِيفاً } أحمق ، أو عاجزاً عن الإملاء لِعَيٍّ ، أو خرس . { لا يَسْتَطِيعُ } لِعَيِّه وخرسه ، أو لجنونه ، أو لحبسه ، أو غيبته . { وَلِيُّهُ } ولي الحق ، أو ولي من عليه الدَّيْن . { وَاسْتَشْهِدُواْ } ندب ، أو فرض كفاية . { تَرْضَوْنَ } الأحرار المسلمون العدول ، أو المسلمون العدول وإن كانوا أرقاء . { فَتُذَكِّرَ } من الذكر ، أو بجعلها كَذَكَر من الرجال { دُعُواْ } لتحملها وكتابتها ، أو لأدائها ، أو لهما وذلك ندب ، أو فرض كفاية ، أو فرض عين . { وَلا تَسْئَمُوَاْ } لا تملوا { صَغِيراً } لا يراد به التافه الحقير كالدانق لخروجه عن العرف . { أَقْسَطُ } أعدل . { وَأَقْوَمُ } وأصح من الاستقامة . { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } فرضن أو ندب . { وَلا يُضَآرَّ كَاتِبٌ } بأن يكتب ما لم يُمل عليه ، ولا يشهد الشاهد بما لم يُستشهد ، أو يمنع الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد ، أو يدعيان وهما مشغولان . { فُسُوقٌ } معصية ، أو كذب .
(1/236)

وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
{ ءَاثِمٌ قَلْبُهُ } فاجر ، أو مكتسب لإثم الكتمان .
(1/237)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
{ لِّلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ } له تدبير ذلك ، أو ملكه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِى أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } كتمان الشهادة ، أو ما حَدَّث به نفسه من سوء أو معصية ، فنسخت بقوله تعالى { رَبَّنَا لا تُوَاخِذْنَآ } إلى { الْكَافِرِينَ } ، أو هي محكمة فيؤاخذ الإنسان بما أضمره إلا أن [ الله ] يغفره للمؤمن فيؤاخذ به الكافر ، أو هي عامة في المؤاخذة بما أضمره ، أو هي عامة ومؤاخذة المسلم بمصائب الدنيا .
(1/238)

آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
{ وَكُتُبِهِ } القرآن ، أو جنس الكتب . { لا نُفَرّقُ } لا نؤمن ببعض ونكفر ببعَ . { غُفْرَانَكَ } نسألك غفرانك ، وإلى جزائك المصير .
(1/239)

لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
{ وُسْعَهَا } طاقتها { كَسَبَتْ } من الحسنات { اكْتَسَبَتْ } من السيئات . { نَسِينَآ } أمرك أو تركناه . { أَخْطَأْنَا } أصبنا من المعاصي بالشبهات ، أو تعمدنا . { إِصْراً } عهداً نعجز عن القيام به ، أو لا تمسخنا قردة وخنازير ، أو الذنب الذي لا توبة له ولا كفارة ، أو الثقل العظيم . { الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } بنو إسرائيل فيما حُمِّلوه من قتل أنفسهم . { لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } من العذاب ، أو مما كُلِّفته بنو إسرائيل . { مَوْلانَا } وليّنا وناصرنا .
(1/240)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
{ بِالْحَقِّ } بالصدق { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يخبر عما قبله خبر صدق دال على إعجازه ، أو يخبر بصدق الأنبياء فيما أتوا به .
(1/241)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)
{ مًّحْكَمَاتٌ } المحكم : الناسخ ، والمتشابه : المنسوخ ، أو المحكم : ما أحكم بيان حلاله وحرامه فلم يشتبه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه ، أو المحكم : ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً والمتشابه : ما احتمل أوجهاً ، أو المحكم : ما لم يتكرر لفظه ، والمتشابه ما تكرر لفظه ، أو المحكم : ما فهمه العلماء ، المتشابه ما لا طريق لهم إلى فهمه ، كقيام الساعة ، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وجعله محكماً ومتشابهاً استدعاء للنظر من غير اتكال على الخبر . { أُمُّ الْكِتَابِ } آيات الفرائض والحدود ، أو فواتح السور التي يستخرج منها القرآن . { زَيْغٌ } ميل عن الحق ، أو شك . { مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } الأجل الذي أرادت اليهود [ أن ] تعرفه من حساب الجُمَّل ، أو معرفة عواقب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته ، أو نزلت في وفد نجران حاجوا الرسول صلى الله عليه وسلم في المسيح عليه الصلاة والسلام فقالوا للرسول : أليس هو كلمة الله تعالى وروحه ، فقال : " بلى " فقالوا : حسبنا . { الْفِتْنَةٍ } الشرك ، أو اللبس ، أو الشبهة التي حاج بها وفد نجران . { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } تأويل جميع المتشابه ، لأن في الناس من يعلم تأويل بعضه ، أو يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد . { الرَّاسِخُونَ } الثابتون العاملون .
(1/242)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
{ كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } كعادتهم في تكذيب الحق ، أو في العقوبة على ذنوبهم .
(1/243)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
{ سَتُغْلَبُونَ } نزلت في قريش قبل بدر بسنة فأنجز الله تعالى وعده بمن قُتل ببدر ، أو في يهود بني قينقاع لما حذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما نزل بأهل بدر ، قالوا : لسنا بقريش الأغمار ، أو نزلت في عامة الكفار . { الْمِهَادُ } ما مهدوه لأنفسهم ، أو القرار .
(1/244)

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
{ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ } المؤمنون ببدر . { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } قريش . { يَرَوْنَهُم } كان المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر ، والكفار ألف ، أو ما بين تسعمائة إلى ألف ، فرأى المؤمنون الكافرين مثلي عدد المؤمنين تقوية من الله لقلوبهم ، أو رأى الكافرون المؤمنون مثلي عددهم إضعافاً من الله تعالى لقلوبهم .
(1/245)

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ } حُسِّن . والشهوة : من خلق ا لله تعالى ضرورية لا يقدر العبد على دفعها ، زينها الشيطان ، لأن الله تعالى ذمها ، أو زينها الرب بما جعله في الطبع من المنازعة إليها ، أو زين الله تعالى ما حَسُنَ وزين الشيطان ما قَبُحَ . { وَالْقَنَاطِيرٍ } القنطار : ألف ومائتا أوقية وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الف دينار ومائتا دينار ، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ، أو اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ، أو ثمانون ألفاً ، من الدراهم ، أو مائة رطل من الذهب ، أو سبعون ألفاً ، أو ملْ مسك ثور ذهباً ، أو المال الكثير . { الْمُقَنطَرَةِ } المقنطرة : المضاعفة ، أو تسعة قناطر ، أو المضروبة دراهم أو دنانير ، أو المجعولة كذلك ، لقولهم : " دراهم مدرهمة " . { الْمُسَوَّمَةِ } الراعية ، أو الحسنة ، أو المعلمة ، أو المعدة للجهاد ، أو من السيما مقصور وممدود . { وَالأَنْعَامِ } الإبل ، والبقر والغنم ، ولا يفرد بعضها اسم النَّعم إلا الإبل . { وَالْحَرْثِ } الزرع .
(1/246)

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
{ الصَّابِرِينَ } عن المعاصي ، أو الصائمين . { وَالْقَانِتِينَ } المطيعون ، أو القائمون على العبادة . { وَالْمُنافِقِينَ } في الجهاد ، أو جميع البر . { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ } المصلون ، أو سائلوا المغفرة بقولهم ، أو الذين يشهدون الصبح في جماعة ، والسحر من الليل : قبل الفجر .
(1/247)

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
{ شَهِدَ اللَّهُ } أخبر ، أو فعل ما يقوم مقام الشهادة . وشهادة الملائكة ، وأولو العلم بما شاهدوه من دلائل الوحدانية { بِالْقِسْطِ } العدل .
(1/248)

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
{ الدِّينَ } هنا الطاعة أي طاعته هي الإسلام ، من السلامة ، لأنه يقود إليها ، أو من التسليم ، لأمره في العمل بطاعته . { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود ، أو النصارى ، أو أهل الكتب كلها . { بَغْيَا } عدول عن الحق بغير عناد .
(1/249)

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ أَسْلَمْتُ } انقدت . { وَجْهِىَ } نفسي ، انقدت بإخلاص التوحيد . { وَالأُمِّيِّنَ } الذين لا كتاب لهم ، من الأمي الذي لا يكتب ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " هم مشركوا العرب " . { ءَأَسْلَمْتُمْ } أمر ليس باستفهام .
(1/250)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
{ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّنَ } قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عُبَّادهم فأمروا القاتلين بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً آخر ذلك اليوم " .
(1/251)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ نَصِيباً } حظاً ، لأنهم لم يعلموا الكل . { إِلَى كِتَابِ اللَّهِ } التوراة ، أو القرآن لموافقته التوراة . { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو إن الإسلام دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو في حد من الحدود .
(1/252)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
{ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } الأربعون التي عبدوا فيها العجل ، أو سبعة أيام ، أو أيام منقطعة لانقضاء العذاب فيها . { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } بقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أو قولهم : { لن تَمَسَّنا النَّارُ } .
(1/253)

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
{ مَالِكَ } مالك الدنيا والآخرة ، أو مالك العباد وما ملكوه ، أو مالك النبوة { تُؤْتِى الْمُلْكَ } النبوة ، أو السطان . دعا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجعل الله تعالى ملك فارس والروم في أمته فنزلت { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } خص بالذكر ، لأنه المعروف من فعله .
(1/254)

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
{ تُولِجُ الَّيلَ فِى النَّهَارِ } تجعل كل واحد منهما بدلاًَ من الآخر ، أو تدخل نقصان كل واحد منهما في زيادة الآخر . { وَتُخْرِجُ الْحَىَّ } الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان ، أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، الميْت والميّت واحد ، أو الميْت الذي مات وبالتشديد الذي لم يمت .
(1/255)

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
{ وَءَالَ عِمْرَانَ } موسى وهارون ، أو المسيح عليهم الصلاة والسلام لأن أمه بنت عمران ، اصطفاهم بالنبوة ، أو بتفضيلهم على أهل زمانهم ، أو باختيار دينهم لهم .
(1/256)

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
{ بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } بالتناصر دون النسب ، أو بالنسب ، لأنهم من ذرية آدم ثم من ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .
(1/257)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
{ مُحَرَّرًا } مُخلَصاً للعبادة ، أو خادماً للبيعة ، أو عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى .
(1/258)

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
{ وَضَعْتُهَا أُنثَى } اعتذرت بذلك لعدوله عن نذرها . { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى } إذ لا تصلح لخدمة بيت المقدس ، ولصيانتها عن التبرج . { وَإِنِّى أُعِيذُهَا } من طعن الشيطان الذي يستهل به المولود ، أو من إغوائه { الرَّجِيمِ } المرجوم بالشهب .
(1/259)

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
{ فَتَقَبَّلَهَا } رضيها في النذر . { وَأَنبَتَهَا } أنشأها إنشاء حسناً في غذائها وحسن تربيتها . { الْمِحْرَابَ } أكرم موضع في المجلس . { رِزْقًا } فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، أو لم تُلقم ثدياً حتى تكلمت في المهد ، وكان يأتيها رزقها من الجنة ، وكان ذلك بدعوة زكريا عليه الصلاة والسلام ، أو توطئة لنبوة المسيح عليه الصلاة والسلام { مِنْ عِندِ اللَّهِ } يأتيها الله تعالى به أو بعض الأولياء ، بتسخير الله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } من قول الله تعالى ، أو من قول مريم عليها السلام .
(1/260)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
{ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } بإذنه له في ذلك ، لأنه معجز فلا يطلب إلا بإذن ، أو لما رأى خرق العادة في رزق مريم طمع في الولد من عاقر فدعا { طَيِّبةَ } مباركة . { سَمِيعُ الدُّعَآءِ } مجيب الدعاء ، لأن الإجابة بعد السماع .
(1/261)

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
{ الْمَلائِكَةُ } جبريل عليه السلام ، أو جماعة من الملائكة . { بِيَحْيَىَ } سماه الله تعالى " يحيى " قبل ولادته ، قيل : لأنه حَيَا بالإيمان { بِكَلِمَةٍ } كتاب ، أو بالمسيح ، سمي بالكلمة ، لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله تعالى ، أو لأنه خلق بالكلمة من غير أب . { وَسَيِّدًا } حليماً ، أو تقياً ، أو شريفاً ، أو فقيهاً عالماً ، أو رئيساً على المؤمنين . { وَحَصُورًا } عنينا لا ماء له ، أو لا يأتي النساء ، أو لم يكن له ما يأتي به النساء لأنه كان كالنواة .
(1/262)

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
{ بَلَغَنِىَ الْكِبَرُ } ، لأنه بمنزلة الطالب له . { عَاقِرٌ } لا تلد ، وإنما قال ذلك بعد البشارة تعجباً من قدرة الله تعالى وتعظيماً لأمره ، أو أراد [ أن ] يعلم على أي حال يكون؟ بأن يردا إلى شبابهما ، أو على حال الكبر .
(1/263)

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
{ ءَايَةً } علامة لوقت الحمل لتعجيل السرور به . { رَمْزًا } تحريك الشفتين ، أو الإشارة أو الإيماء . { وَاذْكُر رَّبَّكَ } منع من الكلام ولم يمنع من الذكر . { بِالْعَشِيَ } أصله الظلمة فسمي ما بعد الزوال عشياً لاتصاله بالظلام . والعشا : ضعف البصر . { وَالإِبْكَارِ } من الفجر إلى الضحى أصله التعجيل ، لأنه تعجيل للضياء .
(1/264)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
{ اصْطَفَاكِ } لولادة المسيح ، أو على عالمي زمانك . { وَطَهَّرَكِ } من الكفر ، أو أدناس الحيض النفاس . { وَاصْطَفَاكِ } تأكيد للأصطفاء [ أو ] الأول للعبادة ، والثاني لولادة المسيح عليه الصلاة والسلام .
(1/265)

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
{ اقْنُتِى } أَخلصي لربك ، أو أديمي طاعته ، أو أطيلي القيام في الصلاة . { وَاسْجُدِى } كان السجود في شرعهم مقدماً على الركوع ، أو " الواو " لا ترتيب فيها ، فكلمتها الملائكة معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام ، أو توكيداً لنبوة المسيح عليه الصلاة والسلام ، أصل السجود : الانخفاض الشديد ، والركوع : دونه . { مَعَ الرَّاكعِينَ } افعلي كفعلهم ، أو صلي في جماعة .
(1/266)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
{ أَنبَآءِ الْغَيْبِ } البشارة بالمسيح عليه الصلاة والسلام أصل الوحي : إلقاء المعنى إلى صاحبه ، فيلقى إلى الرسل بالإنزال ، وإلى النحل بالإلهام ، ومن بعض إلى بعض بالإشارة { فأوحى إِلَيْهِمْ } [ مريم : 11 ] .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أوحى لها القرار فاستقرت
{ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ } قالوا نحن أحق بكفالتها ، لأنها ابنة إمامنا وعالمنا وقال زكريا : " أنا أحق لأن خالتها عندي " ، فاقترعوا على ذلك بأقلامهم وهي القداح فأُصعد قلم زكريا في جرية الماء ، وانحدرت أقلامهم مع الجرية ، فقرعهم فكفلها ، أو كفلها زكريا بغير قرعة ، ثم أصابتهم أزمة ضعف بها عن مؤنتها فقال : ليأخذها أحدكم فتدافعوها فاقترعوا فقرعهم زكريا عليه الصلاة والسلام .
(1/267)

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
{ الْمَسِيحُ } ، لأنه مسح بالبركة ، أو مسح بالتطهير من الذنوب .
(1/268)

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
{ الْمَهْدِ } من التمهيد ، تكلم فيه تبرئة لأمه ، أو لظهور معجزته ، وكان في المهد نبياً ، لظهور المعجزة ، أو لم يكن حينئذ نبياً وكان كلامه تأسيساً لنبوته . { وَكَهْلاً } حليماً ، أو كهلاً في السن ، والكهولة أربع وثلاثون سنة ، أو فوق حال الغلام ودون حال الشيخ ، أخذ من القوة ، اكتهل النبت إذا طال وقوي ، يريد يكلمهم كهلاً بالوحي ، أو يتكلم صغيراً بكلام الكهل في السن .
(1/269)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
{ أَنصَارِى إِلَى اللهِ } مع الله ، أو في السبيل إلى الله ، أو من ينصرني إلى نصر الله . { الْحَوَارِيُّونَ } لبياض ثيابهم ، أو كانوا قَصَّارين يبيّضون الثياب ، أو هم خواص الأنبياء ، لنقاء قلوبهم من الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه الحواري من الطعام ، استنصرهم ليمنعوه من قتل الذين أرادوا قتله ، أو ليتمكن من إقامة الحجة وإظهار الحق ، أو ليميز المؤمن من الكافر .
(1/270)

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
{ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ثبت أسماءنا مع أسمائهم لننال مثل كرامتهم ، أو صل ما بيننا وبينهم بالأخلاص على التقوى .
(1/271)

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
{ وَمَكَرُواْ } بالمسيح عليه الصلاة والسلام ، ليقتلوه فمكر الله تعالى بهم بالخيبة بإلقاء شَبَهه على غيره ، أو مكروا بإضمار الكفر ومكر الله لمجازاتهم بالعقوبة ، وذكر ذلك للازدواج ، كقوله تعالى { فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] وأصل المكر الالتفاف ، الشجر المتلف مكر ، فالمكر احتيال على الإنسان ، لإلقاء المكروه به ، والفرق بينه وبين الحلية أنه لايكون إلا لقصد الإضرار ، والحيلة قد تكون لإظهار ما يعسر من غير قصد إضرار .
(1/272)

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
{ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ } الضمير لعيسى عليه الصلاة السلام ، أو للحق [ { فَقُلْ تَعَالَوْاْ } ] المدعو للمباهلة نصارى نجران . { نَبْتَهِلْ } نلتعن ، أو ندعو بالهلاك .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نظر الدهر إليهم فابتهل
أي دعا عليهم بالهلاك ، لما نزلت أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيد علي وفاطمة وولديها رضي الله تعالى عنهم ثم دعاهم إلى المباهلة فقال بعضهم لبعض : " إن باهلتموه اضطرم عليكم الوادي ناراً فامتنعوا " .
(1/273)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
{ تَعَالَوْاْ } خطاب لنصارى نجران ، أو ليهود المدينة ، { أرْبَابًا } هو سجود بعضهم لبعض ، أو طاعة الأتباع للرؤساء .
(1/274)

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
{ حَاجَجْتُمْ } فيما وجتموه في كتبكم ، { فَلِمَ تُحَآجُّونَ } في شأن إبراهيم { وَاللهُ يَعْلَمُ } شأنه وأنتم لا تعلمونه .
(1/275)

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
{ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ } لما اجتمعت اليهود والنصارى عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت النصارى : لم يكن إبراهيم إلا نصرانياً ، وقالت اليهود : لم يكن إلا يهودياً فنزلت . . .
(1/276)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } بما يدل على صحة الآيات من كتابكم المبشر بها ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء ، أو تشهدون بما عليكم في الحجة .
(1/277)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
{ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } الإيمان بموسى وعيسى والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ، أو تحريف التوراة والأنجيل ، أو الدعاء إلى إظهار الإسلام أول النهار والكفر آخره ، طلباً لتشكيك الناس فيه . { وَتَكْتُمُونَ } صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمونها من كتبكم .
(1/278)

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
{ وَلا تُؤْمِنُوَاْ إِلآَّ } قاله اليهود بعضهم لبعض ، أو قاله يهود خيبر ليهود المدينة ، نهوا عن ذلك لئلا يكون طريقاً لعبدة الأوثان إلى تصديقه ، أو لئلا يعرفوا به فيلزمهم الدخول فيه . { الْهُدَى هُدَى اللهِ } أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أيها المسلمون فحذف " لا " ، أو { الْهُدَىَ هُدَى اللهِ } فلا تجحدوا أ [ ن ] يؤتى { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ولا تؤمنوا أن يحاجوكم إذ لا حجة لهم ، أو يكون " أو " بمعنى حتى تبعيداً كقولك " لا يلقاه أو تقوم الساعة " قاله الكسائي والفراء .
(1/279)

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
{ بِرَحْمَتِهِ } النبوة ، أو القرآن والإسلام ، وهل تكون النبوة جزاء على عمل ، أو تفضلاً؟ فيه مذهبان .
(1/280)

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
{ بِقِنطَارٍ } " الباء " فيه ، وفي الدينار لإلصاق الأمانة به ، أو بمعنى " على " { قَآئِمًا } بالاقتضاء ، أو ملازماً ، أو قائماً على رأسه . { الأُمِّيِّنَ } العرب ، قالوا لا سبيل علينا في أموالهم لإشراكهم ، أو لتحولهم عن الدين الذي عاملناهم عليه ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كذب أعداء الله ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر " .
(1/281)

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
{ بِعَهْدِ اللَّهِ } أمره ونهيه ، أو ما جعل في العقل من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق . { لا خَلاقَ } من الخَلْق وهو التقدير أي لا نصيب ، أو من الخُلُق أي لا نصيب لهم مما يوجبه الخلق الكريم . { وَلا يُكَلِّمُهُمُ } بما يسرهم بل بما يسوؤهم عند الحساب ، لقوله تعالى : { عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 26 ] أو لا يكلمهم أصلاً بل يكل حسابهم إلى الملائكة . { وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ } لا يراهم ، أو لا يمن عليهم . { وَلا يُزَكِّيهِمْ } لا يقضي بزكاتهم ، نزلت فيمن حلف يميناً فاجرة لينفق بيع سلعته ، أو في الأشعث نازع خصماً في أرض فقام ليحلف فنزلت فنكل الأشعث واعترف بالحق ، أو في أربعة من أحبار اليهود ، كتبوا كتاباً وحلفوا أنه من عند الله فيما ادّعوا أنه ليس عليهم في الأميين سبيل .
(1/282)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } قالت طائفة من اليهود للرسول صلى الله عليه وسلم : أتدعونا إلى عبادتك كما دعا المسيح النصارى؟ فنزلت { رَبَّانِيِّنَ } فقهاء علماء ، أو حكماء أتقياء ، أو الولاة الذين يربون أمور الناس ، أخذ الرباني ممن يرب الأمور بتدبيره ولذلك قيل للعالم رباني ، لأنه يدبر الأمور بعلمه ، أو الرباني مضاف إلى علم الرب .
(1/283)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
{ مِيثَاقَ النَّبيِّنَ } أن يؤمنوا بالآخرة ، أو يأخذوا على قومهم تصديق محمد صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ } محمد صلى الله عليه وسلم { مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ } من التوراة والإنجيل . { وَأَخَذْتُمْ عَلَى } قبلتم عهدي ، [ أ ] و وأخذتم على متبعكم عهدي { فَاشْهَدُواْ } على أممكم ، وأنا من الشاهدين عليكم وعليهم .
(1/284)

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
{ وَلَهُ أَسْلَمَ } أسلم المؤمن طوعاً ، والكافر عند الموت كرهاً ، أو أقروا بالعبودية وإن كان فيهم المشرك فيها ، أو سجود المؤمن طوعاً وسجود ظل الكافر كرهاً ، أو طوعاً بالرغبة في الثواب ، وكرهاً لخوف السيف ، أو إسلام الكاره يوم أخرج الذر ظهر آدم ، أو استسلم بالانقياد والذلة .
(1/285)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ } اليهود كفروا بالمسيح . { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا } بمحمد صلى الله عليه وسلم . { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } عند الموت ، أو أهل الكتاب لا تقبل توبتهم من ذنوبهم مع إصرارهم على كفرهم ، أو هم مرتدون عزموا على إظهار التوبة تورية فأطلع الله تعالى الرسول صلى الله عليه وسلم على سرهم أو اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل بعثه ، ثم ازدادوا كفراً إلى حضور آجالهم .
(1/286)

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
{ الْبِرَّ } ثواب الله تعالى ، أو فعل الخير الذي يستحق به الثواب ، أو الجنة . { تُنفِقُواْ } الصدقة المفروضة ، أو الفرض والتطوع ، أو الصدقة وغيرها من وجوه البر .
(1/287)

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
{ كُلًّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ } لما أنكرت اليهود تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل أخبر الله تعالى أنه أحلها إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه ، لما أصابه وجع النسا نذر تحريم العروق على نفسه وأحب الطعام إليه ، وكانت لحوم الإبل من أحب الطعام إليه ، ونذر ذلك بإذن الله تعالى ، أو باجتهاده ، فحرمت اليهود ذلك تباعاً لإسرائيل على الأصح ، أو نزلت التوراة بتحريمها .
(1/288)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
{ أُوَّلَ بَيْتٍ } اتفقوا أنه أول بيت وضع للعبادة ، وهل كانت قبله بيوت؟ أو لم تكن قبله؟ مذهبان . { بِبَكَّةَ } ومكة واحد ، أو بكة المسجد ، ومكة الحرم كله ، أو بكة بطن مكة ، أخذت بكة من الزحمة ، تَبَاكَّ القوم ازدحموا ، أو تَبُك أعناق الجبابرة ، إذا ظلموا فيها لم يمهلوا . { مُّبَارَكاً } بحصول الثواب لقصاده ، أو يأمن داخله حتى الوحش .
(1/289)

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
{ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أثر قدمي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المقام : وهو حجر صلد في غير المقام أمن الخائف ، وهيبة البيت ، وتعجيل عقوبة من عتا فيه وقصة أصحاب الفيل . { وَمَن دَخَلَهُ } في الجاهلية من الجناة أمن ، وفي الإسلام يأمن من النار ، أو من القتال ، فإنه محظور على داخليه ، ويقام الحد على من جنى [ فيه ] وإن دخله الجاني ففي إقامة الحد عليه مذهبان؟ { مَنِ اسْتَطَاعَ } بالزاد والراحلة ، أو بالبدن وحده ، أو بالمال والبدن . { وَمَن كَفَرَ } بفرض الحج ، أو لم يَرَ حَجَّهُ بِراً وتركه [ إثماً ] ، أو نزلت في اليهود لما نزل قوله تعالى { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] قالوا نحن مسلمون ، فأُمروا بالحج فامتنعوا فنزلت . . .
(1/290)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
{ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ } هم اليهود أغَروْا بين الأوس والخزرج بتذكيرهم حروباً كانت بينهم في الجاهلية ، ليفترقوا بذلك ، أو هم اليهود والنصارى صدوا الناس بإنكارهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم . { شُهَدَآءُ } على صدكم ، أو على عنادكم ، أو عقلاء .
(1/291)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
{ يَاأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } الأوس والخزرج . { إِن تُطِيعُواْ } اليهود . { يَرُدُّوكُم } إلى الكفر بإغرائهم بينكم .
(1/292)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
{ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يطاع فلا يُعصى ، ويُذكر ولا يُنسى ، ويشكر ولا يكفر ، أو اتقاء جميع المعاصي ، أو الاعتراف بالحق في الأمن والخوف ، أو طاعته فلا يُتَّقَى في تركها أحد سواه ، وهي محكمة ، أو منسوخة بقوله تعالى { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] .
(1/293)

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
{ بِحَبْلِ اللَّهِ } القرآن ، أو الإسلام ، أو العهد ، أو الإخلاص له بالتوحيد ، أو الجماعة ، سمي ذلك حبلاً؛ لنجاة المتمسك به كما ينجو المتمسك بالحبل من بئر أو نحوها . { وَلا تَفَرَّقُواْ } عن دين الله تعالى ، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم { كُنتُمْ أَعْدَآءً } للأوس والخزرج لحروب تطاولت بهم مائة وعشرين سنة إلى أن تآلفوا بالإسلام ، أو لمشركي العرب لما كان بينهم من الطوائل .
(1/294)

يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
{ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } المؤمنين لإسفارها بالثواب . { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } أهل النار لانكسافها بالحزن . { أَكَفَرْتُم بَعْدَ } إظهار الإيمان بالنفاق ، أو الذين ارتدوا بعد الإسلام ، أو الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ، وكانوا قبل ذلك به مؤمنين ، أو جميع من كفر بعد الإيمان يوم الذر .
(1/295)

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ } أي كنتم في اللوح المحفوظ ، أو خلقتم ، أو أراد التأكيد لأن المتقدم مستصحب بخلاف المستأنف ، أو أشار إلى ما قدمه من البشارة بأنهم خير أمة .
(1/296)

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
{ لَيْسُواْ سَوَآءً } لما أسلم عبد الله بن سلام مع جماعة قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شرارنا فنزلت . { قَآئِمَةٌ } عادلة أو قائمة بطاعة الله ، أو ثابتة على أمره . { ءَانَآءَ الَّيْلِ } ساعاته ، أو جوفه ، يريد صلاة العتمة ، أو الصلاة بين المغرب والعشاء . { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } في الصلاة أو عبّر عن الصلاة بالسجود ، أو أراد وهم مع ذلك يسجدون .
(1/297)

مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
{ مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ } نزلت في أبي سفيان وأصحابه يوم بدر ، أو في نفقة المنافقين في الجهاد رياء وسمعة . { صِرٌّ } برد شديد ، أو صوت لهيب النار التي تكون في الريح قاله الزجاج ، وأصل الصِّر : الصوت من الصرير . { ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بزرعهم في غير موضع الزرع ، وفي غير وقته ، أو أهلك ظلمهم زرعهم .
(1/298)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
{ بِطَانَةً } نزلت في بعض المسلمين صَافَوا بعض اليهود والمنافقين لصحبة كانت بينهم في الجاهلية ، فنهوا عن ذلك ، والبطانة : خاصتك الذين يستبطنون أمرك من البطن ، وبطانة الثوب ، لأنها تلي البطن . { لا يَأْلُونَكُمْ } لا يقصرون في أمركم . { خَبَالاً } أصله الفساد ، ومنه الخبل للجنون . { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي : ضلالكم عن دينكم ، أو أن تعنتوا في دينكم فتحملوا فيه على المشقة ، وأصل العنت : المشقة . { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } بدا منها ما يدل على البغضاء .
(1/299)

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
{ وإِذْ غَدَوْتَ } يوم أُحُد ، أو يوم الأحزاب . { تُبَوِّئُ } تتخذ منزلاً ترتبهم في مواضعهم . { سَمِيعٌ } لقول المنافقين . { عَلِيمٌ } بما أضمروه من التهديد أو { سَمِيعٌ } لقول المؤمنين ، { عَلِيمٌ } بإخلاص نياتهم ، أو { سَمِيعٌ } لقول المشيرين { عَلِيمٌ } بنصح المؤمن وغش الغاوي .
(1/300)

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
{ طَّآئِفَتَانِ } بنو سَلَمة ، وبنو حارثة ، أو قوم من المهاجرين والأنصار همتا بذلك لان ابن أُبي دعاهما إلى الرجوع عن القتال ، أو اختلفوا في المقام والخروج إلى العدو حتى هموا بالفشل والجبن .
(1/301)

وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
{ بِبَدْرٍ } اسم ماء سمي باسم صاحبه " بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة " أو سمي بذلك من غير إضافة إلى صاحب . { أَذِلَّةٌ } ضعفاء عن مقاومة العدو ، أو قليل عددكم ضعيف حالكم ، كان المهاجرون يومئذ سبعة وسبعين ، وكانت الأنصار مائتين وستة وثلاثين ، والمشركون ما بين تسعمائة وألف .
(1/302)

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
{ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } يوم بدر . { أَلَن يَكْفِيَكُمْ } الكفاية : قدر سد الخَلَّة ، والاكتفاء : الاقتصار عليه . { يُمِدَّكُمْ } الإمداد : إعطاء الشيء حالاً بعد حال ، من الإمداد : وهو الزيادة ، ومنه مد الماء .
(1/303)

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
{ فَوْرِهِمْ } وجههم ، أو غضبهم من فور القِدْر وهو غليانها ، ومنه فور الغضب . { مُسَوِّمِينَ } بالفتح أرسلوا خيلهم في المرعى ، وبالكسر سوموها بعلائم في نواصيها وأذنابها ، أو نزلوا على خيل بلق وعليهم عمائم صفر . وكانوا خمسة آلاف عند الحسن ، وعند غيره ثمانية آلاف قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .
(1/304)

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
{ لِيَقْطَعَ } يوم بدر { طَرَفاً } منهم بقتل صناديدهم وقادتهم إلى الكفر ، أو يوم أُحد قُتل منهم ثمانية عشر رجلاً ، وقال : { طَرَفاً } ، لأنهم كانوا أقرب إلى المؤمنين من الوسط . { يَكْبِتَهُمْ } يخزيهم ، أو الكبت : الصرع على الوجه قاله الخليل { خَآئِبِينَ } الخيبة لا تكون إلا بعد أمل ، واليأس قد يكون قبل الأمل .
(1/305)

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } في عقابهم واستصلاحهم ، او فيما نفعله في أصحابك وفيهم ، بل إلى الله تعالى التوبة عليهم ، أو الانتقام منهم ، أو قال قوم بعد كسر رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يفلح من فعل هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع حرصه على هدايتهم فنزلت أو استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعاء عليهم فنزلت بمنعه ، لان في علمه سبحانه وتعالى أن فيهم من يؤمن .
(1/306)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)
{ أَضْعَافًا مًّضَاعَفَةً } أن يقول عند الأجل : " إما أن تعطي ، وإما أن تُربي " فإن لم يعطه ضاعف عليه ، ثم يفعل ذلك عند حلول أجله من بعد فيتضاعف بذلك .
(1/307)

وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)
{ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } نار آكل الربا كنار الكفرة عملاً بالظاهر ، أو نار الربا والفجرة أخف من نار الكفرة لتفاوتهم في المعاصي .
(1/308)

وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)
{ فَاحِشَةً } الكبائر ، أو الزنا . { ظَلَمُوَاْ } بالصغائر . { ذَكَرُواْ اللَّهَ } بقلوبهم فحلمهم ذكره على التوبة والاستغفار ، أو ذكروه بقولهم ، اللهم اغفر لنا ذنوبنا . { يُصِرُّواْ } الثبوت على المعصية ، أو مواقعتها إذا هَمَّ بها ، أو ترك الاستغفار منها ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم قد أتوا معصيته ، أو يعلمون الحجة في أنها معصية .
(1/309)

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137)
{ سُنَنٌ } من الله بإهلاك من سلف ، أو أهل سنن في الخير والشر ، وأصل السُّنة : الطريقة المتبعة في الخير والشر ، ومنه سُّنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
(1/310)

هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
{ هَذَا } القرآن { بَيَانٌ } ، أو المذكور من قوله { قدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } نور وأدب .
(1/311)

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)
{ إِن يَمْسَسْكُمْ } يوم أُحُد { قَرْحٌ } فقد مسهم يوم بدر مثله ، واللمس : مباشرة وإحساس ، والمس : مباشرة بغير إحساس . { قَرْحٌ } وقَرح : واحد ، أو بالفتح الجراح ، وبالضم : ألم الجراح قاله الأكثر { نُدَاوِلُهَا } مرة لقوم ، ومرة لآخرين ، والدولة : الكرة ، أدال الله فلاناً من فلان جعل له الكرة عليه .
(1/312)

وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
{ وَلِيُمَحِّصَ } وليبتلي ، أو يخلصهم من الذنوب ، وأصل التمحيص : التخليص ، أو وليمحص الله ذنوب الذين آمنوا . { وَيَمْحَقَ } ينتقص .
(1/313)

وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
{ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ } تمنى الجهاد من لم يحضر بدراً ثم أعرض كثير منهم عنه يوم أحد فعوتبوا . { رَأَيْتُمُوهُ } علمتموه ، أو رأيتم أسبابه .
(1/314)

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } لما شاع يوم أُحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قُتل قال أناس : لو كان نبياً ما قُتل ، وقال آخرون : نقاتل على ما قاتل عليه حتى نلحق به . { انقَلَبْتُمْ } رجعتم كفاراً .
(1/315)

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)
{ وَمَن يُرِدْ } بجهاده { ثَوَابَ الدُّنْيَا } الغنيمة ، أو من عمل للدنيا لم نحرمه ما قسمنا له منها من غير حظ في الآخرة ، أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي بها في الدنيا دون الآخرة .
(1/316)

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
{ رِبِّيُّونَ } يعبدون الرب واحدهم رِبَّي ، أو جماعات كثيرة ، أو علماء كثيرون ، أو الرِّبيون : الأتباع والرعية ، والرَّبانيون : الولاة ، قال الحسن : ما قتل نبي قط في المعركة . { فَمَا وَهَنُواْ } الوهن : الانكسار بالخوف ، والضعف : نقص القوة ، والاستكانة : الخضوع " لم يهنوا بقتل نبيهم ، ولا ضعفوا عن عدوهم ، ولا استكانوا لما أصابهم " ، قاله أبن إسحاق .
(1/317)

فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
{ ثَوَابَ الدُّنْيَا } النصر على العدو ، أو الغنيمة . { ثَوَابِ الأَخِرَةِ } الجنة إجماعاً .
(1/318)

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)
{ تَحُسُّونَهُم } تقتلونهم اتفاقاً ، حسه يحسه حساً ، قتله لأنه أبطل حسه . { بِإِذْنِهِ } بلطفه ، أو بمعونته .
(1/319)

إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
{ تُصْعِدُونَ } الإصعاد يكون في مستوىً من الأرض ، والصعود في ارتفاع ، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم صعدوا إلى الجبل فراراً . { يَدْعُوكُمْ } يقول يا عباد الله أرجعوا . { غَمَّا بِغَمٍ } على غم ، أو مع غم ، الغم الأول : القتل والجرح ، والثاني : الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم أو غم يوم أُحد بغم يوم بدر . { مَا فَاتَكُمْ } من الغنيمة وما أصابكم من الهزيمة .
(1/320)

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)
{ أَمَنَةً نُعَاسًا } لما توعد الكفار المؤمنين يوم أُحُد بالرجوع تأهب للقتال أبو طلحة ، والزبير ، وعبدالرحمن بن عوف ، وغيرهم ، تحت حُجَفهم فناموا حتى أخذتهم الأَمنة . { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُم } بالخوف فلم يناموا ، لظنهم { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } في التكذيب بوعد الله . { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَىْءٌ } ما خرجنا أي أُخرجنا كَرْهاً ، أو الأمر : النصر أي ليس لنا من الظفر شيء كما وعدنا تكذيباً منهم بذلك . { لَبَرَزَ } لخرج { الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ } منكم ولم ينجهم قعودهم ، أو لو تخلفتم لخرج المؤمنون ولم يتخلفوا بتخلفكم . { وَلِيَبْتَلِىَ اللهُ } يعاملكم معاملة المبتلي ، أو ليبتلي أولياؤه فأضافه إليه تفخيماً .
(1/321)

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
{ تَوَلَّوْاْ } عن المشركين بأُحد ، أو من قرب من المدينة وقت الهزيمة . { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } محبة الغنائم والحرص على الحياة ، أو استزلهم بذكر خطايا أسلفوها فكرهوا القتل قبل أن يتوبوا منها . { عَفَا اللهُ عَنْهُمْ } لم يعاجلهم بالعقوبة ، أو غفر خطيئتهم ليدل على إخلاصهم التوبة ، وقيل الذين بقوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينهزموا ثلاثة عشر .
(1/322)

فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
{ فَظًّا } الفظ : الجافي ، والغليظ : القاسي القلب ، معناهما واحد ، فجمع بينهما تأكيداً . { وَشَاوِرْهُمْ } في الحرب ، لتسفر عن الرأي الصحيح فيه ، أو أمر بالمشاورة تأليفاً لقلوبهم ، أو أَمَره بها لما علم فيها من الفضل ، أو أُمر بها ليقتدي به المؤمنين ، وكان غنياً عن المشاورة .
(1/323)

وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161)
{ يَغُلَّ } فقدت قطيفة حمراء يوم بدر فقال قوم : أخذها الرسول فنزلت ، أو وجَّه الرسول صلى الله عليه وسلم طلائع في جهة ثم غنم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقسم للطلائع فنزل ما كان لنبي أن يخون في القسم فيعطي فرقة ويدع أخرى ، أو ما كان لنبي أن يكتم الناس ما أرسل به لرغبة ولا رهبة قاله ابن إسحاق . { يَغُلَّ } يتهمه أصحابه ويُخَوِّنونه ، أو أن يغله أصحابه ويَخُونُونه ، والغلول من الغلل ، وهو دخول الماء خلال الشجر فسميت الخيانة غلولاً لوقوعها خفية ، والغِل : الحقد ، لجريانه في النفس مجرى الغلل .
(1/324)

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
{ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمؤْمِنِينَ } بكون الرسول صلى الله عليه وسلم { مِّنْ أَنفُسِهِمْ } لما فيه من شرفهم ، أو لتسهيل تعلم الحكمة عليهم لأنه بلسانهم ، أو ليظهر لهم علم أحواله بالصدق والأمانة والعفة والطهارة . { ويُزَكِّيهِمْ } يشهد بأنهم أزكياء في الدين ، أو يدعوهم إلى ما يتزكون به ، أو يأخذ زكاتهم التي تطهرهم .
(1/325)

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
{ مُّصِيبَةٌ } التي أصابتهم يوم أُحُد ، والتي أصابوها يوم بدر . { هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ } بخلافكم في الخروج يوم أُحد " لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتحصنوا بالمدينة " ، أو بأختياركم الفداء يوم بدر ، وقد قيل لكم إن فعلتم ذلك قُتِلَ منكم مثلهم ، أومخالفة الرماة للرسول صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد في ملازمة موضعهم .
(1/326)

وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)
{ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } بتمكينه ، أو بعلمه . { وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ } ليراهم ، أو ليميزهم من المنافقين .
(1/327)

وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167)
{ أَوِ ادْفَعُواْ } بتكثير السواد إن لم تقاتلوا ، أو بالمرابطة على الخيل إن لم تقاتلوا . { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً } قال عبد الله بن عمرو بن حرام : علام نقتل أنفسنا ارجعوا بنا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } يظهرون من الإسلام ما ليس في قلوبهم ، { بِأَفْوَاهِهِم } تأكيد ، أو لأن القول ينسب إلى الساكت تجوزاً إذا رضي به .
(1/328)

الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
{ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ } لما انخذل ابن أُبي وأصحابه وهم نحو من ثلاثمائة وتخلف عنهم من قُتل منهم قالوا لو أطاعونا وقعدوا معنا ما قُتلوا . { صَادِقِينَ } في أنهم لو أطاعوكم ما قُتلوا ، أو محقين في تثبيطكم عن الجهاد فراراً من القتل .
(1/329)

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
{ أمْوَاتاً بَلْ أَحْيَآءٌ } أحياء في البرزخ ، وأما في الجنة فإن حالهم معلومة لجميع المؤمنين . { عِندَ رَبِّهِمْ } بحيث لا يملك أحد لهم ضراً ولا نفعاً سوى ربهم ، أو يعلم أنهم أحياء دون غيره .
(1/330)

فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
{ وَيَسْتَبْشِرُونَ } يقولون إِخواننا يُقتلون كما قُتلنا فيُكرمون بما أُكرمنا ، أو يؤتى الشهيد بكتاب يذكر فيه من يقدم عليه من إخوانه بشارة فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه .
(1/331)

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
{ النَّاسُ } الأول : أعرابي جعل له على ذلك جُعْل ، أو نعيم بن مسعود الأشجعي ، { النَّاسَ } الثاني : أبو سفيان وأصحابه أراد ذلك بعد رجوعه من أُحد سنة ثلاث فوقع في قلوبهم الرعب فكفوا ، أو في بدر الصغرى سنة أربع بعد أُحد بسنة .
(1/332)

إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
{ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُ } يخوف المؤمنين من أوليائه الكفار ، أو يخوف أولياءه المنافقين ليقعدوا عن الجهاد .
(1/333)

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
{ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فَى الْكُفْرِ } المنافقون ، أو قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام . { يُرِيدُ اللَّهُ أَلآَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًا } أي يحكم ، أو سيريد في الآخرة أن يحرمهم الثواب لكفرهم ، أو يريد إحباط أعمالهم بذنوبهم .
(1/334)

مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
{ يَمِيزَ الْخَبِيثَ } المنافق ، أو الكافر ، و { الطَّيِّبِ } المؤمن غير المنافق بتكليف الجهاد ، والكافر بالدلالات التي يستدل بها عليهم . { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } قال قوم من المشركين : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت ، السدي : ما أَطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الغيب ، ولكن اجتباه فجعله رسولاً .
(1/335)

وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } مانعو الزكاة ، أو أهل الكتاب بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم . { سَيُطَوَّقُونَ } بطوق من نار ، أو شجاعاً أقرع .
(1/336)

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
{ لَتُبْلَوُنَ فِى أَمْوَالِكُمْ } بالزكاة والنفقة في الطاعة { وَأَنفُسِكُمْ } بالجهاد والقتل . { أَذًى كَثِيرًا } الكفر كقولهم عُزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، أو هجو كعب بن الأشرف للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وتحريضه عليهم للمشركين ، أو قول فنحاص اليهودي لما سئل الإمداد قال : احتاج ربكم إلى أن نمده .
(1/337)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
{ مِيثَاقَ } هو اليمين . { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود ، أو اليهود والنصارى ، أو كل من أوتي علم شيء من الكتب ، أخذ أنبياؤهم ميثاقهم لتبيننه للناس . { لَتُبَيِّنُنَّهُ } لتبينن الكتاب الذي فيه ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو لتبينن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/338)

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
{ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَواْ } اليهود فرحوا باتفاقهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإخفاء أمره ، وأحبوا { أن يُحْمَدُواْ } بأنهم أهل علم ونسك ، أو المنافقون فرحوا بقعودهم عن الجهاد ، وأحبوا { أَن يُحْمَدُواْ } بما ليس فيهم من الإيمان به .
(1/339)

رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
{ مُنَادِيًا } النبي صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن ، لأن كل الناس لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم { لِلإِيمَانِ } إلى الإيمان { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال :
أوحى لها القرار فاستقرت ... وشدها بالراسيات الثبت
(1/340)

رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
{ وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } المقصود منه مع العلم بأنه لا يخلف وعده الخضوع بالدعاء والطلب ، أو طلبوا التمسك بالعمل الصالح ، أو طلبوا تعجيل النصر وإنجاز الوعد ، أو معناه اجعلنا ممن وعدته ثوابك .
(1/341)

فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } قالت أم سلمة : يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء فنزلت { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } الإناث من الذكور والذكور من الإناث .
(1/342)

لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196)
{ لا يَغُرَّنَّكَ } تأديباً له وتحذيراً ، أو هو خطاب لكل من سمعه أي لا يغرنك أيها السامع . { تَقَلُّبُ } تقلبهم في نعم البلاد ، أو تقلبهم غير مأخوذين .
(1/343)

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
{ وَإِنَّ مِنْ أهْلِ } عبد الله بن سلام ومسلمي أهل الكتاب أو نزلت في النجاشي لما صلى عليه الرسول صلى الله عليه سلم قال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط .
(1/344)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
{ اصْبِرُواْ } على طاعة الله تعالى { وَصَابِرُواْ } أعداءه { وَرَابِطُواْ } في سبيله ، أو { اصْبِرُواْ } على دينكم { وَصَابِرُواْ } الوعد الذي وعدتكم { وَرَابِطُواْ } عدوكم ، أو { اصْبِرُواْ } على الجهاد { وَصَابِرُواْ } العدو { وَرَابِطُواْ } بملازمة الثغر ، من ربط النفس ، ومنه ربط الله على قلبه بالصبر ، أو { رابطوا } بانتظار الصوات الخمس واحدة بعد واحدة قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال " إسباغ الوضوء عند المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط " .
(1/345)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
{ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } آدم عليه الصلاة والسلام . { زَوْجَهَا } حواء ، خلقت من ضلعه الأيسر ، ولذا قيل للمرأة : " ضلع أعوج " ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلت : " خلقت المرأة من الرجل فهمها الرجل ، وخلق الرجل من التراب فهمه في التراب " . { تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } كقوله : أسألك بالله وبالرحم ، [ أو ] والأرحام صلوها ولا تقطعوها ، أخبر أنه خلقهم من نفس واحدة ليتواصلوا ويعلموا أنهم إخوة . { رَقِيبًا } حفيظاً ، أو عليماً .
(1/346)

وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
{ وَلا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } الحرام بالحلال ، أو أن تجعل الزايف بدل الجيد ، والمهزول بدل السمين ، وتقول : درهم بدرهم ، وشاة بشاة ، أو استعجال أكل الحرام قبل مجيء الحلال ، أو كانوا لا يورثون الصغار والنساء ويأخذ الرجل الأكبر فيتبدل نصيبه الطيب من الميراث بأخذه الكل وهو خبيث . { إِلَىَ أَمْوَالكُِمْ } مع أموالكم ، وهو أن يخلطوها بأموالهم فتصير في ذمتهم فيأكلوا ربحها . { حُوبًا } إثماً ، تحوب من كذا توقى إثمه .
(1/347)

وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
{ وَإِنّ خِفْتُمْ } أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى { فَانكِحُواْ } ما حل لكم من غيرهن ، أو كانوا يخافون ألا يعدلوا في أموالهم ، ولا يخافون أن لا يعدلوا في النساء فقيل لهم : كما خفتم أن لا تعدلوا في أموال اليتامى فكذلك خافوا أن لا تعدلوا في النساء ، أو كانوا يتوقون أموال اليتامى ولا يتوقون الزنا فأُمروا أن يخافوا الزنا كخوف أموال اليتامى فيتركوا الزنا وينكحوا ما طاب ، أو كانت قريش في الجاهلية تكثر التزوج بلا حصر فإذا كثرث عليهم المؤن وقل ما بأيديهم أكلوا ما عندهم من أموال اليتامى فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا إلى الأربع حصراً لعددهن . { مَا طَابَ } من طاب ، أو انكحوا نكاحاً طيباً . { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعدِلُواْ } في الأربع . { تَعُولُواْ } تكثر عيالكم ، أو تضلوا ، أو تجوروا والعول : من الخروج عن الحق ، عالت الفريضة لخروجها عن السهام المسماة ، وعابت أهل الكوفة عثمان رضي الله عنه تعالى ، في شيء فكتب إليهم " إني لست بميزان قسط لا أعول " .
(1/348)

وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
{ وَءَاتُواْ النِّسآءَ } أيها الأزواج عند الأكثرين ، أو أيها الأولياء ، لأن الولي في الجاهلية كان يتملك صداق المرأة . { نِحْلَةً } النحلة : العطية بغير بدل ، الدِّين نحلة ، لأنه عطية من الله تعالى ومنه النَّحْل لإعطائه العسل ، أو لأن الله تعالى نحله عباده ، [ الصداق ] أي نحلة من الله تعالى لهن بعد أن كان ملكاً لآبائهن ، أو فريضة مسماة ، أو نهى عما كانوا عليه من خطبة الشغار والنكاح بغير صداق ، أو أراد طيب نفوسهم بدفعه إليهم كما يطيبون نفساً بالهبة . { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } أيها الأزواج عند من جعله للأزواج ، أو أيها الأولياء عند من رآه لهم . { هَنِيئًا } الهني : ما أعقب نفعاً وشفاء منه هنأ البعير لشفائه .
(1/349)

وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
{ السُّفَهَآءَ } النساء ، أو الصبيان ، أو كل مستحق للحَجْر ، أو الأولاد المفسدين ، نهى أن يقسم ماله بينهم ثم يصير عيالاً عليهم ، والسَّفَه : خِفَّة الحُلم ، ولذا وصف به الناقص العقل ، والمفسد للمال لنقصان تدبيره ، والفاسق لنقصانه عند أهل الدين . { أَمْوَالَكُمُ } أيها الأولياء ، أو أموال السفهاء . { قِيَامًا } و { قياماً } قوام معايشكم . { وَارْزُقُوهُمْ } أنفقوا من أموالكم على سفهائكم أو لينفق الولي مال السفيه عليه . { قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وعداً جميلاً ، أو دعاء كقوله : " بارك الله فيك " .
(1/350)

وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
{ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى } اختبروهم في عقولهم وتمييزهم وأديانهم . { النِّكَاحَ } الحلم اتفاقاً . { ءَانَسْتُم } علمتم { رُشْدًا } عقلاً ، أو عقلاً وصلاحاً في الدين ، أو صلاحاً في الدين والمال ، أو صلاحاً وعلماً بما يصلح . { إِسْرَافاً } تجاوز المباح ، فإن كان إفراطاً قيل أسرف إسرافاً ، وإن كان تقصيراً قيل سرف يسرف . { وَبِدَارًا } هو أن يأكله مبادرة أن يكبر فيحول بينه وبين ماله . { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قرضاً ثم يرد بدله ، أو سد جوعه وستر عورته ولا بدل عليه ، أو يأكل من ثمره ويشرب من رِسْل ما شيته ولا يتعرض لما سوى ذلك من أمواله ، أو يأخذ أجره بقدر خدمته ، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كُلْ من مالِ يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالك بماله " { حَسِيبًا } شهيداً ، أو كافياً من الشهود .
(1/351)

لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)
{ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ } نزلت بسبب أن الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث .
(1/352)

وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } منسوخة بآية المواريث ، أو محمولة على وصية الميت لمن ذكر في الآية وفيمن حضر ، أو محكمة فلو كان الوارث صغيراً فهل يجب على وَليِّه الإخراج من نصيبه؟ فيه قولان : أحدهما : لا يجب ، ويقول الولي لهم قولاً معروفاً . { وَقُولُواْ } أمر الآخذ أن يدعو للدافع بالغنى والزرق ، أو أمر الوارث والولي أن يقول للآخذين عند إعطائهم المال قولاً معروفاً .
(1/353)

وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ } يحضرون الموصي أن يأمروه بالوصية بماله فيمن لا يرثه بل يأمرونه بإبقاء ماله لورثته كما يؤثرون ذلك لأنفسهم ، أو أمر بذلك الأوصياء أن يحسنوا إلى الموصى عليه كما يؤثرون ذلك في أولادهم ، أو من خاف الأذى على ذريته بعده وأحب أن يكف الله تعالى عنهم الأذى فليتق الله تعالى في قوله وفعله ، أو مر به الذين ينهون الموصي عن الوصية لأقاربه ليبقى ماله لولده ، وهم لو كانوا أقرباء الموصي لآثروا أن يوصي لهم .
(1/354)

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
{ نَارًا } يصيرون به إلى النار ، أو تمتلىء بها بطونهم عقاباً يوجب النار ، وعَبَّر عن الأخذ بالأكل ، لأنه المقصود الأغلب منه ، والصلا : لزوم النار .
(1/355)

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
{ يُوصِيكُمُ } كانوا لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، ولا يورث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال ، فمات عبد الله أخو حسان الشاعر وترك خمس أخوات فأخذ ورثته ماله فشكت زوجته ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } فرض الاثنتين الثلثان كالأختين ، وخالف فيه ابن عباس فجعل لهما النصف ، { وَلأَبَوَيْهِ [ لكل واحد منهما ] السُّدُسُ } نسخت كان [ المال ] للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ من ذلك فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، ولكل واحد من الأبوين السدس ، واتفقوا على أن ثلاثة من الإخوة يحجبون الأم إلى السدس ، والباقي للأب ، وقال طاوس يأخذ الإخوة ما حجبوها عنه وهو السدس ، والأخوان يحجبانها إلى السدس خلافاً لابن عباس . وقدّم الدَّيْن والوصية على الإرث ، لأن الدِّيْن حق على الميت ، والوصية حق له فقدما ، وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بتقديم الدَّيْن على الوصية إذ لا ترتيب في " أو " { لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ } أنفع لكم في الدين أو الدنيا .
(1/356)

وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
{ كَلالَةً } الكلالة : من عدا الولد ، أو من عدا الوالد ، أو من عداهما ، والمسمى بالكلالة هو الميت ، أو وارثه ، أو كلاهما ، والكلالة من الإحاطة لإحاطتها بأصل النسب الذي هو الولد والوالد ، ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس .
(1/357)

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
{ حُدُودُ اللَّهِ } شروطه ، أو طاعته ، أو سننه وأمره ، أو فرائضه التي حدها للعباد ، أو تفصيله لفرائضه .
(1/358)

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
{ الْفَاحِشَةَ } الزنا . { فَأَمْسِكُوهُنَ } إمساكهن في البيوت حد منسوخ بآية النور ، أو وعد بالحد لقوله تعالى { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَ سَبِيلاً } وهو الحد ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، فنسخ جلد الثيب عند الجمهور خلافاً لقتادة وداود .
(1/359)

وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
{ وَالَّذاَنِ } في الأبكار ، أو في الثيب والأبكار ، والمراد باللذين الرجل والمرأة ، أو البكران من الرجال والنساء . { فَأَذُوهُمَا } بالتعيير والتوبيخ ، أو بالتعيير والضرب بالنعال ، وكلاهما منسوخ ، أو الأذى مجمل فسره آية النور في الأبكار ، والسنة في الثيب . ونزلت هذه الآية قبل الأولى فيكون الأذى أولاً ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم ، أو الأذى للأبكار والحبس للثيب . { تَابَا } من الفاحشة . { وَأَصْلَحَا } دينهما . { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } بالصفح والكف عن الأذى .
(1/360)

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
{ بِجَهَالَةٍ } كل عاص جاهل ، أو الجهالة : العمد ، أو عمل السوء في الدنيا { قَرِيبٍ } في صحته قبل مرضه ، أو قبل موته ، أو قبل معاينة ملك الموت . والدنيا كلها قريب .
(1/361)

وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
{ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } عصاة المسلمين عند الجمهور أو المنافقون ، سَوَّى بين من لم يتب وبين التائب عند حضور الموت .
(1/362)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
{ تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهًا } كان أهل المدينة في الجاهلية إذا مات [ أحدهم ] عن زوجه كان ابنه وقريبه أولى بها من نفسها ومن غيرها ، إن شاء نكحها بالصداق الأول ، وإن شاء زوجها وملك صداقها ، وإن شاء عضلها عن النكاح حتى تموت فيرثها ، أو تفتدي منه بصداقها ، فمات أبو القيس بن الأسلت عن زوجته " كبشة " فأراد ابنه أن يتزوجها فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت . . . { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } نهى ورثة الزوج أن يمنعوهن من التزوج كما ذكرنا ، أو نهى الأزواج أن يعضلوهن بعد الطلاق كما كانت قريش تفعله في الجاهلية ، أو نهى الأزواج عن حبسهن كرهاً ليفتدين أو يتمن فيرثوهن ، أو نهى الأولياء عن العضل . { بِفَاحِشَةٍ } بزنا ، أو نشوز ، أو أذىً وبذاءة . { خَيْرًا كَثِيرًا } الولد الصالح .
(1/363)

وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
{ بُهْتَانًا } ظلماً بالبهتان ، أو يبهتها أنه جعل ذلك لها ليستوجبه منها .
(1/364)

وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)
{ أَفْضَى } بالجماع ، أو الخلوة . { مِّيثَاقاً } عقد النكاح ، أو إمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان ، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أخذتموهن بأمانة الله تعالى ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ، وهي محكمة ، أو منسوخة بآية الخلع ، أو محكمة إلا عند خوف النشوز .
(1/365)

وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
{ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } كانوا يخلفون الآباء على النساء فحرمه الإسلام ، وعفا عما كان منهم في الجاهلية إذا اجتنبوه في الإسلام ، أو لا تنكحوا كنكاح آبائكم في الجاهلية على الوجه الفاسد إلا ما سلف في الجاهلية فإنه معفو عنه إذا كان مما يجوز تقريره ، أو لا تنكحوا ما نكح آباؤكم بالنكاح الجائز إلا ما سلف منهم بالسفاح فإنهن حلال لكم لأنهن غير حلائل وإنما كان فاحشة ومقتًا وساء سبيلا ، أو إلا ما قد سلف فاتركوه فإنكم مؤاخذون به ، والاستثناء منقطع ، أو بمعنى " لكن " { وَمَقْتًا } المقت شدة البغض لارتكاب قبيح ، وكان يقال للولد من زوجة الأب " المقتي " .
(1/366)

وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
{ وَالْمُحْصَنَاتُ } ذوات الأزواج { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } بالسبي ، لما سبى الرسول صلى الله عليه وسلم أهل أوطاس ، قالوا : كيف نقع على نساء قد عرفنا أزواجهن فنزلت أو { وَالْمُحْصَنَاتُ } ذوات الأزواج { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إذا اشترى الأمة بطل نكاحها وحلت للمشتري قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو المحصنات العفائف ، { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } بعقد نكاح ، أو ملك ، أو نزلت في مهاجرات تزوجهن المسلمون ، ثم قدم أزواجهن مهاجرين فنهي المسلمون عن نكاحهن ، والإحصان : من المنع ، حصن البلد لمنعه من العدو ، ودرع حصينة : منيعة ، وفرس حصان : لامتناع راكبه من الهلاك ، وامرأة حصان : لامتناعها عن الفاحشة . { كِتَابَ اللَّهِ } الزموا كتاب الله ، أو حرم ذلك كتاباً من الله ، أو كتاب الله قيم عليكم فيما تحرمونه وتحلونه . { مَّا وَرَآءَ ذَالِكُمْ } ما دون الخمس ، أو ما دون ذوات المحارم ، أو مما وراءه مما ملكت أيمانكم . { أَن تَبْتَغُواْ } تلتمسوا بأموالكم بشراء ، أو صداق . { مُسَافِحِينَ } زناة ، السفح : من الصب ، سفح الدمع : صبه ، وسفح الجبل : أسفله لانصباب الماء فيه . { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم } قلت تكون " ما " ها هنا بمعنى " من " فما نكحتم منهن فجامعتموهن ، أو المتعة المؤجلة ، كان أُبَي وابن عباس يقرآن { فما استمتعتم به منهن إلى أ جل مسمى } { أُجُورَهُنَّ } الصداق . { فَرِيضَةً } أي معلومة .
{ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ } من تنقيص أو إبراء عند إعسار الزوج ، أو فيما زدتموه في أجل المتعة بعد انقضاء مدتها وفي أجرتها قبل استبرائهن أرحامهن ، أو لا جناح عليكم فيما دفعتموه وتراضيتم به أن يعود إليكم تراضياً . { كَانَ عَلِيمًا } ، بالأشياء قبل خلقها . { حَكِيماً } في تدبيره لها ، قال سيبويه : " لما شاهدوا علماً وحكمة قيل لهم : إنه كان كذلك لم يزل " ، أو الخبر عن الماضي يقوم مقام الخبر عن المستقبل قاله الكوفيون .
(1/367)

وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
{ طَوْلاً } سعة موصلة إلى نكاح الحرة ، أو يكون تحته حرة ، أو أن يهوي أمة فيجوز له تزوجها إن كان ذا يسار وكان تحته حرة قاله جابر وجماعة ، والطَّوْل : من الطُّول ، لأن الغنى ينال به معالي الأمور ، ليس فيه طائل أي لا ينال به شيء من الفوائد ، وإيمان الأمة شرط ، أو ندب . { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } محصنات عفائف ، والمسافحات : المعلنات بالزنا ، ومتخذات الأخدان : أن تتخذ صديقاً تزني به دون غيره ، وكانوا يحرمون ما ظهر من الزنا ويحلون ما بطن فنزل { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] . { أَحْصَنَّ } أسلمن ، و { أُحْصِنَّ } تزوجن ، ونصف عذاب الحرة : نصف حدها .
{ الْعَنَتَ } الزنا ، أو الإثم ، أو الحد ، أو الضرب الشديد في دين أو دنيا . { وَأَن تَصْبِرُواْ } عن نكاح الأمة خير من إرقاق الولد .
(1/368)

وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ } الزناة ، أو اليهود والنصارى أو كل متبع شهوة غير مباحة .
(1/369)

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
{ يُخَفِّفَ عَنكُمْ } في نكاح الإماء ، { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا } عن الصبر عن الجماع .
(1/370)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
{ بِالْبَاطِلِ } القمار والربا والبخس والظلم ، أو العقود الفاسدة ، أو نُهوا عن أكل الطعام قِرىً وأُمروا بأكله شراء ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } الآية [ النور : 61 ] { تَرَاضٍ } تخاير للعقد ، أو تخاير بعد العقد . { أَنفُسَكُمْ } بعضكم بعضاً ، جُعلوا كنفس واحدة لاتحاد دينهم ، أو نُهوا عن قتل أنفسهم في حال الضجر والغضب .
(1/371)

وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أكل المال وقتل النفس ، أو كل ما نهوا عنه عن أول هذه السورة ، أو وراثتهم النساء كَرْهاً . { عُدْوَانًا وَظُلْمًا } جمع بينهما تأكيداً لتقارب معناهما ، أو فعلاً واستحلالاً .
(1/372)

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
{ كَبَآئِرَ } ما نهيتم عنه من أول هذه السورة إلى رأس الثلاثين منها ، أو هي سبع : الإشراك بالله ، وقتل النفس المحرمة ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة أو تسع : الشرك ، والقذف ، وقتل المؤمن ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، وإلحاد بالبيت الحرام . أو السبعة المذكورة مع العقوق والزنا والسرقة وسب أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أو الإشراك بالله ، والقنوط من رحمته ، واليأس من روحه ، والأمن من مكره ، أوكل ما وعد الله تعالى عليه النار ، أو كل ما لا تصلح معه الأعمال . { سَيّئَاتِكُمْ } مكفرة إذا تركتم الكبائر فإن لم تتركوها أُخذِتم بالصغائر والكبائر .
(1/373)

وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
{ وَلا تَتَمَنَّوْاْ } كقوله : " ليت لي مال فلان " ، نهوا عنه نهي تحريم ، أو كراهية ، وله أن يقول : " ليت لي مثله " والأشهر أنها نزلت في نساء تمنين أن يكن كالرجال في الفضل والمال ، أو قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا وإنما لنا نصف الميراث فنزلت . . . . { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ } من الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية وكذلك النساء ، الحسنة لهما بعشر أمثالها ، أو للرجال نصيب من الميراث وللنساء نصيب منه ، لأنهم كانوا لا يورثون النساء . { فَضْلِهِ } نعم الدنيا ، أو العبادة المكسبة لثواب الآخرة .
(1/374)

وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
{ مَوَالِىَ } عصبة ، أو ورثة وهو أشبه كقوله تعالى : { خِفْتُ الموالى } [ مريم : 5 ] { عاقدت } مفاعلة من عقد الحلف حلف الجاهلية توارثوا به في الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } [ الأنفال : 75 ] ، أو الأخوة التي آخاها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار توارثوا بها ثم نسخت بقوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ } ، أو نزلت في أهل العقد بالحلف يؤتون نصيبهم من النصر والنصيحة دون الإرث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا حلف في الإسلام وما كان من حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة " أو نزلت في ابن التبني ، أمروا أن يوصوا لهم عند الموت ، أو فيمن أوصي لهم بشيء ثم هلكوا فأمروا أن يدفعوا نصيبهم إلى ورثتهم .
(1/375)

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
{ قَوَّامُونَ } عليهن بالتأديب ، والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن الله تعالى ولأزواجهن . { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ } الرجال عليهن في العقل والرأي . { وَبِمَآ أَنفَقُواْ } من الصداق والقيام بالكفاية ، أو لطم رجل امرأته فأتت الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب القصاص فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن } [ طه : 114 ] ونزلت هذه الآية ، قال الزهري لا قصاص بين الزوجين فيما دون النفس .
{ فَالصَّالِحَاتُ } في دينهن { قَانِتَاتٌ } مطيعات لربهن وأزواجهن { حَافِظَاتٌ } لأنفسهن في غيبة أزواجهن ، ولحق الله عليهن { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } بحفظه إياهن صرن كذلك ، أو بما أوجبه لهن من مهر ونفقة فصرن بذلك محفوظات . { تَخَافُونَ } تعلمون .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
أو تظنون .
أتاني عن نُصَيْب كلام يقوله ... وما خفت يا سلام أنكِ عائبي
يريد الاستدلال على النشوز بما تبديه من سوء فعلها ، والنشوز من الارتفاع لترفعها عن طاعة زوجها . { فَعِظُوهُنَّ } بالأمر بالتقوى ، والتخويف من الضرب الذي أذن الله تعالى فيه . { وَاهْجُرُوهُنَّ } بترك الجماع ، أو لا يكلمها ويوليها ظهره في المضجع ، أو يهجر مضاجعتها ، أو يقول لها في المضجع هُجراً وهو الإغلاظ في القول ، أو يربطها بالهجار وهو حبل يربط به البعير قاله الطبري ، أصل الهجر : الترك عن قلى ، وقبيح الكلام هجر ، لأنه مهجور ، فإذا خاف نشوزها وعظها وهجرها فإن أقامت عليه ضربها ، أو إذا خافه وعظها فإن أظهرته هجرتها فإن أقامت عليه ضربها ضرباً يزجرها عن النشوز غير مبرح ولا منهك . { سَبِيلاً } أذى ، أو يقول لها : " لست محبة لي وأنت تبغضيني فيضربها " على ذلك مع طاعتها له .
(1/376)

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
{ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } بنشوزها وترك حقه ، وبعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، والشقاق : مصدر شاق فلان فلاناً إذا أتى كل واحد منهما ما يشق على الآخر ، أو لأنه صار في شق بالعداوة والمباعدة . { فَابْعَثُواْ حَكَمًا } خطاب للسلطان إذا ترافعا إليه ، أو خطاب للزوجين ، أو لأحدهما . { إِن يُرِيدَآ } الحكمان ، فإن رأى الحكمان الفرقة بغير إذن الزوجين فهل لهما ذلك؟ فيه قولان .
(1/377)

وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
{ وَبِذِى الْقُرْبَى } المناسب ، { وَالْيَتَامَى } جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ولم يبلغ الحلم ، والمسكين : الذي ركبه ذل الفاقة حتى سكن لذلك ، { وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَىَ } المناسب ، أو القريب في الدين أراد به المسلم { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الأجنبي لا نسب بينك وبينه ، أو البعيد في دينه ، والجنب في كلامهم : البعيد ، ومنه الجنب لبعده عن الصلاة .
{ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ } رفيق السفر ، أو زوجة الرجل تكون إلى جنبه ، أو الذي يلزمك ويصبحك رجاء نفعك . { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر المجتاز ، أو الذي يريد السفر ولا يجد نفقة ، أو الضيف ، والسبيل : الطريق فقيل لصاحب الطريق : ابن السبيل كما قيل لطير الماء : " ابن ماء " . { مُخْتَالاً } من الخيلاء خال يخول خالاً وخولاً . { فَخُورًا } يفتخر على العباد بما أنعم الله به عليه من رزق وغيره .
(1/378)

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ } بالإنفاق في الطاعة { وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ } بمثل ذلك ، أو نزلت في اليهود بخلوا بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتموها ، وأمروا الناس بذلك ، والبخل : أن يبخل بما في يده ، والشح : أن يشح بما في يد غيره يحب أن يكون له .
(1/379)

وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
{ وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ } اليهود ، أو المنافقون . { قَرِينًا } والمراد به الشيطان بقرن به في النار ، أو يصاحبه في فعله ، والقرين : الصاحب المؤالف من الاقتران ، القِرن : المثل لاقترانه في الصفة ، والقَرن : أهل العصر ، لاقترانهم في الزمان ، وقَرْن البهيم لاقترانه بمثله .
(1/380)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
{ مِثْقَالَ } الشيء : مقداره في الثقل ، والذرة : دودة حمراء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ويقال : إن هذه الدودة لا وزن لها .
(1/381)

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
{ بِشَهِيدٍ } يشهد أنه بلغها ما تقوم به الحجة عليها ، أو يشهد بعملها .
(1/382)

يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
{ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ } يُجعلون مثلها ، كقوله تعالى { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] أو تمنوا أن يدخلوا فيها حتى تعلوهم .
(1/383)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
{ سُكَارَى } من النوم ، أو من الخمر ، " ثمل جماعة عند عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقدموا من صلى بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ، وأنتم عابدون ما أعبد ، وأنا عابد ما عبدتم ، لكم دينكم ولي دين " فنزلت والسَّكر يسد مجرى الماء فأخذ منه السكر لسده طرق المعرفة ، وخاطبه للسكران نهي عن التعرض للسُّكر ، لأن السكران لا يفهم ، أو قد يقع السكر بحيث لا يخرج عن الفهم . { عَابِرِى سَبِيلٍ } أراد المسافر الجنب لا يصلي حتى يتيمم ، أو أراد مواضع الصلاة لا يقربها إلا ماراً . { مَّرْضَى } بما ينطلق عليه اسم مرض وإن لم يضر معه استعمال الماء ، أو بشرط أن يَضُر به استعمال الماء ، أو ما خيف فيه من استعمال الماء التلف . { سَفَرٍ } ما وقع عليه الاسم ، أو يوم وليلة ، أو ثلاثة أيام . { الْغَآئِطِ } الموضع المطمئن كُني به عن الفضلة ، لأنهم كانوا يأتونه لأجلها . الملامسة : الجماع ، أو باليد والإفضاء بالجسد ، ولامستم أبلغ من لمستم ، أو لامستم يوجب الوضوء على اللامس والملموس ولمستم يوجبه على اللامس وحده . { فَتَيَمَّمَوُاْ } تعمدوا وتحروا ، أو اقصدوا ، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فأتوا صعيداً . { صَعِيداً } أرض ملساء لا نبات بها ولا غرس ، أو أرض مستوية ، أو التراب ، أو وجه الأرض ذات التراب والغبار . { طّيِّبًا } حلالاً ، أو طاهراً ، أو تراب الحرث ، أو مكان جَرْد غير بَطِح . { وَأَيْدِيكُمْ } إلى الزندين ، أو المرفقين ، أو الإبطين : ويجوز التيمم للجنابة عند الجمهور ومنعه عمر وابن مسعود والنخعي . وسبب نزولها قوم من الصحابة أصابتهم جراح ، أو نزلت في إعواز الماء في السفر .
(1/384)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
{ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ } كأنهم بكتمان صفة محمد صلى الله عليه وسلم اشتروا الضلالة بالهدى ، أو أعطوا أحبارهم [ أموالهم ] على ما صنعوا من التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو كانوا يأخذون الرشا .
(1/385)

مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
{ غَيْرَ مُسْمَعٍ } غير مقبول منك ، أو اسمع لا سمعت . { وَرَاعِنَا } كانت سبّاً في لغتهم ، أو أجروها مجرى الهزء . أو مجرى الكبر .
(1/386)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
{ أُوتُواْ الْكِتَابَ } اليهود والنصارى . { نَّطْمِسَ وُجُوهًا } نمحو آثارها فتصير كالأقفاء ونجعل أعينها في أقفائها فتمشي القهقرى ، أو نطمسها عن الهدى فنردها في الضلالة فلا تفلح أبداً { نَلْعَنَهُمْ } نمسخهم قردة .
(1/387)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
{ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم } اليهود قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، أو قدموا أطفالهم لإمامتهم زعماً أنه لا ذنوب لهم ، أو قالوا : آباؤنا يستغفرون لنا ويزكوننا ، أو زكى بعضهم بعضاً ، لينالوا شيئاً من الدنيا . { فَتِيلاً } ما انفتل بين الأصابع من الوسخ ، أو الفتيل الذي في شق النواة ، والنقير ما في ظهرها ، والقطمير قشرها .
(1/388)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
{ بِالْجِبْتِ وَالْطَّاغُوتِ } صنمان كان المشركون يعبدونهما ، أو الجبت : الأصنام والطاغوت " تراجمة " الأصنام ، أو الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان ، أو الجبت : الساحر ، والطاغوت : الكاهن ، أو الجبت : حيي بن أخطب والطاغوت : كعب بن الأشرف .
(1/389)

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
{ نَقِيراً } الذي في ظهر النواة ، أو الخيط الذي يكون في وسط النواة ، أو نَقْرُك الشيء بطرف إبهامك .
(1/390)

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
{ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } اليهود حسدت العرب ، أو محمداً صلى الله عليه وسلم عبر عنه بالناس ، أو محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . { فَضْلِهِ } النبوة كيف جعلت في العرب ، أو ما أبيح للرسول صلى الله عليه وسلم من النكاح بغير حصر ولا عد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { مًّلْكاً عَظِيماً } ملك سليمان عليه الصلاة والسلام ، أو النبوة ، أو ما أيدوا به من الملائكة . أما ما أبيح لداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام من النكاح ، فنكح سليمان مائة ، وداود تسعاً وتسعين .
(1/391)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
{ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } ، لان المقصود إيلام الأرواح بواسطة الجلود واللحم فتحرق الجلود لإيلام الأرواح واللحم والجلد لا يألمان فإذا احترق الجلد فسواء أُعيد بعينه أو أُعيد غيره ، أو تعاد تلك الجلود الأول جديدة غير محترقة ، أو الجلود المعادة هي سرابيل القطران سميت جلوداً لكونها لباساً لهم ، لأنها لو فنيت ثم أُعيدت لكان ذلك تخفيفاً للعذاب فيما بين فنائها وإعادتها ، وقد قال [ تعالى ] : { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } [ البقرة : 162 ، وآل عمران : 88 ] .
(1/392)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } في ولاة أمور المسلمين ، أو السطان أن يعظ النساء أو للرسول صلى الله عليه وسلم أن يرد مفاتيح الكعبة إلى عثمان بن طلحة ، أو لكل مؤتمن على شيء .
(1/393)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
{ أَطِيعُواْ اللَّهَ } في أمره ونهيه . { وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } في حياته ، أو باتباع سنته . { وَأُوْلِى الأَمْرِ } نزلت في الأمراء بسبب عبد الله بن حذافة بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية أو في عمار بن ياسر بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية ، أو نزلت في العلماء والفقهاء ، أو في الصحابة ، أو في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإنما طاعة الولاة في المعروف . { إِلَى اللَّهِ } كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم { تَأْوِيلاً } أحمد عاقبة ، أو أبيّن صواباً ، وأظهر حقاً ، أو أحسن من تأويلكم الذي لا يرجع إلى أصل ، ولا يفضي إلى حق .
(1/394)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
{ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ } نزلت في يهودي وأنصاري منافق اختصما فطلب اليهودي المحاكمة إلى أهل الإسلام ، لعلمه أنهم لا يرتشون وطلب المنافق المحاكمة إلى اليهود لعلمه أنهم يرتشون ، فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جهينة { يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي المنافق ، { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } اليهودي ، أو نزلت في اليهود ، تحاكموا إلى أبي بردة الأسلمي الكاهن . { ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } في الحال { وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } حين كانوا يهوداً { الطَّاغُوتِ } الكاهن .
(1/395)

فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
{ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } لما قتل عمر رضي الله تعالى عنه منافقاً لم يرض بحكم الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إخوانه المنافقون يطلبون دمه ، يقولون ما أردنا بطلب دمه إلا أحساناً إلينا ، وما يوافق الحق في أمرنا ، فنزلت ، أو اعتذروا في عدولهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم أرادوا التوفيق بين الخصوم بتقريب في الحكم دون الحمل على مُر الحق . فنزلت . . . .
(1/396)

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
{ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } بالعداوة { فَأَعْرِضْ } فيما أبدوه ، أو { فَأَعْرِضْ } عن عقابهم { وَعِظْهُمْ } أو { فَأَعْرِضْ } عن قبول عذرهم { وَعِظْهُمْ } . { قَوْلاً بَلِيغاً } أزجرهم أبلغ زجر ، أو قبل إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم ، فإنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ .
(1/397)

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
{ شَجَرَ بَيْنَهُمْ } المشاجرة : المنازعة ، والاختلاف لتداخل الكلام بعضه في بعض كتداخل الشجر بالتفافها . { حَرَجًا } شكاً ، أو إثماً . نزلت في المنافق واليهودي اللذين إحتكما إلى الطاغوت ، أو في الزبير والأنصاري لما اختصما في شراج الحرة .
(1/398)

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
{ وَالصِّدِّيقِينَ } أتباع الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه ، [ والصديق ] " فعيل " من الصدق ، أو من الصدقة ، والشهيد لقيامه بشهادة الحق حتى قُتل ، أو لأنه من شهيد الآخرة ، والصالح : من صلح عمله ، أو من صلحت سريرته وعلانيته ، والرفيق : من الرفق في العمل أو من الرفق في السير . توهم قوم أنهم لا يرون الأنبياء في الجنة ، لأنهم في أعلى عليين فحزنوا وسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .
(1/399)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
{ حِذْرَكُمْ } احذروا عدوكم ، أو خذوا سلاحكم ، سماه حذراً لأنه يُتقى به الحذر . { ثُبَاتٍ } جمع ثُبَة ، وهي العصبة ، قال :
لقد أغدو على ثُبَةٍ كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء
(1/400)

وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
{ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا } مكة إجماعاً .
(1/401)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
{ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } نزلت في قوم من الصحابة ، سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة أن يأذن لهم في القتال فيقاتلون فلما فرض القتال بالمدينة قالوا ما ذكر الله في هذه الآية ، أو في اليهود أو المنافقين ، أو هي صفة المؤمنين لما طبع عليه البشر من الخوف .
(1/402)

أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
{ بُرُوجٍ } قصور في السماء معينة ، أو القصور [ أو ] البيوت التي في الحصون ، أخذ البروج من الظهور ، تبرجت المرأة : أظهرت نفسها .
{ مًّشَيَّدَةٍ } مجصصة ، والشيد : الجص ، أو مطولة ، شاد بناءه وأشاده رفعه ، أشدت بذكر الرجل : رفعت منه ، أو المشيد " بالتشديد " المطول ، " وبالتخفيف " المجصص . { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنةٌ } أراد اليهود ، أو المنافقين ، والحسنة والسيئة : البؤس ، والرخاء ، أو الخصب والجدب ، أو النصر والهزيمة . { مِنْ عِندِكَ } بسوء تدبيرك ، أو قالوه على جهة التطير به ، كقوله [ تعالى ] { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
(1/403)

مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
{ مَّآ أَصَابَكَ } أيها الإنسان ، أو أيها النبي ، أو خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره . الحسنة النعمة في الدين والدنيا . والسيئة المصيبة فيهما ، أو الحسنة ما أصابه يوم بدر والسيئة ما أصابه بأُحد من شج وجهه ، وكسر رباعيته ، أو الحسنة : الطاعة والسيئة : المعصية قاله أبو العالية : { فَمِن نَّفْسِكَ } فبذنبك ، أو بفعلك .
(1/404)

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
{ حَفِيظًا } حافظاً لهم من المعاصي ، أو حافظاً لأعمالهم التي يجازون بها .
(1/405)

وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
{ طَاعَةٌ } أَمْرنا لَطَاعة . { بَيَّتَ } التبييت : كل عمل دبر بليل لأن الليل وقت المبيت ، أو وقت البيوت وتبييتهم إضمارهم مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه ، أو تقديرهم غير ما قال على جهة التكذيب . { يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } في اللوح المحفوظ ليجازيهم عليه ، أو يكتبه بأن ينزله عليك في الكتاب .
(1/406)

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
{ يَتَدَبَّرُونَ } من الدبور لأنه النظر في عواقب الأمور . { اخْتِلافًا } تناقضاً من جهة حق وباطل ، أو من جهة بليغ ومرذول . أو اختلافاً في تخبر الأخبار عما يسرون .
(1/407)

وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
{ وَإِذاَ جَآءَهُمْ } أراد المنافقين ، أو ضعفة المسلمين . { أُوْلِى الأَمْرِ } العلماء ، أو الأمراء ، أو أمراء السرايا . { الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولو الأمر ، أو المنافقون ، أو ضعفة المسلمين . { يَسْتَنبِطُونَهُ } يستخرجونه من استنباط الماء ، والنبط ، لاستنباطهم العيون . { فَضْلُ اللَّهِ } الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن العزيز ، أو اللطف . { إِلاَّ قَلِيلاً } من الأتباع ، أو لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً ، أو أذعوا به إلا قليلاً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/408)

مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
{ شَفاعَةً حَسَنَةً } الدعاء للمؤمنين والسيئة : الدعاء عليهم كانت اليهود تفعله فتوعدهم الله - تعالى - عليه ، أو هو سؤال الرجل لأخيه أن ينال خيراً أو شراً بمسألته . { كِفْلٌ } وزر وإثم ، أو نصيب { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] { مُّقِيتاً } مقتدراً ، أو حفيظاً ، أو شهيداً ، أو حسيباً ، أو مجازياً أخذ المقيت من القوت فسمي به المقتدر لقدرته على إعطاء القوت وصار لكل قادر على قوت أو غيره . وقال :
وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتاً
(1/409)

وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
{ بِتَحِيَّةٍ } الدعاء بطول الحياة ، أو السلام ، ورده فرض عام المسلم والكافر ، أو يختص به المسلم . { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } الزيادة في الدعاء { أَوْ رُدُّوهَآ } بمثلها ، أو { بِأَحْسَنَ } منها على المسلم ، وبمثلها على الكافر قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { حَسِيباً } حفيظاً ، أو محاسباً على العمل ليجزي عليه ، أو كافياً .
(1/410)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
{ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } لقيام الناس فيه من قبورهم ، أو لقيامهم فيه للحساب .
(1/411)

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } نزلت فيمن تخلف بأُحُد وقال : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَبَعْنَاكُمْ } ، أو في قوم قدموا المدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك ، أو فيمن أظهر الإسلام بمكة ، وأعان المشركين على المسلمين ، أو في قوم من أهل المدينة ، أرادوا الخروج عنها نفاقاً ، أو في قوم من أهل الإفك . { أَرْكَسَهُم } ردهم ، أو أوقعهم ، أو أهلكهم ، أو أضلهم ، أو نكسهم . { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ } تريدون أن تسموهم بالهدى ، وقد سماهم الله تعالى بالضلال ، أو تهدوهم إلى الثواب بمدحهم ، وقد أضلهم الله تعالى بذمهم .
(1/412)

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
{ يَصِلُونَ } يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان ، نزلت في بني مدلدج كان بينهم وبين قريش عقد فحرم الله تعالى من بني المدلج ما حرم من قريش . { حَصِرَتْ } ضاقت ، وحصر العدو تضييقه ، وهو خبر ، أو دعاء . { لَسَلَّطَهُمْ } بتقوية قلوبهم ، أو أذن لهم في القتال ليدفعوا عن أنفسهم . { السَّلَمَ } الصلح ، أو الإسلام ، نسختها آية السيف .
(1/413)

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
{ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } قوم أظهروا الإسلام ، ليأمنوا المسلمين ، وأظهروا موافقة قومهم ، ليأمنوهم ، وهم من أهل مكة ، أو من أهل تهامة ، أو من المنافقين ، أو نعيم بن مسعود الأشجعي . { الْفِتْنَةِ } كلما ردوا إلى المحنة في إظهار الكفر رجعوا فيه .
(1/414)

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، قتل الحارث بن يزيد وكان يعذب عياشاً ثم أسلم الحارث وهاجر فقتله عياش بالحرة وهو لا يعلم بإسلامه ، أو قتله يوم الفتح خارج مكة ، وهو لا يعلم إسلامه { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي ما أذن الله له لمؤمن { إِلاَّ خَطَئًا } استثناء منقطع . { رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } بالغة قد صَلَّت ، وصامت ، لا يجزي غيرها ، أو تجزى الصغيرة المتولدة من مسلمين . { وَدِيَةٌ } كانت معلومة معهودة ، أو هي مجملة أخذ بيانها من السنة . { مِن قَوْمٍ عَدُوٍ لَّكُمْ } كان قومه كفاراً فلا دية فيه ، أو كان في أهل الحرب فقتله من لا يعلم إيمانه فلا دية فيه مسلماً كان وارثه أو كافراً فيكون " مِنْ " بمعنى " في " قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ } أهل الذمة من أهل الكتاب ، فيهم الدية والكفارة ، أو أهل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة ، أو كل من له أمان بذمة أو عهد ففيه الدية والكفارة . { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الرقبة ، صام بدلاً من الرقبة وحدها عند الجمهور ، أو الصوم عند العدم بدل من الدية والرقبة قاله مسروق .
(1/415)

وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا } نزلت في مقيس بن صبابة قتل أخاه رجل فهري فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم ديته ، وضربها على بني النجار ، فقبلها مقيس ثم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع الفهري لحاجة فاحتمل الفهري وضرب به الأرض ، ورضخ رأسه بين حجرين ، فأهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه ، فقُتل عام الفتح ، قال زيد بن ثابت : نزلت الشديدة بعد الهيّنة بستة أشهر ، الشديدة { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا } ، والهيّنة : { والذين لاَ يَدْعُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، وقيل للرسول في الشديدة : " وإن تاب وآمن وعمل صالحاً " فقال : وأنى له التوبة ، رواه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/416)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
{ إِذَا ضَرَبْتُمْ } لقيت سرية للرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً معه غنيمات ، فسلم عليهم ، وآتى بالشهادتين ، فقتله أحدهم ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " لم قتلته ، وقد أسلم؟ " فقال : إنما قالها متعوذاً ، قال : " هلا شققت عن قلبه؟ " ثم وداه الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على أهله غنمه ، قتله أُسامة بن زيد ، أو المقداد ، أو أبو الدرداء أو عامر بن الأضبط ، أو محلم بن جثامة ، ويقال : لفظت الأرض قاتله ثلاث مرات ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن الأرض لتقبل من هو شر منه ، ولكن الله تعالى جعله لكم عبرة " ، وأمر أن تُلقى عليه الحجارة { كَذَلِكَ كُنتمُ } كفاراً فَمَنَّ الله تعالى عليكم بالإسلام .
(1/417)

وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
{ مُرَاغَمًا } مُتحولاً من أرض إلى أرض ، أو مَطلباً للمعيشة ، أو مُهَاجَراً ، أو مندوحة عما يكره ، أو ما يرغم به قومه ، لأن من هاجر راغباً عن قومه ، فقد راغمهم ، أخذ ذلك من الرغم وهو الذل ، والتراب رَغام لذلته ، والرَّغام ما يسيل من الأنف .
{ وَسَعَةً } في الرزق ، أو في إظهار الدين ، أو من الضلالة إلى الهدي ، ومن العيلة إلى الغنى .
(1/418)

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } سرتم ، لضربهم الأرض بأرجلهم في السير . { أَن تَقْصُرُواْ } الأركان بالإيماء عند التحام القتال مع بقاء عدد الصلاة ، أو تقصروا من أربع إلى اثنتين في الخوف دون الأمن ، أو تقصروا في الخوف إلى ركعة وفي الأمن إلى ركعتين ، أو في الأمن والخوف إلى ركعتين لا غير .
(1/419)

وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف ، وهي خاص به ، أو عامة لأمته عند الجمهور . { وَلْيَأْخُذُوَاْ أَسْلِحَتَهُمْ } يعني المصلين ، قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه أو الحارسين . { فَإِذَا سَجَدُواْ } المصلون ركعة واحدة عند من رأى صلاة ركعة فليكن المصلون من ورائكم بإزاء العدو . أو إذا صلوا بعد مفارقة الإمام ركعة أخرى فليكونوا من ورائكم ، أو لا يتمون الركعة الثانية إلا بعد وقوفهم بإزاء العدو ، { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى } وهم الذين كانوا بإزاء العدوا فيصلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم الركعة الباقية عليه ، ثم يسلمون معه عند من جعلها ركعة ، أو تتم الركعتين وتفارقه قبل التشهد ، أو بعده وتركع الركعة الثانية قبل وقوفها بإزاء العدو . أو تقف بإزائه وتنصرف الطائفة الأولى ، فتأتي بركعة ثم ترجع إلى مواجهة العدو ، ثم تخرج الثانية فتكمل صلاتها ، وهذه الصلاة نحو صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع .
(1/420)

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ } في خوف ، أو أمنٍ { فَاذْكُرُواْ اللَّهَ } تعالى عقبها بالتعظيم والتسبيح والتقديس . { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ } أقمتم فأتموها من غير قصر ، وإذا أمنتم من الخوف فأتموا الركوع والسجود بغير إيماء . { مَّوْقُوتًا } فرضاً واجباً ، أو مؤقَتة بنجومها كلما مضى نجم جاء نجم .
(1/421)

وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
{ وَلا تَهِنُواْ } لا تضعفوا في طلبهم للحرب . { وَتَرْجُونَ } من نصر الله ما لا يرجون ، أو من ثوابه ما لا يرجون ، أو تخافون منه ما لا يخافون { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] .
(1/422)

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
{ إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } نزلت في طعمة بن أُبيرق أُودع درعاً وطعاماً فجحد ولم تقم عليه بينة ، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالدفع عنه ، فبين الله تعالى أمره ، أو سرق درعاً وطعاماً ، فأنكره واتهم به أنصارياً ، أو يهودياً ، وألقاه في منزله .
(1/423)

وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
{ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا } أراد الذي اتهمه طعمة فلما نزلت فيه الآية ، ارتد طعمة ، ولحق بمشركي مكة ، فنزلت ، { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ } [ النساء : 115 ] .
(1/424)

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
{ إِنَاثاً } اللات والعزى ومناة ، أو الأوثان ، وفي مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها " إلاَّ أوثاناً " ، أو الملائكة ، لزعمهم أنهم بنات الله تعالى ، أو موات لا روح فيه ، لأن إناث كل شيء أرذله ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
(1/425)

وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
{ وَلأُضِلَّنَّهُمْ } عن الإيمان ، { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } بطول الأمل ، ليؤثروا الدنيا على الآخرة . { فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الانْعَامِ } ليقطعنها نسكاً لآلهتهم كالبحيرة والسائبة . { خَلْقَ اللَّهِ } دينه ، أو أراد خصاء البهائم ، أو الوشم .
(1/426)

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
{ لَّيْسَ } الثواب { بِأَمَانِيِّكُمْ } يا أهل الإسلام ، أو يا عبدة الأوثان ، { وَلآ أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } لا يستحق بالأماني بل بالأعمال الصالحة . { سُوَءًا } شركاً ، أو الكبائر ، أو ما ينال المسلم من الأحزان والمصائب في الدنيا فهو جزاء عن سيئاته ، ولما نزلت شقت على المسلمين فشكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : " قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة ، حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها " وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : ما أشد هذه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر إن المصيبة في الدنيا جزاء " .
(1/427)

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ } كانوا لا يورثون النساء ولا الأطفال فلما نزلت المواريث شق عليهم فسألوا فنزلت { لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } من الميراث ، او كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن بل يتملكه الأولياء فلما نزل { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } [ النساء : 4 ] سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت فقوله { لا تُؤُتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أراد به " الصداق " { وَتَرْغَبُونَ } عن نكاحهن لقبحهن وتمسكوهن رغبة في أموالهن ، أو { وَتَرْغَبُونَ } في نكاحهن رغبة في أموالهن ، أو جمالهن .
(1/428)

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
{ نُشُوزًا } ترفعاً عها لبغضها { أَوْ إِعْرَاضًا } انصرافاً عن الميل إليها لموجدة أو أثَرَة ، لما هم الرسول صلى الله عليه وسلم بطلاق سودة جعلت يومها لعائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها على أن لا يطلقها ، فنزلت ، أو هي عامة في كل أمرأة خافت النشوز أو الإعراض . { صُلْحًا } بترك مهر ، أو إسقاط قسم . { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } من الفرقة ، أو من النشوز والإعراض . { وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ } أنفس النساء عن حقوقهن على الأزواج وعن أموالهن ، أو نفس كل واحد من الزوجين بحقه على صاحبه .
(1/429)

وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
{ تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ } في المحبة . { وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أن تعدلوا في المحبة ، أو لو حرصتم في الجماع ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { كُلَّ الْمَيْلِ } أن يميل بفعله كما مال بقلبه . { كَالْمُعَلَّقَةِ } لا أيِّماً ولا ذات بعل .
(1/430)

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
{ وَيَأْتِ بِأخَرِينَ } لما نزلت ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان ، فقال : " قوم هذا " يعني عجم الفرس .
(1/431)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
{ ثَوَابَ الدُّنْيَا } الغنيمة ، وثواب { وَالأَخِرَةِ } الجنة .
(1/432)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
{ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } بالعدل . { شُهَدَآءَ لِلَّهِ } بالحق { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } بالإقرار . { فَلا تَتَّبِعُواْ الْهَوَى } اختصم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم غني وفقير فكان ضَلْعه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فنزلت ، أو نزلت في الشهادة . لهم وعليهم .
{ وإن تلوا } أمور الناس ، أو تتركوا ، خطاب للولاة والحكام . { تَلْوُاْ } من لي اللسان بالشهادة ، فيكون الخطاب للشهود قاله ابن عباس رضي الله عنهما .
(1/433)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بمن تقدم من الأنبياء . { ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } خطاب لليهود ، أو للمنافقين ، يا أيها الذين آمنوا بأفواههم آمنوا بقلوبكم ، أو للمؤمنين يا أيها الذين آمنوا دوموا على إيمانكم .
(1/434)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
{ ءَامَنُواْ } بموسى { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعبادة العجل { ثُمَّ ءَامَنُواْ } بموسى بعد عوده { ثُمَّ كَفَرُواْ } بعيسى { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين أو المنافقون آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ، ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم ، أو قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين فأظهروا الإيمان ثم الكفر ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم عليه فيستتاب المرتد ثلاث مرات فإن عاد قُتل بغير استتابة ، لأجل هذه الآية قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو يستتاب كلما ارتد عند الجمهور .
(1/435)

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
{ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } فأعطونا من الغنيمة . { نَسْتَحْوِذْ } نستولي عليكم بالنصر والمعونة . { وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } بالتخذيل عنكم ، أو ألم نبيّن لكم أنا على دينكم ، أو ألم نغلب عليكم ، أصل الاستحواذ : الغلبة . { عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } في الآخرة ، أو حجة .
(1/436)

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ } جعل خداعهم للرسول صلى الله عليه وسلم بما أظهره من الإيمان خداعاً له . { خَادِعُهُمْ } يجزيهم على خداعهم ، سمي الجزاء باسم الذنب ، أو أمر فيهم كعمل الخادع؛ بأمره بقبول إيمانهم ، أو ما يعطيهم في الآخرة من نور يمشون به من المؤمنين ثم يطفأ عند الصراط فذلك خدعه إياهم . { إِلاَّ قَلِيلاً } أي ذكر الرياء حقيراً يسيراً ، لاقتصارهم على ما يظهر من التكبير دون ما يخفى من القراءة والتسبيح .
(1/437)

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
{ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } فيدعو على ظالمه ، أو يخبر بظلمه إياه ، أو فينتصر منه ، أو ينزل برجل فلا يحسن ضيافته فله أن يجهز بذمه .
(1/438)

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
{ إِن تُبْدُواْ خَيْرًا } بدلاً من السوء ، أو تخفوا السوء وإن لم تبدوا خيراً { عَفُوًّا } عن السوء ، كان أولى ، وإن كان ترك العفو جائزاً .
(1/439)

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
{ كِتَابًا مِّنَ السَّمَآءِ } سأله اليهود أن ينزل كتاباً مكتوباً ، كما نزلت الألواح على موسى صلى الله عليه وسلم ، أو سألوه نزول ذلك عليهم خاصاً تحكماً في طلب الآيات ، أو سألوه أن ينزل على طائفة من رؤسائهم كتاباً بتصديقه { جَهْرَةً } معاينة ، أو قالوا جهرة أرنا الله ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { بِظُلْمِهِمْ } لأنفسهم ، أو بظلمهم في سؤالهم .
(1/440)

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
{ الْبَابَ } باب الموضع الذي عبدوا فيه العجل ، وهو باب من أبواب بيت المقدس ، أو باب حطة . { لا تَعدَّوا } بارتكاب المحظورات ، { لا تَعْدُواْ } الواجب . { مِّيثَاقَاً غَلِيظًا } هو ميثاق آخر غير الميثاق الأول ، { غَلِيظاً } العهد بعد اليمين ، أو بعض العهد ميثاق غليظ .
(1/441)

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
{ غُلْفٌ } أوعية للعلم ، ومع ذلك فلا تفهم حجتك ولا إعجازك ، أو محجوبة عن فهم دلائل صدقك كالمحجوب في غلافه . { طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا } ذمهم بأن قلوبهم كالمطبوع عليها فلا تفهم أبداً ، أو جعل عليها علامة تدل الملائكة على كفرهم كعلامة المطبوع . { إِلاَّ قَلِيلاً } منهم ، أو إلاَّ بقليل وهو إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض .
(1/442)

وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
{ رَسُولَ اللَّهِ } في زعمه ، من قول اليهود ، أو هو من قول الله تعالى لا على جهة الحكاية . { شُبِّهَ لَهُمْ } كانوا يعرفونه ، فَأُلقي شَبَهه على غيره فقتلوه ، أو لم يكونوا يعرفونه بعينه ، وإن كان مشهوراً بينهم بالذكر فارتشى منهم مرتشي ثلاثين درهماً وَدَلَّهم على غيره ، أو كانوا يعرفونه فخاف الرؤساء فتنة العوام بأن الله منعهم فقتلوا غيره إيهاماً أنه المسيح ليزول افتتانهم به . { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ } قبل القتل فقال بعضهم : هو إله ، وقال آخرون : هو ولد ، وقال آخرون : ساحر . { إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ } الشك الذي حدث فيهم بالاختلاف ، أو ما لهم بحاله من علم هل كان رسولاً ، أو غير رسول؟ إلا اتباع الظن . { يَقِيناً } وما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك : ما قتلته علماً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ما قتلوا أمره يقيناً ، إن الرجل هو المسيح أو غيره ، أو ما قتلوه حقاً .
(1/443)

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
{ رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } إلى سمائه ، أو إلى موضع لا يجري فيه حكم أحد من العباد .
(1/444)

وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
{ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي ، أو بالمسيح قبل موت المسيح إذا نزل من السماء ، أو قبل موت الكتابي يؤمن بما نزل من الحق وبالمسيح . { شَهِيداً } على نفسه بالعبودية وتبليغ الرسالة ، أو بتكذيب المكذب وتصديق المصدق من أهل عصره .
(1/445)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
{ لا تَغْلُواْ } لليهود ، أو لليهود والنصارى غلوا في المسيح ، فقالت النصارى هو الرب ، وقالت اليهود لغير رِشدة ، والغلو : مجاوزة الحد ، غلا السعر : جاوز الحد في الزيادة ، وغلا في الدين : أفرط في مجاوزة الحق . { إِلاَّ الْحَقَّ } لا تقولوا المسيح إله ولا لغير رشدة . { وَكَلِمَتُهُ } ، لأن الله تعالى كلمه حين قال له : " كن " ، أو لأنه بشارة بشر الله بها ، أو لأنه يُهتدى به كما يُهتدى بكلام الله . { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أضافه إليه تشريفاً ، أو لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح ، أو لأن جبريل عليه السلام نفخ فيه الروح بإذن الله تعالى والنفخ في اللغة : يسمى روحاً . { ثَلاثَةٌ } أب وابن وروح القدس ، أو قول من قال : آلهتنا ثلاثة .
(1/446)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
{ بُرْهَانٌ } النبي صلى الله عليه وسلم لما معه من المعجز . { نُوراً } القرآن ، لإظهاره للحق كما تظهر المرئيات بالنور .
(1/447)

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
{ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ } بالقرآن ، أو بالله تعالى . { وَيَهْدِيهِمْ } يعطيهم في الدنيا ما يؤديهم إلى نعيم الآخرة ، أو يأخذ بهم في الآخرة إلى طريق الجنة .
(1/448)

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
{ يَسْتَفْتُونَكَ } آخر سورة أُنزلت كاملة سورة براءة ، وآخر آية نزلت { يَسْتَفْتُونَكَ } ولما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم جابراً رضي الله تعالى عنه في مرضه ، سأله كيف يصنع بماله ، وكان له تسع أخوات فنزلت .
(1/449)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
{ بِالْعُقُودِ } عهود الله التي أخذ بها الإيمان على عباده فيما أحلّ وحرّم ، أو ما أخذ على أهل الكتاب أن يعلموا بما في التوراة والإنجيل من [ تصديق ] صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو العهد والحلف الذي كان في الجاهلية أو عهود الدِّين كلها ، أو عقود الناس كالبيع والإجارة وما يعقده على نفسه من نذر أو يمين . { بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } الإبل والبقر والغنم ، أو أجنة الأنعام إذا ذكيت فوجد الجنين ميتاً ، أو بهيمة الأنعام وحشيها كالظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه مأخوذ من نَعمة الوطء .
(1/450)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
{ شَعَآئِرَ اللَّهِ } معالم الله من الإشعار وهو الإعلام : مناسك الحج ، أو محرمات الإحرام ، أو حَرَم الله ، أو حدوده في الحلال والحرام المباح ، أو دينه كله { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [ الحج : 32 ] أي دين الله . { الشَّهْرَ الْحَرَامَ } لا تقاتلوا فيه وهو رجب أو ذو القعدة أو الأشهر الحرم . { الْهَدْىَ } كل ما يهدى إلى البيت من شيء ، أو ما لم يقلد من النعم وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلده . { الْقلآئِدَ } قلائد الهدى ، أو كانوا إذا حجوا تقلّدوا من لحاء الشجر ليأمنوا في ذهابهم وإيابم ، أو كانوا يأخذون لحاء شجر الحرم إذا خرجوا منه فيتقلدون ليأمنوا فنهوا عن نزع شجر الحرم . { ءَآمِّينَ } : قاصدين أممت كذا قصدته . { فَضْلاً } أجراً ، أو ربح تجارة { وَرِضْوَاناً } من الله تعالى عنهم بنسكهم . { يَجْرِمَنَّكُمْ } : يحملنكم ، جرمني فلان على بغضك حملني ، أو يكسبنكم ، جرمت على أهلي : كسبت لهم . { شَنَئَانُ } : بغض ، أو عداوة .
أتى الحُطم بن هند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : إلامَ تدعو؟ فأخبره ، فخرج فمرّ بسرح من سرح المدينة فاستاقه ، ثم أقبل من العام المقبل حاجّاْ مقلداً الهدى فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه فنزلت فقال ناس من الصحابة يارسول الله خَلِّ بيننا وبينه فإنه صاحبنا فنزلت . ثم نسخ جميعها ، أو نسخ منها ولا الشهر الحرام ، ولا آمين البيت الحرام ، أو نسخ التقلد بلحاء الشجر فاتفقوا على نسخ بعضها .
(1/451)

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
{ الْمَيْتَةُ } كل ما له نفس سائلة من دواب البَرِّ وطيره ، أو كل ما فارقته الحياة من دواب البرّ وطيره . { وَالدَّمُ } محرم إذا كان مفسوحاً ، فلا يحرم دم السمك ، [ أو ] المسفوح وغيره حرام إلا ما خصّته السنّة من الكبد والطحال فحرم دم السمك . { وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ } يخصّه التحريم عند داود ويعم باقي أجزائه عند الجمهور ، ولا فرق بين الأهلي والوحشي . { وَمَآ أُهِلَّ } ذبح لغير الله من صنم أو وثن ، استهل الصبي صاح ، ومنه إهلال الحج . { وَالْمُنْخَنِقَةُ } بحبل الصائد وغيره حتى تموت ، أو التي توثق فيقلتها خناقها . { وَالْمَوْقُوذَةُ } المضروبة بالخشب حتى تموت . وقذه وقذاً : ضربه حتى أشفى على الهلاك . { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } من رأس جبل أو بئر .
{ وَالنَّطِيحَةُ } التي تنطحها أخرى فتموت . { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } من المنخنقة ، وما بعدها عند الجمهور أو مما أكل السبع خاصة ، والأكيلة التي تحلها الذكاة هي التي فيها حياة قوية لا كحركة المذبوح ، أو يكون لها عين تطرف وذنب يتحرك . { تَسْتَقْسِمُواْ } تطلبوا علم ما قسم لكم من رزق أو حاجة . { بِالأَزْلامِ } قداح مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والآخر غُفل ، كانوا إذا أرادوا أمراً ضربوا بها ، فإن خرج أمرني ربي فعلوه ، وإن خرج نهاني تركوه ، وإن خرج الغفل أعادوه ، سمي ذلك استقساماً لطلبهم على ما قسم لهم ، أخذ من قسم اليمين لأنهم التزموا بالقداح ما يلتزمونه باليمين . { ذَلِكُمْ } الذي نهيتم عنه فسق وخروج عن الطاعة . { يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } من دينكم أن ترتدوا عنه ، أو أن يبطلوه أو يقدحوا في صحته ، وكان ذلك يوم عرفة في حجة الوداع بعد دخول العرب في الإسلام حين لم يرَ الرسول صلى الله عليه وسلم مشركاً { فَلا تَخْشَوْهُمْ } أن يظهروا عليكم واخشوا مخالفتي . { الْيَوْمَ اكْمَلْتُ } يوم عرفة في حجة الوداع ، ولم يعش بعد ذلك إلا أحدى وثمانين ليلة ، أو زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كله إلى أن نزل ذلك يوم عرفة . وأكماله بإكمال فرائضه ، وحلاله وحرامه فلم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم بعدها شيء من الفرائض من تحليل ولا تحريم ، أو بإكمال الحج فلا يحج معكم مشرك . { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } بإكمال الدين { وَرَضِيتُ لَكُمُ } الاستسلام لأمري { دِيناً } أي طاعة . { فَمَنِ اضْطُرَّ } أصابه ضر من الجوع . { مَخْمَصَةٍ } مفعلة كمبخلة ومجبنة ومجهلة ومحزنة ، من الخمص وهو اضطمار البطن من الجوع { مُتَجَانِفٍ } متعمد أو مائل . جنف القوم مالوا ، وكل أعوج فهو أجنف . نزلت هذه السورة والرسول صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة ، أو في مسير له من حجة الوداع ، أو يوم الاثنين بالمدينة .
(1/452)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
{ الطَّيِّبَاتُ } : الحلال وإن لم يكن مستلذاً تشبيهاً بالمستلذ ، قلت وهو بعيد إذ لا جواب فيه . { وَمَا عَلَّمْتُم } وصيد ما عَلَّمتم { الْجَوَارِحِ } الكواسب ، فلان جارحة أهله أي كاسبهم { مُكَلِّبِينَ } بالكلاب وحدها فلا يحل إلا صيد الكلب ، أو بالكلاب وغيرها أي مُضَرِّين على الصيد كما تُضَرَّى الكلاب ، أو التكليب من صفة الجارح المعلَّم { تُعَلِّمُونَهُنَّ } من طلب الصيد { مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } من تأديبه فإن أَكَلَ الجارحة من الصيد فيحل ، أو لا يحل ، أو يحل في جوارح الطير دون السباع . لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب قالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت فنزلت ، أو سأله زيد الخير فقال يا رسول الله فينا رجلان يقال لأحدهما ذَريح والآخر يكنى أبا دجانة لهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها؟ فنزلت .
(1/453)

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
{ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ذبائحهم وطعامهم . { وَالْمُحْصَنَاتُ } حرائر الفريقين عفيفات أو فاجرات ، أو العفائف من الحرائر والإماء ، ومحصنات أهل الكتاب المعاهدات دون الحربيات ، أو المعاهدات والحربيات عند الجمهور . { مُحْصِنِينَ } أعفّاء { مُسَافِحِينَ } زناة { مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } : ذات خليل تقيم معه على السفاح .
(1/454)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
{ إِذَا قُمْتُمْ } إذا أردتم القيام إلى الصلاة مُحدِثين ، أو يجب على كل قائم إلى الصلاة أن يتوضأ ولا يجوز أن يجمع فريضتين بوضوء واحد يروى عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما ، أو كان واجباً على كل قائم إلى الصلاة فنسخ إلاَّ عن المُحدِث " وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة ثم جمع الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد " . وكان قد أُمر بالوضوء لكل صلاة فلما شق عليه أُمر بالسواك ورُفع الوضوء .
(1/455)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
{ بِالْقِسْطِ } بالعدل شهداء لحقوق الناس أو بما يكون من معاصيهم ، أو شهداء لأمر الله بأنه حق .
(1/456)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
{ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ } بعثت قريش رجلاً ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله تعالى على ذلك فنزلت هاتان الآيتان أو خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية فهمّوا بقتله فنزلت تذكرهم نعمته عليهم بخلاص نبيهم صلى الله عليه وسلم .
(1/457)

وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
{ مِيثَاقَ بَنِىَ إِسْرَآءِيلَ } : بإخلاص العبادة ولزوم الطاعة . { نَقِيباً } أخذ من كل سبط منهم نقيب وهو الضمين ، أو الأمين ، أو الشهيد على قومه ، والنقب في اللغة الواسع . فنقيب القوم هو الذي ينقب عن أحوالهم ، بُعثوا ضمناء لقومهم بما أخذ به ميثاقهم ، أو بُعثوا إلى الجبارين ليقفوا على أحوالهم ، فرجعوا ينهون عن قتالهم لما رأوا من شدّة بأسهم وعظم خلقهم إلا اثنين منهم . { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } نصرتموهم ، أو عظمتموهم ، مأخوذ من المنع عزرته عزراً رددته عن الظلم .
(1/458)

فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
{ قَاسِيَةً } من القسوة وهي الصلابة و { قَسِيَّة } أبلغ من قاسية ، او بمعنى فاسدة { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } بالتغيير والتبديل وسوء التأويل { حَظّاً } نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم . { خَآئِنَةٍ } خيانة ، أو فرقة خائنة { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } نسختها { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ التوبة : 29 ] أو { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] أو هي محكمة في العفو والصفح إذا رآه .
(1/459)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
{ تُخْفُونَ } من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ورجم الزانيين . { نُورٌ } محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن العزيز .
(1/460)

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
{ السَّلامِ } : هو الله ، أو السلامة من المخاوف { الظُّلُمَاتِ } : الكفر ، و { النُّورِ } : الإيمان { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } طريق الحق ودين الحق ، أو طريق الجنة في الآخرة .
(1/461)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
{ أَبْنَآؤُاْ اللَّهِ } " خَوَّف الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود فقالوا : لا تخوفنا نحن أبناء الله وأحباؤه " أو قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد ، أو زعمت اليهود أنّ الله تعالى أوحى إلى إسرائيل [ أنّ ولدك بِكْري من الولد ] فقالوا نحن أبناء الله وأحباؤه . وقالته النصارى لما رأوا الإنجيل من قوله : " أذهب إلى أبي وأبيكم " أو لأجل قولهم : " المسيح ابن الله " وهم يرجعون إليه فجعلوا أنفسهم أبناء الله وأحباؤه ، فردّ عليهم بقوله { فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } لأن الأب المشفق لا يعذب ولده ولا المحب حبيبه .
(1/462)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
{ أَنبِيَآءَ } الذين جاءوا بعد موسى صلى الله عليه وسلم أو السبعون الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم . { مُّلُوكاً } لأنفسكم بالتخليص من استبعاد القبط ، أو كل واحد ملك لنفسه وأهله وماله ، أو كانوا أول من ملك الخَدم من بني آدم ، أو جُعلوا ملوكاً بالمنّ والسلوى والحجر ، أو كل من ملك داراً وزوجة وخادماً فهو ملك من سائر الناس . { مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً } المنّ والسلوى والغمام والحجر ، أو كثرة الأنبياء والآيات التي جاءتهم .
(1/463)

يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
{ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } بيت المقدس ، أو الشام ، أو دمشق وفلسطين وبعض الأردن . المقدسة : المطهرة . { كَتَبَ [ اللَّهُ ] لَكُمْ } هبة منه ثم حَرَّمها عليهم بعصيانهم { وَلا تَرْتَدُّواْ } عن طاعة الله تعالى أو عن الأرض التي أُمِرتم بدخولها .
(1/464)

قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
{ جَبَّارِينَ } الجبار الذي يجبر الناس على ما يريد ، وجبر العظم لأنه كالإكراه له على الصلاح ، نخلة جبارة : فاتت اليد طُولاً لامتناعها كامتناع الجبار من الناس .
(1/465)

قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
{ الَّذِينَ يَخَافُونَ } الله ، أو يخافون الجابرين فلم يمنعهم خوفهم من قول الحق . { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } بالإسلام ، أو بالتوفيق للطاعة ، كانا من الجبارين فأسلما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كانا في مدينة الجبارين على دين موسى صلى الله عليه وسلم ، أو كانا من النقباء يُوشع بن نون وكلاب بن يوقنا . { فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } قالوا ذلك لعلمهم أنّ الله تعالى كتبها لهم ، أو لعلمهم أنّ الله تعالى ينصرهم على أعدائه .
(1/466)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
{ ابْنَىْ ءَادَمَ } رجلان من بني إسرائيل قاله الحسن ، أو قابيل وهابيل ابنا آدم عليه الصلاة والسلام لصلبه . { قُرْبَاناً } بِراً يقصد به التقرب من رحمة الله تعالى قرباه لغير سبب ، أو لسبب على الأشهر ، كانت حواء تضع في كل عام غلاماً وجارية فيتزوج الغلام بالجارية من البطن الآخر ، ولم يزل بنو آدم في نكاح الأخوات حتى مضت أربعة آباء فنكح ابنة عمه وذهب نكاح الأخوات ، فلما أراد هابيل أن يتزوج بتوأمة قابيل منعه لأنه وتوأمته أحسن من هابيل وتوأمته ، أو لأنهما من ولادة الجنة وهابيل وتوأمته من ولادة الأرض ، فكان هابيل راعياً فقرب سخلة سمينة من خيار ماله ، وكان قابيل حراثاً فقرب جُرْزَة سنبل من شر ماله فنزلت نار بيضاء فرفعت قربان هابيل علامة لقبوله ، وتركت قربان قابيل ولم يكن لهم مسكين يتصدّق عليه وتقبل قربان هابيل لتقربه بخيار ماله قاله الأكثرون ، أو لأنه أتْقَى من قابيل ولذلك قال { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } والتقوى ها هنا الصلاة وكانت السخلة المذكورة ترعى في الجنة حتى فُدي بها إسحاق أو إسماعيل ، وقربا ذلك بأمر آدم عليه الصلاة والسلام لما اختصما إليه ، أو من قبل أنفسهما ، وكان آدم عليه الصلاة والسلام قد توجه إلى مكة بإذن ربه زائراً ، فلما رجع وَجَده قد قتله ، وكان عند قتله كافراً ، أو فاسقاً .
(1/467)

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
{ مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ } كان قادراً على دفعه مع إباحته له ، أو لم يكن له الامتناع ممن أراد قتله .
(1/468)

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
{ تَبُوأَ } ترجع { بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ } بإثم قتلي ، وإثم ذنوبك التي عليك ، أو بإثمي بخطاياي وإثمك قتلك لي .
(1/469)

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
{ فَطَوَّعَتْ } فعلت من الطاعة فزينت ، أو فشجعت ، أو فساعدت ، ولم يدرِ كيف يقتله فظهر له إبليس فعلمه فقتله غيلة ، فألقى عليه وهو نائم صخرة فشدخه بها ، فكان أول قتيل في الأرض .
(1/470)

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
{ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الأَرْضِ } على غراب آخر ، أو مَلَكاً على صورة غراب يبحث على سوأة أخيه ليعرف كيف يدفنه . { سَوْءَةَ أَخِيهِ } عورته أو جيفته لأنه تركه حتى أنتن . { يَاوَيْلَتَى } الويل : الهلكة { النَّادِمِينَ } قيل : لو ندم على الوجه المعتبر لقبلت توبته لكنه ندم على غير الوجه .
(1/471)

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
{ مِنْ أَجْلِ } قتله أخاه كتبنا { بِغَيْرِ نَفْسٍ } بغير قَوَد { أَوْ فَسَادٍ } كحرب لله ورسوله وأخافة للسبيل . { قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } من قتل نبياً أو إمام عدل فكأنما قتل الناس ، ومن شدّ على يد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كأنما قتل الناس عند المقتول . ومن استنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس عند المستنقذ أو يصلَى النار بقتل الواحد كما يصلاها بقتل الكل ، وإن سَلِم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعاً ، أو يجب بقتل الواحد من القصاص ما يجب بقتل الكل . ومن أحيا القاتل بالعفو عنه فله مثل أجر من أحيا الناس جميعاً ، أو على الناس ذم القاتل كما لو قتلهم جميعاً ومن أحياها بإنجائها من سبب مهلك فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعاً ، أو عظم الله تعالى أجرها ووزرها فأحْيِها بمالك أو بعفوك .
(1/472)

إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
{ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ } نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهداً كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم فأفسدوا في الأرض ، أو في العرنيين المرتدّين ، أو فيمن حارب وسعى بالفساد . والمحاربة : الزنا والقتل والسرقة ، أو المجاهرة بقطع الطريق والمكابرة باللصوصية في المصر وغيره ، أو المجاهرة بقطع الطريق دون المكابر في المصر . فيتخير الإمام فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي ، أو يعاقبهم على قدر جناياتهم ، فيقتل إن قتلوا ، أو يصلب إن قتلوا وأخذوا المال ، ويقطع من خلاف إذا اقتصروا على أخذ المال قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن الرسول صلى الله عليه وسلم " إنه سأل جبريل ، عليه السلام ، عن قصاص المحارب فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده لسرقته ورجله لإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه " { أَوْ يُنفَوْاْ } من بلاد الإسلام إلى أرض الشرك أو من مدينة إلى مدينة ، أو بالحبس ، أو بطلبهم لإقامة الحد حتى يبعدوا .
(1/473)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
{ تَابُواْ } من الشرك والفساد بإسلامهم ، ولا يسقط حد المسلم بالتوبة قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو التائب من المسلمين من المحاربين بأمان الإمام دون التائب بغير أمان ، أو من لحق بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه أو من كان في دار الإسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها قبلت توبته قبل القدرة وإن لم يكن له فئة فلا تضع توبته شيئاً من عقوبته ، أو تسقط عنه حدود الله تعالى دون حقوق العباد ، أو تسقط عنه سائر الحدود والحقوق سوى الدماء .
(1/474)

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
{ وَالسَّارِقُ } قدم السارق على السارقة والزانية على الزاني لان الرجل أحرص على المال من المرأة والمرأة أحرص على الاستمتاع منه ، وقطعت يد السارق لوقوع السرقة بها ، ولم يقطع الذكر وإن وقعت الخيانة به لأن في قطعه فوات النسل ، أو لأن الزجر لا يحصل به لخفائه بخلاف اليد فإنها ظاهرة ، أو لأن السارق إذا انزجر بقي له مثل يده بخلاف الزاني إذا انزجر فإنه لا يبقى له ذكر آخر . قيل نزلت في طعمة بن أبيرق وفي وجوب الغرم مع القطع مذهبان .
(1/475)

فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
{ فَمَن تَابَ } التوبة الشرعية أو بقطع اليد .
(1/476)

أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
{ يُعَذِّبُ } من مات كافراً { وَيَغْفِرُ } لمن تاب من كفره ، أو يعذب في الدنيا على الذنوب بالقتل والآلام والخسف وغير ذلك من العذاب ، ويغفر لمن شاء في الدنيا بالتوبة .
(1/477)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
{ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ } المنافقون . { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } يسمعون كلامك ليكذبوا عليك { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } ليكذبوا عليك عندهم إذا أتوا بعدهم ، أو قابلون الكذب عليك { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ } في قصة الزاني المحصن من اليهود ، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم برجمه فأنكروه . { يُحَرِّفُونَ } كلام محمد صلى الله عليه وسلم إذا سمعوه غيَّروه أو تغيير حكم الزاني وإسقاط القَوَد عند وجوبه . { إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا } أي الجلد ، أرسلت اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بزانيين منهم ، وقالوا : إن حكم بالجلد فاقبلوه ، وإن حكم بالرجم فلا تقبلوه . فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ابن صوريا هل في التوراة الرجم؟ فأمسك فلم يزل به حتى اعترف ، فرجمهما الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أنكر ابن صوريا بعد ذلك فنزلت فيه هذه الآية ، أوإن أوتيتم الدية ، قتلت بنو النضير رجلاً من قريظة وكانوا يمتنعون من القَوَد بالدية إذا جنى النضيري ، وإذا جنى القرظي لم يقنع النضيري إلاَّ بالقود ، فقالت النضير : إن أفتاكم الرسول بالدية فاقبلوها وإن أفتى بالقود فردوه . { فِتْنَتَهُ } عذابه ، أو ضلاله ، أو فضيحته . { يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } من الكفر ، أو من الضيق والحرج عقوبة لهم .
(1/478)

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
{ لِلسُّحْتِ } الرشوة ، أو رشوة الحكم ، أو الاستعجال على المعاصي ، أو ما فيه العار من الأثمان المحرمة كثمن الكلب والخنزير والخمر وعَسْب الفحل وحلوان الكاهن . والسحت من الاستئصال ، لأنه يستأصل الدين والمررءة . { فَإِن جَآءُوكَ } اليهوديان الزانيان ، خُيّر الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن يحكم بينهما بالرجم ، أو يدع ، أو قرظي ونضيري قتل أحدهما الآخر فخير في الحكم بينهما بالقود والتخيير محكم ، أو منسوخ بقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/479)

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
{ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } بالرجم ، أو بالقَوَد . { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } بعد حكم التوراة ، أو بعد حكمك . { وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } في تحكيمك أنه من عند الله تعالى مع جحدهم نبوتك ، أو في توليهم عن حكم الله غير راضين به .
(1/480)

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
{ هُدىً } دليل . { وَنُورٌ } بيان . { النَّبِيُّونَ } جماعة أنبياء منهم محمد ، أو محمد وحده صلى الله عليه وسلم وإن ذكر بلفظ الجمع ، والذي حكم به رجم الزاني ، أو القود ، أو الحكم بكل ما فيها ما لم يرد نسخ ، أو تخصيص . { لِلَّذِينَ هَادُواْ } اللام بمعنى " على " وفي الحكم بها على غير اليهود خلاف . { وَالأَحْبَارُ } العلماء واحدهم ، " حبر " بالكسر والفتح من التحبير وهو التحسين ، لأن العالم يحسن الحسن ، ويقبح القبيح ، أو يحسن العلم . { اسْتُحْفِظُواْ } استودعوا ، أو حفظوا . { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } على حكم النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة . فلا تخشوهم في كتمان ما أُنزلت أو في الحكم به . { ثَمَناً قَلِيلاً } أجراً على كتمانها ، أو أجراً على تعليمها . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } نزلت والآيتان التي بعدها في اليهود دون المسلمين ، أو نزلت في أهل الكتاب ، وهي عامة في سائر الناس ، أو أراد بالكافرين المسلمين ، وبالظالمين : اليهود ، وبالفاسقين : النصارى ، أو من لم يحكم به جاحداً كفر ، وإن كان غير جاحد ظلم وفسق .
(1/481)

وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
{ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } نزلت في القرظي والنضيري قتل أحدهما الآخر . { كَفَّارَةٌ } للمجروح ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم " من جرح في جسده جراحة فتصدّق بها كفّر عنه من ذنوبه بمثل ما تصدّق به " أو للجارح لقيامه مقام أخذ الحق ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/482)

وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } القرآن . { مُصَدِّقاً } بما قبله من الكتب ، أو موافقاً لها . { وَمُهَيْمِناً } أميناً ، أو شاهداً ، أو حفيظاً . { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ } فيه دليل على وجوب الحكم بالقرآن دون التوراة والإنجيل . { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ } يا أمة محمد ، أو جميع الأمم { شِرْعَةً } طريقة ظاهرة ، ومنه شريعة الماء ، لأنها أظهر طرقه إليه وأشرعت الأسنة أظهرت ، والمنهاج الطريق الواضح فمعنى قوله تعالى { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } سنّةً وسبيلاً . { أُمَّةً وَاحِدَةً } جمعكم على ملة واحدة ، أو على حق .
(1/483)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
{ لا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ } لما ظهرت عداوة اليهود تبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم ، وقال : أتولى الله ورسوله ، وقال عبد الله بن أُبي : لا أتبرأ من حلفهم أخاف الدوائر ، وأنزلت في أبي لبابة [ بن ] عبد المنذر لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة ، وقد نزلوا على حكم سعد فنصح لهم ، وأشار إلى أنه الذبح ، أو في أنصاريين خافا من وقعة أحدٍ فأراد أحدهما التهود ، والآخر التنصر ليكون لهما أماناً ، حذراً من إدالة الكفار . { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } مثلهم في الكفر ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(1/484)

فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
{ مَّرَضٌ } شك ، أو نفاق ، نزلت في ابن أُبي ، وعبادة ، أو في قوم منافقين . { فِيهِمْ } في موالاتهم . { دَآئِرَةٌ } هي الدولة ترجع عمّن انتقلت إليه إلى من كانت لهم سميت بذلك ، لأنها تدور إليه إلى بعد زوالها عنه . { بِالْفَتْحِ } فتح مكة ، او فتح بلاد المشركين ، أو الحكم والقضاء . { أَوْ أمْرٍ } دون الفتح الأعظم ، أو موت من تقدّم ذكره من المنافقين أو إظهار نفاقهم ، والأمر بقتلهم ، أو الجزية .
(1/485)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
{ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ } أبو بكر وأصحابه ، الذين قاتلوا أهل الردة ، أو قوم أبي موسى الأشعري من أهل اليمن فكان لهم في نصرة الإسلام أثر حسن ، ولما نزلت " أومأ الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء في يده إلى أبي موسى ، وقال : هم قوم هذا " ، أو هم الأنصار . { أَذِلَّةٍ } ذوي رقة . { أَعِزَّةٍ } ذوي غلظة .
(1/486)

إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ } نزلت في عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أو في عبدالله بن سلام ومن أسلم معه شكوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أظهرته اليهود من عداوتهم . { وَهُمْ رَاكِعُونَ } نزلت في علي رضي الله تعالى عنه تصدّق ، وهو راكع ، أو عامة في المؤمنين { وَهُمْ رَاكِعُونَ } نزلت فيهم ، وهم ركوع ، أو فعلوا ذلك في ركوعهم ، أو أراد بالركوع النافلة ، وبإقامة الصلاة الفريضة .
(1/487)

وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
{ فِى الإثْمِ } معصية الله . { وَالْعُدْوَانِ } ظلم الناس . { السُّحْتَ } الرشا ، أو الربا .
(1/488)

لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
{ لَوْلا } هلاَّ { الرَّبَّانِيُّونَ } علماء الإنجيل { وَالأَحْبَارُ } علماء التوراة { لَبِئْسَ } ما كان العلماء يصنعون من ترك النكير ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما في القرآن آية أشد توبيخاً للعلماء من هذه الآية .
(1/489)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
{ مَغْلُولَةٌ } عن عذابهم ، أو مقبوضة عن العطاء على جهة البخل . { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } الزموا البخل ليتطابق الكلام ، أو { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } في النار حقيقة { وَلُعِنُواْ } بتعذيبهم بالجزية قال الكلبي . { يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } نعمة الدنيا ونعمة الدِّين ، لفلان عندي يد أي نعمة ، أو قوتاه بالثواب والعقاب ، واليد القوة { أُوْلِى الأيدى والأبصار } [ ص : 45 ] أو ملك الدنيا والآخرة ، واليد الملك ، من قولهم عنده ملك يمينه ، أو التثنية للمبالغة في صفة النعمة ، كلبيك وسعديك ، قال :
يداك يدا مجد وكف مفيدة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ طُغْيَاناً وَكُفْراً } بحسدهم وعنادهم { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } يريد ما بين اليهود من الخلاف ، أو ما بين اليهود والنصارى ، لتباين قولهم في المسيح .
(1/490)

وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
{ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } بالعمل بما فيهما من غير تحريف ولا تبديل ، أو أقاموهما نصب أعينهم حتى إذا نظروا ما فيها من حكم الله تعالى لم يزلوا . { مِن فَوْقِهِمْ } بالمطر ، ومن تحتهم بإنبات الثمر ، أو عَبَّر به عن التوسعة كما يقال : فلان من الخير من قَرنه إلى قدمه . { مُّقْتَصِدَةٌ } على أمر الله تعالى أو عادلة .
(1/491)

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
{ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ } ألزمه أن يبلغ ما أنزل من القرآن أحكامه وجدله ، وقصصه ، ولا يلزمه تبليغ غيره من الوحي إلا ما تعلق بالأحكام . { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } إن كتمت أية { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . { يَعْصِمُكَ } أستظلّ الرسول صلى الله عليه وسلم بشجرة في سفره ، فأتاه أعرابي ، فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ، فقال : الله ، فرعدت يده وسقط السيف وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فنزلت ، أو " كان يهاب قريشاً فنزلت ، وكان يُحرس فلما نزلت أخرج رأسه من القبة ، وقال : أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى " { لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } إلى بلوغ غرضهم ، أو إلى الجنة .
(1/492)

لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
{ مِيثَاقَ } أيمان أخذها عليهم أنبياءهم أن يعلموا بها ، وأُمروا بتصديق الرسل ، أو آيات ظاهرة تقرّر بها علم ذلك عندهم . { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ } بعد أخذ الميثاق { رُسُلاً } . { تَهْوَى } أخذ الهوى من هواء الجو لاستمتاع النفس بكل واحد منهما . { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } اقتصروا على تكذيبه . { فَرِيقاً } كذبوه وقتلوه .
(1/493)

وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
{ فِتْنَةٌ } عقوبة من السماء ، أو ما ابتلوا به من قتل الأنبياء وتكذيبهم ، أو ما ابتلوا به ممن تغلب علهيم من الكفار . { فَعَمُواْ } عن الرشد { وَصَمُّواْ } عن الوعظ حتى قتلوا الأنبياء ظناً أن لا تكون فتنة . { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ } تعالى عليهم بعد معاينة الفتنة . { ثُمَّ عَمُواْ } عادوا إلى ما كانوا عليه قبل التوبة وكان العود من أكثرهم .
(1/494)

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
{ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارى } خاص بالنجاشي وأصحابه الذين أسلموا ، أو بقوم كانوا على دين عيسى عليه الصلاة والسلام فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به .
(1/495)

وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
{ الشَّاهِدِينَ } الذين يشهدون بالإيمان ، أو أمة محمد صلى الله عليه وسلم { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] .
(1/496)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
{ لا تُحَرِّمُواْ } الأموال بالغضب فتصير حراماً ، أو نزلت . . . . .
[ قوله عزّ وجلّ { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ لَكُمْ } فيه تأويلان ، أحدهما : أنه اغتصاب الأموال المستطابة فتصير بالغصب حراماً وقد كان يمكنهم الوصول إليها بسبب مباح قاله بعض البصريين ، والثاني : أنه تحريم ما أُبيح لهم من الطيبات ، وسبب ذلك أنّ جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي عليه السلام وعثمان بن مظعون وابن مسعود وابن عمر همّوا بصيام الدهر وقيام الليل واعتزال النساء وجبّ أنفسهم وتحريم الطيبات من الطعام عليهم فأنزل الله تعالى فيهم .
{ لا تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } فيه أربعة تأويلات ، أحدها : لا تعتدوا بالغصب للأموال التي هي عليكم حرام ، والثاني : أنه أراد بالاعتداء ما هَمَّْ به عثمان بن مظعون من جَبِّ نفسه قاله السدي ، والثالث : أنه ما كانت الجماعة همت به من تحريم النساء والطعام واللباس والنوم قاله عكرمة ، والرابع : هو تجاوز الحلال إلى الحرام قاله الحسن .
(1/497)

لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
-قوله عزّ وجلّ { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ } قد ذكرنا خلاف المفسرين والفقهاء في لغو اليمين { وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ } اختلف في سبب نزولها قولين :
أحدهما : أنها نزلت في عثمان بن مظعون حين حرّم على نفسه الطعام والنساء بيمين حلفها فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث فيها قاله السدي ، والثاني : أنها نزلت في عبد الله بن رواحة وكان عنده ضيف فأخرت زوجته قِراه فحلف لا يأكل من الطعام شيئاً ، وحلفت الزوجة لا تأكل منه إن لم يأكل ، وحلف الضيف لا يأكل منه إن لم يأكلا ، فأكل عبد الله وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : أحسنت ونزلت فيه هذه الآية قاله ابن زيد .
قوله { وَلكِن يؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ } وعقدها هو لفط باللسان وقصد بالقلب لأن ما لم يقصده من أيمانه فهو لغو لا يؤاخذه به ثم في عقدها قولان : أحدهما : أن تكون على فعل مستقبل ولا تكون على خبر ماض ، والفعل المستقبل نوعان : نفي وإثبات ، فالنفي أن يقول : " والله لا فلعت كذا " والإثبات أن يقول " والله لأفعلن " أما الخبر الماضي فهو أن يقول : " والله ما فلعت " وقد فعل ويقول : " والله لقد فعلت كذا " وما فعل فينعقد يمينه بالفعل المستقبل في نوعي إثباته ونفيه . وفي انعقادها بالخبر الماضي قولان أحدهما : أنها لا تنعقد بالخبر الماضي قاله أبو حنيفة وأهل العراق ، والقول الثاني : أنها تنعقد على فعل مستقبل وخبر ماضٍ يتعلق الحنث بهما قاله الشافعي وأهل الحجاز .
ثم قال { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } فيه قولان : أحدهما : أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان قالته عائشة والحسن والشعبي وقتادة ، والثاني : أنها كفارة الحنث فيما عقدوه منها وهذا أشبه أن يكون قول ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم . والأصح من إطلاق هذين القولين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحَلها فإنها لا تخلوا من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يكون عقدها طاعة وحَلها معصية كقوله : " والله لا قتلت نفساً ولا شربت خمراً " فإذا حنث بقتل النفس وشرب الخمر كانت الكفارة لتكفير مأثم الحنث دون عقد اليمين ، الحال الثاني : أن يكون عقدها معصية وحلها طاعة كقوله " والله لا صليت ولا صمت " فإذا حنث بالصلاة والصوم كانت الكفارة لتكفير مأثم العقد دون الحنث والحال الثالث : أن يكون عقدها مباحاً وحلها مباحاً كقوله : " والله لا لبست هذا الثوب " فالكفارة تتعلق بهما وهي بالحنث أخص .
ثم قال { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ } فيه قولان ، أحدهما : من أوسط أجناس الطعام قاله ابن عمر و الحسن وابن سيرين ( والأسود وعبيدة السلماني ، والثاني : من أوسطه في القدر قاله علي وعمر وابن عباس ) ومجاهد ، وقرأ سعيد بن جبير ( من وسط ما تطعمون أهليكم ) ثم اختلفوا في القدر على خمسة أقاويل : أحدها : أنه نصف صاع من سائر الأجناس قاله " علي وعمر وهو مذهب أبي حنيفة ، والثاني : مد واحد من سائر الأجناس قاله " ابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء وقتادة وهو مذهب شافعي ، والثالث : أنه غداء وعشاء قاله علي في رواية الحارث عنه وقول محمد بن كعب القرظي والحسن البصري ، والرابع : أنه على ما جرت به عادة المكفر في عياله إن كان يشبعهم أشبع المساكين وإن كان لا يشبعهم فعلى قدر ذلك قاله ابن عباس وسعيد ابن جبير ، والخامس : أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء قاله بعض البصريين .
(1/498)

ثم قال { أَو كِسْوَتُهُمْ } وفيها خمسة أقاويل : أحدها : كسوة ثوب واحد قاله ابن عباس ومجاهد وطاووس وعطاء [ الخراساني ] والشافعي . والثاني : كسوة ثوبين قاله أبو موسى الأشعري وابن المسيب والحسن وابن سيرين ، والثالث : كسوة ثوب جامع كالملحفة والكساء قاله إبراهيم ، والرابع : كسوة إزار ورداء وقميص قاله ابن عمر والخامس : كسوة ما تجزىء فيه الصلاة قاله بعض البصريين .
ثم قال { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يعني او فك رقبة من أسر العبودية إلى حال الحرية والتحرير والفك : الفتق ، قال الفرزدق :
أبني غدانة إنني حررتكم ... فوهبتكم لعطية بن جعال
وتجزئ صغيرها وكبيرها وذكرها وأنثاها وفي استحقاق إيمانها قولان : أحدهما : أنه مستحق ولا تجزئ الكفارة قاله الشافعي ، والثاني : أنه غير مستحق قاله أبو حنيفة .
ثم مقال : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } فجعل الله الصوم [ له ] بدلاً من المال عند العجز عنه وجعله مع اليسار مخيراً بين التكفير بالإطعام والكسوة والعتق ، وفيها قولان : أحدهما : أنّ الواجب منها أحدها لا بعينه عند جمهور الفقهاء والثاني : أن جميعها واجب وله الاقتصار على أحدها قاله بعض المتكلمين وشاذ من الفقهاء ، وهذا إذا حُقّق خلف في العبارة دون المعنى واختلف فيما إذا لم يجده صام على خمسة أقاويل : أحدها : إذا لم يجد قوته وقوت من يقوم [ صام ] قاله الشافعي ، والثاني : إذا لم يجد ثلاثة دراهم صام قاله سعيد بن جبير ، والثالث : إذا لم يجد درهمين صام قاله الحسن ، والرابع : إذا لم يجد مائتي درهم صام قاله أبو حنيفة ، والخامس : إذا لم يجد ذلك فاضلاً عن رأس ماله الذي يتصرف به لمعاشه صام . وفي تتابع صيامه قولان : أحدهما : يلزمه قاله مجاهد وإبراهيم وكان أبيّ بن كعب وعبدالله بن مسعود يقرءان فصيام ثلاثة أيام متتابعات ، والثاني : إن صامها متفرقاً جاز . قاله مالك وأحد قولي الشافعي { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } يعني وحنثتم ، فإن قيل : لم لم يذكر مع الكفارة التوبة؟ قيل : لأنه ليس كل يمين حنث فيها كانت مأثماً توجب التوبة ، فإن اقترن بها المأثم لزمت التوبة بالندم وترك العزم [ على المعاودة ] { وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ } يحتمل وجهين : أحدهما : يعني احفظوها أن تحلفوا والثاني : احفظوها أن تحنثوا .
(1/499)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قوله عزّ وجلّ { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوَاْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الآية اختلف في سبب نزولها على ثلاثة أقاويل : أحدها : ما روى ابن إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال عمر بن الخطاب : اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في البقرة { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بَيِّن لنا في الخمر بياناَ شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] وكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي لا يقربنّ الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت التي في المائدة { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } الآية إلى قوله { فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } فقال عمر : انتهينا انتهينا والثاني : أنها نزلت في سعد بن أبي وقّاص وقد لاحى رجلاً على شراب فضربه الرجل بلحي جمل ففرز أنفه قاله مصعب بن سعد ، والثالث : أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشراب فعبث بعضهم ببعض فأنزل الله فيهم هذه الآية قاله ابن عباس فلما حرمت الخمر قال المسلمون " يا رسول الله كيف بأخواننا الذين شربوها وماتوا قبل تحريمها فأنزل الله تعالى { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } [ المائدة : 93 ] يعني من الخمر قبل التحريم { إِذَا مَا اتَّقَواْ } يعني في أداء الفرائض و { وءَامَنُواْ } يعني بالله ورسوله ، { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } يعني البرّ والمعروف ، { ثُمَّ اتَّقَواْ وَأَحْسَنُواْ } يعني بعمل النوافل فالتقوى الأول عمل الفرائض ، والتقوى الثاني عمل النوافل ، فأما الميسر : فهو القمار ، وأما الأنصاب ففيها وجهان : أحدهما : أنها الأصنام تعبد قاله الجمهور ، والثاني : أنها أحجار [ حول ] الكعبة يذبحون لها قاله مقاتل وأما الأزلام فهي قداح من خشب يستقسم بها على ما قدّمناه وقوله { رِجْسٌ } يعني حراماً ، وأصل الرجس : المستقذر الممنوع منه فعبّر به عن الحرام لكونه ممنوعاً منه ثم قال { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } أي مما يدعوا إليه الشيطان ويأمر به لأنه [ لا ] يأمر إلا بالمعاصي ولا ينهي إلا عن الطاعات .
(1/500)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
قوله عزّ وجلّ : { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } في قوله ليبلونكم تأويلان : أحدهما : معناه ليكلفنكم ، والثاني : ليختبرنكم قاله قطرب والكلبي . وفي قوله { مِّنَ الصَّيْدِ } قولان : أحدهما : أن " من " للتبعيض في هذا الموضع لأن الحكم يتعلق بصيد البردون البحر ، وبصيد الحرم والإحرام دون الحل والإحلال ، والثاني : أن " من " في هذا الموضع داخلة للتجنيس نحو قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] قال الزجاج .
{ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فيه تأويلان ، أحدهما : ما تناله [ أيدينا ] البيض ، ورماحنا الصيد قاله مجاهد ، والثاني : ما تناله أيدينا الصغار ورماحنا الكبار قاله ابن عباس .
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } فيه أربعة تأويلات أحدها : أنّ معنى ليعلم ليرى فعبّر عن الرؤية بالعلم لأنها تؤول إليه قاله الكلبي ، والثاني : معناه ليعلم أولياء الله من يخافه بالغيب ، " والثالث : معناه ليعلموا أنّ الله يعلم من يخافه بالغيب " والرابع : معناه ليخافوا الله بالغيب والعلم مجاز .
(2/1)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قوله عزّ وجلّ : { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لا تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ } فيه ثلاثة أقاويل أحدها : يعني الإحرام بحج أو عمرة قاله الأكثرون ، والثاني : بالمحرم الداخل إلى الحرم ، يقال أحرم إذا دخل الحرم ، ( وأتهم إذا دخل تهامة ، وأنجد إذا دخل نجدا ، ويقال أحرم لمن دخل في الأشهر الحرم قاله بعض أهل البصرة ، والثالث : أنّ اسم المحرم يتناول الأمرين معاً على وجه الحقيقة دون المجاز من أحرم بحج أو عمرة أو دخل المحرّم ) وحكم قتل الصيد فيهما على [ حد ] سواء بظاهر الآية قاله أبو علي بن أبي هريرة .
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } فيه قولان : أحدهما : متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه قاله مجاهد وإبراهيم وابن جريج ، والثاني : متعمداً لقتله ذاكراً لإحرامه قاله ابن عباس وعطاء الزهري واختلفوا في الخاطىء في قتله الناسي لإحرامه على قولين : أحدهما : لا جزاء عليه قاله داود ، والثاني : عليه الجزاء قاله [ مالك و ] أبو حنيفة والشافعي .
{ فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } يعني أنّ جزاء القتل في الحرم أو الإحرام مثل ما قتل من النعم ، وفي مثله قولان : أحدهما : أنّ قيمة الصيد مصروفة في مثله من النعم قاله أبو حنيفة والثاني : أنّ عليه مثل الصيد من النعم في الصورة والشبه قاله الشافعي .
{ يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } يعني بالمثل من النعم لا يستقر المثل فيه إلا بحكم عدلين فقيهين ، ويجوز أن يكون القاتل أحدهما { هَدْيَاً بَالِغَ الْكَعْبَةِ } يريد أي مثل الصيد من النعم يلزمه إيصاله إلى الكعبة وعني بالكعبة جميع الحرم لأنها في الحرم ، واختلفوا هل يجوز أن يهدي في الجزاء ما لا يجوز في الأضحية من صغار الغنم على قولين : أحدهما : لا يجوز قاله أبو حنيفة ، والثاني : يجوز قاله الشافعي .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } فيه قولان : أحدهما : أنه يُقَوَّمُ المثل من النعم ويشتري بالقيمة طعاماً قاله عطاء والشافعي ، والثاني : يُقَوَّم الصيد ويشتري بقيمة الصيد طعاماً قاله قتادة وأبو حنيفة .
{ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً } يعني عدل الطعام صياماً ، وفيه ثلاثة أقاويل : أحدها : أنه يصوم عن كل مد يوماً قاله عطاء والشافعي ، والثاني : يصوم عن كل مد ثلاثة أيام [ إلى عشرة أيام ] قاله سعيد بن جبير والثالث : يصوم عن كل صاع يومين قاله ابن عباس . واختلفوا في التكفير بهذه الثلاثة هل هو على الترتيب أو التخيير على قولين : أحدهما : أنه على الترتيب إن لم يجد المثل فالإطعام فإن لم يجد الطعام فالصيام قاله ابن عباس ومجاهد وعامر وإبراهيم والسدي ، والثاني : أنه على التخيير في التكفير بأي الثلاثة شاء قاله عطاء وأحد قولي ابن عباس وهو مذهب شافعي .
{ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } يعني في التزام الكفارة ووجوب التوبة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يعني قبل نزول التحريم .
{ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } فيه قولان : أحدهما : يعني ومن عاد بعد التحريم فينتقم الله منه بالجزاء عاجلاً وعقوبة [ المعصية ] آجلاً ، والثاني : ومن عاد بعد التحريم في قتل الصيد ثانية بعد أوله .
{ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } " فيه على هذا التأويل قولان ، أحدهما : فينتقم الله منه " بالعقوبة في الآخرة دون الجزاء قاله ابن عباس وداود ، والثاني : بالجزاء مع العقوبة قاله الشافعي والجمهور .
(2/2)

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله عزّ وجلّ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } يعني صيد الماء سواء كان من بحر أو نهر أو عين أو بئر فصيده حلال للمحرم والحلال في الحرم والحل . { وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } في طعامه قولان : أحدهما : طافيه وما لفظه البحر قاله أبو بكر وقتادة ، والثاني : مملوحه قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقوله { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } يعني منفعة المسافر والمقيم وحكى الكلبي : أنّ هذه الآية نزلت في بني مدلج وكانوا ينزلون بأسياف البحر سألوا عمّا نضب عنه الماء من السمك فنزلت هذه الآية فيهم .
(2/3)

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
قوله عزّ وجلّ { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ } في تسميتها كعبة قولان : أحدهما : سميت بذلك لتربيعها قاله مجاهد ، والثاني : سميت بذلك لعلوها ونتوئها من قولهم قد كعب ثدي المرأة إذ علا ونتأ وهو قول الجمهور ، وسيمت الكعبة حراماً لتحريم الله تعالى لها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها أو يعضد شجرها .
وفي قوله { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } ثلاثة تأويلات ، أحدها : يعني صلاحاً لهم قاله سعيد بن جبير والثاني : تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم ، والثالث : قياماً في مناسكهم ومتعبداتهم .
(2/4)

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله عزّ وجلّ { قُل لا يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالْطَّيِّبُ } فيه ثلاثة تأويلات أحدها : يعني الحلال والحرام قاله الحسن ، والثاني : المؤمن والكافر قاله السدي ، والثالث : الرديء والجيد .
أو المؤمن والكافر . .
{ وَلَوْ أعْجَبَكَ } الحلال والجيد مع القلّة خير من الحرام والرديء مع الكثرة قيل لما همَّ المسلمون بأخذ حجاج اليمامة نزلت .
(2/5)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
{ لا تَسْئَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } لما أحفوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسألة صعد المنبر يوماً ، فقال : " لا تسألوني عن شيء إلا بيّنته " فلف كل أنسان منهم ثوبه في رأسه يبكي ، فقاله رجل كان يدعى إذا لاحى لغير أبيه : يا رسول الله من أبي قالوا : أبوك حذافة فأنزل الله { لا تَسْئَلُواْ } ، أو لما قال : كتب الله عليكم الحج فقيل له أفي كل عام؟ فقال : لو قلت نعم لوجبت ، اسكتوا عني ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، أو في قوم سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ، والوصيلة والحامي . { وَإِن تَسْئَلُواْ } نزول القرآن عند السؤال موجب لتعجيل الجواب { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } المسألة ، أو الأشياء التي سألوا عنها .
(2/6)

قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
{ قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوا المائدة ثم كفروا بها ، أو قوم صالح عليه الصلاة والسلام سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها ، أو قريش سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُحَوِّل لهم الصفا ذهباً ، أو الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم مَنْ أَبِي ونحوه فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به .
(2/7)

مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } ما بحر ، ولا سيَّب ولا وصل ، ولا حمى حامياً . { بَحِيرَةٍ } الناقة تلد خمسة أبطن فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان رُبَعة بتكوا أذنيها فلم يشرب لبنها ولم يوقر ظهرها ، أو إذا ولدت خمسة أبطن ، وكان أخرها ذكراً شقوا إذن الناقة وخلوها فلا تُحلب ولا تُركب ، أو البحيرة : بنت السائبة . { سَآئِبَةٍ } مسيبة ، كعيشة راضية أي مرضية ، كانت تفعله العرب ببعض مواشيها فتحرم الانتفاع بها تقرباً إلى الله تعالى ، وكان بعض أهل الإسلام يعتق العبد سائبة لا ينتفع به ولا بولائه ، كان أبو العالية سائبة فمات فلم يأخذ مولاه ميراثه ، وقال : هو سائبة ، فإذا تابعت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ، ولم يُجَز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى بُحرت أذنها وسميت بحيرة وسيبت مع أمها ، أو كانوا ينذرون السائبة عند المرض فيسيب البعير فلا يركب ولا يجلأ عن ماء . { وَصِيلَةٍ } الوصيلة من الغنم اتفاقاً إذا ولدت الشاة سبعة أبطن فإن كان السابع ذكراً ذبحوه وأحلوه للرجال دون النساء ، وإن كان عناقاً سرحت في غنم الحي ، وإن كان ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فسميت وصيلة ، او كانت الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن لا ذكر فيهن جعلت وصيلة وكان ما تلده بعد ذلك للذكور دون الإناث . أو كانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه لآلهتهم قرباناً ، وإن ولدت أنثى قالوا : هذه لنا ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لأجلها . { وَلا حَامٍ } إذا نتج البعير من ظهره عشرة أبطن قالوا : حمى ظهره ويخلى ، أجمعوا على هذا .
(2/8)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
{ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الشهادة بالحقوق عند الحكام ، أو شهادة الحضور للوصية ، أو أيمان عبّر عها بلفظ الشهادة كما في اللعان { عَدْلٍ مِّنكُمْ } أيها المسلمون ، أو من حي الموصي ، وهما وصيان أو شاهدان يشهدان على وصيته . { مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير أهل ملتكم من أهل الكتاب ، أو من غير قبيلتكم . { أَوْ ءَاخَرَانِ } " أو " هنا للتخيير في المسلم والكتابي ، أو الكتابي مرتب على [ عدم ] المسلم ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { تَحْبِسُونَهُمَا } توقفونهما للأيمان ، خطاب للورثة . { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } تقديره فأصابتكم مصيبة وقد أوصيتم إليهما . { الصَّلاةِ } العصر ، أو الظهر والعصر ، أو صلاة أهل دينهما من أهل الذمّة قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { إِنِ ارْتَبْتُمْ } بالوصيين في الخيانة ، أحلفهما الورثة ، أو إن ارتبتم بعدالة الشاهدين أحلفهما الحاكم لتزول ريبته ، وهذا إنما يجوز في السفر دون الحضر . { ثَمَناً } رشوة أو لا نعتاض عليه بحقير .
(2/9)

فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
{ عُثِرَ } اطلع على أنهما كذبا وخانا ، عبّر عنهما بالإثم لحدوثه عنهما . { اسْتَحَقَّآ } الشاهدان ، أو الوصيان . { فَآخَرَانِ } من الورثة . { يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } في اليمين . { الأَوْلَيَانِ } بالميت من الورثة ، أو الأوليان بالشهادة من المسلمين : نزلت بسبب خروج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بدَّاء فمات السهمي بأرض لا مسلم بها فلما قدما تركته فقدوا جام فضة مخوص بالذهب ، فأحلفهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم وُجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من تيم وعدي بن بداء ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم ، وفيهم نزلت الآيتان ، وهم منسوختان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال ابن زيد : لم يكن الإسلام إلا بالمدينة فجازت شهادة أهل الكتاب واليوم طبق الإسلام الأرض ، أو محكمة عند الحسن .
(2/10)

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
{ لا عِلْمَ لَنَآ } ذهلوا عن الجواب للهول ثم أجابوا لما ثابت عقولهم ، أو لا علم لنا إلا ما علمتنا ، أو لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، أو لا علم لنا ببواطن أُممنا فإن الجزاء على ذلك يقع قاله الحسن ، أو { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } بمعنى ماذا علموا بعدكم . { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } للمبالغة ، أو لتكثير المعلوم ، وسؤاله بذلك مع علمه إنما كان ليعلمهم ما لم يعلموه من كفر أممهم ، ونفاقهم ، وكذبهم عليهم من بعدهم أو ليفضحهم بذلك على رؤوس الأشهاد .
(2/11)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
{ اذْكُرْ نِعْمَتِى } ذكره بها وإن كان لها ذاكراً ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامات والمعجزات ، أو ليؤكد حجته ، ويرد به جاحده . { أَيَّدتُّكَ } قويتك من الأيد ، ليدفع عنه ظلم اليهود والكافرين به ، أو قوّاه على أمر دينه . { بِرُوحِ الْقُدُسِ } جبريل عليه السلام والقدس هو الله تعالى { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ } تعرفهم بنبوتك ، ولم يتكلم في المهد من الأنبياء غيره ، وبعث إليهم لما ولد وكان كلامه معجزة له ، وكلمهم كهلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإلى الصلاة ، والزكاة ، وذلك لما صار ابن ثلاثين سنة ثم رفع . { الْكِتَابَ } الخط ، أو جنس الكتب . { وَالْحِكْمَةَ } العلم بما في تلك الكتب ، أو جميع ما يحتاج إليه في دينه ودنياه { تَخْلُقُ } تصور . { فَتَنفُخُ فِيهَا } الروح ، والروح : جسم تولى نفخها في الجسم المسيح ، أو جبريل عليهما السلام { فَتَكُونُ طَيْراً } تصير بعد النفخ لحماً ودماً ، ويحيا بإذن الله لا بفعل المسيح . { وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ } تدعو بإبرائهما ، وبإحياء الموتى فأُجيب دعاءك ، نسبه إليه لحصوله بدعائه ، ويجوز أن يكون إخراجهم من قبورهم فعلاً للمسيح عليه الصلاة والسلام بعد إحياء الله تعالى لهم ، قال ابن الكلبي : والذين أحياهم رجلان وامرأة .
(2/12)

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
{ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّنَ } ألهمتهم كالوحي إلى النحل ، أو ألقيت إليهم بما أريتهم من آياتي أن يؤمنوا بي وبك فكان إيمانهم إنعاماً عليهم وعليه لكونهم أنصاره .
(2/13)

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
{ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله أو هل تستطيع سؤال ربك { يَسْتَطِيعُ } يقدر ، أو يفعل ، أو يجيبك ويطيعك . ( المائدة ) ما عليها طعام فإن لم يكن فهي خوان سميت مائدة ، لأنها تميد ما عليها أي تعطيه . { اتَّقُواْ اللَّهَ } معاصيه ، أو أن تسألوا الأنبياء الآيات عنتاً ، أو طلباً لاستزادتها . { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي مصدقين بهم أغناكم دلائل صدقهم عن آيات أُخر .
(2/14)

قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
{ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } لعلهم طلبوا ذلك لحاجة بهم ، أو لأجل البركة . { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } تحتمل بإرسالك ، أو بأنه قد جعلنا من أعوانك . { وَنَعْلَمَ } علماً لم يكن لنا بناء على أنّ سؤالهم كان قبل استحكام معرفتهم ، أو نزداد علماً ويقيناً إلى علمنا ويقيننا .
(2/15)

قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
{ الَّلهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ } سأل ذلك لإظهار صدقه عند من جعله قبل استحكام المعرفة ، أو تفضل بالسؤال بعد معرفتهم . { عِيداً } نتخذ يوم أنزالها عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا ، أو عائدة من الله تعالى علينا وبرهاناً لنا ولمن بعدنا ، أو نأكل منها أوَّلنا وآخرنا { وَءَايَةً مِّنكَ } على صدق أنبيائك ، أو على توحيدك . { وَارْزُقْنَا } ذلك من عندك ، أو الشكر على إجابة دعوتنا .
(2/16)

قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
{ إِنِّى مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } لما شرط عليهم العذاب إن كفروا بها استعفوا منها فلم تنزل ، قاله الحسن أو نزلت تحقيقاً للوعد ، وكان عليها ثمار الجنة ، أو خبز ولحم ، أو سبعة أرغفة ، وسبع جفان ، أو سمكة فيها طعم كل طعام ، أو كل طعام إلاّ اللحم ، أُمروا أن يأكلوا ولا يخونوا ولا يدخروا فخانوا وادخروا فرُفعت ، قال مجاهد : ضُربت مثلاً للناس لئلا يقترحوا الآيات على الأنبياء . { عَذَاباً } بالمسخ ، أو عذاباً لا يعذب به غيرهم ، لأنهم رأوا من الآيات ما لم يره غيرهم ، وذلك العذاب في الدنيا ، أو في الآخرة . { الْعَالَمِينَ } عالمي زمانهم ، أو جميع الخلق ، فيعذبون بجنس لا يعذب به غيرهم .
(2/17)

وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى } قاله لما رفعه إلى السماء في الدنيا ، أو يقوله يوم القيامة فيكون { إذ } بمعنى { إذا } وهذا أصح لقوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] { ءَأَنتَ قُلْتَ } سؤال توبيخ لقومه ، أو ليعرف المسيح عليه الصلاة والسلام أنهم غيروا وقالوا عليه ما لم يقل . { إِلهَيْنِ } لما قالوا إنها ولدت الإله لزمهم أن يقولوا بإلاهيتها للبعضية فصاروا بمثابة القائل بإلاهيتها .
(2/18)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } خبر بمعنى الأمر ، وهو أولى من قوله { احمدوا } لما فيه من تعليم اللفظ ، ولان البرهان يشهد للخبر دون الأمر . { السَّمَاوَاتِ } جمعها تفخيماً لها ، لأن الجمع يقتضي التفخيم { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] قدّم السموات والظلمات في الذكر لتقدم خلقهما على خلق الأرض والنور . { يَعْدِلُونَ } به الأصنام ، أو إلهاً لم يخلق كخلقه .
(2/19)

وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً } لصورناه بصورة رجل ، لأنهم لا يقدرون على رؤية الملك على صورته . { مَّا يَلْبِسُونَ } ما يخلطون ، أو يشبهون ، قال الزجاج : كما يشبهون على ضعفائهم .
(2/20)

وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
{ سَكَنَ } من السكنى ، أو السكون خص السكون لأن الإنعام به أبلغ من الإنعام بالحركة .
(2/21)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
{ فَاطِرِ } خالق ومبتدىء ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " كنت لا أدري ما فاطر حتى اختصم إليَّ أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها " أصل الفَطر : الشق ، { مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] شقوق . { يُطْعِمُ } يَرْزُق ولا يُرْزَق . { أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } من هذه الأمة .
(2/22)

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
{ فَوْقَ عِبَادِهِ } أي القاهر لعباده ، وفوق : صله ، أو علا على عباده بقهره لهم { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] أعلى من أيديهم قوة .
(2/23)

قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
{ أَىُّ شَىْءٍ } نزلت لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم من يشهد لك بالنبوّة فشهد الله تعالى له بالنبوّة ، أو أمره أن يشهد عليهم بتبليغ الرسالة ، فقال لهم ذلك ليشهده عليهم .
(2/24)

الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
{ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } القرآن ، أو التوراة ، والإنجيل { يَعْرِفُونَهُ } محمداً صلى الله عليه وسلم بصفته في كتبهم ، أو يعرفون القرآن الدال على صحة نبوّته . { خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } غبنوها وأهلكوها بالكفر ، أو خسروا منازلهم وأزواجهم في الجنة ، إذ لكلٍّ منازل وأزواج في الجنة ، فإن آمن فهي له ، وإن كفر فهي لمن آمن من أهلهم ، وهذا معنى { الذين يَرِثُونَ الفردوس } [ المؤمنون : 11 ] .
(2/25)

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
{ فِتْنَتُهُمْ } معذرتهم سماها بذلك لحدوثها عن الفتنة ، أو عاقبة فتنتهم وهي الشرك ، أو بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة .
(2/26)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
[ { وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } ] يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ليلاً ، ليعرفوا مكانه فيؤذوه ، فصُرفوا عنه بالنوم وإلقاء الوقر ، والأكنة : الأغطية ، واحدها كنان ، كننت الشيء غطيته ، وأكننته في نفسي أخفيته ، والوقر : الثقل . { كُلَّ ءَايَةٍ } كل علامة معجزة لا يؤمنوا بها لحسدهم وبغضهم . { يُجَادِلُونَكَ } بقولهم أساطير الأولين التي سطروها في كتبهم ، أو قالوا : كيف تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل ربكم ، قاله ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما .
(2/27)

وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
{ يَنْهَوْنَ } عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون فراراً منه ، أو ينهون عن العمل بالقرآن ويتباعدون عن سماعه لئلا يسبق إلى قلوبهم العلم بصحته ، أو ينهون عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعدون عن اتباعه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي طالب نهى عن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم ويتباعد عن الإيمان به مع علمه بصحته ، قال :
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الذمامة أو أحاذر سُبَّةً ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
(2/28)

وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
{ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ } عاينوها ومن عاين الشيء وقف عليه ، أو وقفوا فوقها ، أو عرفوها بدخولها ومن عرف شيئاً وقف عليه ، أو حبسوا عليها .
(2/29)

بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
{ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ } وبال ما أخفوه ، أو ما أخفاه بعضهم من بعض ، أو بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء . { لَكَاذِبُونَ } فيما أخبروا به من الإيمان لو ردوا ، أو خبر مستأنف يعود إلى ما تقدّم .
(2/30)

وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
{ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو بخلاف العمل للآخرة ، أو ما أهل الدنيا إلا أهل لعب ولهو لاشتغالهم بها عما هو أولى منها ، أو هم كأهل اللعب لانقطاع لذتهم وفنائها بخلاف الآخرة فإن لذاتها دائمة .
(2/31)

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
{ لَيَحْزُنُكَ الَّذِى يَقُولُونَ } من تكذيبك والكفر بي . { لا يُكَذِّبُونَكَ } بحجة بل بهتاً وعناداً لا يضرك ، [ أو ] لا يكذبونك لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به ، أو لا يكذبونك سراً بل علانية لعداوتهم لك ، أو لا يكذبونك لأنك مبلغ وإنما يكذبون ما جئت به .
(2/32)

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
{ نَّبَإِىْ الْمُرْسَلِينَ } في صبرهم ونصرهم .
(2/33)

وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
{ إِعْرَاضُهُمْ } عن سماع القرآن ، أو عن اتباعك . { نَفَقاً } سَرَباً ، وهو المسلك النافذ مأخوذ من نافقاء اليربوع { سُلَّماً } مصعداً ، أو درجاً ، أو سبباً . { فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ } أفضل من آيتك فافعل فحذف الجواب . { مِنَ الْجَاهِلِينَ } لا تجزع في مواطن الصبر فتشبه الجاهلين .
(2/34)

إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
{ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } طلباً للحق ، أو يعقلون ، والاستجابة القبول والجواب يكون قبولاً وغير قبول . { وَالْمَوْتَى } الكفار ، أو الذين فقدوا الحياة .
(2/35)

قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
{ خَزَآئِنَ اللَّهِ } من الرزق فلا أقدر على إغناء ولا إفقار ، أو خزائن العذاب لأنه لما خوّفهم به استعجلوه استهزاء . { وَلآ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } في نزول العذاب ، أو جميع الغيوب . { إِنِّى مَلَكٌ } تفضيل للملك ، أي لا أدّعي منزلة ليست لي ، أو لست ملكاً في السماء فأعلم الغيب الذي تشاهده الملائكة ولا يعلمه البشر ، فلا تفضيل فيه للملك على النبيّ .
(2/36)

وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
{ وَلا تَطْرُدِ } نزلت لما جاء الملأ من قريش فوجدوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم عماراً وصهيباً وخباباً وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجميعن فقالوا اطرد عنا موالينا وحلفاءنا ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فقال عمر رضي الله تعالى عنه : لو فعلت ذلك حتى ننظر ما يصيرون ، فَهمَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونزل في الملأ { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } [ الأنعام : 53 ] فاعتذر عمر رضي الله تعالى عنه عن مقالته ، فأنزل { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 54 ] . { يَدْعُونَ } الصلوات الخمس ، أو ذكر الله تعالى أو عبادته ، أو تعلم القرآن . { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } يريدون طاعته بقصدهم الوجه الذي وجههم إليه ، أو يريدونه بدعائهم ، وقد يعبّر عن الشيء بالوجه كقولهم : " هذا وجه الصواب " . { حِسَابِهِم } حساب عملهم بالثواب والعقاب ، وما من حساب عملك عليهم شيء ، كل مؤاخذ بحساب عمله دون غيره ، أو ما عليك من حساب رزق هم وفقرهم من شيء .
(2/37)

وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
{ فَتَنَّا } اختبرناهم باختلاف في الأرزاق والأخلاق ، أو بتكليف ما فيه مشقة على النفس مع قدرتها عليه . { مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم } باللطف في إيمانهم ، أو بما ذكره من شكرهم على طاعته .
(2/38)

وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
{ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ } ضعفاء المسلمين ، وما كان من شأن عمر رضي الله تعالى عنه { فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } مني ، أو من الله تعالى قاله الحسن والسلام : جمع السلامة ، أو هو الله ذو السلام . { كَتَبَ } أوجب ، أو كتب في اللوح المحفوظ . { بِجَهَالَةٍ } بخطيئة ، أو ما جهل كراهة عاقبته .
(2/39)

قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
{ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى } معجز القرآن ، أو الحق الذي بانَ له . { وَكَذَّبْتُم بِهِ } بربكم ، أو بالبينة . { تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب ، أو من اقتراح الآيات ، لأنه طلب الشيء في غير وقته . { الْحُكْمُ } في الثواب والعقاب ، أو في تمييز الحق من الباطل . { يَقُصُّ الْحَقَّ } يتممه . { يَقُصُّ } يخبر .
(2/40)

وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
{ يَتَوَفَّاكُم } بالنوم . { جَرَحْتُم } كسبتم بجواركم ، جوارح الطير : كواسبها . { يَبْعَثُكُمْ } في النهار باليقظة . { أَجَلٌ مُّسَمّىً } استكمال العمر . { مَرْجِعُكُمْ } بالبعث .
(2/41)

وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
{ الْقَاهِرُ } الأقدر ، فوقهم : في القهر كما يقال فوقه في العلم إذا كان أعلم ، أو علا بقهره . { حَفَظَةً } الملائكة . { لا يُفَرِّطُونَ } لا يؤخرون ، أو لا يضيعون .
(2/42)

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
{ رُدُّواْ } ردتهم الملائكة الذين يتوفونهم ، أو ردّهم الله بالبعث والنشور ، أي ردّهم إلى تدبيره وحده ، لأنه دبرهم عند النشأة وحده ، ثم مكنهم من التصرف فدبروا أنفسهم ، ثم ردّهم إلى تدبيره وحده بموتهم ، فكان ذلك ردّاً إلى الحالة الأولى ، أو ردّوا إلى الموضع الذي لا يملك الحكم عليهم فيه إلا الله . { أَلا لَهُ الْحُكْمُ } بين عباده يوم القيامة وحده ، أو له الحكم مطلقاً لأن من سواه يحكم بأمره فصار حكماً له .
(2/43)

قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
{ مِّن فَوْقِكُمْ } أئمة السوء { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } عبيد السوء قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو من فوقهم : الرجم ، ومن تحتهم : الخسف ، أو من فوقهم : الطوفان ، ومن تحتهم : الريح . { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } الأهواء المختلفة ، أو الفتن والاختلاف . { بَأْسَ بَعْضٍ } بالحروب والقتل ، نزلت في المشركين ، أو في المسلمين وشق نزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : " إني سألت ربي أن يجيرني من أربع فأجارني من خصلتين ، ولم يجرني من خصلتين ، سألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من فوقهم كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام وبقوم لوط ، فأجابني ، وسألته أن لا يهلك أمتي بعذاب من تحت أرجلهم كما فعل بقارون فأجابني ، وسألته أن لا يفرقهم شيعاً فلم يجبني ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يجبني " ، ونزل { الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } [ العنكبوت : 1 ، 2 ] .
(2/44)

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
{ وَكَذَّبَ بِهِ } بالقرآن ، أو بتصريف الآيات . { وَهُوَ الْحَقُّ } أي ما كذبوا به ، والفرق بينه وبين الصواب : أنّ الصواب لا يدرك إلا بطلب ، والحق قد يدرك بغير طلب . { بِوَكِيلٍ } بحفيظ أمنعكم من الكفر ، أو بحفيظ لأعمالكم حتى أجازيكم عليها ، أو لا آخذكم بالإيمان إجباراً كما يأخذ الوكيل بالشيء .
(2/45)

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
{ لِّكُلِّ نَبَإٍ } أخبر الله تعالى به من وعد أو وعيد مستقر في المستقبل أو الماضي أو الحاضر ، أو مستقر في الدنيا أو الآخرة ، أو هو وعيد للكفار بما ينزل بهم في الآخرة ، أو وعيد بما يحلّ بهم في الدنيا .
(2/46)

وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ } الله في أمره ونهيه من حساب استهزاء الكفار وتكذيبهم مأثم لكن عليهم تذكرهم بالله وآياته لعلهم يتقون الاستهزاء والتكذيب ، أو ما على الذين يتّقون من تشديد الحساب والغلظة ما على الكفار ، لأن محاسبتهم ذكرى وتخفيف ، ومحاسبة الكفار غلظة وتشديد ، لعلهم يتقون إذا علموا ذلك ، أو ما على الذين يتّقون فيما فعلوه من ردّ وصد حساب ولكن اعدلوا إلى تذكيرهم بالقول قبل الفعل لعلهم يتقون .
(2/47)

وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{ وَذَرِ الَّذِينَ } منسوخة ، أو محكمة على جهة التهديد ، كقوله { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ } [ المدثر : 11 ] . { دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً } استهزاؤهم بالقرآن إذا سمعوه ، أو لكل قوم عيد يلهون فيه إلا المسلمون فإن أعيادهم صلاة وتكبير وبرّ وخير . { أَن تُبْسَلَ } تُسْلَم ، أو تُحبس ، أو تُفضح ، أو تؤخذ بما كسبت أو تجزى ، أو ترتهن ، أسد باسل : يرتهن الفريسة بحيث لا تفلت ، وأصل الإبسال : التحريم ، شراب بسيل : حرام . قال :
بَكَرت تلومك بَعْدَ وَهنٍ في الندى ... بَسْلٌ عليكِ ملامتي وعتابي
{ وَإِن تَعْدِلْ } تفتدِ بكل مال ، أو بالإسلام والتوبة .
(2/48)

قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
{ أَنَدْعُواْ } أنطلب النجاح ، أو أنعبد . { اسْتَهْوَتْهُ } دعته إلى قصدها واتباعها ، كقوله { تهوى إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] أي تقصدهم وتتبعهم ، أو تأمره بالهوى ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي بكر وامرأته لما دعوا ابنهما " عبد الرحمن " أن يأتيهما إلى الإسلام .
(2/49)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ بِالْحَقِ } بالحكمة ، أو الإحسان إلى العباد ، أو بكلمة الحق ، أو نفس خلقهما حق . { كُن فَيَكُونُ } يقول ليوم القيامة كن فيكون لا يثني إليه القول مرة أخرى ، أو يقول للسماوات كوني قرناً ينفخ فيه لقيام الساعة فتكون صوراً كالقرن وتبدل سماء أخرى . { الصُّورِ } قرن ينفخ فيه للإفناء والإعادة ، أو جمع صورة ينفخ فيها أرواحها . { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أو الذي ينفخ في الصور عالم الغيب .
(2/50)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
{ ءَازَرَ } اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان من أهل " كوثى " قرية من سواد الكوفة ، أو آزر ليس باسم بل سب وعيب معناه : " معوج " ، كأنه عابه باعوجاجه عن الحق ، وضاع حق أبوته بتضييعه حق الله تعالى ، أو آزر اسم صنم وكان اسم أبيه " تارح " .
(2/51)

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
{ وَكَذَلِكَ } " ذا " إشارة لما قرب ، و " ذاك " لما بعد ، و " ذلك " لتفخيم شأن ما بعد . { مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ } آياتهما ، أو خلقهما ، أو ملكها ، والملكوت : الملك نبطي ، أو عربي ، ملك وملكوت : كرهبة ورهبوت ، ورحمة ورحموت ، وقالوا : رهبوت خير من رحموت أي ترهب خير من أن ترحم ، أو الشمس والقمر والنجوم ، أو { مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ } الشمس والقمر والنجوم ، وملكوت الأرض الجبال والثمار والشجر .
(2/52)

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
{ جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ } ستره ، الجِن والجَنين لاستتارهما ، والجنة والجنون والمجن لسترها . { رَءَا كَوْكَباً } قيل هو الزهرة طلعت عشاء . { هَذَا رَبِّى } في ظني ، قاله حال استدلاله ، أو اعتقد أنه ربه ، أو قال ذلك وهو طفل ، لأن أمه جعلته في غار حذراً عليه من نمروذ فلما خرج قال : ذلك قبل قيام الحجة عليه ، لأنه في حال لا يصح منه كفر ولا إيمان ، ولا يجوز أن يقع من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين شرك بعد البلوغ ، أو قاله على وجه التوبيخ والإنكار الذي يكون مع ألف الاستفهام أو أنكر بذلك عبادته [ الأصنام ] إذ كانت الكواكب لم تضعها يد بشر ولم تعبد لزوالها فالأصنام التي هي دونها أجدر . { لآ أُحِبُّ الأَفِلِينَ } حب الربّ المعبود ، أفل : غاب .
(2/53)

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
{ بَازِغاً } طالعاً بزغ : طلع .
(2/54)

الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
{ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ } من قول الله تعالى ، أو من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو من قول قومه قامت به الحجة عليهم { بِظُلْمٍ } بشرك لما نزلت شق على المسلمين ، وقالوا : أينا لم يظلم نفسه ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ليس كما تضنون ، وإنما هو كقول لقمان لابنه " { لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] أو المراد جميع أنواع الظلم فعلى هذا هي عامة ، أو خاصة بإبراهيم عليه الصلاة والسلام وحده ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو خاصة فيمن هاجر إلى المدينة .
(2/55)

وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
{ حُجَّتُنَآ } قوله فأي الفريقين أحقّ بالأمن؟ عبادة إله واحد أو آلهة شتى ، فقالوا : عبادة إله واحد فأقرّوا على أنفسهم ، أو قالوا له : [ ألا ] تخاف [ أن ] تخبلك آلهتنا؟ فقال : أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة؟ أو قال لهم : أتعبدون ما لا يملك لكم ضرّاً ولا نفعاً أم من يملك الضرّ والنفع؟ ، فقالوا : ما لك الضرّ والنفع أحق . وهذه الحجة استنبطها بفكره ، أو أمره بها ربه .
(2/56)

أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
{ فَإِنَ يَكْفُرْ بِهَا } قريش { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } الأنصار ، أو إن يكفر بها أهل مكة فقد وكلنا أهل المدينة ، أو إن يكفر بها قريش فقد وكلنا بها الملائكة ، أو الأنبياء الثمانية عشر المذكورين من قبل { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] ، أو جميع المؤمنين . { وَكَّلْنَا بِهَا } أقمنا لحفظها ونصرها يعني الكتب والشرائع .
(2/57)

وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
{ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ما عظموه حقّ عظمته ، أو ما عرفوه حقّ معرفته ، أو ما آمنوا أنه على كلّ شيء قدير . { إِذْ قَالُواْ } قريش ، أو اليهود فردّ عليهم بقول { مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِى جَآءَ بِهِ مُوسَى } لاعترافهم به . { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .
(2/58)

وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
{ مُّصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، أو من البعث . { أُمَّ الْقُرَى } أهل أم القرى مكة لاجتماع الناس إليها كاجتماع الأولاد إلى الأم ، أو لانها أول بيت وضع فكأن القوى نشأت عنها ، أو لأنها معظمة كالأم قاله الزجاج . { وَمَنْ حَوْلَهَا } أهل الأرض كلها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { يُؤْمِنُونَ بِهِ } بالكتاب ، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن لا يؤمن به من أهل الكتاب فلا يعتد بإيمانه بالآخرة .
(2/59)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
{ مِمَّنِ افْتَرَى } نزلت في مسيلمة ، أو فيه وفي العَنْسي { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ } مسيلمة ، أو مسيلمة والعنسي ، أو عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم فإذا قال له : غفور رحيم ، كتب سميع عليم ، أو عزيز حليم ، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم هما سواء حتى أملى عليه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ } [ المؤمنون : 12 ] إلى قوله { خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] ، فقال ابن أبي السرح : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } تعجباً من تفصيل خلق الإنسان ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم هكذا أُنزلت ، فشك وارتدّ . { بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } بالعذاب ، أو لقبض الأرواح . { أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ } من العذاب ، أو من الأجساد { الْهُونِ } الهوان ، والهَوْن : الرفق .
(2/60)

وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
{ خَوَّلْنَاكُمْ } التخويل : تمليك المال . { شُفَعَآءَكُمُ } آلهتكم ، أو الملائكة الذين اعتقدتم شفاعتهم . { فِيكُمْ شُرَكَآؤُاْ } شفعاء ، أو يتحملون عنكم تحمل الشريك عن شريكه .
(2/61)

إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
{ فَالِقُ } الحبة عن السنبلة ، والنواة عن النخلة ، أو خالق أو هو الشقاق الدائر فيها ، { يُخْرِجُ الْحَىَّ } السنبلة الحية من الحبة الميتة والنخلة الحية من النواة الميتة ، والحبة والنواة الميتتين من السنبلة والنخلة الحيتين ، أو الإنسان من النطفة والنطفة من الإنسان ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . { تُؤْفَكُونَ } تصرفون عن الحق .
(2/62)

فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
{ الإصْبَاحِ } الصبح ، أو إضاءة الفجر ، أو خالق نور النهار ، أو ضوء الشمس بالنهار وضوء القمر بالليل قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { سَكَناً } يسكن فيه كل متحرك بالنهار ، أو لأن كل حي يأوي إلى مسكنه { حُسْبَاناً } يجريان بحساب أدوار يرجعان بها إلى زيادة ونقصان ، أو جعلهما ضياء قاله قتادة ، كأنه أخذه من قوله تعالى { حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } [ الكهف : 40 ] قال : ناراً .
(2/63)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
{ فَمُسْتَقَرٌّ } في الأرض ، { وَمُسْتَوْدَعٌ } في الأصلاب ، أو مستقر في الرحم ، ومستودع في القبر ، أو مستقر في الرحم ، ومستودع في صلب الرجل ، أو مستقر في الدنيا ومستودع في الآخرة ، أو مستقر في الأرض ومستودع في الذر ، أو المستقر ما خلق ، والمستودع ما لم يخلق ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(2/64)

وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
{ نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ } رزق كل شيء من الحيوان ، أو نبات كل شيء من الثمار . { خَضِراً } زرعاً خضراً . { مُّتَرَاكِباً } سنبلاً تراكب حبه . { قِنْوَانٌ } جمع قنو وهو الطلع ، أو العذق . { دَانِيَةٌ } من مجتنيها لقصرها ، أو قرب بعضها من بعض . { مُشْتَبِهاً } ورقه مختلفاً ثمره ، أو { مُشْتَبِهاً } لونه ، مختلفاً طعمه . { ثَمَرِهِ } الثُّمر جمع ثمار ، والثَّمر جمع ثمرة ، أو الثُّمُر المال ، والثَمَر ثمر النخل ، قرىء بهما . { وَيَنْعِهِ } نضجه وبلوغه .
(2/65)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
{ شُرَكَآءَ الْجِنَّ } قولهم : " الملائكة بنات الله " سماهم الله جناً ، لاستتارهم ، أو أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان حتى جعلوهم شركاء لله في العبادة . { وَخَرَقُواْ } كذبوا ، أو خلقوا ، الخرق والخلق واحد . { بَنِينَ } المسيح وعزير . { وَبَنَاتٍ } الملائكة جعلهم مشركو العرب بنات الله .
(2/66)

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
{ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } لا تحيط به ، أو لا تراه ، أو لا تدركه في الدنيا وتدركه في الآخرة ، أو لا تدركه أبصار الظالمين في الدنيا والآخرة وتدركه أبصار المؤمنين ، أو لا تدركه بهذه الأبصار بل لا بدّ من خلق حاسّة سادسة لأوليائه يدركونه بها .
(2/67)

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
{ نُصَرِّف الأَيَاتِ } بتصريف الآية في معانٍ متغايرة مبالغة في الإعجاز ومباينة لكلام البشر ، أو بأن يتلو بعضها بعضاً فلا ينقطع التنزيل ، أو اختلاف ما نضمنها من الوعد والوعيد والأمر والنهي . { وَلِيَقُولُواْ } ولئلا يقولوا { دَرَسْتَ } قرأت وتعلمت ، قالته قريش ، ودارستَ : ذاكرت وقارأت ، ودرستْ : انمحت وتقادمت ، ودُرستْ تُليت ، وقُرئت ودَرَسَ محمد صلى الله عليه وسلم وتلا ، فهذه خمس قراءات .
(2/68)

وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
{ وَلا تَسُبُّواْ } الأصنام فيسبوا من أمركم بسبها ، أو يحملهم الغيظ على سبّ معبودكم كما سببتم معبودهم . { كَذَلِكَ زَيَّنَّا } كما زينا لكم الطاعة كذلك زينا لمن تقدمكم من المؤمنين الطاعة ، أو كما أوضحنا لكم الحجج كذلك أوضحناها لمن تقدّم ، أو شبهنا لأهل كل دين عملهم بالشبهات ابتلاء حين عموا عن الرشد .
(2/69)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
{ لَئِن جَآءَتْهُمْ } لما نزل { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً } [ الشعراء : 4 ] قالوا : للرسول صلى الله عليه وسلم أنزلها حتى نؤمن بها إن كنت من الصادقين ، فقال المؤمنون : أنزلها عليهم يا رسول الله ليؤمنوا ، فنزلت هذه ، أو أقسم المستهزئون إن جاءتهم آية اقترحوها ليؤمنن بها وهي أن يحول الصفا ذهباً ، أو قولهم { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] ولا يجب على الله إجابتهم إلى اقتراحهم إذا علم أنهم لا يؤمنون ، وإن علم ففي الوجوب قولان .
(2/70)

وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
{ وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُمْ } في النار في الآخرة ، أو الدنيا بالحيرة { أَوَّلَ مَرَّةٍ } جاءتهم الآيات ، أو أول أحوالهم في الدنيا كلها .
(2/71)

وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
{ قِبَلاً } جهرة ومعاينة ، { قُبُلاً } : جمع قبيل وهو الكفيل أي كفلاء ، أو قبيلة قبيلة وصنفاً صنفاً ، أو مقابلة . { إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } أن يعينهم ، أو يجبرهم . { يَجْهَلُونَ } في اقتراحهم الآيات ، أو يجلهون أن المقترح لو جاء لم يؤمنوا به .
(2/72)

وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا } لمن قبلك من الأنبياء أعداء كما جعلنا لك أعداء ، أو جعلنا للأنبياء أعداء كما جعلنا لغيرهم من الناس أعداء ، جعلنا : حكمنا بأنهم أعداء ، أو مكنّاهم من العداوة فلم نمنعهم منها ، { شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ } مردتهم ، أو شياطين الإنس الذين مع الإنس وشياطين الجن الذين مع الجنّ ، أو شياطين الجن الذين الدجنّ ، أو شياطين الإنس كفارهم ، وشياطين الجن كفارهم . { يُوحِى بَعْضُهُمْ } يوسوس ، أو يشر ، { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } [ مريم : 11 ] أشار { زُخْرُفَ الْقَوْلِ } ما زينوه من شبه الكفر ، وارتكاب المعاصي .
(2/73)

وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
{ وَلِتَصْغَى } تميل تقديره " ليغرُّوهم غروراً ولتصغى " ، أو اللام للأمر ، ومعناها الخبر ، قلت للتهديد أحسن .
(2/74)

أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
{ أَبْتَغِى حَكَماً } لا يجوز لأحد أن يعدل عن حكمه حتى أعدل عنه ، أو لا يجوز لأحد أن يحكم مع الله حتى أحاكم إليه ، والحكم من له أهلية الحكم ولا يحكم إلاَّ بالحق ، والحاكم قد يكون من غير أهله فيحكم بغير الحق . { مُفَصَّلاً } تفصيل آياته لتمتاز معانيه ، أو تفصيل الصادق من الكاذب ، أو تفصيل الحق من الباطل والهدى من الضلال ، أو تفصيل الأمر من النهي ، أو المستحب من المحظور والحلال من الحرام .
(2/75)

وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
{ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } القرآن تمت حججه ودلائله ، أو تمام أحكامه وأوامره ، أو تمام إنذاره بالوعد والوعيد ، أو تمام كلامه واستكمال سوره . { صِدْقاً } فيما أخبر به { وَعَدْلاً } فيما قضاه .
(2/76)

وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
{ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } سره وعلانيته ، أو ظاهره : ما حرم من النكاح ذوات المحارم ، وباطنه : الزنا ، أو ظاهره : ذوات الرايات من الزواني ، وباطنه : ذوات الأخدان ، كانوا يستحلون الزنا سراً ، أو ظاهره : الطواف بالبيت عراة ، وباطنه : الزنا .
(2/77)

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
{ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } الميتة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ذبائح كانوا يذبحونها لأوثانهم ، أوما لم يسم الله عليه عند ذبحه ، ولا يحرم أكله بتركها ، أو يحرم ، أو إن تركها عامداً حرم وإن تركها ناسياً فلا يحرم . { لَفِسْقٌ } معصية ، أو كفر . { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } قوم من أهل فارس بعثوا إلى قريش أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ولا يأكلون ما ذبح الله يعنون الميتة ويأكلون ما ذبحوه لأنفسهم ، أو الشياطين قالوا ذلك لقريش ، أو اليهود قالوا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم . { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } في استحلال الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
(2/78)

أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
{ مَيْتاً } كافراً { فَأَحْيَيْنَاهُ } بالإيمان . { نُوراً يَمْشِى بِهِ } القرآن ، أو العلم الهادي إلى الرشد . { الظُّلُمَاتِ } الكفر ، أو الجهل شبه بالظلمة لتحيّر الجاهل كتحيّر ذي الظلمة ، وهي عامة في كل مؤمن وكافر ، أو نزلت في عمر وأبي جهل ، أو في عمار وأبي جهل .
(2/79)

وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
{ صَغَارٌ } ذل ، لأنه يصغر إلى الإنسان نفسه عند الله في الآخرة فحذف أو أنفتهم من الحق صغار عند الله وإن كان عندهم عزاً وتكبراً .
(2/80)

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
{ أَن يَهْدِيَهُ } إلى أدلَة الحق ، أو إلى نيل الثواب والكرامة { يَشْرَحْ } يوسع . { ضَيِّقاً } لا يتسع لدخول الإسلام إليه { حَرَجاً } شديداً لا يثبت فيه . { أَن يُضِلَّهُ } عن أدلة الحق ، أو عن نيل الثواب والكرامة ، { يَصَّعَّدُ } كأنما كلف صعود السماء لامتناعه عليه وبعده منه أو لا يجد مسلكاً لضيق المسالك عليه إلا صعوداً إلى السماء يعجز عنه ، أو كأن قلبه يصعد إلى السماء لمشقته عليه وصعوبته ، أو كأن قلبه بالنفور عنه صاعداً إلى السماء . { الرِّجْسَ } العذاب ، أو الشيطان ، أو ما لا خير فيه ، أو النجس .
(2/81)

وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
{ صِرَاطُ رَبِّكَ } الإسلام ، أو بيان القرآن .
(2/82)

لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
{ دَارُ السَّلامِ } الجنة دار السلامة من الآفات ، أو السلام اسم الله تعالى فالجنة داره . { عِندَ رَبِّهِمْ } في الآخرة ، لأنها أخص به ، أولهم عنده أن ينزلهم دار السلام .
(2/83)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
{ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ } بإغوائكم لهم ، أو استكثرتم من إغواء الإنس . { اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } في التعاون والتعاضد أو فيما زينوه من اتباع الهوى وارتكاب المعاصي ، أو التعوّذ بهم { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ } [ الجن : 6 ] { أَجَلَنَا } الموت ، أو الحشر . { مَثْوَاكُمْ } منزل إقامتكم . { إِلا مَا شَآءَ اللَّهُ } من بعثهم في القبور إلى مصيرهم إلى النار ، أو إلا ما شاء الله من تجديد جلودهم وتصريفهم في أنواع العذاب وتركهم على حالهم الأول فيكون استثناء في صفة العذاب لا في الخلود ، أو جعل مدّة عذابهم إلى مشيئته ولا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا ناراً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(2/84)

وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
{ نُوَلِّى } نكل بعضهم إلى بعض فلا نعينهم فيهلكوا ، أو يتولى بعضهم بعضاً على الكفر ، أو يتولى بعضهم عذاب بعض في النار ، أو يتبع بعضهم بعضاً في النار من الموالاة بمعنى المتابعة ، أو تسلط بعضهم على بعض بالظلم والتعدي .
(2/85)

يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
{ رُسُلٌ } الجن من الجن ، قاله الضحاك ، أو يبعث رسول من الجن وإنما جاءهم رسل الإنسن فقوله { مِّنكُمْ } كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } [ الرحمن : 22 ] يريد من أحدهما ، أو رسل الجن هم الذين لما سمعوا القرآن وَلَّوْا إلى قومهم منذرين .
(2/86)

ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
{ بِظُلْمٍ } في إهلاكهم ، أو لا يهلكهم بظلمهم إلا أن يخرجهم عن الغفلة بالإنذار .
(2/87)

وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
{ وَلِكُلٍّ } لكل عامل بطاعة أو معصية منازل سميت { دَرَجَاتٌ } لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع يريد به الأعمال المتفاضلة ، أو الجزاء المتفاضل .
(2/88)

قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
{ مَكَانَتِكُمْ } طريقتكم ، أو حالتكم ، أو ناحيتكم ، أو تمكنكم ، أو منازلكم .
(2/89)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
{ ذَرَأَ } خلق ، من الظهور ، ملح ذرآني لبياضه ، وظهور الشيب ذرأة . { الْحَرْثِ } الزرع { وَالأَنْعَامِ } الإبل والبقر والغنم من نعمة الوطء . كان كفار قريش ومتابعوهم يجعلون الله تعالى في زرعهم ومواشيهم نصيباً ، ولأوثانهم نصيباً ، يصرفون نصيبها من الزرع إلى خدامها وفي الإنفاق عليها ، وكذلك نصيبهم من الأنعام ، أو يتقربون بذبح الأنعام للأوثان ، أو البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ } سماهم شركاءهم ، لأنهم أشركوهم في أموالهم ، كان إذا اختلط بأموالهم شيء مما للأوثان ردّوه ، وإن اختلط بها ما جعلوه لله لم يردّوه ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو إذا هلك ما لأوثانهم غرموه وإذا هلك ما لله تعالى لم يغرموه ، أو صرفوا بعض ما لله تعالى على أوثانهم ولا عكس ، أو ما جعلوه لله تعالى من ذبائحهم لا يأكلونه حتى يذكروا عليه اسم الأوثان ولا عكس .
(2/90)

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
{ شُرَكَآؤُهُمْ } الشياطين ، أو خدّام الأوثان ، أو شركاؤهم في الشرك ، أو غواة الناس ، { قَتْلَ أَوْلادِهِمْ } وأد البنات ، أو كان أحدهم يحلف إن وُلد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم كما حلف عبد المطلب في نحر ابنه عبد الله . { لِيُرْدُوهُمْ } لامها لام " كي " ، لأنهم قصدوا إرداءهم وهو الهلاك أو لام " العاقبة " لأنهم لم يقصدوه .
(2/91)

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
{ هَذِهِ أَنْعَامٌ } ذبائح الأوثان ، أو البحيرة ، والحام خاصة . { وَحَرْثٌ } ما جعلوه لأوثانهم . { حِجْرٌ } حرام ، قال :
فبت مرتفقاً والعين ساهرة ... كأن نومي على الليل محجور
{ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } السائبة ، أو التي لا يحجون عليها . { لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } قربان أوثانهم . { افْتِرَآءً عَلَيْهِ } بإضافة تحريمها إليه ، أو بذكر أسمائها عند الذبح بدلاً من أسمه .
(2/92)

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
{ مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ } الأجنة ، أو الألبان ، أو الأجنة والألبان . خصوا به الذكور ، لأنهم خدم الأوثان ، أو لفضلهم على الإناث ، والذَّكَر مأخوذ من الشرف ، لأنه أشرف من الأنثى ، أو من الذّكِر ، لأنه أذكر وأبين في الناس .
(2/93)

وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
{ مَّعْرُوشَاتٍ } تعريش الكروم وغيرها برفع أغصانها أو برفع حظارها وحيطانها ، أو المرتفعة لعلو شجرها فلا يقع ثمرها على الأرض مأخوذ من الارتفاع ، السرير : عرش لارتفاعه { على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] على أعاليها . { كُلُواْ } قدم الأكل تغليباً لحقهم وافتتاحاً لنفعهم بأموالهم ، أو تسهيلاً لإيتاء حقه . { حَقَّهُ } الزكاة المفروضة عند الجمهور ، أو صدقة غير الزكاة ، إطعام من حضر ، وترك ما تساقط من الزرع والثمر ، أو كان هذا فرضاً ثم نسخ بالزكاة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { وَلا تُسْرِفُواْ } بإخراج زيادة على المفروض تجحف بكم ، أو لا تدفعوا دون الواجب ، أو أن يأخذ السلطان فوق الواجب ، أو يراد به ما أشركوا آلهتهم فيه من الحرث والأنعام .
(2/94)

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
{ حَمُولَةً وَفَرْشاً } الحمولة : ما حُمِل عليه من الإبل ، والفرش : ما لم يحمل عليه من الإبل لصغره لافتراش الأرض بها على استواء كالفرش ، أو الفرش : الغنم ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } طريقه في الكفر ، أو في تحليل الحرام وتحريم الحلال . { مُّبِينٌ } يريد ما بان من عداوته لآدم عليه الصلاة والسلام ، أو لأوليائه من الشياطين .
(2/95)

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
{ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } ذكر وأثنى { ءَآلذَّكَرَيْنِ } إبطال لما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وما اشتملت عليه أرحام الأنثيين قولهم : { مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } [ الأنعام : 139 ] لما جاء عوف بن مالك فقال للرسول صلى الله عليه وسلم أحللت ما حرّمه آباؤنا يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فنزلت ، فسكت عوف لظهور الحجة عليه .
(2/96)

قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
{ مَيْتَةً } زهقت نفسها بغير ذكاة فتدخل فيها الموقوذة والمتردية وغيرها . { مَّسْفُوحاً } مهراقاً مصبوباً ، وأما غير المسفوح فإن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال ، وإن لم يكن له عروق يجمد عليها وإنما هو مع اللحم فلا يحرم لتخصيص التحريم بالمسفوح . قالته عائشة وقتادة ، قال عكرمة لولا هذه الآية لتتبع المسلمون عروق اللحم كما تتبعها اليهود ، وقيل يحرم لأنه بعض من المسفوح وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه . { رِجْسٌ } نجس { أَوْ فِسْقاً } ما ذبح للأوثان سماه فسقاً لخروجه عن أمر الله تعالى .
(2/97)

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
{ كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } ما ليس بمنفرج الأصابع كالنعام والأوز والبط قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو كل ما يصطاد بظفره من الطير . { شُحُومَهُمَآ } الثروب خاصة ، أو كل شحم لم يختلط بعظم ولا على عظم أو الثروب وشحم الكلى . { مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَآ } شحم الجنب وما علق بالظهر { الْحَوَايَآ } المباعر أو بنات اللبن ، أو الأمعاء التي عليها الشحم من داخلها ، أو كل ما تَحوَّى في البطن فاجتمع واستدار . { مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } شحم الجنب ، أو شحم الجنب والإلية ، لأنها على العصعص .
(2/98)

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
{ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } أداء الحقوق وترك العقوق { إِمْلاقٍ } الفقر ، أو الفلس من الملق ، لأن المفلس يتملق للغني طمعاً في نَائِلِه . { الْفَوَاحِشَ } عموماً ، أو خاص بالزنا فما ظهر ذوات الحوانيت وما بطن ذوات الاستسرار ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو ما ظهر نكاح المحرمات وما بطن الزنا ، أو ما ظهر الخمر وما بطن الزنا . { الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ } المسلم ، أو المعاهد . { بِالْحَقِّ } كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس .
(2/99)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
{ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } حفظه ماله [ إلى ] أن يكبر فيسلم إليه ، أو التجارة به ، أو لا يأخذ من ربح التجارة به شيئاً ، أو الأكل إذا كان فقيراً والترك إن كان غنياً ولا يتعدى من الأكل إلى لباس ولا غيره ، وخصّ مال اليتيم بالذكر وإن كان غيره محرماً لوقوع الطمع فيه إذ لا حافظ له ولا مراعي . { أَشُدَّهُ } الأشد : استحكام قوّة الشباب عند نشوئه وحَدُّه بالاحتلام ، أو بثلاثين سنة . ثم نزل بعده { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } [ النساء : 6 ] ، أو لثماني عشرة سنة . { لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا } عفا عما لا يدخل تحت الوسع من إيفاء الكيل والوزن . { وَبِعَهْدِ اللَّهِ } كل ما ألزمه الإنسان نفسه لله من نذر أو غيره ، أو الحلف بالله تعالى يجب الوفاء به إلا في المعاصي .
(2/100)

وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
{ صِرَاطِى } شرعي سماه صراطاً ، لأنه طريق يؤدي إلى الجنة . { السُّبُلَ } البدع والشبهات . { عَن سَبِيلِهِ } عن طريق دينه .
(2/101)

ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
{ تَمَاماً عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ } تماماً على إحسان موسى عليه الصلاة والسلام بطاعته ، أو تماماً على المحسنين ، أو تماماً على إحسان الله تعالى إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، أو تماماً لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا .
(2/102)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
{ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ } لقبض أرواحهم ، أو تأتيهم رسلاً لأنهم لم يؤمنوا مع ظهور الدلائل . { يَأْتِىَ رَبُّكَ } أمره بالعذاب ، أو قضاؤه في القيامة . { بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } طلوع الشمس من مغربها ، أو طلوعها والدجال والدابة . { أَوْ كَسَبَتْ } يعتد بالإيمان قبل هذه الآيات ، وأما بعدها فإن لم تكسب فيه خيراً فلا يعتدّ به وإن كسبت فيه خيراً ففي الاعتداد به قولان ، وظاهر الآية أنه يعتد به ، ومن قال : لا يعتدّ به كان المعنى لم تكن آمنت وكسبت قاله السدي . { خَيْراً } أداء الفروض على أكمل الأحوال ، أو التنفل بعد الفروض .
(2/103)

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
{ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } اليهود ، أو النصارى واليهود أو جميع المشركين ، أو أهل الضلالة من هذه الأمة . { دِينَهُمْ } الذي أمروا به فرقوه بالاختلاف ، أو الكفر الذي اعتقدوه ديناً . { شِيَعاً } فرقاً يتمالؤون على أمر واحد مع اختلافهم في غيره من الظهور ، شاع الخبر : ظهر ، أو من الاتباع ، شايعه على الأمر : تابعه عليه . { لَّسْتَ مِنْهُمْ } من قتالهم ثم نسخ بآية السيف ، أو لست من مخالطتهم ، أمَرَه بالتباعد منهم .
(2/104)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
{ بِالْحَسَنَةِ } بالإيمان ، والسيئة : الكفر ، أو عامة في الحسنات والسيئات . { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } عام في جميع الناس ، أو خاص بالأعراب لهم عشر ولغيرهم من المهاجرين سبعمائة ، قاله ابن عمر ، وأبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما ، ولما فرض عشر أموالهم ، وكانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر كان العشر كأخذ جميع المال ، والثلاثة كصوم الشهر ، والسبعمائة من سنبلة أنبتت سبع سنابل .
(2/105)

قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
{ صَلاتِى } ذات الركوع لله تعالى دون غيره من وثن أو بشر . { وَنُسُكِى } ذبح الحج والعمرة ، أو ديني ، أو عبادتي ، والناسك العابد .
(2/106)

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ } لا يحمل أحد ذنب غيره ، أخذ الوزر من الثقل ، وزير الملك يتحمل الثقل عنه ، أو من الملجأ { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] ، وزير الملك لإلجاء أموره إليه .
(2/107)

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
{ خَلآئِفَ الأَرْضِ } أهل كل عصر يخلفون من تقدمهم { وَرَفعَ بَعْضَكُمْ } بالغنى والشرف في النسب وقوّة الأجساد . { سَرِيعُ الْعِقَابِ } كل آتٍ قريب ، أو لمن استحقّ تعجيل العقاب في الدنيا .
(2/108)

المص (1)
{ المص } أنا الله أفصل ، أو هجاء " المصور " ، أو اسم القرآن ، أو للسورة ، أو اختصار كلام يفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو حروف الاسم الأعظم ، أو حرف هجاء مقطعة ، أو من حساب الجُمَّل ، أو حروف تحوي معاني كثيرة دلّ الله تعالى خلقه بها على مراده من كل ذلك .
(2/109)

كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{ حَرَجٌ } ضيق ، أو شك ، أو لا يضيق صدرك بتكذيبهم .
(2/110)

وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
{ أَهْلَكْنَاهَا } حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا ، أو أهلكناها بإرسال ملائكة العذاب إليها فجاءها بأسنا بوقوع العذاب بهم ، أون أهلكناها بالخذلان عن الطاعة فجاءتهم العقوبة ، أو وقوع الهلاك والبأس معاً فتكون الفاء بمعنى " الواو " كقوله : " أعطيت فأحسنت " وكان الإحسان مع العطاء لا بعده . البَأس : شدة العذاب ، والبُؤْس : شدة الفقر . { بَيَاتاً } في نوم الليل . { قَآئِلُونَ } نوم النهار ووقت القائلة لأن وقوع العذاب في وقت الراحة أفظع .
(2/111)

وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
{ وَالْوَزْنُ } القضاء بالعدل ، أو موازنة الحسنات والسيئات بميزان له كفَّتان توضع الحسنات في إحداهما والسيئات في الأخرى أو توزن صحائف الأعمال إذ لا يمكن وزن الأعمال وهي أعراض قاله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، أو يوزن الإنسان فيؤتى بالرجل العظيم الجثة فلا يزن جناح بعوضة ، قاله عبيد بن عمير رضي الله تعالى عنهما { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } قضي له بالطاعة ، أو زادت حسناته على سيئاته ، أو ثقلت كفة حسناته .
(2/112)

وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
{ وَلَقَدْ خَلَقَناكُمْ } في أصلاب الرجال { ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ } في أرحام النساء أو خلقناكم " إدم " ثم صورناكم في ظهره ، أو خلقناكم نطفاً في أصلاب الرجال وترائب النساء ثم صورناكم في الأرحام ، أو خلقناكم في الأرحام ثم صورناكم فيها بعد الخلق بشق السمع والبصر . { ثُمَّ قُلْنَا } صورناكم في صلبه ثم قلنا ، أو صورناكم ثم أخبرناكم بأنا قلنا ، أو فيه تقديم وتأخير تقديره ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم ، أو يكون ثم بمعنى " الواو " قاله الأخفش ، وأنكره بعض النحويين .
(2/113)

قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
{ فَأْهْبِطْ مِنْهَا } من السماء ، أو من الجنة ، قاله ربه له على لسان بعض الملائكة ، أو أراه آية دلَّته على ذلك .
(2/114)

قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
{ أَنظِرْنِى } طلب الإنظار بالعقوبة إلى يوم القيامة فأنظر بها إلى يوم القيامة ، أو طلب الإنظار بالحياة إلى القيامة فأنظره إلى النفخة الأولى ليذوق الموت بين النفختين ، وهو أربعون سنة ، ولا يصح أجابة العصاة لأنها تكرمة ولا يستحقونها فقوله : { إِنَّكَ مِنَ المنظرين } [ الأعراف : 15 ] ابتداء عطاء جعل عقيب سؤاله ، أو يصح إجابتهم ابتلاءً وتأكيداً للحجة .
(2/115)

قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
{ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِى } الباء للقسم ، أو للمجازاة ، أو التسبب . { أَغْوَيْتَنِى } أضللتني ، أو خيبتني من جنتك ، أو أهلكتني باللعن ، غوى الفصيل : أشفى على الهلاك . { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ } على صراطك : طريق الحق ، ليصدهم عنه ، أو طريق مكة ليمنع من الحج والعمرة .
(2/116)

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
{ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } من بين أيديهم : أشككهم في الآخرة { وَمِنْ خَلفِهِمْ } أرغبهم في الدنيا { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } حسناتهم ، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } سيئاتهم . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أو " من بين أيديهم " : الدنيا " وخلفهم " الآخرة ، " وأيمانهم " : الحق يشككهم فيه ، وشمائلهم " الباطل " يرغبهم فيه ، أو " بين أيديهم وعن أيمانهم " من حيث يبصرون ، " ومن خلفهم وعن شمائلهم " من حيث لا يبصرون ، أون أراد من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم منها . { شَاكِرينَ } ظنَّ أنهم لا يشكرون فصدق ظنه ، أو يمكن أن علمه من بعض الملائكة بإخبار الله تعالى .
(2/117)

قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
{ مَذْءُوماً } مذموماً ، أو أسواْ حالاً من المذموم ، أو لئيماً ، أو مقيتاً ، أو منفياً . { مَّدْحُوراً } مدفوعاً ، أو مطروداً .
(2/118)

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
{ فَوَسْوَسَ } الوسوسة : إخفاء الصوت بالدعاء ، وسوس له : أوهمه النصح ، ووسوس إليه : ألقى إليه المعنى ، كان في الأرض وهما في الجنة في السماء فوصلت وسوسته إليهما بقوة أعطيها قاله الحسن ، أو كان في السماء ، وكانا يخرجان إليه فيلقاهما هناك ، أو خاطبهما من باب الجنة وهما فيها . { مَا نَهَاكُمَا } هذه وسوسته : رغَّبهما في الخلود وشرف المنزلة ، وأوهمهما أنهما يتحولان في صور الملائكة ، أو أنهما يصيران بمنزلة الملك في علو منزلته مع علمهما أن صورهما لا تتحول .
(2/119)

فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
{ فَدَلاَّهُمَا } حطهما من منزلة الطاعة إلى منزلة المعصية . { وَطَفِقَا } جعلا { يَخْصِفَانِ } يقطعان من ورق التين .
(2/120)

قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
{ اهْبِطُواْ } آدم وحواء وإبليس ، أخبر أنه أمرهم وإن وقع أمره في زمانين لأن إبليس أخرج قلبهما . { مُسْتَقَرٌّ } استقرار ، أو موضع استقرار { وَمَتَاعٌ } ما انتفع به من عروض الدنيا . { حِينٍ } انقضاء الدنيا .
(2/121)

يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
{ قَدْ أَنزَلْنَا } لما كانوا يطوفون بالبيت عراة ويرونه أبلغ في التعظيم بنزع ثياب عصوا فيها ، أو للتفاؤل بالتعرِّي من الذنوب نزلت وجُعل اللباس مُنزلاً ، لنباته بالمطر المنزَل ، أو لأنه من بركات الله تعالى والبركة تنسب إلى النزول من السماء { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] { سَوْءَاتِكُمْ } عوراتكم ، لأنه يسوء صاحبها انكشافها . { وَرِيشاً } المعاش ، أو اللباس والعيش والنعيم ، أو الجمال ، أو المال .
فريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان ، أو الحياء ، أو العمل الصالح ، أو السمت الحسن ، أو خشية الله تعالى أو ستر العورة . { ذَلِكَ خَيْرٌ } لباس التقوى خير من الرياش واللباس ، أو يريد أن ما ذكره من اللباس والرياش ولباس التقوى ذلك خير كله فلا يكون خير للتفضيل .
(2/122)

يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
{ لِبَاسَهُمَا } من التقوى والطاعة ، أو كان لباسهما نوراً ، أو أظفاراً تستر البدن فنُزعت عنهما وتُركت زينة وتذكرة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(2/123)

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
{ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ } توجَّهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة ، أو اجعلوا سجودكم خالصاً لله تعالى دون الأصنام . { كَمَا بَدَأَكُمْ } شقياً وسعيداً كذلك تبعثون يوم القيامة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو كما تبعثون ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يُحشر الناس حفاة عراة غُرلاً " ثم قرأ { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] .
(2/124)

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } ستر العورة في الطواف ، أو في الصلاة أو التزين باجمل اللباس في الجمع والإعياد ، أو أراد المشط لتسريح اللحية وهو شاذ . { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ما أحلَّ لكم { وَلا تُسْرِفُواْ } في التحريم ، أو لا تأكلوا حراماً ، أو لا تأكلوا ما زاد على الشبع .
(2/125)

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
{ زِينَةَ اللَّهِ } ستر العورة في الطواف . { وَالطَّيِّبَاتِ } الحلال ، أو المستلذ كانوا يحرِّمون السمن والألبان في الإحرام ، أو البحيرة والسائبة . { خَالِصَةً } لهم دون الكفر ، أو خالصة من مأثم أو مضرّة .
(2/126)

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
{ نَصِيبُهُم } العذاب ، أو الشقاء والسعادة ، أو ما كتب عليهم مما عملوه في الدنيا ، أو ما وُعدوا في الكتاب من خير أو شر ، أو ما كتب لهم من الأجل والرزق والعمل . { يَتَوَفَّوْنَهُمْ } بالموت ، أو بالحشر إلى النار .
(2/127)

إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
{ لا تُفَتَّحُ } لأرواحهم ، وتفتح لأرواح المؤمنين ، أو لدعائهم وأعمالهم أو لا تفتح لهم لدخول الجنة لأنها في السماء . { الْجَمَلُ } البعير ، وسم الخياط : ثقب الإبرة ، أو السم القاتل الداخل في مسام الجسد الخفية .
(2/128)

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
{ مِهَادٌ } المهاد : الوطاء ، ومنه مهد الصبي . { غَوَاشٍ } لحف ، أو لباس ، أو ظلل .
(2/129)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
{ وَنَزَعْنَا } الحقد من صدورهم لطفاً بهم ، أو انتزاعه من لوازم الإيمان الذي هدوا إليه ، وهو أحقاد الجاهلية ، أو لا تحاقد ولا عداوة بعد الإيمان .
(2/130)

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
{ الأَعْرَافِ } جمع " عرف " ، وهو سور بين الجنة والنار ، مأخوذ من الارتفاع ، منه عرف الديك ، وأصحابه فضلاء المؤمنين ، قاله الحسن ومجاهد ، أو ملائكة في صور الرجال ، أو قوم بطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس ، أو قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك حتى يقضي الله تعالى فيهم ما شاء ثم يدخلون الجنة ، قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أو قوم قُتلوا في سبيل الله تعالى عصاة لآبائهم ، سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف فقال : " قوم قُتلوا في سبيل الله تعالى بمعصية آبائهم فمنعهم القتل في سبيل الله تعالى عن النار ، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة " { بِسِيمَاهُمْ } علامات في وجوههم وأعينهم ، سواد الوجه وزرقة العين لأهل النار ، وبياضه وحسن العين لأهل الجنة .
(2/131)

وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
{ وَنَادَى } وينادي ، أو تقديره : إذا كان يوم القيامة نادى .
(2/132)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{ تَأْوِيلَهُ } تأويل القرآن : عاقبته من الجزاء ، أو البعث والحساب . { نَسُوهُ } أعرضوا عنه فصار كالمنسِي ، أو تركوا العمل به .
(2/133)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
{ سِتَّةِ أَيَّامٍ } من الأحد إلى الجمعة . { اسْتَوَى } أمره على العرش ، قاله الحسن ، أو استولى . { الْعَرْشِ } عبَّر به عن الملك لعادة الملوك الجلوس على الأَسرَّة ، أو السموات كلها ، لأنها سقف وكل سقف عرش { خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ، الكهف : 42 ] سقوفها أو موضع هو أعلى ما في السماء وأشرفه محجوب عن الملائكة . { يُغْشِى } ظلمة الليل ضوء النهار . { يَطْلُبُهُ } عبَّر عن سرعة التعاقب بالطلب .
(2/134)

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
{ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } رعبة ورهبة ، أو التضرع : التذلل ، والخفية : الإسرار . { لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في الدعاء برفع الصوت ، أو بطلب ما لا يستحقه من منازل الأنبياء ، أو باللعنة والهلاك على من لا يستحقهما .
(2/135)

وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ وَلا تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } [ لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها ] بالإيمان ، أو بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة ، أو بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي ، أو بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه . { رَحْمَتَ اللَّهِ } أتت على المعنى لأنها " إنعام " ، أو " مكان رحمة الله " .
(2/136)

وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ } القلب النقي { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } من الإيمان والطاعات { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بما أمر به ذلك { وَالَّذِى خَبُثَ } من القلوب { لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا } بالكفر والمعاصي ، قاله بعض أرباب القلوب ، والجمهور على أنه من بلاد الأرض الطيِّب التربة والرخيص السعر ، أو الكثير العلماء ، أو العادل سلطانه . ضرب الله تعالى الأرض الطيبة مثلاً للمؤمن ، والخبيثة السبخة مثلاُ للكافر { يَخْرُجُ نَبَاتُهُ } زرعه وثماره { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بلا كد على قول التربة ، أو صلاح أهله على قول الطيب بالعلماء { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بدين ربه ، أو كثرة أمواله وحسن أحواله على قول عدل السلطان { بِإِذْنِ رَبِّهِ } بأمر ربه { وَالَّذِى خَبُثَ } في تربته ، أو بغلاء أسعاره ، أو بجور سلطانه ، أو قلّة علمائه . { نَكِداً } بالكد والتعب ، أو قليلاً لا ينتفع به ، أو عسراً لشدّته مانعاً من خيره .
(2/137)

أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{ بَسطَةً } قوة ، أو بسط اليدين وطول الجسد ، كان أقصرهم طوله اثنا عشر ذراعاً . { ءَالآءَ اللَّهِ } نعمه ، أو عهوده .
أبيض لا يرهب الهزال ... ولا يقطع رحماً ولا يخون إلاَّ
(2/138)

قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
{ رِجْسٌ } عذاب ، أو سخط ، أو هو الرجز أًبدلت زايه سيناً . { سَمَّيْتُمُوهَآ } آلهة ، أو سموا بعضاً بأن يسقيهم المطر والآخر أن يأتيهم بالرزق والآخر أن يشفي المرضى والآخر أن يصحبهم في السفر ، قيل ما أمرهم هود إلا بالتوحيد والكف عن ظلم الناس فأبوا { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] .
(2/139)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ ءَايَةً } فريضة ، { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ النور : 1 ] فروضاً ، فرض عليهم أن لا يعقروها ولا يمسوها بسوء ، أو علامة على قدرته ، لأنها تمخَّضت بها صخرة ملساء كما تتمخَّض المرأة فانفلقت عنها على الصفة التي طلبوها ، وكانت تشرب في يومها ماء الوادي كله وتسقيهم اللبن بدله ، ولهم يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم .
(2/140)

وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
{ وَبَوَّأَكُمْ } أنزلكم ، أو مكَّنكم فيها من منازل تأوون إليها . { الأَرْضِ } أرض الحجر بين الشام والمدينة . { قُصُورًا } تصيِّفون فيه ، وتشتُّون في بيوت الجبال لأنها أحصن ، وأبقى وأدفأ ، وكانوا طوال الأعمار والآمال ، والقصر : ما شُيِّد وعلا من المنازل . { ءَالآءَ اللَّهِ } تعالى نعمه ، أو عهوده . { تَعْثُوْاْ } العيث : السعي في الباطل ، أو الفعل المؤذي لغير فاعله . { مُفْسِدِينَ } بالمعاصي ، أو بالدعاء أو عبادة غير الله تعالى .
(2/141)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
{ الرَّجْفَةُ } زلزلة الأرض ، أو الصيحة ، قال السدي : " كل ما في القرآن من دارهم فالمراد به مدينتهم ، وكل ما فيه من ديارهم فالمراد به عساكرهم " . { جَاثِمِينَ } أصبحوا كالرماد الجاثم ، لاحتراقهم بالصاعقة أو الجاثم : البارك على ركبتيه ، قيل : كان ذلك بعد العصر .
(2/142)

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
{ فَتَوَلَّىَ عَنْهُمْ } خرج عن أرضهم بمن آمن معه وهم مائة وعشرة ، قيل خرج [ إلى ] فلسطين ، وقيل : لم تهلك أمة ونبيهم بين أظهرهم .
(2/143)

وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
{ يَتَطَهَّرُونَ } من إتيان الأدبار ، أو بإتيان النساء في الأطهار .
(2/144)

قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
{ نَّعُودَ فِيهَآ } حكاية عن أتباع شعيب الذين كانوا قبل اتباعه على الكفر ، أو قاله تنزُّلاً لو كان عليها لم يعد إليها ، أو يطلق لفظ العود على منشىء الفعل وإن لم يسبق منه فعل مثله { فِيهَآ } في القرية ، أو ملّة الكفر عند الجمهور . { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } علّق العود على المشيئة تبعيداً كقوله : { حتى يَلِجَ الجمل } [ الأعراف : 40 ] ، أو لو شاء الله تعالى عبادة الوثن كانت طاعة لأنه شاءها كتعظيم الحجر الأسود . { افْتَحْ } اكشف؛ أو احكم ، وأهل عُمان يسمون الحاكم ، " الفاتح " و " الفتاح " ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : " كنت لا أدري ما معنى قوله : { رَبَّنَا افْتَحْ } حتى سمعت بنت ذي يزن تقول : تعالَ أفاتحك تعني أقاضيك وسمي بذلك ، لأنه يفتح باب العلم المنغلق على غيره ، وحكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق ، فقوله بالحق أخرجه مخرج الصفة لا أنه طلبه ، أو طلب أن يكشف الله تعالى لمخالفه أنه على الحق ، أو طلب الحكم في الدنيا بنصر المحق .
(2/145)

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
{ يَغْنَواْ } يقيموا ، أو يعيشوا ، أو ينعموا ، أو يُعَمَّروا ، { هُمُ الْخَاسِرِينَ } بالكفر ، أو بالهلاك .
(2/146)

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
{ بِالْبَأْسَآءِ } بالقحط { وَالضَّرَّآءِ } الأمراض والشدائد ، أو البأساء : الجوع ، والضراء : الفقر ، أو البأساء : البلاء ، والضراء : الزمانة ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو البأساء : الشدائد في أنفسهم ، والضراء : الشدائد في أموالهم .
(2/147)

ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
{ السَّيِّئَةِ } الشدة و { الْحَسَنَةَ } الرخاء ، أو السيئة : الشر ، والحسنة : الخير . { عَفَواْ } كثروا ، أو أعرضوا ، أو سمنوا ، أو سُرُّوا . { مَسَّ ءَابَآءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ } يريدون ليس عقوبة على التكذيب بل ذلك عادة الله تعالى في خلقه .
(2/148)

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
{ لَفَتَحْنَا } لرزقنا أو لوسعنا . { بَرَكَاتٍ } السماء القطر ، وبركات الأرض النبات والثمار .
(2/149)

أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
{ لا يَسْمَعُونَ } لا يقبلون ، ومنه سمع الله لمن حمده .
(2/150)

تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
{ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } وقت أخذ الميثاق يوم الذر أو لم يؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق عليهم أنهم يكذبون به يوم الذر ، أو لو أحييناهم بعد هلاكهم لم يؤمنوا بما كذبوا قبل هلاكهم كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الأنعام : 28 ] .
(2/151)

وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
{ مِّنْ عَهْدٍ } من طاعة للأنبياء ، أو من وفاء بعهد عهده إليهم مع الرسل أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أو عهد يوم الذر ، أو ما ركز في عقولهم من معرفته ووجوب شكره . { لَفَاسِقِينَ } الفسق : الخروج عن الطاعة ، أو خيانة العهد .
(2/152)

حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
{ حَقِيقٌ } حريص ، أو واجب ، أخذ من وجوب الحق . { إِلاَّ الْحَقَّ } الصدق ، أو ما فرضه عليَّ من الرسالة .
(2/153)

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
{ أَرْجِهْ } أخره ، أو احبسه . { حَاشِرِينَ } أصحاب الشُّرَط ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(2/154)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
{ عَصَاكَ } هي أول آيات موسى عليه الصلاة والسلام من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع بطول موسى عليه الصلاة والسلام ، فضرب بها باب فرعون ففزع فشاب فخضب بالسواد حياء من قومه ، وكان أول من خضب بالسواد ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { تَلْقَفُ } التلقُف : التناول بسرعة ، يريد ابتلاعها بسرعة . { يَأْفِكُونَ } يقلبون ، المؤتفكات : المنقلبات ، أو يكذبون من الإفك .
{ ألْقُواْ } تقديره " إن كنتم محقين " ، أو أَلقوا على ما يصح ويجوز دون ما لا يصح .
(2/155)

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
{ فَوَقَعَ الْحَقُّ } ظهرت العصا على حبال السحرة ، أو ظهرت نبوة موسى عليه الصلاة والسلام على ربوبية فرعون .
(2/156)

وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
{ سَاجِدِينَ } لله إيماناً بربوبيته ، أو لموسى عليه الصلاة والسلام تسليماً له وإيماناً بنبوّته ، أُلهموا السجود لله تعالى أو رأوا موسى عليه الصلاة والسلام وهارون سجدا شكراً عند الغلبة فاقتدوا بهما .
(2/157)

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
{ الْمَلأُ } الأشراف ، أو الرؤساء ، أو الرهط ، والنفر : " الرجال الذين لا نساء معهم " ، والرهط أقوى من النفر وأكبر ، والملأ : المليئون بما يراد منهم ، أو تملأ النفوس هيبتهم ، أو يملؤون صدور المجالس ، وإنما أنكروا على فرعون ، لأنهم رأوا منه خلاف عادة الملوك في السطوة بمن أظهر مخالفتهم ، وكان ذلك لطفاً من الله تعالى بموسى عليه الصلاة والسلام . { لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } بعبادة غيرك ، أو بالغلبة عليها وأخذ قومه منها . { وَءَالِهَتَكَ } كان يعبد الأصنام وقومه يعبدونه ، أو كان يعبد ما يستحسن من البقر ولذلك أخرج السامري العجل وكان معبوداً في قومه ، أو أصنام كان يعبدها قومه تقرباً إليه ، قاله الزجاج ، قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما { وءَالهتَك } أي وعبادتك وقال : كان فرعون يُعْبَد ولا يَعْبُد . { سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ } عدل عن قتل موسى إلى قتلهم ، لأنه علم أنه لا يقدر على قتل موسى عليه الصلاة والسلام إما لقوته ، أو لأنه مصروف عن قتله فأراد استئصال بني إسرائيل ليضعف عنه موسى . { وَنَسْتَحْىِ نِسَآءَهُمْ } نفتش حياءهن عن الولد ، والحياء : الفرج ، والأظهر أنه نبقهن أحياء لضعفهن عن المنازعة والمحاربة .
(2/158)

قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
{ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ } أعلمهم أن الله تعالى يورثهم أرض فرعون ، أو سلاهم بأن الأرض لا تبقى على أحد حتى تبقى لفرعون .
(2/159)

قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
{ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا } بالاستبعاد وقتل الأبناء { وَمِن بَعْدِ } بالوعيد بإعادة ذلك عليهم ، أو بالجزية من قبل مجيئه وبعده ، أو كانوا يضربون اللَّبِنَ ويُعطون التبن فلما جاء صاروا يضربون اللَّبِنَ وعليهم التبن أو كانوا يسخرون في الأعمال نصف النهار ويكسبون لأنفسهم في النصف الآخر فلما جاء سخَّرهم جميع النهار بغير طعام ولا شراب { مِن قَبْلِ أَن تَأَتِيَنَا } بالرسالة { وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } بها ، أو من قبل أن تأتينا بعهد الله تعالى أنه يخلِّصنا ، ومن بعد ما جئتنا به شكوا ذلك استغاثة منهم بموسى عليه الصلاة والسلام أو استبطاء لوعده . { عَسَى } في اللغة طمع وإشفاق ، وهي من الله تعالى إيجاب ويقين ويحتمل أن يكون رجاهم ذلك . { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ } يجعلكم خلفاً من فرعون ، أو يجعلكم خلفاً لنفسه لأنكم أولياؤه . { الأَرْضِ } أرض مصر ، أو الشام . { فَيَنظُرَ } فيرى ، أو فيعلم أولياؤه . وعدهم بالنصر ، أو حذّرهم من الفساد ، لأن الله تعالى ينظر كيف تعملون في طاعته أو خلافته .
(2/160)

وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
{ بِالسِّنِينَ } الجوع ، أو الجدوب ، أخذتهم السنة : قحطوا ، قال الفراء : بالسنين : القحط عاماً بعد عام ، قيل قحطوا سبع سنين .
(2/161)

فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
{ الْحَسنَةُ } الخصب ، والسيئة : الجدب ، أو الحسنة : السلامة والأمن ، والسيئة : الأمراض والخوف . { لَنَا هَذِهِ } أي كانت هذه حالنا في أوطاننا قبل اتباعنا لك . { يَطَّيَّرُواْ } يتشاءموا ، يقولون : هذه بطاعتنا لك . { طَآئِرُهُمْ } حظهم من العقاب ، أو طائر البركة ، والشؤم من الخير والشر والنفع والضر من عند الله تعالى لا صنع فيه لمخلوق .
(2/162)

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
{ الطُّوفَانَ } الغرق بالماء الزائد ، أو الطاعون ، أو الموت ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " الطوفان : الموت " أو أمر من الله تعالى طاف بهم ، أو المطر والريح ، أو عذاب ، " قيل : دام بهم ثمانية أيام من السبت إلى السبت ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : فما زال الطوفان حتى خرج زرعهم حسناً ، فقالوا : هذه نعمة فأرسل الله تعالى عليهم الجراد بعد شهر فأكل جميع نبات الأرض وبقي من السبت إلى السبت ، ثم طلع بعد الشهر من الزرع ما قالوا هذا يكفينا فأرسل الله تعالى عليهم القُمَّل فسحقها " ، وهو الدبا صغار الجراد لا أجنحة له ، أو سوس الحنطة ، أو البراغيث ، أو القردان ، أو ذوات سود صغار . { وَالدَّمَ } الرعاف ، أو صار ماء شربهم دماً عبيطاً . { مُّفَصَّلاتٍ } مبينات لنبوة موسى عليه الصلاة والسلام أو انفصل بعضها عن بعض فكان بين كل آيتين شهر . { فَأسْتَكْبَرُواْ } عن الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام ، أو عن الاتعاض بالآيات .
(2/163)

وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
{ الرِّجْزُ } العذاب ، أو طاعون أهلك من القبط سبعين ألفاً { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } الباء للقسم ، أو بما أوصاك أن تفعله في قومك ، أو بما عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك .
(2/164)

وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
{ مَشَارِقَ الأَرْضِ } الشرق والغرب ، أو أرض الشام ومصر ، أو الشام وحدها شرقها وغربها . { بَارَكْنَا فِيهَا } بالخصب ، أو بكثرة الثمار والأشجار والأنهار . { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } بإهلاك عدوهم واستخلافهم او بما وعدهم به بقوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ } الآيتين [ القصص : 5 ، 6 ] { الْحُسْنَى } لأنها وعد بما يحبون . { بِمَا صَبَرُواْ } على طاعة الله تعالى أو على أذى فرعون .
(2/165)

إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
{ مُتَبَّرٌ } باطل أو ضلال ، أو مُهلك ، والتبر : الذهب ، لأن معدنه مهلك ، أو لكسره ، وكل إناء مكسور متبر ، قاله الزجاج .
(2/166)

وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
{ بَلآءٌ } في خلاصكم ، أو فيما فعلوه بكم ، والبلاء : الاختبار بالنعم ، أو النقم .
(2/167)

وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
{ ثَلاثِينَ لَيْلَةً } أمر بصيامها ، والعشر بعدها أجل المناجاة ، أو الأربعون كلها أجل الميقات للمناجاة ، قيل ذو القعدة وعشر من ذي الحجة . تأخر عنه قومه في الأجل الأول فزادهم الله تعالى العشر ليحضروه ، أو لأنهم عبدوا العجل بعده فزاد الله تعالى العشر عقوبة لهم ، { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } تأكيد ، أو لبيان أن العشر ليالي وليست بساعات ، أو لبيان أن العشر زائد على الثلاثين غير داخل فيها ، لأن تمام الشيء يكون بعضه .
(2/168)

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
{ أَرِنِى } سأل الرؤية ليجاب بما يحتج به على قومه إذ قالوا { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] مع علمه أنه لا يجوز أن يراه في الدنيا ، أو كان يعلمه باستدلال فأحبَّ أن يعلمه ضرورة ، أو كان يظن ذلك حتى ظهر له ما ينفيه . { تَجَلَّى } ظهر بآياته التي أحدثها في الجبل لحاضري الجبل ، أو ظهر من ملكوته للجبل ما تدكدك به ، لأن الدنيا لا تقوم لما يظهر من ملكوت السماء ، أو ظهر قدر الخنصر من العرش ، أو أظهر أمره للجبل ، والتجلَّي : الظهور ، ومنه جلاء المرآة وجلاء العروس . { دَكّاً } مستوياً بالأرض ، ناقة دكاء لا سنام لها ، أو ساخ في الأرض أو صار تراباً ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو صار قطعاً . { صَعِقاً } ميتاً ، أو مغشياً عليه ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخذته العشية عشية الخميس يوم عرفة فأفاق عشية الجمعة يوم النحر وفيه نزلت عليه التوراة ، فيها عشرة آيات نزلت في القرآن في ثماني عشرة آية من بني إسرائيل . { تُبْتُ } من السؤال قبل الإذن ، أو من تجويز الرؤية في الدنيا ، أو ذكر ذلك على جهة التسبيح ، لأن المؤمن يسبِّح عند ظهور الآيات . { أَوَّلُ الْمؤْمِنِينَ } أنه لا يراك شيء من خلقك في الدنيا ، أو باستعظام سؤال الرؤية .
(2/169)

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
{ وَكَتَبْنَا } فرضنا ك { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] أو خططنا بالقلم . { الأَلْوَاحِ } زمرد أخضر ، أو ياقوت ، أو بُرد ، أو خشب ، أًخذ اللوح من أن المعاني تلوح بالكتابة فيه . { مِن كُلِّ شَىْءٍ } يحتاج إليه في الدين من حرام ، أو حلال ، أو مباح ، أو واجب ، أو غير واجب ، أو كل شيء من الحِكم والعِبر . { مَّوْعِظَةً } بالنواهي { وَتَفْصِيلاً } بالأوامر ، أو موعظة : بالزواجر ، وتفصيلاً : بالأحكام ، وكانت سبعة ألواح . { بِقُوَّةٍ } بجد واجتهاد ، أو بطاعة ، أو بصحة عزيمة ، أو بشكر . { بِأَحْسَنِهَا } الفرائض أحسن من المباح ، أو بناسخها دون منسوخها أو المأمور أحسن من ترك المنهي وإن كانا طاعة . { دَارَ الْفَاسِقِينَ } جهنم ، أو منازل الهلكى ليعتبروا بنكالهم ، أو مساكن الجبابرة والعمالقة بالشام ، أو مصر دار فرعون .
(2/170)

سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
{ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِىَ } أمنع عن فهم القرآن ، أو أجزيهم على كفرهم بإضلالهم عما جاء به من الحق ، أو أصرفهم عن دفع الانتقام عنهم { يَتَكَبَّرُونَ } عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم أو يحقرون الناس ويرون لهم عليهم فضلاً . { الرُّشْدِ } الإيمان ، والغي : الكفر ، أو الرشد : الهدى ، والغي : الضلال . { غَافلِينَ } عن الإيمان ، أو عن الجزاء .
(2/171)

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
{ أَسِفاً } حزيناً ، أو شديد الغضب ، أو مغتاظاً ، أو نادماً . والأَسِف : المتأسف على فوت ما سلف ، غضب عليهم لعبادة العجل أسفاً على ما فاته من المناجاة ، أو غضب على نفسه من تركهم حتى ضلُّوا أسفاً على ما رآهم عليه من المعصية ، قال بعض المتصوفة : أغضبه الرجوع عن مناجاة الحق إلى مخالطبة الخلق . { أَمْرَ رَبِّكُمْ } وعده بالأربعين ، ظنوا موت موسى عليه الصلاة والسلام لما لم يأتهم على رأس الثلاثين ، أو وعده بالثواب على عبادته فعدلتم إلى عبادة غيره ، والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته ، والسرعة : عمله في أول أوقاته . { وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ } غضباً لما رأى عبادة العجل ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما رأى فيها أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرُ أمة أُخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله ، قال : رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد فاشتدّ عليه فألقاها ، قاله قتادة . فلما ألقاها تكسرت ورفعت إلا سبعها ، وكان في المرفوع تفصيل كل شيء ، وبقي الهدى والرحمة في الباقي ف { أَخَذَ الآَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأعراف : 154 ] وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تكسرت الألواح ورُفعت إلا سدسها . { بِرَأْسِ أَخِيهِ } بأذنه ، أو شعر رأسه ، كما يقبض الرجل منا على لحيته ويعض على شفته ، أو يجوز أن يكون ذلك في ذلك الزمان بخلاف ما هو عليه الآن من الهوان . { أبْنَ أُمَّ } كان أخاه لأبويه ، أو استعطفه بالرحمة كما في عادة العرب قال :
يا ابن أمي ويا شُقَيِّقَ نفسي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } لا تغضب عليَّ كما غضبت عليهم ، فَرَقَّ له ، ف { قَالَ رَبِّ أغْفِرْ لِي وَلأَخَى } [ الأعراف : 151 ] .
(2/172)

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
{ لِّمِيقَاتِنَا } الميقات الأول الذي سأل فيه الرؤية ، أو ميقات آخر للتوبة من عبادة العجل . { أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } لسؤالهم الرؤية أو لأنهم لم ينهوا عن عبادة العجل ، والرجفة : زلزلة ، أو موت أُحيوا بعده ، أو نار أحرقتهم فظنّ موسى عليه الصلاة والسلام أنهم هلكوا ولم يهلكوا . { أَتُهْلِكُنَا } نفى أن يعذب إلا من ظلم ، أو الاستفهام على بابه ، خاف من عموم العقوبة ، كقوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] { فِتْنَتُكَ } عذابك ، أو اختبارك .
(2/173)

وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
{ حَسَنَةً } نعمة ، سميت بذلك لحسن وقعها في النفوس ، أو ثناءً صالحاً ، أو مستحقات الطاعة . { هُدْنَآ } تُبنا ، أو رجعنا بالتوبة إليك ، هاد يهود : رجع ، أو تقرَّبنا بالتوبة إليك ، ما له عندي هوادة سبب يقربه { مَنْ أَشَاءُ } من من خلقي ، أو من أشاء في التعجيل والتأخير . { وَرَحْمَتِى } توبتي ، أو الرحمة خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أو تسع رحمته في الدنيا البر والفاجر وتختص في والاخرة بالمتقين ، قاله الحسن - رضي الله تعالى عنه - { يَتَّقُونَ } الشرك ، أو المعاصي { الزَّكَاةَ } من أموالهم عند الجمهور ، أو يتطهَّرون بالطاعة ، قاله ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - { فَسَأكْتُبُهَا } لما انطلق موسى - عليه الصلاة والسلام - بوفد من بني إسرائيل ، قال الله - تعالى : قد جعلت لهم الأرض طهوراً ومساجد يصلَّون حيث أدركتهم الصلاة إلا عند مرحاض ، أو قبر أو حمام ، وجعلت السكينة في قلوبهم ، وجعلتهم يقرؤون التوراة عن ظهر قلب ، فذكره موسى عليه الصلاة والسلام لهم فقالوا : لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا فاجعلها في تابوت ، ولا نقرأ التوراة إلا نظراً ، ولا نصلي إلا في الكنيسة ، فقال الله - تعالى - فسأكتبها - يعني السكينة والقراءة والصلاة لمتَّبعي محمد صلى الله عليه وسلم .
(2/174)

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ الأُمِّىَّ } لأنه لا يكتب ، أو لأنه من أم القرى مكة أو لأنه من أمة أمية هي العرب . { بِالْمعْرُوفِ } بالحق ، لأن العقول تعرف صحته . { الْمُنكَرِ } الباطل لإنكارها صحته . { الطَّيِّبَاتِ } الشحوم المحرمة عليهم ، أو ما حرمته الجاهلية من البحيرة والسائبة والوصية والحام . { الْخَبَائِثَ } لحم الخنزير والدماء . { إِصْرَهُمْ } العهد على العمل بما في التوراة ، أو تشديدات دينهم كتحريم السبت والشحوم والعروق وغير ذلك . { وَالأَغْلآَلَ } قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } [ المائدة : 64 ] أو عهده فيما حرمه عليهم سماه غلاًّ للزومه . { وَعَزَّرُوهُ } عظَّموه ، أو منعوه من عدوه . { النُّورَ } القرآن ، يسمون ما ظهر ووضح نوراً . { أُنزِلَ مَعَهُ } عليه ، أو في زمانه ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أي الخلق أعجب إليكم إيماناً " قالوا : الملائكة؟ فقال : " هم عند ربهم فما لهم لا يؤمنون؟ " فقالوا : النبيون ، فقال : " النبيون يُوحى إليهم فما لهم لا يؤمنون؟ " قالوا : نحن ، فقال : " أنا فيكم فما لكم لا تؤمنون " قالوا : فمَن ، قال : " قوم يكونون بعدكم فيجدون كتاباً في ورق فيؤمنون به " هذا معنى قوله { وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ } .
(2/175)

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } الذين صدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم كابن لاسم وابن صوريا ، أو قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو الذين تمسكوا بالحق لما قُتلت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
(2/176)

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
{ الْقَرْيَةَ } لاجتماع الناس إليها ، أو الماء ، قَرَى الماء في حوضه جمعه ، بيت المقدس ، أو الشام .
(2/177)

وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
{ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } أيلة ، أو ساحل مدين ، أو مدين ، قرية بين إيلة والطور ، أو مقنا بين مدين وعينونا ، أو طبرية { وَسْئَلْهُمْ } توبيخاً على ما سلف من الذنوب . { شُرَّعًا } طافية على الماء ظاهرة ، شوارع البلد لظهروها ، أو تشرع على أبوابهم كأنهم الكباش البيض رافعة رؤوسها ، أو تأتيهم من كل مكان فتعدَّوا بأخذها في السبت .
(2/178)

فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
{ نَسُواْ } تركوا { مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر . { ظَلَمُواْ } بترك المعروف وإيتان المنكر . { بَئِيس } شديد ، أو رديء ، أو عذاب مقترن بالبؤس هو الفقر ، هلك المعتدون ، ونجا المنكرون ، ونجت التي لم تَعْتَدِ ولم تنكر ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا أدري ما فعلتْ .
(2/179)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{ تَأَذَّنَ } أعلم ، أو أقسم ، قاله الزجاج . { لَيَبْعَثَنَّ } على اليهود العرب ، و { سُوءَ الْعَذَابِ } الصغار والجزية ، قيل : أول من وضع الخراج من الأنبياء موسى عليه الصلاة والسلام جباه سبع سنين ، أو ثلاثة عشرة سنة ثم أمسك .
(2/180)

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
{ وَقَطَّعْنَاهُمْ } فرقناهم ليذهب تعاونهم ، أو ليتميز الصالح من المفسد ، أو انتقاماً منهم . { بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } الثواب والعقاب ، أو النعم والنقم ، أو الخصب والجدب .
(2/181)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
{ خَلْفٌ } وخَلَف واحد ، أو بالسكون للذم ، وبالفتح للحمد ، وهو الأظهر ، والخلف : القرن ، أو جمع خالف ، وهم أبناء اليهود ورثوا التوراة عن آبائهم ، أو النصارى خلفوا اليهود وورثوا الإنجيل لحصوله معهم . { عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى } الرشوة على الحكم إجماعاً ، سمي عرضاً لقلة بقائه ، الأدنى : لأنه من المحرمات الدنية ، أو لأخذه في الدنيا الدانية . { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } عبّر به عن إصرارهم على الذنوب ، أو أراد لا يشبعهم شيء فهم لا يأخذونه لحاجة ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } تركوه ، أو تلوه وخالفوه على علم .
(2/182)

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
{ نَتَقْنَا } زحزحنا ، أو جذبنا ، النتق : الجذب ، والمرأة الولود ناتق لاجتذابها ماء الفحل ، أو لأن ولادها كالجذب ، أو رفعناه عليهم من أصله لما أبوا قبول فرائض التوراة لمشقتها ، وعظهم موسى عليه الصلاة والسلام فلم يقبلوا فرفع الجبل فوقهم ، وقيل : إن أخذتموه بجد واجتهاد وإلا أُلقي عليكم ، فأخذوه بجد ثم نكثوا بعده ، وكان نتقه نقمة بما دخل عليهم من رعبة وخوفه ، أو نعمة لإقلاعهم عن المعصية . { وَظَنُّواْ } على بابه ، أو أيقنوا { مَآ ءَاتَيْنَاكُم } التوراة .
(2/183)

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
{ أَخَذَ رَبُّكَ } أخرج الأرواح قبل الأجساد في الجنة ، أو بعد هبوط آدم إلى الأرض ، وخلق فيها المعرفة فعرفت من خاطبها ، أو خلق الأرواح والأجساد معاً في الأرض مكة والطائف فأخرجهم كالذر في الدور الأول مسح ظهره ، فخرج من صفحة ظهره اليمنى أصحاب الميمنة بيضاً كالذر ، وخرج أصحاب المشأمة من اليسرى سوداً كالذر وألهمهم ذلك ، فلما شهدوا على أنفسهم مؤمنهم وكافرهم أعادهم ، أو أخرج الذرية قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر . { وَأَشهَدَهُمْ } بما شهدوه من دلائل قدرته ، أو بما اعترفوا به من ربوبيته ، فقال للذرية لما أخرجهم على لسان الأنبياء { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } بعد كمال عقولهم . قاله الأكثر ، أو جعل لهم عقولاً علموا بها ذلك فشهدوا به ، أو قال للآباء بعد إخراج ذريتهم كما خلقت ذريتكم فلكذلك خلقتكم فاعترفوا بعد قيام الحجة ، والذرية من ذرأ الله تعالى الخلق أحدثهم وأظهرهم ، أو لخروجهم من الأصلاب كالذر .
(2/184)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
{ الَّذِى ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } بلعم بن باعورا من أهل اليمن ، أو من الكنعانيين ، أو من بني صاب بن لوط ، أو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، أو من أسلم من اليهود والنصارى ونافق . { ءَايَاتِنَا } الاسم الأعظم الذي تُجاب به الدعوات ، أو كتاب من كتب الله تعالى قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو أُتي النبوة فرشاه قومه على أن يسكت عنهم ففعل ولا يصح هذا . { فَانسَلَخَ } سُلب المعرفة بها لأجل عصيانه ، أو انسلخ من الطاعة مع بقاء علمه بالآيات ، حُكي أن بلعم رُشي على أن يدعو على قوم موسى عليه الصلاة والسلام بالهلاك فسها فدعا على قوم نفسه فهُلكُوا . { فأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } صيَّره لنفسه تابعاً لما دعاه فأجابه ، أو الشيطان متبعه من الإنس على كفره ، أو لحقه الشيطان فأغواه ، اتبعت القوم : لحقتهم وتبعتهم : سرت خلفهم . { الْغَاوِينَ } الهالكين ، أو الضالَّين .
(2/185)

وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
{ لَرَفَعْنَاهُ } لأمتناه ولم يكفر ، أو لحلنا بينه وبين الكفر فارتفعت بذلك منزلته . { أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } ركن إلى أهلها في خدعهم إياه ، أو ركن إلى شهواتها فشغلته عن الطاعة . { كَمَثَلِ الْكَلْبِ } اللاهث في ذلته ومهانته ، أو لأن لهثه لا ينفعه .
(2/186)

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
{ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } عام ، أو يراد به أولاد الزنا ، لمسارعتهم إلى الكفر لخبث نطفهم . { لاَّ يَفْقَهُونَ } الحق بقلوبهم و { لاَّ يُبْصِروُنَ } الرشد بأعينهم ، و { لاَّ يَسْمَعُونَ } الوعظ بآذانهم . { كَالأَنْعَامِ } همهم الأكل والشرب ، أو لا يعقلون الوعظ . { هُمْ أَضَلُّ } لعصيانهم ، أو لتوجه الأمر إليهم دونها .
(2/187)

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
{ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى } كل أسمائه حسنى والحسنى هاهنا ما مالت إليه القلوب من وصفة بالعفو والرحمة دون الغضب والنقمة ، أو أسماؤه التي يستحقها لذاته وأفعاله . { فَادْعُوهُ بِهَا } عظَّموه بها تعبداً له بذكرها ، أو اطلبوا بها وسائلكم { يُلْحِدُونَ } بتسمية الأوثان آلهة والله أبا المسيح ، أو اشتقاقهم اللات من الله ، والعزى من العزيز ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلحدون : يكذبون ، أو يشركون ، أو يجورون .
(2/188)

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
{ أُمَّةٌ يَهْدُونَ } الأنبياء والعلماء ، أو هذه الأمة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم يهدون إلى الإسلام بالدعاء إليه ثم بالجهاد عليه .
(2/189)

وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
{ سَنَسْتَدْرِجُهُم } الاستدراج : أن يأتي الشيء من حيث لا يعلم ، أو أن ينطوي منزلة بعد منزلة من الدرج لانطوائه على شيء بعد شيء ، أو من الدرجة لانحطاطه عن منزلة بعد منزلة ، يستدرجون إلى الكفر ، أو إلى الهلكة بالإمداد بالنعم ونيسان الشكر ، أو كلما أحدثوا خطيئة جدد لهم نعمة ، والاستدراج بالنعم الظاهرة ، والمكر بالباطنة . { لا يَعْلَمُونَ } بالاستدراج ، أو الهلكة .
(2/190)

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
{ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ } يحكم بضلاله في الدين ، أو يضله عن طريق الجنة إلى النار . { طُغْيانِهِمْ } الطغيان : إفراط العدوان . { يَعْمَهُونَ } يتحيَّرون ، العمه في القلب كالعمى في العين ، أو يتردَّدون .
(2/191)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاَعَةِ } اليهود ، أو قريش . { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } : متى ، { مُرْسَاهَا } : قيامها ، أو منتهاها ، أو ظهورها . { حَفِىُّ عَنْهَا } عالم بها ، أو تقديره : يسألونك عنها كأنك حفي بهم .
(2/192)

قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
{ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } لو علمت متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح ، أو لو علمت سنة الجدب لادخرت لها من سنة الخصب ، أو لو علمت الكتب المنزَلة لاستكثرت من الوحي ، أو لاشتريت في الرخص وبعت في الغلاء ، وهو شاذ ، أو لو علمت أسراركم وما في قلوبكم لأكثرت لكم من دفع الأذى واجتلاب النفع . { وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ } ما بي جنون ، أو ما مسني الفقر لاستكثاري من الخير ، أو ما دخلت عليَّ شبهةٌ .
(2/193)

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
{ نَّفْسٍ وَاحِدةٍ } آدم { زَوْجَهَا } حواء { لِيَسْكُنَ } ليأوي ، أو ليألفها ويعطف عليها . { خَفِيفاً } النطفة ، { فَمَرَّتْ بِهِ } استمرت إلى حال الثقل ، أو شكت هل حملت أم لا؟ قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . { دَّعَوَا } آدم وحواء . { صَالِحاً } غلاماً سويّاً ، أو بشراً سويّاً ، لأن إبليس أوهمها أنه بهيمة ، { جَعَلا لَهُ شُرَكَآءَ } كان اسم إبليس في السماء " الحارث " فلما ولدت حواء ، قال : سميه " عبد الحارث " فسمّته " عبدالله " فمات فلما ولدت ثانياً قال لها ذلك فأبت ، فلما حملت ثالثاً قال لها ولآدم عليه الصلاة والسلام أتظنان أن الله تعالى يترك عبده عندكما لا والله ليذهبن به كما ذهب بالأخوين ، فسمياه بذلك فعاش فكان إشراكهما في الاسم دون العبادة ، أو جعل ابن آدم وزوجته لله شركاء من الأصنام فيما آتاهما ، قاله الحسن .
(2/194)

أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
{ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } في مصالحهم { أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ } في الدفاع عنكم { أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ } منافعكم ومضاركم { ءَاذَانٌ يَسْمَعونَ بِهَا } دعاءكم . فكيف تعبدون من أنتم أفضل منه وأقدر؟
(2/195)

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
{ الْعَفْوَ } من أخلاق الناس وأعمالهم ، أو من أموال المسلمين ، ثم نسخ بالزكاة ، أو العفو عن المشركين ثم نسخ بالجهاد { بِالْعُرْفِ } بالمعروف ، أو لما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يا جبريل ما هذا؟ " قال : لا أدري حتى أسأل العالِم ، ثم عاد فقال : يا محمد إن الله تعالى يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك .
(2/196)

وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
{ نَزْغٌ } انزعاج ، أو غضب ، أو فتنة ، أو إغواء ، أو عجلة { فَاسْتَعِذْ } فاستجر . { سَمِيعٌ } لجهل الجاهل { عَلِيمٌ } بما يزيل النزغ .
(2/197)

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
{ طيف } و { طَآئِفٌ } واحد وهو لمم كالخيال يلم بالإنسان ، أو وسوسة ، أو غضب ، أو نزغ ، أو الطيف : الجنون ، والطائف : الغضب ، أو الطيف اللمم ، والطائف كل شيء طاف بالإنسان . { تَذَكَّرُواْ فإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } علموا فانتهوا ، أو اعتبروا فاهتدوا .
(2/198)

وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
{ اجْتَبَيْتَهَا } أتيت بها من قِبَلِك ، أو اخترتها لنفسك ، [ أو ] تقبلتها من ربك ، أو طلبتها لنا قبل مسألتك .
(2/199)

وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
{ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } لا تقابلوه بكلام واعتراض ، نزلت في المأموم ينصت ولا يقرأ ، أو في الإنصات لخطبة الجمعة ، أو نسخت جواز الكلام في الصلاة .
(2/200)

وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
{ وَاذْكُر رَّبَّكَ } خلف الإمام بالقراءة سراً ، او عند سماع الخطبة ، أو في عموم الأحوال اذكره بقلبك أو بلسانك في دعائك وثنائك { تَضَرُّعاً } الخشوع والتواضع . { وَدُونَ الْجَهْرِ } إسرار القول بالقلب ، أو اللسان . { بِالْغُدُوِّ وَالأَصَالِ } بالبُكَر والعشيات ، أو الغدو : آخر الفجر صلاة الصبح ، والآصال : آخر العشي صلاة العصر .
(2/201)

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
{ عِبَادَتِهِ } الصلاة والخضوع فيها ، أو امتثال الأوامر اجتناب النواهي ، قاله الجمهور { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } نزلت لما قالوا أنسجد لما تأمرنا ، إذا كانت الملائكة مع شرفها تسجد فأنتم أولى .
(2/202)

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
{ الأَنفَالِ } الغنائم ، أو [ أنفال ] السرايا التي تتقدم أمير الجيش ، أو ما شذْ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال من عبد أو دابة ، أو خمس الفيء والغنائم الذي لأهل الخمس ، أو الزيادة يزيدها الإمام لبعض الجيش لما يراه من الصلاح ، والنفل : العطية ، والنوفل : الكثير العطايا ، أو النفل : الزيادة من الخير ومنه صلاة النافلة ، سألوا عن الأنفال لجهلهم بِحِلها لأنها كانت حراماً على الأمم فنزلت ، أو نزلت فيمن شهد بدراً من المهاجرين والأنصار [ واختلفوا ] وكانوا أثلاثاً فملكها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها كما أراه ، أو لما قتل سعد بن أبي وقاص سعيد بن أبي العاص يوم بدر وأخذ سيفه وقال للرسول صلى الله عليه وسلم : هبه لي ، فقال : " اطرحه في القبض " فشقّ عليه فنزلت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " أذهب فخذ سيفك " أو قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر " مَن صنع كذا فله كذا وكذا " فسارع الشبان وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما فُتح عليهم طلبوا ما جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم ، فنزلت ، وهي محكمة ، أو منسوخة بقوله تعالى { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } [ الأنفال : 41 ] { الأَنفَالُ لِلَّهِ } مع الدنيا والآخرة ، وللرسول صلى الله عليه وسلم يضعها حيث أُمر . { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ } برد أهل القوة على أهل الضعف ، أو بالتسليم لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليحكما في الغنيمة بما شاءا .
(2/203)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
{ وَجِلَتْ } خافت ، أو رقت . { إِيمَاناً } تصديقاً ، أو خشية .
(2/204)

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
{ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } بمكة إلى المدينة مع كراهية فريق من المؤمنين ، كذلك ينجز نصرك ، أو من بيتك بالمدينة إلى بدر كذلك جعل لك غنيمة بدر . { بِالْحَقِّ } ومعك الحق ، أو بالحق الذي وجب عليك . { لَكَارِهُونَ } خروجك ، أو صرف الغنيمة عنهم ، لأنهم لم يعلموا أن الله تعالى جعله لرسوله صلى الله عليه وسلم دونهم .
(2/205)

يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
{ يُجَادِلُونَكَ } بعض المؤمنين خرجوا لطلب العير ففاتهم فأمروا بالقتال فقالوا : ما تأهَّبنا للقاء العدو ، فجادلوا بذلك طلباً للرخصة ، أو المجادل المشركون قاله ابن زيد . { فِى الْحَقِّ } القتال يوم بدر .
(2/206)

وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
{ إِحْدَى الطَّآئِفَتَيْنِ } عِير أبي سفيان أو قريش الذين خرجوا لمنعها . { الشَّوْكَةِ } كنى بها عن الحرب ، وهي الشدة لما في الحرب من الشدة ، أو الشوكة من قولهم : رجل شاكٍ في السلاح . { يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } يظهر الحق بإعزاز الدين بما تقدّم من وعده ، أو يحق الحق في أمره بالجهاد ، نزلت هذه الآية قبل قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ } [ الأنفال : 5 ] قاله الحسن رضي الله تعالى عنه " فقيل للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فقال : العباس وهو أسير ليس لك ذلك ، قال : لمَ؟ قال : لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك " .
(2/207)

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
{ تَسْتَغِيثُونَ } تستنصرون ، أو تستجيرون ، فالمستجير : طالب الخلاص ، والمستنصر : طالب الظفر ، والمستغيث : المسلوب القدرة ، والمستعين : الضعيف القدرة . { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أغاثكم ، الاستجابة ما تقدمها امتناع ، والإجابة ما لم يتقدمها امتناع وكلاهما بعد السؤال . { مُرْدِفِينَ } مع كل ملك ملك فهم ألفان ، أو متتابعين ، أو ممدين للمسلمين ، والإرداف : الإمداد .
(2/208)

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
{ إِلاِّ بُشْرَى } الإمداد هو البشرى ، أو بشَّرتهم الملائكة بالنصر فكانت هي البشرى المذكورة ، وقاتلوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو نزلوا بالبشرى ولم يقاتلوا ، { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ } لا من الملائكة .
(2/209)

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
{ النُّعَاسَ } غشيهم النعاس ببدر فهوَّم الرسول صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فناموا ، فبشَّر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر ، فأخبر به أبا بكر رضي الله تعالى عنه مَنَّ عليهم به لما فيه زوال رعبهم ، والأمن مُنيم والخوف مُسهر ، أو منَّ به لما فيه من الاستراحة للقتال من الغد . والنعاس محل الرأس مع حياة القلب ، والنوم يحل القلب بعد نزوله من الرأس ، قاله سهل بن عبدالله التُّسْتَري . { أَمَنَةً } من العدو ، أو من الله تعالى ، والأمنة : الدعة وسكون النفس . { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً } لتلبيد الرمل ويطهرهم من وساوس الشيطان التي أرعبهم بها ، أو من الأحداث والأنجاس التي أصابتهم ، قاله الجمهور ، أنزل ماء طهر به ظواهرهم ، ورحمة نَوَّر بها سرائرهم ، قاله ابن عطاء ، ووصفه بالتطهير ، لأنها أخص أوصافه وألزمها . { رِجْزَ الشَّيْطَانِ } [ قوله ] : إن المشركين قد غلبوهم على الماء ، أو قوله : ليس لكم بهؤلاء طاقة . { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ } لتلبيده الرمل الذي لا يثبت عليه قدم ، أو بالنصر الذي أفرغه عليهم حتى يثبتوا لعدوهم .
(2/210)

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
{ إِنِّى مَعَكُمْ } معينكم . { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بحضوركم الحرب ، أو بقتالكم يوم بدر ، أو بقولكم لا بأس عليكم من عدوكم . { سَأُلْقَى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } قال ذلك للملائكة إعانة لهم ، أو ليثبتوا به المؤمنين . { فَوْقَ الأَعْنَاقِ } فوق صلة ، أو الرؤوس التي فوق الأعناق أو على الأعناق ، أو أعلى الأعناق ، أو جلدة الأعناق . { بَنَانٍ } مفاصل أطراف الأيدي والأرجل ، والبنان أطراف أصابع اليدين والرجلين .
(2/211)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
{ زَحْفاً } الدنو قليلاً قليلاً . { فَلا تُوَلُّوهُمُ } ولا تنهزموا ، عام في كل مسلم لاقى العدو ، أو خاص بأهل بدر ، ولزمهم في أول الإسلام أن لا ينهزم المسلم عن عشرة بقوله تعالى { لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال : 65 ] ما فرض الله تعالى عليهم من الإسلام ، أو لا يعلمون ما فرض عليهم من القتال ، فلما كثروا واشتدت شوكتهم نسخ ذلك بقوله تعالى : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ [ وعلم أن فيكم ] ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] و { ضَعْفاً } واحد ، أو بالفتح في الأموال وبالضم في الأحوال ، أو بالضم في النيات وبالفتح في الأبدان ، أو بالعكس فيهما . { مَعَ الصَّابِرينَ } على القتال بإعانتهم على أعدائهم أو الصابرين على الطاعة بإجزال ثوابهم .
(2/212)

وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
{ بَآءَ بِغَضَبٍ } بالمكان الذي استحق به الغضب ، من المبوَّأ وهو المكان .
(2/213)

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
{ وَمَا رَمَيْتَ } أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب يوم بدر فرماهم بها ، وقال شاهت الوجوه ، فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم فشغلوا بأنفسهم وأظهر الله تعالى المسلمين عليهم فذلك قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ } ، أو ما ظفرت إذ رميت ولكن الله تعالى أظفرت إذ رميت ولكن الله تعالى أضفرك ، أو { وَمَا رَمَيْتَ } قلوبهم بالرعب إذ رميت وجوههم بالتراب ولكن الله تعالى ملأ قلوبهم رعباً ، أو وما رمى أصحابك السهام ولكن الله رمى بإعانة الريح لسهامهم حتى تسددت وأصابت أضاف رميهم إليه لأنهم رموا عنه . { بَلآءً حَسَناً } الإنعام بالظفر والغنيمة .
(2/214)

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
{ إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أيها المشركون تستقضوا { فَقَدْ جَآءَكُمُ } قضاؤنا بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم . أو الفتح : النصر ، فقد جاء نصر الرسول صلى الله عليه وسلم عليكم ، قالوا يوم بدر : اللهم أقطعنا للرحم وأظلمنا لصاحبه فانصر عليه فنصر المسلمون . { وَإِن تَعُودُوا } إلى الاستفتاح { نَعُدْ } إلى نصر الرسول صلى الله عليه وسلم أو إن تعودوا إلى التكذيب نعد إلى مثل هذا التصديق . أو إن تستفتحوا أيها المسلمون فقد جاءكم النصر لأنهم استنصروا فنصروا . { وَإِن تَنتَهُواْ } عما فعلتموه في الأسرى والغنيمة ، { وَإِن تَعُودُواْ } إلى الطمع { نَعُدْ } إلى المؤاخذة ، أو إن تعودوا إلى ما كان منكم في الأسرى والغنيمة نعمد إلى الأنكار عليكم .
(2/215)

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
{ شَرَّ الدَّوَآبِّ } نزلت في بني عبدالدار . { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } الحجج والمواعظ سماع تفهيم ، أو لأسمعهم كلام الذي طلبوا إحياءه من قصي بن كلاب وغيره يشهدون بنبوتك ، أو لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه .
(2/216)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
{ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ } بطاعته لما كانت في مقابلة الدعاء سماها إجابة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الإيمان ، أو الحق . أو ما في القرآن ، أو الحرب وجهاد العدو ، أو ما فيه دوام حياة الآخرة ، أو كل مأمور { يَحُولُ بَيْنَ } الكافر والإيمان وبين المؤمن والكفر ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو بين المرء وعقله فلا يدري ما يعمل ، أو بين المرء وقبله أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه ، أو هو قريب من قلبه يحول بينه وبين أن يخفي عليه سره أو جهره . فهو { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] وهذا تحذير شديد قاله قتادة ، أو يفرق بينه وبين قلبه بالموت فلا يقدر على استدراك فائت ، أو بينه وبين ما يتمنى بقلبه من البقاء وطول العمر والظفر والنصر ، أو بينه وبين ما في قلبه من رعب وخوف وقوة وأمن ، فيأمن المؤمن بعد خوفه ويخاف الكافر بعد أمنه .
(2/217)

وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
{ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً } أُمروا أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ، قاله " ع " ، أو الفتنة : ما يبتلى به الإنسان ، أو الأموال والأولاد ، أو نزلت في النكاح بلا ولي ، قاله بشر بن الحارث { لاَّ تُصِيبَنَّ } الفتنة ، أو عقابها ، أو دعاء للمؤمن ألا تصيبه فتنة قاله الأخفش .
(2/218)

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
{ قَلِيلٌ } بمكة تستضعفكم قريش ، ذّكَّرهم نعمه ، أو أخبرهم بصدق وعده . { يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } كفار قريش ، أو فارس والروم . { فَآوَاكُمْ } إلى المدينة ، أو جعل لكم مأوى تسكنونه آمنين { وَأَيَّدَكُم } قوَّاكم بنصره يوم بدر . { الطَّيِّبَاتِ } الحلال من الغنائم ، أو ما مكنوا فيه من الخيرات ، قيل نزلت في المهاجرين خاصة بعد بدر .
(2/219)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
{ لا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } كما صنع المنافقون ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو لا تخونوا فيما جعله لعباده في أموالكم . { أَمَانَاتِكُمْ } ما أخذتموه من الغنيمة أن تحضروه إلى المغنم ، أو ما ائتمنكم الله عليه من الفرائض والأحكام [ أن ] تؤدوها بحقها ، ولا تخونوا بتركها ، أو عام في كل أمانه { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنها أمانة بغير شبهة ، أو ما في الخيانة من المأثم . قيل نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر لما أُرسل بني قريظة لينزلوا على حكم سعد فاستشاروه ، وكان أحرز أمواله وأولاده عندهم ، فأشار بأن لا يفعلوا ، وأومأ بيده إلى حلقه إنه الذبح فنزلت إلى قوله : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 28 ] .
(2/220)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
{ فُرْقَاناً } هداية في القلوب تفرِّقون بها بين الحق والباطل ، أو مخرجاً من الدنيا والآخرة ، أو نجاة ، أو فتحاً ونصراً .
(2/221)

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } لما تآمرت قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم في دار الندوة ، فقال عمرو بن هشام : قيِّدوه واحبسوه في بيت نتربَّص به رَيْب المنون ، وقال أبو البختري : أخرجوه عنكم على بعير مطروداً تستريحون من أذاه ، فقال أبو جهل : ما هذا برأي ، ولكن لجتمع عليه من كل قبيلة رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد فيرضى حينئذ بنو هاشم بالدية ، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج إلى الغار ثم هاجر منه إلى المدينة . { لِيُثْبِتُوكَ } في الوثاق " ع " أو في الحبس ، أو يجرحوك ، أثبته في الحرب : جرحه . { أَوْ يُخْرِجُوكَ } نفياً إلى طرف من الأطراف ، أو على بعير مطروداً حتى تهلك ، أو يأخذك بعض العرب فيريحهم منك .
(2/222)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
{ لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا } نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة ، ونزلت فيه { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا } [ الأنفال : 32 ] { سَأَلَ سَآئِلٌ } [ المعارج : 1 ] و { رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] قال عطاء : نزلت فيه بضع عشرة آية .
(2/223)

وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا } قاله عناداً وبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم أو اعتقاداً أنه ليس بحق .
(2/224)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ } وقد بقي فيهم من المسلمين من يستغفر ، أو لا يعذبهم في الدنيا وهم يقولون غفرانك في طوافهم ، أو الاستغفار : الإسلام ، أو هو دعاء إلى الاستغفار معناه لو استغفروا لم يُعذَّبوا ، أو ما كان الله مهلكهم وقد علم أن لهم ذرية يؤمنون ويستغفرون .
(2/225)

وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{ مُكَآءً } إدخال أصابعهم في أفواههم ، أو أن يشبك بين أصابعه ويُصفِّر في كفه بفمه ، والمكاء الصفير ، قاله :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
{ وَتَصْدِيَةً } التصفيق ، أو الصد عن البيت الحرام ، أو تصدى بعضهم لبعض ليفعل مثل فعله ويُصفِّر له إن غفل عنه ، أو من صد يصد إذا ضج ، أو الصدى الذي يجيب الصائح فيرد عليه مثل قوله ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبدالدار عن يمينه يصفران صفير المكاء وهو طائر ورَجُلان عن يساره يصفقان بأيديهما ليخلطوا على الرسول صلى الله عليه وسلم القراءة والصلاة ، فنزلت ، وسماها صلاة لأنهم أقاموها مقام الدعاء والتسبيح ، أو كانوا يعملون كعمل الصلاة . { فَذُوقُواْ } فالقوا ، أو فجربوا عذاب السيف ببدر ، أو يقال لهم ذلك في عذاب الآخرة .
(2/226)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
{ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } نفقة قريش في القتال ببدر ، أو استأجر أبو سفيان يوم أُحُد ألفين من الأحابيش من كنانة .
(2/227)

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
{ الْخَبِيثَ } الحرام ، والطيب : الحلال ، أو الخبيث : ما لم تُخرج منه حقول الله تعالى والطيب : ما أُخرجت منه حقوقه . { بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ } يجمعه في الآخرة وإن تفرقا في الدنيا . { فَيَرْكُمَهُ } يجعل بعضه فوق بعض . { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } يعذبون به { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 35 ] أو يجعلها معهم في النار ذلاًّ وهواناً كما كانت في الدنيا نعيماً وعزّاً .
(2/228)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
{ وَإِن يَعُودُواْ } إلى الحرب { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ } قتلى بدر وأسرارهم ، أو إن يعودوا إلى الكفر فقد مضت سنة الله تعالى بإهلاك الكفرة ، ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت لما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح فقال : ما في ظنكم وما ترون أني صانع بكم ، فقالوا : ابن عم كريم فإن تعفُ فذاك الظن بك ، وإن تنتقم فقد أسأنا ، فقال : بل أقول كما قال يوسف لإخوته : { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } [ يوسف : 92 ] فنزلت ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " اللهم كما أذقت أول قريش نكالاً فأذق أخرهم نوالاً " .
(2/229)

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{ غَنِمْتُم } ذكر الغنيمة هاهنا والفيء في الحشر وهما واحد ، ونسخت آية الحشر بهذه ، أو الغنيمة ما أُخذ عَنوة ، والفيء ما أُخذ صلحاً ، أو الغنيمة ما ظهر عليه المسلمون من الأموال ، والفيء ما ظُهِر عليه من الأرضي . { لِلَّهِ خُمُسَهُ } افتتاح كلام ، وله الدنيا والآخرة ، المعنى للرسول خمسه أو الخمس لله ورسوله يصرف سهم الله في بيته ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب فيه بيده فيأخذ منه الذي قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله . { وَلِلرَّسُولِ } افتتاح كلام أيضاً ولا شيء له من ذلك فيقسم الخمس على أربعة " ع " ، أو للرسول الخمس عند الجمهور ، ويكون سهمه للخليفة بعده ، أو يورث عنه ، أو يرد على السهام الباقية فيقسم الخمس على أربعة ، أو يصرف إلى الكراع والسلاح فعله أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما ، أو إلى المصالح العامة . { وَلِذِى الْقُرْبَى } بنو هاشم ، أو قريش ، أو بنو هاشم وبنو المطلب ، وهو باقٍ لهم أبداً ، أو لقرابة الخليفة القائم بأمور الأمة ، أو للإمام وضعه حيث شاء ، أو يرد سهمهم وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم على باقي السهام فتكون ثلاثة . { وَالْيَتَامَى } من مات أبوه من الأطفال بخلاف البهائم فإنه من ماتت أمه ، ويشترط الإسلام والحاجة ، ويختص بأيتام أهل الفيء أو يعم { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر المسلم المحتاج من أهل الفيء ، أو يعم . { الْفُرْقَانِ } يوم بدر فرق فيه بين الحق والباطل .
(2/230)

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
{ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا } شفير الوادي الأدنى إلى المدينة .
{ الْقُصْوَى } الأقصى منها إلى مكة . { وَالرَّكْبُ } عير أبي سفيان أسفل الوادي على شط البحر بثلاثة أميال { وَلَوْ تَوَاعَدتُمْ } ثم بلغكم كثرتهم لتأخرتم ونقضتم الميعاد ، [ أ ] و لو تواعدتم من غير معونة من الله تعالى لاختلفتم في الميعاد بالقواطع والعوائق ، أو لو تواعدتم أن تتفقوا مجتمعين لاختلفتم بالتقدم والتأخر والزيادة والنقصان من غير قصد لذلك . { لِّيَهْلِكَ } ليقتل منهم ببدر من قتل عن حجة ، وليبقى منهم من بقي عن قدره ، أو ليكفر من قريش بعد الحجة من كفر ببيان ما وعدوا ، ويؤمن من آمن بعد العلم بصحة إيمانهم .
(2/231)

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
{ فِى مَنَامِكَ } موضع النوم وهي العين فرأى قلتهم عياناً ، أو ألقى عليه النوم فرأى قتلهم في نومه ، قاله الجمهور : وكان ذلك لطفاً بهم . { لَّفَشِلْتُمْ } لجبنتم وانهزمتم ، أو لاختلفتم في لقائهم ، أو الكف عنهم .
(2/232)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{ فَتَفْشَلُواْ } هو التقاعد عن القتال جبناً ، { رِيحُكُمْ } قوتكم ، أو دولتكم ، أو الريح المرسلة لنصر أولياء الله وخذلان أعدائه ، قاله قتادة .
(2/233)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
{ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ } قريش لحماية العير فنجا بها أبو سفيان ، فقال أبو جهل : لا نرجع حتى نردَ بدراً وننحر جزوراً ونشرب خمراً وتعزف علينا القينات فكان من أمرهم ما كان .
(2/234)

وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
{ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ } ظهر لهم في صورة سراقة بن جعشم من بني كنانة . { نَكَصَ } هرب ذليلاً خازياً . { مَا لا تَرَوْنَ } من إمداد الملائكة .
(2/235)

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
{ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } المشركون ، أو قوم تكلموا بالإسلام وهم بمكة ، أو قوم مرتابون لم يظهروا عداوة النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف المنافقين ، والمرض في القلب : هو الشك .
(2/236)

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
{ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ } عند قبض أرواحهم . { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } يوم القيامة ، أو القتل ببدر .
(2/237)

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{ تَثْقَفَنَّهُمْ } تصادفهم ، أو تظفر بهم . { فَشَرِّدْ } أنذر ، أو نَكِّل ، أو بَدِّد .
(2/238)

وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
{ خِيَانَةً } في نقض العهد . { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ } ألقِ إليهم عهدهم كي لا ينسبوك إلى الغدر بهم ، والنبذ : الإلقاء . { عَلَى سَوَآءٍ } مهل ، أو مجاهرة بما تفعل بهم ، أو على استواء في العلم به حتى لا يسبقوك إلى فعل ما يردونه بك ، أو عدل من غير تحيف ، أو وسط . قيل : نزلت في بني قريظة .
(2/239)

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
{ قُوَّةٍ } السلاح ، أو التظافر واتفاق الكلمة ، أو الثقة بالله تعالى والرغبة إليه ، أو الرمي مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو ذكور الخيل . { رِّبَاطِ الْخَيْلِ } إناثها ، أو رباطها : الذكور والإناث عند الجمهور { عَدُوَّ اللَّهِ } بالكفر { وَعَدُوَّكُمْ } بالمباينة ، أو عدو الله : هو عدوكم ، لأن عدو الله تعالى عدو لأوليائه . { لا تَعْلَمُونَهُمُ } بنو قريظة ، أو المنافقون ، أو أهل فارس ، أو الشياطين ، أو من لا تعرفون عداوته على العموم .
(2/240)

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
{ لِلسَّلْمِ } المواعدة ، أو إن تَوقفوا عن الحرب مسالمة فتوقف عنها مسالمة ، أو إن أظهروا الإسلام فاقبله وإن لم تعلم بواطنهم ، عامة في كل من سأل الموادعة ثم نسختها آية السيف أو خاصة بالكتابيين يبذلون الجزية ، أو في مُعيَّنين سألوا الموادعة فَأُمر بإجابتهم .
(2/241)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
{ حَسْبُكَ اللَّهُ } أن تتوكل عليه ، والمؤمنون : أن تقاتل بهم ، أو حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين الله ، قيل : نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال .
(2/242)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
{ عِشْرُونَ } أُمروا يوم بدر أن لا يفر أحدهم عن عشرة فشقَّ عليهم فنسخ بقوله تعالى { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] ، أو وُعدوا أن يُنْصر كل رجل على عشرة .
(2/243)

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
{ مَا كَانَ لِنَبِىٍّ } أن يفادي ، نزلت لما استقر رأي الرسول صلى الله عليه وسلم بعد مشاورة أصحابه على أخذ الفداء بالمال عن كل أسير من أسرى بدر أربعة آلاف درهم ، فنزلت إنكاراً لما فعلوه . { يُثْخِنَ } بالغلبة والاستيلاء ، أو بكثرة القتل لِيُعَزَّ به المسلمون ويُذَلَّ الكفرة . { عَرَضَ الدُّنْيَا } سماه بذلك لقلة بقائه . { يُرِيدُ الأَخِرَةَ } العمل بما يوجب ثوابها .
(2/244)

لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
{ أَخَذْتُمْ } من الفداء ، { لَّوْلا كِتَابٌ } سبق لأهل بدر أن لا يعذبوا لمسهم في أخذ الفداء عذاب عظيم ، أو سبق في إحلال الغنائم لمسهم في تعجلها من أهل بدر عذاب عظيم ، أو سبق بأن لا يعذب من أتى عملاً على جهالة ، أو الكتاب القرآن المقتضي لغفران الصغائر ، ولما شاور الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال : قومك وعشيرتك فاستبقتم لعل الله تعالى أن يهديهم ، وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أعداء الله تعالى ورسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم ، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وأخذ الفداء ليقوى به المسلمون ، وقال : أنتم عالة يعني للمهاجرين فلما نزلت هذه الآية قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه : " لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر لما نجا غيرك " ثم ، أحل الغنائم ، بقوله تعالى { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } [ الأنفال : 69 ] .
(2/245)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
{ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّآ أُخِذّ مِنكُمْ } لما أُسر العباس يوم بدر أخذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فداء نفسه وابني أخيه عقيل ونوفل ، قال : يا رسول الله كنت مسلماً وأخرجت مكرهاً ولقد تركتني فقيراً أتكفف الناس ، فقال : " فأين الأواقي التي دفعتها سراً لأم الفضل عند خروجك؟ " فقال : إن الله تعالى ليزيدنا ثقة بنبوتك ، قال العباس : فصدق الله تعالى وعده فيما أتاني ، وإن لي لعشرين مملوكاً يضرب كل مملوك منهم بعشرين ألفاً في التجارة ، فقد أعطاني الله تعالى خيراً مم أخذ من يوم بدر .
(2/246)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
{ ءَامَنُواْ } بالله { وَهَاجَرُواْ } من ديارهم في طاعته { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ } بإنفاقيها { وَأَنفُسِهِمْ } بالقتال ، أراد المهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة { وَالَّذِينَ ءَاوَواْ } المهاجرين في منازلهم { وَّنَصَرُوَاْ } النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ، يريد الأنصار . { أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أعوان بعض عند الجمهور [ أو ] أولى بميراث بعض ، جعل الله تعالى الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام . { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ } من ميراثهم من شيء { حَتَّى يُهَاجِرُواْ } . فعملوا بذلك حتى نسخت بقوله تعالى { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } [ الأنفال : 75 ] يعني في الميراث ، فصار الميراث لذوي الأرحام .
(2/247)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ } أنصار بعض ، أو بعضهم وارث بعض " ع " { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ } إلا تتناصروا أيها المؤمنون { تَكُن فِتْنَةٌ فِى الأَرْضِ } بغلبة الكفرة { وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } بضعف الإيمان ، أو إلا تتوارثوا بالإسلام والهجرة { تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ } باختلاف الكلمة { وَفسَادٌ كَبِيرٌ } بتقوية الخارج عن الجماعة " ع " .
(2/248)

بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } انقطاع للعصمة منهما ، أو انقضاء عهدهما .
(2/249)

فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
{ فَسِيحُواْ } أمان { فِى الأَرْضِ } تصرفوا كيف شئتم ، أو سافروا حيث أردتم ، والسياحة : السير على مَهل ، أو البعد على وَجل . { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أمان لمن له عهد مطلق ، أو أقل من الأربعة ، ومن لا أمان له فهو حرب ، أو من كان له عهد أكثر من الأربعة حُط إليها ، ومن كان دونها رفع إليها ومن لا عهد له فله أمان خمسين ليلة من يوم النحر إلى سلخ المُحرم لقوله تعالى { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } " ع " ، أو الأربعة لجميع الكفار من كان له عهد ، أو لم يكن ، أو هي أمان لمن لا عهد له ، ومن له عهد فأمانه إلى مدة عهده . وأول المدة يوم الحج الأكبر يوم النحر إلى انقضاء العاشر من ربيع الآخر ، او شوال وذو القعدة وذو الحجة و المحرم ، أو أولها يوم العشرين من ذي القعدة وآخرها يوم العشرين من ربيع الأول لأن الحج وقع تلك السنة في ذلك اليوم من ذي القعدة لأجل النسيء كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقره حتى نزل تحريم النسيء ، فقال : " ألا إن الزمان قد استدار " .
(2/250)

وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
{ وَأَذَانٌ } قصص ، أو نداء بالأمن يسمع بالأذن ، أو إعلام عند الكافة . { يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ } يوم عرفة خطب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : " هذا يوم الحج الأكبر " ، أو النحر ، وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أيام الحج كلها كيوم صفين ويوم الجمل عبَّر باليوم عن الأيام . { الأَكْبَرِ } القِرآن والأصغر الإفراد ، أو الأكبر الحج والأصغر العمرة ، أو سمي به لأنه اجتمع فيه حج المسلمين والمشركين ووافق عيد اليهود والنصارى ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه .
(2/251)

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ } رجب وذو القعده وذو الحجة والمحرم عند الجمهور ، أو أشهر السياحة عشرون من ذي الحجة إلى العشر من ربيع الآخر ، قاله الحسن رضي الله عنه { وَجَدتُّمُوهُمْ } في حل أو حرم ، أو في أشهر الحرم وغيرها . { وَخُذُوهُمْ } الواو بمعنى " أو " خذوهم أو تقديره : " فخذوا المشركين حيث وجدتموهم واقتلوهم " مقدم ومؤخر . { وَاحْصُرُوهُمْ } بالاسترقاق ، أو بالفداء . { كُلَّ مَرْصَدٍ } اطلبوهم في كل مكان ، فالقتل إذا وجدوا والطلب إذا بعدوا ، أو افعلوا بهم كل ما أرصده الله لهم من قتل أو استرقاق أو مَنٍّ ، أو فداء . { تَابُواْ } أسلموا { وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ } أدّوها ، أو اعترفوا بها { وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ } اعترفوا بها لا غير إذ لا يُقتل تاركها لا بل تُؤخذ منه قهراً .
(2/252)

وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{ اسْتَجَارَكَ } استعانك ، أو استأمنك . { كَلامَ اللَّهِ } القرآن كله ، أو براءة خاصة ليعرف ما فيها من أحكام العهد والسيرة مع الكفار .
(2/253)

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ } خزاعة ، أو بنو ضمرة ، أو قريش " ع " ، أو قوم من بكر بن كنانة . { فَمَا اسْتَقَامُواْ } دُوموا على عهدهم ما داموا عليه .
(2/254)

كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
{ يَظْهَرُواْ } يقووا عليكم بالظفر . { لا يَرْقُبُواْ } لا يخافوا ، أو لا يراعوا { إِلاَّ } عهداً ، أو قرابة ، قال :
فأقسم إنَّ إلَّكَ من قريش .
أو جواراً ، أو يميناً ، أو هم اسم لله عز وجل . { ذِمَّةً } عهداً ، أو جواراً ، أو التذمم ممن لا عهد له . { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } بنقض العهد ، أو فاسق في دينه وإن كان دينهم فسقاً .
(2/255)

اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
{ بِآيَاتِ اللَّهِ } دلائله وحججه ، أو التوراة التي فيها صفة الرسول صلى الله عليه وسلم { قَلِيلاً } ، لأنه حرام ، أو لأنه من عرض الدنيا وبقاؤها قليل نزلت في الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه ، أو في قوم اليهود عاهدوا ثم نقضوا .
(2/256)

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
{ نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم } نفضوا العهد الذي عقدوه بأيمانهم . { أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رؤساء المشركين ، أو زعماء قريش " ع " ، أو الذين هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم . { لآ أَيْمَانَ لَهُمْ } بارة و { لا إيمان } من الأمان ، أو التصديق .
(2/257)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
{ وَلِيجَةً } خيانة ، أو بطانة ، أو دخولاً في ولاية المشركين ، ولج في كذا : دخل فيه .
(2/258)

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
{ يعمروا مساجد الله } بالزيارة والدخول إليه ، أو بالكفر ، لأ ، المسجد إنما يعمر بالإيمان . { شَاهِدِينَ } لما دلت أموالهم وأفعالهم على كفرهم تنزل ذلك منزلة شهادتهم على أنفسهم ، أو شهدوا على رسولهم بالكفر لأنهم كذبوه وكفروه وهو من أنفسهم ، أو إذا سُئل اليهودي ما أنت يقول : يهودي ، وكذلك النصارى [ و ] المشركون وكلهم كفرة وإن لم يقروا بالكفر .
(2/259)

إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
{ مَسَاجِدَ اللَّهِ } مواضع السجود من المصلي ، أو البيوت المتخذة للصلوات . { فَعَسَى أُوْلَئِكَ } كل عسى من الله واجبة " ع " ، أو ذكره ليكونوا على خوف ورجاء .
(2/260)

أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
{ سِقَايَةَ الْحَآجَّ وَعِمَارَةَ الْمسجِدِ } بسدانته والقيام به ، لما فضلت قريش ذلك على الإيمان بالله تعالى نزلت ، أو نزلت في العباس صاحب السقاية ، وشيبة بن عثمان صاحب السدانة ، وحاجب الكعبة ، لما أُسرا ببدر عيرهما المهاجرون بالكفر والإقامة بمكة فقالا نحن أفضل أجراً منكم بعمارة المسجد وحجب الكعبة وسقي الحاج .
(2/261)

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
{ قُلْ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمْ } نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا ميلاً إلى ما ذكر في هذه الآية . { اقْتَرَفْتُمُوهَا } اكتسبتموها . { وَتِجَارَةٌ } أموال التجارة تكسد سوقها وينقص سعرها ، أو البنات الأيامى يكسدن على أبائهن فلا يخطبن . { بِأَمْرِهِ } بعقوبة عاجلة أو آجلة ، أو بفتح مكة .
(2/262)

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{ سَكِينَتَهُ } الوقار ، أو الطمأنينة ، أو الرحمة . { جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } الملائكة ، أو بتكثيرهم في أعين أعدائهم ، وهو محتمل { وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } بالخوف ، أو بالقتل والسبي .
(2/263)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
{ نَجَسٌ } نجاسة الأبدان كالكلب والخنزير ، قاله عمر بن عبدالعزيز والحسن رضي الله تعالى عنهما وأوجب الوضوء على من صافحهم ، أو لأنهم لا يغتسلون من الجنابة فصاروا كالأنجاس ، أو عبّر عن اجتنابنا لهم ومنعهم من المساجد بالنجس كما يفعل ذلك بالأنجاس ، أو نجاستهم خبث ظواهرهم بالكفر وبواطنهم بالعدواة . { الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } الحرم كله . { عَامِهِمْ هَذَا } سنة تسع ، أو سنة عشر ، ويمنع منه الحربي والذمي عند الجمهور ، أو يمنعون إلا الذمي والعبد المملوك لمسلم . { عَيْلَةً } فقراً وفاقة ، أو ضيعة من يقوته من عياله . { يُغْنِيكُمُ اللَّهُ } تعالى بالمطر في النبات ، أو بالجزية المأخوذة منهم ، أو عام في كل ما يغني .
(2/264)

قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
{ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } دخل فيه أهل الكتاب وإن آمنوا باليوم الآخر إذ لا يعتد بإمانهم فصار كالمعدوم ، أو ذمهم ذم من لا يؤمن به ، { وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } بنسخه من شرائعهم ، أو ما حرمه وأحله لهم . { دِينَ الْحَقِّ } الإسلام عند الجمهور ، أو العمل بما في التوراة من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والحق هنا هو الله { مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ } من أبناء الذين أوتوا ، أو الذي أوتوه بين أظهرهم . { يُعْطُواْ الْجِزْيَةً } يضمنوها ، أو يدفعوها ، والجزية مجملة ، أو عامة تجري على العموم إلا ما خصه الدليل . { عَن يَدٍ } غنى وقدرة ، أو لا يقابلها جزاء ، أو لنا عليهم يد نأخذها لما فيه من حقن دمائهم ، أو يؤدونها بأيديهم دون رسلهم كما يفعل المتكبرون { صَاغِرُونَ } قياماً وآخذها جالس ، أو يمشوا بها كارهين " ع " أو أذلاء مقهورين ، أو دفعها هو الصغار ، أو إجراء أحكام الإسلام عليهم .
(2/265)

وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } لمّا حرق بختنصر التوارة ولم يبق بأيديهم شيء منها ولم يكونوا يحفظونها ساءهم ذلك وسألوا الله ردها فقذفها في قلب عُزير فقرأها عليهم فعرفوا ، فلذلك قالوا : إنه ابن الله . وكان ذلك قول جميعهم " ع " ، أو قول طائفة من سلفهم ، أو من معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم ، فنحاص وحده ، أو جماعة سلام بن مشكم ، ونعمان بن أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصيف " ع " ، وأضيف إلى جميعهم لمَّا لم ينكروه . { وَقَالَتِ النَّصَارَى } بأجمعهم { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } لأنه ولد من غير أب ، أو لأنه أحيا الموتى ، وأبرأ من الأسقام . { بِأَفْوَاهِهِمْ } لما لم يكن عليه دليل قيده بأفواهم لا يتجاوزها { يُضَاهِئُونَ } يشابهون ، والتي لم تحض " ضهياء " لشبهها بالرجل . يضاهون بقولهم عبدة الأوثان وفي اللات والعزى ومناة وأن الملائكة بنات الله ، أو ضاهت النصارى بقولهم المسيح ابن الله قول اليهود عُزير ابن الله ، أو ضاهوا في تقليد أسلافهم من تقدمهم . { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } لعنهم " ع " ، أو قتلهم ، أو هو كالمقاتل لهم بما أعده من عذابهم وأبانه من عداوتهم . { يُؤْفَكُونَ } يصرفون عن الحق إلى الإفك وهو الكذب .
(2/266)

اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
{ أَحْبَارَهُمْ } جمع حبر ، لتجبيره المعاني ، وهو التحسين بالبيان عنها ، والرهبان : جمع راهب ، من رهبة الله وخشيته ، وكثر استعماله في نُسَّاك النصارى . { أَرْبَاباً } آلهة يطيعونهم فيما حرموه وأحلوه دون العبادة وهو مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
(2/267)

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
{ نُورَ اللَّهِ } القرآن والإسلام ، أو دلائله التي يُهتدى بها كما يُهتدى بالنور .
(2/268)

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{ بِالْهُدَى } الهدى البيان ، { وَدِينِ الْحَقِّ } الإسلام ، أو كلاهما واحد ، أو الهدى الدليل ، ودين الحق المدلول ، أو بالهدى إلى دين الحق . { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } عند نزول عيسى عليه السلام فلا يعبد الله تعالى إلا بالإسلام ، أو يطلعه على شرائع الدين كله ، أو يظهر دلائله وحججه ، أو يرعب المشركين من أهله ، أو لما أسلمت قريش انقطعت رحلتاهم إلى الشام واليمن لتباينهم في الدين فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ } في الشام واليمن وقد أظهره الله تعالى أو الظهور : الاستعلاء ، والإسلام أعلى الأديان كلها .
(2/269)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
{ بِالْبَاطِلِ } جميع الوجوه المحرمة ، أو الرِّشا في الحكم . { يَكْنِزُونَ } الكنز الذي توعد عليه كل ما لم تؤدَّ زكاته مدفوناً أو غير مدفون ، أو ما زاد على أربعة آلاف درهم أُديت زكاته أو لم تؤدَّ ، والأربعة آلاف فما دونها ليست بكنز ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو ما فضل من المال عن الحاجة ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " تباً للذهب والفضة " ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا فأي المال نتخذ ، فقال : " لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً ، وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه " ومات رجل من أهل الصُّفة فوجد في مئزره دينار ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " كَيَّة " ومات آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال " كيَّتان " والكنز في اللغة كل مجموع بعضه إلى بعض ظاهراً كان أو مدفوناً ، ومنه كنز التمر . { وَلا يُنفِقُونَهَا } الكنوز ، أو الفضة اكتفى بذكر أحدهما ، قال :
إن شرخ الشباب والشعر الأسود ... ما لم يُعَاصَ كان جنونا
ولم يقل : يعاصيا .
(2/270)

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{ حُرُمٌ } لعظم انتهاك الحرمات فيها ، { الدِّينُ الْقَيِّمُ } الحساب المستقيم ، أو القضاء الحق . { فَلا تَظْلِمُواْ [ فِيهِنَّ ] أَنفُسَكُمْ } بالمعاصي في الإثني عشر ، أو في الأربعة ، أو فلا تظلموها في الأربعة بعد تحريم الله تعالى لها ، أو لا تظلموها بترك قتل عدوكم فيها .
{ النَّسِىءُ } كانوا يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا المحرم صفراً أو كانوا يؤخرون الحج في كل سنتين شهراً ، قال مجاهد : حج المشركون في ذي الحجة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر ، ثم حج الرسول صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة ، وقال : " إن الزمان قد استدار كهيئته " وكان ينادي بالنسيء في الموسم بنو كنانة قال شاعرهم :
ألسنا الناسئين على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
وأول من نسأ الشهور [ سرير ] بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ، أو القلمس الأكبر ، وهو عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث ، وآخر من نسأها إلى أن نزل تحريمها سنة عشر أبو ثُمامة جُنادة بن عوف ، وكان ينادي إذا نسأها في كل عام إلا إن أبا ثمامة لا يحاب ولا يعاب . { لِّيُوَاطِئُواْ } ليوافقوا عدة الأربعة فيحرموا أربعة كما حرم الله تعالى أربعة . { سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } من تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم ، أو الربا .
(2/271)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
{ انفِرُواْ } لما دعوا لى غزوة تبوك تثاقلوا ، فنزلت . { الأَرْضِ } الإقامة بأوطانكم وأرضكم ، دعوا إلى ذلك في شدة الحر وإدراك الثمار ، أو اطمأنوا إلى الدنيا فسماها [ أرضاً ] { أَرَضِيتُم } بمنافع الدنيا بدلاً من ثواب الآخرة .
(2/272)

إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ عَذَاباً أَلِيماً } احتباس القطر " ع " ، ولا تضروا الله بترك النفير ، أو لا تضروا الرسول ، لأن الله تعالى تكفل بنصره .
(2/273)

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
{ إِلاَّ تَنصُرُوهُ } إن لا تنصروا الرسول بالنفير معه فقد نصره الله بالملائكة ، أو بإرشاده إلى الهجرة حتى أغناه من إعانتكم . { أخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } من مكة أعلمهم أنه غني عن نصرهم ، دخل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه الغاز فأقاما فيه ثلاثاً وجعل الله تعالى على بابه ثمامة وهي شجيرة صغيرة ، وألهمت العنكبوت فنسجت على بابه ، ولما ألم الحزن قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه بما تخيله من وهن الدين بعد الرسل صلى الله عليه وسلم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا تحزن إن الله معنا بالنصر عليهم " { سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أنه منصور ، والسكينة الرحمة ، أو الطمأنينة ، أو الوقار ، أو شيء سَكَّنَ الله تعالى به قلوبهم . { بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الملائكة ، أو الثقة بوعده واليقين بنصره وتأييده بإخفاء أثره في الغار لما طلب ، أو بمنعهم من التعرض له لما هاجر .
(2/274)

انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{ خِفَافاً وثِقَالاً } شباباً وشيوخاً ، أو فقراء وأغنياء ، أو مشاغيل وغير مشاغيل ، أو نشاطاً وغير نشاط " ع " أو ركباناً ومشاة ، أو ذا ضيعة وغير ذي ضعية ، أو ذوي عيال وغير ذوي عيال ، أو أصحاء ومرضى ، أو خفة النفير وثقله ، أو خفافاً إلى الطاعة ثقالاً عن المخالفة . { وَجَاهِدُواْ } الجهاد بالنفس فرض كفاية متعين عند هجوم العدو . وبالمال بالزاد والراحلة إذا قدر بنفسه ، وإن عجز لزمه بذل المال بدلاً عن نفسه ، أو لا يلزمه ذلك عند الجمهور ، لأن المال تابع للنفس . { خَيْرٌ لَّكُمْ } الجهاد خير من القعود المباح ، أو الخير في الجهاد لا في تركه { تَعْلَمُونَ } صدق وعد الله تعالى بثواب الجهاد ، أو أن الخير في الجهاد .
(2/275)

لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
{ لَوْ كَانَ } الذي دُعوا إليه { عَرَضاً } غنيمة ، أو أمراً سهلاً . { قَاصِدًا } سهلاً مقتصداً . { لاَّتَّبَعُوكَ } في الخروج . { الشُّقَّةُ } القطعة من الأرض يشق ركوبها لبعده .
(2/276)

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
{ عُدَّةً } صحة عزم ونشاط نفس ، أو الزاد والراحلة ونفقة الحاضرين من الأهل . { كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ } لوقوع الفشل بتخاذلهم كابن أُبي ، والجد بن قيس . { وَقِيلَ اقْعُدُواْ } قاله بعضهم لبعض ، أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم غضباً عليهم لعلمه بذلك منهم . { الْقَاعِدِينَ } بغير عذر ، أو بعذر كالنساء والصبيان .
(2/277)

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
{ خَبَالاً } فساداً " ع " ، أو اضطراباً استثناء منقطع ، لأن المسلمين لم يكونوا في خبال فيزدادوا منه . { وَلأَوْضَعُواْ } الإيضاع : سرعة السير ، والخِلال : الفُرج ، المعنى ولأسرعوا في اختلالكم ، أو لأوقعوا الخلف بينكم . { الْفِتْنَةَ } الكفر ، أو اختلاف الكلمة وتفريق الجماعة . { سَمَّاعُونَ } مطيعون ، أو عيون منكم ينقلون أخباركم إليهم ، أو " عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين " .
(2/278)

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ } الاختلاف وتفريق الكلمة . { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ } بمعاونتهم ظاهراً وممالأة المشركين باطناً ، أو قالوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، أو توقعوا الدوائر وانتظروا الفرص ، أو حلفهم لو استطعنا لخرجنا . { جَآءَ الْحَقُّ } النصر { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } دينه { وَهُمْ كَارِهُونَ } لهما .
(2/279)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
{ وَلا تَفتِنِّى } لا تكسبني الإثم بمخالفتي في القعود ، أو لا تصرفني عن شغلي ، أو نزلت في الجد بن قيس قال : { ائْذَن لِّى وَلا تَفْتِنِّى } ببنات الأصفر فإني مستهتر بالنساء . { فِي الْفِتْنَةِ } جهنم ، أو محبة النفاق والشقاق .
(2/280)

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
{ حَسَنَةٌ } نصر ، أو النصر ببدر ، والمصيبة : النكبة يوم أُحد { أَمْرَنَا } حِذرنا وسَلمنا { فَرِحُونَ } بمصيبتك وسلامتهم .
(2/281)

قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
{ كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } في اللوح المحفوظ من خير ، أو شر ، وليس ذلك بأفعالنا فنذم أو نحمد ، أو ما كتب لنا في نصرنا في العاقبة وإعزاز الدين بنا . { مَوْلانَا } مالكنا وحافظنا وناصرنا . { وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } في معونته وتدبيره .
(2/282)

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
{ الْحُسْنَيَيْنِ } النصر والشهادة في النصر ظهور الدين وفي الشهادة الجنة .
(2/283)

فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{ أَمْوَالُهُمْ وَلآ أَوْلادُهُمْ } في الحياة الدنيا { إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا } في الآخرة ، فيه تقديم وتأخير " ع " ، أو يعذبهم بالزكاة فيها ، أو بمصائبهم فيهما ، أو بسبي الأبناء وغنيمة الأموال ، يعني المشركين ، أو يعذبهم بجمعها وحفظها والبخل بها والحزن عليها . { وَتَزْهَقَ } تهلك ، { وَزَهَقَ الباطل } [ الأسراء : 81 ] .
(2/284)

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
{ مَلْجَئاً } حرزاً " ع " ، أو حصناً ، أو موضعاً حزناً من الجبل ، أو مهرباً . { مَغَارَاتٍ } غارات في الجبال " ع " ، أو مدخل يستر من دخله . { مُدَّخَلاً } سرباً في الأرض ، أو المدخل الضيق الذي يدخل فيه بشدة . { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } هرباً من القتال ، وخذلاناً للمؤمنين . { يَجْمَحُونَ } يهربون ، أو يسرعون .
(2/285)

وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
{ يَلْمِزُكَ } يغتابك ، أو يعيبك ، نزلت في ثعلبة بن حاطب كان يتكلم بالنفاق ويقول : إنما يعطي محمد من شاء فإن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، أو في ذي الخويصرة لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً فقال : اعدل يا محمد فقال : " ويلك فمن يعدل إن لم أعدل " ، فاستأذن عمر رضي الله تعالى عنه في ضرب عنقه ، فقال : " دعه " فنزلت .
(2/286)

إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ } الفقير المحتاج العفيف عن السؤال ، والمسكين المحتاج السائل " ع " ، أو الفقير المحتاج الزَّمِن ، والمسكين المحتاج الصحيح ، أو الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين غير المهاجرين ، أو الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب ، أو الفقير الذي لاشيء له لانكسار فقاره بالحاجة والمسكين له ما لا يكفيه لكن يسكن إليه ، أو الفقير له ما لا يكفيه والمسكين لا شيء له يسكن إليه . { وَالْعَامِلِينَ } السعاة لهم ثُمْنها ، أو أجر مثلهم . { وَالْمُؤَلَّفَةِ } كفار ومسلمون ، فالمسلمون منهم ضعيف النية في الإسلام فيتألف تقوية لنيته كعيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ، ومنهم من حسن إسلامه لكنه يعطى تألفاً لعشيرته من المشركين كعدي بن حاتم ، والمشركون منهم من يقصد أذى المسلمين فيتألف بالعطاء دفعاً لأذاه كعامر بن الطفيل ، ومنهم من يميل إلى الإسلام فيتألف بالعطاء ليؤمن كصفوان بن أمية ، فهذه أربعة أصناف ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي هؤلاء ، وبعد هل يعطون؟ فيه قولان : لأن الله تعالى قد أعز الدين { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . { الرِّقَابِ } المكاتبون ، أو عبيد يشترون ويعتقون . { وَالْغَارِمِينَ } من لزمه غرم ديْن . { سَبِيلِ اللَّهِ } الغزاة الفقراء والأغنياء . { وَابْنِ السَّبِيلِ } المسافر لا يجد نفقة سفره وإن كان غنياً في بلده ، قاله جمهور ، أو الضيف .
(2/287)

وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
{ أُذُنٌ } يصغي إلى كل أحد فيسمع قوله ، كان المنافقون يقولون فيه ما لا يجوز ثم عابوه بأنه أُذن يسمع جميع ما يقال له ، أو عابوه ، فقال أحدهم : كفوا فإني أخاف أن يبلغه فيعاقبنا ، فقالوا : هو أُذن إذا جئناه وحلفنا له صدقنا فنسبوه إلى قبول العذر في الحق والباطل .
(2/288)

أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
{ يُحَادِدِ } يخالف ، أو يجاوز حدودهما ، أو يعاديهما مأخوذ من حد السلاح لاستعماله في المعاداة . { جَهَنَّمَ } لبعد قعرها ، بئر جهنام بعيدة القعر .
(2/289)

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } خبر ، أو أمر بصيغة الخبر ، { بِمَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق ، أو قولهم في غزوة تبوك : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات ، فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه . { اسْتَهْزِءُوَاْ } تهديد .
(2/290)

الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
{ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ } في الدين { بِالْمُنكَرِ } كل ما أنكره العقل من الشر . والمعروف : كل ما عرفه العقل من الخير ، أو المعروف في كتاب الله كله الإيمان ، والمنكر في كتاب الله كله الشرك قاله أبو العالية . { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } عن الفقة في سبيل الله ، أو عن كل خير ، أو عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن رفعها إلى الله تعالى في الدعاء . { فَنَسِيَهُمْ } تركوا أمره فترك رحمتهم ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان المنافقون ثلاثمائة رجل ومائة وسبعين امرأة .
(2/291)

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{ بِخَلاقِهِمْ } بنصيبهم من خيرات الدنيا . { وَخُضْتُمْ } في شهوات الدنيا ، أو في قول الكفر . { كَالَّذِى خَاضُوَاْ } فارس والروم ، أو بنو إسرائيل .
(2/292)

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
{ وَمَسَاكِنَ طَيِّبةً } قصور مبنية باللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ، أو يطيب العيش بسكناها وهو محتمل . { عَدْنٍ } خلود وإقامة ، والمعدن لإقامة الجوهر فيه ، أو كروم وأعناب بالسريانية ، أو عدن اسم لبطنان الجنة ووسطها ، أو اسم قصر في الجنة ، أو جنة في السماء العليا لا يدخلها إلا نبي ، أو صدِّيق ، أو شهيد ، أو إمام عدل ، أو محكَّم في نفسه . وجنة المأوى في السماء الدنيا تأوي إليها أرواح المؤمنين .
(2/293)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
{ جَاهِدِ الْكُفَّارَ } بالسيف { وَالْمُنَافِقِينَ } بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجوههم ، أو يجاهدهم باللسان ، أو بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود .
(2/294)

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{ يَحْلِفُونَ } نزلت في ابن أُبَي لما قال : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] ، أو قال الجلاس بن سويد إن كان ما جاء به محمد حقاً فنحن شر من الحمير ثم حلف بالله ما قال ، أو قال ذلك جماعة من اليهود . { كَلِمَةَ الْكُفْرِ } هو ما حلفوا أنهم ما قالوه فأكذبهم الله ، أو قولهم محمد ليس بنبي . { وَهَمُّواْ } بقتل الرسول في غزاة تبوك ، أو بأخراج الرسول بقولهم { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة } [ المنافقون : 8 ] أو هَمُّوا بقتل الذي أنكر عليهم .
(2/295)

وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ } نزلت والتي بعدها في حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فنذر أن يتصدق منه فلما قدم عليه بخل ، قاله الكلبي ، أو قتل مولى لعمر حميما لثعلبة فوعد إن أوصل الله إليه الدية أن يخرج حق الله تعالى منها فلما وصلت بخل بحق الله تعالى فنزلت ، فلما بلغته أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقته فلم يقبلها منه ، وقال إن الله تعالى منعني أن أقبل صدقتك فجعل يحثو التراب على رأسه ، فمات الرسول صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه ثم عمر رضي الله تعالى عنه بعده ، ثم عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلوها .
(2/296)

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } لما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على النفقة في غزوة تبوك ، جاء عبدالرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وقال هذه شطر مالي ، وجاء عاصم بن عادي بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر وقال أجرت نفسي بصاعين فذهبت بأحدهما إلى عيالي وجئت بالآخر ، فقال الحاضرون من المنافقين أما عبد الرحمن وعاصم فما أعطيا إلا رياء ، وأما صاع أبي عقيل فإن الله تعالى غني عنه . فنزلت . الجُهد والجَهد واحد ، أو بالضم الطاقة وبالفتح المشقة .
(2/297)

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } آيسه من الغفران لهم . { سَبْعِينَ مَرَّةً } ليس بحد لوجود المغفرة بما بعدها ، والعرب تبالغ بالسبع والسبعين ، لأن التعديل في نصف العقد وهو خمسة فإذا زيد عليه واحد كان لأدنى المبالغة وإن زيد اثنان كان لأقصى المبالغة ، وقيل للأسد سبع لأن قوته تضاعفت سبع مرات ، قاله علي بن عيسى . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم سوف أستغفر لهم أكثر من سبعين فنزلت { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الآية [ المنافقون : 6 ] فكف .
(2/298)

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
{ الْمُخَلَّفُونَ } المتركون كانوا أربعة وثمانين نفساً . { خِلافَ } بعد ، أو مخالفة عند الأكثر . { لا تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ } قاله بعضهم لبعض ، أو قالوه للمؤمنين ليقعدوا معهم .
(2/299)

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ فَلْيَضْحَكُواْ } تهديد { قَلِيلاً } ، لأن ضحك الدنيا فَانٍ ، أو لأنه قليل بالنسبة إلى ما فيها من الأحزان والغموم . { كَثِيراً } في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، أو في النار أبداً يبكون من ألم العذاب .
(2/300)

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
{ أَوَّلَ مَرَّةٍ } دعيتم ، أو قبل استئذانكم . { الْخَالِفِينَ } النساء والصبيان ، أو الرجال المعذورين بأمراض أو غيرها " ع " .
(2/301)

وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
{ وَلا تُصَلِّ } نزلت في ابن أُبي لما صلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو أراد الصلاة عليه فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه ، وقال : ولا تُصلِّ على أحد ولا تقم على قبره قيام زائر ، أو مستغفر .
(2/302)

وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
{ أَنْ ءَامِنُواْ } دوموا على الإيمان ، أو افعلوا فعل المؤمن ، أو أمر المنافقين أن يؤمنوا باطناً كما آمنوا ظاهراً . { الطَّوْلِ } الغنى ، أو القدرة ، قيل نزلت في ابن أُبي والجد بن قيس .
(2/303)

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{ الْخَوَالِفِ } النساء ، أو المنافقين ، أو الأدنياء الأخسَّاء ، فلان خَالِفة أهله إذا كان دونهم .
(2/304)

لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
{ الْخَيْرَاتُ } جمع خيرة ، غنائم الدنيا ومنافع الجهاد ، أو ثواب الآخرة ، أو فواضل العطايا ، أو الحور { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] .
(2/305)

وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{ الْمُعَذِّرُونَ } مخفف الذين اعتذروا بحق ، وبالتشديد الذين كذبوا في اعتذارهم فالعذر حق ، والتعذير كذب ، قيل هم بنو أسد وغطفان .
(2/306)

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
{ الضُّعَفَآءِ } الصغار لضعف أبدانهم ، أو المجانين لضعف عقولهم أو العميان ، أو المجانين لضعف تصرفهم { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } [ هود : 91 ] ضريراً . { نَصَحُواْ } برئوا من النفاق ، أو إذا قاموا بحفظ المخلفين والمنازل ، فيرجع إلى من لا يجد النفقة خاصة ، قيل نزلت في عائذ بن عمرو وعبد الله بن مغفل .
(2/307)

وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
{ لآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } زاداً لأنهم طلبوه ، أو نعالاً لأنهم طلبوها ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة : " أكثروا من النعال فإن الرجل لا يزال راكباً ما كان منتعلاً " ، نزلت في العِرْباض بن سارية ، أو عبد الله بن الأزرق ، أو في بني مقرن من مزينة ، أو في سبعة من قبائل شتى ، أو في أبي موسى وأصحابه .
(2/308)

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
{ السِّبِيلُ } الإنكار ، أو المأثم . { الْخَوَالِفِ } المتخلفون بالنفاق ، أو الذراري من النساء والأطفال .
(2/309)

الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
{ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } كفرهم أكثر وأشد لجفاء طباعهم وغلظ قلوبهم ، أو الكفر فيهم أكثر لعدم وقوفهم على الكتاب والسنة . { وَأَجْدَرُ } أقرب مأخوذ من الجدار بين المتجاورين . { حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } من فروض العبادات ، أو من الوعيد على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والتخلف عن الجهاد .
(2/310)

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
{ مَا يُنفِقُ } في الجهاد ، أو الصدقات . { مَغْرَمًا } المغرم : التزام ما لا يلزم { عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] لازماً . { الدَّوَآئِرَ } انقلاب النعمة إلى غيرها من الدور .
(2/311)

وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
{ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } استغفاره لهم " ع " ، أو دعاؤه .
(2/312)

وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
{ وَالسَّابِقُونَ } أهل بيعة الرضوان ، أو أهل بدر ، أو الذين صلوا إلى القبلتين ، أو الذين سبقوا بالموت والشهادة من المهاجرين والأنصار سبقوا إلى الثواب وحسن الجزاء { رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } بالإيمان { وَرَضُواْ عَنْهُ } بالثواب ، أو رضي عنهم بالعبادة ورضوا عنه بالجزاء ، أو رضي عنهم بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ورضوا عنه بالقبول .
(2/313)

وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{ حَوْلَكُمُ } حول المدينة ، مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع كان فيهم بعد إسلامهم منافقون كما في الأنصار ، وإنما نافقوا لدخول جميعهم تحت القدرة فميزوا بالنفاق وإن عمتهم الطاعة . { مَرَدُواْ } أقاموا وأصروا ، أو مَرنوا عليه وعتو فيه { شَيْطَانًا مَّرِيدًا } [ النساء : 117 ] عاتياً ، أو تجردوا فيه وتظاهروا به { لا تَعْلَمُهُمْ } حتى نعلمك بهم ، أو لا تعلم عاقبتهم فلا تحكم على أحد بجنة ولا نار . { مَّرَّتَيْنِ } إحداهما بالفضيحة في الدنيا والجزع من المسلمين ، والثانية بعذاب القبر " ع " ، أو إحداهما بالأسر والأخرى بالقتل ، أو إحداهما بالزكاة والآخرى أمرهم بالجهاد ، لأنهم يرونه عذاباً لنفاقهم ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه أو إحداهما عذاب الدنيا والأخرى عذاب الآخرة . { عَذَابٍ عَظِيمٍ } بأخذ الزكاة ، أو بإقامة الحدود في الدنيا ، أو بالنار في الآخرة .
(2/314)

وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
{ وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُواْ } نزلت في أبي لبابة في قضيته مع بني قريظة . أو في سبعة أنصار من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك ، أبو لبابة بن عبد المنذر ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حرام ، فلما ندموا على تخلفهم وربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد ليطلقهم الرسول صلى الله عليه وسلم إن عفا عنهم ، فلما مر بهم وكانوا على طريقه فسأل عنهم فأُخبر بحالهم فقال : " لا أعذرهم ولا أطلقهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يعذرهم ويطلقهم " فنزلت " ع " . { عَملاً صَالِحاً وَءَاخَرَ سَيِئاً } الصالح : الجهاد ، والسيىء التخلف عنه ، أو السيىء الذنب والصالح التوبة ، أو ذنباً وسوطاً لا ذاهباً فروطاً ولا ساقطاً سقوطاً . قاله الحسن رضي الله تعالى عنه .
(2/315)

خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
{ خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ } لما تاب الله تعالى على أبي لبابة وأصحابه قالوا : يا رسول الله خذ منا صدقة تطهرنا وتزكينا ، فقال : " لا أفعل حتى أُؤمر " فنزلت ، صدقة بذلوها تطوعاً ، أو الزكاة الواجبة { تُطَهِّرُهُمْ } من ذنوبهم ، وتزكي أعمالهم { وَصَلِّ } استغفر ، أو ادعُ قاله " ع " . { سَكَنٌ } قربة " ع " ، أو وقار ، أو أمن ، أو تثبيت ، والدعاء واجب على الآخذ أو مستحب ، أو يجب في التطوع ومستحب في الفرض ، أو يستحب للوالي ويجب على الفقير ، أو بالعكس ، أو إن سأل الدافع الدعاء وجب وإن لم يسأل استحب ، قال عبد الله بن أبي أوفى لما أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم بصدقات قومي قلت يا رسول الله صَلِّ عليَّ فقال : " اللهم صلِ على آل أبي أوفى " .
(2/316)

وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
{ وَءَاخَرُونَ } هم الثلاثه الباقون من العشرة المتخلفين في غزوة تبوك لم يربطوا أنفسهم وهم كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، { مُرْجَوْنَ } لما يرد من أمر الله فيهم . { يُعَذِّبُهُمْ } يميتهم على حالهم ، أو يأمر بعذابهم إن لم يعلم صحة توبتهم { عَلِيمٌ } بما يؤول إليه حالهم { حَكِيمٌ } في إرجائهم .
(2/317)

وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
{ وَالِّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً } هم بنو عمرو بن عوف ، اثنا عشر رجلاً من الأنصار بنوا مسجد الضرار . { وَتَفْرِيقَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } لئلا يجتمعوا في مسجد قباء . { وَإِرْصَادًا } انتظاراً لسوء يتوقع ، أو لحفظ مكروه يفعل . { لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بمخالفتهما ، أو عداوتهما ، وهو أبو عامر الراهب والد حنظلة بن الراهب ، وكان قد حزَّب على الرسول صلى الله عليه وسلم فبنوه له ليصلي فيه إذا رجع من عند هرقل اعتقاداً منهم أنه إذا صلى فيه نُصروا ، ابتدءوا بنيانه والرسول صلى الله عليه وسلم خارج إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه فقال : " أنا على سفر ولو قدمنا إن شاء الله تعالى أتيانكم وصلينا لكم فيه " ، فلما رجع أتوه وقد فرغوا منه وصلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وقالوا : قد فرغنا منه ، فأتاه خبره وأنزل الله تعالى فيه ما أنزل . { لا تَقُمْ فِيهِ } لا تُصَلِّ فيه فعند ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه فحُرق ، أو انهار في يوم الأثنين ولم يُحرق .
(2/318)

لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو مسجد قباء ، وهو أول مسجد بني في الإسلام " ع " ، أو كل مسجد بني في المدينة أسس على التقوى . { يَتَطَهَّرُواْ } بالتوبة من الذنوب . { واللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } بالتوبة ، أو أراد الاستنجاء بالماء ، أو المتطهرين من أدبار النساء .
(2/319)

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } مسجد قباء ، أو قوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } مسجد المدينة ، وقوله { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ } مسجد قباء . { جُرُفٍ } حرف الوادي الذي لا يثبت عليه البناء لرخاوته . { هَارٍ } هائر ، وهو الساقط . { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } سقطوا ببنيانهم في جهنم ، أو سقط المسجد بنفسه مع بقعته في جهنم ، قال جابر بن عبد الله : رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حتى انهار ، وقيل حفرت فيه بقعة فرئي فيها الدخان .
(2/320)

لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
{ رِيبَةً } حين بنوه شك ، او غطاء ، أو بعد هدمه حزازة ، أو ندامة . { تَقَطَّعَ } يموتوا " ع " ، أو يتوبوا ، أو تقطع في القبور .
(2/321)

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{ اشْتَرَى } لما جُوزوا بالجنة على ذلك عُبِّر عنه بلفظ الشراء تَجوزاً .
(2/322)

التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التَّآئِبُونَ } من الذنوب . { الْعَابِدونَ } بالطاعة ، أو بالتوحيد ، أو بطول الصلاة . { الْحَامِدُونَ } على السراء والضراء ، أو على الإسلام . { السَّائِحُونَ } المجاهدون واستؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : " سياحة أُمتي الجهاد " ، أو الصائمون ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " سياحة أُمتي الصوم " " ع " ، أو المهاجرون أو طلبة العلم . { بِالْمَعْرُوفِ } التوحيد ، أو الإسلام . { الْمُنكَرِ } الشرك ، أو الذين لم يَنْهوا عنه حتى انتهوا عنه . { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } القائمون بأمره ، أو بفرائض حلاله وحرامه ، أو لشرطه في الجهاد . { الْمُؤْمِنِينَ } المصدقين بما وعدوا في هذه الآيات ، أو بما ندبوا إليه فيها . لما نزل { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى } جاء رجل من المهاجرين فقال : يا رسول الله ، وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر فنزلت { التَّآئِبُونَ } .
(2/323)

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
{ مَا كَانَ لِلنَّبِىِّ } لما زار الرسول صلى الله عليه وسلم قبر أمه ، وقال : " استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الدعاء لها فلم يأذن لي " فنزلت ، أو نزلت في أبي طالب لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك " ، أو سمع علي رضي الله تعالى عنه رجلاً يستغفر لأبويه فقال : أتستغفر لهما وهما مشركان فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبويه فذكره علي رضي الله تعالى عنه للرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت .
(2/324)

وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
{ مَّوْعِدَةٍ } وعد إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام أبوه أنه إن استغفر له آمن ، أو وعد إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام أباه أن يستغفر له لرجائه إيمانه فلما مات على شركه تبرأ من أفعاله ومن الاستغفار له . { لأَوَّاهٌ } دَعَّاء ، أو رحيم ، أو موقن ، أو مؤمن بلغة الحبشة " ع " ، أو مُسبِّح ، أو مكثر من تلاوة القرآن ، أو متأوه ، أو فقيه ، أو متضرع خاشع مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو إذا ذكر ذنوبه استغفر منها . وأصل التأوه التوجع . { حَلِيمٌ } صبور على الأذى ، أو صفوح عن الذنب .
(2/325)

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ } أسلم قوم من الأعراب ورجعوا إلى بلادهم يعملون بما شاهدوه من الرسول صلى الله عليه وسلم من صوم أيام البيض والصلاة إلى بيت المقدس ، ثم قدموا إليه فوجدوه يصوم رمضان ويصلي إلى الكعبة ، فقالوا : يا رسول الله دِنَّا بعدك بالضلالة إنك على أمر وإنا على غيره فنزلت .
(2/326)

لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
{ تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِىِّ وَالْمُهَاجرِينَ } توبة لعونه بإنقاذهم من شدة العسرة ، أو تخليصهم من نكاية العدو وغيره ، أي رجعهم إلى ما كانوا فيه من الحالة الأولى . { الْعُسْرَةِ } في غزوة تبوك كانوا في قلة من الظَّهر فيتناوب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وتعسر الزاد فيشق الرجلان التمرة بينهما ، أو يمص النفر التمرة والواحدة ثم يشربون عليها الماء وذلك في شدة الحر ، واشتد عطشهم حتى نحروا الإبل وعصروا أكراشها فشربوا ماءها . { يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ } يتلف بالجهد والشدة ، أو يعدل عن المتابعة [ والنصرة ] { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } التوبة الأولى في الذهاب والثانية في الرجوع ، أو الأولى في السفر ، والثانية بعد الرجوع إلى المدينة .
(2/327)

وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
{ وَعَلَى الثَّلاثَةِ } وتاب على الثلاثة . { خُلِّفُواْ } عن التوبة فأُخرت توبتهم حتى تاب الله تعالى على الذين ربطوا أنفسهم مع أبي لبابة ، أو خلفوا عن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم . { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ } لامتناع المسلمين من كلامهم . { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } بما لقوه من جفوة الناس { وَظَنُّواْ } أيقنوا أنهم لا يلجؤون في قبول توبتهم والصفح عنهم إلا إلى ربهم ، ثم تاب عليهم بعد خمسين ليلة من مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم { لِيَتُوبُواْ } ليستقيموا ، لأن توبتهم قد تقدمت " ع " وامتحنوا بذلك إصلاحاً لهم ولغيرهم .
(2/328)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{ يَآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ } بموسى ، أو عيسى عليهما الصلاة والسلام { اتَّقُواْ اللَّهَ } تعالى في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم . { وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين في الجهاد ، أو يا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى في الكذب ، أو اتقوا الله في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمركم بالجهاد { الصَّادِقِينَ } أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أو الثلاثة الذين خُلِّفوا وصدقوا الرسول في تخلفهم ، أو المهاجرين ، لأنهم لم يتخلفوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، أو من صدقت نيته وقوله وعمله وسره وعلانيته .
(2/329)

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ } ما كان عليهم أن ينفروا جميعاً لأن الجهاد صار فرض كفاية . نسخت قوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] " ع " ، أو ما كان لهم إذا بعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية أن يخرجوا جميعاً ويتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة واحده بل يقيم بعضهم . لما عُيِّروا بالتخلف عن غزوة تبوك خرجوا في سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوه وحده بالمدينة فنزلت . { فَلَوْلا نَفَرَ } مع الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة لتتفقه في الجهاد معه ، أو هاجرت إليه في إقامته لتتفقه ، أو لتتفقه الطائفة المقيمة مع الرسول صلى الله عليه وسلم معناه فهلا إذا نفروا أن تقيم مع الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة لأجل التفقه في الدين في أحكامه ، ومعالمه ويتحملوا ذلك لينذروا به قومهم إذا رجعوا إليهم ، أو ليتفقهوا فيما يشاهدونه من المعجزات والنصر المصدق للوعد السابق ليقوي إيمانهم ويُخبروا به قومهم .
(2/330)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{ الَّذِينَ يَلُونَكُم } العرب ، أو الروم ، أو الديلم ، أو عام في قتال الأقرب فالأقرب .
(2/331)

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
{ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ } قاله المنافقون بعضهم لبعض على وجه الإنكار ، أو قالوه لضعفاء المسلمين استهزاء . { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } بها لأنهم لم يؤمنوا بها قبل نزولها أو زادتهم خشية .
(2/332)

وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
{ رِجْساً } إثماً ، أو شكاً ، أو كفراً .
(2/333)

أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
{ يُفْتَنُونَ } يُبتلون ، أو يضلون ، أو يُختبرون بالجوع والقحط ، أو بالجهاد والغزو في سبيل الله ، أو ما يلقونه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم أو ما هتكه الله تعالى من أسرارهم .
(2/334)

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } لم يبقَ من العرب بطن إلا ولده ، أو من المؤمنين لم يصبه شرك ، أو من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، أو ممن تعرفونه بينكم . { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } شديد عليه ما شق عليكم " ع " أو شديد عليه ما ضللتم ، أو عزيز عليه عنت مؤمنكم . { حَرِيصٌ عَلَيْكُم } أن تؤمنوا . { رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } بما يأمرهم به من الهدى ويؤثره من صلاحهم ، نزلت هذه الآية والتي بعدها بمكة ، أو هما آخر ما نزل " ع " .
(2/335)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{ فَإِن تَوَلَّوْاْ } عنك ، أو معن طاعة الله تعالى .
(2/336)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } أنا الله أرى " ع " أو حروف من الرحمن ، وقيل " الر " و " حم " و " ن " اسم الرحمن مقطع ، أو اسم للقرآن ، أو فواتح افتتح الله تعالى بها القرآن . { تِلْكَ } هذه { ءَايَاتُ الْكِتَابِ } :
تلك خيلي منه وتلك ركابي ... هن صفرٌ أولادها كالزبيب
أي هذه خيلي . { الْكِتَابِ } التوراة والإنجيل ، أو الزبور ، أو القرآن . { الْحَكيمِ } المحكم ، أو لانه كالناطق بالحكمة .
(2/337)

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
{ أَكَانَ لِلنَّاسِ } لما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قالت العرب : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فنزلت . { قَدَمَ صِدْقٍ } ثواباً حسناً بما قدموه من العمل الصالح " ع " ، أو سابق صدق سبقت لهم السعادة في الذكر الأول ، أو شفيع صدق هو محمد صلى الله عليه وسلم أو سلف صدق تقدموهم بالإيمان ، أو لهم السابقة بإخلاص الطاعة .
(2/338)

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ } يقضيه وحده ، أو يأمر به ويمضيه . { مَا مِن شَفِيعٍ } يشفع إلا أن يأذن له ، أو لا يتكلم عنده إلا بإذن ، أو ثانٍ له من الشفع ، لأنه خلق السموات والأرض وهو فرد لا حي معه ، ثم خلق الملائكة والبشر . { مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أمره كن فكان .
(2/339)

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
{ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ } ينشئه ثم يفنيه أو يحييه ثم يميته ثم يبدؤه ثم يحييه .
(2/340)

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
{ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } يخافون عقابنا ، أو يطمعون في ثوابنا .
(2/341)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } يجعل لهم نوراً يمشون به ، أو يهديهم بعملهم إلى الجنة ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه ، ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله " أو يهديهم إلى طريق الجنة ، أو مدحهم بالهداية . { مَن تَحْتِهِمُ } تحت منازلهم ، أو بين أيديهم وهم يرونها من علٍ ، قال مسروق : أنهارها تجري في غير أخدود .
(2/342)

دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{ دَعْوَاهُمْ } إذا عدوا شيئاً يشتهونه قالوا : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } فيأتيهم ذلك وإذا سألوا الله شيئاً قالوا : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } { وَتَحِيَّتُهُمْ } ملكهم سالم ، التحية : الملك . أو يُحيي بعضهم بعضاً بالسلام أي سلمت مما بُلي به أهل النار . { وَءَاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ } كما أن أول دعائهم { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } كان آخره بالحمد له . أو إذا أجاب سؤالهم فيما ادعوه وأتاهم ما اشتهوه شكروا بالحمد له .
(2/343)

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ } للكافر عذاب كفره كما عجل له المال والولد لقضي أجله ليعجل له عذاب الآخرة . أو لو استجيب للرجل إذا غضب فدعا على نفسه أو ماله ، أو ولده فقال : لا بارك الله فيه ، أو أهلكه { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لهلكوا . { الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } خاص بمشركي مكة ، أو عام . { طُغْيَانِهِمْ } شركهم " ع " أو ضلالتهم ، أو ظلمهم . { يَعْمَهُونَ } يترددون ، أو يتمادون ، أو يلعبون .
(2/344)

وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
{ مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ } لجنبه يتعلق بدعانا ، أو بمس .
(2/345)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
{ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } كفار مكة . { بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذّآ أَوْ بَدِّلْهُ } إذا أتى بغيره جاز أن يبقى معه وإذا بدله فلا يبقى المبدل معه ، طلبوا تحويل الوعد وعيداً والوعيد وعداً والحلال حراماً والحرام حلالاً ، أو طلبوا إسقاط عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، أو إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور . { مَا يُوحَى إِلَىَّ } من وعد ووعيد وأمر ، ونهي وتحليل وتحريم { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى } بتبديله وتغييره .
(2/346)

قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{ أَدْرَاكُم } أعلمكم ، أو أنذركم . { عُمُراً } أراد ما تقدم من عمره ، أو أربعين سنة ، لأنه بُعث عن الأربعين ، وهو المطلق من عمر الإنسان .
{ أَتُنَبِِّئُونَ اللَّهَ } أتخبرونه بعبادة من لا يعلم ما في السموات ولا ما في الأرض ، أو ليس يعلم الله له شريكاً .
(2/347)

وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
{ وَمَا كَانَ النَّاسُ } آدم عليه الصلاة والسلام ، أو أهل السفينة ، أو من كان على عهد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو بنو آدم . { أُمَّةً وَاحِدَةً } على الإسلام حتى اختلفوا " ع " ، أو على الكفر ، أو على دين واحد فاختلفوا في الدين فمؤمن وكافر ، أو اختلف بنو آدم لما قتل قابيل أخاه . { سَبَقَتْ } بتأجيل العذاب إلى الآخرة ، لعجل العذاب في الدنيا ، أو بأن لا يعاجل العصاة { لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } وباضطرارهم إلى معرفة المحق من المبطل .
(2/348)

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
{ رَحْمَةً } رخاء بعد شدة ، أو عافية بعض سقم ، أو خصابة بعد جدب ، أو إسلاماً بعد كفر ، وهو المنافق ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { مَّكْرٌ } كفر وجحود ، أو استهزاء وتكذيب ، لما أجيب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف عليه الصلاة والسلام أتاه [ أبو سفيان ] وسأله أن يدعو لهم بالخصب وقال : إن أجابك وأخصبنا صدقناك ، فدعا بذلك فأخصبوا فنقضوا ما قالوه وأقاموا على كفرهم فنزلت هذه الآية .
(2/349)

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
{ حَصِيداً } ذاهباً ، أو يابساً . { تَغْنَ } تعمر أو تعيش ، أو تقم غني بالمكان : أقام به ، أو تنعم .
(2/350)

وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
{ دَارِ السَّلامِ } السلامة ، أو اسم الله تعالى والجنة داره . { وَيَهْدِى } بالتوفيق والإعانة ، أو بإظهار الأدلة . { صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } القرآن ، أو الإسلام ، أو الحق ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحباه رضي الله تعالى عنهما من بعده .
(2/351)

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{ أَحْسَنُواْ } عبادة ربهم { الْحُسْنَى } الجنة ، والزيادة : النظر إلى الله تعالى ، أو الحسنى واحدة الحسنات والزيادة مضاعفتها إلى عشرة " ع " ، أو الحسنى حسنة بحسنة ، والزيادة : مغفرة ورضوان ، أو الحسنى : جزاء الآخرة ، والزيادة : ما أعطوا في الدنيا ، أو الحسنى : الثواب والزيادة : الدوام . { يَرْهَقُ } يعلو ، أو يلحق ، غلام مراهق : لحق بالرجال . { قَتَرٌ } سواد الوجه " ع " ، أو الجزاء ، أو الدخان ، قتار اللحم والعود دخانهما ، أو الغبار في محشرهم إلى الله . { ذِلَّةٌ } هوان أو خيبة .
(2/352)

هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{ تتلو } تقرأ كتاب الحسنات والسيئات ، أو تتبع ما قدمته في الدنيا ، أو تعاين جزاءه { تَبْلُواْ } تسلم لك نفس ، أو تختبر { مَوْلاهُمُ } مالكهم { الْحَقِّ } لأن الحق منه كالعدل لأنه العدل منه .
(2/353)

وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{ إِلاَّ ظَنّاً } تقليداً للرؤساء .
(2/354)

وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
{ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل والزبور أو البعث والجزاء والنشور .
(2/355)

بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
{ بِعِلْمِهِ } بعلم التكذيب لشكهم فيه ، أو بعلم ما فيه من الوعد والوعيد . { تَأْوِيلُهُ } ما فيه من البرهان ، أو ما يؤول إليه من عقابهم .
(2/356)

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
{ لَّمْ يَلْبَثُواْ } في الدنيا ، أو القبور . { يَتَعَارَفَونَ } أنهم كانوا على الباطل ، أو يعرف بعضهم بعضاً إذا خرجوا من القبور ثم تنقطع المعرفة .
(2/357)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
{ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ } يوم القيامة ليشهد عليهم قضي بينهم ، أو إذا جاء في الدنيا ودعا عليهم قضي بينهم في الدنيا بالانتقام منهم ، أو إذا جاء في الآخرة قضي بينهم وبينه لتكذيبهم في الدنيا .
(2/358)

وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ أَحَقٌ هُوَ } البعث ، أو عذاب الآخرة . { بِمُعْجِزِينَ } بممتنعين ، أو بمسابقين .
(2/359)

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
{ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } أظهروها ، أو أخفوها من رؤسائهم ، أو أخفاها الرؤساء منهم ، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم ، وهي تكاسير الجبهة قاله المبرد . { وَقُضِىَ بَيْنَهُم } وبين الرؤساء ، أو قضي عليهم بالعذاب .
(2/360)

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{ بِفَضْلِ اللَّهِ } الإسلام . ورحمته : القرآن ، أو عكسه " ع " { فَلْيَفْرَحُواْ } بهما ، أو فلتفرح قريش أن كان محمد صلى الله عليه وسلم منهم " ع " .
(2/361)

أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
{ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ } أهل ولايته المستحقون لكرامته " ع " ، أو الذين آمنوا وكانوا يتقون ، أو الراضون بالقضاء والصابرون على البلاء والشاكرون على النعماء ، أو من توالت أفعالهم على متابعة الحق ، أو المتحابون في الله تعالى .
(2/362)

لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ الْبُشْرَى } في الدنيا عند الموت بتعريف مكانه وفي الآخرة الجنة ، أو في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها ، أو تُرى له وفي الآخرة الجنة ، { لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } لا خلف لوعده ، أو لا نسخ لخبره .
(2/363)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
{ فَأَجْمِعُواْ } أعزموا ، أو أعدوا أمركم مع شركائكم على التناصر ، أو ادعوا شركاءكم لتنصركم . { غُمَّةً } مغطى مستوراً ، غُم الهلال استتر ، أو ضيق الأمر الموجب للغم { لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ } آلهتكم ، أو ما عزمتم عليه . { اقْضُواْ } ما أنتم قاضون ، أو انهضوا " ع " ، أو أفضوا إليَّ ما في أنفسكم .
(2/364)

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{ وَمَن مَّعَهُ } ثمانون رجلاً أحدهم جُرْهم وكان عربي اللسان ، وحمل من كل زوجين اثنين ، وأول ما حمل الذرة وآخره الحمار فدخل إبليس متعلقاً بذنبه " ع " . { خَلآئِفَ } لمن غرق . { وَأَغْرَقْنَا } قيل : عاشوا في الطوفان أربعين يوماً ، قال ابن إسحاق : بقي الماء بعد الغرق مائة وخمسين يوماً ، وكان بين إرسال الطوفان إلى غيض الماء ستة أشهر وعشرة أيام ، وقال : استوت على الجودي لسبع عشرة ليلة من الشهر السابع .
(2/365)

قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
{ لِتَلْفِتَنَا } لتلوينا ، لفت عنقه لواها ، أو لتصدنا ، أو لتصرفنا ، لفته لفتاً : صرفه . { الْكِبْرِيَآءُ } الملك ، أو العظمة ، أو العلو ، أو الطاعة .
(2/366)

فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{ ذُرِّيَّةٌ } قليل " ع " ، أو الغلمان لأن فرعون كان يذبحهم فأسرعوا إلى الإيمان أو أولاد الزَّمْنَى ، أو قوم أمهاتهم من بني إسرائيل وآباءهم من القبط { يَفْتِنَهُمْ } يقتلهم ، أو يكرههم على استدامة ما هم عليه . { لَعَالٍ } متجبر ، أو طاغْ باغٍ .
(2/367)

فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
{ فِتْنَةً } لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، أو يفتتنوا بنا لظنهم بتسليطهم أنهم على حق .
(2/368)

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
{ تَبَوَّءَا } تخيرا واتخذا { بِمِصْرَ } المعروفة ، أو الإسكندرية ، قاله مجاهد { بُيُوتاً } قصوراً ، أو مساجد . { بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } مساجد يصلون فيها ، لأنهم كانوا يخافون فرعون إذا صلوا في الكنائس ، أو اجعلوا مساجدكم [ قِبلَ ] الكعبة " ع " ، أو يقابل بعضها بعضاً ، أو اجعلوا بيوتكم التي بالشام قِبْلة لكم في الصلاة فهي قبلة اليهود إلى اليوم { وَبَشِّرِ الْمؤْمِنِينَ } بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة .
(2/369)

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
{ اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } اهلكها ، فصارت زروعهم وأموالهم حجارة منقوشة . { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } بالعمى عن الرشد ، أو بالقسوة ، أو بالموت ، أو بالضلالة ليهلكوا كفاراً فيعذبوا في الآخرة . { الْعَذَابَ الأَلِيمَ } الغرق .
(2/370)

قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{ دَّعْوَتُكُمَا } أمن هارون على دعاء موسى عليهما الصلاة والسلام فسماه داعياً ، ومعنى آمين : اللهم استجب ، أو اسم من أسماء الله تعالى بإضمار حرف النداء تقديره يا آمين استجب ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " آمين خاتم رب العالمين على عبادة المؤمنين " أي يمنع من وصول الأذى والضرر إليهم كما يمنع الختم من الوصول إلى المختوم ، أو معناه بعد الدعاء اللهم استجب وبعد الفاتحة كذلك أمنة تكون " ع " ، وتأخر فرعون بعد الإجابة أربعين عاماً . { فَاسْتَقِيمَا } فامضيا لأمري فخرجا في قومهما ، أو فاستقيما في الدعاء على فرعون وقومه ، قيل ليس لنبي أن يدعو إلا بإذن لأن دعاءه يوجب النقمة وقد يكون فيهم من يتوب .
(2/371)

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
{ نُنَجِّيكَ } نُلقيك على نجوة وهي المكان المرتفع . { بِبَدَنِكَ } بجسدك لا روح فيه ، أو بدرعك وكانت من حديد يُعرف بها ، وكان من تخلف من قومه ينكر غرقه ، فرمي به على الساحل فرآه بنو إسرائيل ، وكان قصيراً أحمر كأنه ثور . { خَلْفَكَ } بعدك عبرة وموعظة .
(2/372)

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
{ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } لأنه كالصدق في الفضل ، أو تصدق به عليهم ، الشام وبيت المقدس ، أو الشام ومصر . { فَمَا اخْتَلَفُواْ } بنو إسرائيل في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } القرآن ، أو محمد صلى الله عليه وسلم فيكون العلم بمعنى المعلوم لأنهم عرفوه من كتبهم .
(2/373)

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
{ فِى شَكٍّ } من إرسالك ، أو من أنك مكتوب في التوراة والإنجيل { الَّذِينَ يَقْرَءُونَ } أهل الصدق والتقوى منهم ، أو من آمن كعبد الله بن سلام ، خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ، أو على عادتهم في التنبيه على أسباب الطاعة كقول الوالد لولده : إن كنت ولدي فبرني ، والسيد لعبده : إن كنت عبدي فأطعني ، ولا يشك في ولده أو عبده ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا أشك ولا أسأل " .
(2/374)

فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فَلَوْلا كَانَتْ } أي لم تؤمن قرية بعد أن حقت عليهم كلمة ربك . { قَوْمَ يُونُسَ } أهل نينوى من بلاد الموصل وعدهم يونس عليه الصلاة والسلام بالعذاب بعد ثلاث ، فقالوا : انظروا فإن خرج يونس فوعيده حق فلما خرج فزعوا إلى شيخ منهم ، فقال : توبوا وقولوا يا حي حين لا حي ، ويا حي محيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت ، فلبسوا المُسُوح ، وفرقوا بين كل والدة وولدها وخرجوا عن القرية تائبين داعين فكشف عنهم ، وكان ذلك يوم عاشوراء . { كَشَفْنَا } حصوله بقبوله التوبة بعد رؤية العذاب فكشف عنهم بعد أن تدلى عليهم ولم يكن بينه وبينهم إلا ميل ، أو رأوا دلائل العذاب ولم يروه ، ولو رأوه لما قبلت توبتهم كفرعون . { حِينٍ } أجلهم ، أو مصيرهم إلى الجنة أو النار " ع " .
(2/375)

وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
{ بِإِذْنِ اللَّهِ } بأمره ، أو معونته ، أو إعلامه إياها سبيل الهدى والضلال . { الرِّجْسَ } السخط " ع " ، أو الإثم ، أو العذاب ، أو ما لا خير فيه ، أو الشيطان .
(2/376)

وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
{ أَقِمْ وَجْهَكَ } استقم بإقبال وجهك على ما أُمرت به ، أو أراد بالوجه النفس . { حَنِيفاً } حاجاً " ع " ، أو متبعاً أو مستقيماً ، أو مخلصاً ، أو مؤمناً بالرسل ، أو سابقاً إلى الطاعة ، من حنف الرِّجْلَيْن وهو أن تسبق إحداهما الأخرى .
(2/377)

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
{ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } القرآن ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم .
(2/378)

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{ كِتَابٌ } القرآن ، { أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ } بالأمر والنهي { ثُمَّ فُصِّلَتْ } بالثواب والعقاب ، أو أُحكمتم من الباطل ثم فُصِّلت بالحلال والحرام والطاعة والمعصية ، أو آيات هذه السورة كلها محكمة ، { فُصِّلَتْ } فُسِّرت ، أو أُحكمت آياته للمعتبرين وفُصِّلت للمتقين ، أو أُحكمت آياته في القلوب وفُصِّلت أحكامه على الأبدان . { حَكِيمٍ } في أفعاله { خَبِيرٍ } بمصالح عباده ، أو حكيم فيما أنزل خبير بمن يتقبل .
(2/379)

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
{ أَلاَّ تَعْبُدُواْ } يعني أن كتبت في الكتاب أن لا تعبدوا إلا الله ، أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك . { نَذِيرٌ } من النار { وَبَشِيرٌ } بالجنة .
(2/380)

وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
{ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } مما سلف ثم توبوا إليه في المستأنف متى وقعت منكم ذنوب ، أو قدّم الاستغفار ، لأنه المقصود وأخّر التوبة لأنها سبب إليه . { مَّتَاعاً حَسَناً } في الدنيا بطيب النفس وسعة الرزق ، أو بالرضا بالميسور والصبر على المقدور ، أو بترك الخلق والإقبال على الحق قاله سهل رضي الله تعالى عنه { أَجَلٍ مُّسَمًّى } الموت ، أو القيامة ، أو وقت لا يعلمه إلا الله تعالى " ع " { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍ فَضْلَهُ } يهديه إلى العمل الصالح " ع " ، أو يجزيه به في الآخرة . { كَبِيرٍ } يوم القيامة لكبر الأمور فيه .
(2/381)

أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
{ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } على الكفر { لِيَسْتَخْفُواْ } من الله تعالى أو على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ليخفوها عنه ، أو على ما أضمروه ليخفوه على الناس ، أو كان المنافقون إذا مروا بالرسول صلى الله عليه وسلم غطوا رؤوسهم وحنوا صدورهم لئلا يراهم أو قال رجل إذا أغلقت بابي وأرخيت ستري وتغشيت ثوبي وثنيت صدري فمن يعلم بي فأخبر الله تعالى بذلك . { يَسْتَغْشُونَ } يلبسون ويتغطون ، قال :
أرعى النجوم ما كلفت رِعْيَتَها ... وتارة أتغشى فضل أطماري
كنى باستغشاء الثياب عن الليل ، لأنه يسترهم بظلمته كما يستترون بالثياب وكانوا يخفون أسرارهم ليلاً ، أو كانوا يغطون وجوههم وآذانهم بثيابهم بغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يروه ولا يسمعوا كلامه ، أو أراد المنافقين لأنهم لسترهم ما في قلوبهم كالمستغشي ثيابه ، أو كان قوم من المسلمين يتنكسون بستر أبدانهم فلا يكشفونها تحت السماء فبيّن الله تعالى أن النسك بالاعتقاد والعمل . { مَا يُسِرُّونَ } في قلوبهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } بأفواههم ، أو ما يسرون الإيمان وما يعلنون العبادات ، أو ما يسرون عمل الليل ، وما يعلنون عمل النهار " ع " { بِذَاتِ الصُّدُورِ } بأسرارها ، نزلت في الأخنس بن شريق " ع " .
(2/382)

وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{ مُسْتَقَرَّهَا } حيث تأوي { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت أو مستقرها الرحم ومستودعها الصلب ، أو مستقرها في الدنيا ومستودعها في الآخرة .
(2/383)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
{ أَحْسَنُ عَمَلاً } أتم عقلاً ، أو أزهد في الدنيا ، أو أكثر شكراً ، أو أحسن عقلاً وأروع عن محارم الله ، وأسرع في طاعته ، قاله الرسول صلى الله عليه وسلم .
(2/384)

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
{ أُمَّةٍ } فناء أمة ، أو الأجل عند الجمهور ، الأُمَّة : الأجل . { مَا يَحْبِسُهُ } أي العذاب ، قالوا ذلك تكذيباً له لتأخره ، أو استعجالاً واستهزاء .
(2/385)

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
{ بَيِّنَةٍ } القرآن ، أو دلائل التوحيد ووجوب الطاعة ، أو محمد صلى الله عليه وسلم { شَاهِدٌ مِّنْهُ } لسانه يشهد له بتلاوة القرآن ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد من الله تعالى أو جبريل عليه السلام " ع " أو قال علي رضي الله عنه ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك قال : " ويتلوه شاهد منه " { قَبْلِهِ } الضمير للقرآن ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم { إِمَاماً } للمؤمنين لاقتدائهم به { وَرَحْمَةً } لهم ، أو إماماً متقدماً علينا ورحمة لهم . { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي من كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه { الأَحْزَابِ } أهل الأديان كلها ، أو المتحزبون على الرسول صلى الله عليه وسلم وحربه؛ قريش ، أو اليهود والنصارى ، أو أهل الملل كلها . { مَوْعِدُهُ } مصيره . { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ } من القرآن ، أو من أن النار موعد الكافرين به .
(2/386)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
{ كَذِباً } بأن ادعى إنزال ما لم ينزل عليه ، أو نفى ما أنزل عليه . { يُعْرَضُونَ } يشحرون إلى موقف الحساب . { الأَشْهَادُ } الأنبياء ، أو الملائكة ، أو الخلائق ، أو الأنبياء والملائكة والمؤمنون والأجساد ، الأشهاد : جمع شهيد كشريف وأشراف ، أو جمع شاهد كصاحب وأصحاب .
(2/387)

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ } قريش صدوا الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن الدين " ع " . { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } يرجون بمكة غير الإسلام ديناً ، أو يبغون محمداً هلاكاً ، أو يتأولون القرآن تأويلاً باطلاً .
(2/388)

لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{ لا جَرَمَ } لا بد ، أو " لا " صلة ، جرم : حقاً ، أو لا نفي لدفع العذاب عنهم ، ثم استأنف جرم بمعنى كسب أي كسبوا استحقاق النار ، قال :
نصبنا رأسه في رأس جذع ... بما جرمت يداه وما اعتدينا
(2/389)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
{ وَأَخْبَتُواْ } خافوا " ع " ، أو اطمأنوا ، أو أنابوا ، أو خشعوا وتواضعوا ، أو أخلصوا .
(2/390)

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{ أَرَاذِلُنَا } جمع أََرْذُل ، وأَرْذُل جمع رَذْل وهو الحقير يعنون الفقراء وأصحاب الصنائع الدنيئة . { بَادِىَ الرَّأْىِ } ظاهره ، أي إنك تعمل بأول الرأي من غير فكر ، أو إنما في نفسك من الرأي ظاهر تعجيزاً له ، أو اتبعوك بأول الرأي ولو فكروا لرجعوا عن اتباعك .
(2/391)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
{ بَيِّنَةٍ } ثقة ، أو حجة { رَحْمَةً } إيماناً ، أو نبوة " ع " . { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } البينة خفيت فعميتم عنها ، أراد بذلك بيان تفضيله عليهم لما قالوا { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلِ } . { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } البينة ، أو الرحمة . { كَارِهُونَ } أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهية ، وقال قتادة : لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكنه لم يملك ذلك .
(2/392)

وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
{ تَجْهَلُونَ } أنهم أفضل منكم لإيمانهم وكفركم ، أو لاسترذالكم وطلب طردهم .
(2/393)

وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{ خَزَآئِنُ اللَّهِ } الأموال فأدفعها إليكم على إيمانكم ، أو الرحمة فأسوقها إليكم " ع " . { تَزْدَرِى } تحتقر ، أزريت عليه عِبْته ، وزريت عليه حقَّرته .
(2/394)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
{ افْتَرَاهُ } أي النبي صلى الله عليه وسلم اختلق ما أخبر به عن نوح وقومه . { إِجْرَامِى } عقاب إجرامي وهي الذنوب المكتسبة أو الجنايات المقصودة .
(2/395)

وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
{ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ } لما أخبره بذلك قال : { لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض } الآية [ نوح : 26 ] { تَبْتَئِسْ } تحزن ، أو تأسف ، والابتئاس حزن في استكانة ، لا تحزن لهلاكهم ، أو كفرهم المفضي إلى هلاكهم .
(2/396)

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ بِأَعْيُنِنَا } بحيث نراك فعبّر عن الرؤية بالأعين لأنها بها تكون ، أو بحفظنا إياك حفظ من يراك ، أو أعين أوليائنا من الملائكة . { وَوَحْيِنَا } أمْرُنا بصنعتها ، أو بتعليمنا لك صنعتها .
(2/397)

وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ } مكث مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها ، ومائة سنة يعملها ، وكان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت مطبقة ، أو طولها أربعمائة ذراع ، وعلوها ثلاثون ذراعاً وعرضها خمسون ذراعاً وكانت ثلاث أبيات ، أو طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها مائة وخمسون ذراعاً ، وعلوها ثلآثين ذراعاً في أعلاها الطير وفي أوسطها الناس وفي أسفلها السباع ، ودفعت من عين ودة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ، ورست بباقردى على الجودي يوم عاشوراء ، وكان بابها في عرضها . { سَخِرُواْ مِنْهُ } لما رأوه يصنعها في البر ، قالوا : صِرت بعد النبوة نجاراً ، أو لم يكونوا رأوا قبلها سفينة فقالوا ما تصنع قال : بيتاً يمشي على الماء فسخروا منه . { إِن تَسخَرُواْ } من قولنا فسنسخر من غفلتكم ، أو إن تسخروا منا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق ، سمى جزاء السخرية باسمها ، أو عبّر بها عن الاستجهال .
(2/398)

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
{ التَّنُّورُ } وجه الأرض ، تسمي العرب وجه الأرض تنوراً ، أو التنور عين وردة التي بالجزيرة ، أو مسجد الكوفة قبل أبواب كندة ، أو التنور ما زاد على الأرض فأشرف منها ، أو تنور الخبز ، قال الحسن رضي الله تعالى عنه كان من حجارة وكان لحواء وصار لنوح عليه الصلاة والسلام ، أو التنور تنوير الصبح قالوا : نور الصبح تنويراً . { زَوْجَيْنِ } من الآدميين والبهائم ذكراً وأنثى . { مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } من الله بالهلاك ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين { قَلِيلٌ } ثمانون رجلاً منهم جرهم ، أو سبعة نوح وأولاده سام وحام ويافث [ وثلاث كنات له ] ، أو السبعة وزوجته فصاروا ثمانية ، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا نوح عليه الصلاة والسلام أن يغير الله تعالى نطفته فجاءوا سودان ، ولما نزل يوم عاشوراء من السفينة قال : من كان صائماً فليتم صومه ومن لم يكن صائماً فليصم .
(2/399)

وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
{ بْسمِ اللَّهِ مَجْراهَا } سَيْرُها { وَمُرْسَاهَا } ثبوتها ووقوفها ، كان إذا أراد السير قال : بسم الله مجراها فتسير ، وإذا أراد الوقوف قال : بسم الله مرساها فتقف .
(2/400)

قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
{ سَئَاوِى إِلَى جَبَلٍ } قال ذلك لبقائه على كفره تكذيباً لأبيه ، قيل الجبل طور زيتاً . { عَاصِمَ } معصوم من الغرق . { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } الله تعالى فأنجاه من الغرق ، أو إلا من رحمه نوح عليه الصلاة والسلام فحمله في السفينة .
(2/401)

وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
{ ابْلَعَى مَآءَكِ } بلعت ماءها وماء السماء ، أو ماءها وحده وصار ماء السماء بحاراً وأنهاراً ، لأنه قال : { ابْلَعِى مَآءَكِ } ، { أَقْلِعِى } عن المطر ، أقلع عن الشيء تركه . { وَغِيضَ الْمَآءُ } نقص فذهبت زيادته عن الأرض . { وَقُضِىَ الأَمْرُ } بإهلاكهم بالغرق . { الْجُودِىِّ } جبل بالموصل ، أو الجزيرة ، أو اسم لكل جبل .
(2/402)

قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
{ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } ولد على فراشه لغير رشدة ، أو كان ابن امرأته ، أو كان ابنه وما بغت امرأة نبي قط " ع " فقوله : { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي أهل دينك وولايتك عند الجمهور ، أو من أهلك الذين وعدتك بإنجائهم . { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } سؤالك أياي أن أنجيه ، أو إن ابنك عمل غير صالح لغير رشدة ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو إن ابنك عَمِل عملاً غيرَ صالح " ع " . { أَعِظُكَ } أحذرك أو أرفعك .
(2/403)

وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
{ مِدْراراً } المطر في إبانه ، أو المتتابع " ع " { قُوَّةً } شدة إلى شدتكم أو خصباً إلى خصبكم ، أو عزاً إلى عزكم بكثرة عددكم وأموالكم أو ولد الولد .
(2/404)

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } الحق ، أو تدبير محكم .
(2/405)

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
{ مِّنَ الأَرْضِ } في الأرض ، أو خلقهم من آدم عليه الصلاة والسلام وآدم من ترابها . { وَاسْتَعْمَرَكُمْ } أبقاكم فيها مدة أعماركم من العمر ، أو أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من مسكن وغرس أشجار أو أطال أعماركم؛ كانت أعمارهم من ألف إلى ثلاثمائة سنة .
(2/406)

قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{ مَرْجُوّاً } يرجى خيرك ، أو حقيراً من الإرجاء والتأخير .
(2/407)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{ بَيِّنَةٍ } دين . { رَحْمَةً } نبوة وحكمة . { فَمَا تَزِيدُونَنِى } في احتجاجكم باتباع آبائكم إلا خساراً تخسرونه أنتم ، أو ما تزيدونني على الرد والتكذيب إن أطعتكم إلا خساراً لاستبدال الثواب العقاب .
(2/408)

وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
{ الصَّيْحَةُ } صيحة جبريل عليه السلام ، أو أحدثها الله تعالى في حيوان ، أو في غير حيوان . { دِيَارِهِمْ } منازلهم وبلادهم كديار بكر وربيعة ، أو في الدنيا لأنها دار الخلائق . { جَاثِمِينَ } ميتين ، أو هلكى بالجثوم ، وهو السقوط على الوجه ، أو القعود على الرُّكَب .
(2/409)

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
{ يَغْنَوْاْ } يعيشوا ، أو ينعموا . { كَفَرُواْ } وعيد ربهم ، أو بأمر ربهم . { بُعْداً } قضى بالاستئصال فهلكوا جميعاً إلا بأ رغال كان بالحرم فمنعه الحرم من العذاب .
(2/410)

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
{ رُسُلُنَآ } رسلنا جبريل وميكائيل وإسرافيل واثنا عشر ملكاً مع جبريل " ع " و { إِبْرَاهِيمَ } أعجمي عند الأكثرين ، أو عربي من البرهمة وهي إدامة النظر . { بِالْبُشْرَى } بإسحاق عليه الصلاة والسلام أو النبوة ، أو بإخراج محمد صلى الله عليه وسلم من صلبه وأنه خاتم الأنبياء ، أو بهلاك قوم لوط . { سَلاماً } حيوه فرد عليهم ، أو قالوا : سلمت أنت وأهلك من هلاك قوم لوط ، قوله : سلام : أي الحمد لله الذي سلمني ، والسِّلْم والسَّلام واحد أو السِّلْم من المسالمة والسَّلام من السلامة . { فَمَا لَبِثَ } مدحه بالإسراع بالضيافة لأنه ظنهم . ضيوفاً لمجيئهم على صور الناس . { حَنِيذٍ } حار ، أو مشوي نضيجاً بمعنى محنوذ كطبيخ ومطبوخ ، وهو الذي حُفر له في الأرض ثم غُم فيها ، أو الذي تجعل الحجارة المحماة بالنار في جوفه ليسرع نضاجه .
(2/411)

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
{ نَكِرَهُمْ } نَكِر وأنكر واحد ، أو نَكِر إذا لم يعرفهم وأنكرهم وجدهم على منكر . ونكرهم لأنهم [ لم ] يتحرموا بطعامه وشأن العرب إذا لم يتحرم بطعامهم أن يظنوا السواء ، أو نكرهم لأنه لم يكن لهم أيدي . { وَأَوْجَسَ } أضمر . { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ } أعلموه بذلك ليأمن منهم ، أو لأنه كان يأتي قوم لوط فيقول وَيْحكم أنهاكم عن الله تعالى أن تتعرضوا لعقوبته فلا يطيعونه .
(2/412)

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
{ قَآئِمَةٌ } تصلي ، أو في خدمتهم ، أو من وراء الستر تسمع كلامهم . { فَضَحِكَتْ } حاضت يقولون : ضحكت المرأة إذا حاضت . والضحك في كلامهم : الحيض وافق ذلك عادتها ، أو لذعرها وخوفها تغيرت عادتها ، أو ضحكت : تعجبت سمي به لأنه سبب له ، عجبت من أنها وزوجها يخدمانهم إكراماً وهم لا يأكلون ، أو من مجيء العذاب إلى قوم لوط وهم غافلون ، أو من مجيء الولد مع كبرها وكبر زوجها ، أو من إحياء العجل الحنيذ ، لأن جبريل عليه السلام مسحه بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه وكانت أمه في الدار أو هو الضحك المعروف قاله الجمهور ، ضحكت سروراً بالولد ، أو بالسلامة ، أو لِما رأت بزوجها من الروع ، أو ظناً أن الرسل يعملون عمل قوم لوط . { وَرَآءِ } بعد ، أو الوراء ولد الولد " ع " ، وخصوها بالبشرى لما اختصت بالضحك ، أو كافؤوها بذلك استعظاماً لخدمتها ، أو لأن المرأة أفرح بالولد من الرجل .
(2/413)

قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
{ يَاوَيْلَتَى } لم تدع بالويل ولكنها كلمة تخف على ألسنة النساء عند تعجبهن ، استغربت مجيء ولد من عجوز لها تسع وتسعون سنة ، وشيخ له مائة سنة ، أو لها تسعون ، وله مائة وعشرون . { بَعْلِى شَيْخاً } قيل عرَّضت بذلك عن ترك غشيانه لها ، والبعل السيد والبعل المعبود ، وسمي الزوج بعلاً لتطاوله على المرأة كتطاول السيد على المسود . { عَجِيبٌ } منكر . { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ } [ ص : 4 ] .
(2/414)

قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أنكروا ما قالته استغراباً لا تكذيباً وإنكاراً .
(2/415)

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
{ الرَّوْعُ } الفزع والرُّوع : النفس " ألقى في رُوعي " { يُجَادِلُنَا } بقوله : إن فيها لوطاً ، أو سأل هل يعذبونهم استئصالاً ، أو على سبيل التخويف ليؤمنوا ، أو قال : أتعذبونهم إن كان فيهم خمسون من المؤمنين قالوا : لا ، قال : أربعون قالوا : لا ، فما زال حتى نزلهم على عشرة فقالوا : لا ، فذلك جداله ، ولم يؤمن به إلا ابنتاه .
(2/416)

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
{ سِىءَ بِهِمْ } ساء ظنه بقومه وضاق ذرعاً بأضيافه ، { عَصِيبٌ } شديد لأنه يعصب الناس بالشر ، خاف على الرسل أن يفضحهم قومه .
(2/417)

وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
{ يُهْرَعُونَ } الإهراع الإسراع بين الهرولة والجمز قال : الكسائي والفراء : ولا يكون إلا مع رعدة ، أسرعوا لما أعلمتهم امرأة لوط بجمال الأضياف . { وَمِن قَبْلُ } إسراعهم كانوا ينكحون الذكور ، أو كانت اللوطية فيهم في النساء قبل كونها في الرجال بأربعين سنة . { بَنَاتِى } نساء الأمة ، أو لصلبه لجوازه في شريعته وكان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو على شرط الإيمان كان يشترك العقد ، أو رغبهم بذلك في الحلال دفعاً لبادئتهم لا أنه بذل نكاحهن ولا عرض بخطبتهن . { وَلا تُخْزُونِ } تذلوني بعار الفضيحة ، أو تهلكوني بعواقب فسادكم ، أو أراد الحياء ، خزي الرجل : استحيا { رَّشِيدٌ } مؤمن " ع " ، أو آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر ، تعجب من اتفاقهم على المنكر ، وأراد بالرشيد من يدفع عن أضيافه .
(2/418)

قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
{ مِنْ حَقٍّ } حاجة ، أو لَسْن لنا بأزواج ، { مَا نُرِيدُ } من الرجال ، أو بألا نتزوج إلا بواحد وليس منا إلا من له امرأة .
(2/419)

قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
{ قُوَّةً } أنصاراً ، قال " ع " : أراد الولد . { رُكْنٍ شَدِيدٍ } عشيرة مانعة فوجدت عليه الرسل ، وقالوا : إن ركنك لشديد . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رحم الله تعالى لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد " ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " فما بعث الله تعالى بعده نبياً إلا في ثروة من قومه "
(2/420)

قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
{ رُسُلُ رَبِّكَ } وقف على الباب ليمنعهم من الأضياف فلما أعلموه أنهم رسل مكنهم من الدخول ، وطمس جبريل عليه السلام أعينهم وغل أيديهم فجفت . { فَأَسْرِ } السرى : سير الليل وسرى وأسرى واحد ، أو أسرى من أول الليل وسرى من آخره ، ولا يقال في النهار إلا سار . { بِقِطْعٍ } سواد ، أو نصف الليل من قطعه بنصفين ، أو السحر الأول أو قطعه " ع " . { وَلا يَلْتَفِتْ } لا يتخلف " ع " أو لا ينظر وراءه ، أو لا يشتغل بما خلفه من مال ومتاع . { امْرَأَتَكَ } بالنصب استثناء من " فأسر " ، أو من " لا يلتفت " عند من رفع بدل من " أحد " . { مُصِيبُهَا } خرجت مع لوط من القرية فسمعت الصوت فالتفتت فأرسل عليها حجر فأهلكها . { مَوْعِدَهُمُ } لما علم أنهم رسل قال : فالآن إذن ، فقال جبريل عليه السلام إن موعدهم الصبح .
(2/421)

فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
{ جَآءَ أَمْرُنَا } للملائكة ، أو وقوع العذاب بهم ، أو القضاء بعذابهم . { عَالِيَهَا } صعد بها جبريل عليه السلام على جناحه حتى سمع اهل السماء نباح كلابهم وأصوات دجاجهم ثم قلّبها وجعل عاليها سافلها وأتبعها الحجارة حتى أهلكها وما حولها ، وكن خمس قوى أعظمهن سدوم ، أو ثلاث قرى يقال لها سدوم بين المدينة والشام ، وكان فيها أربعة آلاف ألف . { سِجِّيلٍ } حجارة صلبة ، أو مطبوخة ، حتى صارت كالأرحاء ، أو من جهنم واسمها سجين فقلبت النون لاماً ، أو من السماء واسمها سجيل ، أو من السجل وهو الكتاب كتب الله تعالى عليها أن يعذب بها ، أو سجيل مرسل من السجل وهو الإرسال أسجلته أرسلته ، والدلو سجيل لإرساله ، أو من السجل وهو العطاء سجلت له سجلاً من العطاء كأنهم أعطوا البلاء إذراراً ، او فارسي معرب من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين . { مَّنضُودٍ } نضد بعضه على بعض ، أو مصفوف .
(2/422)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{ مُّسَوَّمَةً } معلمة ببياض في حمرة " ع " ، أو مختمة على كل حجر أسم صاحبه . { عِندَ رَبِّكَ } في علمه ، أو في خزائنه لا يتصرف فيها سواه { الظَّالِمِينَ } من قريش ، أو العرب ، أو ظالمي هذه الأمة ، أو كل ظالم . وأمطرت الحجارة على المدن حين رفعها ، أو على من كان خارجاً عنها من أهلها .
(2/423)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
{ مَدْيَنَ } بنو مدين بن إبراهيم كمضر لبني مضر ، أو مدين مدينتهم نسبوا إليها ثم اقتصر على اسمها تخفيفاً ، وهو أعجمي ، أو عربي من مَدَنَ بالمكان أقام فيه عند من زعم أنه اسم المدينة ، أو من دنت أي ملكت بزيادة الميم عند من جعله اسم رجل . { شُعَيْباً } تصغير شعب وهو الطريق في الجبل ، أو القبيلة العظيمة ، أو من شعب الإناء المكسور . { بخَيْرٍ } رخص السعر " ع " ، أو المال وزينة الدنيا . { يَوْمٍ مُّحِيطٍ } غلاء السعر " ع " أو عذاب النار في الآخرة ، أو الاستئصال في الدنيا .
(2/424)

بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
{ بَقِيَّتُ } رزقه ، أو طاعته ، أو وصيته ، أو رحمته ، أو حظكم منه ، أو ما أبقاه لكم بعد إيفاء الكيل والوزن .
(2/425)

قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{ أَصَلاتُكَ } المعروفة ، أو قراءتك ، أو دينك الذي تتبعه ، أصل الصلاة الاتباع ومنه المصلي في الخيل . { تَأْمُرُكَ } تدعوك ، أو فيها أن تأمرنا أن نترك عبادة الأصنام . { مَا نَشَآءُ } من البخس والتطفيف ، أو الزكاة التي أمرهم بها ، أو قطع الدراهم والدنانير لأنه نهاهم عن ذلك . { الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } استهزاء ، أو نفي " ع " ، أو حقيقة ما نبتغي لك هذا مع حلمك ورشدك .
(2/426)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
{ رِزْقاً حَسَناً } مالاً حلالاً ، قال " ع " : وكان شعيب كثير المال ، أو نبوة فيه حذف تقديره أفأعدل عن عبادته . { أُنِيبُ } أرجع ، أو ادعوا
(2/427)

وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
{ يَجْرِمَنَّكُمْ } يحملنكم ، أو يكسبنكم . { شِقَاقِى } عداوتي ، أو إصراري ، أو فراقي . { بِبَعيدٍ } بعد الدار لدنوهم منهم ، أو بعد الزمان لقرب العهد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيباً قال " ذاك خطيب الأنبياء " .
(2/428)

قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
{ مَا نَفْقَهُ } ما نفهم صحة ما تقول من البعث والجزاء ، أو قالوه إعراضاً عن سماعه ، أو احتقاراً لكلامه . { ضَعِيفاً } أعمى ، أو ضعيف البصر ، أو البدن ، أو وحيداً ، أو ذليلاً مهيناً ، أو قليل العقل ، أو قليل المعرفة بمصالح الدنيا وسياسة أهلها . { رَهْطُكَ } عشيرتك عند الجمهور ، أو شيعتك { لَرَجَمْنَاكَ } بالحجارة ، أو بالشتم . { بِعَزِيزٍ } بكريم ، أو بممتنع لولا رهطك .
(2/429)

قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم } أتراعون رهطي فِيَّ ولا تراعون الله فِيَّ . { ظِهْرِيّاً } أطرحتم أمره وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تعملون به ، أو حملتم أوزار مخالفته على ظهوركم ، أو إن احتجتم إليه استعنتم به وإن اكتفيتم تركتموه كالذي يتخذ من الجمال ظهراً إن اُحتيج إليه حُمل عليه وإن استُغني عنه تُرك ، أو جَعْلهم الله وراء ظهورهم ظهرياً . { مُحِيطٌ } حفيظ ، أو خبير ، أو مجازي .
(2/430)

وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
{ مَكَانَتِكُمْ } ناحيتكم " ع " ، أو تمكنكم أي اعلموا في هلاكي فإني عامل في هلاككم قال ذلك ثقة بربه . { عَذَابٌ } الفرق { يُخْزِيهِ } يذله ، أو يفضحه . { وَارْتَقِبُواْ } انتظروا العذاب { إِنِّى مَعَكُمْ } منتظر .
(2/431)

وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{ فِى هَذِهِ } الدنيا لعنة المؤمنين ويوم القيامة لعنة الملائكة أو لعنة الدينا الفرق ولعنة الآخرة النار . { الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } العون المعان ، أو الرفد الزيادة لأنهم زيدوا على الفرق بالنار ، أو ذم لشرابهم فيها لأن الرِفد بالكسر ما في القدح من الشراب ، والرَفد بالتفح القدح .
(2/432)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
{ نَقُصُّهُ } نخبرك ، أو نتبع بعضه بعضاً . { قَآئِمٌ } عامر { وَحَصِيدٌ } خاوي " ع " ، أو القائم الآثار والحصيد الدارس .
(2/433)

وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
{ تَتْبِيبٍ } تخسير ، أو هلاك ، أو شر .
(2/434)

يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
{ لا تَكَلَّمُ } لا تشفع ، أو لا تكلم بشيء من جائز الكلام ، أو يمنعون في بعض أوقات القيامة من الكلام إلا بإذنه . { شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } محروم ومرزوق ، أو معذب ومنعم ، ابتدأ بالسعادة والشقاوة من غير جزاء أو جوزيا بها على أعمالها .
(2/435)

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
{ زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف " ع " ، أو الزفير في الحلق والشهيق في الصدر ، أو الزفير تردد النفس من شدة الحزن والشهيق النفس الطويل ، جبل شاهق طويل ، أو الزفير أول شهيق الحمار والشهيق آخره .
(2/436)

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ } سماء الدنيا وأرضها { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } من الزيادة عليها بعد فناء مدتها ، أو ما دامت سماوات الآخرة وأرضها إلا ما شاء من قدر وقوفهم في القيامة ، أو إلا من شاء ربك إخراجه منها من أهل التوحيد " ع " ، أو " إلا من شاء أن لا يدخله إليها من أهل التوحيد " مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو إلا من شاء أن يخرجه منها من موحد ومشرك إذا شاء " ع " ، أو الاستثناء من الزفير والشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب التي ليست بزفير ولا شهيق مما سماه أو لم يسمِّه ثم استأنف فقال : { مَا دَامَتِ } ، أو المعنى لو شاء أن لا يخلدهم لفعل ولكنه شاء ذلك وحكم به . وقدر خلودهم بسماوات الدنيا وأرضها على عادة العرب وعرفها . زهير :
ألا لا أرى على الحوادث باقياً ... ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
(2/437)

وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
{ سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ } إلا ما شاء ربك من مدة مكثهم في النار ، أو { إِلاَّ } بمعنى الواو . { مَجْذُوذٍ } مقطوع ، أو ممنوع .
(2/438)

فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
{ نَصِيبَهُمْ } من خير أو شر " ع " ، أو الرزق ، أو العذاب .
(2/439)

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
{ تَرْكَنُواْ } تميلوا ، أو تدنوا ، أو ترضوا أعمالهم ، أو تداهنوهم في القول فتوافقوهم سراً ولا تنكروا عليهم علانية .
(2/440)

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
{ طَرَفَىِ النَّهَارِ } الأول الصبح اتفاقاً والثاني الظهر والعصر ، أو العصر وحدها ، أو المغرب " ع " . { وَزُلَفاً } جمع زلفة والزلفة المنزلة أي ومنازل من الليل أي ساعات ، ومزدلفة لأنها منزل بعد عرفة ، أو لازدلاف آدم عليه الصلاة والسلام من عرفة إلى حواء وهي بها . وأراد عشاء الآخرة ، أو المغرب والعشاء { الْحَسَنَاتِ } الصلوات الخمس " ع " ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهن الباقيات الصالحات ، أو الحسنات المقبولة تذهب السيئات المغفورة ، أو ثواب الطاعة يذهب عقاب المعصية . { ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } توبة للتائبين ، أو بيان للمتعظين .
(2/441)

فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
{ أُتْرِفُواْ } انظروا " ع " { بَقِيَّةٍ } طاعة ، أو تمييز ، أو حظ من الله تعالى { الْفَسَادِ } الكفر أو الظلم .
(2/442)

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
{ أُمَّةً وَاحِدَةً } على الإسلام ، أو على دين واحد من ضلالة أو هدى ، { مُخْتَلِفِينَ } في الأديان .
(2/443)

إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } من أهل الحق ، أو في الحق والباطل إلا من رحم بالطاعة ، أو في الرزق غني وفقير إلا من رحم بالقناعة ، أو في السعادة والشقاوة إلا من رحم بالتوفيق ، أو في المغفرة إلاَّ من رحم بالجنة ، أو يخلف بعضهم بعضاً يأتي قوم بعد قوم ، خلفوا واختلفوا كقتلوا واقتتلوا . { وَلِذَلِكَ } للاختلاف ، أو للرحمة ، أو للشقاوة والسعادة " ع " ، أو للجنة والنار .
(2/444)

وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
{ فِى هَذِهِ } السورة " ع " ، أو في الدنيا ، أو الأنباء ، { الْحَقُّ } صدق الأنباء إذا كانت الإشارة للسورة ، أو النبوة إذا كانت الإشارة للدنيا .
(2/445)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
{ تِلْكَ ءَايَاتُ } هذه السورة ، أو السورة التي قبلها ، أو إشارة إلى ما افتتح به السورة من الحروف ، علامات { الْكِتَابِ } العربي { الْمُبِينِ } حلاله وحرامه ، أو هداه ورشده ، أو المبين للأحرف الساقطة من ألسنة الأعاجم وهي ستة قاله معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه .
(2/446)

إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
{ أَنزَلْنَاهُ } خبر يوسف عليه الصلاة والسلام ، أو الكتاب عند الجمهور .
(2/447)

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
{ نَقُصُّ } نبين والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها .
(2/448)

إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
{ رَأَيْتُ } رأى أبويه وإخوته ساجدين له فعبّر عنهم بالشمس والقمر والكواكب فالشمس أبوه والقمر أمه راحيل " ع " أو رأى الكواكب والشمس والقمر فتأولهم بإخوته والقمر بأُمه والشمس بأبيه عند الأكثرين ، أو الشمس أمه والقمر أبوه لتأنيثها وتذكير القمر ، { رَأَيْتُهُمْ } تأكيد { رَأَيْتُ } الأول لبعد ما بينهما ، أو رؤيته الأولى لهم والثانية لسجودهم ، { سَاجِدِينَ } كسجود الصلاة إعظاماً لا عبادة ، أو عبّر عن الخضوع بالسجود . وكانت رؤياه ليلة القدر في ليلة الجمعة ، فلما قصّها على يعقوب خاف عليه حسد إخوته ، فقال : هذه رؤيا ليل فلا تعمل عليها ، فلما خلا به قال : { لاَ تَقْصُصْ رُءْيَاكَ } [ يوسف : 5 ] ، وقيل كان عمره عند الرؤيا سبع عشرة سنة . ويوسف أعجمي عبراني ، أو عربي من الأسف لأنه حزن وأحزن .
(2/449)

وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
{ يَجْتَبِيكَ } بالنبوة ، أو بحسن الخَلْق والخُلُق ، أو بترك الانتقام . { تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } عواقب الأمور ، أو عبارة الرؤيا ، أو العلم والحكمة . { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بالنبوة ، أو بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك { وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ } بأن يجعل فيهم البنوة { كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ } نعمته على إبراهيم بالنجاة من النار وعلى إسحاق بالنجاة من الذبح .
(2/450)

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
{ ءَايَاتٌ } عبر ، أو زواجر بما ظهر في يوسف من عواقب البغي عليه ، أو بصدق رؤياه وصحة تأويله ، أو بقهره شهوته حتى سلم من المعصية ، أو بحدوث الفرج بعد شدة الإياس ، قال ابن عطاء : ما سمع سورة يوسف محزون إلا استروح إليها .
(2/451)

إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } كانا أخوين للأبوين ثم ماتت أُمهما فكفلهما أبوهما وزاد لذلك في مراعاتهما فحسدوهما وكان عطفه على يوسف أكثر فلذلك كان حسده أكثر ثم اشتد بسبب رؤياه . { عُصْبَةٌ } العصبة ، الجماعة أو ستة أو سبعة ، أو من عشرة إلى خمسة عشر ، أو إلى أربعين . { ضَلالٍ مُّبِينٍ } محبة ظاهرة ، أو خطأ في رأيه ، أون جور في فعله لتفضيله الصغير على الكبير والقليل على الكثير ومن لا يراعي ماله على من يراعيه وكانوا حينئذ بالغين مؤمنين ليسوا بأنبياء لقولهم : { استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ } [ يوسف : 97 ] إلى { خَاطِئِينَ } [ يوسف : 97 ] أو لم يبلغوا لقولهم : { وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .
(2/452)

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
{ أَرْضاً } لتأكله السباع ، أو ليبعد عن أبيه ، { صَالِحِينَ } بالتوبة ، أو في دنياكم دون الدين .
(2/453)

قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{ قَآئِلٌ } شمعون ، أو يهوذا ، أو أكبرهم روبيل بن خالة يوسف { غَيَابَتِ الْجُبِّ } قعره ، أو ظلمته التي تغيب عن الأبصار . سمي غيابة لأنه يغيب فيه أثره ، أو خبره ، وكان رأسه ضيقاً وأسفله واسعاً . والجب بئر في بيت المقدس ، أو بئر غير معينة ، أو الجب ما عظم من الآبار سواء كان فيه ماء أو لم يكن ، أو ما لا طي له لأنها قطعت ولم يحدث فيها غير القطع قاله الزجاج . { يَلْتَقِطْهُ } يأخذه من اللقطة . { السَّيَّارَةِ } المسافرون لسيرهم ، أو مارة الطريق .
(2/454)

أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
{ نَرتعْ } نلهو ونلعب ، أو نسعى وننشط ، أو نتحافظ ويلهو ، أو يرعى ويتصرف ، أو نطعم ونتنعم من الرتعة وهي سعة المطعم والمشرب . ولم ينكر أبوهم اللعب لأنهم أرادوا المباح منه .
(2/455)

قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
{ وَأَخَافُ } خافهم عليه فكنى عنهم بالذئب " ع " ، أو خاف الذئب لغلبته في الصحارى .
(2/456)

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } ألهمناه ، أو نَبَّأه في الجب { لَتُنَبِّئَنَّهُم } لتوبخنهم بفعلهم ، بشره بخلاصه من الجب ، أو أخبره بما صنعون به قبل إلقائهم أياه في الجب إنذاراً له . { لا يَشْعُرُونَ } بأنك أخوهم ، أو بأن الله تعالى أوحى إليه بالنبوة " ع " .
(2/457)

قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
{ نَسْتَبِقُ } على الأقدام أو بالنضال ، أو في اقتناص الصيد ، أو في عملهم الذي تشاغلوا به من الرعي والاحتطاب . { صَادِقِينَ } وإن صَدَقْنا أو إن كنا أهل صدق لما صدقتنا .
(2/458)

وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
{ بِدَمٍ } سخلة ، أو ظبية ، فلما رأى القميص غير مشقوق قال : يا بني والله ما عهدت الذئب حليماً أفأكل ابني وأبقى على قميصه { كَذِبٍ } وصفه بالمصدر ، وكان في القميص ثلاث آيات : حين جاءوا عليه بالدم ، وحين قُد ، وحين أُلقي على وجه أبيه . { سَوَّلَتْ } زينت ، أو أمرت " ع " ، قاله عن وحي ، أو عن علم تقدم له به ، أو عن حدس وفراسة { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ومن الجميل أن أصبر ، أو أمر نفسه بصبر جميل لا جزع فيه ، أو لا شكوى فيه ، وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عنه فقال : " صبر لا شكوى فيه ، من بث فلم يصبر " { الْمُسْتَعَانُ } على الصبر الجميل ، أو على احتمال ما تصفون أو تكذبون ابتُلي يعقوب في كبره ويوسف في صغره .
(2/459)

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
{ فَأَدْلَىَ دَلْوَهُ } أرسلها ليملأها ، ودلاها أخرجها ملأى فلما أرسلها تعلق بها يوسف { بشراي } بشرهم بذلك ، أو نادى رجلاً اسمه { يَابُشْرَى } يعلمه بالغلام ، وألقي فيه وهو ابن سبع عشرة سنة ، أو ست سنين . وأخرجته السيارة بعد ثلاثة أيام { وَأَسَرُّوهُ } كان أخوته بقرب الجب فلما أخرج قالوا : هذا عبدنا أوثقناه فباعوه وأسروا بيعه بثمن جعلوه بضاعة لهم " ع " ، أو أسرَّ ابتياعه الذي وردوا الجب من أهل الرفقة لئلا يشركوهم وتواصوا أنها بضاعة استبضعناها من أهل الماء ، أو أسر مشتروه بيعه من الملك لئلا يعلم أصحابهم وذكروا أنه بضاعة .
(2/460)

وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{ وَشَرَوْهُ } باعه إخواته من السيارة " ع " ، أو السيارة من الملك . { بَخْسٍ } حرام لأنه ثمن حر " ع " ، أو ظلم ، أو قليل { مَعْدُودَةٍ } عشرين أقتسمها العشرة كل واحد درهمين " ع " ، أو اثنين وعشرين اقتسمها الأحد عشر لكل واحد درهمين ، أو أربعين درهماً : قال السدي : اشتروا بها خفافاً ونعالاً { مَعْدُودَةٍ } غير موزونة لزهدهم فيه ، أو كانوا لا يزنون أقل من أوقية وهي أربعون وكان ثمنه أقل منها . { وَكَانُواْ فِيهِ } إخوته زهدوا فيه لما صنعوا به ، أو السيارة لأنهم باعوه بما باعوا لعلمهم حريته ، أو ظنوه عبداً فخافوا أن يظهر عليهم مالكه فيأخذه ، قال عكرمة أُعتق يوسف لما بيع .
(2/461)

وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
{ الَّذِى اشْتَرَاهُ } العزيز ملك مصر " أطيفر بن روجيب " . وامرأته " راعيل " ، أو اسمه " قطفير " وكان على خزائن مصر ، والملك حينئذ " الوليد بن الرياني " من العماليق " ع " ، وباعه مالك بن دعر بعشرين ديناراً وزاده الملك بَغْلَة ونعلين { أَكْرِمِى } أجملي منزله ، أو أحلي منزلته بطيب الطعام ولين المرقد واللباس . { يَنفَعَنَآ } بالربح في ثمنه ، أو نعتقه ونتبناه . قال ابن مسعود : أحسن الناس فراسة ثلاثة : العزيز وابنة شعيب وأبو بكر رضي الله تعالى عنه في استخلافه عمر رضي الله تعالى عنه { مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرْضِ } بإخراجه من الجب ، أو باستخلاف الملك له { عَلَى أَمْرِهِ } أمر الله تعالى فيما أراده فيقول له كن فيكون ، أو أمر يوسف حتى يبلغ في مراده .
(2/462)

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
{ أَشُدَّهُ } أشد يوسف عشرون سنة ، أو ثلاثون سنة ، والأشد قوة الشباب وهو الحلم ، أو ثماني عشرة سنة " ع " ، أو خمس وعشرون أو ثلاثون ، أو ثلاث وثلاثون ، وآخر الأشد أربعون ، أو ستون { حُكْماً } على الناس ، أو عقلاً ، أو حكمة في أفعاله ، أو القرآن ، أو النبوة { وَعِلْماً } فقهاً ، أو نبوة { الْمُحْسِنِينَ } المطيعين ، أو المهتدين " ع " .
(2/463)

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا } " راعيل " امرأة العزيز " أطفير " أو زليخة وكان العزيز لا يأتي النساء . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اقتسم يوسف وحواء الحسن نصفين . { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } بكثرة الأغلاق ، أو بشدة الاستيثاق { هَيْتَ لَكَ } هلم لك { هِئتُ لك } تهيأت لك ، و " هيت " قبطية " ع " ، أو سريانية ، أو عربية . { إِنَّهُ رَبَّى } الله { أَحْسَنَ مَثْوَاىَ } ، فلا أعصيه ، أو العزيز أو أطفير ربي سيدي أحسن مثواي فلا أخونه .
(2/464)

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
{ هَمَّتْ بِهِ } شهوة ، أو استلقت له وتهيأت لوقاعه { وَهَمَّ } بضربها ، أو التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها ، أو كان همه عظة ، أو كان همه حديث نفس من غير عزم ، أو همه ما في طباع الرجال من شهوة النساء وإن كان قاهراً له ، أو عزم على وقاعها فحل الهميان وهو السراويل وجلس منها مجلس الرجل من المرأة " ع " ، وجمهور المفسرين ، وابتلاء الأنبياء بالمعاصي ليكونوا على وجل ويجدُّوا في الطاعة ، أو ليعرفهم نعمته عليهم بالصفح والغفران ، أو ليقتدى بهم المذنبون في الخوف والرجاء عند التوبة . { بُرهَانَ رَبِّهِ } نودي أتزني فتكون كطائر وقع رشه فذهب يطير فلم يستطع ، أو رأى صورة أبيه يقول أتهم بفعل السفهاء وأنت مكتوب في الأنبياء فخرجت شهوته من أنامله ، وولد لكل من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكراً إلا يوسف لم يولد له إلا غلامين ونقص بتلك الشهوة ولده ، أو رأى مكتوباً على الحائط { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] ، أو رأى أطفير سيده ، أو ما أتاه الله تعالى من العفاف والصيانة وترك الفساد والخيانة ، أو رأى ستراً فقال : ما وراء هذا فقالت : صنمي الذي أعبده سترته حياء منه فقال : إذا استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر فأنا أحق أن أستحي من إلهي وأتوقاه . { السُّوءَ } الشهوة { وَالْفَحْشَآءَ } المباشرة ، أو { السُّوءَ } الثناء القبيح { وَالْفَحْشَآءَ } الزنا . { الْمُخْلَصِينَ } للطاعة و { الْمُخْلَصِينَ } للرسالة .
(2/465)

وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ } ليخرج منه هرباً وأسرعت إليه طلباً { وَقَدَّتْ } أدركته وقد فتح بعض الأغلاق فجذبته فشقت قميصه إلى ساقه فسقط عنه وتبعته . { وَالْفَيَا } وجدا { سَيِّدَهَا } زوجها بلسان القبط .
(2/466)

قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
{ هِىَ رَاوَدَتْنِى } لما كذبت عليه دافع عن نفسه بالصدق ولو كفت عن كذبها لكف عن الصدق ، ولو خلص حبها من الشهوة لما كذبت عليه { شَاهِدٌ } صبي أنطقه الله تعالى في مهده ، أو خلق من خلق الله تعالى ليس بإنس ولا جن ، أو حكيم { مِّنْ أَهْلِهَآ } ابن عمها ، أو شهادة القميص المقدود لو كان مقدوداً من قُبُل لَدلَّ على الطلب لكنه قد من دُبُر فَدَلَّ على الهرب .
(2/467)

فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
{ كَيْدِكُنَّ } كذبها ، أو إرادتها السوء ، قاله الزوج ، أو الشاهد .
(2/468)

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
{ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا } الأمر تسلية له إذ لا إثم فيه ، أو عن هذا القول تصديقاً له في براءته قاله الزوج ، لأنه لم يكن غيوراً ، أو سلبه الله تعالى الغيره إبقاء على يوسف حفظاً له من بادرته ، وأمر زوجته بالإقلاع عن مثل ذلك بالاستغفار { الْخَاطِئِينَ } خَطِىء إذا قصد الذنب وأخطأ إذا لم يقصده وكذلك الصواب والصوب .
لعمرك أنما خطئي وصوبي ... عليَّ وإنما أهلكت مالي
(2/469)

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
{ نِسْوَةٌ } أربع ، امرأة الحاجب ، وامرأة الساقي ، وامرأة الخباز ، وامرأة القهرمان ، أو الخامسة امرأة السجان . { فِى الْمَدِينَة } مصر ، أو عين شمس { تُرَاوِدُ فَتَاهَا } بَرَّأْن يوسف وذممنها وطعنَّ فيها { شَغَفَهَا } ولج حبه شغاف قلبها وهو حجابه ، أو غلافه : جلدة رقيقة بيضاء تكون عليه وتسمى لباس القلب ، أو باطن القلب ، أو حبته ، أو داء يكون في الجوف ، أو الذعر والفزع الحادث عن شدة الحب ، والشغف : الحب القاتل والشعف دونه " ع " ، أو الشغف الجنون والشعف الحب { ضَلالٍ } عن الرشد ، أو محبة شديدة .
(2/470)

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
{ بِمَكْرِهِنَّ } إنكارهن ، أو أسرَّت إليهن حبها له فَأَذعْنه ، { وَأَعْتَدَتْ } من الإعتاد ، أو العدوان { مُتَّكَئاً } مجلساً ، أو النمارق والوسائد التي يتكأ عليها ، أو الطعام من قولهم : اتكأنا عند فلان أي طعمنا عنده لأنهم كانوا يعدون المتكأ للمدعو إلى الطعام فسمي به الطعام توسعاً والمراد به هنا البزماورد ، أو الأترج " ع " " والمتك " مجفف الأترج ، أو كل ما يحز بالسكين ، أو عام في كل الطعام . { أَكْبَرْنَهُ } أعظمنه " ع " ، أو وجدن شبابه في الحسن والجمال كبيراً ، أو حِضْنَ ، والمرأة إذا جزعت أو خارت حاضت والإكبار الحيض ، قال :
نأتي النساء على أطهارهن ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكباراً
{ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ } حتى بانت ، أو جرحنها حتى دميت . { حَاشَ لِلَّهِ } معاذ الله أو سبحان الله . مأخوذ من المراقبة ، ما أحاشي في هذا الأمر أحداً أني ما أراقبه ، أو من قولهم : كنت في حشا فلان أي ناحيته ، فحاشى فلاناً أي أعزله في حشا وهو الناحية { بَشَراً } أهل للمباشرة ، أو من جملة البشر لما علمن من عفته إذ لو كان بشراً لأطاعها ، أو شبهنه بالملائكة حسناً وجمالاً { كَرِيمٌ } مبالغة في تفضيله في جنس الملائكة .
(2/471)

قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
{ أَصْبُ } أتابع ، أو أميل ، قال :
إلى هند صبا قلبي ... وهند مثلها يصبى
{ الأَيَاتِ } قدِّ القميص وقطع الأيدي ، أو ما ظهر من عفته وجماله { حِينٍ } هنا ستة أشهر ، أو سبع سنين ، أو زمان غير محدود ، قالت لزوجها : قد فضحني هذا العبد العبراني ، وقال : إني راودته عن نفسي فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فحبسه .
(2/472)

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
{ الأَيَاتِ } قدِّ القميص وقطع الأيدي ، أو ما ظهر من عفته وجماله { حِينٍ } هنا ستة أشهر ، أو سبع سنين ، أو زمان غير محدود ، قالت لزوجها : قد فضحني هذا العبد العبراني ، وقال : إني راودته عن نفسي فإما أن تطلقني حتى أعتذر وإما أن تحبسه كما حبستني فحبسه .
(2/473)

وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
{ فَتَيَانِ } عبدان والعبد يسمى فتى صغيراً كان أو كبيراً ، كان أحدهما على طعام الملك الأكبر " الوليد بن الريان " والآخر ساقية فاتُّهما بسمه ، فلما دخلا معه سألاه عن علمه فقال : عابر ، فسألاه عن رؤياهما صدقاً منهما ، أو كذباً ليجربا علمه فلما أجابهما قالا : كنا نلعب فقال : { قُضِيَ الأمر } الآية [ يوسف : 41 ] ، أو كان المصلوب كاذباً والآخر صادقاً . { خَمْراً } عنباً سماه بما يؤول إليه ، أو أهل عمان يسمون العنب خمراً . { الْمُحْسِنِينَ } قالوه لأنه كان يعود مريضهم ويعزي حزينهم ويوسع على من ضاق مكانه منهم ، أو كان يأمرهم بالصبر ويعدهم بالأجر ، أو كان لا يرد عذر معتذر ويقضي حق غيره ولا يقضي حق نفسه ، أو ممن أحسن العلم ، أو نراك من المحسنين إن نبأتنا بتأويل هذه الرؤيا .
(2/474)

قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
{ تُرْزَقَانِهِ } لا يأتيكما في النوم إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة قبل إتيانه ، أو لا يأتيكما في اليقظة إلا أخبرتكما به لأنه كان يخبر عن الغيب كعيسى ، أو كان الملك إذا أراد قتل إنسان أرسل إليه طعاماً معروفاً فكره يوسف تعبيرها لئلا يحزنه فوعده بتأويلها عند وصول الطعام إليه فلما ألح عليه عبّرها له ، قاله ابن جريج { ذَلِكُمَا } تأويل الرؤيا ، وعدل عن العبارة إلى قوله : { تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ } لما مكان في عبارتها من الكراهة ، ورغبهما في طاعة الله تعالى .
(2/475)

وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا } بالنبوة { وَعَلَى النَّاسِ } بأن بعثنا إليهم " ع " .
(2/476)

مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
{ الْقَيِّمُ } المستقيم ، أو الحساب البَيَّن ، أو القضاء الحق " ع " .
(2/477)

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
{ قَُضِىَ الأَمْرُ } السؤال والجواب . أو استقصى التأويل ، ويجوز أن يكون قوله ذلك عن وحي .
(2/478)

وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
{ ظَنَّ } تيقن ، أو على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن فلم يقطع بها ، أو لم يقطع بصدقها فكان ظنه لشكه في صدقهما { رَبٍّكَ } سيدك " الوليد بن الريان " رجاء للخلاص بذكره عنده { فَأَنسَاهُ } الضمير للساقي نسي ذكر يوسف عند ربه ، سيده ، أو ليوسف نسي ذكر الله تعالى بالاستغاثة به ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قال اذكرني عند ربك ما لبث في السجن ما لبث " قال " ع " : عوقب بطول السجن بضع سنين بكلمته ولو ذكر ربه لخلصه . وكانت مدة لبثه في السجن سبع سنين ، أو ثنتي عشرة سنة ، أو أربع عشرة سنة ، والبضع منها مدة عقوبته على الكلمة لا مدة الحبس كله ، قبل لبث سبعاً عقوبة بعد الخمس . والبضع من ثلاث إلى سبع ، أو تسع ، أو عشر " ع " ، أو إلى الخمس حكاه الزجاج ، ولا يذكر البضع إلا مع العشر أو العشرين إلى التسعين ولا يذكر بعد المائة ، قاله الفراء ، ورأى الملك الأكبر الوليد رؤياه لطفاً بيوسف ليخرج من السجن ونذيراً بالجدب ليتأهبوا له .
(2/479)

قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
{ أَضْغَاثُ } أخلاط ، أو ألوان ، أو أهاويل ، أو أكاذيب ، أو شبهة أحلام ، أبو عبيدة : الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا ، قال :
كضِغث حُلم غُرَّ منه حالِمه ... والضِغث حزمة الحشيش المجموع بعضه إلى بعض ، وقيل ما ملأ الكف . والأحلام في النوم مأخوذة من الحِلْم وهو الأناة والسكون ، لأن النوم حال أناةٍ وسكون ، ويجوز أن يكونوا صرفوا عن عبارتها لطفاً بيوسف ليكون سبباً في خلاصه .
(2/480)

وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
{ أُمَّةٍ } حين " ع " ، أو نسيان . أو أمة من الناس ، قال الحسن رضي الله تعالى عنه ألقوه في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة ، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة . { فَأَرْسِلُونِ } لم يكن السجن في المدينة فانطلق إليه وذلك بعد أربع سنين من فراقه .
(2/481)

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
{ سُنبُلاتٍ خُضْرٍ } بقر الخصب سمان وسنابله خضر ، وبقر الجدب عجاف وسنابلها يابسات فعبّر ذلك بالسنين . { النَّاسِ } الملك وقومه ، ويحتمل أنه عبّر بالناس عن الملك تعظيماً له .
(2/482)

قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
{ دَأَباً } تباعاً ، أو العادة المألوفة في الزراعة . { تَزْرَعُونَ } خبر أو أمر لأنه نبي يأمر بالمصالح . { فَذَرُوهُ } أمر لأن ما في السنبل مدخر لا يؤكل .
(2/483)

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
{ شِدَادٌ } على أهلها لجدبها ، كان يوسف يضع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه ويدع نصفاً ، فقربه إليه يوماً فأكله كله فقال يوسف هذا أول يوم من السبع الشداد ، { قَدَّمْتُمْ } ادخرتم لهن . { تُحْصِنُونَ } تدخرون ، أو تخزنون في الحصون .
(2/484)

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{ يُغَاثُ النَّاسُ } بنزول الغيب " ع " ، أو بالخصب { يَعْصِرُونَ } العنب والزيتون من خصب الثمار ، أو يحلبون الماشية من خصب المرعى ، أو يعصرون السحاب بنزول الغيث وكثرة المطر { مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] أو ينجون من العصرة وهي النجاة ، قاله أبو عبيدة والزجاج ، أو يحبسون ويفضلون . وليس هذا من تأويل الرؤيا وإنما هو خبر أطلعه الله تعالى عليه علماً لنبوته .
(2/485)

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
{ ارْجِعْ إِلَىَ رَبِّكَ } توقف عن الخروج لئلا يراه الملك خائناً ولا مذنباً . قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رحم الله يوسف أن كان ذا أناة لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليَّ لخرجت سريعاً " { مَا بَالُ النِّسْوَةِ } سأل عنهن دونها إرادة أن لا يبتذلها بالذكر ، أو لأنهن شاهدات عليه . { إِنَّ رَبِّى } الله تعالى أو سيده العزيز .
(2/486)

قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
{ رَاوَدتُّنَّ } راودنه على طاعتها فيما طلبت منه ، أو راودته وحدها فجمعهن احتشاماً . { مَا عَلِمْنَا } شهدن على نفي علمهن لأنه نفى { حَصْحَصَ الْحَقُّ } وضح وبان " ع " ، وفيه زيادة تضعيف مثل كبو وكبكبوا قاله الزجاج ، مأخوذ من حص شعره إذا استأصل قطعه ، والحصة من الأرض قطعة منها ، فحصحص الحق انقطع عن الباطل بظهوره وبيانه . { أَنَاْ رَاوَدتُّهُ } برأة الله تعالى عند الملك بشهادة النسوة وبإقرار امرأة العزيز واعترافها بذلك توبة بما قرفته به .
(2/487)

ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
{ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } يوسف أني لم أكذب عليه الآن في غيبته .
(2/488)

وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } لأن راودته ، لأن النفس باعثة على السوء إذا غلبت الشهوة ، قالته امرأة العزيز ، أو قال يوسف بعد ظهور صدقه { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } العزيز أني لم أخنه في زوجته ، فقالت امرأة العزيز : ولا حين حللت السراويل ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } ، أو غمزه جبريل عليه السلام فقال : ولا حين هممت ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } " ع " أو قال الملك الذي مع يوسف : اذكر ما هممت به ، فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } قاله الحسن رضي الله تعالى عنه ، أو قال العزيز { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ } يوسف { أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ } وأغفل عن مجازاته على أمانته { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِى } من سوء الظن به .
(2/489)

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
{ أَسْتَخْلِصْهُ } لما علم الملك الأكبر أمانته طلب استخدامه في خاص خدمته { مَكِينٌ } وجيه ، أو متمكن في الرفعة والمنزلة { أَمِينٌ } آمن لا يخاف العواقب ، أو ثقة مأمون ، أو حافظ { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } استدل بكلامه على عقله ، وبعفته على أمانته .
(2/490)

قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
{ خَزَآئِنِ } الأموال ، أو الطعام ، أو الخزائن : الرجال ، لأن الأقوال والأفعال مخزونة فيهم ، وهذا تعمق مخالف للظاهر ، وهذا مجوز لطلب الولاية لمن هو أهل لها ، فإن كان المولى ظالماً جاز تقلد الولاية منهم إذا عمل الوالي بالحق لأن يوسف قبل من فرعون ، أو لا يجوز ذلك لما فيه من تولي الظالمين ومعونتهم بالتزكية وتنفيذ أعمالهم ، وإنما قبل يوسف من الملك ولاية ملكه الخاص به ، أو كان فرعون يوسف صالحاً وكان فرعون موسى طاغياً ، والأصح أن ما جاز لأهله توليه من غير اجتهاد في تنفيذه جازت ولايته من الظالم كالزكوات المنصوصة ، وما لا يجوز أن ينفردوا به كأموال الفيء لا يجوز توليه من الظالم ، وما يجوز أن يتولاه أهله وللاجتهاد فيه مدخل كالقضاء فإن كان حكماً بين متراضيين أو توسطا بين مجبورين جاز ، وإن كان إلزام إجبار لم يجز . { حَفِيظٌ } لما استودعتني . { عَلِيمٌ } بما وليتني ، أو { حَفِيظٌ } بالكتاب ، { عَلِيمٌ } بالحساب ، وهو أول من كتب في القراطيس ، أو { حَفِيظٌ } للحساب { عَلِيمٌ } بالألسن أو { حَفِيظٌ } بما وليتني ، { عَلِيمٌ } بسني المجاعة ، فيه دليل على جواز تزكية النفس عند حاجة تدعو إلى ذلك .
(2/491)

وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
{ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } استخلفه الوليد على عمل أطيفر وعزله ، قال مجاهد : وأسلم على يده ، قال " ع " : ملك بعد سنة ونصف . ثم مات أطيفر فزوجه الملك بامرأته راعيل فوجدها يوسف عذراء ، وولدت له ولدين ، أفرائيم وميشا ، ومن زعم أنها زليخا قال لم يتزوجها يوسف ، ولما رأته في موكبه بكت ثم قالت الحمد لله الذي جعل الملوك بالمعصية عبيداً والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكاً فضمها إليه فكانت من عياله حتى ماتت ولم يتزوجها . { يَتَبَوَّأُ } يتخذ من أرض مصر منزلاً حيث شاء ، أو يصنع في الدنيا ما يشاء لتفويض الأمر إليه . { بِرَحْمَتِنَا } نعمة الدنيا ، { وَلا نُضِيعُ } ثواب { الْمُحْسِنِينَ } في الآخرة ، أو كلاهما في الدنيا ، أو كلاهما في الآخرة ، ونال يوسف ذلك ثواباً على بلواه ، أو تفضلاً من الله تعالى وثوابه باقٍ في الآخرة بحاله .
(2/492)

وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
{ وَلأَجْرُ الأَخِرَةِ خَيْرٌ } من أجر الدنيا لأنه دائم وأجر الدنيا منقطع ، أو خير ليوسف من التشاغل بملك الدنيا لما فيه من التبعة .
(2/493)

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
{ فَعَرَفَهُمْ } من غير تعريف ، أو ما عرفهم حتى تعرفوا إليه ، أو عرفهم بلسانهم العبراني ، قال " ع " : لما عبر أبوهم بهم فلسطين فنزل وراء النهر سموا عبرانيين . وجاءوا ليمتاروا في سني القحط التي ذكرها يوسف في عبارته فدخلوا عليه لأنه كان يتولى بيع الطعام لعزته . { مُنكِرُونَ } لانهم فارقوه صغيراً فكبر ، وفقيراً فاستغنى ، وباعوه عبداً فصار ملكاً .
(2/494)

وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
{ بِجَهَازِهِم } كال لكل واحد منهم بعيراً بعدتهم . { ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ } خلا بهم وقال قد ارتبت بكم وأخشى أن تكونوا عيوناً فأخبروني من أنتم؟ فذكروا حالهم وحال أبيهم وأخوتهم يوسف وبنيامين ، فقال : أئتوني بهذا الأخ يظهر أنه يستبرىء بذلك أحوالهم ، أو ذكروا له أنه أحب إلى أبيهم منهم فأظهر لهم محبة رؤيته { الْمُنزِلِينَ } المضيفين من النزل وهو الطعام ، أو خير من نزلتم عليه من المنزل وهو الدار ، وطلب منهم رهينة حتى يرجعوا فرهنوا شمعون ، واختاره لأنه كان يوم الجب أجملهم قولاً ورأياً .
(2/495)

قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
{ سَنُرَاوِدُ } المراودة : الاجتهاد في الطلب مأخوذ من الإرادة { لَفَاعِلُونَ } العود بأخيهم ، أو المراودة وطلب أخاه وإن كان فيه إحزان أبيه لجواز أن يكون أمر بذلك ابتلاء ومحنة أو لتتضاعف له المسرة برجوع الابنين ، أو ليتنبه أبوه على حاله ، أو ليقدم سرور أخيه بلقائه قبل إخوته لميله إليه .
(2/496)

وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
{ لفتيته } الذين كالوا الطعام ، أو غلمانه { بِضَاعَتَهُمْ } الورق التي اشتروا بها الطعام ، أو ثمانية جُرُب فيها سويق المقل .
(2/497)

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
{ رَجَعُواْ إِلَى أَبِيهِمْ } بالعربات من فلسطين ، أو بالأولاج من ناحية الشعب أسفل من [ حِسمى ] ، وكانوا بادية أهل إبل وشاء { مُنِعَ } سيمنع { نَكْتَلْ } أي إن أرسلته أمكننا أن نعود فنكتال .
(2/498)

قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{ هَلْ ءَامَنُكُمْ } لما ضمنوا حفظ يوسف وأضاعوه قال لهم ذلك في حق أخيه .
(2/499)

وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
{ مَا نَبْغِى } استفهام أي ما نبغي بعد هذا الذي عاملنا به أو ما نبغي بالكذب فيما أخبرناك به عن الملك . { كَيْلَ بَعِيرٍ } الذي نحمل عليه أخانا ، أو كان يوسف قَسَّط الطعام فلا يعطي لأحد أكثر من بعير { يَسِيرٌ } لا يقنعنا ، أو يسير على من يكتله لنا .
(2/500)

قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
{ مَوْثِقاً } إشهادهم الله على أنفسهم ، أو حلفهم بالله ، أو كفيل يكفل { يُحَاطََ بِكُمْ } يهلك جميعكم ، أو تغلبوا على أمركم .
(3/1)

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
{ لا تَدْخُلُواْ } مصر من باب من أبوابها عند الجمهور ، أو عبّر عن الطريق بالباب فأراد طريقاً من طرقها خشي عليهم العين لجمالهم ، " ع " ، أو خاف عليهم الملك أن يرى عددهم وقوتهم فيبطش بهم حسداً . { وَمَآ أُغْنِى عَنكُم } من شيء أحذره أشار بالرأي أولاً ، وفوض إلى الله أخيراً .
(3/2)

وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{ حَاجَةً } سكون نفسه بالوصية لحذره العين { لَذُو عِلْمٍ } متيقن وعدنا ، أو حافظ لوصيتنا ، أو عامل بما علم .
(3/3)

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
{ أَنَاْ أَخُوكَ } مكان أخيك الهالك ، أو أخوك يوسف { فَلا تَبْتَئِسْ } لا تحزن ، أو لا تأيس . { يَعْمَلُونَ } بك وبأخيك فيما مضى ، أو باستبدادهم دونك بمال أبيك .
(3/4)

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
{ بِجَهَازِهِمْ } الطعام وحمل البعير لأخيهم { السِّقَايَةَ } والصواع واحد " ع " ، وكل شيء يشرب فيه فهو صواع ، قال :
نشرب الخمر بالصواع جهارا ... وترى المتك بيننا مستعارا
وكان إناء الملك الذي يشرب فيه من فضة ، أو ذهب ، كال به طعامهم مبالغة في إكرامهم ، أو هو المكوك العادي الذي تلتقي طرفاه . { أَذَّنَ } نادى مناد { الْعِيرُ } الرفقة ، أو الإبل المرحولة المركوبة . { لَسَارِقُونَ } جَعْلُ السقاية في رحل أخيه عصيان ، فعله الكيّال ولم يأمر به يوسف ، أو فعله يوسف فلما فقد الكيال السقاية ظن أنهم سرقوها فقال : { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ، أو كانت خطيئة ليوسف جوزي عليه بقولهم : { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } [ يوسف : 77 ] أو كان النداء بأمر يوسف وعني بالسرقة سرقتهم ليوسف من أبيه وذلك صدق ، لأنهم كالسارق لخيانتهم لأبيهم .
(3/5)

قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{ صُوَاعَ } الصواع والصاع واحد ، وكانت مشربة للملك أو كالمكوك يكال به . { بَعِيرٍ } جمل عند الجمهور ، أو حمار في لغة . بذله المنادي عن نفسه لقوله : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } ، أو بذله عن الملك من الطعام الملك ويجوز أن يكون الحمل معلوماً عندهم كالوسق فيكون جعلاً معلوماً ، ويمكن أن يكون مجهولاً .
(3/6)

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
{ لَقَدْ عَلِمْتُم } ذكروا ذلك لأنهم عرفوا أمانتهم بردهم البضاعة التي وجدوها في رحالهم { لِنُفْسِدَ } لنسرق .
(3/7)

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
{ جَزَآؤُهُ } جزاء من سرق أن يسترق كذلك يُجزى السارق بالاسترقاق ، كان هذا دين يعقوب .
(3/8)

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
{ اسْتَخْرَجَهَا } الضمير للسرقة ، أو للسقاية ، أو الصاع يذكر ويؤنث قاله الزجاج { كِدْنَا } صنعنا ، أو دبرنا ، أو أردنا .
كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
{ دِينِ الْمَلِكِ } سلطانه " ع " ، أو قضاؤه ، أو عادته ، كان الملك يضاعف غرم السارق ولا يسترقه . { إلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } أن يسترق السارق ، أو أن يجعل ليوسف عذراً فيما فعل . { دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } بالتقوى ، أو بإجابة الدعاء ، أو بمكابدة النفس وقهر الشهوة ، أو بالتوفيق والعصمة ، أو بالعمل { وَفَوْقَ كُلِّ } عالم من هو أعلم منه حتى ينتهي إلى الله تعالى فيوسف أعلم من إخوته وفوقه من هو أعلم منه ، أو أراد تعظيم العلم أن يحاط به ، أو أن يستصغر العالم نفسه ولا يعجب بعلمه وعرض أخاه لتهمة السرقة إذ لم يجد سبيلاً إلى أخذه إلا بها ، أو كان أخوه يعلم الحال فلم يقع منه موقعاً ، أو أشار بذلك إلى سرقة تقدمت منهم ، أو نبه بجعل بضاعتهم في رحالهم على المخرج من جعل الصواع في رحل أخيهم فتزول بذلك التهمة .
(3/9)

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
{ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } كلمة أجراها الله على ألسنتهم عقوبة ليوسف ، أو أرادوا أنه جذبه عرق أخيه يوسف في السرقة لأنه كان من أبويه ، والاشتراك في النسب يوجب الاشتراك في الأخلاق ، وكان يوسف سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره وألقاه في الطريق . أو كان مع إخوته على طعام فأخذ عرقاً فخبأه فعيّروه بذلك ، أو كان يسرق من طعام المائدة للمساكين ، أو كذبوا عليه في ذلك ، أو كانت منطقة إسحاق للكبير من ولده وكانت عند عمة يوسف لأنها الكبرى فلما أراد يعقوب أخذ يوسف من كفالتها جعلت المنطقة في ثوبه ثم أظهرت ضياعها واتهمته بها فصارت في حكمهم أحق به ، وفعلت ذلك لشدة ميلها إليه . { فَأَسَرَّهَا } قولهم : { إِن يَسْرِقْ } ، أو قوله : { أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } " ع " { شَرٌّ مَّكَاناً } بظلم أخيكم . وعقوق أبيكم ، أو شر منزلة عند الله ممن نسبتموه إلى هذه السرقة . { تَصِفُونَ } تقولون ، أو تكذبون .
(3/10)

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
{ شَيْخاً كَبِيراً } في السن ، أو القدر . { مَكَانَهُ } عبداً بدله { مِنَ الْمُحْسِنِينَ } في هذا إن فعلته ، أو بإكرامنا وتوفية كيلنا ورد بضاعتنا .
(3/11)

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
{ لَّظَالِمُونَ } إن أخذنا بريئاً بسقيم ، أو حكمنا عليكم بغير حكم أبيكم في إرقاق السارق .
(3/12)

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
{ اسْتَيْئَسُواْ } من رد أخيهم عليهم ، أو تيقنوا أنه لا يرد { خَلَصُواْ نَجِيّاً } انفردوا يتناجون ويتشاورون لا يختلط بهم غيرهم { كَبِيرُهُمْ } في العقل والعلم شمعون الذي ارتهنه يوسف لما رجعوا إلى إبيهم ، أو في السن روبين ابن خالة يوسف ، أو في الرأي والتمييز يهوذا . { مَّوْثِقاً } عند أنفاذ ابنه معكم { فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } ضيعتموه { فَلَنْ أَبْرَحَ } أرض مصر حتى يأذن لي أبي بالرجوع ، أو يحكم الله لي بالخروج منها عند الجمهور ، أو بالسيف والمحاربة لأنهم هموا بذلك .
(3/13)

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
{ وَمَا شَهِدْنَآ } بأن السارق يسترق إلا بما علمنا ، أون ما شهدنا عندك بسرقته إلا بما علمنا من وجود السرقة في رحله { لِلْغَيْبِ } من سرقته ، أو استرقاقه .
(3/14)

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{ الْقَرْيَةَ } مصر سل أهلها ، أو سلها نفسها لتنطق وإن كانت جماداً { وَالْعِيرَ } القافلة وتسمى بها الإبل تشبيهاً ، أو الحمير سل أهلها أو سلها فإن الله تعالى ينطقها معجزة لك .
(3/15)

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
{ سَوَّلَتْ } زينت ، أو سهلت . { أمْرًا } قولكم إنه سرق . { بِهِمْ جَمِيعاً } يوسف وبنيامين والأخ المتخلف بمصر .
(3/16)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
{ يَآأَسَفَى } يا حزناً " ع " ، أو يا جزعاً شكا إلى الله ولم يشك منه ، أو أضمر الدعاء تقديره " يا رب أرحم أسفي " { وَابْيَضَّتْ } ضعف بصره لبياض حصل فيه من كثرة بكائه ، أو ذهب بصره { كَظِيمٌ } بالكمد ، أو مخفي حزنه ، كظم غيظه : أخفاه .
(3/17)

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
{ تَفْتَؤُاْ } لا تزال { حَرَضاً } هرماً أو دنفاً من المرض وهو ما دون الموت " ع " ، أو فاسد العقل ، وأصل الحرض فساد الجسم والعقل بمرض أو عشق ، قال :
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
{ الْهَالِكِينَ } الميتين اتفاقاً .
(3/18)

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
{ بَثِّى } همي " ع " ، أو حاجتي ، والبث تفريق لهم بإظهار ما في النفس { مَا لا تَعْلَمُونَ } صدق رؤيا يوسف وأني أسجد له ، أو أحست نفسه لما أخبروه بدعاء الملك وقال : لعله يوسف ، وقال : لا يكون في الأرض صديق إلا نبي . دخل على يعقوب رجل فقال ما بلغ بك ما أرى ، قال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب تشكوني فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي ، فكان بعد ذلك يقول إنما أشكو بثي وحزني إلى الله .
(3/19)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
{ فَتَحَسَّسُواْ } استعلموا وتعرفوا ، أخذ من طلب الشيءَ بالحس { رَّوْحِ اللَّهِ } فرجه ، أو رحمته من الريح التي تأتي بالنفع . أمرهم بذلك ، لأنه تنبه على يوسف برد البضاعة واحتباس أخيه وإظهار الكرامة ، وسأل يعقوب ملك الموت هل قبضت روح يوسف قال : لا .
(3/20)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } استعطفوه ليرد أخاهم ، أو ليوفي كيلهم ويحابيهم . { الْعَزِيزُ } الملك ، أو كان اسماً لكل من ملك مصر . { بِبِضَاعَةٍ } صوف وسمن أو حبة الخضراء والصنوبر ، أو خَلِق الحبل والغِرارة ، أو دراهم { مُّزْجَاةٍ } رديئة ، أو كاسدة ، أو قليلة ، وأصل الإزجاء السوق بالدفع ، { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } الذي قد كان كاله لأخيهم ، أو مثل الكيل الأول ، لا ، بضاعتهم الثانية أقل . { وَتَصَدَّقْ } تفضل بما بين سعر الجياد والرديئة ، لأن الصدقة محرمة على الأنبياء ، أو تصدق بالزيادة على حقنا ولا تحرم الصدقة إلا على محمد وآله لا غير ، أو برد أخينا ، أو تجوز عنا . وكره مجاهد أن يقال في الدعاء : اللهم تصدق عليَّ ، لأن الصدقة لمن يبتغي الثواب .
(3/21)

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
{ هَلْ عَلِمْتُم } قد علمتم ك { هَلْ أتى } [ الإنسان : 1 ] لما قالوا مسنا وأهلنا الضر رق لهم فقال : { هَلْ عَلِمْتُم } { جَاهِلُونَ } جهل الصغر ، أو جهل المعاصي .
(3/22)

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
{ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالسلامة ثم بالكرامة { مَن يَتَّقِ } الزنا { وَيَصْبِرْ } على الغربة ، أو يتقي الله ويصبر على بلائه . { لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } في الدنيا أو الآخرة .
(3/23)

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
{ ءَاثَرَكَ } فضلك ، من الإيثار : وهو إرادة تفضيل أحد النفسين على الآخر ، وإنما قالوا : { لَخَاطِئِينَ } وإن كانوا إذ ذاك صغاراً لأنهم خطئوا بعد البلوغ بإخفاء صنعهم .
(3/24)

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{ لا تَثْرِيبَ } لا تعيير ، أو لا تأنيب . أو [ لا ] إباء عليكم في قبولكم .
(3/25)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
{ بَصِيراً } من العمى ولولا أن الله أعلمه بأنه يبصر بعد العمى لم يعلم يوسف أنه يرجع إليه بصره ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه أو مستبصراً بأمري لأنه إذا شم القميص عرفني قال أخوه يهوذا : أنا حملت إلى أبيك قميصك بدم كذب فأحزنته فأنا أحمل القميص الآن لأسره ويعود إليه بصره فحمله . { بِأَهْلِكُمْ } ليتخذوا مصر داراً .
(3/26)

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
{ فَصَلَتِ } خرجت من مصر إلى الشام . قال : أبوهم لأولاد بنيه لأن بنيه كانوا غُيَّبا { تُفَنِّدُونِ } تسفهون " ع ، أو تكذبون ، وجد ريح القميص من مسافة عشرة أيام ، أو ثمانية أيام " ع " ، أو ستة أيام .
(3/27)

قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
{ ضَلالِكَ } خطئك ، أو جنونك قال الحسن رضي الله تعالى عنه : وهذا عقوق . أو في محبتك .
(3/28)

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
{ الْبَشِيرُ } يهوذا ، سمي بذلك لأنه جاءه ببشارة ، { بَصِيراً } من العمى ، أو بخبر يوسف { مَا لا تَعْلَمُونَ } من صحة رؤيا يوسف ، أو قول ملك الموت ما قبضت روحه ، أو من بلوى الأنبياء بالمحن ونزول الفرج ونيل الثواب .
(3/29)

قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
{ اسْتَغْفِرْ } طلبوا أن يحللهم لما أدخلوا عليه من آلام الحزن ، أو لأنه نبي تجاب دعوته ، أقام يعقوب وبنوه عشرين سنة يطلبون التوبة لإخوة يوسف فيما فعلوه بيوسف لا يقبل ذلك منهم حتى لقي جبريل عليه السلام يعقوب عليه الصلاة والسلام فعلمه هذا الدعاء ، يا رجاء المؤمنين لا تخيب رجائي ، ويا غوث المؤمنين أغثني ، ويا عون المؤمنين أعني ، ويا حبيب التوابين تُب علي . فاستُجيب له .
(3/30)

قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ } أخره إلى صلاة الليل ، أو السَّحَر أو ليلة الجمعة " ع " مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو دافعهم بالتأخير ، قال عطاء : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ألا ترى قول يوسف { لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } الآية [ يوسف : 92 ] وقول يعقوب { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ } .
(3/31)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
{ فَلَمَّا دَخَلُواْ } خرج يوسف وأهله والملك الأكبر واستقبلوا يعقوب على يوم من مصر فقال لهم : ادخلوا مصر آمنين من فرعون ، أو من الجدب والقحط . أو لم يجتمعوا به إلا بعد دخولهم عليه بمصر فقوله : ادخلوا أي استوطنوا مصر إن شاء الله استيطانكم ، أو الاستثناء متعلق بقوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّى } دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة وتسعون ألفاً [ أ ] و دخلوا وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا منها مع موسى وهم ستمائة ألف .
(3/32)

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{ أَبَوَيْهِ } أبوه وأمه ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه وابن إسحاق ، أو أبوه وخالته وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بأخيه بنيامين { الْعَرْشِ } السرير . { سُجَّداً } سجدوا له بأمر الله تعالى تحقيقاً لرؤياه ، أو كان السجود تحية من قبلنا وأعطيت هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة { تَأْوِيلُ رُءْيَاىَ } كان بين رؤياه وتأويلها ثمانون سنة ، أو أربعون ، أو ستة وثلاثون ، أو اثنان وعشرون ، أو ثماني عشر ، ورؤيا الأنبياء لا تكون إلا صادقة ، وإنما أمره يعقوب بكتامنها لأنه رآها صغيراً فلم تكن كرؤيا الأنبياء ، أو خاف طول المدة مع مكابدة البلوى وخشي تعجيل الأذى بكيد الإخوة { مِنَ السِّجْنِ } شكر على الإخراج من السجن ولم يذكر الجب لئلا يكون معرضاً بتوبيخ إخوته بعد قوله : { لا تَثْرِيبَ } أو لأنه ما تخوفه في السجن من المعرة لم يكن في الجب فكانت النعمة فيه أتم ، أو لأنه انتقل من بلوى السجن إلى نعمة الملك بخلاف الجب فإنه انتقل منه إلى الرق . { مِّنَ الْبَدْوِ } كانوا بادية بأرض كنعان أهل مواشي أو جاءوا في البادية وكانوا أهل مدن بفلسطين ، أو ناحية حران من أهل الجزيرة قاله الحسن رضي الله تعالى عنه { نَّزَغَ } حرش وأفسد . { لَطِيفٌ } لطف بيوسف بإخراجه من السجن ومجيء أهله من البدو ، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان
(3/33)

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{ مِنَ الْمُلْكِ } لأنه كان على مصر من قِبَل فرعون . { تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } عبار الرؤيا ، أو الإخبار عن حوادث الزمان { مُسْلِماً } مخلصاً للطاعة ، أو على ملة الإسلام ، قال السدي : " كان أول نبي تمنى الموت " ولما لقي البشير يعقوب قال : على أي دين خلفت يوسف قال على الإسلام قال الآن تمت النعمة . { بِالصَّالِحِينَ } أهل الجنة .
(3/34)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
{ ذَلِكَ } قصة يوسف وإخوته من أخبار الغيب { لَدَيْهِمْ } مع إخوة يوسف { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } في إلقائه في الجب .
(3/35)

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
{ مُّشْرِكُونَ } يقولون : الله ربنا وآلهتنا ترزقنا ، أو المنافق يؤمن بظاهره ويكفر بباطنه " ح " ، أو قول الرجل لولا الله وفلان لهلك فلان .
(3/36)

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
{ سَبِيلِى } دعوتي ، أو سنتي { بَصِيرَةٍ } هدى ، أو حق .
(3/37)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
{ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } الأمصار دون البوادي لأنهم أعلم وأحكم . ولم يبعث الله تعالى نبياً من البادية قط ولا من النساء ولا من الجن " ح " .
(3/38)

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
{ اسْتَيْئَسَ } من تصديق قومهم " ع " ، أو من تعذيبهم " م " . { وَظَنُّواْ } ظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم " ع " ، أو تيقن الرسل أن قومهم قد كَذَبوهم { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } جاء الرسل نصر الله ، أو جاء قومهم عذاب الله " ع " { فَنُجِّىَ } الأنبياء ومن آمن معهم .
(3/39)

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
{ قَصَصِهِمْ } قصص يوسف وإخوته اعتبار للعقلاء بنقل يوسف من الجب والسجن والذل والرق إلى العز والملك والنبوة فالذي فعل ذلك قادر على نصر محمد صلى الله عليه وسلم وإعزاز دينه وإهلاك عدوه . { مَا كَانَ } القرآن { حَدِيثاً } يُختلق { وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } من التوراة والإنجيل وسائر الكتب ، أو ما كان القصص المذكور حديثاً يُختلق ولكن تصديق الذي بين يديه من الكتب .
(3/40)

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{ ءَايَاتُ الْكِتَابِ } الزبور ، أو التوراة والإنجيل ، أو القرآن .
(3/41)

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
{ بِغَيْرِ عَمَدٍ } لها عمد لا ترى " ع " ، أو لا عمد لها .
(3/42)

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
{ رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت ، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها { وَأَنْهَاراً } ينتفع بها شرباً وإنباتاً ومغيضاً للأمطار ومسالك للفلك { زَوْجَيْنِ اثْنَيِنِ } أحدهما ذكر وانثى كفحال النخل وإناثها ، وكذلك كل النبات وإن خفي . والزوج الأخر حلو وحامض ، أو عذب وملح ، أو أبيض وأسود ، أو أحمر وأصفر فإن كل جنس من الثمار نوعان فكل ثمرة ذات نوعين زوجين فصارت أربعة أنواع { يُغشي } ظلمة الليل ضوء النهار ، ويغشي ضوء النهار ظلمة الليل .
(3/43)

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
{ مُّتَجَاوِرَاتٌ } في المدى مختلفات عَذِية تنبت وسبخة لا تنبت { صِنْوَانٌ } مجتمع وغيره مفترق ، أو صنوان نخلات أصلها واحد وغيرها أصولها شتى ، أو الصنوان الأشكال وغيره المختلف ، أو الصنوان الفسيل يقطع من أمهاته فهو معروف وغيره ما ينبت من النوى فهو مجهول حتى يعرف ، وأصل النخل الغريب من هذا . { وَنُفَضِّلُ } فمنه الحلو والحامض والأحمر والأصفر القليل والكثير { إِنَّ فِى } اختلافها { لأَيَاتٍ } على عظم قدرته . أو ضربه مثلاُ لبني آدم أصلهم واحد واختلفوا في الخير والشر والإيمان والكفر كالثمار المسقية بماء واحد " ح " .
(3/44)

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
{ وَإن تَعْجَبْ } من تكذيبهم لك فأعجب منه تكذيبهم بالبعث ، ذكر ذلك ليعجب رسوله صلى الله عليه وسلم والتعجب تغير النفس بما خفيت أسبابه ولا يجوز ذلك على الله عز وجل .
(3/45)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ بِالسَّيِّئَةِ } بالعقوبة قبل العافية ، أو الشر قبل الخير ، أو الكفر قبل الإجابة { الْمَثُلاتُ } الأمثال المضروبة لمن تقدم ، أو العقوبات التي مثل الله بها من مضى من الأمم . وهي جمع مثلة { عَلَى ظُلْمِهِمْ } يغفر الظالم السالف للتوبة في المستأنف ، أو يعفو عن تعجيل العذاب مع ظلمهم بتعجيل العصيان ، أو يغفر لهم بالإنظار توقعاً للتوبة ، ولما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ، ولولا وعيده عقابه لاتكل كل أحد " .
(3/46)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
{ هَادٍ } الله " ع " ، أو نبي ، أو قادة ، أو دعاة ، أو عمل ، أو سابق يسبقهم إلى الهدى .
(3/47)

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
{ مَا تَحْمِلُ } من ذكر أو أنثى { وَمَا تَغِيَضُ } بالسقط الناقص . { وَمَا تَزْدَادُ } بالولد التام " ع " ، أو بالوضع لأقل من تسعة أشهر { وَمَا تَزْدَادُ } بالوضع لأكثر من التسعة ، قال الضحاك حملتني أمي سنتين ووضعتني وقد خرجت سني ، أو بانقطاع الحيض مدة الحمل غذاء للولد { وَمَا تَزْدَادُ } بدم النفاس بعد الوضع ، أو بظهور الحيض على الحمل ، لأنه ينقص الولد { وَمَا تَزْدَادُ } في مقابلة أيام الحيض من أيام الحمل ، لأنها كلما حاضت على حملها يوماً زادت في طهرها يوماً حتى يستكمل حملها تسعة أشهر طهراً قاله عكرمة وقتادة { وَكُلُّ شَىْءٍ } من الرزق والأجل { عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } .
(3/48)

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
{ سَوَآءٌ مِّنكُم } في علمه { مَّنْ أَسَرَّ } خيراً أو شراً ، أو جهر بهما { مُسْتَخْفِ } بعمله في ظلمة الليل ومن أظهره بضوء النهار ، أو يرى ما أخفاه الليل كما يرى ما أظهره النهار ، والسارب : المنصرف الذاهب ، من السارب في المرعى وهو بالعشي ، والروح بالغداة .
(3/49)

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
{ مُعَقِّبَاتٌ } ملاكة الليل والنهار يتعاقبون صعوداً ونزولاً ، اثنان بالنهار واثنان بالليل يجتمعون عند صلاة الفجر ، أو حراس الأمراء يتعاقبون الحرس " ع " أو ما يتعاقب من أوامر الله وقضائه في عبادة { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أمامه وورائه ، أو هداه وضلاله . { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بأمر الله ، أو تقديره معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، أو معاقبته من الحرس يحفظونه عند نفسه من أمر الله ولا راد لأمره ولا دافع لقضائه " ع " ، أو يحفظونه حتى يأتي أمر الله فيكفوا " ع " ، أو أمر الله : الجن والهوام المؤذي تحفظه الملائكة منه ما لم يأتِ قدر ، أو يحفظونه من أمر الله وهو الموت ما لم يأتِ أجل وهي عامة في جميع الخلائق عند الجمهور ، أو خاصة في الرسول صلى الله عليه وسلم لما أزمع عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة على قتله فمنعه الله تعالى ونزلت { سُوءًا } عذاباً { وَالٍ } ملجأ ، أو ناصر .
(3/50)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
{ خَوْفاً } من صواعقه { وَطَمَعاً } في نزول غيثه ، أو خوفاً للمسافر من أذيته وطمعاً للمقيم في بركته . { الثِّقَالَ } بالماء .
(3/51)

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
{ الرَّعْدُ } الصوت المسموع ، أو ملك والصوت المسموع تسبيحه { خِيفَتِهِ } الضمير لله تعالى ، أو للرعد ، { الصَّوَاعِقَ } نزلت في رجل أنكر القرآن وكذب الرسول صلى الله عليه وسلم فأخذته صاعقة ، أو في أربد لما هم بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم مع عامر بن الطفيل فيبست يده على سيفه ثم انصرف فأحرقته صاعقة فقال أخوه لبيد :
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السِّماكِ والأسد
فجعني البرق والصواعق بالفا ... رس يوم الكريهة النَجُد
أو نزلت في يهودي قال للرسول صلى الله عليه وسلم أخبرني عن ربك من أي شيء هو من لؤلؤ أو ياقوت فجاءت صاعقة فأحرقته " ع " { يُجَادِلُونَ } قول اليهودي ، أو جدال أربد لما همَّ بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم { الْمِحَالِ } العداوة " ع " ، أو الحقد " ح " ، أو القوة " م " أو الغضب أو الحيلة أو الحول " ع " ، أو الهلاك بالمَحْل وهو القحط " ح " ، أو الأخذ أو الأنتقام .
(3/52)

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{ دَعْوَةُ الْحَقِّ } لا إله إلا الله " ع " ، أو الله هو الحق فدعاؤه دعوة الحق ، أو الإخلاص في الدعاء { لا يَسْتَجِيبُونَ } لا يجيبون دعاءهم ولا يسمعون نداءهم والعرب يمثلون كل من سعى فيما لا يدركه بالقابض على الماء قال :
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد
{ كَبَاسِطِ } الظمآن يدعو الماء ليبلغ إلى فيه ، أو يرى خياله في الماء وقد بسط كفيه فيه { لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } لكذب ظنه وسوء توهمه " ع " ، أو كباسط كفيه ليقبض عليه فلا يحصل في كفه منه شيء .
(3/53)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
{ طَوْعاً } المؤمن { وَكَرْهاً } الكافر ، أو طوعاً من أسلم راغباً وكرهاً من أسلم بالسيف راهباً { وَظِلالُهُم } يسجد ظل المؤمن معه طائعاً وظل الكافر كارهاً . { وَالأَصَالِ } جمع أُصُل وأُصُل جمع أصيل وهو العشي ما بين العصر والمغرب .
(3/54)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
{ لا يَمْلِكُونَ } إذ لم يملكوا لأنفسهم جلب نفع ولا دفع ضر فأولى أن لا يملكوا ذلك لغيرهم . { الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } المؤمن والكافر { الظُّلُمَاتُ وَالْنُّورُ } الضلالة والهدى { فَتَشَابَهَ } لما لم تخلق آلهتهم خلقاً يشبته عليهم بخلق الله فلِمَ اشتبه عليهم حتى عبدوها كعبابدة الله؟
(3/55)

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
{ بِقَدَرِهَا } الكبير بقدره والصغير بقدره { رَّابِياً } مرتفعاً { حِلْيَةٍ } الذهب والفضة { أو مَتَاعٍ } الصفر والنحاس . { زَبَدٌ } خبث كزبد الماء الذي لا ينتفع به { جُفَآءً } منتشفاً ، أو جافياً على وجه الأرض ، أو ممحقاً ومن قرأ { جُفالاً } أخذه من قولهم : انجفلت القدر إذا قذفت بزبدها . شبه الله تعالى الحق بالماء وما خلص من المعادن فإنهما يبقيان للانتفاع بهما ، وشبه الباطل بزبد الماء وخبث الحديد الذاهبين غير منتفع بهما .
(3/56)

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
{ الْحُسْنَى } الحياة والرزق ، أو الجنة مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم { سُوءُ الْحِسَابِ } المؤاخذة بكل ذنب فلا يعفى عن شيء من ذنوبهم ، أو المناقشة بالأعمال ، أو التقريع والتوبيخ عند الحساب .
(3/57)

وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
{ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } الرحم { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } في قطعها { وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } في المعاقبة عليها . أو الإيمان بالنبيين والكتب كلها { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } فيما أمرهم بوصله { وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } في تركه ، أو صلة محمد صلى الله عليه وسلم قاله " ح " .
(3/58)

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
{ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } يدفعون المنكر بالمعروف ، أو الشر بالخير ، أو سفاهة الجاهل بالحلم ، أو الذنب بالتوبة ، أو المعصية بالطاعة .
(3/59)

سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
{ بِمَا صَبَرْتُمْ } على الفقر ، أو الجهاد في سبيل الله ، أو على ملازمة الطاعة وترك المعصية ، أو عن فضول الدنيا ، أو عما تحبونه حين فقدتموه { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } الجنة عن الدنيا ، أو الجنة من النار .
(3/60)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
{ مَتَاعٌ } قليل ذاهب ، أو كزاد الراكب .
(3/61)

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
{ بِذِكْرِ اللَّهِ } بأفواههم ، أو بنعمه عليهم ، أو بوعده لهم ، أو بالقرآن .
(3/62)

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
{ طُوبَى } اسم للجنة ، أو لشجرة فيها ، أو اسم الجنة بالحبشية ، أو حسنى لهم ، أو نعم ما لهم ، أو خير ، أو غبطة ، أو فرح وقرة عين " ع " ، أو العيش الطيب ، أو طوبى فُعلى من الطيب كالفُضلى من الأفضل .
(3/63)

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
{ بِالرَّحْمَنِ } لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم بالحديبية للكاتب : " اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم " ، قالوا ما ندري ما الرحمن ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، أو قالوا بلغنا أن الذي يعلمك ما تقول رجل من أهل اليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لن نؤمن به أبداً فنزلت { لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } وإن اختلفت أسماؤه فهو واحد { مَتَابِ } توبتي .
(3/64)

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً } لما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إنْ سَرَّك أن نتبعك فسير جبالنا تتسع أرضنا فإنها ضيقة ، وقرب لنا الشام فإنا نتجر إليها ، وأخرج لنا الموتى من القبور نكلمهم ، أنزلها الله تعالى { سُيّرَتْ } أخرت { قُطِّعَتْ } قربت { كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } أحيوا ، جوابه : " لكان هذا القرآن " فحُذف للعلم به { يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } من إيمان هؤلاء المشركين ، أو من حصول ما سألوه لأنهم لما طلبوا ذلك اشرأب المسلمون إليه " ع " ، أو ييأس : يعلم ، قال :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
أو ييأس قبل هي لغة جرهم . { لَهَدَى النَّاسَ } إلى الإيمان ، أو الجنة { قَارِعَةٌ } تقرعهم من العذاب والبلاء ، أو سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم { أَوْ تَحُلُّ } أنت يا محمد " ع " ، أو القارعة { وَعْدُ اللَّهِ } القيامة ، أو فتح مكة " ع " .
(3/65)

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ بِظَاهِرِ } بباطل ، أو ظن ، أو كذب ، أو بالقرآن قاله السدي .
(3/66)

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ } شبهها أو نعتها إذ لا مثل لها { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } ثمرتها لا تنقطع ، أو لذتها في الأفواه باقية قاله إبراهيم التيمي .
(3/67)

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
{ وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } الصحابة ، أو مؤمنو أهل الكتاب ، أو اليهود والنصارى فرحوا بما في القرآن من تصديق كتبهم . { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } قريش ، أو اليهود والنصارى والمجوس { بَعْضَهُ } عرفوا صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكروا تصديقه ، أو عرفوا نعته وأنكروا نبوته .
(3/68)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
{ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةْ } أي هم كسائر البشر فلِمَ أنكروا نبوتك وأنت كمن تقدم ، أو نهاه بذلك عن التبتل ، أو عاب اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة الأزواج فأخبرهم بأن ذلك سنة الرسل عليه الصلاة والسلام { أَن يَأَتِىَ بِآيَةٍ } لما سألت قريش تسيير الجبال وغير ذلك نزلت . { لِكُلِّ أَجَلِ } لكل قضاء قضاه الله تعالى { كِتَابٌ } كتبه فيه ، أو لكل أجل من آجال الخلق كتاب عن الله ، أو لكل كتاب نزل من السماء أجل على التقديم والتأخير .
(3/69)

يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
{ يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } من أمور الخلق فيغيرها إلا الشقاء والسعادة فإنهما لا يغيران " ع " ، أو له كتابان أحدهما أم الكتاب لا يمحو منه شيئاً ، والثاني يمحو منه ما يشاء ويثبت كلما أراد أن ينسخ ما يشاء من أحكام كتابه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ، أو يمحو ما جاء أجله ويثبت من لم يأت أجله ، أو يمحو ما يشاء من الذنوب بالمغفرة ويثبت ما يشاء فلا يغفره ، أو يختم للرجل بالشقاء فيمحو ما سلف من طاعته أو يمحو بخاتمته من السعادة ما تقدم من معصيته " ع " ( أم الكتاب ) حلاله وحرامه ، أو جملة الكتاب ، أو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق ، أو الذكر " ع " أو الكتاب الذي لا يبدل ، أو أصل الكتاب في اللوح المحفوظ .
(3/70)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{ نَنقُصُهَا } بالفتوح على المسلمين من بلاد المشركين ، أو بخرابها بعد عمارتها ، أو بنقصان بركتها وبمحيق ثمرتها أو بموت فقهائها وخيارها " ع " .
(3/71)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ شَهِيداً } بصدقي وكذبكم . { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ابن سلام وسلمان وتميم الداري ، أو جبريل عليه السلام ، أو الله عز وجل عن الحسن رضي الله تعالى عنه وكان يقرأ { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ويقول : " هذه السورة مكية وهؤلاء أسلموا بالمدينة " .
(3/72)

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{ الظُّلُمَاتِ } الضلالة والكفر ، و { النُّورِ } الإيمان والهدى { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بأمره . آمن بعيسى قوم وكفر به آخرون فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم آمن به من كفر بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى فنزلت " ع " .
(3/73)

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
{ يَسْتَحِبُّونَ } يختارون ، أو يستبدلون { سَبِيلِ اللَّهِ } دينه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } العوج بالكسر في الأرض والدين وكل ما لم يكن قائماً وبالفتح كل ما كان قائماً كالرمح والحائظ . { وَيَبْغُونَهَا } يرجون بمكة ديناً غير الإسلام " ع " ، أو يقصدون بمحمد صلى الله عليه وسلم هلاكاً .
(3/74)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ بَآَيَاتِنَآ } التسع ، أو بالحجج والبراهين { وَذَكِّرْهُم } عظهم بما سلف لهم في الأيام الماضية ، أو بالأيام التي انتقم فيها بالقرون الأول ، أو بنعم الله لأنها تُسمى بالأيام .
وأيام لنا غر طوال ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ صَبَّارٍ شَكُورٍ } كثير الصبر والشكر إذا ابتُلي صبر وإذا أعطي شكر ، وأخذ الشعبي من هذه الآية أن الصبر نصف الإيمان والشكر نصفه .
(3/75)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
{ بَلآءٌ } نعمة " ع " ، أو شدة بلية ، أو اختبار وامتحان .
(3/76)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ تَأَذَّنَ } قال ، أو أعلم { شَكَرْتُمْ } نعمتي { لأَزِيدَنَّكُمْ } من أفضالي أو طاعتي " ح " .
(3/77)

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
{ بِالْبَيِّنَاتِ } الحجج . { فَرَدُّواْ } عضوا الأصابع غيظاً على الرسل ، أو كذبوهم بأفواهم ، أو عجبوا لما سمعوا كتاب الله تعالى ووضعوا أيديهم في أفواهم " ع " ، أو أشاروا بذلك إلى رسولهم لما أدعى الرسالة بأن يسكت تكذيباً له ورداً لقوله ، أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل رداً لقولهم " ح " ، أو الأيدي النعم ردوها بأفواههم جحوداً ، أو عبّر بذلك عن ترك قبولهم للحق يقال لمن أمسك عن الجواب : رد يده في فيه .
(3/78)

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ أَفِى اللَّهِ } أفي توحيده ، أو طاعته ، { مِّن ذُنُوبِكُمْ } من زائدة ، أو يجعل المغفرة بدلاً من ذنوبكم ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ } إلى الموت فلا يعذبكم في الدنيا .
(3/79)

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ مَقَامِى } مقامه بين يدي . { وَعِيدِ } عذابي أو زواجر القرآن .
(3/80)

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
{ وَاسْتَفْتَحُواْ } الرسل بطلب النصر " ع " ، أو الكفار استفتحوا بالبلاء . { جَبَّارٍ } متكبر . { عَنِيدٍ } معاند للحق ، أو بعيد عنه .
(3/81)

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
{ مِّن وَرَآئِهِ } من بعد هلاكه جهنم ، أو أمامه جهنم .
(3/82)

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ مِن كُلِّ مَكَانٍ } من جسده لشدة آلامه ، أو يأتيه أسباب الموت عن يمين وشمال وفوق وتحت وقدام وخلف " ع " ، أو تأتيه شدائد الموت من كل مكان . { وَمِن وَرَآئِهِ } فيه الوجهان المذكوران . { عَذَابٌ غَلِيظٌ } الخلود في النار .
(3/83)

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{ مَّثَلُ } أعمال { الَّذِينَ كَفَرُواْ } في حبوطها وبطلانها وأنه لا يحصل منها على شيء بالرماد المذكور { عَاصِفٍ } شديدة وصف اليوم بالعصوف لوقوعه فيه كما يقال يوم حار ويوم بارد أو أراد عاصف الريح فحذف لتقدم ذكر الريح ، أو العصوف من صفة الريح المذكورة فلما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه .
(3/84)

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ } ظهروا بين يديه في القيامة ، والضعفاء : الأتباع والذين استكبروا : قادتهم . { تَبَعاً } في الكفر { مُّغْنُونَ } دافعون ، أغنى عنه دفع عنه الأذى وأغناه أوصل إليه نفع { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ } إلى الإيمان لهديناكم إليه ، أو إلى الجنة لهديناكم إليها ، أو لو نجّانا من العذاب لنجيناكم منه . { مَّحِيصٍ } ملجأ ومنجى يقول بعضهم لبعض : إن قوماً جزعوا وبكوا ففازوا فيجزعون ويبكون ، ثم يقولون : إن قوماً صبروا في الدنيا ففازوا فيصبرون فعند ذلك يقولون : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } الآية .
(3/85)

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ } يقوم إبليس خطيباً يوم القيامة فيسمعه الخلائق جميعاً { قُضِىَ الأَمْرُ } بحصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . { وَعْدَ الْحَقِّ } الجنة والنار والبعث والثواب والعقاب . { وَوَعَدتُكُمْ } بأن لا بعث ولا ثواب ولا عقاب { بِمُصْرِخِىَّ } بمنجي أو بمغيثي { إِنِّى كَفَرْتُ } قبلكم { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } من بعدي لأن كفره قبل كفرهم .
(3/86)

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{ تَحِيَّتُهُمْ } ملكهم دائم السلام ، ومنه التحيات لله أي الملك ، أو التحية المعرفوة إذا تلاقوا سلموا بها .
(3/87)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
{ كَلِمَةً طَيِّبَةً } الإيمان ، أو المؤمن { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } النخلة قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو شجرة في الجنة " ع " { ثَابِتٌ } في الأرض { وَفَرْعُهَا } نحو السماء .
(3/88)

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{ أُكُلَهَا } ثمرها { حِينِ } عبارة عن الوقت في اللغة . يراد بها ها هنا سنة لأنها تحمل في السنة مرة ، أو ثمانية أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً وباطناً ، أو ستة أشهر لأنها مدة الحمل ظاهراً ، أو اربعة أشهر لأنها مدة صلاحها وبروزها من طلعها إلى جذاذها ، أو شهرين لأنها مدة صلاحها إلى جفافها ، أو غدوة وعيشية لأنه وقت اجتنائها " ع " . شبه ثبوت الكلمة في الأرض بثبوت النخلة في الأرض فإذا ظهرت عرجت إلى المساء كما تعلو النخلة نحو السماء فكلما ذكرت نفعت كما أن النخلة إذا أثمرتب نفعت .
(3/89)

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } الكفر ، أو الكافر { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } الحنظل أو الأكشوث ، أو شجرة لم تخلق " ع " ، { اجْتُثَّتْ } اقتلعت من أصلها . { قَرَارٍ } ثبوت ، أو أصل . شبه الكلمة الخبيثه التي ليس لها أصل يبقى ولا ثمرة حلوة بأنه ليس لها عمل في الأرض يبقى ولا ذكر في السماء يرقى .
(3/90)

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } يديمهم على القول الثابت { بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } الشهادتان ، أو العمل الصالح { فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } زمن الحياة { وَفِى الآخِرَةِ } عند المساءلة في القبر ، أو الحياة الدنيا : مساءلة القبر والآخرة : مسائلة القيامة .
(3/91)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
{ الَّذِينَ بَدَّلُواْ } قريش بدلوا نعمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم منهم كفراً به وجحوداً ، أو نزلت في بني أمية وبني مخزوم ، فأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم فأهلكوا يوم بدر ، أو هم قادة المشركين يوم بدر . أو جبلة بن الأيهم وتابعوه من العرب الذي لحقوا بالروم " ع " أو عامة في جميع المشركين . { دَارَ الْبَوَارِ } جهنم ، أو يوم بدر ، والبوار : الهلاك .
(3/92)

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
{ سِرّاً وَعَلانِيَةً } خفية وجهرة عند الأكثرين ، أو السر : التطوع والعلانية : الفرض . { لاَّ بَيْعٌ } لا فدية في العاصي ، ولا شفاعة للكفار ، أو لا تُباع الذنوب ولا تُشترى الجنة . { خِلالٌ } مصدر خاللت خلالاً كقاتلت قتالاً ، أو جمع خلة كقلة وقلال أي لا مودة بين الكفار لتقاطعهم .
(3/93)

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{ بَيْتِكَ } الذي لا يملكه غيرك . { الْمُحَرَّمِ } ، لأنه يحرم فيه ما يباح في غيره { أَفْئِدَةً } جمع فؤاد وهو القلب ، أو جمع وفود . { تَهْوِى } تحن ، أو تهواهم ، أو تنزل عليهم . طلب ذلك ليميلوا إلى سكناها فتصير بلداً محرماً " ع " ، أو ليحجوا قال " ع " : لولا أنه قال : من الناس لحجه اليهود والنصارى وفارس والروم { مِّنَ الثَّمَرَاتِ } أجابه بما في الطائف من الثمار وما يجلب إليهم من الأمصار .
(3/94)

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ مُهْطِعِينَ } مسرعين أهطع إهطاعاً أسرع ، أو الدائم النظر لا يطرق ، أو المطرق لا يرفع رأسه . { مُقْنِعِى } ناكسي بلغة قريش أو رافعي ، إقناعُ الرأسِ رَفعُه { طَرْفُهُمْ } الطرف : النظر وبه سيمت العين لأنه بها بكون { هَوَآءٌ } خالية من الخير " ع " ، أو تردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر به فكأنها تهوي ، أو زالت عن أماكنها فبلغت الحناجر فلا تنفصل ولا تعود .
(3/95)

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ زَوَالٍ } عن الدنيا إلى الآخرة ، أو زوال عن العذاب .
(3/96)

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{ مَكْرَهُمْ } الشرك " ع " ، أو بالعتو والتجبر ، وهي فيمن تجبر في ملكه وصعد مع النسرين في الهواء ، قاله علي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما { وَعِندَ الَّلهِ مَكْرُهُمْ } يحفظه ليجازيهم عليه ، أو يعلمه فلا يخفى عنه { لِتَزُولَ } وما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال احتقاراً لمكرهم " ع " ، { لَتزولُ } وكاد أن يزيلها تعظيماً لمكرهم ، والجبال : جبال الأرض ، أو الإسلام والقرآن لأنه في ثبوته كالجبال .
(3/97)

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ تُبَدَّلُ الأَرْضُ } بأرض بيضاء كالفضة لم تعمل عليها خطيئة ، أو بأرض من فضة بيضاء ، أو هي هذه الأرض تبدل صورتها ويطهر دنسها { وَالسَّمَاواتُ } تبدل بغيرها كالأرض فتصير جناناً ، والبحار ناراً ، أو بجعل السماوات ذهباً والأرض فضة ، قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو بتناثر نجومها وتكوير شمسها ، أو طيها كطي السجل ، أو انشقاقها .
(3/98)

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
{ الأَصْفَادِ } الأغلال ، أو القيود والصفد العطاء ، لأنه يقيد المودة .
(3/99)

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
{ سَرَابِيلُهُم } جمع سربال وهو القميص { قَطِرَانٍ } الذي تهنأ به الإبل الإسراع النار إليها ، أو النحاس الحامي " ع " .
(3/100)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{ الْكِتَابِ } القرآن ، أو التوراة والإنجيل .
(3/101)

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
{ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ } إذا رأوا المسلمين دخلوا الجنة أن يكونوا أسلموا ، ربما ها هنا للتكثير .
(3/102)

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ } رسولها وكتابها فتعذب قبلهما ، ولا يستأخر الرسول والكتاب عنهم .
(3/103)

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{ إِلاَّ بِالْحَقِّ } القرآن ، أو الرسالة ، أو بالقضاء عند الموت بقبض أرواحهم ، أو العذاب إن لم يؤمنوا .
(3/104)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
{ الذِّكْرَ } القرآن ، { وَإِنَّا لَهُ } لمحمد صلى الله عليه وسلم { لَحَافِظُونَ } ممن أراده بسوء ، أو للقرآن حتى يجزى به يوم القيامة أو بحفظه من زيادة الشيطان فيه باطلاً ، أو نقصه منه حقاً .
(3/105)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
{ شِيَعِ } أمم ، أو القرى ، أو جمع شيعة ، والشيعة : الفرقة المتآلفة المتفقة الكلمة ، مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار يوقد بها الكبار ، فهو عون للنار .
(3/106)

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{ نَسْلُكُهُ } الاستهزاء ، أو التكذيب ، أو نسلك القرآن في قلوبهم وإن لم يؤمنوا به ، أو إذا كذبوا به سلكنا في قلوبهم أن لا يؤمنوا به .
(3/107)

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
{ سُنَّةٌ الأََوَّلِينَ } بالعذاب ، أو بألا يؤمنوا برسلهم إذا عاندوا والسنة : الطريقة .
(3/108)

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
{ يَعْرُجُونَ } المشركون ، أو الملائكة وهم يرونهم .
(3/109)

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{ سُكِّرَتْ } سُدت ، أو عُميت ، أو أّخذت ، أو غُشيت وغُطيت ، أو حُبست { مَّسْحُورُونَ } سُحرنا فلا نبصر ، أو مُعللون ، أو مُفسدون .
(3/110)

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
{ بُرُوجاً } قصوراً فيها الحرس ، أو منازل الشمس والقمر ، أو الكواكب العظام أي السبعة السيارة ، أو النجوم ، أو البروج الإثنا عشر ، وأصله الظهور برجت المرأة أظهرت محاسنها .
(3/111)

وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
{ رَّجِيمٍ } ملعون ، أو مرجوم بقول أو فعل .
(3/112)

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
{ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } بأخبار الأرض دون الوحي فإنه محفوظ منهم . ويسترقون السمع من الملائكة في السماء ، أو في الهواء عند نزولهم من السماء { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ } قبل سماعه ، أو بعد سماعه فيجرحهم ويحرقهم ويخبلهم ولا يقتل " ع " ، أو يقتلهم قبل إلقائه إلى الجن فلا يصل إلى أخبار السماء إلا الأنبياء " ع " ، ولذلك انقطعت الكهانة ، أو يقتلهم بعد إلقائه إلى الجن ولذلك [ ما ] يعودون لاستراقه ، ولو لم يصل لقطعوا الاستراق . والشهب نجوم يُرجمون بها ثم تعود إلى أماكنها ، أو نور يمتد بشدة ضيائه فيحرقهم ولا يعود كما إذا أحرقت النار لم تعد .
(3/113)

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{ مَدَدْنَاهَا } بسطناها من مكة لأنها أم القرى { مَّوْزُونٍ } بقدر معلوم عبّر عنه بالوزن ، لأنه آلة لمعرفة المقادير ، أو أراد الأشياء التي توزن في أسواقها ، أو مقسوم ، أو معدود .
(3/114)

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ مَعَايِشَ } ملابس ، أو التصرف في أسباب الرزق مدة الحياة ، أو المطاعم والمشارب التي يعيشون بها . { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } الدواب والأنعام ، أو الوحش .
(3/115)

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
{ وَإِن مِّن شَىْءٍ } من أرزاق الخلق { إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ } المطر المنزل من المساء إذ به نبات كل شيء { بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما عام بأمطر من عام ولكن الله تعالى يقسمه حيث يشاء فيمطر قوماً ويحرم آخرين .
(3/116)

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ لَوَاقِحَ } السحاب حتى يمطر ، كل الرياح لواقح والجنوب ألقح ، أو لواقح للشجر حتى يثمر " ع " .
(3/117)

وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
{ الْمُسْتَقْدِمِينَ } الذين خلقوا و { الْمُسْتَئْخِرِينَ } من لم يخلق ، أو من مات ومن لم يمت ، أو أول الخلق وآخره ، أو من تقدم أمة محمد صلى الله عليه وسلم والمستأخر من أمته ، أو المستقدمين في الخير والمستأخرين عنه ، أو في صفوف الحرب والمستأخرين فيها ، كانت امرأة من أحسن الناس تصلي خلف الرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم بعضهم لئلا يراها ويتأخر بعضهم إلى الصف المؤخر فإذا ركع نظر إليها من تحت إبطه فنزلت .
(3/118)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{ الإِنسَانَ } آدم عليه الصلاة والسلام { صَلْصَالٍ } طين يابس لم تصبه نار ، إذا نُقر صَلَ فسمعت له صلصلة ، وهي الصوت الشديد المسموع من غير الحيوان كالقعقعة في الثوب " ع " ، أو طين خلط برمل ، أو منتن ، صل اللحم وأصل أنتن ، { حَمَإٍ } جمع حمأة وهي الطين الأسود المتغير { مَّسْنُونٍ } منتن متغير ، أو أسن الماء تغير " ع " ، أو منصوب قائم من قولهم : وجه مسنون ، أو المصبوب ، سَنَ الماء على وجهه صبه عليه أو الذي يحك بعضه بعضاً ، سننت الحجر بالحجر حككت أحدهما بالآخر ومنه سن الحديد لحكه به ، أو الرطب ، أو المخلص سن سيفك أي : أجله .
(3/119)

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{ وَالْجَآنَّ } إبليس ، أو الجن ، أو أبو الجن { مِن قَبْلُ } آدم { نَّارِ السَّمُومِ } لهب النار ، أو نار الشمس ، أو حر السموم ، والسموم الريح الحارة .
(3/120)

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{ الْمَعْلُومِ } عند الله تعالى وحده ، أو النفخة الأولى بينها وبين النفخة الثانية أربعون سنة هي مدة موته ، وأراد بسؤاله الإنظار أن لا يموت فلم يجبه إلى ذلك ، وأنظره إلى النفخة الأولى تعظيماً لبلائه وتعريفاً أنه لا يضر بفعله غير نفسه . ولم يكرمه بتكليمه بل كلمه بذلك على لسان رسول ، أو كلمه تغليظاً ووعيداً لا إكراماً وتقريباً .
(3/121)

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
{ أَغْوَيْتَنِى } أضللتني " ع " ، أو خيبتني من رحمتك ، أو نسبتني إلى الإغواء .
(3/122)

إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
{ الْمُخْلَصِينَ } لعباداتهم من الفساد والرياء ، سأل الحواريون عيسى عليه الصلاة والسلام عن المخلص ، فقال : الذي يعمل لله ولا يحب أن يحمده الناس .
(3/123)

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
{ هَذَا صِرَاطٌ } يستقيم بصاحبه حتى يهجم به على الجنة " ع " ، أو صراط إليَّ " ح " ، أو تهديد ووعيد كقولك لمن تتوعده : " على طريقك " ، أو هذا صراط على استقامته بالبيان والبرهان .
(3/124)

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
{ بِسَلامٍ } بسلامة من النار ، أو بسلامة تصحبكم من كل آفة { ءَامِنِينَ } من الخروج منها ، أو الموت ، أو الخوف والمرض .
(3/125)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
{ وَنَزَعْنَا } بالإسلام { مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } الجاهلية ، أو نزعنا في الآخرة ما فيها من غل الدنيا " ح " وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم { سُرُرٍ } جمع أسرة ، أو سرور { مُّتَقَابِلِينَ } بوجوههم لا يصرفون أبصارهم تواصلاً وتحابياً ، أو متقابلين بالمحبة والمودة لا يتفاضلون فيها ولا يختلفون ، أو متقابلين في المنزلة لا يفضل بعضهم بعضاً لاتفاقهم على الطاعة أو استوائهم في الجزاء ، أو متقابلين في الزيارة والتواصل ، أو أقبلوا على أزواجهم بالمودة وأقبلن عليهم ، قيل نزلت في العشرة ، قال علي رضي الله تعالى عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير منهم .
(3/126)

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
{ لا تَوْجَلْ } لا تخف { بِغُلامٍ عَليمٍ } في كبره وهو إسحاق لقوله تعالى { فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] { عَلِيمٍ } حليم ، أو عالم عند الجمهور .
(3/127)

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
{ أَبَشَّرْتُمُونِى } تعجب { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } تعجباً من قولهم ، أو استفهم هل بشروه بأمر الله تعالى ليكون أسكن لقلبه .
(3/128)

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
{ الْقَانِطِينَ } الآيسين من الولد .
(3/129)

إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
{ ءَالَ لُوطٍ } أتباعه وناصروه .
(3/130)

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
{ قَدَّرْنَآ } قضينا ، أو كتبنا { الْغَابِرِينَ } الباقين في العذاب ، أو الماضين فيه .
(3/131)

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ } ببعضه ، أو آخره ، أو ظلمته .
(3/132)

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
{ وَقَضَيْنَآ } أوحينا { دَابِرَ هَؤُلآءِ } آخرهم ، أو أصلهم .
(3/133)

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
{ لَعَمْرُكَ } وعيشك " ع " ، أو وحياتك " ع " ، وما أقسم الله تعالى بحياة غيره ، أو وعملك { سَكْرَتِهِمْ } ضلالهم ، أو غفلتهم { يَعْمَهُونَ } يترددون " ع " ، أو يتمادون ، أو يلعبون ، أو يمضون .
(3/134)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
{ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتفرسين ، أو المعتبرين ، أو المتفكرين ، أو الناظرين أو المتبصرين ، أو الذي يتوسمون الأمور فيعلمون أن الذي أهلك قوم لوط قادر على أهلاك الكفار .
(3/135)

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{ لَبِسَبِيلٍ } لهلاك " ع " ، أو لبطريق مُعْلَم .
(3/136)

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
{ لَظَالِمِينَ } بتكذيبهم شعيباً ، أرسل إلى مدين فأهلكوا بالصيحة وإلى أصحاب الأيكة فاحترقوا بنار الظلة ، الأيكة : الغيضة ، أو الشجر الملتف كان أكثر شجرهم الدوم وهو المقل ، أو الأيكة اسم البلد وليكة اسم المدينة كبكة من مكة .
(3/137)

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ وَإِنَّهُمَا } أصحاب الأيكة وقوم لوط { لَبِإِمَامٍ } لبطريق واضح . سمي الطريق إماماً لأن سالكه يأتم به حتى يصل إلى مقصده ، أو لفي كتاب مستبين ، سمي إماماً لتقدمه على سائر الكتب ، وقال مُؤرج : هو الكتاب بلغة حمير .
(3/138)

وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
{ الْحِجْرِ } الوادي ، أو مدينة ثمود ، أو أرض بين الشام والحجاز وأصحابه ثمود .
(3/139)

وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
{ ءَامِنِينَ } أن تسقط عليهم بيوتهم ، أو من خرابها ، أو من العذاب ، أو الموت .
(3/140)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } الإعراض من غير جزع ، أو العفو بغير توبيخ ولا تعنيف ، ثم نسخ صفحه عن حق الله تعالى بآية السيف ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : بعد ذلك : " لقد أتيتكم بالذبح وبُعثت بالحصاد ولم أُبعث بالزراعة " ، أو أمر بالصفح عنهم في حق نفسه فيما بينه وبينهم .
(3/141)

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
[ { سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِى } ] السبع المثاني : الفاتحة ، لأنها تثنى كلما قرأ القرآن وصلى ، أو السبع الطوال ، البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، " ع " سميت مثاني لما تردد فيها من الأمثال والخبر والعبر ، أو لأنها تجاوز المائة الأولى إلى المائة الثانية ، أو المثاني القرآن كله ، أو معانيه السبعة أمر ونهي وتبشير وإنذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون .
(3/142)

لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
{ أَزْوَاجاً } أشباهاً ، أو أصنافاً ، أو الأغنياء { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } بما أنعمت عليهم في الدنيا أو بما يصيرون إليه من كفرهم { وَاخْفِضْ } عبّر به عن الخضوع ، أو عن إلانه الجانب ، نزل بالرسول صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يكن عنده ما يصلحه فأرسل إلى يهودي يستسلف منه دقيقاً إلى هلال رجب ، فأبى إلا برهن ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني لأديت إليه " فنزلت { لا تَمُدَّنَّ } .
(3/143)

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{ الْمُقْتَسِمِينَ } اليهود والنصارى اقتسموا القرآن أعضاء أي أجزاء فآمنوا ببعض منها وكفروا ببعض " ع " ، أو اقتسموه استهزاء به فقال بعضهم : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي ، أو اقتسموا كتبهم فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها وكفر آخرون بما آمن به أولئك وأمنوا بما كفروا به ، أو قوم صالح تقاسموا على قتله ، قاله ابن زيد ، أو قوم من قريش اقتسموا طُرق مكة لينفروا على الرسول صلى الله عليه وسلم من يرد من القبائل بأنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون حتى لا يؤمنوا به فنزل عليهم عذاب فأهلكهم ، أو قوم من قريش اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه كهانة وبعضه أساطير الأولين ، أو قوم اقتسموا أيماناً تحالفوا عليها .
(3/144)

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
{ عِضِينَ } فرقاً بعضه شعراً وبعضه سحراً وبعضه أساطير الأولين ، جعلوه أعضاء كما تعضى الجزور ، وعضين جمع عضو من عضيت الشيء تعضية إذا فرقته " ع " .
وليس دين الله تعالى بالمعضى
أي المفرق أو العضين جمع عضة وهو البهت لأنهم بهتوا كتاب الله تعالى فيما رموه به ، عضهت الرجل أعضهه عضها بهته ، وقال :
إن العضيهة ليست فعل أحرار ... أو العضه : السحر بلسان قريش ومنه " لعن الرسول صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة " أراد الساحرة والمتسحرة ، أو لما ذكر في القرآن الذباب والبعوض والعنكبوت والنمل قال أحدهم : أنا صاحب البعوض ، وقال آخر : أنا صاحب الذباب وقال آخر أنا صاحب النمل استهزاء منهم بالقرآن .
(3/145)

عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يعبدون ، أو ما عملوا فيما علموا ، أو عما عبدوا وما أجابوا الرسل .
(3/146)

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
{ فَاصْدَعْ } فامض ، أو أظهر ، أو اجهر بالقرآن في الصلاة ، أو أعلن بالوحي حتى يبلغهم " ع " ، أو افرق به بين الحق والباطل ، أو فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى ، { وَأَعْرِضْ } منسوخ بآية السيف " ع " أو أعرض عن الاهتمام باستهزائهم .
(3/147)

إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
{ الْمُسْتَهْزءِينَ } خمسة : الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث والحارث بن غيطلة أهلكهم الله تعالى قبل بدر لاستهزائهم برسوله صلى الله عليه وسلم .
(3/148)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
{ صَدْرُكَ } قلبك لأنه محل القلب { بِمَا يَقُولُونَ } من الاستهزاء ، أو التكذيب بالحق .
(3/149)

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
{ السَّاجِدِينَ } المصلين .
(3/150)

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ الْيَقِينُ } الحق الذي لا ريب فيه ، أو الموت الذي لا محيد عنه " ح " .
(3/151)

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{ أَتَى } دنا ، أو سيأتي ، أو على حقيقة إتيانه في ثبوته واستقراره . { أَمْرُ اللَّهِ } القيامة ، أو وعيد المشركين ، أو فرائض الله تعالى وأحكامه .
(3/152)

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
{ بِالرُّوحِ } الوحي " ع " ، أو كلام الله تعالى ، أو الحق الواجب الاتباع ، أو أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا معه روح قاله مجاهد .
(3/153)

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{ خَصِيمٌ } محتج في الخصومة . ذكر ذلك تعريفاً لقدرته ، أو لنعمته ، أو لقبح ما ضيعه من شكر النعمة بمخاصمته في الكفر " ح " قيل نزلت في أُبي بن خلف الجمحي أخذ عظاماً نخرة فذراها وقال أنُعاد إذا صرنا كذا؟
(3/154)

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
{ دِفْءٌ } لباس " ع " ، أو ما استدفأت به من أصوافها وأوبارها وأشعارها . { وَمَنَافِعُ } الركوب والعمل { تَأْكُلُونَ } اللحم واللبن .
(3/155)

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ مَا لا تَعْلَمُونَ } من الخلق عند الجمهور ، أو نهر تحت العرش " ع " .
(3/156)

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{ مَوَاخِرَ } تشق الماء عن يمين وشمال ، والمخر : شق الماء وتحريكه ، أو ما تمخر الريح من السفن والمخر صوت هبوب الريح ، أو تجري بريح واحدة مقبلة ومدبرة ، أو تجري معترضة ، أو المواخر : المواقد .
(3/157)

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ وَعَلامَاتٍ } معالم الطرق بالنهار { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } بالليل " ع " ، أو النجوم منها ما يهتدى به ومنها ما هو علامة لا يهتدى بها ، أو الجبال .
(3/158)

وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{ لا تُحْصُوهَآ } لا تحفظوها ، أو لا تشكروها .
(3/159)

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
{ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم } هدمه من أساسه ، أو مثل ضربه الله تعالى لاستئصالهم { السَّقْفُ } أتاهم من السماء التي هي سقفهم " ع " ، أو سقطت أعالي بيوتهم وهم تحتها فلذلك قال : { مِن فَوْقِهِمْ } إذ لا يكون فوقهم إلا وهم تحته . وهم نمروذ بن كنعان وقومه " ع " ، أو بختنصر وأصحابه ، أو المقتسمين المذكورين في سورة الحجر .
(3/160)

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } قيل نزلت فيمن أسلم بمكة ولم يهاجر فأخرجتهم قريش إلى بدر فقُتلوا { تَتَوَفَّاهُمُ } تقبض أرواحهم { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } بالمقام بمكة وترك الهجرة { فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ } في خروجهم معهم { مِن سُوءِ } كفر { بَلَى } عملكم أعمال الكفار ، والسَّلَم : الصلح ، أو الاستسلام ، أو الخضوع .
(3/161)

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
{ طَيِّبِينَ } صالحين .
(3/162)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ ظُلِمُواْ } ظلمهم أهل مكة بإخراجهم إلى الحبشة بعد العذاب والإبعاد . { حَسَنَةً } نزول المدينة " ع " ، أو الرزق الحسن نزلت في أبي جَندل بن سهيل ، أو في بلال وعمار وخباب بن الأرتْ عُذبوا حتى قالوا ما أراده الكفار فلما خلوهم هاجروا .
(3/163)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{ الذِّكْرِ } العلماء بأخبار القرون الخالية يعلمون أن الله تعالى ما بعث رسولاً إلا من رجال الأمة ولم يبعث ملكاً أو أهل الكتاب خاصة " ع " ، أو أهل القرآن .
(3/164)

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{ إِلَيْكَ الذِّكْرَ } القرآن ، أو العلم .
(3/165)

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
{ تَقَلُّبِهِمْ } سفرهم .
(3/166)

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ تَخَوُّفٍ } تنقص يهلك واحداً بعد واحد فيخافون الفناء " ع " ، أو على تقريع وتوبيخ بما قدموه من ذنوبهم " ع " ، أو يهلك قرية فتخاف القرية الأخرى .
(3/167)

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلالُهُ } يرجع ، والفيء : الرجوع وبه سمى الظل بعد الزوال لرجوعه ، أو يتميل " ع " ، أو يدور ، أو يتحول . { الْيَمِينِ وَالشَّمَآئِلِ } تارة جهة اليمين وتارة إلى جهة الشمال " ع " ، أو اليمين أول النهار والشمال آخره { سُجَّداً } ظل كل شيء سجوده ، أو سجود الظل بسجود شخصه ، أو سجود الظلال كسجود الأشخاص تسجد خاضعة لله { دَاخِرُونَ } صاغرون خاضعون .
(3/168)

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ } عذاب ربهم لأنه ينزل من فوقهم من السماء ، أو قدرته التي هي فوق قدرتهم .
(3/169)

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ الدِّينُ } الإخلاص ، أو الطاعة { وَاصِباً } واجباً " ع " ، أو خالصاً أو دائماً " ح " ، عذاب واصب : دائم .
(3/170)

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
{ الضُّرُّ } القحط ، أو الفقر { تَجْئَرُونَ } تضرعون بالدعاء ، أو تضجون وهو الصياح من جؤار الثور وهو صياحه .
(3/171)

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{ مُسْوَدّاً } أسود اللون عند الجمهور ، أو متغير اللون بسواد أو غيره . { كَظِيمٌ } حزين " ع " ، أو كظم غيظه فلا يظهره ، أو مغموم انطبق فوه من الغم ، من الكظامة وهو شدُّ فَمِ القربة .
(3/172)

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
{ هُونٍ } الهوان بلغة قريش ، أو القليل بلغة تميم { يَدُسُّهُ } يريد المؤودة .
(3/173)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ مَا يَكْرَهُونَ } البنات { الْحُسْنَى } البنين ، أو أجزاء الحسنى { لا جَرَمَ } حقاً أو قطعاً ، أو اقتضى فعلهم أن لهم النار [ أو ] بلى إن لهم النار " ع " { مُّفْرَطُونَ } منسيون ، أو مضيعون ، أو مبعدون في النار ، أو متروكون فيها أو مقدمون إليها ومنه " أنا فرطكم على الحوض " أي متقدمكم ، { مُفْرِطون } مسرفون في الذنوب من الإفراط فيها ، { مُفَرِّطون } في الواجب .
(3/174)

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{ سَكَراً } السكر : الخمر ، والرزق الحسن : التمر والرطب الزبيب ، نزلت قبل تحريم الخمر ، أو السكر : ما حرم من شرابه ، والرزق الحسن : ما حل من ثمرته ، أو السكر : النبيذ ، والرزق الحسن : التمر والزبيب ، أو السكر : الخل بلغة الحبشة والرزق الحسن : الطعام ، أو السكر ما طعم من الطعام وحل شربه من ثمار النخيل والأعناب وهو الرزق الحسن .
وجعلتَ عيب الأكرمين سكراً ... أي جلعت ذمهم طُعماً .
(3/175)

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
{ وَأَوْحَى } ألهمها ، أو سخرها أو جعله في غرائزها بما يخفي مثله على غيرها { يَعْرِشُونَ } يبنون ، أو الكروم .
(3/176)

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ ذُلُلاً } مذللة ، أو مطيعة ، أو لا يتوعر عليها مكان تسلكه ، أو الذلل صفة للنحل بانقيادها إلى أصحابها وذهابها حيث ذهبوا . { مًّخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ } لاختلاف أغذيته { فِيهِ شِفَآءٌ } الضمير للقرآن ، أو للعسل .
(3/177)

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أوضعه وأنقصه عند الجمهور ، أو الهرم ، أو ثمانون سنة ، أو خمس وسبعون .
(3/178)

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } السادة على العبيد ، أو الأحرار بعضهم على بعض عند الجمهور { فِى الرِّزْقِ } بالغنى والفقر والضيق والسعة { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } لما لم يشركهم عبيدهم في أموالهم لم يجز أن يشاركوا الله تعالى في ملكه " ع " ، أو هم وعبيدهم سواء في أن الله تعالى رزق الجميع ، وأن أحداً لا يقدر على رزق عبده إلا أن يرزقه الله تعالى أياه كما لا يقدر على رزق نفسه .
(3/179)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
{ مِّن أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } خلق حواء من آدم { وَحَفَدَةً } أصهار الرجل على بناته ، أو أولاد الأولاد " ع " ، أو بنو زوجة الرجل من غيره " ع " أو الأعوان ، أو الخدم ، والحفدة جمع حافد وهو المسرع في العمل ، " نسعى ونحفد " : نسرع إلى العمل بطاعتك .
(3/180)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً } مثل للكافر والمؤمن ، فالكافر لا يقدر على شيء من الخير ، والزرق الحسن مما عند المؤمن من الخير " ع " ، أو مثل للأوثان التي لا تملك شيئاً تُعبد دون الله تعالى الذي يملك كل شيء .
(3/181)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{ رَّجُلَيْنِ } مثل لله تعالى وللوثن الأبكم الذي لا يقدر على شيء ، والذي يأمر بالعدل هو الله عز وجل ، أو الأبكم : الكافر ، والذي يأمر بالعدل المؤمن " ع " ، أو الأبكم غلام لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعرض عليه الإسلام فيأبى والذي يأمر بالعدل عثمان رضي الله تعالى عنه .
(3/182)

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
{ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ } سألت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة استهزاء فنزل { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يريد قيام الساعة وسميت ساعة لانها جزء من يوم القيامة وأجزاء اليوم ساعاته .
(3/183)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{ مِّمَّا خَلَقَ ظِلالاً } الشجر { أَكْنَاناً } يستكن فيها جمع كِن { سَرَابِيلَ } ثياب الكتان والقطن والصوف ، والتي تقي الناس : دروع الحرب ، ذكر الجبال والحر ولم يذكر السهل والبرد لغلبة الجبال والحر على بلادهم دون البرد والسهل ، فَمَنَّ عليهم بما يختص بهم ، أو اكتفى بذكر الجبال والحر عن ذكر السهل والبرد فالمنة فيهما آكد .
(3/184)

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ نِعْمَتَ اللَّهِ } محمد صلى الله عليه وسلم يعرفون نبوته ثم يكذبونه ، أو نعمه المذكورة في هذه السورة ثم ينكرونها بقولهم : ورثناها عن آبائنا ، أو إنكارها قولهم : لولا فلان لما أصبت كذا وكذا ، أو معرفتهم : اعترافهم أن الله رزقهم وأنكارهم قولهم : رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا ، قال الكلبي تسمى هذه السورة سورة النعم لتعديد النعم فيها . { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } أراد جميعهم ، أو فيهم من حكم بكفره تبعاً كالصبيان والمجانين فذكر المكلفين .
(3/185)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{ بِالْعَدْلِ } شهادة التوحيد { وَالإِحْسَانِ } الصبر على طاعته في أمره ونهيه سراً وجهراً { وَإِيتَآىءِ ذِى الْقُرْبَى } صلة الرحم ، والفحشاء : الزنا . والمنكر : القبائح ، والبغي : الكبر والظلم ، أو العدل : القضاء بالحق ، والإحسان : التفضل بالإنعام ، وإيتاء ذي القربى : صلة الأرحام ، والفحشاء : ما يُسر من القبائح ، والمنكر : ما يُظهر منها فينكر ، والبغي ما يتطاول به من ظلم وغيره ، أو العدل استواء السريرة والعلانية في العمل لله ، والإحسان فضل السريرة على العلانية ، والمنكر والبغي فضل العلانية على السريرة .
(3/186)

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ } نزلت في بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام أو في الحلف الواقع في الجاهلية بين أهل الشرك والإسلام فجاء الإسلام بالوفاء به ، أو في كل يمين منعقدة يجب الوفاء بها ما لم تدعُ ضرورة إلى الحنث ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم " فليأتِ الذي هو خير " محمول على الضرورة دون المباح ، وأهل الحجاز يقولون : وكدت توكيداً ، وأهل نجد أكدت تأكيداً .
(3/187)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا } امرأة حمقاء بمكة كانت تغزل الصوف ثم تنقضه بعد إبرامه . فشبه ناقض العهد بها في السفه والجهل تنفيراً من ذلك { غَزْلَهَا } عبّر عن الحبل بالغزل ، أو أراد الغزل حقيقة { قُوَّةٍ } إبرام ، أو القوة : ما غزل على طاقة ولم تثن { أَنكَاثاً } أنقاضاً واحدها نكث ، وكل شيء نقض بعد الفتل فهو أنكاث { دَخَلاً } غروراً ، أو دغلاً وخديعة ، أو غلاً وغشاً ، أو أن يكون داخل القلب من الغدر غير ما في الظاهر من الوفاء ، أو الغدر والخيانة . { أَرْبَى } أكثر عدداً وأزيد مدداً فتغدر بالأقل .
(3/188)

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
{ حَيَاةً طَيِّبَةً } بالرزق الحلال " ع " ، أو القناعة ، أو الإيمان بالله تعالى والعمل بطاعته ، أو السعادة " ع " ، أو الجنة .
(3/189)

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
{ قَرَأْتَ } أردت ، أو إذا كنت قارئاً فاستعذ ، أو تقديره فإذا استعذت بالله فاقرأ على التقديم والتأخير .
(3/190)

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
{ سُلْطَانٌ } قدره على حملهم على ذنب لا يغفر ، أو حجة على ما يدعوهم إليه من المعصية ، أو لا سلطان له عليهم لاستعاذتهم بالله تعالى لقوله تعالى : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ } [ الأعراف : 200 ] ، أو لا سلطان له عليهم بحال لقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك } [ الحجر : 42 ] .
(3/191)

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{ بِهِ مُشْرِكُونَ } بالله ، أو أشركوا الشيطان في أعمالهم ، أو لأجل الشيطان وطاعته أشركوا .
(3/192)

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
{ بَدَّلْنَآ } نسخناها حكماً وتلاوة ، أو حكماً دون التلاوة { لا يَعْلَمُونَ } جواز النسخ والله تعالى أعلم بالمصلحة فيما ينزله ناسخاً ومنسوخاً .
(3/193)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ بَشَرٌ } بلعام فتى بمكة كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ليعلمه فاتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يتعلم منه ، أو يعيش عبد بني الحضرمي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقنه القرآن ، أو غلامان صيقلان لبني الحضرمي من أهل عين التمر كانا يقرآن التوراة فربما جلس إليهما الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو سلمان الفارسي . { يُلْحِدُونَ } يميلون ، أو يعرضون به . والعرب يعبّرون عن الكلام باللسان .
(3/194)

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{ مَن كَفَرَ بِاللَّهِ } نزلت في عبد الله بن أبي سرح ومِقْيسَ بن صُبَابة وعبد الله بن خطل وقيس بن الوليد بن المغيرة كفروا بعد إيمانهم { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } نزلت في عمار وأبويه ياسر وسمية ، أو في بلال وصهيب وخباب أظهروا الكفر وقلوبهم مطمئنة بالإيمان .
(3/195)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{ قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً } مكة ، وسمي الجوع والخوف لباساً ، لأنه يظهر عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس ، بلغ بهم القحط أن أكلوا القد والعلهز وهو الوبر يخلط بالدم " والقراد ثم " يؤكل " ع " ، أو المدينة آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم ثم كفرت بعده بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وما حدث فيها من الفتن قالته حفصة ، أو كل مدينة كانت على هذه الصفة من سائر القرى .
(3/196)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ بِجَهَالَةٍ } أنه سوء ، أو بغلبة الشهوة مع العلم بأنه سوء .
(3/197)

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
{ أُمَّةً } إماماً يؤتم به ، أو معلماً للخير ، أو أمة يقتدى به سمي بذلك لقيام الأمة به { قَانِتاً } مطيعاً ، أو دائماً على العبادة { حَنِيفاً } مخلصاْ ، أو حاجاً ، أو مستقيماً على طريق الحق .
(3/198)

وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
{ حَسَنَةً } نبوة ، أو لسان صدق ، أو كل أهل الأديان يتولونه ويرضونه ، أو ثناء الله تعالى عليه .
(3/199)

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } في الإسلام والبراءة من الأوثان ، أو في جميع ملته إلا ما أُمر بتركه .
(3/200)

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
{ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فقال بعضهم : السبت أعظم الأيام حرمة ، لان الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه ، أو قال بعضهم : الأحد أفضل ، لأن الله تعالى ابتدأ الخلق فيه ، أو عدلوا عما أمروا به من تعظيم الجمعة تغليباً لحرمة السبت أو الأحد .
(3/201)

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ سَبِيلِ رَبِّكَ } الإسلام { بِالْحِكْمَةِ } بالقرآن { وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } القرآن في لين من القول ، أو بما فيه من الأمر والنهي .
(3/202)

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } نزلت في قريش لما مثلوا بقتلى أُحُد ثم نسخت بقوله تعالى { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } [ النحل : 127 ] أو هي محكمة ، أو نزلت في كل مظلوم أن يقتص بقدر ظلامته . { وَاصْبِرْ } عن المعاقبة بمثل ما عاقبوا به قتلى أُحد من المثلة .
(3/203)

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ اتَّقَواْ } المحرمات ، وأحسنوا بالفرائض والطاعات .
(3/204)

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سُبْحَانَ } : تنزيه الله تعالى من السوء ، أو براءة الله تعالى من السوء . وهو تعظيم لا يصلح لغير الله . أخذ من السبح في التعظيم وهو الجري فيه ، وقيل هو هنا تعجيب أي اعجبوا للذي أسرى ، لما كان مشاهدة العجب سبباً للتسبيح صار التسبيح تعجباً . ويطلق التسبيح على الصلاة ، وعلى الاستثناء { لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } [ القلم : 28 ] ، وعلى النور " سبحات وجهه " ، وعلى التنزيه ، سئل الرسول صلى الله عليه سلم عن التسبيح فقال : " إنزاه الله تعالى على السوء " { بِعَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم . والسرى سير الليل . { الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } الحرم كله ، أو المسجد نفسه ، سرت روحه وجسده فصلى في بيت المقدس بالأنبياء ثم عرج إلى السماء ثم رجع إلى المسجد الحرام فصلى به الصبح آخر ليلته ، أو لم يدخل القدس ولم ينزل عن البراق حتى عرج به ثم عاد إلى مكة ، أو أسرى بروحه دون جسده فكنت رؤيا من الله تعالى صادقة : { الأَقْصَا } لبعده من المسجد الحرام . { بَارَكْنَا } بالثمار ومجرى الأنهار ، أو بمن جُعل حوله من الأنبياء والصالحين { مِنْ ءَايَاتِنَا } عجائبنا ، أو من أريهم من الأنبياء حتى وصفهم واحداً واحداً { السَّمِيعُ } لتصديقهم بالإسراء وتكذيبهم { الْبَصِيرُ } بما فعل من الإسراء والمعراج .
(3/205)

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
{ وَكِيلاً } : ، شريكاً ، أو رباً يتوكلون عليه في أمورهم ، أو كفيلاً بأمورهم .
(3/206)

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا } : هم موسى وبنو إسرائيل : { شَكُوراً } نوح يحمد ربه على الطعام ، أو لا يستجد ثوباً إلا حمد الله على لبسه .
(3/207)

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
{ وَقَضَيْنَآ } أخبرنا { لَتُفْسِدُنَّ } بقتل الناس وأخذ أموالهم وتخريب ديارهم . { عُلُوّاً } : بالاستطالة والغلبة .
(3/208)

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
{ بَعَثْنَا } خلينا بينكم وبينهم خذلاناً بظلمكم ، أو أمرناهم بقتالكم { عِبَاداً } جالوت إلى أن قتله داود " ع " أو بختنصر ، أو سنحاريب أو العمالقة وكانوا كفاراً ، أو قوم من أهل فارس يتحسسون أخبارهم . { فَجَاسُواْ } مشوا وترددوا بين الدور والمساكن " ع " ، أو قتلوهم بين الدور والمساكن قال :
ومنا الذي لا قى بسيف محمد ... فجاس به الأعداء عرض العساكر
أو طلبوا ، أو نزلوا .
(3/209)

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ الْكَرَّةَ } : الظفر بهم بقتل جالوت ، أو غزو ملك بابل فاستنقذوا ما بيده من الأسرى والأموال ، أو أطلق لهم ملك بابل الأسرى والأموال . { وَأَمْدَدْنَاكُم } جدد عليهم النعمة فبقوا بها مائة وعشرين سنة ، وبعث فيهم أنبياء .
(3/210)

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ لأِنفُسِكُمْ } : ثواب إحسانكم { وَإِنْ أَسَأْتُمْ } عاد العقاب عليكم ، رغّب في الإحسان وحذر من الإساءة . { وَعْدُ الأَخِرَةِ } : بعث عليهم بختنصر ، أو انطياخوس الرومي ملك نينوي { الْمَسْجِدَ } : بيت المقدس . يتبروا : يهلكوا ويدمروا ، أو يهدموا ويخربوا .
(3/211)

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ يَرْحَمَكُمْ } : مما حل بكم من النقمة { وَإِنْ عُدتُّمْ } إلى الفساد عدنا إلى الانتقام ، فعادوا فبُعث عليهم المؤمنون يُذلونهم بالجزية والمحاربة إلى القيامة " ع " { حَصِيراً } فراشاً من الحصير المفترش أو حبسنا من الحصر ، والملك حصير لاحتجابه .
(3/212)

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
{ لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } شهادة التوحيد ، أو أوامره ونواهيه . وأقوم : أصوب .
(3/213)

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ وَيَدْعُ الإِنسَانُ } إذا ضجر وغضب على نفسه وولده بالهلاك ، ولو أجيب كما يجاب في دعاء الخير لهلك ، أو يطلب النفع عاجلاً بالضرر آجلاً . { عَجُولاً } بدعائه على نفسه وولده عند ضجره " ع " ، أو أراد آدم نفخت الروح فيه فبلغت سرته فأراد أن ينهض عجلاً .
(3/214)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ } ظلمة الليل التي لا تبصر فيها المرئيات كما لا يبصر ما انمحى من الكتابة " ع " ، أو اللطخة السوداء في القمر ليكون ضوءه أقل من ضوء الشمس ليتميز الليل من النهار . { ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } الشمس مضيئة للإبصار ، أو أهله بصراء فيه .
(3/215)

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
{ طَآئِرَهُ } : عمله من الخير الشر { فِى عُنُقِهِ } لأنه كالطوق أو حظه ونصيبه طار سهم فلان بكذا خرج نصيبه وسهمه منه .
(3/216)

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ كِتَابَكَ } كتابه : طائره الذي في عنقه { حَسِيباً } شاهداً ، أو حاكماً عليها بعملها من خير أو شر . ولقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك بعملك .
(3/217)

مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{ وَلا تَزِرُ } : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ، أو لا يجوز أن يعصي لمعصية غيره { مُعَذِّبِينَ } : في الدنيا والآخرة على شرائع الدين حتى نبعث رسولاً مبيناً ، أو على شيء من المعاصي حتى نبعث رسولاً داعياً .
(3/218)

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
{ أَرَدْنَآ } صلة تقديره إذا أهلكنا ، أو حكمنا لهلاك قرية . { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } بالطاعة { فَفَسَقُواْ } بالمخالفة " ع " { أَمَرْنَا } جعلناهم أمراء مسلطين . { آمرنا } كثرّنا عددهم ، أمر القوم كثروا وإذا كثروا احتاجوا إلى أمراء { مُتْرَفِيهَا } الجبارون ، أو الرؤساء .
(3/219)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{ الْقُرُونِ } مدة القرن مائة وعشرون سنة ، أو مائة سنة ، أو أربعون سنة .
(3/220)

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
{ هَؤُلآءِ وَهَؤُلآءِ } نمد البَر والفاجر { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } في الدنيا { مَحْظُوراً } منقوصاً ، أو ممنوعاً .
(3/221)

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
{ وَقَضَى } أمر " ع " قال الضحاك : كانت في المصحف " ووصى " فألصق الكاتب الواو بالصاد فصارت وقضى قلت : هذا هوس { فَلا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } إذا رأيت بهما الأذى أو أمطت عنهما الخلاء فلا تضجر كما لم يضجرا في صغرك لما أماطاه عنك ، { أُفٍّ } : كل ما غلظ وقبح من الكلام أو استقذار للنتن وتغير الرائحة ، أو كلمة دالة على التبرم والضجر . ويقولون : أُف وتف فالأُف وسخ الأظفار والتف ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . { كَرِيماً } ليناً ، أو حسناً . نزلت والتي بعدها في سعد بن أبي وقاص " ع " .
(3/222)

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ لِلأَوَّابِينَ } المسبحون " ع " ، أو المطيعون ، أو مصلو الضحى ، أو المصلون بين المغرب والعشاء ، أو التائبون من الذنوب ، أو التائب مرة بعد أخرى كلما أذنب بادر التوبة .
(3/223)

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
{ الْقُرْبَى } قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، أمر الولاة بدفع حصتهم من الفيء والغنيمة ، أو قرابة المرء من قبل أبويه يدفع له نفقته الواجبة ، أو الوصية لهم عند الوفاة .
(3/224)

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ } عمن سألك من هؤلاء { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } طلباً لرزق الله { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } عِدْهم خيراً ورد عليهم جميلاً ، أو إن أعرضت حذراً أن ينفقوا ذلك في المعصية فمنعته { ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ } له { مَّيْسُوراً } ليناً سهلاً قاله ابن زيد .
(3/225)

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
{ وَلا تَقْتُلُواْ } يريد وأد البنات خوف الفقر { خِطْئاً } : العدول عن الصواب تعمداً والخطأ : العدول عنه سهواً ، أو الخطء : ما فيه إثم والخطأ : ما لا إثم فيه .
(3/226)

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ بِالْحَقِّ } بما يستحق به القتل . { سُلْطَاناً } بالقود ، أو بالتخيير بين القود والدية والعفو { فَلا يُسْرِف } يقتل غير القاتل ، أو يقتل الجماعة بالواحد { إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً } إن الولي ، أو القتيل كان منصوراً بقتل قاتله .
(3/227)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
{ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } التجارة بماله ، أو حفظ أصله وتثمير فرعه { أَشُدَّهُ } ثمان عشرة سنة ، أو الاحتلام والعقل والرشد . { بِالْعَهْدِ } العقود بين المتعاقدين ، أو الوصية بمال اليتيم ، أو كل ما أمر الله به ونهي عنه { مَسْئُولاً } عنه الذي عهد به ، أو تُسأل العهد لما نقضت كما تُسأل المؤودة بأي ذنب قتلت .
(3/228)

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{ بِالْقِسْطَاسِ } : القبان ، أو الميزان صغيراً أو كبيراً ، وهو العدل بالرومية .
(3/229)

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ وَلا تَقْفُ } : لا تقل ، أو لا ترم أحداً بما لا تعلم " ع " ، أو من القيافة وهو اتباع الأثر كأنه يتبع قفا المتقدم .
(3/230)

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{ مَرَحاً } شدة الفرح ، أو الخيلاء في المشي ، أو التكبر فيه ، أو البطر والأشر ، أو تجاوز الإنسان قدره . { لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ } من تحت قدمك { وَلَن تَبْلُغَ الجِبَالَ } بتطاولك ، زجره عن التطاول الذي لا يدرك به غرضاَ ، أو يريد كما أنك لا تخرق الأرض ولا تبلغ الجبال طولاً فلذلك لا تبلغ ما تريده ، بكبرك وعجبك إياساً له من بلوغ إرادته .
(3/231)

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{ وَإِن مِّن شَىْءٍ } حي إلا يسبح دون ما ليس بحي ، أو كل شيء حي أو غيره حتى صرير الباب . أو تسبيحها ما ظهر فيها من آثار الصنعة وبديع القدرة فكل من رآه سبح وقدس .
(3/232)

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{ حِجَاجاً مَّسْتُوراً } شبههم في إعراضهم بمن بينهم وبينه حجاب ، أو نزلت في قوم كانوا يؤذونه إذا قرأ ليلاً فحال الله تعالى بينهم وبين أذاه .
(3/233)

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } : كان جماعة من قريش منهم الوليد بن المغيرة يتناجون بما ينفر الناس عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فنجواهم قولهم : إنه ساحر أو مجنون أو يأتي بأساطير الأولين { مَّسْحُوراً } سُحر فاختلط عليه أمره ، أو مخدوعاً ، أو له سَحَرُ يعنون يأكل ويشرب فهو مثلكم وليس بملك .
(3/234)

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
{ وَرُفَاتاً } تراباً ، أو ما أرفت من العظام مثل الفتات .
(3/235)

قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
{ حِجَارَةً } إن عجبتم من إنشائكم لحماً ودماً فكونوا حجارة أو حديداً إن قدرتم ، أو لو كنتم حجارة أو حديداً لم تفوتوا الله تعالى إذا أرادكم إلا أنه أخرجه مخرج الأمر أبلغ إلزاماً .
(3/236)

أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{ مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ } السماوات والأرض والجبال ، أو الموت " ع " ، أو البعث لأنه أكبر شيء عندهم ، أو جميع ما تستعظمونه من خلق الله تعالى فإن الله يميتكم ثم يحييكم { فَسَيُنْغِضُونَ } يحركون رؤوسهم استهزاء .
(3/237)

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{ يَدْعُوكُمْ } الله للخروج إلى أرض المحشر بكلام يسمعه جميع العباد ، أو يسمعون الصيحة فتكون داعية إلى اجتماعهم في أرض القيامة . { بِحَمْدِهِ } فتستجيبون حامدين بألسنتكم ، أو على ما يقتضي حمده من أفعالكم . { لَّبِثْتُمْ } في الدنيا لطول لبث الآخرة ، أو احتقروا أمر الدنيا لما عاينوا القيامة ، أو لما يرون من سرعة الرجوع يظنون قلة لبثهم في القبور ، أو عبّر بذلك عن تقريب الوقت لقول الحسن رضي الله تعالى عنه كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل .
(3/238)

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان ينزغ في تكذيبه ، أو امتثال الأوامر والنواهي " ح " أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو أن يرد خيراً على من شتمه ، قيل نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه بعض كفار قريش فَهَمَّ به .
(3/239)

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
{ يَرْحَمْكُمْ } بالهدى و { يُعَذِّبْكُمْ } بالضلال ، أو بالتوبة ويعذبكم بالإصرار ، أو بإنجائكم من عدوكم ويعذبكم بتسليطهم عليكم . { وَكِيلاً } يمنعهم من الكفر ، أو كفيلاً لهم يؤخذ بهم .
(3/240)

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{ أُوْلئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ } نزلت فيمن عبد الجن فأسلم الجن ابتغاء الوسيلة وبقي الإنس على كفرهم ، أو الملائكة عبدها قبائل من العرب ، أو عُزير وعيسى وأمه " ع " وهم المعنيون بقوله : { ادعوا الذين زَعَمْتُم } [ الإسراء : 56 ] .
(3/241)

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ أَحَاطَ } علم ، أو عصمك منهم أن يقتلوك حتى تبلغ الرسالة أو أحاطت بهم قدرته فهم في قبضته . { فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } لما أخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس رؤيا عين ارتد جماعة من المسلمين افتتاناً بذلك ، أو رأى في النوم أنه يدخل مكة فلما رجع عام الحديبية افتُتن قوم برجوعه ، أو رأى قوماً ينزون على منابره نزوان القردة فساءه ذلك قاله سهل بن سعد { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } شجرة الزقوم طعام الأثيم . افتتنوا بها فقال أبو جهل وشيعته : النار تأكل الشجر فكيف تنبته ، أو هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر " ع " .
(3/242)

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
{ لأَحْتَنِكَنَّ } لأستولين عليهم ، أو لأضلنهم ، أو لأستأصلنهم بالإغواء ، أو لأستميلنهم ، أو لأقودنهم إلى العصيان كما تُقاد الدابة بحنكها إذا شد فيه حبل يجذبها ، أو لأقتطعنهم إلى المعاصي .
(3/243)

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{ وَاسْتَفْزِزْ } استخف واستنزل { بِصَوْتِكَ } الغناء واللهو ، أو بدعائك إلى المعصية " ع " ، { وَأَجْلِبْ } الجلب السوق بجلبة من السائق { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } : كل راكب وماشي في المعصية { وَشَارِكْهُمْ } في الأموال التي أخذوها بغير حلها ، أو أنفقوها في المعاصي ، أو ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي " ع " ، أو ما ذبحوه لآلهتهم . { وَالأَوْلادِ } يريد أولاد الزنا ، أو قتل المؤودة " ع " ، أو صبغة أولادهم في الكفر حتى هودوهم ونصروهم أو تسميتهم بعبيد الآلهة كعبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى وعبد اللات .
(3/244)

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
{ يُزْجِى } يسوق ويسير .
(3/245)

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
{ حَاصِباً } حجارة من السماء ، أو الحاصب الريح لرميها بالحصباء والقاصف الريح التي تقصف الشجر .
(3/246)

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ } : بالإنعام عليهم ، أو بأن جعلنا منهم خير أمة أُخرجت للناس ، أو بأكلهم الطعام بأيديهم وغيرهم بتناوله بفمه .
(3/247)

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{ بِإِمَامِهِمْ } : نبيهم ، أو كتابهم المنزل عليهم ، أو بكتب أعمالهم من خير أو شر " ع " ، أو بمن اقتدوا به في الدنيا .
(3/248)

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
{ وَإِن كَادُواْ } كان الرسول صلى لله عليه وسلم يطوف فمنعوه أن يستلم الحجر حتى يُلم بآلهتهم فحدث نفسه فقال : " ما عليَّ إذ ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر والله يعلم أني كاره " ، فأبى الله ذلك فنزلت ، أو قالت ثقيف : أجلنا سنة حتى نأخذ ما يُهدى لآلهتنا فاذا أخذناه كسرنا الآلهة وأسلمنا فهم الرسول صلى الله عليه وسلم بإجابتهم فنزلت .
(3/249)

إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{ ضِعْفَ الْحَيَاةِ } ضعف عذاب الحياة { وَضِعْفَ } عذاب الممات أو ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة . فلما نزلت قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين " .
(3/250)

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
{ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } يقتلونك ، أو يزعجونك باستخفاف ، أراد اليهود إخراجه من المدينة فقالوا : أرض الأنبياء الشام وليست هذه أرض الأنبياء ، أو أرادت قريش إخراجه من مكة قبل هجرته ، أو أرادوا إخراجه من جزيرة العرب كلها لأنهم قد أخرجوه من مكة { خِلافَكَ } { وخِلافك } بعد { إِلآَّ قَلِيلاً } ما بين إخراجهم له إلى أن قُلتوا ببدر إن جعلناهم قريشاً ، أو ما بين ذلك وقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير إن جعلناهم اليهود .
(3/251)

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } غروبها يريد صلاة المغرب " ع " ، أو زوالها يريد صلاة الظهر " ع " والعين تُدلك بالراحة عند الغروب لترى الشمس وعند الزوال لشدة شعاعها . { غَسَقِ الَّيْلِ } ظهور ظلامه ، أو دنوه وإقباله " ع " يريد المغرب " ع " ، أو العصر . { وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ } سمى الصلاة قرآناً لتأكد القراءة في الصلاة . أو أقم القراءة في صلاة الفجر { مَشْهُوداً } تشهده ملائكة الليل والنهار .
(3/252)

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
فَتَهَجَّدْ الهجود النوم ، والتهجد السهر بعد النوم ، { نَافِلَةً لَكَ } فضيلة لك ولغيرك كفارة ، أو مكتوبة عليك مستحبة لغيرك " ع " أو حضضه بالترغيب فيها لحيازة فضلها لكرامته عليه { مَّحْمُوداً } الشفاعة للناس في القيامة ، أو إجلاسه على العرش يوم القيامة ، أو إعطاؤه لواء الحمد يومئذ .
(3/253)

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{ مُدْخَلَ صِدْقٍ } دخول المدينة لما هاجر و { مُخْرَجَ صِدْقٍ } من مكة للهجرة ، أو أدخلني الجنة وأخرجني من مكة إلى المدينة ، أو مدخل فيما أرسلتني به من النبوة وأخرجني منه بتبليغ الرسالة مخرج صدق ، أو أدخلني مكة وأخرجني منها آمناً ، أو أدخلني في قبري وأخرجني منه " ع " أو أدخلني في طاعتك وأخرجني من معصيتك ، أو أدخلني في الإسلام وأخرجني من الدنيا . { سُلْطَاناً } ملكاً عزيزاً أقهر به العصاة ، أو حجة بينه .
(3/254)

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{ الْحَقُّ } القرآن { الْبَاطِلُ } الشيطان ، أو الحق : الجهاد ، والباطل : الشرك { زَهُوقاً } ذاهباً ، ولما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة أمر بثوب فَبُل بالماء وجعل يضرب به تلك التصاوير ويمحوها ويقول : { جَآءَ الْحَقُّ وَزَهقَ الْبَاطِلُ } الآية .
(3/255)

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
{ الشَّرُّ } الفقر ، أو السقم .
(3/256)

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{ شَاكِلَتِهِ } حِدَتِه ، أو طبيعته " ع " ، أو نيته ، أو دينه ، أو أخلاقه .
(3/257)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
{ الرُّوحِ } جبريل عليه السلام " ع " ، أو ملك له سبعون ألف وجه بكل وجه سبعون ألف لسان ، يسبح الله تعالى بجميع ذلك قاله علي رضي الله تعالى عنه ، أو القرآن " ح " { رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، أو روح الحيوان ، سأله عنها قوم من اليهود إذ كان في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبي { قَلِيلاً } في معلومات الله ، أو قليلاً بحسب ما تدعو إليه الحاجة حالاً فحالاً .
(3/258)

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
{ تَفْجُر } تشقق ، الفجر لانشقاقه عن عمود الصبح ، والفجور شق الحق بالخروج إلى الفساد . { يَنبُوعاً } عينا تنبع منها الماء طلبوا الجنان والعيون ببلدهم إذ لم يكن ذلك ببلدهم .
(3/259)

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{ كِسَفاً } قِطعاً " ع " ، كسفة الثوب قطعته ، والكسوف لانقطاع النور منه . { قَبِيلاً } كل قبيلة على حدتها ، أو مقابلة نعاينهم ونراهم ، أو كفيلاً ، القبيل : الكفيل تقبلت بكذا تكفلته .
(3/260)

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{ زُخْرُفٍ } الزخرف النقوش ، أو الذهب " ع " ، من الزخرفة وهي تحسين الصورة . سأله ذلك عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل وعبد الله بن [ أبي ] أمية والعاص بن وائل وأمية بن خلف ونبيه ومُنبه ابنا الحجاج .
(3/261)

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ وَمَن يَهْدِ اللَّهُ } يحكم بهدايته { فَهُوَ الْمُهْتَدِ } ، بإخلاصه وطاعته . { وَمَن يُضْلِلْ } يحكم بضلاله فلا ولي له يهديه ، أو يقضي بعقوبته فلا ناصر يمنعه من عقابه { عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } حقيقة زيادة في عقابهم ثم أبصروا لقوله : { وَرَءَا المجرمون النار } [ الكهف : 53 ] وتكلموا فدعوا هنالك بالثبور ، و { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، أو لا يزول حواسهم فهم عمي عما يسرهم ، بكم عما ينفعهم ، صم عما يمتعهم . " عح " { خَبَتْ } سكن لهبها { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } التهاباً ولا يخف عذابهم إذا خبت .
(3/262)

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ } عام عند الجمهور ، أو خاص بالمشركين { لأَمْسَكْتُمْ } خوف الفقر { قَتُوراً } مقتراً ، أو بخيلاً " ع " .
(3/263)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{ تِسْعَ ءَايَاتِ } يده وعصاه ولسانه والبحر الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم " ع " ، أو نحو من ذلك إلا آيتين [ بدل ] منها الطمسة والحجر ، أو نحو من ذلك وزيادة السنين [ ونقص من ] الثمرات أو سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عنها قوم من اليهود فقال : " لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقلته ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وأنتم يا يهود عليكم خاصة لا تعدوا في السبت فقبلوا يده ورجله " { مَسْحُوراً } سحرت لما تحمل عليه نفسك من هذا القول والفعل المستعظمين ، أو ساحراً لغرائب أفعالك ، أو مخدوعاً ، أو مغلوباً .
(3/264)

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{ مَثْبُوراً } هالكاً ، أو مغلوباً .
(3/265)

فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
{ يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ } يزعجهم بالنفي منها ، أو يهلكهم فيها بالقتل .
(3/266)

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ وَعْدُ الأَخِرَةِ } القيامة وهي الكرة الآخرة ، أو تحويلهم إلى الشام ، أو نزول عيسى عليه الصلاة والسلام { لَفِيفاً } مختلطين لا يتعارفون ، أو جميعاً " ع " .
(3/267)

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{ فَرَقْنَاهُ } فرقنا فيه بين الحق والباطل و { فرَّقناه } أنزلناه مفرقاً آية آية { مُكْثٍ } تثبت وترتيل ، أو كان ينزل منه شيء ثم يمكثون بعده ما شاء الله ثم ينزل شيء أخر ، أو أن يمكث في قراءته عليهم مفرقاً شيئاً بعد شيء .
(3/268)

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
{ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو قوم من اليهود ، والمتلو عليهم كتابهم إيماناً بما فيه من تصديق محمد صلى الله عليه وسلم [ أو ] القرآن ، كان ناس من أهل الكتاب قالوا : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } الآية [ الإسراء : 108 ] { لِلأَذْقَانِ } الذقن مجتمع اللحيين ، أو الوجوه ها هنا ، أو اللحى " ح " .
(3/269)

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } كان ذكر الرحمن قليلاً في القرآن كثيراً في التوراة ، فلما أسلم ابن سلام وأصحابه آثروا أن يكون ذكر الرحمن كثيراً في القرآن فنزلت ، أو دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في سجوده فقال : " يا رحمن يا رحيم " ، فقالوا : هذا يزعم أن له إلهاً واحداً وهو يدعو مثنى مثنى فنزلت " ع " { بِصَلاتِكَ } بدعائك أو بالصلاة المشروعة ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجهر في القراءة فيها بمكة فإذا سمعوه سبّوه فَنُهي عن شدة الجهر وعن المخافتة لئلا يسمع أصحابه ويبتغي بينهما سبيلاً " ع " ، أو نُهي أن يجهر في الجميع ويسر في الجميع وأمر بالجهر في صلاة الليل والإسرار في صلاة النهار ، أو عن الجهر بتشهد الصلاة ، أو عن الجهر بفعل الصلاة ، لأنه كان يجهر بها فتؤذيه قريش فخافت بها فأمر أن لا يجهر بها كما كان وأن لا يخافت بها كما صارت ويتخذ بينهما سبيلاً ، أو الجهر بها تحسينها رياء والمخافتة إساءتها في الخلوة ، أو لا يصليها رياء ولا يتركها حياء .
(3/270)

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ وَلَمْ يَكُن لُّهُ وَلِىٌّ } لم يحالف أحداً ، أو لا يطلب نصر أحد ، أو لا ولي له من اليهود والنصارى لأنهم أذل الناس { وَكَبِّرْهُ } عن كل ما لا يجوز عليه ، أو صفه بأنه أكبر من كل شيء ، أو عظمه تعظيماً .
(3/271)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
{ عَبْدِهِ } محمد صلى الله عليه وسلم ، والكتاب : القرآن تمدح بإنزاله عليه خصوصاً وعلى الخلق عموماً . { عِوَجَا } ملتبساً ، أو مختلفاً ، أو عادلاً عن الحق والاستقامة والبلاغة إلى الباطل والفساد والعي ، والعِوَج بكسر العين في الدين والطريق وما ليس بقائم منتصب ، وبفتحها في القناة والخشبة وما كان قائماً منتصباً .
(3/272)

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{ قَيِّماً } مستقيماً معتدلاً ، أو قيّم على كتب الله يصدقها وينفي الباطل عنها ، أو يعتمد عليه ويرجع إليه كقيّم الدار ، وفيه تقديم تقديره " أنزل الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً " قاله الجمهور ، أو التقدير لم يجعل له عوجاً لكن جعله قيّماً { بَأْساً } يحتمل الاستئصال بعذاب الدنيا ، أو جهنم .
(3/273)

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{ بَاخِعٌ } قاتل ، أو متحسر أسف على آثار قريش { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } بالقرآن { أَسَفاً } غضباً ، أو جزعاً ، أو ندماً ، أو حزناً .
(3/274)

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
{ مَا عَلَى الأَرْضِ } أشجارها وأنهارها ، أو الأنبياء العلماء ، أو الرجال ، أو كل ما عليها ، أو زينة لها : شهوات لهم زينت في أعينهم وأنفسهم { أَحْسَنُ عَمَلاً } تركاً لها وإعراضاً عنها ، أو أصفى قلباً وأهدى سمتاً ، أو توكلاً علينا فيها ، ويحتمل اعتباراً بها وتركاً لحرامها .
(3/275)

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{ صَعِيداً } أرضاً مستوية ، أو وجه الأرض لصعوده ، أو التراب { جُرُزاً } بلقعاً أو ملساً ، أو محصورة ، أو يابسة لا نبات بها ولا زرع . قد جرفتهن السنون الأجراز .
(3/276)

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{ الْكَهْفِ } غار في الجبل الذي أووا إليه . { وَالرَّقِيمِ } اسم ذلك الجبل ، أو اسم قريتهم ، أو كلبهم ، أو لكل كلب ، أو الوادي ، وقيل هو وادٍ بالشام نحو أيلة ، أو الكتاب الذي فيه شأنهم من رقم الثوب ، وكان لوحاً من رصاص على باب الكهف ، أو في خزائن الملوك لعجيب أمرهم ، أو الدواة بالرومية ، أو قوم من أهل السراة كانت حالهم كحال أصحاب الكهف ، قاله سعيد { عَجَباً } ما حسبت أنهم كانوا عجباً لولا أخبرناك وأوحينا إليك ، أو أحسبت أنهم أعجب آياتنا وليسوا بأعجب خلقنا .
(3/277)

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
{ أَوَى الْفِتْيَةُ } قوم فروا بدينهم إلى الكهف ، أو أبناء أشراف خرجوا فاجتمعوا وراء المدينة على غير ميعاد فقال : أسنهم أجد في نفسي شيئاً ما أظن أحداً يجده " إن ربي رب السماوات والأرض " فقالوا جميعا : { رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } [ الكهف : 14 ] ثم دخلوا الكهف فلبثوا فيه ثلاثمائة وتسعاً ، أو من أبناء الروم دخلوا الكهف قبل عيسى عليه الصلاة والسلام وضُرب على آذانهم فلما بُعث عيسى عليه الصلاة والسلام أُخبر بخبرهم ثم بُعثوا بعده في الفترة التي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم .
{ شَطَطاً } كذباً ، أو غلواً ، أو جوراً .
(3/278)

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
{ فَضَرَبْنَا } الضرب على الآذان منعها من السماع ، يدل على أنهم كانوا نياماً وضرب على آذانهم لئلا يسمعوا من يوقظهم { عَدَداً } محصية ، أو كاملة ليس فيه شهور ولا أيام فيها .
(3/279)

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ بَعَثنَاهُمْ } أيقظناهم { أَمَداً } عدداً ، أو أجلاً ، أو غاية { الْحِزْبَيْنِ } من قوم الفتية ، أو أحدهما الفتية والآخر من حضرهم من أهل زمانهم ، أو أحدهما مؤمنون والآخر كفار ، أو أحدهما الله والآخر الخلق تقديره أأنتم أعلم أم الله .
(3/280)

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
{ وَرَبَطْنَا } ثبتنا ، أو ألهمناها صبراً { شَطَطاً } غلواً ، أو تباعداً .
(3/281)

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{ بِسُلْطَانِ } حجة ، أو عذر ، أو كتاب .
(3/282)

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{ مِّرْفَقاً } سعة ، أو معاشاً ، بكسر الميم إذا وصل إليك من غيرك ، وبفتحها ، إذا وصلته إلى غيرك .
(3/283)

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
{ تَّزَاوَرُ } تعرض عنه فلا تصيبه ، أو تميل عنه ذات اليمين { تَّقْرِضُهُمْ } تحاذيهم ، القرض : المحاذاة ، أو تجوزهم منحرفة وتقطعهم قرضته بالمقراض قطعته ، أو تعطيهم القليل من شعاعها ثم تأخذه بانصرافها ، من قرض الدراهم التي ترد ، لأنهم كانوا في مكان موحش ، أو لم يكن عليهم سقف فلو طلعت عليهم لأحرقتهم ، كان كهفهم بإزاء بنات نعش فلم تصبهم عند شروقها وغروبها ، أو صرفها الله تعالى عنهم لتبقى أجسادهم عبرة لمن شاهدهم . { فَجْوَةٍ } فضاء ، أو داخل منه ، أو مكان موحش ، أو مكان متسع .
(3/284)

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } ، لأن أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون ، أو لأنهم يقلبون يميناً وشمالاً . { وَنُقَلِّبُهُمْ } تقليب النيام لئلا تأكلهم الأرض ، أو كل ستة أشهر على جنب " ع " ، أو لم يقلبوا إلا في التسع بعد الثلاثمائة { وَكَلْبُهُم } من جملة الكلاب اسمه " حمران " أو " قطمير " أو هو إنسان طباخ لهم ، أو راعي { بِالْوَصِيدِ } لعله العتبة ، أو الفناء " ع " ، أو الصعيد والتراب ، أو الباب أو الحظيرة . { رُعْباً } فزعاً لطول أظفارهم وأشعارهم ولما ألبسوا من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله ، ولما غزا ابن عباس رضي الله تعالى عنه مع معاوية بحر الروم فانتهوا إلى الكهف عزم معاوية أن يدخل عليهم فينظر إليهم ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ليس هذا لك فقد منعه الله تعالى من هو خير منك ، فقال : { لَوِ أطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ } الآية فأرسل إليهم جماعة فلما دخلوا الكهف أرسل الله تعالى ريحاً فأخرجتهم . قيل كان رئيسهم نبياً اتبعوه وآمنوا به فكان ذلك معجزة له .
(3/285)

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
{ بَعَثْنَاهُمْ } أيقظناهم ، وكان الكلب قد نام معهم { لَبِثْنَا يَوْماً } لما أُنيموا أول النهار وبُعثوا آخر نهار أخر قالوا لبثنا يوماً لأنه أطول مدة النوم المعتاد فلما رأوا الشمس لم تغرب قالوا : أو بعض يوم . { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ } لما رأى كبيرهم اختلافهم قال : ذلك ، أو هو حكاية عن الله تعالى أنه أعلم بمدة لبثهم . { بِوَرِقِكُمْ } بكسر الراء وسكونها الدراهم ، وبفتحها الإبل والغنم { أزْكَى } أكثر ، أو أحل ، أو خير ، أو أطيب ، أو أرخص . { بِرِزْقٍ } يحتمل بما ترزقون أكله ، أو بما يحل أكله { وَلْيَتَلَطَّفْ } في إخفاء أمركم ، أو ليسترخص فيه دليل على جواز المناهدة وكان الجاهلية يستقبحونها فأباحها الشرع .
(3/286)

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{ يَرْجُمُوكُمْ } بأيديهم استنكاراً لكم ، أو بألسنتهم غيبة وشتماً أو يقتلوكم لأن الرجم من أساب القتل .
(3/287)

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ أَعْثَرْنَا } أظهرنا أهل بلدهم عليهم ، أو اطَّلعنا برحمتنا إليهم { لِيَعْلَمُواْ } يحتمل ليعلم أهل بلدهم أن وعد الله بالبعث حق لأنه لما خرق العادة في إنامتهم كان قادراً على إحياء الموتى ، أو ليرى أهل الكهف بعد علمهم أن وعد الله حق { إِذْ يَتَنَازَعُونَ } لما دخل أحدهم المدينة لشراء الطعام استنكر أهل المدينة شخصه وورقه لبعد العهد فحمل إلى الملك وكان صالحاً مؤمناً لما نظر إليه قال : لعله من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك ، وقد كنت أدعوا الله أن يرينيهم ، وسأل الفتى فأخبره ، فانطلق والناس معه إليهم فلما دنا من الكهف وسمع الفتية كلامهم خافوا وأوصى بعضهم بعضاً بدينهم فلما دخلوا عليهم ماتوا ميتة الحق ، فتنازعوا هل هم أحياء ، أو موتى؟ ، أو علموا موتهم وتنازعوا في هل يبنون عليهم بناء يعرفون به ، أو يتخذون عليهم مسجداً .
(3/288)

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ وَثَامِنُهُمْ } أدخل الواو على انقطاع القصة وأن الخبر قد تم ، والذين اختلفوا في عددهم أهل بلدهم قبل الظهور عليهم ، أو أهل الكتاب بعد طول العهد بهم { رَجْماً بِالْغَيْبِ } قذفاً بالظن { قَلِيلٌ } ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " أنا من القليل الذي استثنى الله تعالى كانوا سبعة وثامنهم كلبهم " ، ابن جريج : " كانوا ثمانية " وقوله ثامنهم كلبهم أي صاحب كلبهم ولما غابوا عن قومهم كتبوا أسماءهم ، فلما بان أمرهم كُتبت أسماؤهم على باب الكهف . { مِرَآءً ظَاهِراً } ما أظهرنا لك من أمرهم ، أو حسبك ما قصصناه عليك فلا تسأل عن إظهار غيره ، أو بحجة واضحة وخبر صادق ، أو لا تجادل أحداً إلا أن تحدثهم به حديثاً " ع " ، أو هو أن تشهد الناس عليه { وَلا تَسْتَفْتِ } يا محمد فيهم أحداً من أهل الكتاب ، أو هو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ونهي لأمته .
(3/289)

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ إِلآ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } فيه إضمار إلا أن تقول : لأنه إذا علق بالمشيئة لم يكن كاذباً بأخلافه ، ولا كفارة عليه إن كان يمين مع ما فيه من الإذعان لقدرة الله تعالى { إِذَا نَسِيتَ } الشيء فاذكر الله تعالى ليذكرك إياه فإن فعل برئت ذمتك وإلا فسيدلك على أرشد مما نسيته ، أو اذكره إذا غضبت ليزول غضبك ، أو إذا نسيت الاستثناء فاذكر ربك بقولك { عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى } الآية ، أو اذكره بالاستثناء ، ويصح الاستثناء إلى سنة فتسقط الكفارة ولا يصح بعدها " ع " ، أو في مجلس اليمين ولا يصح بعد فراقه ، أو يصح ما لم يأخذ في كلام غير اليمين ، أو مع قرب الزمان دون بعده ، أو مع الاتصال باليمين دون الانفصال .
(3/290)

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
{ وَلَبِثُواْ } من قول نصارى نجران ، أو اليهود فرده الله تعالى بقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } ، أو أخبر الله تعالى بذلك عن مدة لبثهم فيه من حين دخلوه إلى أن ماتوا فيه { تِسْعاً } هو ما بين السنين الشمسية " والقمرية " .
(3/291)

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
{ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم ، أو بالمدة التي ذكرها عن اليهود { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } الله أبصر بما قال وأسمع لما قالوا ، أو أبصرهم وأسمعهم ما قال الله تعالى فيهم { وَلِىٍّ } ناصر ، أو مانع { حكمه } علم الغيب ، أو الحكم .
(3/292)

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{ مُلْتَحَداً } ملجأ ، أو مهرباً أو معدلاً ، أو ولياً .
(3/293)

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } تعظيمه ، أو طاعته نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم " { يَدْعُونَ } رغبة ورهبة ، أو يحافظون على صلاة الجماعة ، أو الصلوات المكتوبة " ع " . وخص عمل النهار ، لأن عمل النهار إذا كان لله تعالى فعمل الليل أولى ، { وَلا تَعْدُ } لا تتجاوزهم بالنظر إلى أهل الدنيا طلباً لزينتها { وَلا تُطِعْ } قال عيينة بن حصن للرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلساً منك لا يجامعونا فيه ولهم مجلساً لا نجامعهم فيه فنزلت { أَغْفَلْنَا } جعلناه غافلاً ، أو وجدناه غافلاً { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } في طلبه التمييز على غيره ، أو في شهواته وأفعاله { فُرُطاً } ضياعاً أو متروكاً ، أو ندماً ، أو سرفاً وإفراطاً ، أو سريعاً ، أفرط أسرف وفرَّط قصَّر .
(3/294)

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ فَمَن شَآءَ } الله فليؤمن { وَمَن شَآءَ } الله فليكفر ، أو تهديد ووعيد أو المعنى لا تنفعون الله بإيمانكم ولا تضرونه بكفركم ، أو من شاء أن يعرض نفسه للجنة بالإيمان ومن شاء أن يعرضها للنار بالكفر { سُرَادِقُهَا } حائطها الذي يحيط بها ، أو دخانها ولهبها قبل وصوله إليها { ظِلٍّ ذِى ثَلاَثِ شُعَبٍ } [ المرسلات : 30 ] أو البحر المحيط بالدنيا مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم سرادق : فارسي معرب أصله سرادر { بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ } القيح والدم ، أو كدُري الزيت ، أو كل شيء أذيب حتى انماع ، أو الذي انتهى حره وسماه إغاثة لاقترانه بالاستغاثة { مُرْتَفَقاً } مجتمعاً من المرافقة ، أو منزلاً من الارتفاق أو المتكأ مضاف إلى المرفق ، أو من الرفق .
(3/295)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
{ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } قال أعرابي للرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : أخبرني عن هذه الآية { إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ } ، فقال : ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة الذين هم وقوف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم .
(3/296)

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ سُندُسٍ } ما لطف من الديباج ، أو رق منه واحده سندسة ، { وَإِسْتَبْرَقٍ } الديباج المنسوج بالذهب ، أو ما غلظ منه ، فارسي معرب أصله استبرة وهو الشديد { الأَرَآئِكِ } الحجال ، أو الفرش في الحجال ، أو السرير في الحجال .
(3/297)

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
{ أُكُلَهَا } ثمرها وزرعها { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } فجره بينهما ليكون أقل مؤنة من سوقه إليهما وأكثر ريعاً ، وهما رجلان ورثا عن أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ المؤمن حقه منها فتقرب به إلى الله عز وجل وأخذ الكافر حقه فاشترى به ضياعاً منها هاتان الجنتان ولم يتقرب إلى الله تعالى بشيء منها فأفضى أمره إلى ما ذكره الله تعالى أو مثل ضُرب لهذه الأمة ليزهدوا في الدنيا ويرغبوا في الآخرة وليس خبر عن حال تقدمت .
(3/298)

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ ثَمَرٌ } بالفتح والضم واحد هو الذهب والفضة لإثمارهما ، أو المال الكثير من صنوف الأموال " ع " ، لأن تثميره أكثر ، أو الأصل الذي له نماء ، لأن النماء تثمير ، أو بالفتح جمع ثمرة وبالضم جمع ثمار ، أو بالفتح ما كان نماؤه من أصله وبالضم ما كان نماؤه من غيره ، أو بالفتح ثمار النخل خاصة وبالضم جميع الأموال ، أو بالضم الأصل وبالفتح الفرع ، وهذا ثمر الجنتين المذكورتين عند الجمهور ، أو ثمر تملكه من غيره دون أصوله " ع " .
(3/299)

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{ يُحَاوِرُهُ } يناظره في الإيمان والكفر ، أو في طلب الدنيا وطلب الآخرة .
(3/300)

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
{ يُؤْتِيَنِ } في الدنيا خيراً من جنتك ، أو في الآخرة { حُسْبَاناً } عذاباً ، أو ناراً ، أو برداً ، أو عذاب حساب لأنه جزاء كفره وجزاء الله بحساب ، أو مرامي كثيرة من الحسبان وهي السهام التي ترمى بمجرى في طلق واحد فكان من رمي الأكاسرة { زَلَقاً } أرضاً بيضاء لا تنبت ولا يثبت عليها قدم .
(3/301)

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
{ غَوْراً } ذا غور و " أو " بمعنى الواو .
(3/302)

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
{ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } أحيط بهلاكه { خَاوِيَةٌ } متقلبة على أعاليها .
(3/303)

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
{ فِئَةٌ } جند ، أو عشيرة { مُنتَصِراً } ممتنعاً ، أو مسترداً ما ذهب منه . وهذان مذكوران في الصافات { إِنِّى كَانَ لِي قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] وضُربا مثلاً لسلمان وخباب وصهيب مع أشراف مشركي قريش .
(3/304)

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ هُنَالِكَ } في القيامة { الْوَلايَةُ } لا يبقى مؤمن ولا كافر إلا يتولون الله تعالى أو يتولى الله جزاءهم ، أو يعترفون بأن الله تعالى هو الولي فالولاية مصدر الولي ، أو النصير . والولاية بالفتح للخالق وبالكسر للمخلوقين ، أو بالفتح في الدين وبالكسر في السلطان .
(3/305)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ هَشِيماً } ما تفتت بعد اليبس من أرواق الشجر والزرع مثل لزوال الدنيا بعد بهجتها ، أو لأحوال أهلها في أن مع كل فرحة ترحة .
(3/306)

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ الْمَالُ } بجماله ونفعه { وَالْبَنُونَ } بقوتهم ودفعهم زينة الحياة { وَالْبَاقِيَاتُ } الصلوت الخمس ، أو الأعمال الصالحة ، أو الكلام الطيب ، أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وزاد بعضهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . { الصَّالِحَاتُ } المصلحات ، أو النافعات عبّر عن المنفعة بالصلاح . { عِندَ رَبِّكَ } في الآخرة { وَخَيْرٌ أَمَلاً } عند نفسك ، لأن وعد الله تعالى واقع لا محالة فلا تكذب أملك فيه .
(3/307)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
{ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ } بنقلها عن أماكنها ، أو بتقليلها حتى لا يبقى منها إلا اليسير ، أو بجعلها هباء منثوراً { بَارِزَةً } برز ما فيها من الموتى ، أو صارت فضاء لا يسترها جبل ولا نبات { نُغَادِرْ } نترك ، أو نخلف ، الغدير : ما تخلفه السيول .
(3/308)

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ صَفّاً } بعد صف كصفوف الصلاة .
(3/309)

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
{ الْكِتَابُ } كتاب أعمالهم يوضع في أيديهم ، أو عبّر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على ما كُتب { صَغِيرَةً } الضحك " ع " ، أو الصغائر التي تغفر باجتناب الكبائر { كَبِيرَةً } المنصوص تحريمه ، أو ما قرنه الوعيد ، أو الحد { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ } بنقصان ثواب ولا زيادة عقاب .
(3/310)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{ مِنَ الْجِنِّ } حقيقة ، لأن له ذرية ولا ذرية للملائكة ، ولأن الملائكة رسل لا يجوز عليهم الكفر وقد كفر إبليس وهو أصل الجن كما آدم عليه الصلاة والسلام أصل الإنس ، أو كان من ملائكة يقال لهم : الجنة ، أو من ملائكة يدبرون أمر السماء الدنيا وهم خزان الجنة كما يقال : مكي وبصري ، أو كان من سبط من ملائكة خُلقوا من نار يقال : لهم الجن وخُلق سائر الملائكة من نور ، أو لم يكن من الجن ولا من الإنس ولكن من الجان { فَفَسَقَ } خرج ، فسقت الرطبة خرجت من قشرها ، والفأرة فويسقة لخروجها من جحرها ، أو اتسع في محارم الله تعالى والفسق والاتساع { بَدَلاً } من الجنة بالنار ، أو من طاعة الله تعالى بطاعة إبليس .
(3/311)

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } إبليس وذريته ، أو جميع الخلق ما استعنت بهم في خلقها ، أو ما وقفتهم عليها حتى يعلموا من قدرتي ما لا يكفرون معه { خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } ما استعنت ببعضهم على خلق بعض ، أو ما أشهدت بعضهم خلق بعض { عَضُداً } أعواناً في خلق السماوات والأرض ، أو أعواناً لعبدة الأوثان { الْمُضِلِّينَ } عام ، أو إبليس وذريته .
(3/312)

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
{ مَّوْبِقاً } محبساً ، أو مهلكاً أو موعداً ، أو عداوة ، أو واد في جهنم ، أو واد يفصل بين الجنة والنار ، أو بينهم تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة .
(3/313)

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
{ فَظَنُّواْ } علموا أو كانوا على رجاء العفو قبل دخولهم إليها { مَصْرِفاً } ملجأ ، أو معدلاً ينصرفون إليه ، لم يجد المشركون عنها انصرافاً ، أو لم تجد الأصنام صرفاً لها عن المشركين .
(3/314)

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أنفسهم ، أو الشياطين أن يؤمنوا { سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } عادتهم في عذاب الاستئصال { قُبُلاً } تجاهاً ، أو جمع قبيل يريد أنواعاً من العذاب { قِبَلا } مقابلة ، أو معاينة .
(3/315)

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ لِيُدْحِضُواْ } ليزيلوا ويذهبوا ، أو ليبطلوا القرآن ، أو ليهلكوا الحق ، من الدحض وهو المكان الذي لا يثبت عليه خف ولا حافر ولا قدم .
(3/316)

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{ ذُو الرَّحْمَةِ } العفو ، أو الثواب ، أو النعمة ، أو الهدى . { مَّوْعِدٌ } أجل ، أو جزاء يحاسبون عليه { مَوْئِلاً } ملجأ ، أو محرزاً ، أو ولياً أو منجى ، لا وألت نفسه : لا نجت .
(3/317)

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ أَهْلَكْنَاهُمْ } وكلناهم إلى سوء تدبيرهم لما ظلموا بترك الشكر ، أو أهلكناهم بالعذاب لما ظلموا بالكفر { مَّوْعِداً } أجلاً يؤخرون إليه ، أو وقتاً يهلكون فيه .
(3/318)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ لِفَتَاهُ } يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وسمي فتاه لملازمته له في العلم ، أو الخدمة ، وهو خليفة موسى على قومه من بعده ، وهو موسى بن عمران عند الجمهور ، وقال محمد بن إسحاق هو موسى بن ميشا بن يوسف كان نبياً لبني إسرائيل قبل موسى بن عمران { الْبَحْرَيْنِ } الخضر وإلياس بحران في العلم قاله السدي ، أو بحر الروم وبحر فارس أحدهما في الغرب ، والآخر في الشرق ، أو بحر أرمينية مما يلي الأبواب ، وعد أنه يلقى الخضر عند مجمعهما { لا أَبْرَحُ } لا أزال ، أو لا أفارقك { حُقُباً } زماناً ، أو دهراً ، أو سنة بلغة قيس ، أو ثمانون سنة ، أو سبعون .
(3/319)

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
{ مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } إفريقية { نَسِيَا حُوتَهُمَا } عبّر بالنسيان عن ضلاله عنهما لما اتخذ سبيله في البحر ، أو غفلا عنه فنسي يوشع ونسي موسى أن يأمر فيه بشيء ، أو نسيه يوشع وحده فأضيف إليهما كما يقال نسي القوم أزوادهم إذا نسيها أحدهم { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أحيا الله تعالى الحوت فطفر إلى البحر فاتخذ طريقه فيه { سَرَباً } مسلكاً ، أو يبساً ، أو عجباً .
(3/320)

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
{ جَاوَزَا } مكان الحوت { نَصَباً } تعباً ، أو وهناً .
(3/321)

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
{ الصَّخْرَةِ } بشروان أرض على ساحل بحر أيلة عندها عين تسمى عين الحياة ، أو الصخرة التي دون نهر الزيت على الطريق { نَسِيتُ الْحُوتَ } أن أحمله ، أو أخبرك بأمره { أَنسَانِيهُ إِلآَّ الشَّيْطَانُ } بوسوسته لي وشغله لقلبي { عجباً } كان لا يسلك طريقاً في البحر إلا صار ماؤه صخراً فعجب موسى لذلك ، أو رأى دائرة الحوت وأثره في البحر كالكوة فعجب من حياة الحوت ، وقيل لموسى إنك تلقى الخضر حيث تنسى بعض متاعك فعلم أن مكان الحوت مضوع الخضر ف { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } { قَصَصاً } يقصان أثر الحوت .
(3/322)

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{ رَحْمَةً } نبوة ، أو نعمة ، أو طاعة ، أو طول الحياة ، وكان مَلَكاً ، أمر الله تعالى موسى أن يأخذ عنه علم الباطن ، أو نبياً ، قيل هو اليسع سمي به لأنه وسع علمه ست سموات وست أرضين ، أو عبداً صالحاً عالماً ببواطن الأمور سمي خضراً لأنه كان إذا صلى في مكان اخضرّ ما حوله .
(3/323)

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ رُشْداً } علماً ، أو كان في علمه غي يجتنب ورشد يؤتى فلطب منه تعليم الرشد الذي لا يعرفه ولم يطلب تعلم الغي لأنه كان يعرفه أو يعني لإرشاد الله تعالى لك بما علمك .
(3/324)

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
{ خُبْراً } لم تجد له سبيلاً إذ لم تعرف له علماً ، علماً منه أن موسى لا يصبر إذا رأى ما ينكر ظاهره فعلق موسى عليه الصلاة والسلام صبره بالمشيئة حذراً مما وقع منه .
(3/325)

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
{ وَلآ أعْصِى } بالبداية بالإنكار حتى تبتدىء بالإخبار ، أو لا أفشي سرك ولا أدل عليك بشراً .
(3/326)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ خَرَقَهَا } أخذ فأساً ومنقاراً فخرقها حتى دخلها الماء أو قلع لوحين منها فضج ركبانها من الغرق { لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } خصهم بالذكر دون نفسه لأنه شفقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام { إِمْراً } منكراً ، أو عجباً ، أو داهية عظمية من الأمر وهو الفاسد الذي يحتاج إلى الصلاح ، رجل إِمر إذا كان ضعيف الرأي يحتاج أن يؤمر فيقوى رأيه .
(3/327)

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
{ نَسِيتُ } غفلت عنه ، أو تركه من غير غفلة ، أو كأني نسيته وإن لم ينسه ، جعله من معاريض الكلام " ع " { عُسْراً } لا تعنفني على ترك وصيتك ، أو لا يغشاني منك العسر ، غلام مراهق قارب أن يغشاه البلوغ ، ارهقوا القبلة اغشوها واقربوا منها ، أو لا تكلفني الاحتراز عن السهو والنسيان فإن غير مقدور ، أو لا تطردني عنك .
(3/328)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ غُلاماً } شاباً بالغاً قبض على لحيته ، لأن غير البالغ لا يجوز قتله " ع " ، أو غير بالغ عند الأكثرين كان يلعب مع الصبيان فأخذه من بينهم فأضجعه وذبحه بالسكين ، او قتله بحجر ، لأنه طبع كافراً ، أو ليصلح بذلك حال أبويه ونسلهما { أَقَتَلْتَ } استخبار ، لأنه علم أنه لا يتعدى حدود الله ، أو إنكار لقوله : { جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } . { زاكية } و { زَكِيَّةَ } واحد عند الأكثرين ، نامية ، أو طاهرة ، أو مسلمة " ع " ، أو لم يحل دمها ، أو لم تعمل خطيئة ، أو الزكية أشد مبالغة من الزاكية ، أو الزاكية في البدن والزكية في الدين ، أو الزاكية من لم تذنب والزكية من أذنبت { نُّكْراً } منكراً أو فظيعاً قبيحاً ، أو يجب أن ينكر فلا يفعل ، أو هو أشد من الإمر .
(3/329)

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{ فَلا تُصَاحِبْنِى } لا تتابعني ، أو لا تتركني أصحبك ، أو لا تصحبني علماً ، أو لا تساعدني على ما أريد .
(3/330)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قَرْيَةٍ } أنطاكية ، أو الأيلة ، أو باجروان بأرمينية { يُرِيدُ } يكاد { يَنقَضَّ } يسقط بسرعة ، وينقاض ينشق طولاً { فَأَقَامَهُ } بيده فاستقام ، وأصل الجدار الظهور ، والجدري لظهوره .
(3/331)

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{ هَذَا } الذي قتله { فِرَاقُ } ، أو هذا الوقت فراق ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " رحم الله موسى لو صبر لاقتبس عنه ألف باب " .
(3/332)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
{ لِمَسَاكِينَ } فقراء ، أو كانت بهم زمانة وعلل ، أو عجزوا عن الدفع عن أنفسهم لقلة حيلتهم ، أو سموا به لشدة ما يقاسونه في البحر كما يقال لقي هذا المسكين جهداً { وَرَآءَهُم } خلفهم وكان رجوعهم عليه ولم يعلموا ، أو أمامهم ، فوراء من الأضداد ، أو يستعمل وراء موضع أمام في المواقيت والأزمان ، لأن الإنسان يجوزها فتكون وراء دون غيرها ، أو يجوز في الأجسام التي لا وجه لها كحجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر ولا يجوز في غيرها ، وعابها الخضر ، لان الملك كان لا يغصب إلا السفن الجيدة .
(3/333)

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
{ الْغُلامُ } اسمه " حيسوراً " أو " شمعون " وكان سداسياً؛ له ست عشرة سنة ، أو طوله ستة أشبار ، وكان لصاً يقطع الطريق بين قرية أبيه وقرية أمه فيبصره أهل القريتين ويمنعون منه { فَخَشِينَآ } فكرهنا ، أو علمنا ، أو خفنا { يُرْهِقَهُمَا } يكلفهما ، أو يحملهما على الرهق وهو الجهد .
(3/334)

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
{ زَكَاةً } إسلاماً ، أو علماً ، أو ولداً وكانت أمه حبلى فولدت غلاماً مسلماً صالحاً ، أوجارية تزوجها نبي فولدت نبياً هديت به أمة من الأمم { رُحْماً } أكثر براً بوالديه من المقتول ، أو أعجل تعطفاً ونفعاً ، أو أقرب أن يرحما به ، والرُحْم الرحمة .
(3/335)

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ الْجِدَارُ } حقيقة ما أحاط بالدار فمنع منها وحفظ بنيانها ويستعمل في غيره من حيطانها مجازاً { كَنزٌ } ذخيرة من ذهب وفضة ، أو لوح ذهب مكتوب فيه حِكَم ، أو لوح ذهب مكتوب فيه " بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يوقن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالدنيا بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله " قاله الرسول صلى الله عليه وسلم { صَالِحاً } حُفِظا لصلاح أبيهما السابع . والخضر باق لشربه من الحياة ، أو غير باقٍ إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم .
(3/336)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ ذِى الْقَرْنَيْنِ } نبي مبعوث فتح الله تعالى على يده الأرض ، أون عبد صالح ناصح لله ، فضربوه على قرنه فمكث ما شاء الله ثم دعاهم إلى الهدى فضربوه على قرنه الآخر ، لم يكن له قرنان كقرني الثور ، وسمي ذا القرنين للضربتين ، أو لضفيرتين كانتا له ، أو لاستيلائه على قرني الأرض المشرق والمغرب ، أو رأى في نومه أنه أخذ بقرني الشمس في شرقها وغربها فقصها على قومه فمسي ذا القرنين . وهو عبد الله بن الضحاك بن معد " ع " ، أو من أهل مصر اسمه مرزبان يوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح ، أو رومي أسمه الاسكندروني أو هو الإسكندر الذي بنى الإسكندرية .
(3/337)

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً } علماً يتسبب به إلى إرادته ، أو ما يستعين به على لقاء الملوك وقتل الأعداء وفتح البلاد .
(3/338)

فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
{ فَأَتْبَعَ سَبَباً } منازل الأرض ومعالمها ، أو طرقاً بين المشرق والمغرب ، أو قفا الأثر ، أو طريقاً إلى ما أريد منه .
(3/339)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ حَمِئَةٍ } ذات حمأة ، أو طينة سوداء { حامية } حارة فكانت حارة ذات حمأة ، وجدها تغرب في نفس العين ، أو وراءها كأنها تغرب فيها { إمَّآ أَن تُعَذِّبَ } خُيِّر بين عقابهم والعفو عنهم ، أو تعذبهم بالقتل لشركهم ، أو تتخذ فيهم حسناً بإمساكهم بعد الأسر لتعلمهم الهدى وتنقذهم من العمى ، قيل لم يُسلم منهم إلا رجل واحد .
(3/340)

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
{ أتَّبِعُ } و { اتَّبع } واحد ، أو بالقطع إذا لحق وبالوصل إذا كان على الأثر وإن لم يلحق .
(3/341)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{ مَطْلِعَ } ومَطْلَع واحد ، أو بالفتح الطلوع وبالكسر موضع الطلوع يريد بالمطلع والمغرب ابتداء العمارة وانتهائها { سِتْراً } من بناء ، أو شجر ، أو لباس ، يأوون إذا طلعت إلى أسراب لهم فإذا زالت خرجوا لصيد ما يقتاتونه من وحش وسمك قيل : وهم الزنج ، أو تاريش ، وتاويل ومنسك .
(3/342)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
{ السَّدَّيْنِ } و { السُّدين } واحد ، أو بالضم من فعل الله تعالى وبالفتح فعل الآدمي ، " أو بالضم إذا كان مستوراً عن بصرك وبالفتح إذا شاهدته ببصرك " ، أو بالضم الاسم وبالفتح المصدر . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهما جبلان ، قيل جعل الردم بينهما ، وهما بأرمينية وأذربيجان ، أو في منقطع أثر الترك مما يلي المشرق .
(3/343)

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } من تأجج النار واختلفوا في تكليفهم ، وهما من ولد يافث بن نوح ، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا يموت الرجل [ منهم ] حتى يولد لصلبه ألف رجل " { خَرْجاً } إجرة و { خراجاً } الغلة ، أو الخراج ما خرج من الأرض ، والخرج مصدر ما يخرج من المال ، أو الخراج ما يؤخذ عن الأرض والخرج ما يؤخذ عن الرقاب ، أو الخرج ما أخذ دفعة والخراج ما كان ثابتاً يؤخذ كل سنة .
(3/344)

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{ بِقُوَّةٍ } بآلة ، أو برجال { رَدْماً } حجاباً شديداً ، أو سداً متراكباً بعضه على بعض .
(3/345)

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ زُبَرَ الْحَدِيدِ } قطعه ، أو فلقه ، أو الحديد المجتمع ومنه الزبور لاجتماع حروفه { الصَّدَفَيْنِ } جبلان " ع " ، أو رأسا جبلين ، أو ما بين الجبلين إذا كانا متحاذيين من المصادفة في اللقاء ، أو إذا انحرف كل واحد منهما عن الآخر كأنه صدف عنه فساوى بينهما بما جعله بينهما حتى وارى رؤوسهما وسوى بينهما { انفُخُواْ } في نار الحديد حتى إذا جعل الحديد ناراً أي كالنار في الحمى واللهب { قِطْراً } نحاساً ، أو رصاصاً أو حديداً مذاباً ، فكانت حجارته الحديد وطينه النحاس .
(3/346)

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
{ يَظْهَرُوهُ } يعلوه { نَقْباً } من أسفله ، وهو وراء بحر الروم بين جبلين هناك مؤخرهما البحر المحيط ، ارتفاعه مائتا ذراع ، عرضه نحو خمسين ذراعاً ، وهو حديد شبه المصمت ، وذكر رجل للرسول صلى الله عليه وسلم أنه رآه فقال : انعته لي ، فقال : هو كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء ، قال : قد رأيته .
(3/347)

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ وَعْدُ رَبِّى } القيامة ، أو وقت خروجهم بعد قتل الدجال { دَكَّآءَ } أرضاً ، أو قطعاً ، أو انهدم حتى اندك بالأرض فاستوى معها .
(3/348)

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{ بَعْضَهُمْ } القوم الذين ذكرهم ذو القرنين يوم فتح السد ، أو الكفار يوم القيامة ، أو الجن والإنس عند فتح السد { يَمُوجُ } يختلط ، أو يدفع بعضهم بعضاً من موج البحر .
(3/349)

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{ سَمْعاً } على ظاهره ، أو عقلاً فلا يستطيعون سمعه استثقالاً ، أو مقتاً .
(3/350)

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{ نُزُلاً } طعاماً ، أو منزلاً .
(3/351)

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
{ بِالأَخْسَرِينَ } القسيسون والرهبان ، أو اليهود والنصارى ، أو الحرورية الخوارج ، أو أهل الأهواء ، أون من يصنع المعروف ويمن به .
(3/352)

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
{ وَزْناً } أي لا قدر لهم ، أو لخفتهم بالسفه والجهل صاروا ممن لا وزن له . أو ذهبت المعاصي بوزنهم فلا يوازنون لخفتهم [ شيئاً ] أو لما حبط أعمالهم بالكفر صار الوزن عليهم لا لهم .
(3/353)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
{ الْفِرْدَوْسِ } وسط الجنة وأطيب موضع فيها ، أو أعلاها وأحسنها ، أو بستانها ، أو البستان الجامع لمحاسن كل بستان ، أو كل بستان محوط فردوس ، وهو عربي أو رومي ، أو سرياني وبالنبطية فرداساً .
(3/354)

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{ حِوَلاً } بدلاً ، أو تحويلاً ، أو حيلة منزل غيرها .
(3/355)

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
{ كَلِمَاتُ رَبِّى } وعده بالثواب والعقاب ، أو ذكر ما خلق وما هو خالق ، أو علم القرآن ، عجز الخلق عن إحصاء معلوماته ومقدوراته .
(3/356)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ يَرْجُواْ } يخاف ، أو يأمل ، أو يصدق به { لِقَآءَ رَبِّهِ } لقاء ثواب ربه ، أو لقاءه بالبعث والوقوف بين يديه { صَالِحاً } خالصاً من الرياء ، إو إذا لقي الله تعالى به لم يستحي منه ، أو عمل الطاعة وترك المعصية { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } يريد بالرياء ، أو الشرك بالأصنام ، قيل نزلت في جندب بن زهير أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نعمل العمل نريد به وجه الله تعالى فيثنى به علينا فيعجبنا ، وإني لأصلي الصلاة فأطولها رجاء أن يثنى بها عليَّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك فمن شاركني في عمل يعمله لي أحداً من خلقي تركته وذلك الشريك " ونزلت هذه الآية فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إنها آخر آية نزلت من القرآن والله تعالى أعلم . والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلامه ، وحسبنا الله تعالى ونعم الوكيل .
(3/357)

كهيعص (1)
{ كهيعص } اسم للسورة أو للقرآن أو لله تعالى أو استفتاح للسورة أو تفسير " لا إله إلا الله " من حروف الجُمَّل ، الكاف عشرون ، والهاء خمسة والياء عشرة ، والعين سبعون ، والصاد تسعون ، كذلك عدد حروف لا إله إلا الله ، أو حروف من حروف أسماء الرب ، الكاف من كبير أو كافٍ أو كريم ، والهاء من هادٍ ، والياء من حكيم أو يمين أو أمين أو يا من يجيب من دعاه ولا يخيب من رجاه ، أو يا من يجير ولا يجار عليه ، قاله الربيع بن أنس ، والعين من عزيز أو عالم أو عدل ، والصاد من صادق .
(3/358)

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{ خَفِيّاً } لا رياء فيه ، أو أخفاه لئلا يستهزأ به لبعد ما طلبه .
(3/359)

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{ وَهَنَ } ضعف وإذا وهن العظم مع قوته فوهن اللحم والجلد أولى ، أو شكا ضعف البطش الذي يقع بالعظم دون اللحم { وَاشْتَعَلَ } شبه انتشار الشيب في الرأس بانتشار النار في الحطب . { شَقِيّاً } خائباً ، كنت لا تخيبني إذا دعوتك .
(3/360)

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{ خِفْتُ الْمَوَالِىَ } العصبة ، أو الكلالة ، أو بنو العم وكانوا شرار بني إسرائيل ، سموا موالي لأنهم يلونه في النسب بعد الصلب ، أو الأولياء أن يرثوا علمي دون نسلي ، وخافهم على الفساد في الأرض ، أو على نفسه في حياته ، وعلى أسبابه بعد موته { وَرَآءِى } قدامي ، أو بعد موتي .
(3/361)

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
{ يَرِثُنِى } مالي { وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } النبوة ، أو يرثهما العلم والنبوة ، أو منه النبوة ومن آل يعقوب الأخلاق ، أو يرث مني العلم ومن آل يعقوب الملك ، فأجيب إلى وراثة العلم دون الملك ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روي عن الرسول صلى الله عليه سلم قال : " يرحم الله زكريا ما كان عليه من ورثة " { رَضِيّاً } مرضي الأخلاق والأفعال ، أو راضياً بقضائك وقدرك .
(3/362)

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
{ نُبَشِّرُكَ } بإجابة الدعوة ، وإعطاء الولد ، وتفرد الرب عز وجل بتسميته اختصاصاً له واصطفاء ، سمي يحيى ، لأنه حَيَ بين شيخ وعجوز . { سَمِيّاً } لم تلد العواقر مثله فلا مثل له ولا نظير ، أو لم نجعل لزكريا قبل يحيى ولداً ، أو لم نُسمِّ أحداً قبله باسمه .
(3/363)

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{ عَاقِراً } لا تلد؛ لأنها تعقر النسل أي تقطعه ، أو لعقر رحمها للمني وإفساده وسأل عن أن الولد يأتيهما شابين أو شيخين . { عِتِيّاً } يسباً وجفافاً ، أو نحول العظم ، أو سناً .
قال :
إنما يُعذر الوليد ولا يُع ... ذر من كان في الزمان عتيا
(3/364)

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
{ ءَايَةً } دالة على الحمل ، أو على أن البُشرى من الله دون إبليس لأن الشيطان أوهمه ذلك ، قاله الضحاك { ثَلاثَ لَيَالٍ } اعتقل لسانه ثلاثاً من غير مرض ولا خرس عن كلام الناس دون ذكر الله تعالى { سَوِيّاً } صحيحاً من غير خرس ، أو يرجع إلى الليالي أي متتابعات .
(3/365)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
{ فَخَرَجَ } أشرف على قومه . { مِنَ الْمِحْرَابِ } المصلى ، أو ما ينصب ليصلى بإزائه لأن المصلي كالمحارب للشيطان ، أو من مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذباً عن أهله فكأن الملائكة تحارب عن المصلي ذباً عنه .
{ فَأَوْحَى } أومى ، أو أشار ، أو كتب على الأرض ، والوحي الكتابة قال :
كأن أخا اليهود يخط وحياً ... بكاف من منازلها ولام
{ سَبِّحُواْ } صلوا سميت به لاشتمالها على التسبيح .
(3/366)

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
{ خُذِ الْكِتَابَ } قاله زكريا عليه الصلاة والسلام ليحيى حين نشأ ، أو قاله الله تعالى حين بلغ ، والكتاب : التوراة ، أو صحف إبراهيم . { بِقُوَّةٍ } بجد واجتهاد ، أو بامتثال الأمر واجتناب المناهي . { الْحُكْمَ } اللب ، أو الفهم ، أو العلم أو الحكمة ، قال له الصبيان : اذهب بنا نلعب فقال : ما للعب خُلقت قيل كان ابن ثلاث سنين .
(3/367)

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{ وَحَنَاناً } رحمة . قال :
أبا منذر فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أو تعطفاً ، أو محبة ، أو بركة أو تعظيماً ، أو آتيناه تحنناً على العباد . { وَزَكَاةً } عملاً زاكياً ، أو صدقة به على والديه ، أو زكيناه بثنائنا عليه . { تَقِيّاً } مطيعاً ، أو براً بوالديه .
(3/368)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
{ انتّبَذَتْ } انفردت ، أو اتخذت ، { شَرْقِيّاً } جهة المشرق فاتخذتها النصارى قبلة أو مشرقة الدار التي تظلها الشمس ، أو مكاناً بعيداً .
(3/369)

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
{ حِجَاباً } من الجدران ، أو من الشمس جعله الله تعالى لها ساتراً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو حجاباً من الناس ، انفردت في ذلك المكان للعبادة ، أو كانت تعتزل فيه أيام حيضها . { رُوحَنَا } الروح الذي خُلق منها المسيح حتى تمثل بشراً ، أو جبريل عليه السلام لأنه روحاني لا يشوبه غير الروح ، أو لحياة الأرواح به ، فنفخ جبريل عليه السلام في جيب درعها وكمها فحملت ، أو ما كان إلا أن حملته فولدته ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان حملها تسعة أشهر ، أو ستة أشهر ، أو يوماً واحداً ، أو ثمانية أشهر ، ولم يعش لثمانية سواه آية له .
(3/370)

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{ تَقِيّاً } اسم رجل إسرائيلي مشهور بالعهر ، لما دنا منها جبريل عليه السلام خافت فاستعاذت من ذلك العاهر ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أو إن كنت تقياً لله امتنعت خوفاً من استعاذتي به .
(3/371)

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
{ فَأَجَآءَهَا } ألجأها ، أو جاء بها . { يَالَيْتَنِى مِتُّ } تمنت الموت حياء من التهمة ، أو لئلا يأثم الناس بقذفها ، أو لأنها لم تر في قومها رشيداً ذا فراسة يبرئها من السوء . { نسياً منسياً } لم أخلق ، أو لا يدري من أنا ، أو سقطاً ، أو إذا ذكرت لم أُطلب ، والنسي ما أُغفل من شيء حقير .
(3/372)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{ فَنَادَاهَا } ، جبريل ، أو عيسى { مِن تَحْتِهَآ } من مكان أسفل من مكانها ، أو من بطنها بالقبطية { سَرِيّاً } عيسى ، السروات : الأشراف ، أو السري النهر بالنبطية أو العربية من السراية لأن الماء يسري فيه ، قيل يطلق السري على ما يعبره الناس من الأنهار وثباً .
(3/373)

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
{ النَّخْلَةِ } برنية ، أو عجوة ، أو صرفانة أو قريناً ولم يكن لها رأس وكان الشتاء فجعلت آية ، قيل اخضرت وحملت ونضجت وهي تنظر { جَنِيّاً } مترطب البسر ، أو الذي لم يتغير ، أو الطري بغبار .
(3/374)

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ فَكُلِى } الجني { وَاشْرَبِى } من السري { وَقَرِّى عَيْناً } بالولد ، طيبي نفساً ، أو لتسكن عينك سروراً أو لتبرد عينك سروراً ، دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة { صَوْماً } صمتاً أو صوماً عن الطعام والشراب وصمتاً عن الكلام ، تركت الكلام ليتكلم عنها ولدها ببراءتها ، أو كان من صام لا يكلم الناس فأُذن لها في هذا القدر من الكلام .
(3/375)

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{ فَرِيّاً } قبيحاً من الافتراء ، أو عجيباً ، أو عظيماً ، أو باطلاً ، أو متصنعاً من الفرية وهي الكذب .
(3/376)

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
{ يَا أُخْتَ هَارُونَ } لأبويه أو نسبت إلى رجل صالح كان أسمه هارون تنسب إليه من تعرف بالصلاح مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو نسبت إلى هارون أخي موسى لأنها من ولده كما يقال : يا أخا بني فلان أو كان رجلاً معلناً بالفسق فنسبت إليه .
(3/377)

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
{ فَأَشَارَتْ } إلى الله تعالى فلم يفهموا إشارتها ، أو إلى عيسى على الأظهر ألهمها الله تعالى ذلك بأنه سيبرئها ، أو أمرها به { مَن كَانَ } صلة ، أو بمعنى يكون { الْمَهْدِ } سرير الطفل ، أوة حجرها غضبوا لما أشارت إليه وقالوا : لسخريتها بنا أعظم من زناها ، فلما تكلم قالوا : إنَّ هذا لأمر عظيم .
(3/378)

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{ ءَاتَانِىَ } سيؤتيني { وَجَعَلَنِى } سيجلعني ، أو كان وقت كلامه في المهد نبياً كامل العقل ، قاله الحسن رضي الله تعالى عنه وكلمهم وهو ابن أربعين يوماً .
(3/379)

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
{ مُبَارَكاً } نفّاعاً ، أو معلماً للخير ، أو عارفاً بالله تعالى داعياً إليه ، أو آمراً بالعُرْف ناهياً عن المنكر . { بِالْصَّلاةِ } ذات الركوع والسجود ، أو الدعاء { وَالزَّكَاةِ } للمال ، أو التطهير من الذنوب .
(3/380)

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
{ جَبَّاراً } جاهلاً بأحكامه { شَقِيّاً } متكبراً عن عبادته ، أو الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا يقبل النصح .
(3/381)

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{ وَالْسَّلامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدتُّ } السلامة لي في الدنيا وفي القبر وفي البعث ، لأن له أحوالاً ثلاثة : حياة الدنيا والموت مقبوراً والبعث فسلم في هذه من الأحزان ، أو سلم في الولادة من همزة الشيطان إذ لا مولود إلا يهمزه { وَيَوْمَ أَمُوتُ } سلامته من ضغطة القبر لأنه غير مدفون في الأرض ، ويوم البعث : يحتمل سلامته من العرض والحساب . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه ثم انقطع كلامه حتى بلغ مبلغ الغلمان .
(3/382)

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ الْحَقِّ } الله ، أو عيسى سماه حقاً ، لأنه جاء بالحق ، أو القول الذي قاله عيسى من قبل { يَمْتَرُونَ } يشكون ، أو يختلفون فتقول فرقة هو الله وأخرى هو ابن الله وأخرى هو ثالث ثلاثة هذا قول النصارى ، وقال المسلمون : عبد الله ورسوله ، وقالت اليهود : لغير رشدة عند من قرأ تمترون .
(3/383)

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } اليوم كيف يصنع بهم يوم القيامة ، أو عجبه من سماعهم وإبصارهم في الآخرة .
(3/384)

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{ قَضَى أَمْراً } بعذابهم يوم البعث ، أو قضي بانقطاع توبتهم وتحقق الوعيد يوم الموت .
(3/385)

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
{ لأَرْجُمَنَّكَ } بالذم والسب ، أو بالأحجار لتبعد عني . { مَلِيّاً } دهراً طويلاً مؤبداً ، أو سوياً سليماً من عقوبتي ، أو غنياً .
(3/386)

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{ سَلامٌ } توديع وهجر ، أو سلام : إكرام وبر ، قابل جفوته بالإحسان رعاية لحق الأبوة وهو أظهر { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ } إن تركت عبادة الأوثان ، أو أدعو لك بالهُدى المقتضي للغفران { حَفِيّاً } مقرباً ، أو مكرماً ، أو رحيماً ، أو عليماً ، أو متعهداً .
(3/387)

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{ لِسَانَ صِدْقٍ } ثناء جميلاً ، أو جعلناهم كراماً على الله تعالى اللسان بمعنى الرسالة . قال :
أتتني لسان بني عامر ... أحاديثها بعد قول نكر
(3/388)

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{ الطُّورِ الأَيْمَنِ } جبل بالشام نودي من يمين الجبل ، أو من يمين موسى { وَقَرِّبْنَاهُ نَجِيّاً } قرب من المكان الذي شرفه فيه وعظمه ليسمع كلامه ، أو قربه من أعلى الحجب حتى سمع صريف القلم ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقال غيره سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة ، أو قربه باصطفائه واجتبائه { نَجِيّاً } ناجاه من النجوى التي لا يكون إلا في خلوة ، أو رفعه بعد التقريب من النجوة وهي الارتفاع ، أو نجاه بصدقه مأخوذ من النجاة ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يبلِّغ موسى من الكلام الذي ناجاه به شيئاً .
(3/389)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{ صَادِقَ الْوَعْدِ } وعد رجلاً أن ينتظره فانتظره ثلاثة أيام أو اثنين وعشرين يوماً أو حولاً كاملاً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(3/390)

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
{ أَهْلَهُ } ، قومه ، أو أهله يبدأ بهم ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عند الجمهور ، أو إسماعيل بن حزقيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته لأن إسماعيل مات قبل أبيه إبراهيم .
(3/391)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
{ إِدْرِيسَ } أو من أعطي النبوة وأول من خط بالقلم .
(3/392)

وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{ وَرَفَعْنَاهُ } إلى السماء الرابعة ، أو السادسة وهو في السماء حي لم يمت كعيسى ، أو مات في السماء وهو فيها ميت ، أو مات بين الرابعة والخامسة وهو أول من اتخذ السلاح ، وجاهد في سبيل الله تعالى وقتل بني قابيل وأول من وضع الوزن والكيل وأثار علم النجوم ، وأول من لبس الثياب وإنما كانوا يلبسون الجلود .
(3/393)

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ وَبُكِيّاً } سجودهم رغبة وبكاؤهم رهبة .
(3/394)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{ خَلْفٌ } بالسكون إذا خلفه من ليس من أهله وبالفتح إذا كان من أهله ، أو بالسكون في الذم وبالفتح في الحمد { مِن بَعْدِهِمْ } اليهود بعد متقدمي الأنبياء ، أو المسلمون بعد النبي صلى الله عليه وسلم من عصر الصحابة إلى قيام الساعة ، أو من بعد عصر الصحابة قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " يكون بعد الستين خلف أضاعوا الصلاة " الآية { أَضَاعُواْ الصَّلاةَ } بتركها ، أو تأخيرها عن وقتها { غَيّاً } وادٍ في جهنم أو خسراناً ، أو ضلالاً عن الجنة ، أو شراً أو خيبة .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومن يغوِ لا يعدم . . . . . . . .
أي يخب .
(3/395)

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{ لَغْواً } كلاماً فاسداً ، أو خُلفاً { سَلاماً } سلامة ، أو تسليم الملائكة عليهم { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } كان يعجبهم إصابة الغذاء والعشاء فأُخبروا أن ذلك في الجنة ، أو أراد مقدار البكرة والعشي من أيام الدنيا ، قيل : يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وغلق الأبواب ، ومقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب .
(3/396)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ } موضعاً من الجنة إلا بأمر الله تعالى من كلام أهل الجنة ، أو نزلت لما أبطأ جبريل عليه السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة فلما أتاه قال : " لقد غبت حتى ظن المشركون كل ظن " ، { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } الدنيا { وَمَا خَلْفَنَا } الآخرة { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين النفختين ، أو ما مضى من الدنيا { وَمَا خَلْفَنَا } ما يكون بعدنا من الدنيا والآخرة { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين ما مضى من قبل وما يكون من بعد { نَسِيّاً } ذا نسيان ، أو ما نسيك .
(3/397)

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{ سَمِيّاً } مثلاً من المساماة ، أو من يُسمى الله أو لا يستحق اسم الإله غيره ، أو ولداً .
(3/398)

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{ جَهَنَّمَ } اسم للنار أو لأعمق موضع فيها كالفردوس اسم لأعلى الجنة { جِثِيّاً } جماعات ، أو بروكاً على الركب .
(3/399)

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
{ شِيعَةٍ } الشيعة : الجماعة المتعاونون ، الأمة شيعة لاجتماعهم وتعانهم . { لَنَنزِعَنَّ } لنبدأن أو لنستخرجن { عِتِيّاً } افتراء بلغة تميم ، أو جرأة أو كفراً ، أو تمرداً ، أو معصية .
(3/400)

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ صِلِيّاً } دخولاً أو لزوماً .
(3/401)

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{ وَارِدُهَا } الحمى والأمراض ، عاد الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً ثم قال : " إن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " ، أو جهنم يردها الكفار خاصة ، انتقل من معاتبتهم إلى خطابهم ، أو عامة في المؤمن والكفار يردانها فتمس الكافر دون البر ، أو يردها المؤمن بمروره عليها ونظره إليها سروراً بما أنجاه الله تعالى منه { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 23 ] { حَتْماً } قضاء مقضياً ، أو قسماً واجباً .
(3/402)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{ مَّقَاماً } منزل إقامة في الجنة أو النار ، أو كلاماً قائماً بحجة معناه ، من فلجت حجته خير أم من دحضت حجته . { نَدِيّاً } أفضل مجلساً أو أوسع عيشاً .
(3/403)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{ أَثَاثَاً } متاعاً { وَرِءْياً } منظراً " ع " أو الجديد من ثياب البيت ، والريّ الارتواء من النعمة ، أو ما لا يراه الناس والرئي ما يرونه ، أو أكثر أموالاً وأحسن صوراً .
(3/404)

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ } يزيدهم هدى بالمعونة على الطاعة والتوفيق لمرضاته ، أو الإيمان بالناسخ والمنسوخ .
(3/405)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
{ لأُوتَيَنَّ مَالاً } نزلت في العاص بن وائل ، أو في الوليد بن المغيرة ، { لأُوتَيَنَّ } في الدنيا على قول الجمهور ، أو في الجنة استهزاء منه { وَوَلَداً } وُوْلدا واحد كعُدْم وَعَدم ، أو بالضم جمع وبالفتح واحد لغة قيس .
(3/406)

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
{ عَهْداً } عملاً صالحاً ، أو قولاً عهد به الله إليه .
(3/407)

وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{ وَنَرِثُهُ } نسلبه ما أعطيناه في الدنيا من مال وولد ، أو نحرمه ما تمناه منهما في الآخرة { فَرْداً } بلا مال ولا ولد ، أو بلا ولي ولا ناصر .
(3/408)

كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
{ سَيَكْفُرُونَ } سيجحد العابدون عبادتهما لما رأوا من سوء عاقبتها ، أو يكفر المعبود بالعابد ويكذبه { ضِدّاً } عوناً في الخصومة ، أو بلاء أو أعداء أو قرناء في النار يلعنونهم ، أو على ضد ما أمَّلوه فيهم " ح " .
(3/409)

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{ تَؤُزُّهُمْ } تزعجهم إلى المعاصي ، أو تغويهم أو تغريهم بالشر .
(3/410)

فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{ نَعُدُّ لَهُمْ } أعمالهم ، أو أيام حياتهم ، أو مدة انتظارهم إلى الانتقام منهم بالسيف والجهاد .
(3/411)

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
{ وَفْداً } ركباناً ، أو جماعة ، أو زواراً .
(3/412)

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
{ وِرْداً } مشاة ، أو عطاشاً من ورود الإبل عطاشاً ، أو أفراداً .
(3/413)

لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{ عَهْداً } وعداً من الله تعالى ، أو إيماناً به .
(3/414)

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
{ إِدّاً } منكراً ، أو عظيماً .
(3/415)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{ وُدّاً } محبة في الدنيا من الأبرار وهيبة عند الفجار ، أو يحبهم الله تعالى ويحببهم إلى الناس ، قال " ع " نزلت في علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه .
(3/416)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
{ لُّدّاً } فجاراً ، أو أهل لجاج وخصام من اللدود للزومهم الخصام كما يحصل اللدود في الأفواه أو الجدل في الباطل من اللدد وهو شدة الخصومة .
(3/417)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ رِكْزاً } صوتاً ، أو حساً ، أو ما لا يفهم من صوت أو حركة .
(3/418)

طه (1)
{ طه } اسم لله تعالى أقسم به . أو اسم للسورة أو اختصار كلام خص الرسول صلى الله عليه وسلم بعلمه ، أو حروف يدل كل حرف منها على معنى ، أو طوبى لمن اهتدى ، أوطأ الأرض بقدميك ولا تقم على أحدهما في الصلاة ، أو يا رجل بلغة عك ، أوطيء ، أو بالنبطية .
إن السفاهة طه من خليقتكم ... لا قدس الله أرواح الملاعين
(3/419)

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
{ لِتَشْقَى } بالتعب والسهر في قيام الليل ، أو بالأسف والحزن على كفرهم ، أو جواب لهم لما قالوا : إنه بالقرآن شقي .
(3/420)

إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{ تَذْكِرَةً } إنذرراً لمن يخشى الله ، أو زجراً لمن يتقي الذنوب والخوف ما ظهرت أسبابه ، والخشية ما لم تظهر أسبابه .
(3/421)

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ } ملكهما ، أو تدبيرهما ، أو علم ما فيهما { الثَّرَى } كل شيء مبتل ، أو التراب عند الجمهور ، والذي تحته : ما واراه التراب في بطن الأرض أو الصخرة الخضراء التي تحت الأرض السابعة وهي سجين التي فيها كتاب الفجار .
(3/422)

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{ السِّرَّ } ما ساررت به غيرك ، { وَأَخْفَى } ما أضمرته ولم تحدث به " ع " أو ما أضمرته في نفسك وأخفى ما لم يكن ولا أضمره أحد في نفسه ، أو أسرار عباده وأخفى سر نفسه عن خلقه ، أو ما أسره الناس وأخفى الوسوسة أو ما أسره من علمه [ و ] عمله السالف ، وأخفى : ما يعمله في المستأنف ، أو العزيمة ، وأخفى الهم دون العزيمة .
(3/423)

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } باصطفائه للنبوة وتحميله للرسالة .
(3/424)

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{ رَءَا نَاراً } في ظنه وهي نور عند الله ، وكانت ليلة الجمعة في الشتاء { امْكُثُواْ } أقيموا ، أو الإقامة تدوم والمكث لا يدوم { ءَانَسْتُ } أبصرت ، أو آنست بنار { هُدىً } هادياً يهديني على الطريق ، أو علامة استدل بها على الطريق ، وكانوا قد ضلوا عن الطريق ، فأقاموا بمكانهم [ بعد ذهاب موسى ] ثلاثة أيام فمر بهم راعي القرية فأخبرهم بمسير موسى عليه الصلاة والسلام فعادوا مع الراعي إلى قريتهم وأقاموا بها أربعين سنة حتى أنجز موسى أمر ربه .
(3/425)

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } لتباشر بقدميك بركة الوادي ، أو لأنهما من جلد حمار ميت فخلعهما ورمى بهما وراء الوادي { الْمُقَدَّسِ } المبارك ن أو المطهر { طُوىً } اسم للوادي ، أو لأنه مَرَّ به ليلاً فطواه " ع " ، أو لأنه نودي به مرتين ، طوى في كلامهم بمعنى مرتين ، لأن الثانية كالمطوية على الأولى ، أو لأن الوادي قدس مرتين ، أوطأ الوادي بقدميك .
(3/426)

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{ لِذِكْرِى } لتذكرني فيها ، أو لا تدخل فيها إلا بذكر ، أو حين تذكرها .
(3/427)

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{ أُخْفِيهَا } لا أظهر عليها أحداً فيكون " أكاد " بمعنى أريد ، أو أُخفيها من نفسي " ع " مبالغة في تبعيد إعلامه بها ، أو أخفيها أظهرها أخفيته كتمته وأظهرته من الأضداد ، وأسررته كتمته وأظهرته أيضاً ، أو المعنى آتية : أكاد آتي بها فحذف للعلم به ثم استأنف { أُخْفِيهَا لِتُجْزَىَ كُلُّ نَفْسٍ } قال :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
أي وكدت أقتله . { بِمَا تَسْعَى } من خير أو شر ، أقسم أنه يأتي بها للجزاء ، أو أخبر بذلك .
(3/428)

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{ فَتَرْدَى } فتشقى ، أو تزل .
(3/429)

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{ وَمَا تِلْكَ } سؤال تقرير وجوابه { هِىَ عَصَاىَ } ولكنه أضافها إلى ملكه ليكفي الجواب إن سئل عنها ثم ذكر احتياجه إليها لئلا يكون عابثاً بحملها { وَأَهُشُ } أخبط ورق الشجر ، والهش والهس واحد ، أو المعجم خبط الشجر ، وغير المعجم زجر الغنم { مَآرِبُ } حاجات نص على لوازم الحاجات وكنى عن عارضها من طرد السباع ، أو قدح النار واستخراج الماء أو كانت تضيء له بالليل .
(3/430)

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{ جَنَاحِكَ } عضدك ، أو جنبك ، أو جيبك عبّر عنه بالجناح لأنه مائل في جهته .
(3/431)

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
{ عُقْدَةً } من الجمرة التي ألقاها في فمه صغيراً ، أو حدثت عند مناجاته ربه فلا يكلم غيره إلا بإذنه ، أو استحياؤه من الله تعالى أن يكلم غيره بعد مناجاته .
(3/432)

اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{ أَزْرِى } الظهر من موضع الحقوين ، أو يكون عوناً يستقيم به أمري وكان هارون أكبر منه بثلاث سنين ، " وأكثر لحماً وأتم طولاً وأبيض جسماً وأفصح لساناً ومات قبل موسى بثلاث سنين " وكان بجبهته شامة وعلى أرنبة أنف موسى شامة ، وعلى طرف لسانه شامة " لم تكن على أحد من قبله ولا تكون على أحد بعده قيل إنها سبب العقلة في لسانه " .
(3/433)

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{ مَحَبَّةً مِّنِّى } حببتك إلى عبادي ، أو حسناً وملاحة ، أو رحمتي ، أو من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فخلصت منه ، وأحبتك آسية بن مزاحم فتبنتك { وَلِتُصْنَعَ } لتغذى على اختياري ، أو تصنع بك أمك ما صنعت في اليم بعيني ومشاهدتي .
(3/434)

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{ فُتُوناً } اختباراً حتى صلحت للرسالة ، أو بلاء بعد بلاء خلصناك من محنة بعد محنة ، أولها حملته أمه في سنة الذبح ، ثم أُلقي في اليم ثم مُنع الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم جر بلحية فرعون فهم بقتله فتناول الجمرة بدل الدرة فتركه ، ثم جاءه رجل يسعى بما عزموا عليه من قتله " ع " أو أخلصناك إخلاصاً { عَلَى قَدَرٍ } موعد ، أو قدر من النبوة والرسالة .
(3/435)

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{ لِنَفْسِى } لمحبتي ، أو لرسالتي .
(3/436)

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{ وَلا تَنِيَا } تفترا في أمري ، أو تضعفا في رسالتي ، أو تبطئا " ع " ، أو لا تزالا .
(3/437)

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
{ لَّيِّناً } لطيفاً رفيقاً ، أو كنياه وكنيته أبو مرة أو أبو الوليد قيل كان لحسن تربية موسى فجعل الله تعالى رفقه به مكافأة له لما عجز موسى عنه مكافأته .
(3/438)

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
{ يَفْرُطَ } يعجل ، أو يعذبنا عذاب الفارط في الذنب وهو المتقدم فيه ، أفرط إذا أكثر من الشيء وَفَرطَ إذا نقص منه { أَوْ أَن يَطْغَى } يقتلنا .
(3/439)

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ كُلَّ شَىْءٍ } زوجه من جنسه ثم هداه لنكاحه ، أو صورته ثم هداه إلى معيشته وطعامه وشرابه ، أو ما يصلحه ثم هداه له .
(3/440)

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
{ الْقُرُونِ } " القرن : أهل كل عصر لاقترانهم فيه ، أو أهل كل عصر فيه نبي ، أو طبقة عالية من العلم لاقترانهم بأهل العلم " ، قاله الزجاج ، سأله عنهم هل كانوا على مثل ما يدعوا إليه ، أو بخلافه ، أو ذكره دفعاً للجواب وقطعاً لما دعا إليه وعنتاً ، أو سأل عن بغيهم للجزاء ، أو لما دعاه إلى الإيمان بالبعث قال : فما بال القرون لم يبعثوا .
(3/441)

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{ فِى كِتَابٍ } اللوح المحفوظ { لا يَضِلُّ رَبِّى } لا يخطىء فيه ولا يتركه أو لا يضل الكتاب عن ربي ولا ينسى ربي ما في الكتاب " ع " ولم يكن موسى يعلم علم القرون لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون .
(3/442)

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{ النُّهَى } الحكم أو العقل ، أو الورع لأنه يُنتهى إلى رأيهم ، أو لأنهم ينهون النفس عن القبيح .
(3/443)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{ ءَايَاتِنَا } الدالة على التوحيد ، أو على نبوة موسى صلى الله عليه وسلم . { فَكَذَّبَ } الخبر { وَأَبَى } الطاعة .
(3/444)

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
{ سُوىً } منصفاً بينهم ، أو عدلاً وسطاً ، أو مستوياً يتبين للناس ما بيننا فيه ، وسوى بالضم والكسر واحد ، أو بالضم المنصف وبالكسر العدل .
(3/445)

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{ يَوْمُ الزِّينَةِ } عيد كان لهم ، أو يوم السبت ، أو عاشوراء ، أو يوم سوق كانوا يتزينون فيه .
(3/446)

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{ لا تَفْتَرُواْ } بسحركم ، أو بقولكم إني ساحر { فَيُسْحِتَكُم } يستأصلكم بالهلاك .
(3/447)

فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{ أَمْرَهُم } فما هيؤوه من الحبال والعصي ، أو أيهم يبدأ بالإلقاء . { النَّجْوَى } قولهم : إن كان ساحراً فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمره ، أو لما قال : { وَيْلَكُمْ } الآية ، قالوا ما هذا كلام ساحر ، أو أسروها دون موسى وهارون { إِنَّ هذان لساحران } الآيات ، أو قالوا : إن غلبنا موسى اتبعناه .
(3/448)

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
{ إِنَّ هذان } رفع الاثنين ونصبهما وخفضهما بالألف على لغة بلحارث بن كعب وكنانة وزبيد ، قال :
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغاً لناباه الشجاع لصمما
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
أو تقديره " إنه هذان " فحذف الهاء وإن لم تكن هذه اللغة فصحى فيجوز ورود القرآن بالأفصح وبما عداه قاله متقدمو النحاة أو هذان مبني كبناء الذين لا يتغير في أحوال الإعراب ، أو إن بمعنى نعم .
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
وهو قول السحرة ، أو قول فرعون أشير به إلى جماعة ، أو قول قومه . { بِطَرِيقَتِكُمُ } أهل العقل والشرف والأسنان ، أو بنو إسرائيل كانوا ذوي عدد ويسار ، أو بسيرتكم ، أو بدينكم وعبادتكم لفرعون ، أو بأهل طريقتكم المثلى ، والمثلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل .
(3/449)

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{ فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أجمعوا جماعتكم على أمرهم في كيد موسى وهارون ، أو أحكموا أمركم .
(3/450)

قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{ بَلْ أَلْقُواْ } إنما أمر بذلك لإظهار حجته وبطلان كيدهم وإلا فهو كفر لا يجوز الأمر به ، أو هو خبر بصيغة الأمر تقديره " إن كان إلقاؤكم حجة فألقوا " . وكانوا سبعين ألف ساحر أو تسعمائة ثلاثمائة من العريش وثلاثمائة من الفيوم ويشكون في الثلاثمائة من الإسكندرية ، أو اثنين وسبعين اثنان من القبط وسبعون من بني إسرائيل ، كانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء .
(3/451)

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
{ فَأَوْجَسَ } فأسر { خِيفَةً } أن يلتبس الأمر على الناس فيظنوا أن الذي فعلوه مثل فعله ، أو وجد ما هو مركوز في الطباع من الحذر .
(3/452)

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
{ تَلْقَفْ } تبتلع بسرعة فابتلعت حمل ثلاثمائة بعير من الحبال والعصي ثم أخذها موسى فرجعت كما كانت وكانت من عوسج ، أو من آس الجنة " ع " وبها قتل موسى عليه الصلاة والسلام عوج بن عناق .
(3/453)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{ سُجَّداً } طاعة لله تعالى وتصديقاً بموسى فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما ، فلذلك { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } ، وسألت امرأة فرعون عن الغالب فقيل : موسى وهارون ، فقالت : آمنت برب موسى وهارون ، فأمر فرعون بأن يُلقى عليها أعظم صخرة توجد إن أقامت على قولها فلما أتوها رفعت رأسها إلى السماء فرأت منزلها في الجنة ، فمضت على قولها فانتزعت روحها فأُلقيت الصخرة على جسد لا روح فيه .
(3/454)

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{ وَالَّذِى فَطَرَنَا } قسم ، أو معطوف { فَاقْضِ } فاصنع ما أنت صانع أو احكم ما أنت حاكم .
(3/455)

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{ وَاللَّهُ خَيْرٌ } منك { وَأَبْقَى } ثواباً إن أُطيع وعقاباً إن عُصي ، أو { خَيْرٌ } ثواباً منك إن أطيع و [ { وَأَبْقَى } ] عقاباً إن عُصى .
(3/456)

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
{ لا تَخَافُ دَرَكاً } من فرعون { وَلا تَخْشَى } غرقاً من البحر .
(3/457)

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
{ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } لا تكفروا به ، ولا تستعينوا برزقي على معصيتي أو لا تدخروا منه لأكثر من يوم وليلة فادخروه فدوُّد ولولا ذلك لما دوَّد طعام أبداً " ع " { فَيَحِلَّ } بالضم ينزل وبالكسر يجب . { هَوَى } في النار ، أو هلك في الدنيا .
(3/458)

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{ لِّمَن تَابَ } من الشرك { وَءَامَنَ } بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ اهْتَدَى } لم يَشُك في إيمانه " ع " أو لزم الإيمان حتى يموت ، أو أخذ بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو أصاب العمل ، أو عرف جزاء عمله من ثواب ، أو عقاب ، أو اهتدى في ولائه أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(3/459)

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
{ أَسِفاً } شديد الغضب ، أو الحزين ، أو الجزع ، أو المتندم ، أو المتحسر { وَعْداً حَسَناً } النصر والظفر ، أو قوله تعالى { وَإِنِّى لَغَفَّارٌ } الآية أو ثواب الآخرة ، أو التوراة يعملون بما فيها فيستحقون ثوابه { مَّوْعِدِى } " وعدهم أن يقيموا على أمره فاختلفوا ، أو بالميسر " على أثره للميقات فتوقفوا .
(3/460)

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
{ بِمَلْكِنَا } بطاقتنا ، أو بملك أنفسنا عند البلية التي وقعت بنا ، أو لم يملك المؤمنون منع السفهاء من ذلك ، وعدهم أربعين ليلة فعدوا عشرين يوماً وظنوا أنهم أكملوا الميعاد بالليالي وأوهمهم السامري ذلك . { أَوْزَاراً } أثقالاً من زينة { الْقَوْمِ } قوم فرعون لأن موسى أمرهم أن يستعيروا حليهم .
(3/461)

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً } لما استبطؤوا موسى قال السامري : إنما احتبس عنكم من أجل ما عندكم من الحلي ، فجمعوه ودفعوه للسامري فصاغ منه عِجلاً ، وألقى عليه قبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام ، وهو الحياة فصار له خوار { خُوَارٌ } لما ألقى قبضة أثر الرسول حَيَ العجل وخار " ح " أو لم يصر فيه حياة ولكن جعل فيه خروقاً إذا دخلتها [ الريح ] سمع لها صوت كالخوار { فَنَسِى } السامري إسلامه وإيمانه ، أو قال السامري قد نَسِي موسى إلاهه عندكم ، أو نَسِي السامري أن قومه لا يصدقونه في عبادة عجل لا يضر ولا ينفع ، أو نَسِي موسى أن قومه عبدوا العجل بعده .
(3/462)

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{ أَفَلا يَرَوْنَ } أفلا يرى بنو إسرائيل أن العجل لا يرد إليهم جواباً ، قيل : لما مضى من الموعد خمس وثلاثون أمر السامري بجمع الحلي وصاغه عجلاً في السادس والثلاثين والسابع والثامن ودعاهم إلى عبادته في التاسع فأجابوه وجاء موسى بعد كمال الأربعين .
(3/463)

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
{ ضَلُّواْ } بعبادة العجل .
(3/464)

أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{ تتبعني } في الخروج من بينهم ، أو في منعهم والإنكار عليهم { أَمْرِى } قول { اخلفنى فِي قَوْمِى } الآية [ 142من الأعراف ] .
(3/465)

قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{ يَبْنَؤُمَّ } كان أخاه لأبويه ، أو لأبيه دون أُمه ، وقاله استرقاقاً واستعطافاً . { بِلِحْيَتِى } أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره " ع " ، أو بلحيته وأذنه ، فعبّر عن الأذن بالرأس ، فعل ذلك لِيُسر إليه نزول الألواح عليه في تلك المناجاة إرادة إخفائها على بني إسرائيل قبل التوبة ، أو وقع عنده أن هارون ما يلهم في أمر العجل ، قلت : وهذا فجور من قائله لأن ذلك لا يجوز على الأنبياء ، أو فعل ذلك لتركه الإنكار على بني إسرائيل ومقامه بينهم وهو الأشبه . { فَرَّقْتَ } بينهم بما وقع من اختلاف معتقدهم ، أو بقتال من عبد العجل منهم ، قيل : عبدوه كلهم إلا اثني عشر ألفاً بقوا مع هارون لم يعبدوه { وَلَمْ تَرْقُبْ } لم تعمل بوصيتي ، أو لم تنتظر عهدي .
(3/466)

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
{ فَمَا خَطْبُكَ } الخطب ما يحدث من الأمور الجليلة التي يخاطب عليها ، وكان السامري كرمانياً تبع موسى ، " أو من عظماء بني إسرائيل " اسمه موسى بن ظفر من قبيلة يقال لها سامرة ، أو قرية يقال لها : سامرة .
(3/467)

قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{ بَصُرْتُ } نظرت ، أو فطنت ، بصرت وأبصرت واحد ، أو أبصرت نظرت ، وبصرت فطنت والقبضة بجميع الكف وبغير إعجام بأطراف الأصابع { الرَّسُولِ } جبريل عليه السلام عرفه لأنه رآه يوم فلق البحر حين قبض القبضة من أثره ، أو عرفه لأنه كان يغذوه صغيراً لما ألقته أمه خوفاً أن يقتله فرعون لما كان يقتل بني إسرائيل فعرفه في كبره فأخذ التراب من تحت حافر فرسه { فَنَبَذْتُهَا } ألقاها فيما سكه من الحلي فخار بعد صياغته ، أو ألقاها في جوفه بعد صياغته فظهر خواره ، أو الرسول موسى وأثره شريعته ، قبض قبضة من شريعته نبذها وراء ظهره ثم اتخذ العجل إِلهاً ، ونبذُها ترك العمل بها . { سَوَّلَتْ } حدثت ، أو زينت .
(3/468)

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
{ فَاذْهَبْ } وعيد من موسى ، فخاف فهرب يهيم في البرية مع الوحش لا يجد أحداً من الناس يمسه ، فصار كالقائل لا مساس لبعده عن الناس وبعدهم عنه أو حرمه موسى بهذا القول ، فكان بنو إسرائيل لا يخالطونه ولا يؤاكلونه فكان لا يَمس ولا يُمس .
(3/469)

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{ وَسِعَ } أحاط علمه بكل شيء فلم يخرج عن علمه شيء ، أو لم يخل شيء من علمه به .
(3/470)

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{ زُرْقاً } عمياً ، أو عطاشاً ، ازرقت أعينهم من العطش أو شوه خلقهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه ، أو الطمع الكاذب إذا تعقبته الخيبة وهو نوع من العذاب ، أو شخوص البصر من شدة الخوف ، " أو الزرق الأعداء يعادي بعضهم بعضاً من قولهم : عدو أزرق " .
(3/471)

يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
{ يَتَخَافَتُونَ } يتسارون { إِن لَّبِثْتُمْ } في الدنيا ، أو القبور { إِلا عَشْراً } على التقريب دون التحديد .
(3/472)

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أكثرهم سداداً ، أو أوفرهم عقلاً { إِن لَّبِثْتُمْ } في الدنيا ، أو القبور { إِلا يَوْماً } لأنه كان عنده أقصر زماناً وأقل لبثاً .
(3/473)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
{ يَنسِفُهَا } يجعلها كالرمل تنسفه الرياح ، أو تصير كالهباء .
(3/474)

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{ قَاعاً } موضعاً مستوياً لا نبات فيه ، أو أرضاً ملساء ، أو مستنقع الماء قاله الفراء . { صَفْصَفاً } موضعاً لا نبات فيه ولا مستوياً كأنه على وصف واحد في استوائه .
(3/475)

لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{ عِوَجاً } وادياً { أَمْتاً } رابية " ع " ، أو عوجاً : صدعاً ، أمتاً : أكمة ، أو عوجاً : ميلاً ، أمتاً : أثراً ، أو الأمت الحدب والانثناء ، أو الصعود والارتفاع من الأمت في العصا والحبل وهو أن يغلظ في مكان منه ويدق في مكان .
(3/476)

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{ وَخَشَعَتِ } خضعت بالسكون { هَمْساً } صوتاً خفياً ، أو تحريك الشفة واللسان ، أو نقل الأقدام .
(3/477)

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
{ وَعَنَتِ } ذلت ، أو خشعت ، الذليل أن يكون ذليل النفس والخشوع أن يتذلل لذي طاعة أو عملت أو استسلمت ، أو وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود { الْقَيُّومِ } القائم على كل نفس بما كسبت ، أو بتدبير الخلق ، أو الدائم الذي لا يزول ولا يبيد { حَمَلَ ظُلْماً } شركاً .
(3/478)

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } بالزيادة في سيئاته { وَلا هَضْماً } بالنقصان من حسناته " ع " .
(3/479)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
{ لَهُمْ ذِكْراً } جداً ، أو شرفاً لإيمانهم به أو ذكراً يعتبرون به .
(3/480)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرءَانِ } لا تسأل إنزاله قبل أن يأتيك وحيه ، أو لا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله ، أو لا تعجل بتلاوته قبل فراغ جبريل من إبلاغه خوف نسيانه { زِدْنِى عِلْماً } علماً : قرآناً .
(3/481)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{ فَنَسِىَ } ترك أَوْ سَهَا { عَزْماً } صبراً ، أو حفظاً ، أو ثباتاً قال أبو أمامة لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه على حلمهم وقد قال الله تعالى { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أو عزماً في العود إلى الذنب ثانياً .
(3/482)

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{ فَتَشْقَى } " بأن تأكل من كد يدك وما تكسبه بنفسك وتصنعه بيدك " أراد فيشقيا لاستوائهما في العلة ، وخصه بالذكر لأنه المخاطب دونها ، أو لأنه الكاد عليها الكاسب لها .
(3/483)

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ } ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة " ع " .
(3/484)

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ } بجعل الجزاء يوم القيامة ، أو بتأخيرهم إلى يوم بدر { لِزَاماً } عذاباً لازماً ، أو فصلاً { وَأَجَلٌ مُّسَمّىً } يوم بدر ، أو يوم القيامة . تقديره " ولولا كلمة وأجل لكان لِزاماً " .
(3/485)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{ مَا يَقُولُونَ } من الأذى والافتراء { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } صلاة العصر { ءَانَآىءِ الَّيْلِ } ساعاته واحدها إني صلاة الليل كله ، أو المغرب والعشاء { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } صلاة الظهر لأنها آخر النصف الأول وأول النصف الثاني ، أو صلاة التطوع { تَرْضَى } تُعطى و " تُرضى " بالكرامة ، أو الشفاعة .
(3/486)

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ تَمُدَّنَّ } لا تأسفن ، أو لا تنظرن . { أَزْوَاجاً } أشكالاً من المزاوجة { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ } زينتها { لِنَفْتِنَهُمْ } لنعذبهم { وَرِزْقُ رَبِّكَ } القناعة بما تملكه والزهد فيما لا تملكه ، أو ثواب الآخرة { خَيْرٌ وَأَبْقَى } مما مُتِّعوا به ، نزلت لما أبى اليهودي أن يُسلف الرسول صلى الله عليه وسلم الطعام إلا برهن فشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم .
(3/487)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{ أَهْلَكَ } نسباؤك ، أو من أطاعك لتنزلهم منزلة الأهل في الطاعة { وَالْعَاقِبةُ } حسن العاقبة لذوي التقوى .
(3/488)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
{ حِسَابُهُمْ } عذاب بدر ، أو حساب القيامة لأن كل آتٍ قريب ، أو لقلة ما بقي من الزمان وكثرة ما مضى .
(3/489)

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{ مُّحْدَثٍ } تنزله سورة بعد سورة وآية بعد آية .
(3/490)

لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
{ لاهِيَةً } غافلة باللهو عن الذكر أو مشتغلة بالباطل عن الحق { وَأَسَرُّواْ } أخفوا ، أو أظهروا .
(3/491)

بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{ أَضْغَاثُ } أهاويل أحلام ، أو تخاليط ، أو ما لا تأويل له { أَحْلامٍ } ما لا تأويل له ولا تفسير ، أو الرؤيا الكاذبة .
(3/492)

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{ أَهْلَ الذِّكْرِ } التوراة والإنجيل ، أو مؤمنو أهل الكتاب ، أو المسلمون .
(3/493)

وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ } ولا يموتون فنجعلك كذلك ردٌ لقولهم { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ } الآية [ الأنبياء : 3 ] أو ما جعلناهم جسداً إلا ليأكلوا للطعام فلذلك خلقناك جسداً مثلهم ، جسداً : هو المُجَسدُ الذي فيه روح ويأكل ويشرب ، أو ما لا يأكل ولا يشرب .
(3/494)

لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{ ذِكْرُكُمْ } شرفكم إن عملتم به ، أو حديثكم ، أو ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، أو مكارم أخلاقكم ومحاسن أعمالكم .
(3/495)

فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
{ أَحَسَّواْ } عاينوا عذابنا { مِّنْهَا } من القرية ، أو العذاب { يَرْكُضُونَ } يسرعون .
(3/496)

لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{ وَارْجِعُواْ } استهزاء بهم وتوبيخ { أُتْرِفْتُمْ } نعمتم { تُسْئَلُونَ } شيئاً من دنياكم استهزاء بهم ، أو عما عملتم ، أو تفيقون بالمسئلة .
(3/497)

فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
{ حَصِيداً } قطعاً بالاستئصال كحصاد الزرع { خَامِدِينَ } بالعذاب ، أو بالسيف لما قتلهم بختنصر ، والخمود : الهمود تشبيهاً لخمود الحياة بخمود النار إذا طُفِئت كما يقال لمن مات طُفىء تشبيهاً بانطفاء النار .
(3/498)

لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{ لَهْواً } ولداً [ ردٌ ] لقولهم في عيسى ، أو المرأة بلغة أهل اليمن [ ردٌ ] لقولهم في مريم ، أو داعي الهوى ونازع الشهوة { مِن لَّدُنَّآ } لاتخذنا نساءً وولداً من أهل السماء لا من أهل الأرض { إِن كُنَّا } نفي ، أو شرط تقديره لاتخذناه عندنا بحيث لا يصل علمه إليكم .
(3/499)

بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
{ بِالْحَقِ } المتبوع على الباطل المدفوع ، أو بالقرآن ، والباطل إبليس { زَاهِقٌ } ذاهب ، أو هالك .
(3/500)

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
{ يَسْتَحْسِرُونَ } يملون ، أو يعيون ، أو يستنكفون ، أو ينقطعون والبعير المنقطع بالإعياء حسيرٌ .
بها جيف الحسرى . . . . . . . . . . . . ...
(4/1)

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{ مِّنَ الأَرْضِ } مما خلق في الأرض { يُنشِرُونَ } يخلقون ، أو يحيون الموتى من النشر بعد الطي .
(4/2)

لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
{ إِلا اللَّهُ } سوى الله ، أو " إلا " بمعنى الواو { لَفَسَدَتَا } هلكتا بالفساد .
(4/3)

لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
{ لا يُسْئَلُ } عن قضائه وهو يَسأل الخلق عن أعمالهم أو لا يُحاسب على أفعاله وهم يُحاسبون ، أو لا يُسأل عن أفعاله لانها صواب ولا يريد بها الثواب { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } لأن في أعمالهم غيرَ الصواب وقد لا يَريدون بها الثواب ، وإن كانت صواباً .
(4/4)

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{ ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } يما يلزمهم من حلال وحرام { وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك ، أو ذِكرُ من معي بإخلاص التوحيد في القرآن وذِكرُ من قبلي في التوراة والإنجيل .
(4/5)

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الآخرة { وَمَا خَلْفَهُمْ } من الدنيا ، أو ما قدموا وأخروا من أعمالهم ، أو ما عملوا وما لم يعملوا { وَلا يَشْفَعُونَ } في الدنيا أو الآخرة في القيامة { ارْتَضَى } عمله ، أو رضي عنه .
(4/6)

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
{ رَتْقاً } ملتصقتين ففتق الله تعالى عنهما بالهواء " ع " أو كانت السموات مرتتقة مُطبقة ففتقها سبعاً وكذلك الأرض ، أو السماءَ رتقاً لا تُمطر ففتقها بالمطر ، والأرض لا تنبت ففقتها بالنبات ، الرَتقُ : السد ، والفتقُ : الشق . { كُلَّ شَىْءٍ } خلق كل شيء من الماء ، أو حفظ حياة كل حي بالماء ، أو أراد ماء الصلب .
(4/7)

وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{ رَوَاسِىَ } لأنها رست في الأرض وثبتت أو لأن الأرض رست بها فالرواسي الثوابت ، أو الثقال { تَمِيدَ } تزول ، أو تضطرب { فِجَاجاً } أعلاماً يُهتدي بها ، أو جمع فج وهو الطريق الواسع بين الجبلين { سُبُلاً } للاعتبار ، أو مسالك للسابلة { يَهْتَدُونَ } بالاعتبار بها إلى دينهم ، أو ليهتدوا طُرق بلادهم .
(4/8)

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
{ مَّحْفُوظاً } أن يقع على الأرض ، أو مرفوعاً ، أو من الشياطين .
(4/9)

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{ فَلَكٍ } الفلك السماء ، أو القطب المستدير الدائر بما فيه من القمرين والنجوم ومنه فَلكة المغزل لاستدارتها ودورانها . واستدارة الفلك كدور الكرة ، أو كدور الرحى والفلك السماء تدور بالقمرين والنجوم ، أو استدارة في السماء تدور بالنجوم مع ثبوت السماء ، أو استدارة بين السماء والأرض تدور فيها النجوم . { يَسْبَحُونَ } يجرون ، أو يدورون " ع " .
(4/10)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{ بِالشَّرِّ } الشدة والرخاء ، أو بالفقر والمرض { وَالْخَيْرِ } الغنى والصحة أو الشر : غلبة الهوى ، والخير : العصمة من المعاصي ، أو ما تحبون وما تكرهون لنعلم شكركم عى ما تحبون وصبركم على ما تكرهون { فِتْنَةً } ابتلاء واختباراً .
(4/11)

خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{ الإِنسَانُ } آدم خلق بعجل يوم الجمعة آخر الأيام الستة قبل غروب الشمس أو لما نفخ الروح في عينيه ولسانه بعد إكمال صورته سأل ربه أن يعجل تمام خلقه وإجراء الروح في جسده قبل الغروب ، أو العجل الطين . قال :
والنبع في الصخرة الصماء منبتهُ ... والنخل ينبت بين الماء والعجل
أو الإِنسان الناس كلهم فخلق الإنسان عجولاً ، أو خلق على حب العجلة ، أو خلقت العجلة فيه ، والعجلة تقديم الشيء قبل وقته ، والسرعة تقديمه في أول أوقاته .
(4/12)

قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{ يَكْلَؤُكُم } يحفظكم استفهام نفي .
(4/13)

أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{ يُصْحَبُونَ } يُجارون ، إن لك من فلان صاحباً أي مجيراً ، أو يُحفظون ، أو ينصرون أو لا يُصحبون من الله بخير .
(4/14)

بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
{ نَنقُصُهَا } بالظهور عليها وفتحها بلداً بعد بلد " ح " أو بنقصان أهلها وقلة بركتها ، أو بالقتل والسبي أو بموت فقهائها وعلمائها .
(4/15)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{ الْفُرْقَانَ } التوراة الفارقة بين الحق والباطل ، أو البرهان الفارق بين حق موسى وباطل فرعون ، أو النصر والنجاة الفارقان بين موسى وفرعون .
(4/16)

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
{ رُشْدَهُ } النبوة ، أو هدايته في الصغر { مِن قَبْلُ } إرساله نبياً ، أو من قبل : موسى وهارون { عَالِمِينَ } بأهليته للرشد ، أو للنبوة .
(4/17)

فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
{ جُذَاذاً } حُطاماً " ع " ، جِذاذاً : قِطعاً مقطوعة ، قال الضحاك : هو أن يأخذ من كل عضوين عضواً ويدع عضواْ . من الجذ وهو القطع .
(4/18)

قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{ أَعْيُنِ النَّاسِ } بمرأى منهم { يَشْهَدونَ } عقابه " ع " أو يشهدون عليه بما فعل كرهوا عقابه بغير بينة " ح " أو بما يقول من حجة وما يقال له من جواب .
(4/19)

قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{ فَسْئَلُوهُمْ } جعل سؤالهم مشروطاً بنطقهم ، أو أخرجه مخرج الخبر يريد من اعتقدها آلهة لزمه السؤال فلعلها تجيبه إن كانت ناطقة ، وقوله { يَنطِقُونَ } أي يخبرون .
(4/20)

فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
{ إِلَى أَنفُسِهِمْ } رجع بعضهم إلى بعض ، أو رجع كل واحد إلى نفسه مفكراً فيما قاله إبراهيم . { أَنتُمُ الظَّالِمُونَ } بسؤاله لأنها لو كانت آلهة لم يصل إليها ، حادوا عما أرادوه من الجواب وأنطقهم الله بالحق .
(4/21)

ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ نُكِسُواْ } رجعوا إلى الشرك بعد اعترافهم بالحق ، أو رجعوا احتجاجهم على إبراهيم بقولهم { لَقَدْ عَلِمْتَ } " الآية " أو خفضوا رؤوسهم .
(4/22)

قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{ قَالُواْ حَرِّقُوهُ } أشار عليهم بذلك رجل من أكراد فارس ، أو هيزون فخسفت به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، ولما أوثق ليلقى فيها قال : لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين ، لك الحمد ولك الملك ولا شريك لك ، فلما أُلقي فيها قال : " حسبي الله ونعم الوكيل " فلم يحرق منه إلا وثاقه ، وكان ابن ست وعشرين سنة " ولم يبق يومئذ في الأرض دابة إلا كانت تطفىء النار عنه إلا الوزغ كان ينفخها فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله " ، قال الكلبي : بنوا له أتوناً ألقوه فيه وأوقدوا عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوه عليه وفتحوه من الغد فإذا هو عرق أبيض لم يحترق ، وبردت نار الأرض فما أنضجت يومئذ كراعاً .
(4/23)

وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً } كان ابن أخي إبراهيم فآمن به فنجا معه { إِلَى الأَرْضِ } مكة ، أو أرض القدس ، أو الشام { بَارَكْنَا } ببعث أكثر الأنبياء منها أو بكثرة خصبها ونمو نباتها ، أو بعذوبة مائها وتفرقه في الأرض منها فتهبط المياه العذبة من السماء إلى صخرة بيت المقدس ثم تتفرق في الأرض .
(4/24)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{ نَافِلَةً } غنيمة ، أو النافلة ابن الأبن ، أو زيادة العطاء فالنافلة يعقوب لأنه دعا بالولد فزاده الله تعالى ولد الولد " ع " أو النافلة إسحاق ويعقوب لأنهما زيادة على ما تقدم من الإنعام عليه .
(4/25)

وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
{ وَلُوطاً ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً } نبوة أو قضاء بين الناس " ع " { وَعِلْماً } فقهاً { الْخَبَآئِثَ } اللواط ، أو الضراط والقرية : سدوم .
(4/26)

وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ نَادَى } دعانا على قومه من قبل إبراهيم { الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } الغرق بالطوفان .
(4/27)

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ الْحَرْثِ } زرع ، أو كرم نبتت عناقيده { نَفَشَتْ } النفش رعي الليل والهمل رعي النهار ، قال بعض المتكلمين كان حكمهما صواباً متفقاً إذ لا يجوز الخطأ على الأنبياء فقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } لأنه أوتي الحكم في صغره وأوتيه داود في كبره ، وهذا شاذ ، أو أخطأ داود وأصاب سليمان على قول الجمهور فحكم داود لصاحب الحرث الغنم ، وحكم سليمان بأن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث لينتفع بدرها ونسلها ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليعمره فإذا عاد في القابل رُدت الغنم إلى صاحبها والحرث إلى مالكه فرجع داود إلى حكمه ، ويجوز أن يكون ذلك اجتهاداً من سليمان ويكون داود فُتْيا عبّر عنها بالحكم لئلا تكون نقضاً للأجتهاد بالاجتهاد ، ويجوز أن يكون حكم سليمان عن وحي فيجب على داود نقض الحكم عملاً بالنص ، قلت : ويمكن أن يجوز في شرعهم نقض الاجتهاد بالاجتهاد والخطأ جائز على جميع الأنبياء ، أو يُستثنى منهم محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا نبي بعده يستدرك غلطه ، وهذا مبني على جواز اجتهاد الأنبياء ، وشرعنا موافق لشرعهما في ضمان ما أتلفته البهائم ليلاً وإن اختلف الشرعان في صفة الضمان وكيفيته { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ } ذللنا ، أو ألهمنا { يُسَبِّحْنَ } يسرن من السبح ، أو يصلين ، أو يسبحن تسبيحاً كان مسموعاً كان يفهمه .
(4/28)

وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
{ لَبُوسٍ } الدروع ، أو جمع السلاح لبوس عند العرب { بَأَسِكُمْ } سلاحكم ، أو حرب أعدائكم .
(4/29)

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
{ عَاصِفَةً } العصوف شدة حركتها ، والتِّبْن عصف لأنها تعصفه بشدة تطييرها له { الأَرْضِ } الشام بورك فيها بمن بُعث فيها من الأنبياء ، أو بأن مياه أنهار الأرض تجري منها ، أو بما أودعها من الخيرات فما نقص من الأرض زيد في الشام وما نقص من الشام زيد في فلسطين .
(4/30)

وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
{ وَأَيُّوبَ } كان ذا مال وولده فهلك ماله ، ومات أولاده ، ثم بُلي في بدنه فقرح وسعى فيه الدود واشتد بلاؤه فطرح على مزبلة بني إسرائيل ولم يبقَ أحدٌ يدنو منه إلا امرأته . { الضُّرُّ } المرض ، أو البلاء الذي بجسده حتى كانت الدود تسقط منه فيردها ويقول كُلي مما رزقك الله ، أو الشيطان لقوله { مَسَّنِىَ الشيطان بِنُصْبٍ } [ ص : 41 ] ، أو وثب ليصلي فلم يقدر فقال : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ } إخباراً عن حاله لا شكوى لبلائه ، أو انقطع عنه الوحي أربعين يوماً فخاف هجران ربه فقال : { مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ } تقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين ، أو أنت أرحم بي أن يمسني الضر ، أو قاله استقالة من ذنبه ورغباً إلى ربه ، أو شكا ضره استعطافاً لرحمته وكشف بلائه .
(4/31)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم } رد إليه أهله الذين أهلكهم بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم قاله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، أو كان له سبع بنين وسبع بنات فماتوا في بلائه ، فلما كُشف بلاؤه رُد عليه بنوه وبناته ، وولد له بعد ذلك مثلهم ، قال الحسن رضي الله تعالى عنه ماتوا قبل آجالهم فأحياهم الله تعالى فوفاهم آجالهم وأبقاه حتى أعطاه من نسلهم مثلهم .
(4/32)

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{ وَذَا الْكِفْلِ } عبد صالح كَفَل لليسع بصوم النهار وقيام الليل وأن لا يغضب ويقضي بالحق فوفى بذلك ، أو كان نبياً كفل بأمر فوفى به " ح " سُمي ذا الكفل لوفائه بما كفل به ، أو لغير سبب ، أو لأن ثوابه ضعف ثواب غيره من أهل زمانه .
(4/33)

وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
{ النُّونِ } الحوت { مُغَاضِباً } مراغماً للملك حزقيا ولم يكن به بأس ، أو لقومه ، أو لربه من غير مراغمة لانها كفر ، بل مغاضبته خروجه بغير إذنه . وذهب لأن خلقه كان ضيقاً فلما أثقلته أعباء النبوة ضاق بهم فلم يصبر ، أو كان من عادة قومه قتبل الكاذب فلما أخبرهم بنزول العذاب ثم رفعه الله تعالى عنهم قال : لا أرجع إليهم كاذباً وخاف القتل فخرج هارباً { فَظَنَّ أَن لَّن [ نَّقْدِرَ ] } نضيق { عَلَيْهِ } طرقه " ع " { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] ضُيق ، أو ظن أن لن نحكم عليه بما حكمنا ، أو ظن أن لن نُقَدِّر عليه من العقوبة ما قدرنا من القدر وهو الحكم دون القدرة ، ولذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " نُقدِر عليه " ، أو تقديره أفظن أن لن نقدر عليه ، ولا يجوز أن يحمل على ظن العجز لأنه كفر . { الظُّلُمَاتِ } ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة الحوت " ع " ، أو الحوت في بطن الحوت { مِنَ الظَّالِمِينَ } لنفسي بخروجي بغير إذنك ولم يكن ذلك عقوبة له لأن الأنبياء لا يعاقبون بل كان تأديباً وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان .
(4/34)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ فَاسْتَجَبْنَا } إجابة الدعاء ثواب من الله تعالى للداعي ولا تجوز أن تكون غير ثواب ، أو هي استصلاح قد يكون ثواباً وقد يكون غير ثواب أوحى الله تعالى إلى الحوت لا تكسري له عظماً ولا تخدشي له جلداً فلما صار في بطنها قال : يا رب اتخذت لي مسجداً في موضع ما اتخذه أحد ، ولبث في بطنه أربعين يوماً ، أو ثلاثة أيام ، أو من ارتفاع النهار إلى آخره ، أو أربع ساعات ، ثم فتح الحوت فاه فرأى يونس ضوء الشمس ، فقال : { سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فلفظه الحوت .
(4/35)

وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
{ فَرْداً } خلياً من عصمتك ، أو عادلاً عن طاعتك ، أو وحيداً بغير ولد عند الجمهور .
(4/36)

فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } كانت عاقراً فصارت ولوداً فولدت له وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وهي قريبة من سنه ، أو كان في لسانها طول فَحَسَّنا خلقها { يُسَارِعُونَ } يبادرون بالأعمال الصالحة ، { رَغَباً } في ثوابنا { وَرَهَباً } من عقابنا أو رغباً في الطاعات ورهباً من المعاصي ، أو رهباً بظهور الأكف ورغباً ببطونها ، أو طمعاً وخوفاً { خَاشِعِينَ } متواضعين ، أو راغبين راهبين ، أو وضع اليمنى على اليسرى والنظر إلى موضع السجود في الصلاة .
(4/37)

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ أحْصَنَتْ فَرْجَهَا } بالعفاف من الفاحشة ، أو جيب درعها منعت منه جبريل عليه السلام قبل أن تعلم أنه رسول الله { مِن رُّوحِنَا } أجرينا فيها روح المسيح عليه الصلاة والسلام كما يجري الهواء بالنفخ ، أو أمر جبريل عليه السلام فمد جيب درعها بإصبعه ثم نفخ فيه فحبلت من وقتها وولدته يوم عاشوراء { ءَايَةً } خلقه من غير ذكر ، وكلامه ببراءتها .
(4/38)

إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
{ أُمَّتُكُمْ } دينكم دين واحد .
(4/39)

وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{ وَتَقَطَّعُواْ } اختلفوا في الدين ، أو تفرقوا فيه .
(4/40)

وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ } وجدناها هالكة بالذنوب { أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى التوبة ، أو أهلكناها بالعذاب { أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } إلى الدنيا " { وحِرْمٌ } وجب على قرية " { أَهْلَكْنَاهَآ } أنهم لم يكونوا ليؤمنوا .
(4/41)

حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{ فُتِحَتْ } فُتح لها السد ، ويأجوج ومأجوج : أخوان لأب من ولد يافث بن نوح ، من أجة النار ، أو من الماء الأجاج { حَدَبٍ } الفجاج والطرق أو الجوانب ، أو التلاع والآكام من حَدَبة الظهر { يَنسِلُونَ } يخرجون .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . من ثيابك تَنْسُلي
أو يسرعون وهم يأجوج ومأجوج أو الناس يحشرون إلى الموقف .
(4/42)

إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{ حَصَبُ جَهَنَّمَ } وقودها ، أو حطبها ، أو يرمون فيها كما ترمى الحصباء فكأنها تحصب بهم ، " وحضب جهنم " بالإعجام يقال : حضبت النار إذا خبت وألقيت فيها ما يشعلها من الحطب .
(4/43)

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{ الْحُسْنَى } طاعة الله تعالى أو السعادة منه ، أو الجنة ، يريد به عيسى والعُزير والملائكة الذين عُبدوا وهم كارهون ، أو عثمان وطلحة والزبير ، أو عامة في كل من سبقت له الحسنى ، لما نزلت { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } الآية قال المشركون : إن المسيح والعُزير والملائكة قد عُبدوا فنزلت { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ } الآية .
(4/44)

لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
{ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ } النفخة الأخيرة " ح " أو ذبح الموت ، أو حين تطبق جهنم على أهلها .
(4/45)

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ السِّجِلِّ } الصحيفة تُطوى على ما فيها من الكتابة ، أو ملك يكتب أعمال العباد ، أو اسم رجل كان يكتب للرسول صلى الله عليه وسلم " ع " .
(4/46)

وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{ الزَّبُورِ } الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه والذكر : الكتاب الذي في السماء ، أو الزبور الكتب المنزلة بعد التوراة " والذكر التوارة " ع " ، أو زبور داود عليه الصلاة والسلام ، والذكر : التوراة " { الأَرْضَ } أرض الجنة { يَرِثُهَا } أهل الطاعة ، أو أرض الشام يرثها بنو إسرائيل ، أو أرض الدنيا يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح " ع " .
(4/47)

إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
{ إِنَّ فِى هَذَا } القرآن أو السورة { لَبَلاغاً } إليهم يكفهم عن المعصية ويبعثهم على الطاعة أو يبلغهم إلى رضوان الله تعالى وثوابه . { عَابِدِينَ } مطيعين ، أو عاملين .
(4/48)

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{ رَحْمَةً } هداية { لِّلْعَالَمِينَ } المؤمنين ، أو رفعاً لعذاب الاستئصال عن كافة الخلق .
(4/49)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
{ تَوَلَّوْاْ } أعرضوا عنك ، أو عن القرآن { ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ } أمر سوي ، أو مهل ، أو عدل ، أو بيان علانية غير سر ، أو على سواء في الإعلام فلا يظهر لبعضهم ما كتمه عن بعض ، أو لتستووا في الإيمان به ، أو من كفر به فهم سواء في قتالهم وجهادهم " ح " .
(4/50)

وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
{ لَعَلَّهُ } رفع الاستئصال ، أو تأخير العذاب . { فِتْنَةٌ } هلاك ، أو ابتلاء ، أو اختبار { إِلَى حِينٍ } القيامة ، أو الموت ، أو أن يأتي قضاء الله تعالى فيهم .
(4/51)

قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ احْكُم بِالْحَقِّ } عجل الحكم بالحق ، أو افصل بيننا وبين المشركين بما يظهر به الحق للجميع { تَصِفُونَ } تكذبوبن ، أو تكتمون ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالاً قرأ هذه الآية .
(4/52)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ } زلزلة من أشراط الساعة تكون في الدنيا أو نفخة البعث أو عند القضاء بين الخلق .
(4/53)

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ تَذْهَلُ } تسلو كل والدة عن ولدها ، أو تشتغل ، أو تلهى أو تنساه .
{ سُكَارَى } من الخوف { وَمَا هُم بِسُكَارَى } من الشرب .
(4/54)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{ يُجَادِلُ } يرد النص بالقياس أو يخاصم في الدين بالهوى ، نزلت في النضر بن الحارث " ع " .
(4/55)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ مِّن تُرَابٍ } يريد آدم { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } يريد ذريته فتصير النطفة علقة ثم تصير العلقة مضغة بقدر ما يمضغ من اللحم { مُّخَلَّقَةٍ } صارت خلقاً { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } دفعتها الأرحام فلم تصر خلقاً ، أو تامة الخلق وغير تامة أو مصورة وغير مصورة ، أو لتمام شهوره وغير تمام { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } في القرآن بدو خلقكم وتنقل أحوالكم { يُتَوَفَّى } قبل الأشد ، أو قبل أرذل العمر ، { أَرْذَلِ الْعُمُرِ } الهرم ، أو حالة ضعف كحال خروجه من بطن أمه ، أو ذهاب العقل { لِكَيْلا يَعْلَمَ } شيئاً وينسى ما كان يعلمه ، أو لا يعقل بعد عقله الاول شيئاَ . { هَامِدَةً } غبراء متهشمة ، أو يابسة لا تنبت شيئاً ، أو دراسة والهمود : الدروس { اهْتَزَّتْ } استبشرت ، أو اهتز نباتها لشدة حركته { وَرَبَتْ } أضعف نباتها ، أو انتفخت لظهور نباتها على التقديم والتأخير ربت واهتزت . { زَوْجٍ } نوع ، أو لون أصفر وأحمر وأخضر وغير ذلك { بَهيجٍ } حسن الصورة .
(4/56)

ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ ثَانِىَ عِطْفِهِ } لاوي عنقه إعراضاً عن الله ورسوله ، " أو عادلاً جانبه " كبراً عن الإجابة " ع " والعِطف الجانب ، ومنه نظر في أعطافه ، نزلت في النضر بن الحارث . { لِيُضِلَّ } بتكذيبه الرسول صلى الله عليه وسلم " واعتراضه على القرآن " ، أو كان إذا رأى راغباً في الإسلام أحضره " طعامه وشرابه وغناء قينة له " وقال هذا خير لك مما يدعوكَ إليه محمد صلى الله عليه وسلم .
(4/57)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
{ حَرْفٍ } ميل ، أو متحرفاً بين الإيمان والكفر ، أو على ضعف في العبادة كقائم على حرف ، نزلت في المنافق يعبد الله تعالى بلسانه ويعصيه بقبله " ح " ، أو في ناس من القبائل وفيمن حول المدينة كانوا يقولون نأتي محمد فإن صادفنا عنده خيراً اتبعناه وإلا لحقنا بأهالينا { الْخُسْرَانُ } لذهاب الدنيا والآخرة .
(4/58)

يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{ لَبِئْسَ الْمَوْلَى } الناصر والعشير المخالط ، أو المولى : المعبود والعشير : الخليط والزوج لمخالطته من المعاشرة .
(4/59)

مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{ يَنصُرَهُ } من ظن أن الله تعالى لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم على أعدائه في الدنيا بالغلبة وفي الآخرة بظهور الحجة { فَلْيَمْدُدْ } بحبل إلى سماء الدنيا { لْيَقْطَعْ } عنه الوحي ثم لينظر هل يُذهب هذا الكيد منه ما يعطيه من نزول الوحي ، أو ينصره الله تعالى يرزقه والنصر : الرزق ، أو أن لن يمطر الله تعالى أرضه ، يقال للأرض الممطورة منصورة { فَلْيَمْدُدْ } بحبل إلى سقف بيته ، ثم ليختنق به فلينظر هل يذهب ما يغطيه من أن الله تعالى لا يرزقه .
(4/60)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ } بإدخال النار { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } يدخله الجنة { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } من ثواب وعقاب ، أو من يهنه بالشقاء فلا مُكرم له بالسعادة { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } من شقاوة وسعادة .
(4/61)

هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{ خَصْمَانِ } المسلمون المشركون لما اقتتلوا ببدر ، أو نزلت في ثلاثة مسلمين بارزوا ثلاثة من المشركين فقتلوهم ، أو أهل الكتاب قالوا : نبينا وكتابنا قد تقدما نبيكم وكتابكم ونحن خير منكم وقال المسلمون : نبينا خاتم الأنبياء ونحن أولى بالله منكم ، أو المؤمنون والمشركون اختلفوا في البعث والجزاء ، أو الجنة والنار اختصمتا فقالت النار خلقني الله تعالى لنقمته وقالت الجنة : خلقني الله تعالى لرحمته قاله عكرمة { قُطِّعَتْ } عبّر بتقطيع الثياب عن إحاطة النار بهم إحاطة الثوب بلابسه { الْحَمِيمُ } الماء الحار لأنه ينضج لحومهم والنار تحرقها ، قيل نزلت في مبارزي بدر فقتل حمزة عتبة بن ربيعة ، وقتل علي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وقتل عبيدة بن الحارث شيبة بن ربيعة .
(4/62)

يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{ يُصْهَرُ } يذاب صهرت الألية أذبتها ، أو يحرق ، أو يقطع به ، أو ينضج .
(4/63)

وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{ مَّقَامِعُ } جمع مقمعة ، والقمع : ضرب الرأس حتى يقعي فينكب ، أو ينحط .
(4/64)

وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{ الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } لا إله إلا الله ، أو الإيمان ، أو القرآن ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . { صِرَاطِ الْحَمِيدِ } الإسلام ، أو الجنة .
(4/65)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } المسجد نفسه { جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } قبلة ومنسكاً للحج فحاضره والبادي سواء في حكم المسجد ، أو في حكم النسك ، أو أراد جميع الحرم فالحاضر والبادي سواء في الأمن فيه وأن لا يقتلا به صيداً ولا يعضدا شجراً ، أو سواء في دروه ومنازله فليس العاكف أولى بها من البادي { بِإِلْحَادٍ } الإلحاد : الميل عن الحق ، الباء زائدة . قال الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
{ بِظُلْمٍ } بشرك ، أو باستحلال الحرام ، أو باستحلال الحرم تعمداً " ع " أو احتكار الطعام بمكة ، أو نزلت في أبي سفيان وأصحابه لما صدوا الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية " ع " .
(4/66)

وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{ بَوَّأْنَا } وطأنا ، أو عرفناه بعلامة سحابة تطوقت حيال الكعبة فبنى على ظلها ، أو ريح هبت فكنست حول البيت يقال لها : الخجوج { وَطَهِّرْ بَيْتِىَ } من الشرك وعبادة الأوثان . أو من الأنجاس كالفرث والدم الذي كان يطرح حول البيت ، أو قول الزور { لِلطَّآئِفِينَ } بالبيت { وَالْقَآئِمِينَ } في الصلاة ، أو المقيمين بمكة { وَالْرُّكَّعِ السُّجُودِ } في الصلاة .
(4/67)

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{ وَأَذِّن فِى النَّاسِ } أعلمهم ونادِ فيهم ، خوطب به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقام إبراهيم على أبي قُبَيْس فقال : عباد الله إن الله تعالى قد بنى بيتاً ، وأمركم بحجة فحجوا فأجابوه من أصلاب الرجال وأرحام النساء . لبيك داعي ربنا فلا يحجه إلى يوم القيامة إلا من أجاب إبراهيم ، قيل أول من أجابه به أهل اليمن فهم أكثر الناس حَجاً { رِجَالاً } جمع راجل { ضَامِرٍ } جمع مهزول { عَمِيقٍ } بعيد .
(4/68)

لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ } شهود المواقف وقضاء المناسك ، أو المغفرة ، أو التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة ، { مَّعْلُومَاتٍ } عشر ذي الحجة أخرها يوم النحر " ع " ، أو أيام التشريق ، أو يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر { عَلَى مَا رَزَقَهُم } على نحر ما رزقهم من الأزواج الثمانية من الضحايا والهدايا { فَكُلُواْ } الأكل والإطعام واجبان ، أو مستحبان ، أو يجب الإطعام دون الأكل ، { الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ } الذي جمع الفقر والزمانة ، أو الفقر وضر الجوع أو الفقر الطلب ، أو الذي ظهر عليه أثر البؤس ، أو الذي يُؤنف من مجالسته .
(4/69)

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ تَفَثَهُمْ } مناسك الحج " ع " ، أو حلق الرأس ، أو إزالة قشف الإحرام بالتقليم والطيب وأخذ الشعر وتقليم الأظفار والغسل " ح " { نُذُورَهُمْ } من نحر ، أو غيره { وَلْيَطَّوَّفُواْ } طواف الإفاضة { الْعَتِيقِ } عتقه الله تعالى من الجبابرة " ع " ، أو عتيق لم يملكه أحد من الناس ، أو من الغرق زمن الطوفان ، أو قديم أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه الصلاة والسلام ، وأعاده بعد الطوفان إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
(4/70)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ حُرُمَاتِ اللَّهِ } فعل المناسك ، أو منهيات الإحرام { مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } من { والمنخنقة } [ المائدة : 3 ] إلى قوله { عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] أو { غَيْرَ مُحِلِّى الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 1 ] { الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } من للجنس ، أو اجتنبوا منها رجسها وهو عبادتها { قَوْلَ الزُّورِ } الشرك ، أو الكذب ، أو شهادة الزور ، أو أعياد المشركين .
(4/71)

حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ حُنَفَآءَ } مسلمين ، أو مخلصين أو مستقيمين ، أو حُجَّاجاً ، { غَيْرَ مُشْرِكينَ } مرائين بعبادته ، أو شهادة الزور ، أو قولهم في التلبية : " إلا شريكاً هو لك " .
(4/72)

ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ شَعَائِرَ اللَّهِ } فروضه ، أو معالم دينه يريد مناسك الحج تعظيمها : بإتمامها .
(4/73)

لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } بالتجارة ، والأجل المسمى : العود ، ومحلها : محل المناسك هي الحج والعمرة الطواف بالبيت العتيق ، أو يريد بالشعائر البدن المشعرة تعظيمها باستسمانها واستحسانها ، والمنافع الركوب والدر والنسل ، والأجل المسمى : " إيجابها " " ع " ، أو نحرها ، ومَحِلُّها : مكة ، أو الحرم كله ، أو يريد بالشعائر دين الله كله نعظمه بالتزامه " ح " ، والمنافع : الأجر والأجل المسمى : القيامة ومحلها إلى البيت : " يحتمل إلى رب البيت " ، أو ما اختص منها بالبيت " كالصلاة إليه وقصده بالحج والعمرة " . { تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] إخلاصها .
(4/74)

وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{ مَنَسَكاً } حجاً ، أو ذبحاً ، أو وعيداً ، والمنسك في كلامهم الموضع المعتاد ، مناسك الحج لاعتياد مواضعها { بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } الهدى إن جعلنا المنسك الحج ، أو الأضاحي إن جعلناه العيد { الْمُخْبِتِينَ } المطمئنين إلى ذكر الله تعالى أو المتواضعين ، أو الخاشعين ، الخشوع في الأبدان والتواضع في الأخلاق ، أو الخائفين ، أو المخلصين ، أو الرقيقة قلوبهم ، أو المجتهدون في العبادة ، أو الصالحون المقلون ، أو الذين لا يظلمون وإذا ظُلموا لم ينتصروا قاله الخليل .
(4/75)

وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{ وَالْبُدْنَ } الإبل عند الجمهور ، أو الإبل والبقر ، وأو ذوات الخف من الإبل والبقر والغنم حكاه ابن شجرة سميت بدناً لأنها مُبدنة بالسمن { شَعَائِرِ اللَّهِ } معالم دينه ، أو فروضه { فِيهَا خَيْرٌ } أجر ، أو ركوبها عند الحاجة وشرب لبنها عند الحلب { صَوَآفَّ } مصطفة ، أو قائمة تصفُّ بين أيديها بالقيود ، أو معقولة ، قرأ الحسن " صوافي " أي خالصة لله تعالى من الصفوة ، ابن مسعود " صوافن " معقولة إحدى يديها فتقوم على ثلاث ، صفن الفرس ثنى إحدى يديه وقام على ثلاث وقال :
ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسيرا
{ وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } سقطت إلى الإرض ، وجب الحائط سقط ، وجبت الشمس غربت { فَكُلُواْ } يجب الأكل من المتطوع به ، أو يستحب عند الجمهور ولا يجب ، كانوا في الجاهلية يحرمون أكلها على أنفسهم . { الْقَانِعَ } السائل و { وَالْمُعْتَرَّ } المعترض بغير سؤال " ح " أو القانع الذي لا يسأل والمعتر يعتري فيسأل ، أو القانع المسكين الطَّوَّاف والمعتر الصديق الزائر ، أو القانع : الطامع ، والمعتر الذي يعتري بالبدن ويتعرض للحم لأنه ليس عنده لحم .
(4/76)

لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{ لَن يَنَالَ اللَّهَ } لن يتقبل الدماء وإنما يتقبل التقوى ، أو لن يصعد إلى الله تعالى اللحم والدم وإنما يصعد إليه التقوى والعمل الصالح ، كانوا في الجاهلية إذا نحروا البدن استقبلوا الكعبة بدمائها فنضحوها نحو البيت فأراد المسلمون فعل ذلك فنزلت " ع " { هَدَاكُمْ } أرشدكم إليه من حجكم .
(4/77)

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{ يَدْفع } بالكفار عن المؤمنين وبالعصاة عن المطيعين ، وبالجهال عن العلماء ، " أو يدفع عنهم هواجس النفس ووسواس الشيطان " ، أو يدفع بنور السنة ظلمات البدعة .
(4/78)

الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ } دفع المشركين بالمسلمين ، أو عن الدين بالمجاهدين ، أو بالنبيين عن المؤمنين ، أو بالصحابة عن التابعين ، أو دفعه عن الحقوق بالشهود قاله مجاهد ، أو عن النفوس بالقصاص { صَوَامِعُ } الرهبان ، أو مصلى الصابئة سُميت بذلك لانصمام طرفيها ، المتصمع المنصم ومنه أذن صمعاء ، { وَبِيَعٌ } النصارى ، أو كنائس اليهود ، { وَصَلَوَاتٌ } كنائس اليهود يسمونها صلوتاً فعرب ، أو تركت صلوات { وَمَسَاجِدُ } المسلمين ، لَهَدَمها المشركون الآن لولا دفع الله بالمسلمين ، أو لهدمت صوامع أيام شرع موسى ، وبيع أيام شرع عيسى ومساجد أيام شرع محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين يعني لهدم في كل شريعة الموضع الذي يعبد الله تعالى فيه .
(4/79)

فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{ مُّعَطَّلَةٍ } خالية من أهلها ، أو من دلائها وأرشيتها ، أو غائرة الماء { مَّشِيدٍ } حصين ، أو رفيع أو مجصص ، الشِّيد : الجص أصحاب القصور أهل الحضر وأصحاب الآبار أهل البدو ، أهلك الطائفتين .
(4/80)

أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{ يَعْقِلُونَ بِهَآ } يُعَبرون ، أو يعلمون ، يدل على أن العقل علم وأن محله القلب { يَسْمَعُونَ } يفهمون { لا تَعْمَى الأَبْصَارُ } قيل نزلت في ابن أم مكتوم .
(4/81)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ وَإِنَّ يَوْماً } من الأيام التي خلقت فيها السماوات والأرض ، أو طول يوم من أيام الآخرة كطول ألف سنة من أيام الدنيا ، أو ألم العذاب في يوم من أيام الآخرة كألم ألف سنة من أيام الدنيا في الشدة وكذلك النعيم .
(4/82)

وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{ سَعَوْاْ فِى ءَايَاتِنَا } تكذيبهم بالقرآن ، أو عنادهم في الدين { معجِّزين } مثبطين من اراد اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أو مثبطين في اتباعه ، أو مكذبين ، أو مظهرين لمن آمن به تعجيزه في إيمانه { مُعَاجِزِينَ } مشاقين " ع " ، أو متسارعين ، أو معاندين ، أو يظنون أنهم يعجزون الله هرباً .
(4/83)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{ تَمَنَّى } حدّث نفسه فألقى الشيطان في نفسه ، أو قرأ فألقى الشيطان في قراءته ، لما نزلت النجم قرأها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قوله { وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النجم : 20 ] ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهم لترجى " ، ثم ختم السورة وسجد [ وسجد معه ] المسلمون والمشركون ورضي بذلك كفار قريش فأنكر جبريل عليه السلام ما قرأه وشق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . وألقاه الشيطان على لسانه فقرأه ساهياً ، أو كان ناعساً فقرأه في نعاسه ، أو تلاه بعض المنافقين عن إغواء الشيطان فتخيل لهم أنه من تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو عني بقوله : " الغرانيق العلا " الملائكة " وإن شفاعتهم لترتجى " في قولكم " ح " { رَّسُولٍ } الرسول والنبي واحد ، أو الرسول من يُوحى إليه مع الملك والنبي من يوحي إليه في نومه ، أو الرسول هو المبعوث إلى أمة والنبي مُحَدَّثٌ لا يبعث إلى أمة ، أو الرسول هو المبتدىء بوضع الشريعة والأحكام والنبي هو الذي يحفظ شريعة غيره قاله الجاحظ .
(4/84)

لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{ فِتْنَةً } محنة ، أو اختباراً { مَّرَضٌ } نفاق ، أو شك { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوُبُهُمْ } المشركون { شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ضلال طويل ، أو فراق للحق بعيد إلى يوم القيامة .
(4/85)

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
{ مِرْيَةٍ مِّنْهُ } شك من القرآن { السَّاعَةُ } القيامة على من تقوم عليه من المشركين " ح " أو ساعة موتهم { يَوْمٍ عَقِيمٍ } القيامة ، أو يوم بدر والعقيم : الشديد ، أو الذي لا مثل له لقتال الملائكة فيه .
(4/86)

ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ وَمَنْ عَاقَبَ } لقي قوم من المسلمين قوماً من المشركين لليلتين بقيتا من المحرم فحملوا عليهم فناشدوهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام فأبوا فأظفر الله تعالى المسلمين بهم فنزلت ، أو لما مَثَّلُوا بالمسلمين بأُحُد عاقبهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمثله فنزلت { لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ } تعالى في الدنيا بالقهر والغلبة وفي الآخرة بالحجة والبرهان .
(4/87)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
{ هُوَ الْحَقَّ } اسم من أسماء الله تعالى أو ذو الحق ، أو عبادته حق { مَا يَدْعُونَ } الأوثان ، أو إبليس .
(4/88)

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{ مَنسَكاً } عيداً ، أو موضعاً معتاداً لمناسك الحج والعمرة ، أو مذبحاً ، أو متعبداً ، النسك : العبادة ، والناسك العابد " ح " .
(4/89)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{ ضُرِبَ مَثَلٌ } مثلهم في عبادة غير الله كمن عبد من لا يخلق ذباباً أو لا مثل ها هنا والمعنى ضربوا الله مثلاً بعبادة غيره ، وسُمي ذباباً ، لأنه يُذب استقذاراً له واحتقاراً ، وخصه بالذكر لمهانته وضعفه واستقذاره وكثرته .
(4/90)

مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ } نزلت في اليهود لما قالوا : استراح الله في السبت ما عظموه حق تعظيمه ، أو ما عرفوه حق معرفته ، أو ما وصفوه حق صفته .
(4/91)

يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء { وَمَا خَلْفَهُمْ } ما يكون بعد خلقهم ، أو أول أعمالهم وما خلفهم آخرها ، أو أمر الآخرة وما خلفهم أمر الدنيا .
(4/92)

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ حَقَّ جِهَادِهِ } اعملوا له حق عمله ، أو أن يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويُشكر فلا يُكفر نسخها { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] أو هي محكمة لأن حق جهاده ما لا حرج فيه . { اجْتَبَاكُمْ } اختاركم { حَرَجٍ } ضيق فخلصكم من المعاصي بالتوبة ، أو من الأيمان بالكَفَّارة ، أو بتقديم الأهلة وتأخيرها في الصوم والفطر والأضحى " ع " أو رُخص السفر القصر والفطر ، أو عام إذ ليس في الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من الإثم فيه { مِّلَّة أَبِيكُمْ } وسع دينكم كما وسع ملة إبراهيم ، أو افعلوا الخير كفعل إبراهيم ، أو ملة إبراهيم وهي دينه لازمة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم داخلة في دينه ، أو عليكم ولاية إبراهيم ولا يلزمكم حكم دينه { هُوَ سَمَّاكُمُ } الله سماكم المسلمين قبل القرآن ، أو إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقوله { أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] { شَهِيداً } ليشهد الرسول عليكم أنه بلغكم وتشهدوا على من بعدكم أنكم بلغتموهم ما بلغكم ، أو يشهد الرسول عليكم بأعمالكم ، وتشهدوا على الناس أن رسلهم بلغوهم { فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ } المكتوبة { وَءَاتُواْ الزَّكَاةَ } المفروضة { وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ } امتنعوا به ، أو تمسكوا بدينه { مَوْلاكُمْ } مالككم ، أو المتولي لأموركم { فَنِعْمَ الْمَوْلَى } لما لم يمنعكم الرزق إذ عصيتموه { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } لما أعانكم حين أطعتموه .
(4/93)

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
{ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } سعدوا ، أو بقيت لهم أعمالهم ، أو بقوا في الجنة ، الفلاح : البقاء ، أو أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا " ع " .
(4/94)

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
{ خَاشِعُونَ } خائفون ، أو خاضعون ، أو ساكنون ، أو غض البصر وخفض الجناح ، أو النظر إلى موضع السجود ، وأن لا يجاوز بصره مصلاه .
(4/95)

وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{ اللَّغْوِ } الباطل " ع " أو الكذب ، أو الحلف ، أو الشتم شتمهم كفار مكة فنهوا عن إجابتهم ، أو المعاصي كلها .
(4/96)

أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
{ الْوَارِثُونَ } قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن دخل النار ورث أهل الجنة منزله ، وإن دخل الجنة ورث أهل النار منزله فذلك قوله { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } " .
(4/97)

الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{ الْفِرْدَوْسَ } اسم للجنة " ح " أو أعلى الجنان ، أو جبل الجنة الذي تنفجر منه أنهارها ، أو البستان رومي عُرِّب ، قاله الزجاج . أو عربي وهو الكرم .
(4/98)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
{ الإِنسَانَ } آدم عليه الصلاة والسلام أُستل من الطين ، أو بنوه لرجوعهم إليه . { سُلالَةٍ } سلالة كل شيء صفوته التي تُستل منه ، أو القليل مما يُستل وتُسمى النطفة والولد سلالة لأنهما صفوتان ، أو ينسلان ، أو السلالة الطين الذي إذا عصرته بين أصابعك خرج منه شيء ، أو التراب .
(4/99)

ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
{ قَرَارٍ } الرحم { مَّكِينٍ } متمكن هيء لاستقراره .
(4/100)

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ عَلَقَةً } الدم الطري سمي به لأنه أول أحوال العلوق { الْمُضْغَةَ } قدر ما يمضغ من اللحم ، ذكر ذلك ليعلم الخلق أن الإعادة أهون من النشأة { خَلْقاً ءَاخَرَ } بأن نفخ فيه الروح " ع " ، أو بنبات الشعر ، أو بأنه ذكر ، أو أنثى " ح " ، أو استوى شبابه { فَتَبَارَكَ } تعظيم { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أصنع الصانعين " .
(4/101)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{ طَرَآئِقَ } سماوات لأن كل طبقة طريقة للملائكة أو طباقاً بعضها فوق بعض ومنه طراق النعل إذا أطبق عليها ما يمسكها ، أو كل طبقة منها على طريقة من الصنعة والهيئة . { غَافِلِينَ } من نزول المطر عليهم من السماء أو من سقوطها عليهم ، أو عاجزين عن رزقهم .
(4/102)

وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{ وَشَجَرَةً } الزيتون خصت بالذكر لكثرة نفعها وقلة تعاهدها { سَيْنَآءَ } البركة كأنه قال : جبل البركة " ع " ، أو الحسن المنظر أو الكثير [ الشجر ] ، أو الجبل الذي كلم عليه موسى عليه الصلاة والسلام أو المرتفع من السناء وهو الارتفاع فيكون عربياً وعلى ما سبق سريانياً " ع " أو نبطياً ، أو حبشياً { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } بالمطر ليصح دخول الباء . أو الزيت أي تثمر الدهن فالباء صلة .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ونرجوا بالفرج
أو معناه تنبت وفيها الدهن ، وهذه عبرة تشرب الماء وتنبت الدهن { وَصِبْغٍ } أدم يصطبغ به ، وقيل الصبغ كل ما يؤتدم به سوى اللحم .
(4/103)

فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{ مَّا سَمِعْنَا } بمثل دعوته ، أو ببشرٍ أتى برسالة ربه { الأَوَّلِينَ } أول أب ولدك أو أقرب آبائك إليك .
(4/104)

إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
[ { حَتَّى حِينٍ } ] الحين : موته ، أو ظهور جنونه .
(4/105)

فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
{ التَّنُّورُ } تنور الخبز ، أو أحر مكان في دارك ، أو طلوع الفجر أو عَبَّر به عن شدة الأمر كقولهم : حمى الوطيس .
(4/106)

وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
{ أَنزِلْنِى } في السفينة { مُنزَلاً مُّبَارَكاً } بالنجاة ، أو أنزلني منها منزلاً مباركاً بالماء والشجر .
(4/107)

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{ نَمُوتُ } يموت قوم ويولد آخرون ، أو يموت قوم ويحيا آخرون ، أو فيه تقديم وتأخير ، أو يموت الآباء ويحيا الأبناء .
(4/108)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ غُثَآءً } البالي من الشجر " ع " ، أو ورق الشجر إذا وقع في الماء ثم جف ، أو ما حمله الماء من الزبد والقذى { فَبُعْداً } لهم من الرحمة باللعنة ، أو بُعْدًا لهم في العذاب زيادة في هلاكهم
(4/109)

ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ تَتْرَا } منون متواترين يتبع بعضهم بعضاً " ع " ، أو متقطعين بين كل اثنين دهر طويل ، تتراً : اشتُق من وتر القوس لاتصاله بمكانه منه أو من الوتر لأن كل واحد يبعث فرداً بعد صاحبه ، أو من التواتر .
(4/110)

إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
{ عَالِينَ } متكبرين ، أو مشركين ، أو قاهرين ، أو ظالمين .
(4/111)

فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
{ عَابِدُونَ } مطيعون ، أو خاضعون ، أو مستعبدون ، أو كان بنو إسرائيل يعبدون فرعون ، وفرعون يعبد الأصنام .
(4/112)

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{ ءَايَةً } بخلقه من غير والد وكلامه في المهد ببراءة أمه { رَبْوَةٍ } المكان المرتفع إذا اخضر بالنبات فإن لم يكن فيه فهو نشز ، أو ربوة وإن لم يكن به نبات والمراد بها الرملة ، أو دمشق ، أو مصر ، أو بيت المقدس ، قال كعب : هي أقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . { قَرَارٍ } استواء ، أو ثمار ، أو معيشة تقوتهم " ح " ، أو منازل يستقرون فيها { وَمَعِينٍ } الماء الجاري ، أو الظاهر ، أشتق من العيون لجريانه منها فهو مفعول من العيون ، أو من المعونة ، أو الماعون .
(4/113)

وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{ أُمَّتُكُمْ } دينكم ، أو جماعتكم ، أو خقلكم .
(4/114)

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{ فَتَقَطَّعُواْ } فتفرقوا أمر دينهم { زُبُراً } فرقاً وجماعات ، أو كتباً أخذ كل فريق كتاباً آمن به وكفر بما سواه { بِمَا لَدَيْهِمْ } من دين وكتاب أو أموال وأولاد { فَرِحُونَ } معجبون ، أو مسرورون .
(4/115)

فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{ غَمْرَتِهِمْ } ضلالتهم ، أوجهلهم ، أو غفلتهم ، أو حيرتهم { حَتَّى حِينٍ } الموت ، أو يوم بدر ، أو تهديد كقول القائل " لك يوم " قاله الكلبي .
(4/116)

أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
{ نُمِدُّهُم } نعطيهم ونزيدهم .
(4/117)

نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{ نُسَارِعُ } بجعله خيراً لهم عاجلاً ، أو نريد لهم به خيراً { لا يَشْعُرُونَ } أنه استدراج ، أو اختبار .
(4/118)

وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{ يُؤْتُونَ } الزكاة ، أو أعمال البر كلها { وَجِلَةٌ } خائفة ، قيل وجل العارف من طاعته أكثر من وجله من مخالفته ، لأن التوبة تمحو المخالفة والطاعة تطلب بتصحيح الغرض { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ } يخافون أن لا ينجوا من عذابه إذا قدموا عليه ، أو أن لا يقبل عملهم إذا عرضوا عليه .
(4/119)

أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } لمن تقدمهم من الأمم .
(4/120)

بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
{ غَمْرَةٍ } غطاء ، أو غفلة من هذا القرآن ، أو الحق { أَعْمَالٌ } خطايا من دون الحق ، أو أعمال أُخر سبق في اللوح المحفوظ أنهم يعلمونها .
(4/121)

حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
{ مُتْرَفِيهِم } الموسع عليهم بالخصب ، أو الأموال والأولاد { يَجْئَرُونَ } يجزعون ، أو يستغيثون " ع " ، أو يضجون ، أو يصرخون إلى الله تعالى بالتوبة فلا تُقبل منهم " ح " قيل نزلت في قتلى بدر { إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ } الذين بمكة .
(4/122)

قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{ تَنكِصُونَ } تستأخرون ، أو تكذبون ، أو رجوع القهقرى عَبَّر به عن ترك القبول .
(4/123)

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } بحرم الله أن يظهر عليهم فيه أحد { سَامِراً } فاعل من السمر وهو الحديث ليلاً ، أو ظل القمر يقولون حلف بالسمر والقمر ، لأنهم يسمرون في ظلمة الليل وضوء القمر ويقولون : لا أكلمك السمر والقمر أي الليل والنهار ، قال الزجاج : أخذت سمرة اللون من السمر . { تَهْجُرُونَ } تعرضون عن الحق أو " تُهِجرون " القول بالقبيح من الكلام وبالضم من هُجر القول ، أنكر تسامرهم بالإزراء على الحق مع ظهوره لهم ، أو أنكر تسامرهم آمنين والخوف أحق بهم .
(4/124)

وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{ اتَّبَعَ الْحَقُّ } الله عند الأكثرين ، أو التنزيل { أَهْوَآءَهُمْ } فيما يشتهون ، أو يعبدون . { وَمَن فِيهِنَّ } الثقلان والملائكة ، أو ما بينهما من خلق { بِذِكْرِهِم } بيان الحق لهم ، أو شرفهم ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم منهم والقرآن بلسانهم ، فهم عن شرفهم ، أو عن القرآن { مُّعْرِضُونَ } .
(4/125)

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{ فَخَرَاجُ رَبِّكَ } فرزق ربك في الدنيا والآخرة ، أو أجره في الآخرة ، الخَرْج : ما يؤخذ عن الرقاب ، والخراج ما يؤخذ عن الأرض قاله أبو عمرو بن العلاء .
(4/126)

وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{ لَنَاكِبُونَ } عادلون ، أو حائدون ، أو تاركون ، أو معرضون .
(4/127)

حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } السبع التي دعا بها الرسول صلى الله عليه وسلم فقحطوا سبع سنين حتى أكلوا العلهز من الجوع وهو الوبر بالدم ، أو قتلهم يوم بدر " ع " أو باباً من عذاب جهنم .
(4/128)

وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{ ذَرَأَكُمْ } خلقكم ، أو نشركم .
(4/129)

وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{ اخْتِلافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } بالزيادة والنقصان ، أو تعاقبهما .
(4/130)

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
{ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ } خزائن كل شيء ، أو ملك كل شيء وهو مبالغة كالجبروت والرهبوت ، { يُجِيرُ } يمنع ولا يمنع منه .
(4/131)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
{ تُسْحَرُونَ } تُصرفون عن التصديق بالبعث ، أو تكذبون فيخيل إليكم أن الكذب حق .
(4/132)

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } ادفع بالإغضاء والصفح إساءة المسيء ، أو الفحش بالسلام ، أو المنكر بالموعظة ، أو أمح بالحسنة السيئة ، أو قابل أعداءك بالنصح وأولياءك بالموعظة .
(4/133)

وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
{ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } نزغاتهم ، أو إغوائهم ، أو أذاهم ، أو الجنون .
(4/134)

وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
{ يَحْضُرُونِ } يشهدون ، أو يقاربون .
(4/135)

لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
{ وَرَآئِهِم } أمامهم { بَرْزَخٌ } حاجز بين الموت والبعث ، أو بين الدنيا والآخرة ، أو بين الموت والرجوع إلى الدنيا ، أو الإمهال إلى يوم القيامة ، أو ما بين النفختين وهو أربعون سنة .
(4/136)

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{ فَلا أَنسَابَ } يتواصلون بها ، أو لا يتعارفون للهول { وَلا يَتَسَآءَلُونَ } أن يحمل بعضهم عن بعض ولا أن يعين بعضهم بعضاً ، أو لا يتساءلون لانشغال كل منهم بنفسه .
(4/137)

قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{ شِقْوَتُنَا } الهوى ، أو حسن الظن بالنفس ، وسوء الظن بالخلق .
(4/138)

قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{ اخْسَئُواْ } اصغروا ، الخاسىء : الصاغر " ح " ، أو الساكت الذي لا يتكلم ، أو ابعدوا بُعد الكلب { وَلا تُكَلِّمُونِ } في دفع العذاب ، أو زجرهم عن الكلام غضباً عليهم " ح " ، فهو آخر كلام يُكلمون به .
(4/139)

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{ سِخْرِيّاً } هزواً بالضم والكسر ، أو بالضم من السخرة والاستعباد وبالكسر الاستهزاء " ح " .
(4/140)

قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
{ لَبِثْتُمْ } في الدنيا ، أو القبور ، استقلوا ذلك لما صاروا إليه من العذاب الطويل .
(4/141)

قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
{ الْعَآدِّينَ } الملائكة ، أو الحُسَّاب .
(4/142)

وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{ لا بُرْهَانَ لَهُ } أن مع الله إلهاً آخر ، أو صفة الإله المعبود [ من دون الله ] أنه لا برهان له { حِسَابُهُ } محاسبته عند الله يوم القيامة ، أو مكافأته ، والحساب المكافأة " حسبي الله " أي كافيني الله .
(4/143)

سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
هذه { سُورَةٌ } { وَفَرَضْنَاهاَ } مخففاً قَدَّرنا فيها الحدود ، أو فرضنا فيها إباحة الحلال وحظر الحرام ، وبالتشديد بَيَّناها " ع " أو كثَّرنا ما فرض من الحلال والحرام { ءَايَاتٍ بَيْنَاتٍ } حججاً دالة على التوحيد ووجوب الطاعة ، أو الحدود والأحكام .
(4/144)

الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
{ الزَّانِيَةُ } بدأ بها لأن شهوتها أغلب وزناها أعرُّ ولأجل الحبل أضر { فَاجْلِدُواْ } أخذ الجلد من وصول الضرب إلى الجلد ، وهو أكبر حدود الجلد؛ لأن الزنا أعظم من القذف ، وزادت السنة التغريب وحد المحصن بالسنة بياناً لقوله { أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 15 ] أو ابتداء فرض { فِى دِينِ اللَّهِ } في طاعته { رَأْفَةٌ } رحمة نهى عن آثارها من تخفيف الضرب إذ لا صنع للمخلوق في الرحمة . { تُؤْمِنُونَ } تطيعونه طاعة المؤمنين { عَذَابَهُمَا } حدهما { طَآئِفَةٌ } أربعة فما زاد أو ثلاثة ، أو اثنان ، أو واحد ، وذلك للزيادة في نكاله .
(4/145)

الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ الزَّانِى لا يَنكِحُ } خاصة برجل استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في نكاح أم مهزول كانت بغيّاً في الجاهلية من ذوات الرايات وشرطت له أن تنفق عليه فنزلت فيهما ، قاله ابن عمرو ومجاهد رحمهما اللَّهُ تعالى ، أو في أهل الصُّفَّة من المهاجرين ، كان في المدينة بغايا معلنات بالفجور فهموا بنكاحهن ليأووا إلى مساكنهن وينالوا من طعامهن وكسوتهن وكن مخاصيب الرحال بالكسوة والطعام ، أو الزانية لا يزني بها إلا زانٍ والزاني لا يزني إلا بزانية " ع " ، أو الزانية محرمة على العفيف والعفيف محرم على الزانية ثم نسخ بقوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] ، أو خاص بالزاني المحدود لا ينكح إلا زانية محدودة ولا ينكح غير محدودة ، ولا عفيفة ، والزانية المحدودة لا ينكحها غير محدود ولا عفيف " خ " { وَحُرِّمَ } الزنا ، أو نكاح الزواني { عَلَى الْمؤْمِنِينَ } .
(4/146)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
{ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } حد القذف حق الآدمي لوجوبه بطلبه وسقوطه بغفوه ، أو حق الله ، أو مشترك بينهما . ويتعلق به الحق والفسق ورد الشهادة .
(4/147)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } فيزول فسقهم ولا يسقط الحد عنهم وتقبل شهادتهم قبل الحد وبعده لارتفاع فسقه قاله الجمهور ، أو لا تقبل بحال ، أو تقبل قبل الحد ولا تقبل بعده ، أو عكسه وتوبته بإكذابه نفسه ، أو بالندم والاستغفار وترك العود إلى مثله .
(4/148)

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ } أي هلال بن أمية جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه فقال : يا رسول الله جئت عشياً فوجدت رجلاً مع أهلي رأيت بعيني وسمعت بأذني فكره الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وثقل عليه فنزلت ، أو أتاه عويمر فقال : يا رسول الله رجل وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه به أم كيف يصنع فنزلت فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : قد نزل القرآن فيك وفي صاحبتك ولاعن بينهما ، { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } عبر عن اليمين بالشهادة .
قال قيس :
وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا
أو هو شهادة فلا يلاعن الكفار والرقيق .
(4/149)

وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{ وَيَدْرَؤُاْ } يدفع { الْعَذَابَ } الحد ، أو الحبس ، وإذا تم اللعان وقعت الفرقة بلعان الزوج ، أو بلعانهما ، أو بلعانهما وتفريق الحاكم ، أو بطلاق يوقعه الزوج . ثم تحرم أبداً ، فإن أكذب نفسه ففي حِلَّها مذهبان .
(4/150)

وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{ فَضْلُ اللَّهِ } الإسلام { وَرَحْمَتُهُ } القرآن ، أو فضله : منته ، ورحمته : نعمته تقديره ورحمته بإمهالكم حتى تتوبوا لهلكتم ، أو لولا فضله ورحمته لنال الكاذب منكم عذابٌ عظيم .
(4/151)

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{ الِّذِينَ جَآءُو بِالإِفْكِ } : عبد الله بن أُبي ، ومسطح بن أُثاثة ، وحسان بن ثابت وزيد بن رفاعة وحمنة بن جحش ، والإفك : الكذب أو الإثم { خَيْرٌ لَّكُمْ } لأن الله تعالى برَّاْ منه وأثاب عليه ، يريد عائشة وصفوان ، أو الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعائشة رضي الله تعالى عنهما { مَّا اكْتَسَبَ } عقاب ما اكتسب { وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ } عبد الله بن أُبي ، أو حسان ومسطح والعذاب العظيم : العمى .
(4/152)

لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{ لَّوْلآ } هَلاَّ { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي الإفك { بِأَنفُسِهِمْ } ظن بعضهم ببعض ، أو ظنوا بعائشة رضي الله تعالى عنهما كظنهم بأنفسهم { إِفْكٌ مُّبِينٌ } كذب بيِّنٌ ، ولم يحد الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً من أهل الإفك؛ لأن الحد لا يُقام إلا ببينة أو إقرار ولم ينفذ بإقامته بإخبار الله تعالى كما لا يقتل المنافق بإخباره بنفاقه ، أو حدَّ حسان وابن أُبي ومسطحاً وحمنة فيكون العذاب العظيم الحدُّ .
وقال فيهم بعض المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيراً ومسطحُ
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش العظيم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فَجُلِّلُوا ... مَخازي تبقى عُمِّمُوها وفُضِّحوا
كما ابن سلول ذاق في الحد خِزية ... كما خاض في قول من الإفك يفصح
فصبت عليهم مُحصدات كأنها ... شآبِيبُ مزن من ذُرى المزن تسفحُ
وقال حسان يعتذر من إفكه :
حصانٌ رزَانٌ ما تُزَنُّ برِيَبةٍ ... وتُصبحُ غَرثَى من لُحوم الغَوَافِلِ
مطهرة قد طيب الله خلقها ... وطهرها من مكل سوء وباطل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
فإن كنت قد قلت الذي قد أتاكم ... فَلا رَفَعتْ سوطِي إليَّ أَنامِلِي
وكيف وَوُدِّي ما حَييتُ ونُصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرىءٍ غير ماحل
(4/153)

إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{ تَلَقَّوْنَهُ } بالقبول من غير إنكار ، أو تتحدثُون به وتُلْقونه حتى ينتشر .
(4/154)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } خطاياه ، أو أثره ، أو تخطيه من الطاعة والحلال إلى المعصية والحرام ، أو النذر في المعاصي .
(4/155)

وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{ يَأْتَلِ } ويتألَّ واحد أي لا يقسم أو لا يقصر ، ما ألوت جهداً أي ما قصرت ، أو يأتلِ : يقصر ، ويتألَّ : يقسم ، كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه ينفق على مسطح وكان ابن خالته فلما تكلم في الإفك أقسم أبو بكر رضي الله تعالى عنه أن لا ينفق عليه ، فنزلت . { وَلْيَعْفُواْ } عن الأفعال { وَلْيَصْفَحُواْ } عن الأقوال ، أو العفو : ستر الذنوب من غير مؤاخذة والصفح : الإغضاء عن المكروه { أَلا تُحِبُّونَ } كما تحبون أن تُغفر ذنوبكم فاغفروا لمن أساء إليكم فلما سمِعَها أبو بكر رضي الله تعالى عنه رَدَّ إليه النفقة .
(4/156)

الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{ الْخَبِيثَاتُ } خبيثات النساء لخبيثي الرجال ، وخبيثوا الرجال لخبيثات النساء ، وطيبات النساء لطيبي الرجال ، وطيبو الرجال لطيبات النساء ، أو أراد بالخبيثات والطيبات : الأعمال الخبيثة والطيبة لخبيثي الناس وطيبيهم . أو أراد الكلمات الخبيثات والطيبات لخبيثي الناس وطيبهم { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ } أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم مُبَرآت من الفواحش ، أو عائشة ، وصفوان مبرآن من الإفك ، أو الطيبون والطيبات مبرؤون من الخبيثين والخبيثات .
(4/157)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
{ تَسْتَأْنِسُواْ } تَستأذنوا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخطأ الكاتب فكتب " تستأنسوا " ، أو عَبَّر عن الاستئذان بالاستئناس لأنه مؤنس ، أو تؤنسوا أهل البيت بالتنحنح ليعلموا بالدخول عليهم ، أو تعلموا فيها من يأذن لكم؛ لقوله { فَإِنْ آنَسْتُمْ } [ النساء : 6 ] أو الاستئناس : الاستخبار والإيناس : اليقين { وَتُسَلِّمُواْ } السلام مسنون بعد الاستئذان على ظاهر الآية ، ولأنه تحية للقاء واللقاء بعد الإذن ، أو السلام قبل الاستئذان على ما تضمنته السنة ، وإن كان قريباً فإن لم يكن مَحْرَماً لزم الاستئذان عليه كالأجانب ، وإن كانوا محارم فإن كان ساكناً معهم في المنزل لزمه إنذارهم بدخوله بوطىء أو نحنحة مفهمة إلا الزوجة فلا يلزم ذلك في حقها بحال لارتفاع العورة بينهما وإن لم يكن ساكناً معهم في المنزل لزم الاستئذان بوطىء أو نحنحة ، أو هم كالأجانب .
(4/158)

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } الخانات المشتركة ذوات البيوت المسكونة ، أو حوانيت التجار ، أو منازل الأسفار ومناخات الرحال التي يرتفق بها المسافرون ، أو الخرابات العاطلة ، أو بيوت مكة { مَتَاعٌ لَّكُمْ } عروض الأموال ومتاع التجارة ، أو الخلاء والبول؛ لأنه متاع لهم ، أو المنافع كلها . فلا يلزم الاستئذان فيها .
(4/159)

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
{ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } من صلة ، أو يغضوها عما لا يحل ، أو هي للتبعيض؛ لأن البصر إنما يجب غضه عن الحرام { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } بالعفاف عن الزنا ، أو بسترها عن الأبصار ، وكل موضع فيه حفظ فالمراد به عن الزنا ، إلا في هذا الموضع قاله أبو العالية ، وسميت فروجاً؛ لأنها منافذ للبدن .
(4/160)

وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ زِينَتَهُنَّ } الزينة ما أدخلته على بدنها حتى زانها وحسَّنها في العيون كالحلي والثيابن والكحل والخضاب ، وهي ظاهرة وباطنة فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الثياب ، أو الكحل والخاتم " ع " ، أو الوجه والكفان ، والباطنة : القرط والقلادة ، والدملج والخلخال وفي السوار مذهبان وخضاب القدمين باطن ، وخضاب الكفين ظاهر ، والباطنة يجب سترها عن الأجانب ولا يجوز لهم النظر إليها . { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ } بمقانعهن على صدروهن تغطية لنحورهن وكن يلقينها على ظهروهن بادية نحورهن ، أو كانت قمصهن مفرجة الجيوب كالدارعة يبدو منها صُدُورهن فأُمِرن بإلقاء الخُمُرُ عليها لسترها وكنى عن الصدور بالجيوب لأنها ملبُوسة عليها { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } الباطنة { إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } ، { أَوْ نِسَآئِهنَّ } المسلمات ، أو عام فيهن وفي الكافرات { مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } من العبيد والإماء ، أو خاص بالإماء قاله ابن المسيب ومجاهد وعطاء { غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ } الصغير لا إرب له فيهن لصغره ، أو العِنِّين لا إرب له لعجزه ، أو المعتوه الأبله لا إرب له لجهله ، أو المجبوبُ لفقد إربه مأثور ، أو الشيخ الهرم لذهاب إربه ، أو الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل ، أو المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه ، أو تابع القوم يخدمهم لطعام بطنه فهو مصروف الشهوة لذله " ح " ، وأخذت الإربة من الحاجة ، أو من العقل من قولهم رجل أديب { لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } لم يكشفوها لعدم شهوتهم ، أو لم يعرفوها لعدم تمييزهم ، أو لم يطيقوا الجماع ، وسميت العورة عورة لقبح ظُهورها وغض البصر عنها أخذاً من عور العين { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } كن إذا مشين ضربن بأرجلهن لتسمع قعقعة خلاخلهن فنهين عن ذلك .
(4/161)

وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{ وَأَنكِحُواْ } خطاب للأولياء ، أو للأزواج أن يتزوجوا ندباً عند الجمهور أو إيجاباً { الأَيَامَى } المتوفى عنها زوجها ، أو من لا زوج لها من الثيب والأبكار ، رجل أيم وامرأة أيم { وَالصَّالِحِينَ } أنكحوا الأيامى بالصالحين من رجالكم ، أو أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى { فُقَرَآءَ } إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح ، أو فقراء من المال يغنهم الله تعالى بقناعة الصالحين ، أو باجتماع الرزقين { وَاسِعٌ } الغنى { عَلِيمٌ } بالمصالح ، أو واسع الرزق عليم بالخلق .
(4/162)

وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
{ فَكَاتِبُوهُمْ } ندباً ، أو وجوباً إذا طلب العبد { خَيْراً } قدرة على الاحتراف والكسب " ع " أو مالاً ، أو ديناً وأمانة ، أو وفاءً وصدقاً أو الكسب والأمانة . { وَءَاتُوهُم } من الزكاة من سهم الرقاب أو بحط بعض نجومه ندباً ، أو إيجاباً فيحط ربعها ، أو سهماً غير مقدر " ع " ، كان لحويطب بن عبد العزى عبد سأله الكتابة فامتنع فنزلت ، { فَتَيَاتِكُمْ } الإماء { الْبِغَآءِ } الزنا { تَحَصُّناً } عفة { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } لا يتحقق الإكراه إلا عند إرادة التحصن لأن من لا تبغي التحصن تسارع إلى الزنا بغير إكراه ، أو ورد على سبب فخرج على صفة السبب وليس بشرط فيه كان ابن أُبَيِّ يُكره أمته على الزنا فزنت ببرد فأخذه وقال : ارجعني فازني على آخر فقالت : لا والله وأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . وكان ذلك مستفيضاً من عادتهم طلباً للولد والكسب { لِّتَبْتَغُواْ } لتأخذوا أجورهن على الزنا { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } للمُكْرَهات دون المُكْرِهين .
(4/163)

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ } : هاديهما أو مدبرهما ، أو ضياؤهما أو مُنَوِّرهما؛ نَوَّر السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء ، أو السماء بالهيبة والأرض بالقدرة ، أو نَوَّرهما بالشمس والقمر والنجوم { مَثَلُ نُورِهِ } نور المؤمن في قلبه ، أو نور محمد صلى الله عليه وسلم في قلب المؤمن ، أو نور القرآن في قلب محمد صلى الله عليه وسلم أو نور الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، أو قلب المؤمن { كَمِشْكَاةٍ } كُوَّة لا تنفذ و { الْمِصْبَاحُ } السراج ، أو قنديل [ و ] المصباح : الفتيلة ، أو موضع الفتيلة من القنديل وهو الأنبوب والمصباح : الضوء " ع " ، أو السلسلة والمصباح : القنديل ، أو صدر المؤمن والمصباح : القرآن الذي فيه والزجاجة قلبه والمشكاة ، حبشي معرَّبٌ ، { الْمِصْبَاحٌ فِي زُجَاجَةٍ } القنديل؛ لأنه فيها أضوأ قاله الأكثرون ، أو المصباح القرآن والإيمان والزجاجة قلب المؤمن { كَوْكَبٌ } الزهرة ، أو كوكب غير معين عن الأكثر { دُرِّيء } يشبه الدر في صفاته ، دُرِّيٌ : مضيء ، دِرِّيءٌ : متدافع قوي الضوء من درأ دفع ، دِرِّيٌّ : جارٍ درأ الوادي إذا جرى ، والنجوم الدراري الجواري { شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، والزجاجة : محمد صلى الله عليه وسلم ، أو صفة لضياء دهن المصباح { مُّبارَكَةٍ } ؛ لأنها من زيتون الشام وهو أبرك من غيره ، أو لأن الزيتون يورق غصنه من أوله إلى آخره { لا شَرْقِيَّةٍ } ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لقلة زيت الجهتين وضعف نوره ولكنها من شجر ما بينهما كالشام لاجتماع القوتين فيه ، أو لا شرقية تستتر عن الشمس عند الغروب ولا غربية تستتر عنها وقت الطلوع بل هي بارزة من الطلوع إلى الغروب فإنه أقوى لزيتها وأضوأ ، أو هي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت وذلك أجود لزيتها ، أو ليس في شجر الشرق ولا في شجر الغرب مثلها ، أو ليست من شجر الدنيا التي تكون شرقية ، أو غربية ، وإنما هي من شجر الجنة " ح " أو مؤمنة ليست بنصرانية تصلي إلى الشرق ولا يهودية تصلي إلى الغرب ، أو الإيمان ليس بشديد ولا لين؛ لأن من أهل الشرق شدة وفي أهل الغرب لين { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ } صفاؤه كضوء النهار { وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } أو يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يُبين له ، أو يكاد العلم يفيض من فم المؤمن العالم قبل أن يتكلم به " ح " أو تكاد أعلام النبوة تشهد للرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدعو إليه { نُّورٌ عَلَى نُورِ } ضوء النار على ضوء الزيت على ضوء الزجاجة ، أو نور النبوة على نور الحكمة ، أو نور الرجاء على نور الخوف ، أو نور الإيمان على نور العمل ، أو نور المؤمن هو حجة لله يتلوه مؤمن هو حجة لله حتى لا تخلو الأرض منهم ، أو نور نبي من نسل نبي { لِنُورِهِ } نبوته ، أو دينه ، أو دلائل هدايته { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ } هذا مثل ضربه للمؤمن في وضوح الحق له وفيه ، أو ضربه لطاعته وسماهما نوراً لتجاوزهما عن محلهما ، أو قالت اليهود يا محمد كيف يخلص نور الله من دون السماء فضرب الله تعالى ذلك مثلاْ لنوره " ع " .
(4/164)

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
{ بُيُوتٍ } المساجد " ع " ، أو سائر البيوت { تُرْفَعَ } تُبْنَى ، أو تطهر من الأنجاس والمعاصي ، أو تعظم ، أو ترفع فيها الحوائج إلى الله تعالى { وَيُذْكَرَ فِيهَا أسْمُهُ } يتلى كتابه " ع " ، أو تذكر أسماؤه الحسنى ، أو توحيده بأن لا إله غيره ، { فِى بُيُوتٍ } متعلق بقوله كمشكاة ، أو بقوله تعالى " يسبح " { يُسَبِّحُ } يصلي له " ع " أو ينزهه { وَالأَصَالِ } العشايا .
(4/165)

رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
{ تِجَارَةٌ } التجار : الجلاب المسافرون ، والباعة : المقيمون . { عَن ذِكْرِ اللَّهِ } بأسمائه الحسنى ، أو عن الآذان { تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } على جمر جهنم ، أو تتقلب أحوالها بأن تلحقها النار ثم تنضجها ثم تحرقها ، أو تقلب القلوب : وجيبها وتقلب الأبصار نظرها إلى نواحي الأهوال ، أو تقلب القلوب : بلوغها الحناجر وتقلب الأبصار الزُّرق بعد الكُحْل والعمى بعد الإبصار ، أو يتقلب قلب الكافر عن الكفر إلى الإيمان ويتقلب بصره عما كان يراه غيَّاً فيراه رشداً .
(4/166)

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{ بِغَيْرِ حِسَابٍ } بغير جزاء بل يبتديه تفضلاً ، أو غير مقدر بالكفاية حتى لا يزيد عليها ، أو غير قليل ولا مضيق ، أو غير ممنون به .
(4/167)