الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
ولدخول العسرى، أي سنعجل به ذلك.
والمعنى: سنجعل دخول هذه الجنة سريعا ودخول الآخر النار سريعا، يشبه الميسر من صعوبة لأن شأن الصعب الإبطاء وشأن السهل السرعة، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق:44]، أي سريع عاجل. ويكون على هذا الوجه قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} مشاكلة بنيت على استعارة تهكمية قرينتها قوله "العسرى". والذي يدعو إلى هذا أن فعل "نيسر" نصب ضمير من {أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ} ، وضمير {مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ} ، فهو تيسير ناشي عن حصول الأعمال التي يجمعها معنى {اتقى} أو معنى {استغنى} ، فالأعمال سابقة لا محالة. والتيسير مستقبل بعد حصولها فهو تيسير ما زاد على حصولها، أي تيسير الدوام عليها والاستزادة منها.
ويجوز أن يكون معنى الآية: أن يجعل التيسير على حقيقته ويجعل اليسرى وصفا أي الحالة اليسرى، والعسرى أي الحالة غير اليسرى.
وليس في التركيب قلب، والتيسير بمعنى الدوام على العمل، ففي صحيح البخاري عن علي قال كنا مع رسول الله في بقيع الغرقد في جنازة فقال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار" ، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل? فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" . أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} اهـ.
فصدر الحديث لا علاقة له بما تضمنته هذه الآية لأن قوله "ما من أحد إلا وقد كتب مقعده" الخ معناه قد علم الله أن أحدا سيعمل بعمل أهل الجنة حتى يوافي عليه، فقوله "وقد كتب مقعده" جعلت الكتابة تمثيلا لعلم الله بالمعلومات علما موافقا لما سيكون لا زيادة فيه ولا نقص، كالشيء المكتوب إذ لا يقبل زيادة ولا نقصا دون المقول الذي لا يكتب فهو لا ينضبط.
فنشأ سؤال من سأل عن فائدة العمل الذي يعمله الناس، ومعنى جوابه: أن فائدة العمل الصالح أنه عنوان على العاقبة الحسنة. وذكر مقابلة وهو العمل السيء إتماما للفائدة ولا علاقة له بالجواب.
وليس مجازه مماثلا لما استعمل في هذه الآية لأنه في الحديث علق به عمل أهل
(30/340)
السعادة فتعين أن يكون تيسيرا للعمل، أي إعدادا وتهيئة للأعمال صالحها أو سيئها.
فالذي يرتبط بالآية من اللفظ النبوي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم أعقب كلامه بأن قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} الآية لأنه قرأها تبيينا واستدلالا لكلامه فكان للآية تعلق بالكلام النبوي ومحل الاستدلال هو قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ} .
فالمقصود منه إثبات أن من شؤون الله تعالى تيسرا للعبد أن يعمل بعمل السعادة أو عمل الشقاء سواء كان عمله أصلا للسعادة كالأيمان أو للشقاوة كالكفر، أم كان للعمل مما يزيد السعادة وينقص من الشقاوة وذلك بمقدار الأعمال الصالحة لمن كان مؤمنا لأن ثبوت أحد معنيي التيسير يدل على ثبوت جنسه فيصلح دليلا لثبوت التيسير من أصله.
أو يكون المقصود من سوق الآية الاستدلال على قوله"اعملوا" لأن الآية ذكرت عملا وذكرت تيسيرا لليسرى وتيسيرا للعسرى، فيكون الحديث إشارة إلى أن العمل هو علامة التيسير وتكون اليسرى معنيا بها السعادة والعسرى معنيا بها الشقاوة، وما صدق السعادة الفوز بالجنة، وما صدق الشقاوة الهوي في النار.
وإذ كان الوعد بتيسير اليسرى لصاحب تلك الصلات الدالة على أعمال الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى كان سلوك طريق الموصولية للإماء إلى وجه بناء الخبر وهو التيسير فتعين أن التيسير مسبب عن تلك الصلات، أي جزاء عن فعلها. فالمتيسر: تيسير الدوام عليها، وتكون اليسرى صفة للأعمال، وذلك من الإظهار في مقام الإضمار. والأصل: مستيسر له أعماله، وعدل عن الإضمار إلى وصف اليسرى للثناء على تلك الأعمال بأنها ميسرة من الله كقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} في سورة الأعلى [8].
وخلاصة الحديث أنه بيان للفرق بين تعلق علم الله بأعمال عباده قبل أن يعملوها، وبين تعلق خطابه إياهم بشرائعه، وأن ما يصدر عن الناس من أعمال ظاهرة وباطنة إلى خاتمة كل أحد وموافقاته هو عنوان للناس على ما كان قد علمه الله، ويلتقي المهيعان في أن العمل هو وسيلة الحصول على أو الوقوع في جهنم.
وإنما خص الإعطاء بالذكر في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} مع شمول {اتقى} لمفاده، وخص البخل بالذكر في قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} مع شمول {استغنى} له، لتحريض المسلمين على الإعطاء، والتقوى شعار المسلمين مع التصديق بالحسنى وضد الثلاثة من شعار المشركين.
(30/341)
وفي الآية محسن الجمع مع التقسيم، ومحسن الطباق، أربع مرات بين {أعطى} و {بخل} ، وبين {اتقى} و {استغنى} ، وبين {صدق} و {كذب} وبين "اليسرى" و"العسرى".
وجملة {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} عطف على جملة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي سنعجل به إلى جهنم. فالتقدير: إذا تردى فيها.
والتردي: السقوط من علو إلى سفل، يعني: لا يغني عنه ماله الذي بخل به شيئا من عذاب النار.
و {ما} يجوز أن تكون نافية. والتقدير: وسوف لا يغني عنه ماله إذا سقط في جهنم، وتحتمل أن تكون استفهامية وهو استفهام إنكار وتوبيخ. ويجوز على هذا الوجه أن تكون الواو للاستئناف. والمعنى: وما يغني عنه ماله الذي بخل به.
روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه كانت لرجل من المنافقين نخلة مائلة في دار رجل مسلم ذي عيال فإذا سقط منها ثمر أكله صبية لذلك المسلم فكان صاحب النخلة ينزع من أيديهم الثمرة فشكا المسلم ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم صاحب النخلة "أن يتركها لهم وله بها نخلة في الجنة" فلم يفعل، وسمع ذلك أبو الدحداح الأنصاري1 فاشترى تلك النخلة من صاحبها بحائط فيه أربعون نخلة وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اشترها مني بنخلة في الجنة فقال: "نعم والذي نفسي بيده" ، فأعطاها الرجل صاحب الصبية، قال عكرمة قال ابن عباس فأنزل الله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} وهو حديث غريب، ومن أجل قول ابن عباس:فأنزل الله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال جماعة: السورة مدنية وقد بينا في المقدمة الخامسة أنه كثيرا ما يقع في كلام المتقدمين قولهم: فأنزل الله في كذا قوله كذا، أنهم يريدون به أن القصة مما تشمله الآية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح" ولمح إليها بشار بن برد في قوله:
ـــــــ
1 أبو الدحداح: ثابت بن الدحداح البلوي، حليف الأنصار، صحابي جليل، قتل في واقعة أحد، وقيل: مات بعدها من جرح كان به حين رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وهو الذي صاح يوم أحد لما أرجف المشركون بموت النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنضار إلي إلي أنا ثابت بن الدحداح إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم فإن الله مظهركم وناصركم.
(30/342)
إن النحيلة إذ يميل بها الهوى ... كالعذق مال على أبي الدحداح
[12-13] {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} .
استئناف مقرر لمضمون الكلام السابق من قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10]، وذلك لإلقاء التبعة على من صار إلى العسرى بأن الله أعذر إليه إذ هداه بدعوة الإسلام إلى الخير فأعرض عن الاهتداء باختياره اكتساب السيئات، فإن التيسير لليسرى يحصل عند ميل العبد إلى عمل الحسنات، والتيسير للعسرى يحصل عند ميله إلى عمل السيئات. وذلك الميل هو المعبر عنه بالكسب عند الأشعري، وسماه المعتزلة: قدرة العبد، وهو أيضا الذي اشتبه على الجبرية فسموه الجبر.
وتأكيد الخبر ب {إن} ولام الابتداء يومئ إلى أن هذا كالجواب عما يجيش في نفوس أهل الضلال عند سماع الإنذار السابق من تكذيبه بأن الله لو شاء منهم ما دعاهم إليه لألجئهم إلى الإيمان. فقد حكي عنهم في الآية الأخرى {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20].
وحرف "على" إذا وقع بين اسم وما يدل على فعل يفيد معنى اللزوم، أي لازم لنا هدى الناس، وهذا التزام من الله اقتضاه فضله وحكمته فتولى إرشاد الناس إلى الخير قبل أن يؤاخذهم بسوء أعمالهم التي هي فساد فيما صنع الله من الأعيان والأنظمة التي أقام عليها فطرة نظام العالم، فهدى الله الإنسان بأن خلقه قابلا للتمييز بين الصلاح والفساد ثم عزز ذلك بأن أرسل إليه رسلا مبينين لما قد يخفي أمره من الأفعال أو يشتبه على الناس فساده بصلاحه ومنبهين الناس لما قد يغفلون عنه من سابق ما عملوه.
وعطف {وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} على جملة {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} تتميم وتنبيه على أن تعهد الله لعباده بالهدى فضل منه وإلا فإن الدار الآخرة ملكه والدار الأولى ملكه بما فيهما قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [المائدة:17] فله التصرف فيهما كيف يشاء فلا يحسبوا أن عليهم حقا على الله تعالى إلا ما تفضل به.
وفي الآية إشارة عظيمة إلى أن أمور الجزاء في الأخرى تجري على ما رتبه الله وأعلم به عباده. وأن نظام أمور الدنيا وترتيب مسبباته على أسبابه أمر قد وضعه الله تعالى وأمر بالحفاظ عليه وأرشد وهدى، فمن فرط في شيء من ذلك فقد استحق ما تسبب فيه.
(30/343)
[14-21] {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
يجوز أن تكون الفاء لمجرد التفريع الذكري إذا كان فعل "أنذرتكم" مستعملا في ماضيه حقيقة وكان المراد الإنذار الذي اشتمل عليه قوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} إلى قوله تعالى: {تَرَدَّى} [الليل: 8-11]. وهذه الفاء يشبه معناها معنى فاء الفصيحة لأنها تدل على مراعاة مضمون الكلام الذي قبلها وهو تفريع إنذار مفصل على إنذار مجمل.
ويجوز أن تكون الفاء للتفريع المعنوي فيكون فعل "أنذرتكم" مرادا به الحال وإنما صيغة في صيغة المضي لتقريب زمان الماضي من الحال كما في : قد قامت الصلاة، وقولهم: عزمت عليكم إلا ما فعلت كذا، أي أعزم عليك، ومثل ما في صيغ العقود : كبعت وهو تعريف على جملة {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:12] والمعنى: هديكم فأنذرتكم إبلاغا في الهدى.
وتنكير {نَارًا} للتهويل، وجملة {تَلَظَّى} نعت. وتطلى: تلتهب من شدة الاشتعال. وهو مشتق من اللظى مصدر: لظيت إذا التهبت، وأصل {تَلَظَّى} تتلظى بتاءين حذفت إحداهما للاختصار.
وجملة {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} صفة ثانية أو حال من {نَارًا} بعد أن وصفت. وهذه نار خاصة أعدت للكافرين فهي التي في قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24] والقرينة على ذلك قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} الآية.
وذكر القرطبي أن أبا إسحاق الزجاج قال هذه الآية التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء فزعموا: أن لا يدخل النار إلا كافر، وليس الأمر كما ضنوا: هذه نار موصوفة بعينها لا يصلى هذه النار إلا الذي كذب وتولى، ولأهل النار منازل فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار اه.
والمعنى: لا يصلاها إلا أنتم.
وقد أتبع {الأَشْقَى} بصفة {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} لزيادة التنصيص على أنهم
(30/344)
المقصود بذلك فإنهم يعلمون أنهم كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتولوا أي أعرضوا عن القرآن، وقد انحصر ذلك الوصف فيهم يومئذ فقد كان الناس في زمن ظهور الإسلام أحد فريقين: إما كافر وإما مؤمن تقي، ولم يكن الذين أسلموا يغشون الكبائر لأنهم أقبلوا على الإسلام بشراشرهم، ولذلك عطف {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} الخ تصريحا بمفهوم القصر وتكميلا للمقابلة.
و {الأَشْقَى} و {الأَتْقَى} مراد بهما: الشديد الشقاء والشديد التقوى ومثله كثير في الكلام.
وذكر القرطبي: أن مالكا قال: صلى بنا عمر بن عبد العزيز فقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} فلما بلغ {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.
ووصف {الأَشْقَى} بصلة {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ، ووصف {الأَتْقَى} بصلة {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} للإيذان بأن للصلة تسببا في الحكم.
وبين {الأَشْقَى} و {الأَتْقَى} محسن الجناس المضارع.
وجملة {يَتَزَكَّى} حال من ضمير {يُؤْتِي} ، وفائدة الحال التنبيه على أنه يوتي ماله بقصد النفع والزيادة من الثواب تعريضا بالمشركين اللذين يؤتون المال للفخر والرياء والمفسد والفجور.
والتزكي: تكلف الزكاء، وهو النماء من الخير.
والمال: اسم جنس لما يختص به أحد الناس من أشياء ينتفع بذاتها أو بخراجها وغلتها مثل الأنعام والأرضيين والآبار الخاصة والأشجار المختص به أربابها.
ويطلق عند بعض العرب مثل أهل يثرب على النخيل.
وليس في إضافة اسم الجنس ما يفيد العموم، فلا تدل الآية على أنه آتى جميع ماله.
وقوله: {وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} الآية اتفق أهل التأويل على أن أول مقصود بهذه الصلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما اعتق بلالا قال المشركون: وما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده. وهو قول من بهتانهم يعللون به أنفسهم كراهية
(30/345)
لأن يكون أبو بكر فعل ذلك محبة للمسلمين ، فأنزل الله تكذيبهم قوله: {وَمَا ِلأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} مرادا به بعض من شمله عموم {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} ، وهذا شبيه بذكر بعض أفراد العام وهو لا يخصص العموم ولكن هذه لما كانت حالة غير كثيرة في أسباب إيتاء المال تعين أن المراد بها حالة خاصة معروفة بخلاف نحو قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} [البقرة:177]، وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا} [الإنسان:9].
و {عنده} ظرف مكان وهو مستعمل هنا مجازا في تمكن المعنى من المضاف إليه عنه كتمكن الكائن في المكان القريب، قال الحارث بن حلزة:
من لنا عنده من الخير آيا ... ت ثلاث في كلهن القضاء
و {مِنْ نِعْمَةٍ} اسم {ما} النافية جر ب {من} الزائدة التي تزاد في النفي لتأكيد النفي، الاستثناء في {إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ} منقطع، أي لكن ابتغاء لوجه الله.
والابتغاء: الطلب بجد لأنه أبلغ من البغي.
والوجه مستعمل مراد به الذات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27]. ومعنى ابتغاء الذات ابتغاء رضا الله.
وقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} وعد بالثواب الجزيل الذي يرضي صاحبه. وهذا تتميم لقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} لأن ذلك ما أفاد إلا أنه ناج من عذاب النار لاقتضاء المقام الاقتصار على ذلك لقصد المقابلة مع قوله: {لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} فتمم هنا بذكر ما أعد له من الخيرات.
وحرف "سوف" لتحقيق الوعد في المستقبل كقوله: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98] أي يتغلغل رضاه في أزمنة المستقبل المديد.
واللام لام الابتداء لتأكيد الخبر.
وهذه من جوامع الكلم لأنها يندرج تحتها كل ما يرغب فيه الراغبون. وبهذه السورة انتهت سورة وسط المفصل.
(30/346)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الضحى" بدون الواو.
وسميت في كثير من التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة والضحى" بإثبات الواو.
ولم يبلغنا عن الصحابة خبر صحيح في تسميتها.
وهي مكية بالاتفاق.
وسبب نزولها ما ثبت في "الصحيحين" يزيد أحدهما على الآخر عن الأسود بن قيس عن جندب بن سفيان البجلي قال دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثة فجاءت امرأة وهي أم جميل بنت حرب زوج أبي لهب كما في رواية عن ابن عباس ذكرها ابن عطية فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث. فأنزل الله {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1-3].
وروى الترمذي عن ابن عيينة عن الأسود عن جندب البجلي قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فدميت إصبعه فقال: "هل أنت إلا إصبع دميت. وفي سبيل الله ما لقيت" . قال فأبطأ عليه جبريل، فقال المشركون قد ودع محمد فأنزل الله تعالى {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} . وقال: حديث حسن صحيح.
ويظهر أن قول أم جميل لم يسمعه جندب لأن جندبا كان من صغار الصحابة وكان يروي عن أبي بن كعب وعن حذيفة كما قال أبن عبد البر. ولعله أسلم بعد الهجرة فلم يكن قوله كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار مقارنا لقول المشركين "وقد ودع محمد". ولعل
(30/347)
جندبا روى حديثين جمعهما ابن عيينة. وقيل: إن كلمة في غار تصحيف، وأن أصلها: كنت غازيا. ويتعين حينئذ أن يكون حديثه جمع حديثين.
وعدت هذه السورة حادية عشرة في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة الفجر وقبل سورة الانشراح.
وعدد آيها إحدى عشرة آية.
وهي أول سورة في قصار المفصل.
أغراضها
إبطال قول المشركين إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه.
وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى. وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه. وذلك يغيض المشركين.
ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله وأمره بالشكر على تلك النعم بما يناسبها مع نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله.
[1-3] {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} .
القسم لتأكيد الخبر ردا على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأوه لم يقم الليل بالقرآن بضع ليال. فالتأكيد منصب على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين. فالتأكيد تعريض بالمشركين وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه.
ومناسبة القسم ب {وَالضُّحَى. وَاللَّيْلِ} أن الضحى وقت انبثاق نور الشمس فهو إيماء إلى تمثيل نزول الوحي وحصول الاهتداء به، وأن الليل وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو الوقت الذي كان يسمع فيه المشركون قراءته من بيوتهم القريبة من بيته أو من المسجد الحرام.
ولذلك قيد {اللَّيْلِ} بظرف {إِذَا سَجَى} . فلعل ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً. نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:2-3].
والضحى تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1].
(30/348)
وكتب في المصحف {وَالضُّحَى} بألف في صورة الياء مع أن أصل ألفه الواو لأنهم راعوا المناسبة مع أكثر الكلمات المختومة بألف في هذه السورة فإن أكثرها منقلبة الألف عن الياء، ولأن الألف تجري فيها الإمالة في اللغات التي تميل الألف التي من شأنها أن لا تمال إذا وقعت مع ألف تمال للمناسبة كما قال ابن مالك في "شرح كافيته" .
ويقال: سجا الليل سجوا بفتح وسكون، وسجوا بضمتين وتشديد الواو، إذا امتد وطال مدة ظلامه مثل سجو المرء بالغطاء، إذا غطي به جميع جسده وهو واوي ورسم في المصحف بألف في صورة الياء للوجه المتقدم في كتابة {الضُّحَى} .
وجملة {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} الخ جواب القسم، وجواب القسم إذا كان جملة منفية لم تقترن باللام.
والتوديع: تحية من يريد السفر.
واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيها بفراق المسافر في انقطاع الصلة حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالا معهودا.
وهذا نفي لأن يكون الله قطع عنه الوحي.
وقد عطف عليه {وَمَا قَلَى} للإتيان على إبطال مقالتي المشركين إذ قال بعضهم: ودعه ربه، وقال بعضهم: قلاه ربه، يريدون التهكم.
وجملة {وَمَا قَلَى} عطف على جملة جواب القسم ولها حكمها.
والقلي بفتح القاف مع سكون اللام والقلى بكسر القاف مع فتح اللام : البغض الشديد، وسبب مقالة المشركين تقدم في صدر السورة.
والظاهر أن هذه السورة نزلت عقب فترة ثانية فتر فيها الوحي بعد الفترة التي نزلت إثرها سورة المدثر، فعن ابن عباس وابن جريج احتبس الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر يوما أو نحوها. فقال المشركون: إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه، فنزلت الآية.
واحتباس الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقع مرتين:
أولاهما: قبل نزول سورة المدثر أو المزمل، أي بعد نزول سورتين من القرآن أو ثلاث على الخلاف في الأسبق من سورتي المزمل والمدثر، وتلك الفترة هي التي خشي
(30/349)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون قد انقطع عنه الوحي. وهي التي رأى عقبها جبريل على كرسي بين السماء والأرض كما تقدم في تفسير سورة المدثر، وقد قيل: إن مدة انقطاع الوحي في الفترة الأولى كانت أربعين يوما ولم يشعر بها المشركون لأنها كانت في مبدإ نزول الوحي قبل أن يشيع الحديث بينهم فيه وقبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن ليلا.
وثانيتهما: فترة بعد نزول نحو من ثمان سور، أي السور التي نزلت بعد الفترة الأولى فتكون بعد تجمع عشر سور، وبذلك تكون هذه السورة حادية عشرة فيتوافق ذلك مع عددها في ترتيب نزول السور.
والاختلاف في سبب نزول هذه السورة يدل على عدم وضوحه للرواة، فالذي نظنه أن احتباس الوحي في هذه المرة كان لمدة نحو من اثني عشر يوما وأنه ما كان إلا للرفق بالنبي صلى الله عليه وسلم كي تستجم نفسه وتعتاد قوته تحمل أعباء الوحي إذ كانت الفترة الأولى أربعين يوما ثم كانت الثانية اثنى عشر يوما أو نحوها، فيكون نزول سورة الضحى هو النزول الثالث، وفي المرة الثالثة يحصل الارتياض في الأمور الشاقة ولذلك يكثر الأمر بتكرر بعض الأعمال ثلاثا، وبهذا الوجه يجمع بين مختلف الأخبار في سبب نزول هذه السورة وسبب نزول سورة المدثر.
وحذف مفعول {قلى} لدلالة {ودعك} عليه كقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] وهو إيجاز لفظي لظهور المحذوف ومثله قوله: {فَآوَى} [الضحى:6]، ف {فَهَدَى} [الضحى:7] ، {فَأَغْنَى} [الضحى:8].
[4] {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} .
عطف على جملة {وَالضُّحَى} [الضحى:1] فهذا كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية وليست معطوفة على جملة جواب القسم بل هي ابتدائية فلما نفي القلى بشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا وفي الآخرة.
وما في تعريف "الآخرة" و {الأولى} من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي وغير ذلك من الخير.
والآخرة: مؤنث الآخر، و {الأولى} : مؤنث الأول، وغلب لفظ الآخرة في اصطلاح القرآن على الحياة الآخرة وعلى الدار الآخرة كما غلب لفظ الأولى على حياة
(30/350)
الناس التي قبل انخرام هذا العالم، فيجوز أن يكون المراد هنا من كلا اللفظين كلا معنييه فيفيد أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة تبشيرا له بالخيرات الأبدية، ويفيد أن حالاته تجري على الانتقال من حالة إلى أحسن منها، فيكون تأنيث الوصفين جاريا على حالتي التغليب وحالتي التوصيف، ويكون التأنيث في هذا المعنى الثاني لمراعاة معنى الحالة.
ويومئ ذلك إلى أن عودة نزول الوحي عليه هذه المرة خير من العودة التي سبقت، أي تكفل الله بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.
فاللام في "الآخرة" و {الأولى} لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
واللام في قوله: {لك} لام الاختصاص، أي خير مختص بك وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي دينه وفي أمته، فهذا وعد من الله بأن ينشر دين الإسلام وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وقد روى الطبراني والبيهقي في دلائل النبوءة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني" فأنزل الله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} .
[5] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
هو كذلك عطف على جملة القسم كلها وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف [98] وقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} في سورة الليل [21].
وحذف المفعول الثاني ل {يُعْطِيكَ} ليعم كل ما يرجوه صلى الله عليه وسلم من خير لنفسه ولأمته فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة.
وجيء بفاء التعقيب في {فَتَرْضَى} لإفادة كون العطاء عاجل النفع بحيث يحصل به رضا المعطى عند العطاء فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص.
وتعريف {رَبُّكَ} بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ "رب" من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة رب إلى ضميره.
(30/351)
وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجا وما فتح على الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أقطار الأرض شرقا وغربا.
واعلم أن اللام في {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ} [الضحى:4] وفي {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ} جزم صاحب الكشاف بأنه لام الابتداء وقدر مبتدأ محذوفا. والتقدير: ولأنت سوف يعطيك ربك. وقال: إن لام القسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد وحيث تعين أن اللام لام الابتداء ولام الابتداء لا تدخل إلا على جملة من مبتدأ وخبر تعين تقدير المبتدأ. واختار ابن الحاجب أن اللام في {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} لام التوكيد يعني لام وجوب القسم. ووافقه ابن هشام في "مغني اللبيب" وأشعر كلامه أن وجود حرف التنفيس مانع من لحاق نون التوكيد ولذلك تحجب اللام في الجملة. وأقول في كون وجود حرف التنفيس يوجب كون اللام لام جواب قسم محل نظر.
[6-8] {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
استئناف مسوق مساق الدليل على تحقق الوعد، إي هو وعد جار على سنن ما سبق من عناية الله بك من مبدإ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف لأن شأن الصدف أن لا تتكرر فقد علم أن اطراد ذلك مراد لله تعالى.
والمقصود من هذا إيقاع اليقين في قلوب المشركين بأن ما وعده الله به محقق الوقوع قياسا على ما ذكره به من ملازمة لطفه به فيما مضى وهم لا يجهلون ذلك عسى أن يقلعوا عن العناد ويسرعوا إلى الإيمان وإلا فإن ذلك مساءة تبقى في نفوسهم وأشباح رعب تخالج خواطرهم. ويحصل مع ذلك المقصود امتنان على النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية لاطمئنان نفسه بوعد الله تعالى إياه.
والاستفهام تقريري، وفعل {يَجِدْكَ} مضارع وجد بمعنى ألفى وصادف، وهو الذي يتعدى إلى مفعول واحد ومفعوله ضمير المخاطب. و {يَتِيماً} حال، وكذلك {ضَالاً} و {عَائِلاً} . والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع للذي تعسرت عليه بحالة من وجد شخصا في شدة يتطلع إلى من يعينه أو يغيثه.
واليتيم: الصبي الذي مات أبوه وقد كان أبو النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو جنين أو أول
(30/352)
المدة من ولادته.
والإيواء: مصدر أوى إلى البيت، إذا رجع إليه، فالإيواء: الإرجاع إلى المسكن، فهمزته الأولى همزة التعدية، أي جعله آويا، وقد أطلق الإيواء على الكفالة وكفاية الحاجة مجازا أو استعارة، فالمعنى أنشأك على كمال الإدراك والاستقامة وكنت على تربية كاملة مع أن شأن الأيتام أن ينشأوا على نقائض لأنهم لا يجدون من يعني بتهذيبهم وتعهد أحوالهم الخلقية. وفي الحديث "أدبني ربي فأحسن تأديبي" فكان تكوين نفسه الزكية على الكمال خيرا من تربية الأبوين.
والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المكان المقصود سواء سلك السائر طريقا آخر يبلغ إلى غير المقصود أم وقف حائرا لا يعرف أي طريق يسلك، وهو المقصود هنا لأن المعنى: أنك كنت في حيرة من حال أهل الشرك من قومك فأراكه الله غير محمود وكرهه إليك ولا تدري ماذا تتبع من الحق، فإن الله لما أنشأ رسوله صلى الله عليه وسلم على ما أراد من إعداده لتلقي الرسالة في الإبان، ألهمه أن ما عليه قومه من الشرك خطأ وألقى في نفسه طلب الوصول إلى الحق ليتهيأ بذلك لقبول الرسالة عن الله تعالى.
وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوءة باختلاف علمائنا، وإنما اختلفوا في عصمتهم من نوع الذنوب الفواحش التي لا تختلف الشرائع في كونها فواحش وبقطع النظر عن التنافي بين اعتبار الفعل فاحشة وبين الخلو عن وجود شريعة قبل النبوءة، فإن المحققين من أصحابنا نزهوهم عن ذلك والمعتزلة منعوا ذلك بناء على اعتبار دليل العقل كافيا في قبح الفواحش على إرسال كلامهم في ضابط دلالة العقل. ولم يختلف أصحابنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه ما ينافي أصول الدين قبل رسالته ولم يزل علماؤنا يجعلون ما تواتر من حال استقامته ونزاهته عن الرذائل قبل نبوءته دليلا من جملة الأدلة على رسالته، بل قد شافه القرآن به المشركين بقوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [يونس:16] وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [المؤمنون:69]، ولأنه لم يؤثر أن المشركين أفحموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما أنكر عليهم من مساوي أعمالهم بأن يقولوا فقد كنت تفعل ذلك معنا.
والعائل: الذي لا مال له، والفقر يسمى عيلة، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة:28] وقد أغناه الله غنائين: أعظمهما غنى القلب إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة مقارضته في تجارتها.
(30/353)
وحذفت مفاعيل {فآوى} ، {فهدى} ، {فأغنى} للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها، وحذفها إيجاز، وفيه رعاية عن الفواصل.
[9-11] {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
الفاء الأولى فصيحة.
و"أما" تفيد شرطا مقدرا تقديره: مهما يكن من شيء، فكان مفادها مشعرا بشرط آخر مقدر هو الذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة، وتقدير نظم الكلام إذ كنت تعلم ذلك وأقررت به فعليك بشكر ربك، وبين له الشكر بقوله: {أَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} الخ.
وقد جعل الشكر هنا مناسبا للنعمة المشكور عليها وإنما اعتبر تقدير: إذا أردت الشكر، لأن شكر النعمة تنساق إليه النفوس بدافع المروءة في عرف الناس، وصدر الكلام ب"أما" التفصيلية لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة.
ولما كانت "أما" بمعنى: ومهما يكن شيء، قرن جوابها بالفاء.
واليتيم مفعول لفعل {فَلاَ تَقْهَرْ} . وقدم للاهتمام بشأنه ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعا وقد حصل مع ذلك الوفاء باستعمال جواب "أما" أن يكون مفصولا عن "أما" بشيء كراهية موالاة فاء الجواب لحرف الشرط. ويظهر أنهم ما التزموا الفصل بين "أما" وجوابها بتقديم شيء من علائق الجواب إلا لإرادة الاهتمام بالمقدم لأن موقع "أما" لا يخلو عن اهتمام بالكلام اهتماما يرتكز في بعض أجزاء الكلام، فاجتلاب "أما" في الكلام أثر للاهتمام وهو يقتضي أن مثار الاهتمام بعض متعلقات الجملة، فذلك هو الذي يعتنون بتقديمه وكذلك القول في تقديم {السَّائِلَ} وتقديم {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} على فعليهما.
وقد قوبلت النعم الثلاث المتفرع عليها هذا التفصيل بثلاثة أعمال تقابلها.
فيجوز أن يكون هذا التفصيل على طريقة اللف وانشر المرتب، وذلك ما درج عليه الطيبي، ويجري على تفسير سفيان بن عينة السائل بالسائل عن الدين والهدى، فقوله: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} مقابل لقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6] لا محالة، أي فكما آواك ربك وحفظك من عوارض النقص المعتاد لليتم، فكن أنت مكرما للأيتام رفيقا بهم، فجمع ذلك في النهي عن قهره، لأن أهل الجاهلية كانوا يقهرون الأيتام ولأنه إذا نهى عن قهر اليتيم
(30/354)
مع كثرة الأسباب لقهره لأن القهر قد يصدر من جراء القلق من مطالب حاجاته فإن فلتات اللسان سريعة الحصول كما قال تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] وقال {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُورًا} [الإسراء:28].
والقهر: الغلبة والإذل وهو المناسب هنا، وتكون هذه المعاني بالفعل كالدع والتحقير بالفعل وتكون بالقول قال تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا} [النساء:5]، وتكون بالإشارة مثل عبوس الوجه، فالقهر المنهي عنه هو القهر الذي لا يعامل به غير اليتيم في مثل ذلك فأما القهر لأجل الاستصلاح كضرب التأديب فهو من حقوق التربية قال تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة:220].
وقوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7] لأن الضلال يستعدي السؤال عن الطريق فالضال معتبر من نصف السائلين. والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسؤول كما قال كعب:
وقال كل خليل كنت آمله: ... لا ألهينك أني عنك مشغول
فجعل الله الشكر عن هدايته إلى طريق الخير أن يوسع باله للسائلين.
فلا يختص السائل بسائل العطاء بل يشمل كل سائل وأعظم تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بإرشاد المسترشدين، وروي هذا التفسير عن سفيان بن عينة. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتوكم من أقطار الأرض يتفقهون فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا" قال هارون العبدي: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {السَّائِلَ} تعريف الجنس فيعم كل سائل، أي عما يسال النبي صلى الله عليه وسلم عن مثله.
ويكون النشر على ترتيب اللف.
فإن فسر {السَّائِلَ} بسائل المعروف كان مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8] وكان من النشر المشوش، أي المخالف لترتيب اللف، وهو ما درج عليه "الكشاف".
والنهر: الزجر بالقول مثل أن يقول: إليك عني. ويستفاد من النهي عن القهر والنهر النهي عما هو أشد منهما في الأذى كالشتم والضرب والاستيلاء على المال وتركه محتاجا
(30/355)
وليس من النهر نهي السائل عن مخالفة آداب السؤال في الإسلام.
وقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} .
فإن الإغناء نعمة فأمره الله أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها.
وليس المراد بنعمة ربك نعمة خاصة وإنما أريد الجنس فيفيد عموما في المقام الخطابي، أي حدث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الإغناء، وحصل الأمر بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلا جامعا.
فإن جعل قوله: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} على طريقة اللف والنشر المشوش كان قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} مقابل قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7] على طريقة اللف وانشر المشوش أيضا.
وكان المراد بنعمة ربه نعمة الهداية إلى الدين الحق.
والتحديث: الإخبار، أي أخبر بما أنعم الله عليك اعترافا بفضله، وذلك من الشكر. والقول في تقديم المجرور وهو {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} على متعلقه كالقول في تقديم {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} .
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فمقتضى الأمر في المواضع الثلاثة أن تكون خاصة به، وأصل الأمر الوجوب، فيعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واجب عليه ما أمر به، وأما مخاطبة أمته بذلك فتجري على أصل مساواة الأمة لنبيها فيما فرض عليه ما لم يدل دليل على الخصوصية، فأما مساواة الأمة له في منع قهر اليتيم ونهر السائل فدلائله كثيرة مع ما يقتضيه أصل المساواة.
وأما مساواة الأمة في الأمر بالتحدث بنعمة الله فإن نعم الله على نبيه صلى الله عليه وسلم شتى منها ما لا مطمع لغيره من الأمة فيه مثل نعمة الرسالة ونعمة القرآن ونحو ذلك من مقتضيات الاصطفاء الأكبر، ونعمة الرب في الآية مجملة.
فنعم الله التي أنعم بها على نبيه صلى الله عليه وسلم كثيرة منها ما يجب تحديثه به وهو تبليغه الناس أنه رسول من الله وأن الله أوحى إليه وذلك داخل في تبليغ الرسالة وقد كان يعلم الناس الإسلام فيقول لمن يخاطبه أن تشهد أن لا اله إلا الله وأني رسول الله.
(30/356)
ومنها تعريفه الناس ما يجب له من البر والطاعة كقوله لمن قال له اعدل يا رسول الله فقال "أيأمنني الله على وحيه ولا تأمنوني" ، ومنه ما يدخل التحديث به في واجب الشكر على النعمة فهذا وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خالص من عروض المعارض لأن النبي معصوم من عروض الرياء ولا يظن الناس به ذلك فوجوبه عليه ثابت.
وأما الأمة فقد يكون فقد يكون التحدث بالنعمة منهم محفوفا برياء أو تفاخر. وقد ينكسر له خاطر من هو غير واجد مثل النعمة المتحدث بها. وهذا مجال للنظر في المعارضة بين المقتضي والمانع، وطرقة الجمع بينهما إن أمكن أو الترجيح لأحدهما.وفي تفسير الفخر: سئل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عن الصحابة فأثنى عليهم فقالوا له: فحدثنا عن نفسك فقال: مهلا فقد نهى الله عن التزكية، فقيل له: أليس الله تعالى يقول {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} فقال: فإني أحدث كنت إذا سئلت أعطيت. وإذا سكت ابتديت، وبين الجانح علم جم فسألوني. فمن العلماء من خص النعمة في قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بنعمة القرآن ونعمة النبوة وقاله مجاهد. ومن العلماء من رأى وجوب التحدث بالنعمة. رواه الطبري عن أبي نضرة1.
وقال القرطبي: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولغيره. قال عياض في الشفاء وهذا خاص له عام لأمته.
وعن عمرو بن ميمون2: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به يقول له رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا، وعن عبد الله بن غالب3: أنه كان إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأت كذا، صليت كذا، ذكرت الله كذا، فقلنا له: يا أبا فراس إن مثلك لا يقول هذا، قال يقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله. وذكر ابن العربي عن أيوب قال: دخلت على أبي رجاء العطاردي فقال: لقد رزق الله البارحة: صليت كذا وسبحت كذا، قال أيوب: فاحتملت ذلك لأبي رجاء. وعن بعض السلف أن التحدث بالنعمة تكون للثقة من الإخوان ممن يثق به قال ابن
ـــــــ
1 أبو نضرة المنذر بن مالك العبدي البصري من صغار التابعين توفي سنة 108 ه.
2 كذا قال القرطبي فيحتمل أنه عمرو بن ميمون الرقي المتوفى سنة 74ه.
3 وصفه ابن عطية ببعض الصالحين ولعله عبد الله بن غالب الحداني البصري العابد توفي سنة 83هـ.
(30/357)
العربي إن التحدث بالعمل يكون بإخلاص من النية عند أهل الثقة فإنه ربما خرج إلى الرياء وإساءة الضن بصاحبه. وذكر الفخر والقرطبي عن الحسن بن علي: إذا أصبت خيرا أو عملت خيرا فحدث به الثقة من إخوانك. قال الفخر: إلا أن هذا إنما يحسن إذا لم يتضمن رياء وظن أن غيره يقتدي به.
(30/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشرح
سميت في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" و"جامع الترمذي" سورة ألم نشرح ، وسميت في بعض التفاسير سورة الشرح ومثله في بعض المصاحف المشرقية تسمية بمصدر الفعل الواقع فيها من قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وفي بعض التفاسير تسميتها سورة الانشراح.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثانية عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سةدورة الضحى بالاتفاق وقبل سورة العصر.
وعن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان ألم نشرح من سورة الضحى. وكانا يقرءانهما بالركعة الواحدة لا يفصلان بينهما يعني في الصلاة المفروضة وهذا شذوذ مخالف لما اتفقت عليه الأمة من تسوير المصحف الإمام.
وعدد آيها ثمان.
أغراضها
احتوت على ذكر عناية الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بلطف الله له وإزالة الغم والحرج عنه، وتفسير ما عسر عليه، وتشريف قدره لينفس عنه، فمضمونها شبيه بأنه حجة على مضمون سورة الضحى تثبيتا له بتذكيره سالف عنايته به وإنارة سبيل الحق وترفيع الدرجة ليعلم أن الذي ابتدأه بنعمته ما كان ليقطع عنه فضله، وكان ذلك بطريقة التقرير بماض يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم.
واتبع ذلك بوعده بأنه كلما عرض له عسر فسيجد من أمره يسرى كدأب الله تعالى في
(30/359)
معاملته فليتحمل متاعب الرسالة ويرغب إلى الله عونه.
[1-4] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .
استفهام تقريري على النفي. والمقصود التقرير على إثبات المنفي كما تقدم غير مرة. وهذا التقرير مقصود به التذكير لأجل أن يراعي هذه المنة عندما يخالجه ضيق صدر مما يلقاه من أذى قوم يريد صلاحهم وإنقاذهم من النار ورفع شأنهم بين الأمم،ليدوم على دعوته العظيمة نشيطا غير ذي أسف ولا كمد.
والشرح حقيقته: فصل أجزاء اللحم بعضها عن بعض، ومنه الشريحة للقطعة من اللحم، والتشريح في الطب، ويطلق على انفعال النفس بالرضى بالحال المتلبس بها. وظاهر كلام "الأساس" أن هذا إطلاق حقيقي. ولعله راعى كثرة الاستعمال، أي هو من المجاز الذي يساوي الحقيقة لأن الظاهر أن الشرح الحقيقي خاص بشرح اللحم، وأن إطلاق الشرح على رضى النفس بالحال أصله استعارة ناشئة عن إطلاق لفظ الضيق وما تصرف منه على الإحساس بالحزن والكمد قال تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} [هود:12] الآية. فجعل إزالة ما في النفس من حزن مثل شرح اللحم وهذا الأنسب بقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح:5].
وتقدم قوله: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} في سورة طه [25].
فالصدر مراد به الإحساس الباطني الجامع لمعنى العقل والإدراك. وشرح صدره كناية عن الإنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات وإعلامه برضى الله عنه وبشارته بما سيحصل للدين الذي جاء به من النصر.
هذا تفسير الآية بما يفيده نظمها واستقلالها عن المرويات الخارجية، ففسرها ابن عباس بأن الله شرح قلبه بالإسلام، وعن الحسن قال، شرح صدره أن ملئ علما وحكما، وقال سهل بن عبد الله التستري: شرح صدره بنور الرسالة، وعلى هذا الوجه حمله كثير من المفسرين ونسبه ابن عطية إلى الجمهور.
ويجوز أن يجعل الشرح شرحا بدنيا. وروي عن ابن عباس أنه فسر به وهو ظاهر صنيع الترمذي إذ أخرج حديث شق الصدر الشريف في تفسير هذه السورة فتكون الآية
(30/360)
إشارة إلى مرويات في شق صدره صلى الله عليه وسلم شقا قدسيا، وهو المروي بعض خبره في الصحيحين، والمروي مطولا في السيرة والمسانيد، فوقع بعض الروايات في الصحيحين أنه كان في رؤيا النوم ورؤيا الأنبياء وحي، وفي بعضها أنه كان يقظة وهو ظاهر ما في "البخاري"، وفي "صحيح مسلم" أنه يقظة وبمرأى من غلمان أترابه، وفي حديث مسلم عن أنس بن مالك أنه قال رأيت أثر الشق في جلد صدر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم بين النائم واليقظان، والروايات مختلفة في زمانه ومكانه مع اتفاقها على أنه كان بمكة. واختلاف الروايات حمل بعض أهل العلم على القول بأن شق صدره الشريف تكرر مرتين إلى أربع، منها حين كان عند حليمة. وفي حديث عبد الله بن أحمد بن حنبل أن الشق كان وعمر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين.
والذي في الصحيح عن أبي ذر أنه كان عند المعراج به إلى السماء، ولعل بعضها كان رؤيا وبعضها حسا. وليس في شيء من هذه الأخبار على اختلاف مراتبها ما يدل على أنه الشرح المراد في الآية، وإذ قد كان ذلك الشق معجزة خارقة للعادة يجوز أن يكون مرادا وهو ما نحاه أبو بكر بن العربي في الأحكام، وعليه يكون الصدر قد أطلق على حقيقته وهو الباطن الحاوي للقلب ومن العلماء فسر الصدر بالقلب حكاه عياض في الشفا، يشير إلى ما جاء في خبر شق الصدر من إخراج قلبه وإزالة مقر الوسوسة منه، وكلا المعنيين للشرح يفيد أنه إيقاع معنى عظيم لنفس النبي صلى الله عليه وسلم إما مباشرة وإما باعتبار مغزاه كما لا يخفى.
واللام في قوله: {لك} لام التعليل، وهو يفيد تكريما للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله فعل ذلك لأجله.
وفي ذكر الجار والمجرور قبل ذكر المشروح سلوك طريقة الإبهام للتشويق فإنه لما ذكر فعل {نَشْرَحْ} علم السامع أن ثم مشروحا، فلما وقع قوله: {لك} قوي الإبهام فزاد التشويق، لأن {لك} يفيد معنى شيئا لأجلك فلما وقع بعده قوله "صدره" تعين المشروح المترقب فتمكن في الذهن كمال تمكن، وهذا ما أشار إليه في "الكشاف" وقفي علي صاحب المفتاح في مبحث الإطناب.
والوزر: الحرج، ووضعه: حطه عن حامله، والكلام تمثيل لحال إزالة الشدائد والكروب بحال من يحط ثقلا عن حامله ليريحه من عناء الثقل.
والمعنى: أن الله أزال عنه كل ما كان يتحرج منه من عادات أهل الجاهلية التي لا
(30/361)
تلائم ما فطر الله عليه نفسه من الزكاء والسمو ولا يجد بدا من مسايرتهم عليه فوضع عنه ذلك حين أوحى إليه بالرسالة، وكذلك ما كان يجده في أول بعثته من ثقل الوحي فيسره الله عليه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى} إلى قوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:6-8].
و {أَنقَضَ} جعل الشيء ذانقيض، والنقيض صوت صرير المحمل والرحل وصوت عظام المفاصل، وفرقعة الأصابع،وفعله القاصر من باب نصر ويعدى بالهمزة.
وإسناد {أَنقَضَ} إلى الوزر مجاز عقلي، وتعديته إلى الظهر تبع لتشبيه المشقة بالحمل، فالتركيب تمثيل لمتجشم المشاق الشديدة بالحمولة المثقلة بالإجمال تثقيلا شديدا حتى يسمع لعظام ظهرها فرقعة وصرير، وهو تمثيل بديع لأنه تشبيه مركب قابل لتفريق التشبيه على أجزائه.
ووصف الوزر بهذا الوصف تكميل للتمثيل بأنه وزر عظيم.
واعلم أن في قوله: {أَنقَضَ ظَهْرَكَ} اتصال حرفي الضاد والظاء وهما متقاربا المخرج فربما يحصل من النطق بهما شيء من الثقل على اللسان ولكنه لا ينافي الفصاحة إذ لا يبلغ مبلغ ما يسمى بتنافر الكلمات بل مثله مغتفر في كلام الفصحاء. والعرب فصحاء الألسن فإذا اقتضى نظم الكلام ورود مثل هذين الحرفين المتقاربين لم يعبأ البليغ بما يعرض عند اجتماعهما من بعض الثقل، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَسَبِّحْهُ} [الإنسان:26] في اجتماع الحاء مع الهاء، وذلك حيث لا يصح الإدغام. وقد أوصى علماء التجويد بظهار الضاد مع الظاء إذا تلاقيا كما في هذه الآية وقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ} [الفرقان:27] ولها نظائر في القرآن.
وهذه الآية هي المشتهرة ولم يزل الأيمة في المساجد يتوخون الحذر من إبدال أحد هذين الحرفين بالآخر للخلاف الواقع بين الفقهاء في بطلان صلاة اللحان ومن لا يحسن القراءة مطلقا أو إذا كان عامدا إذا كان فذا وفي بطلان صلاة من خلفه أيضا إذا كان اللاحن إماما.
ورفع الذكر: جعل ذكره بين الناس بصفات الكمال، وذلك بما نزل من القرآن ثناء عليه وكرامة. وبإلهام الناس التحدث بما جبله الله عليه من المحامد منذ نشأته.
وعطف {وَوَضَعْنَا} و {وَرَفَعْنَا} بصيغة المضي على فعل {نَشْرَحْ} بصيغة المضارع لأن "لم" قلبت زمن الحال إلى المضي فعطف عليه الفعلان بصيغة المضي لأنهما داخلان
(30/362)
في حيز التقرير فلما لم يقترن بهما حرف "لم" صير بهما إلى ما تقيده "لم" من معنى المضي.
والآية تشير إلى أحوال كان النبي صلى الله عليه وسلم في حرج منها أو من شأنه أن يكون في حرج، وأن الله كشف عنه ما به من حرج منها أو هيأ نفسه لعدم النوء بها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها كما أشعر به إجمالها في الاستفهام التقريري المقتضي علم المقرر بما قرر عليه، ولعل تفصيلها فيما سبق في سورة الضحى فلعلها كانت من أحوال كراهيته ما عليه أهل الجاهلية من نبذ توحيد الله ومن مساوي الأعمال.
وكان في حرج من كونه بينهم ولا يستطيع صرفهم عما هم فيه ولم يكن يترقب طريقها لأن يهديهم أو لم يصل إلى معرفة كنه الحق الذي يجب أن يكون قومه عليه ولم يطمع إلا في خويصة نفسه يود أن يجد لنفسه قبس نور يضيء له سبيل الحق مما كان باعثا له على التفكر والخلوة والالتجاء إلى الله، فكان يتحنث في غار حراء فلما انتشله الله من تلك الوحلة بما أكرمه به من الوحي كان ذلك شرحا مما كان يضيق به صدره يومئذ، فانجلى له النور، وأمر بإنقاذ قومه وقد يظنهم طلاب حق وأزكياء نفوس فلما قابلوا إرشاده بالإعراض وملاطفته لهم بالامتعاض، حدث في صدره ضيق آخر أشار إلى مثله قوله تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] وذلك الذي لم يزل ينزل عليه في شأنه ربط جأشه بنحو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] فكلما نزل عليه وحي من هذا أكسبه شرحا لصدره، وكان لحماية أبي طالب إياه وصده قريشا عن أذاه منفس عليه، وأقوى مؤيد له لدعوته ينشرح له صدره. وكلما آمن أحد من الناس تزحزح بعض الضيق عن صدره، وكانت شدة قريش على المؤمنين يضيق لها صدره فكلما خلص بعض المؤمنين من أذى قريش بنحو عتق الصديق بلالا وغيره، وبما بشره الله من عاقبة النصر له وللمؤمنين تصريحا وتعريضا نحو قوله في السورة قبلها {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] فذلك من الشرح المراد هنا. وجماع القول في ذلك أن تجليات هذا الشرح عديدة وأنها سر بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم المخاطب بهذه الآية.
وأما وضع الوزر عمه فحاصل بأمرين: بهدايته إلى الحق التي أزالت حيرته بالتفكر في حال قومه وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7]، وبكفايته مؤنة كلف عيشه التي قد تشغله عما هو فيه من الأنس بالفكرة في صلاح نفسه، وهو ما
(30/363)
أشار إليه قوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8].
ورفع الذكر مجاز في إلهام الناس لأن يذكروه بخير، وذلك بإيجاد أسباب تلك السمعة حتى يتحدث بها الناس، استعير الرفع لحسن الذكر لأن الرفع جعل الشيء عاليا لا تناله جميع الأيدي ولا تدوسه الأرجل. فقد فطر الله رسوله صلى الله عليه وسلم على مكارم يعز وجود نوعها ولم يبلغ أحد شأو ما بلغه منها حتى لقب في قومه بالأمين. وقد قيل إن قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19-21] مراد به النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم رفع ذكره أن اسمه مقترن باسم الله تعالى في كلمة إلإسلام وهي كلمة الشهادة.
وروي هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري عن ابن حبان وأبي يعلى قال السيوطي: وإسناده حسن، وأخرجه عياض في "الشفاء" بدون سند. والقول في ذكر كلمة {لك} مع {وَرَفَعْنَا} كالقول في ذكر نظيرها مع قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} .
وإنما لم يذكر مع {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ} بأن يقال: ووضعنا لك وزرك للاستغناء بقوله: {عنك} فإنه في إفادة الإبهام ثم التفصيل مساو لكلمة {لك} ، وهي في إفادة العناية به تساوي كلمة {لك} ، لأن وضع الفعل المعدى إلى الوزر يدل على أن الوضع عنه فكانت زيادة {عنك} إطنابا يشير إلى ذلك عناية به نظير قوله: {لك} الذي قبله، فحصل بذكر عنك إيفاء إلى تعدية فعل {وضعنا} مع الإيفاء بحق الإبهام ثم البيان.
[5-6] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
الفاء فصيحة تفصح عن كلام مقدر يدل عليه الاستفهام التقريري هنا، أي إذا علمت هذا وتقرر، تعلم أن اليسر مصاحب للعسر، وإذ كان اليسر نقيض العسر كانت مصاحبة اليسر للعسر مقتضية نقض تأثير العسر ومبطلة لعمله، فهو كناية رمزية عن إدراك العناية الإلهية به فيما سبق، وتعريض بالوعد باستمرار ذلك في كل أحواله.
وسياق الكلام وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يسر الله له المصاعب كلما عرضت له، فاليسر لا يختلف عن اللحاق بتلك المصاعب، وذلك من خصائص كلمة {مع} الدالة على المصاحبة.
(30/364)
وكلمة {مع} هنا مستعملة في غير حقيقة معناها لأن العسر واليسر نقيضان فمقارنتهما معا مستحيلة، فتعين أن المعية مستعارة لقرب حصول اليسر عقب حلول العسر أو ظهور بوادره، بقرينة استحالة المعنى الحقيقي للمعية. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} في سورة الطلاق [7].
فهذه الآية في عسر خاص يعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وآية سورة الطلاق عامة، وللبعدية فيها مراتب متفاوتة.
فالتعريف في {العسر} تعريف العهد، أي العسر الذي عهدته وعلمته وهو من قبيل ما يسميه نحاة الكوفة بأن "ال" فيه عوض عن المضاف إليه نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} النازعات:41] أي فإن مع عسرك يسرا، فتكون الصورة كلها مقصورة على بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى.
وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل الأمور العسرة عليه يسرة له وهو ما سبق ووعده له بقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
وحرف {أن} للاهتمام بالخبر.
وإنما لم يستغن بها عن الفاء كما يقول الشيخ عبد القاهر: "إن" تغني غناء فاء التسبب، لأن الفاء هنا أريد بها الفصيحة مع التسبب فلو أقتصر على حرف "أن" لفات معنى الفصيحة.
وتنكير {يسرا} للتعظيم، أي مع العسر العارض لك تيسيرا عظيما يغلب العسر ويجوز أن يكون هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته لأنما يعرض له من عسر إنما يعرض له في شؤون دعوته للدين ولصالح المسلمين.
وروى ابن جرير عن يونس ومعمر عن الحسن عن النبي إنما لما نزلت هذه الآية {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ابشروا أتاكم اليسر لن يغلب عسر يسرين" فاقتضى أن الآية غير خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم بل تعمه وأمته. وفي "الموطأ" أنا أبا عبيدة بن الجراح كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين.
وروى ابن أبي حاتم والبزار في مسنده عن عائذ بن شريح قال: سمعت أنس بن
(30/365)
مالك يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر، فقال: لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه فأنزل الله عز وجل {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . قال البزار: لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح قال ابن كثير: وقد قال أبو حاتم الرازي: في حديث عائذ ابن شريح ضعف.
وروى ابن جرير مثله عن ابن مسعود موقوفا. ويجوز أن تكون جملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} معترضة بين جملة {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وجملة {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] تنبيها على أن الله لطيف بعباده فقدر أن لا يخلو عسر من مخالطة يسر وإنه لولا ذلك لهلك الناس قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل:61].
وروي عن ابن عباس يقول الله تعالى خلقت عسرا واحدا وخلقت يسرين ولن يغلب عسر يسرين اه.
والعسر: المشقة في تحصيل المرغوب والعمل المقصود.
واليسر ضده وهو: سهولة تحصيل المرغوب وعدم التعب فيه.
وجملة {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} مؤكدة لجملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وفائدة هذا التأكيد تحقيق اطراد هذا الوعد وتعميمه لأنه خبر عجيب.
ومن المفسرين من جعل اليسر في الجملة الأولى يسر الدنيا وفي الجملة الثانية يسر الآخرة وأسلوب الكلام العربي لا يساعد عليه لأنه متمحض لكون الثانية تأكيدا.
هذا وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لن يغلب عسر يسرين" قد ارتبط لفظه ومعناه بهذه الآية. وصرح في بعض رواياته بأنه قرأ هذه الآية حينئذ وتضافر المفسرون على انتزاع ذلك منها فوجب التعرض لذلك، وشاع بين أهل العلم أن ذلك مستفاد من تعريف كلمة العسر وإعادتها معرفة ومن تنكير كلمة "يسر" وإعادتها منكرة، وقالوا: إن اللفظ النكرة إذا أعيد نكرة فالثاني غير الأول وإذا أعيد اللفظ معرفة فالثاني عين الأول كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15-16].
وبناء كلامهم على قاعدة إعادة النكرة معرفة خطأ لأن تلك القاعدة في إعادة النكرة معرفة لا في إعادة المعرفة معرفة وهي خاصة بالتعريف بلام العهد دون لام الجنس، وهي أيضا في إعادة اللفظ في جملة أخرى والذي في الآية ليس بإعادة لفظ في كلام ثان بل
(30/366)
هي تكرير للجملة الأولى، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا المأخذ، وقد أبطله من قبل أبو على الحسين الجرجاني1 في كتاب "النظم" كما في "معالم التنزيل". وأبطله صاحب "الكشاف" أيضا، وجعل ابن هشام في "مغنى اللبيب" تلك القاعدة خطأ.
والذي يظهر في تقرير معنى قوله لن يغلب عسر يسرين أن جملة {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} تأكيد لجملة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . ومن المقرر أن المقصود من تأكيد الجملة في مثله هو تأكيد الحكم الذي تضمنه الخبر. ولا شك أن الحكم المستفاد من هذه الجملة هو ثبوت التحاق اليسر بالعسر عند حصوله، فكان التأكيد مفيدا ترجيح أثر اليسر على أثر العسر، وذلك الترجيح عبر عنه بصيغة التثنية في قوله يسرين فالتثنية هنا كناية رمزية عن التغلب والرجحان فإن التثنية قد يكنى بها عن التكرير المراد منه التكثير كما في قوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] أي أرجع البصر كثيرا لأن البصر لا ينقلب حسيرا من رجعتين. ومن ذلك قول العرب: لببيك، وسعديك، ودواليك والتكرير يستلزم قوة الشيء المكرر فكانت القوة لازم لازم التثنية وإذا تعددت اللوازم كانت الكناية رمزية.
وليس ذلك مستفادا من تعريف {الْعُسْرِ} باللام ولا من تنكير {اليسر} وإعادته منكرا.
[7] {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} .
تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون ملل ولا ضجر.
والفراغ: خلو باطن الظرف أو الإناء لأن شأنه أن يظرف فيه.
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءا بشيء، وفراغ الإنسان. مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله.
ولم يذكر هنا متعلق {فَرَغْتَ} وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها
ـــــــ
1 قال حمزة بن يوسف السهمي المتوفى سنة 427 ه. في "تاريخ علماء جرجان" هو أبو علي الحسين بن يحيى بن نصر الجرجاني له تصانيف عدة منها "في نظم القرآن" مجلدتان. كان من أهل السنة روى عن العباس بن يحيى "أو ابن عيسى" العقيلي اه.
(30/367)
الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها. فالمعنى إذا أتممت عملا من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة. ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قفوله من إحدى غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" ، فالمقصود بالأمر هو {فَانصَبْ} . وأما قوله: {فَإِذَا فَرَغْتَ} فتمهيد وإفادة لإيلاء العمل بعمل آخر في تقرير الدين ونفع الأمة. وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال. ومثله قول القائل: ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبتها أخرى.
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروع منه، وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذف المتعلق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إلى قوله: {كِتَابًا مَوْقُوتًا} في سورة النساء [102-103].
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة.
وتقديم {فَإِذَا فَرَغْتَ} على {فَانصَبْ} للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال. وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني.
[8] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} .
عطف على تفريع الأمر بالشكر على النعم أمر بطلب استمرار نعم الله عليه كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
والرغبة: طلب حصول ما هو محبوب وأصله أن يعدى إلى المطلوب منه بنفسه ويعدى إلى الشيء المطلوب ب"في". ويقال: رغب عن كذا بمعنى صرف رغبته عنه بأن رغب في غيره وجعل منه قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ} [النساء:127] بتقدير حرف الجر المحذوف قبل حرف "أن" هو حرف "عن". وذلك تأويل عائشة أم المؤمنين كما تقدم في سورة النساء.
وأما تعدية فعل {فَارْغَبْ} هنا بحرف {إلى} فلتضمينه معنى الإقبال والتوجه تشبيها
(30/368)
بسير السائر إلى من عنده حاجته كما قال تعالى عن إبراهيم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات:99].
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على {فَارْغَبْ} لإفادة الاختصاص، أي إليه لا إلى غيره تكون رغبتك فإن صفة الرسالة أعظم صفات الخلق فلا يليق بصاحبها أن يرغب غير الله تعالى.
وحذف مفعول "ارغب" ليعم كل ما يرغبه النبي صلى الله عليه وسلم وهل يرغب النبي إلا في الكمال النفساني وانتشار الدين ونصر المسلمين.
واعلم أن الفاء في قوله: {فَانصَبْ} [الشرح:7] وقوله: {فَارْغَبْ} رابطة للفعل لأن تقديم المعمول يتضمن معنى الاشتراط والتقييد فأن تقديم المعمول لما أفاد الاختصاص نشأ منه معنى الاشتراط، وهو كثير في الكلام قال تعالى: {بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر:66] وقال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:3-5]، وفي تقديم المجرور قال تعالى {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأل منه أن يخرج للجهاد "ألك أبوان?" قال نعم: قال "ففيهما فجاهد" . بل قد يعامل معاملة الشرط في الإعراب كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم "كما تكونوا يول عليكم" بجزم الفعلين، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في سورة يونس [58].
وذكر الطيبي عن أمالي السيد يعني ابن الشجري أن اجتماع الفاء والواو هنا من أعجب كلامهم لأن الفاء تعطف أو تدخل في الجواب وما أشبه الجواب بالاسم الناقص، أو في صلة الوصول الفعلية لشبهها بالجواب ، وهي هنا خارجة عما وضعت له اه. ولا يبقى تعجب بعد ما قررناه.
(30/369)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
سميت في معظم كتب التفسير ومعظم المصاحف "سورة والتين" بإثبات الواو تسمية بأول كلمة فيها. وسماها بعض المفسرين "سورة التين" بدون الواو لأن فيها لفظ "التين" كما قالوا "سورة البقرة" وبذلك عنونها الترمذي وبعض المصاحف.
وهي مكية عند أكثر العلماء قال ابن عطية: ل أعرف في ذلك خلافا بين المفسرين، ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها. وذكر القرطبي عن قتادة أنها مدنية، ونسب أيضا إلى ابن عباس، والصحيح عن ابن عباس أنه قال: هي مكية.
وعدت الثامنة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة البروج وقبل سورة الإيلاف.
وعدد آياتها ثمان.
أغراضها
احتوت هذه السورة على التنبيه بأن الله خلق الإنسان على الفطرة المستقيمة ليعلموا أن الإسلام هو الفطرة كما قال في الآية الأخرى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وأن ما يخالف أصوله بالأصالة أو بالتحريف فساد وضلال، ومتبعي ما يخالف الإسلام أهل ضلالة.
والتعريض بالوعيد للمكذبين بالإسلام.
والإشارة بالأمور المقسم بها إلى أطوار الشرائع الأربعة إيماء إلى أن الإسلام جاء مصدقا لها وأنها مشاركة أصولها لأصول دين الإسلام.
(30/370)
والتنويه بحسن جزاء الذين اتبعوا الإسلام في أصوله وفروعه.
وشملت الامتنان على الإنسان بخلقه على أحسن نظام في جثمانه ونفسه.
[1-5] {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} .
ابتداء الكلام بالقسم المؤكد يؤذن بأهمية الغرض المسوق له الكلام، وإطالة القسم تشويق إلى المقسم عليه.
والتين ظاهرة: الثمرة المشهورة بهذا الاسم، وهي ثمرة يشبه شكلها شكل الكمثرى ذات قشر لونه أزرق إلى السواد، تتفاوت أصنافه في قتومة قشره، سهلة التقشير تحتوي على مثل وعاء أبيض في وسطه عسل طيب الرائحة مخلوط ببزور دقيقة مثل السمسم الصغير، وهي من أحسن الثمار صورة وطعما وسهولة مضغ فحالتها دالة على دقة صنع الله ومؤذنة بعلمه وقدرته، فالقسم بها لأجل دلالتها إلى صفات إلهية كما يقسم بالاسم لدلالته على الذات، مع الإيذان بالمنة على الناس إذ خلق لهم هذه الفاكهة التي تنبت في كل البلاد والتي هي سهلة النبات لا تحتاج إلى كثرة عمل وعلاج.
والزيتون أيضا ظاهره: الثمرة المشهورة ذات الزيت الذي يعصر منها فيطعمه الناس ويستصبحون به. والقسم بها كالقسم بالتين من حيث إنها دالة على صفات الله، مع الإشارة إلى نعمة خلق هذه الثمرة النافعة الصالحة التي تكفي الناس حوائج طعامهم وإضاءتهم.
وعلى ظاهر الاسمين للتين والزيتون حملهما جمع من المفسرين الأولين ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة والنخعي وعطاء وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وذلك لما في هاتين الثمرتين من المنافع للناس المقتضية الامتنان عليهم بأن خلقها الله لهم، ولكن مناسبة ذكر هذين مع {طُورِ سِينِينَ} ومع {الْبَلَدِ الأَمِينِ} تقتضي أن يكون لهما محمل أوفق بالمناسبة فروي عن ابن عباس أيضا تفسير التين بأنه مسجد نوح الذي بني على الجودي بعد الطوفان. ولعل تسمية هذا الجبل التين لكثرته فيه، إذ قد تسمى الأرض باسم ما يكثر فيها من الشجر كقول امرئ القيس:
امرخ ديارهم أم عشر
(30/371)
وسمي بالتين موضع جاء في شعر النابغة يصف سحابات بقوله:
صهب الظلال أتين التين عن عرض ... يزجين غيما قليلا ماؤه شبما
والزيتون يطلق على الجبل الذي بني عليه المسجد الأقصى لأنه ينبت الزيتون. وروي هذا عن ابن عباس والضحاك وعبد الرحمان بن زيد وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب القرضي. ويجوز عندي أن يكون القسم ب {التِّينِ وَالزَّيْتُونِ} معنيا بهما شجر هاتين الثمرتين، أي اكتسب نوعاهما شرفا من بين الأشجار يكون كثير منه نابتا في هذين المكانين المقدسين كما قال جرير:
أتذكر حين تصقل عارضيها ... بفرع بشامة سقي البشام1
فدعا لنوع البشام بالسقي لأجل عود بشامة الحبيبة.
وأما {طُورِ سِينِينَ} فهو الجبل المعروف ب طور سينا. والطور: الجبل بلغة النبط وهم الكنعانيون، وعرف هذا الجبل ب {طُورِ سِينِينَ} لوقوعه في صحراء "سنين"، و"سنين" لغة في سين وهي صحراء بين مصر وبلاد فلسطين. وقيل: سنين اسم الأشجار بالنبطية أو بالحبشة، وقيل: معناه الحسن بلغة الحبشة.
وقد جاء تعريبه في العربية على صيغة تشبه صيغة جمع المذكر السالم وليس بجمع، مجاز في إعرابه أن يعرب مثل إعراب جمع المذكر بالواو نيابة عن الضمة، أو الياء نيابة عن الفتحة أو الكسرة، وأن يحكى على الياء مع تحريك نونه بحركات الإعراب مثل: صفين ويبرين وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2].
و {الْبَلَدِ الأَمِينِ} : مكة، سمي الأمين لأن من دخله كان آمنا، فالأمين فعيل بمعنى مفعل مثل "الداعي السميع" في بيت عمرو بن معد يكرب، ويجوز ان يكون بمعنى مفعول على وجه الإسناد المجازي، أي المأمون ساكنوه قال تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:4].
والإشارة إليه للتعظيم ولأن نزول السورة في ذلك البلد فهو حاضر بمرأى ومسمع من المخاطبين نظير قوله: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
وعلى ما تقدم ذكره من المحملين الثانيين للتين والزيتون تتم المناسبة بين الإيمان
ـــــــ
1 وفي رواية التبريزي في "شرح الحماسة": أتنسى إذ توعدنا سليمى بعود... الخ ص 50 ج 1.
(30/372)
وتكون إشارة إلى موارد أعظم الشرائع الواردة للبشر، فالتين إيماء إلى رسالة نوح وهي أول شريعة لرسول، والزيتون إيماء إلى شريعة إبراهيم فإنه بنى المسجد الأقصى كما ورد في الحديث وقد ورد في أول الإسراء، و {طُورِ سِينِينَ} إيماء إلى شريعة التوراة، و {الْبَلَدِ الأَمِينِ} إيماء إلى مهبط شريعة الإسلام، ولم يقع إيماء إلى شريعة عيسى لأنها تكملة لشريعة التوراة.
وقد يكون الزيتون على تأويله بالمكان وبأنه المسجد الأقصى إيماء إلى مكان ظهور شريعة عيسى عليه السلام لأن المسجد الأقصى بناه سليمان عليه السلام فلم تنزل فيه شريعة قبل شريعة عيسى ويكون قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} إيماء إلى شريعة إبراهيم وشريعة الإسلام فإن الإسلام جاء على أصول الحنيفية وبذلك يكون إيماء هذه الآية ما صرح به في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13]، وبذلك يكون ترتيب الإيماء إلى شرائع نوح وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام غير جار على ترتيب ظهورها فتوجيه مخالفة الترتيب الذكري للترتيب الخارجي أنه لمراعاة اقتران الاسمين المنقولين عن اسمي الثمرتين، ومقارنة الاسمين الدالين على نوعين من أماكن الأرض، يتأتى محسن مراعاة النظير ومحسن التورية، وليناسب {سِينِينَ} فواصل السورة.
وفي ابتداء السورة بالقسم بما يشمل إرادة مهابط أشهر الأديان الإلهية براعة استهلال لغرض السورة وهو أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أي خلقه على الفطرة السليمة مدركا لأدلة وجود الخالق ووحدانيته. وفيه إيماء إلى أن ما خالف ذلك من النحل والملل قد حاد عن أصول شرائع الله كلها بقطع النظر عن اختلافها في الفروع، ويكفي في تقوم معنى براعة الاستهلال ما يلوح في المعنى من احتمال.
وجملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} مع ما عطف عليه هو جواب القسم.
والقسم عليه يدل على أن التقويم تقويم خفي وأن الرد رد خفي يجب التدبر لإدراكه كما سنبينه في قوله: {فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . فلذلك ناسب أن يحقق بالتوكيد بالقسم، لأن تصرفات معظم الناس في عقائدهم جارية على حالة تشبه حالة من ينكرون أنهم خلقوا على الفطرة.
والخلق: تكوين وإيجاد لشيء، وخلق الله جميع الناس هو أنه خلق أصول الإيجاد
(30/373)
وأوجد الأصول الأولى في بدء الخليقة كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وخلق أسباب تولد الفروع من الأصول فتناسلت منها ذرياتهم كما قال {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا ِلأَدَمَ} [الأعراف:11].
وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون تعريف الجنس، وهو التعريف الملحوظ فيه مجموع الماهية مع وجودها في الخارج في ضمن بعض أفرادها أو جميع أفرادها.
ويحمل على معنى: خلقنا جميع الناس في أحسن تقويم.
ويجوز أن يكون تعريف {الإنسان} تعريف الحقيقة نحو قولهم: الرجل خير من المرأة، وقول امرئ القيس:
الحرب أول ما تكون فتية
فلا يلاحظ فيه أفراد الجنس بل الملحوظ حالة ماهية في أصلها دون ما يعرض لأفرادها مما يغير بعض خصائصها. ومنه التعريف الواقع في قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، وقد تقدم في سورة المعارج [19].
والتقويم: جعل الشيء في قوام بفتح القاف ، أي عدل وتسوية، وحسن التقويم أكمله وأليقه بنوع الإنسان، أي أحسن تقويم له، وهذا يقتضي أنه تقويم خاص بالإنسان لا يشاركه فيه غيره من المخلوقات، ويتضح ذلك في تعديل القوى الظاهرة والباطنة بحيث لا تكون إحدى قواه موقعة له فيما يفسده، ولا يعوق بعض قواه البعض الآخر عن أداء وظيفته فإن غيره من جنسه كان دونه في التقويم.
وحرف {في} يفيد الظرفية المجازية المستعارة لمعنى التمكن والملك فهي مستعملة في معنى باء الملابسة أو لام الملك، وإنما عدل عن أحد الحرفين الحقيقيين لهذا المعنى إلى حرف الظرفية لإفادة قوة الملابسة أو قوة الملك مع الإيجاز ولولا الإيجاز لكانت مساواة الكلام أن يقال: لقد خلقنا الإنسان بتقويم مكين هو أحسن تقويم.
فأفادت الآية أن الله كون الإنسان تكوينا ذاتيا متناسبا ما خلق له نوعه من الإعداد لنظامه وحضارته، وليس تقويم صورة الإنسان الظاهرة هو المعتبر عند الله تعالى ولا جديرا بأن يقسم عليه إذ لا أثر له في إصلاح النفس، وإصلاح الغيرة، وإصلاح في الأرض، ولأنه لو كان هو المراد لذهبت المناسبة التي في القسم بالتين والزيتون وطور سنين والبلد الأمين. وإنما هو متمم لتقويم النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا
(30/374)
إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" 1 فإن العقل أشرف ما خص به نوع الإنسان من بين الأنواع.
فالمرضي عند الله هو تقويم إدراك الإنسان ونظره العقلي الصحيح لأن ذلك هو الذي تصدر عنه أعمال الجسد إذ الجسم آلة خادمة للعقل فلذلك كان هو المقصود من قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} .
وأما خلق جسد الإنسان في أحسن تقويم فلا ارتباط له بمقصد السورة ويظهر هذا كمال الظهور في قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} فإنه لو حمل الرد أسفل سافلين على مصير الإنسان في أرذل العمر إلى نقائص قوته كما فسر به كثير من المفسرين لكان نبوه عن غرض السورة أشد، وليس ذلك مما يقع فيه تردد السامعين حتى يحتاج إلى تأكيده بالقسم ويدل ذلك قوله بعده {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6] لأن الإيمان أثر التقويم لعقل الإنسان الذي يلهمه السير في أعماله على الطريق الأقوم، ومعاملة بني نوعه السالمين من عدائه معاملة الخير معهم على حسب توافقهم معه في الحق فذلك هو الأصل في تكوين الإنسان إذ سلم من عوارض عائقة من بعض ذلك مما يعرض له وهو جنين؛ أما من عاهة تلحقه لمرض أحد الأبوين، أو لفساد هيكله من سقطة أو صدمة في حمله، وما يعرض له بعد الولادة من داء معضل يعرض له يترك فيه اختلال مزاجه فيحرف شيئا من فطرته كحماقة السوداويين والسكريين أو خبال المختبلين، ومما يدخله على نفسه من مساوي العادات كشرب المسكرات وتناول المخدرات مما يورثه على طول انثلام تعقله أو خور عزيمته.
والذي نأخذه من هذه الآية أن الإنسان مخلوق على حالة الفطرة الإنسانية التي فطر الله النوع ليتصف بآثارها، وهي الفطرة الإنسانية الكاملة في إدراكه إدراكا مستقيما مما يتأدى من المحسوسات الصادقة، أي الموافقة لحقائق الأشياء الثابتة في نفس الأمر، بسبب سلامة ما تؤديه الحواس السليمة، وما يتلقاه العقل السليم من ذلك ويتصرف فيه بالتحليل والتركيب المنتظمين، بحيث لو جانبته التلقينات الضالة والعوائد الذميمة والطبائع المنحرفة والتفكير الضار أو لو تسلطت عليه تسلطا ما فاستطاع دفاعها عنه بدلائل الحق والصواب، لجرى في جميع شؤونه على الاستقامة، ولما صدرت منه إلا الأفعال الصالحة
ـــــــ
1 رواه مسلم. ورواه غيره يزيد بعضهم على بعض.
(30/375)
ولكنه قد يتعثر في ذيول اغتراره ويرخي العنان لهواه وشهوته، فترمي به في الضلالات، أو يتغلب عليه دعاة الضلال بعامل التخويف أو الإطماع فيتابعهم طوعا أو كرها، ثم لا يلبث أن يستحكم فيه ما تقلده فيعتاده وينسى الصواب والرشد.
ويفسر هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من مولود إلا يولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث، ذلك أن أبويه هما أول من يتولى تأديبه وتثقيفه وهما أكثر الناس ملازمة له في صباه، فهما اللذان يلقيان في نفسه الأفكار الأولى، فإذا سلم من تضليل أبويه فقد سار بفطرته شوطا ثم هو بعد ذلك عرضة لعديد من المؤثرات فيه، أن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على الأبوين لأنهما أقوى أسباب الزج في ضلالتهما، وأشد إلحاحا على ولدهما.
ولم يعرج المفسرون قديما وحديثا على تفسير التقويم بهذا المعنى العظيم فقصروا التقويم على حسن الصورة. وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والكلبي وإبراهيم وأبي العالية، أو على استقامة القامة. وروي عن ابن عباس، أو على الشباب والجلادة، وروي عن عكرمة وابن عباس.
ولا يلائم مقصد السورة إلا أن يتأول بأن ذلك ذكر نعمة على الإنسان عكس الإنسان شكرها فكفر بالمنعم فرد أسفل سافلين، سوى ما حكاه ابن عطية عن الثعلبي عن أبي بكر بن طاهر1 أنه قال "تقويم الإنسان عقله وإدراكه اللذان زيناه بالتمييز" ولفظه عند القرطبي قريب من هذا مع زيادة يتناول مأكوله بيده وما حكاه الفخر عن الأصم2 أن {أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان.
وتفيد الآية أن الإنسان مفطور على الخير وأن في جبلته جلب النفع والصلاح لنفسه وكراهة وما يظنه باطلا أو هلاكا، ومحبة الخير والحسن من الأفعال لذلك تراه يسر بالعدل والإنصاف، وينصح بما يراه مجلبة لخير غيره، ويغيث الملهوف ويعامل بالحسنى، ويغار على المستضعفين، ويشمئز من الظلم ما دام مجردا عن روم نفع يجلبه لنفسه أو إرضاء شهوة يريد قضاءها أو إشفاء غضب يجيش بصدره، تلك العوارض تحول بينه وبين
ـــــــ
1 لم أقف على تعيينه وليس يبعد أن يكون هو الأصم.
2 الأصم لقب أبي بكر عبد الرحمان بن كيسان من أصحاب هشام الفوطي من المعتزلة. وقال ابن حجر في "لسان الميزان": إنه كان من طبقة أبي الهذيل العلاف المعتزلي.
(30/376)
فطرته زمنا، ويهش إلى كلام الوعاظ والحكماء والصالحين ويكرمهم ويعظمهم ويود طول بقائهم.
فإذا ساورته الشهوة السيئة فزينت له ارتكاب المفاسد ولم يستطع ردها عن نفسه انصرف إلى سوء الأعمال، وثقل عليه نصح الناصحين ووعظ الواعظين على مراتب في كراهية ذلك بمقدار تحكم الهوى في عقله.
ولهذا كان الأصل في الناس الخير والعدالة والرشد وحسن النية عند جمهور من الفقهاء والمحدثين.
وجملة {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} معطوفة على جملة {خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} فهي في حيز القسم.
وضمير الغائب في قوله: {رَدَدْنَاهُ} عائد إلى الإنسان فيجري فيه الوجهان المتقدمان من التعريف.
و {ثم} لإفادة التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، لأن الرد أسفل سافلين بعد خلقه محوطا بأحسن تقويم عجيب لما فيه من انقلاب ما جبل عليه، وتغيير الحالة الموجودة أعجب من إيجاد حالة لم تكن، ولأن هذه الجملة هي المقصود من الكلام لتحقيق أن الذين حادوا عن الفطرة صاروا أسفل سافلين.
والمعنى: ولقد صيرناه أسفل سافلين أو جعلناه في أسفل سافلين.
والرد حقيقته: إرجاع ما أخذ من شخص أو نقل من موضع إلى ما كان عنده، ويطلق الرد مجازا على تصيير الشيء بحالة غير الحالة التي كانت له مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق عن التقييد كما هنا.
و {أسفل} : اسم تفضيل، أي أشد سفالة، وأضيف إلى {سَافِلِينَ} ، أي الموصوفين بالسفالة. فالمراد: أسفل سافلين في الاعتقاد بخالقه بقرينة قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:6].
وحقيقة السفالة: انخفاض المكان، وتطلق مجازا شائعا على الخسة والحقارة في النفس، فالأسفل الأشد سفالة من غيره في نوعه.
والسافلون: هم سفلة الاعتقاد، والإشراك أسفل الاعتقاد فيكون {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}
(30/377)
مفعولا ثانيا لـ {رَدَدْنَاهُ} لأنه أجري مجرى أخوات صار.
والمعنى: أن الإنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإيمان بالله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين، وهل أسفل ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوان الأبكم من بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السمر أو من يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر، أو من يجحد وجود الصانع وهو يشاهد مصنوعاته ويحس بوجود نفسه قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
فإن ملت إلى جانب الأخلاق رأيت الإنسان يبلغ به انحطاطه إلى حضيض التسفل، فمن ملق إذا طمع، ومن شح إذا شجع، ومن جزع إذا خاف، ومن هلع، فكم من نفوس جعلت قرابين للآلهة ومن أطفال موءودة، ومن أزواج مقذوفة في النار مع الأموات من أزواجهن، فهل بعد مثل هذا من تسفل في الأخلاق وأفنى الرأي.
وإسناد الرد إلى الله تعالى إسناد مجازي لأنه يكون الأسباب العالية ونظام تفاعلها وتقابلها في الأسباب الفرعية، حتى تصل إلى الأسباب المباشرة على نحو إسناد مد وقبض الظل إليه تعالى في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} إلى قوله: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان:45-46] وعلى نحو الإسناد في قول الناس: بنى الأمير مدينة كذا.
ويجوز أن يكون {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} ظرفا، أي مكانا أسفل ما يسكنه السافلون، فإضافة {أَسْفَلَ} إلى {سَافِلِينَ} من إضافة الظرف إلى الحال فيه، وينتصب {أَسْفَلَ} بـ {رَدَدْنَاهُ} انتصاب الظرف أو على نزع الخافض، أي إلى أسفل سافلين، وذلك هو دار العذاب كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] فالرد مستعار لمعنى الجعل في مكان يستحقه، وإسناد الرد إلى الله تعالى على هذا الوجه حقيقي.
وحسب أن قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} انتزع منه مالك رحمه الله وما ذكره عياض في المدارك قال: قال ابن أبي اويس: قال مالك: أقبل علي يوما ربيعة فقال لي: من السفلة يا مالك? قلت: الذي يأكل بدينه، قال لي فمن سفلة السفلة? قلت الذي يأكل غيره بدينه. فقال: "زه"1 وصدرني أي ضرب على صدري يعني استحسانا. وأن المشركين كانوا أسفل سافلين لأنهم ظللهم كبراؤهم وأيمتهم فسولوا لهم
ـــــــ
1 "زه" بكسر الزاي وهاء ساكنة كلمة تدل على شدة الاستحسان وهي معربة عن الفارسية، ومنها تحت لفظ الزهرة. أي الاستحسان لأن "زه" تقال مكروه غالبا.
(30/378)
عبادة الأصنام لينالوا قيادتهم.
[6] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
استثناء متصل من عموم الإنسان فلما أخبر عن الإنسان بأنه رد أسفل سافلين ثم استثنى من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين.
والمعنى: أن الذين آمنوا بعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإشراك صاروا بالإيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم.
وعطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخا وينسحب الإيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها، وفي الحديث "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" .
فكان عطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة.
وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} يأباه كل الإباية.
وفرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الأخبار بأن لهم أجرا عظيما لأن الاستثناء أفاد بأنهم ليسوا أسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعد لهم.
وتنوين {أجر} للتعظيم.
والممنون: الذي يمن على المأجور به، أي لهم أجر لا يشوبه كدر، ولا كدر أن يمن على الذي يعطاه بقول: هذا أجرك، أو هذا عطاؤك، فالممنون مفعول من عليه. ويجوز أن يكون مفعولا من من الحبل، إذا قطعه فهو منين، أي مقطوع أو موشك على التقطع.
[7-8] {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ، أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} .
تفريع على جميع ما ذكر من تقويم خلق الإنسان ثم رده أسفل سافلين، لأن ما بعد
(30/379)
الفاء من كلام مسبب عن البيان الذي قبل الفاء، أي فقد بان لك أن غير الذين آمنوا هم الذين ردوا إلى أسفل سافلين فمن يكذب منهم بالدين الحق بعد هذا البيان.
و"ما" يجوز أن تكون استفهامية، والاستفهام توبيخي، والخطاب للإنسان المذكور في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فإنه بعد الذي استثني منه الذين آمنوا بقي الإنسان المكذب.
وضمير الخطاب التفات، ومقتضى الظاهر أن يقال: فما يكذبه، ونكتة الالتفات هنا أنه أصرح في مواجهة الإنسان المكذب بالتوبيخ.
ومعنى {يُكَذِّبُكَ} يجعلك مكذبا، أي لا عذر لك في تكذيبك بالدين.
ومتعلق التكذيب: إما محذوف لظهوره، أي يجعلك مكذبا بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المجرور بالباء، أي يجعلك مكذبا بدين الإسلام، أو مكذبا بالجزاء إن حمل الدين على معنى الجزاء وجملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} مستأنفة للتهديد والوعيد.
و {الدين} يجوز أن يكون بمعنى الملة أو الشريعة، كقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا} [آل عمران:85].
وعليه تكون الباء للسببية، أي فمن يكذبك بعد هذا بسبب ما جئت به من الدين فالله يحكم فيه. ومعنى {يُكَذِّبُكَ} : ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من الدين أو ما أنذرت به من الجزاء، وأسلوب هذا التركيب مؤذن بأنهم لم يكونوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكذب قبل أن يجيئهم بهذا الدين.
ويجوز أن يكون "الدين" بمعنى الجزاء في الآخرة كقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وقوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15] وتكون الباء صلة "يكذب" كقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66] وقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} 1 [الأنعام:57].
ويجوز أن تكون ما موصولة وما صدقها المكذب، فهو بمعنى من ، وهي في محل مبتدأ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والضمير المستتر في {يُكَذِّبُكَ} عائد إلى ما وهو الرابط للصلة بالموصول، والباء للسببية، أي ينسبك للكذب بسبب ما جئت به من
ـــــــ
1 في المطبوعة: {قُلْ أرأيتم إِن كنت عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} وهو خطأ.
(30/380)
الإسلام أو من إثبات البعث والجزاء.
وحذف ما أضيف إليه {بعد} فبنيت بعد على الضم والتقدير: بعد تبين الحق أو بعد تبين ما ارتضاه لنفسه من أسفل سافلين.
وجملة {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} يجوز أن تكون خبرا عن "ما" والرابط محذوف تقديره: بأحكم الحاكمين فيه.
ويجوز أن تكون الجملة دليلا عن الخبر المخبر به عن "ما" الموصولة وحذف إيجاز اكتفاء بذكر ما هو كالعلة له فالتقدير الذي يكذبك بالدين يتولى الله الانتصاف منه أليس الله بأحكم الحاكمين.
والاستفهام تقريري.
و"أحكم" يجوز أن يكون مأخوذا من الحكم، أي أقضى القضاة. ومعنى التفضيل أن حكمه أسد وأنفذ.
ويجوز أن يكون مشتقا من الحكمة. والمعنى: أن أقوى الحاكمين حكمة في قضائه بحيث لا يخالط حكمه تفريط في شيء من المصلحة ونوط الخبر بذي وصف يؤذن بمراعاة خصائص المعنى المشتق منه الوصف فلما أخبر عن الله بأنه أفضل الذين يحكمون، علم أن الله يفوق قضاؤه كل قضاء في خصائص القضاء وكمالاته، وهي: إصابة الحق، وقطع دابر الباطل، وإلزام كل من يقضي عليه بالامتثال لقضائه والدخول تحت حكمه.
روى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قرأ منكم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] فانتهى إلى قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" .
(30/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
اشتهرت تسمية هذه السورة في عهد الصحابة والتابعين باسم "سورة اقرأ باسم ربك".روي في "المستدرك" عن عائشة: "أول سورة نزلت من القرآن اقرأ باسم ربك" فأخبرت عن السورة ب {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]. وروي ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي رجاء العطاردي ومجاهد والزهري، وبذلك عنونها الترمذي.
وسميت في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة العلق" لوقوع لفظ "العلق" في أوائلها، وكذلك سميت في بعض كتب التفسير.
وعنونها البخاري: "سورة اقرأ باسم ربك الذي خلق".
وتسمى "سورة اقرأ"، وسماها الكواشي في "التخليص" "سورة اقرأ والعلق".
وعنونها ابن عطية وأبو بكر بن العربي "سورة القلم" وهذا اسم سميت به "سورة ن والقلم" ولكن الذين جعلوا اسم هذه السورة "سورة القلم" يسمون الأخرى "سورة ن". ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية باتفاق.
وهي أول سورة نزلت في القرآن كما ثبت في الأحاديث الصحيحة الواضحة، ونزل أولها بغار حراء على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مجاور فيه في رمضان ليلة سبعة عشرة منه من سنة أربعين بعد الفيل إلى قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن عائشة. وفيه حديث عن أبي موسى الأشعري وهو الذي قاله أكثر المفسرين من السلف والخلف.
وعن جابر أول سورة المدثر، وتؤول بأن كلامه نص أن سورة المدثر أول سورة
(30/382)
نزلت بعد فترة الوحي كما في "الإتقان" كما أن سورة الضحى نزلت بعد فترة الوحي الثانية.
وعدد آيها في عد أهل المدينة ومكة عشرون، وفي عد أهل الشام ثمان عشرة، وفي عد أهل الكوفة والبصرة تسع عشرة.
أغراضها
تلقين محمد صلى الله عليه وسلم الكلام القرآني وتلاوته إذ كان لا يعرف التلاوة من قبل.
والإيماء إلى أن علمه بذلك ميسر لأن الله الذي ألهم البشر العلم بالكتابة قادر على تعليم من يشاء ابتداء.
وإيماء إلى أن أمته ستصير إلى معرفة القراءة والكتابة والعلم.
وتوجيهه إلى النظر في خلق الله الموجودات وخاصة خلقه الإنسان خلقا عجيبا مستخرجا من علقة فذلك مبدأ النظر.
وتهديد من كذب النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض ليصده عن الصلاة والدعوة إلى الهدى والتقوى.
وإعلام النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عالم بأمر من يناوونه وأنه قامعهم وناصر رسوله.
وتثبيت الرسول على ما جاءه من الحق والصلاة والتقرب إلى الله.
وأن لا يعبأ بقوة أعداءه لأن قوة الله تقهرهم.
[1-5] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ} .
هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى محمد صلى الله عليه وسلم لما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريبا.
وافتتاح السورة بكلمة {اقرأ} إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئا، أي تاليا كتابا بعد أن لم يكن قد تلا كتابا قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت:
(30/383)
48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ "ما أنا بقارئ" .
وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.
وقوله تعالى: {اقرأ} أمر بالقراءة، والقراءة نطق بكلام معين مكتوب أو محفوظ على ظهر قلب.
وتقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} في سورة النحل [98].
والأمر بالقراءة مستعمل في حقيقته من الطلب لتحصيل فعل في الحال أو الاستقبال، فالمطلوب بقوله: {اقرأ} أن يفعل القراءة في الحال أو المستقبل القريب من الحال، أي أن يقول ما سيملى عليه، والقرينة على أنه أمر بقراءة في المستقبل القريب أنه لم بتقديم إملاء كلام عليه محفوظ فتطلب منه قراءته، ولا سلمت إليه صحيفة فتطلب منه قراءتها، فهو كما يقول المعلم للتلميذ: أكتب، فيتأهب لكتابة ما سيمليه عليه.
وفي حديث "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها قولها فيه حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال فقلت: "ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. قفلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
فهذا الحديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقولها قال: فقلت: "ما أنا بقارئ" . وجميع ما ذكرته فيه مما روته عنه لا محالة وقد قالت فيه فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده أي فرجع بالآيات التي أمليت عليه، أي رجع متلبسا بها، أي بوعيها.
وهو يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقى ما أوحي إليه. وقرأه حينئذ ويزيد ذلك إيضاحا قولها في الحديث فانطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك ، أي اسمع القول الذي أوحي إليه. وهذا ينبئ بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قيل له بعد الغطة الثالثة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} الآيات الخمس قد قرأها ساعتئذ كما أمره الله ورجع من غار حراء إلى بيته يقرؤها، وعلى هذا الوجه يكون قول الملك له في
(30/384)
المرات الثلاث {اقرأ} إعادة للفظ المنزل من الله إعادة تكرير للاستئناس بالقراءة التي لم يتعلمها من قبل.
ولم يذكر لفعل {اقرأ} مفعول، إما لأنه نزل منزلة اللازم وأن المقصود أوجد القراءة، وإما لظهور المقروء من المقام، وتقديره: اقرأ ما سنلقيه إليك من القرآن.
وقوله: {بِاسْمِ رَبِّكَ} فيه وجوه.
أولها: أن يكون افتتاح كلام بعد جملة {اقرأ} وهو أول المقروء، أي قل: باسم الله، فتكون الباء للاستعانة فيجوز تعلقه بمحذوف تقديره: ابتدئ. ويجوز أن يتعلق ب {اقرأ} الثاني فيكون تقديمه على معموله للاهتمام بشأن اسم الله. ومعنى الاستعانة باسم الله ذكر اسمه عند هذه القراءة، وإقحام كلمة "اسم" لأن معنى الاستعانة بذكر اسمه تعالى لا بذاته كما تقدم في الكلام على البسملة، وهذا الوجه يقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "باسم الله" حين تلقى هذه الجملة.
الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير {اقرأ} الثاني مقدما على عامله للاختصاص، أي اقرأ ما سيوحى إليك مصاحبا قراءتك اسم ربك. فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتا لوحدانية الله بالإلهية وإبطالا للنداء باسم الأصنام الذي كان يفعله المشركون يقولون: باسم اللات، باسم العزى، كما تقدم في البسملة. فهذا أول ما جاء من قواعد الإسلام قد افتتح به أول الوحي.
الثالث: أن تكون الباء بمعنى على كقوله تعالى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ} [آل عمران:75]، أي على قنطار. والمعنى: اقرأ على اسم ربك، أي على إذنه، أي أن الملك جاءك على اسم ربك، أي مرسلا من ربك، فذكر "اسم" على هذا متعين.
وعدل عن اسم الله العلم إلى صفة {ربك} لما يؤذن وصف الرب من الرأفة بالمربوب والعناية به، مع ما يتأتى بذكره من إضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة مؤذنة بأنه المنفرد بربوبيته عنده ردا على الذين جعلوا لأنفسهم أربابا من دون الله فكانت هذه الآية أصلا للتوحيد في الإسلام.
وجئ في وصف الرب بطريق الموصل {الَّذِي خَلَقَ} ولأن في ذلك استدلالا على انفراد الله بالإلهية لأن هذا القرآن سيتلى على المشركين لما تفيده الموصولية من الإيماء
(30/385)
إلى علة الخبر، وإذا كانت علة الإقبال على ذكر اسم الرب هي أنه خالق دل ذلك على بطلان الإقبال على ذكر غيره الذي ليس بخالق، فالمشركون كانوا يقبلون على اسم اللات واسم العزى، وكون الله هو الخالق يعترفون به قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] فلما كان المقام مقام ابتداء الإسلام دين التوحيد كان مقتضيا لذكر أدل الأوصاف على وحدانيته.
وجملة {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} يجوز أن تكون بدلا من جملة {الَّذِي خَلَقَ} بدل مفصل من مجمل إن لم يقدر له مفعول، أو بدل بعض إن قدر له مفعول عام، وسلك طريق الإبدال لما فيه من الإجمال ابتداء لإقامة الاستدلال على افتقار المخلوقات كلها إليه تعالى لأن المقام مقام الشروع في تأسيس ملة الإسلام. ففي الإجمال إحضار للدليل مع الاختصار مع ما فيه من إفادة التعميم ثم يكون التفصيل بعد ذلك لزيادة تقرير الدليل.
ويجوز أن تكون بيانا من {الَّذِي خَلَقَ} إذ قدر لفعل {خلق} الأول مفعول دل عليه بيانه فيكون تقدير الكلام: اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق.
وعدم ذكر مفعول لفعل {خلق} يجوز أن يكون لتنزيل الفعل منزلة اللازم، أي الذي هو الخالق وأن يكون حذف المفعول لإرادة العموم، أي خلق كل المخلوقات، وأن يكون تقديره: الذي خلق الإنسان اعتمادا على ما يرد بعده من قوله: {خَلَقَ الإِنسَانَ} ، فهذه معان في الآية.
وخص خلق الإنسان بالذكر من بين بقية المخلوقات لأنه المطرد في مقام الاستدلال إذ لا يغفل أحد من الناس عن نفسه ولا يخلو من أن يخطر له خاطر البحث عن الذي خلقه وأوجده لذلك قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
وفيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم.
وفي قوله: {مِنْ عَلَقٍ} إشارة إلى ما ينطوي في أصل خلق الإنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطان هذا العالم الأرضي.
والعلق: اسم جمع علقة وهي قطعة قدر الأنملة من الدم الغليظ الجامد الباقي رطبا لم يجف، سمي بذلك تشبيها لها بدودة صغيرة تسمى علقة، وهي حمراء داكنة تكون في المياه الحلوة، تمتص الدم من الحيوان إذا علق خرطومها بجلده وقد تدخل إلى فم الدابة
(30/386)
وخاصة الخيل والبغال فتعلق بلهاته ولا يتفطن لها.
ومعنى {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} أن نطفة الذكر ونطفة المرأة بعد الاختلاط ومضي مدة كافية تصيران علقة فقد أخذت في أطوار التكون، فجعلت العلقة مبدأ الخلق ولم تجعل النطفة مبدأ الخلق لأن النطفة اشتهرت في ماء الرجل فلو لم تخالطه نطفة المرأة لم تصر العلقة فلا يتخلق الجنين وفيه إشارة إلى أن خلق الإنسان من علق ثم مصيره إلى كمال أشده هو خلق ينطوي على قوى كامنة وقابليات عظيمة أقصاها قابلية العلم والكتابة.
ومن إعجاز القرآن العلمي ذكر العلقة لأن الثابت في العلم الآن أن الإنسان يتخلق من بويضة دقيقة جدا لا ترى إلا بالمرآة المكبرة أضعافا تكون في مبدإ ظهورها كروية الشكل سابحة في دم حيض المرأة فلا تقبل التخلق حتى تخالطها نطفة الرجل فتمتزج معها فتأخذ في التخلق إذا لم يعقها عائق كما قال تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج:5]، فإذا أخذت في التخلق والنمو امتد تكورها قليلا فشابهت العلقة التي في الماء مشابهة تامة في دقة الجسم وتلونها بلون الدم الذي هي ساحبة فيه وفي كونها سابحة في سائل كما تسبح العلقة، وقد تقدم هذا في سورة غافر وأشرت إليه في المقدمة العاشرة.
ومعنى حرف من الابتداء.
وفعل {أقرأ} الثاني تأكيد ل {اقرأ} الأول للاهتمام بهذا الأمر.
{وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
جملة معطوفة على جملة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} فلها حكم الاستئناف، و {ربك} مبتدأ وخبره إما {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وإما جملة {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهذا الاستئناف بياني.
فإذا نظرت إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئا عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول كيف: أقرأ وأنا لا أحس القراءة والكتابة، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم.
وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جوابا عن قوله لجبريل "ما أنا بقارئ" فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالما بالقراءة إذ
(30/387)
العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإملاء والتلقين والإلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئا.
ومقتضى الظاهر: وعلم بالقلم، فعدل عن الإضمار لتأكيد ما يشعر به { رَبِّكَ} من العناية المستفادة من قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأن هذه القراءة شأن من شؤون الرب اختص بها عبده إتمام لنعمة الربوبية عليه.
وليجري على لفظ الرب وصف الأكرم.
ووصف {الأَكْرَمُ} مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغا للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة.
والكرم : التفضل بعطاء ما ينفع المعطي، ونعم الله عظيمة لا تحصى ابتداء من نعمة الإيجاد، وكيفية الخلق، والإمداد.
وقد جمعت هذه الآيات الخمس من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوصف الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف {الَّذِي خَلَقَ} ووصف {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخير الذي يذكر معها. ووصف {الأَكْرَمُ} يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص.
ومفعولا {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} محذوفان دل عليهما قوله: {بالقلم} وتقديره: علم الكاتبين أو علم ناسا الكتابة، وكان العرب يعظمون علم الكتابة ويعدونها من خصائص أهل الكتاب كما قال أبو حية النميري:
كما خط الكتاب بكف يوما ... يهودي يقارب أو يزيل
ويتفاخر من يعرف الكتابة بعلمه وقال الشاعر:
تعلمت باجاد وآل ... مرامروسودت أثوابي ولست بكاتب
وذكر أن ظهور الخط في العرب أول ما كان عند أهل الأنبار. وأدخل الكتابة إلى الحجاز حرب بن أمية تعلمه من أسلم بن سدرة وتعلمه أسلم من مرامر بن مرة وكان الخط سابقا عند حمير باليمن ويسمى المسند.
وتخصيص هذه الصلة بالذكر وجعلها معترضة بين المبتدإ والخبر للإيماء إلى إزالة ما
(30/388)
خطر ببال النبي صلى الله عليه وسلم من تعذر القراءة عليه لأنه لا يعلم الكتابة فكيف القراءة إذ قال للملك "ما أنا بقارئ" ثلاث مرات، لأنه قوله "ما أنا بقارئ" اعتذار عن تعذر امتثال أمره بقوله: {اقرأ} ؛ فالمعنى أن الذي علم الناس الكتابة بالقلم والقراءة قادر على أن يعلمك القراءة وأنت لا تعلم الكتابة.
والقلم: شظية من قصب ترقق وتثقف وتبري بالسكين لتكون ملساء بين الأصابع ويجعل طرفها مشقوقا شقا في طول نصف الأنملة، فإذا بل ذلك الطرف بسائل المداد يحط به على الورق وشبهه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} في سورة آل عمران [44].
وجملة {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} خبر عن قوله: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} وما بينهما اعتراض.
وتعريف {الإنسان} يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم.
وقد حصلت من ذكر التعليم بالقلم والتعليم الأعم إشارة إلى ما يتلقاه الإنسان من التعاليم سواء كان بالدرس أم بمطالعة الكتب وأن تحصيل العلوم يعتمد أمورا ثلاثة:
أحدهما: الأخذ عن الغير بالمراجعة والمطالعة، وطريقهما الكتابة وقراءة الكتب فإن بالكتابة أمكن للأمم تدوين آراء علماء البشر ونقلها إلى الأقطار النائية وفي الأجيال الجائية.
والثاني: التلقي من الأفواه بالدرس والإملاء.
والثالث: ما تنقدح به العقول من المستنبطات والمخترعات. وهذان داخلان تحت قوله تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
وفي ذلك اطمئنان لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة.
وأشعر قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يعلم من قبل، أي فلا يؤيسنك من أن تصير عالما بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف
(30/389)
قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك أتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتابا للوحي من مبدإ بعثه.
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها وصف مكمل لإعجاز القرآن قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48].
وهذه أخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
[6-10] {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى، أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} .
استئناف ابتدائي لظهور أنه في غرض لا اتصال له بالكلام الذي قبله.
وحرف {كَلاَّ} ردع وإبطال، وليس في الجملة التي قبلها ما يحتمل الإبطال والردع، فوجود {كَلاَّ} في أول الجملة دليل على أن المقصود بالردع هو ما تضمنه قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} الآية.
وحق {كَلاَّ} أن تقع بعد كلام لإبطاله والزجر عن مضمونه، فوقوعها هنا في أول الكلام يقتضي أن معنى الكلام الآتي بعدها حقيق بالإبطال وبردع قائله، فابتدئ الكلام بحرف الردع للإبطال، ومن هذا القبيل أن يفتتح الكلام بحرف نفي ليس بعده ما يصلح لأن يلي الحرف كما في قول امرئ القيس:
فلا وأبيك ابنة العامر ... ي لا يدعي القوم أني أفر
روى مسلم عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه أي يسجد في الصلاة بين أظهركم? فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته فأتى رسول الله وهو يصلي زعم ليطأ على رقبته فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيده. فقيل له: ما لك يا أبا الحكم? قال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا" قال: فأنزل الله، لا ندري في حديث أبي هريرة أو شيء بلغه {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} الآيات اهـ.
(30/390)
وقال الطبري: ذكر أن آية {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وما بعدها نزلت في أبي جهل بن هشام وذلك أنه قال فيما بلغنا: لأن رأيت محمدا يصلي لأطأن رقبته. فجعل الطبري ما أنزل في أبي جهل مبدوءا بقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} .
ووجه الجمع بين الروايتين: أن النازل في أبي جهل بعضه مقصود وهو ما أوله {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى} الخ، وبعضه تمهيد وتوطئة وهو {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} إلى {الرُّجْعَى} .
واختلفوا في أن هذه الآيات إلى أخر السورة نزلت عقب الخمس الآيات الماضية وجعلوا مما يناكده ذكر الصلاة فيها. وفيما روي في سبب نزولها من قول أبي جهل بناء على أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء وكان الإسراء بعد البعثة بسنين، فقال بعضهم: إنها نزلت بعد الآيات الخمس الأولى من هذه السورة، ونزل بينهن قرآن أخر ثم نزلت هذه الآيات، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها، وقال بعض أخر: ليست هذه السورة أول ما أنزل من القرآن.
وأنا لا أرى مناكدة تفضي إلى هذه الحيرة والذي يستخلص من مختلف الروايات في بدء الوحي وما عقبه من الحوادث أن الوحي فتر بعد نزول الآيات الخمس الأوائل من هذه السورة وتلك الفترة الأولى التي ذكرناها في أول سورة الضحى، وهناك فترة للوحي هذه ذكرها ابن إسحاق بعد أن ذكر ابتداء نزول القرآن وذلك يؤذن بأنها حصلت عقب نزول الآيات الخمس الأول ولكن أقوالهم اختلفت في مدة الفترة. وقال السهيلي: كانت المدة سنتين، وفيه بعد. وليس تحديد مدتها بالأمر المهم ولكن الذي يهم هو أنا نوقن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مدة فترة الوحي يرى جبرائيل ويتلقى منه وحيا ليس من القرآن. وقال السهيلي في الروض الأنف: ذكر الحربي أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل غروب الشمس "أي العصر" وصلاة قبل طلوعها "أي الصبح"، وقال يحيى بن سلام مثله، وقال: كان الإسراء وفرض الصلوات الخمس قبل الهجرة بعام اهـ. فالوجه أن تكون الصلاة التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلوات الخمس بل كانت هيئة غير مضبوطة بكيفية وفيها سجود لقول الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] يؤديها في المسجد الحرام أو غيره بمرأى من المشركين فعظم ذلك على أبي جهل ونهاه عنها.
فالوجه أن تكون هذه الآيات إلى بقية السورة قد نزلت بعد فترة قصيرة من نزول أول
(30/391)
السورة حدثت فيها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفشا فيها خبر بدء الوحي ونزول القرآن، جريا على أن الأصل في الآيات المتعاقبة في القراءة أن تكون قد تعاقبت في النزول إلا ما ثبت تأخره بدليل بين، وجريا على الصحيح الذي لا ينبغي الالتفات إلى خلافه من أن هذه السورة هي أول سورة نزلت.
فموقع قوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} موقع المقدمة لما يرد بعده من قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {لاَ تُطِعْهُ} [العلق:19] لأن مضمونه كلمة شاملة لمضمون {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:17].
والمعنى: أن ما قاله أبو جهل ناشئ عن طغيانه بسبب غناه كشأن الإنسان.
والتعريف في {الإنسان} للجنس، أي من طبع الإنسان أن يطغى إذا أحس من نفسه الاستغناء، واللام مفيدة الاستغراق العرفي، أي أغلب الناس في ذلك الزمان إلا من عصمه خلقه أو دينه.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد زيادة تحقيقه لغرابته حتى كأنه مما يتوقع أن يشك السامع فيه.
والطغيان: التعاظم والكبر.
والاستغناء: شدة الغنى، فالسن والتاء فيه للمبالغة في حصول الفعل مثل استجاب واستقر.
{أَنْ رَآهُ} متعلق ب"يطغى" بحذف لام التعليل لأن حذف الجار مع "أن" كثير وشائع، والتقدير: إن الإنسان ليطغى لرويته نفسه مستغنيا.
وعلة هذا الخلق أن الاستغناء تحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره وأن غيره محتاج فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصبو خلقا حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء من لامة سلاح وخدم وأعوان وعفاة ومنتفعين بماله من شركاء وعمال وأجراء فهو في عزة عند نفسه.
فقد بينت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النفس. ونبهت على
(30/392)
الحذر من تغلغلها في النفس.
وضمير {رآه} المستتر المرفوع على الفاعلية وضميره البارز المنصوب على المفعولية كلا هما عائد إلى الإنسان، أي أن رأى نفسه استغنى.
ولا يجتمع ضميران متحدا المعاد: أحدهما فاعل، والآخر مفعول في كلام العرب، إلا إذا كان العامل من باب ظن وأخواتها كما في الآية، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} في سورة الإسراء [62]. قال الفراء: والعرب تطرح النفس من هذا الجنس "أي جنس أفعال الظن والحسبان" تقول: رأيتني وحسبتني، ومتى تراك خارجا، ومتى تظنك خارجا، وألحقت "رأى" البصرية ب"رأى" القلبية عند كير من النحاة كما في قوله قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
ومن النادر قول النمر بن تولب:
قد بت أحرسني وحدي ويمنعني ... صوت السباع به يضبحن والهام
وقرأ الجميع {أَنْ رَآهُ} بألف بعد الهمزة، وروى ابن مجاهد عن قنبل أنه قرأه عن أبن كثير "رأه" بدون ألف بعد الهمزة، قال ابن مجاهد: هذا غلط ولا يعبأ بكلام ابن مجاهد بعد أن جزم بأنه رواه عن قنبل، لكن هذا لم يروه غير ابن مجاهد عن قنبل فيكون وجها غريبا عن قنبل.
وألحق بهذه الأفعال: فعل فقد وفعل عدم، إذا استعملا في الدعاء نحو قول القائل: فقدتني وعدمتني.
وجملة {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} معترضة بين المقدمة والمقصد والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي مرجع الطاغي إلى الله، وهذا موعظة وتهديد على سبيل التعريض لمن يسمعه من الطغاة، وتعليم للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له، أي لا يحزنك طغيان الطاغي فان مرجعه إلى، ومرجع الطاغي إلى العذاب قال تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21-22] وهو موعظة للطاغي بأن غناه لا يدفع عنه الموت، والموت: رجوع إلى الله كقوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6].
وفيه معنى آخر وهو أن استغناءه غير حقيقي لأنه مفتقر إلى الله في أهم أموره ولا يدري ماذا يصيره إليه ربه من العواقب فلا يزده يغنى زائف في هذه الحياة فيكون:
(30/393)
{الرُّجْعَى} مستعملا في مجازه، وهو الاحتياج إلى المرجوع إليه، وتأكيد الخبر ب"إن" مراعى فيه المعنى التعريضي لأن معظم الطغاة ينسبون هذه الحقيقة بحيث ينزلون منزلة من ينكرها.
و {الرُّجْعَى} : بضم الراء مصدر رجع على زنة فعلى مثل البشرى.
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على {الرُّجْعَى} للاهتمام بذلك.
وجملة {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} إلى آخرها هي المقصود من الردع الذي أفاده حرف {كلا} ، فهذه الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا متصلا باستئناف جملة {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} .
و {الَّذِي يَنْهَى} اتفقوا على أنه أريد به أبو جهل إذ قال قولا يريد به نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجد الحرام فقال في ناديه: لئن رأيت محمدا يصلي في الكعبة لأطأن على عنقه. فإنه أراد بقوله ذلك أن يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو تهديد يتضمن النهي عن أن يصلي في المسجد الحرام ولم يرو أنه نهاه مشافهة.
و {أَرَأَيْتَ} كلمة تعجيب من حال، تقال للذي يعلم أنه رأى حالا عجيبة. والرؤية علمية، أي أعلمت الذي ينهي عبدا والمستفهم عنه هو ذلك العلم، والمفعول الثاني لـ"رأيت" محذوف دل عليه قوله في آخر الجمل {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
والاستفهام مستعمل في التعجيب لأن الحالة العجيبة من شأنها أن يستفهم عن وقوعها استفهام تحقيق وتثبيت لنبئها إذ لا يكاد يصدق به، فاستعمال الاستفهام في التعجيب مجاز مرسل في التركيب. ومجيء الاستفهام في التعجيب كثير نحو {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1].
والرؤية علمية، والمعنى: أعجب ما حصل لك من العلم قال الذي ينهي عبدا إذا صلى. ويجوز أن تكون الرؤية بصرية لأنها حكاية أمر وقع في الخارج. والخطاب في {أَرَأَيْتَ} لغير معين.
والمراد بالعبد النبي صلى الله عليه وسلم. وإطلاق العبد هنا على معنى واحد من عباد الله أي شخص كما في قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الإسراء:5]، أي رجالا. وعدل عن التعبير عنه بضمير الخطاب لأن التعجيب من نفس النهي عن الصلاة بقطع النظر عن خصوصية المصلي. فشموله لنهيه عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أوقع، وصيغة
(30/394)
المضارع في قوله: {يَنْهَى} لاستحضار الحالة العجيبة وإلا فإن نهيه قد مضي.
والمنهي عنه محذوف يغني عنه تعليق الظرف بفعل {يَنْهَى} أي ينهاه عن صلاته.
[11-12] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} .
تعجيب أخر من حال المفروض وقوعه، أي أتظنه ينهي أيضا عبدا متمكنا من الهدى فتعجب من نهيه. والتقدير: أرأيته إن كان العيد على الهدى أينهاه عن الهدى، أو إن كان العبد آمرا بالتقوى أينهاه عن ذلك.
والمعنى: أن ذلك هو الظن به فيعجب المخاطب من ذلك لأن من ينهى عن الصلاة وهي قربة إلى الله فقد نهى عن الهدى، ويوشك أن ينهي عن أن يمأر أحد بالتقوى.
وجواب الشرط محذوف وأتى بحرف الشرط الذي الغالب فيه عدم الجزم بوقوع فعل الشرط مجاراة لحال الذي ينهى عبدا.
والرؤية هنا علمية، وحذف مفعولا فعل الرؤية اختصار لدلالة {الَّذِي يَنْهَى} [العلق:9] على المفعول الأول ودلالة {يَنْهَى} على المفعول الثاني في الجملة قبلها.
و {وعلى} للاستعلاء المجازي وهو شدة التمكن من الهدى بحيث يشبه تمكن المستعلي على المكان كما تقدم في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [لقمان:5].
فالضميران المستتران في فعلي {كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} عائدان إلى {عبدا} وأن كانت الضمائر الحافة به عائدة إلى {الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10].
فإن السياق يرد كل ضمير إلى معاده كما في قول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
والمفعول الثاني لفعل "رأيت" محذوف دل عليه قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] أو دل عليه قوله: {يَنْهَى} المتقدم. والتقدير: أرأيته.
وجواب {إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} محذوف تقديره: أينهاه أيضا.
وفصلت جملة {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} لوقوعها موقع التكرير لأن فيها تكرير التعجيب من أحوال عديدة لشخص واحد.
[13-14] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} .
(30/395)
جملة مستأنفه للتهديد والوعيد على التكذيب والتولي، أي إذا كذب بما يدعى إليه وتولى أتظنه غير عالم بأن الله مطلع عليه.
فالمفعول الأول ل"رأيت" محذوف وهو ضمير عائد إلى {الَّذِي يَنْهَى} [العلق:9] والتقدير: أرأيته إن كذب ... إلى آخره.
وجواب {إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هو {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} كذا قدر صاحب الكشاف، ولم يعتبر وجوب اقتران جملة جواب الشرط بالفاء إذا كانت الجملة استفهامية. وصرح الرضي باختيار عدم اشتراط الاقتران بالفاء ونظره بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47] فأما قول جمهور النحات والزمخشري في المفصل فهو وجوب الاقتران بالفاء، وعلى قولهم يتعين تقدير جواب الشرط بما يدل عليه {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} ، والتقدير إن كذب وتولى فالله عالم به، كناية عن توعده، وتكون جملة {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} مستأنفة لإنكار جهل المكذب بأن الله سيعاقبه،واشرط وجوابه سادان مسد المفعول الثاني.
وكني بأن الله يرى عن الوعيد بالعقاب.
وضمن فعل {يَعْلَمْ} معنى يوقن فلذلك عدي بالباء.
وعلق فعل {أرأيت} هنا عن العمل لوجود الاستفهام في قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ} .
والاستفهام إنكاري، أي كان حقه أن يعلم ذلك ويقي نفسه العقاب.
وفي قوله: {إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} إيذان للنبي صلى الله عليه وسلم بأن أبا جهل سيكذبه حين يدعوه إلى الإسلام وسيتولى، ووعد بأن الله سينتصف له منه.
وضمير {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} عائد إلى {الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] وقرينة المقام ترجع الضمائر إلى مراجعها المختلفة.
وحذف مفعول {كذب} لدلالة ما قبله عليه. والتقدير: إن كذبه، أي العبد الذي صلى، وبذلك انتظمت الجمل الثلاث في نسبة معانيها إلى الذي ينهى عبدا إذا صلى وإلى العبد الذي صلى، واندفعت عنك ترددات عرضت في التفاسير.
وحذف مفعول {يرى} ليعم كل موجود، والمراد بالرؤية المسندة إلى الله تعالى تعلق علمه بالمحسوسات.
(30/396)
[15-16] {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} .
{كَلاَّ} .
أكد الردع الأول بحرف الردع الثاني وفي آخر الجملة وهو الموقع الحقيق لحرف الردع إذ كان تقديم نظيره في أول الجملة، لما دعا إليه لمقام من التشويق.
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} .
أعقب الردع بالوعيد على فعله إذا لم يرتدع وينته عنه.
واللام موطئة للقسم، وجملة "لنسفعن" جواب القسم، وأما جواب الشرط فمحذوف دل عليه جواب القسم.
والسفع: القبض الشديد بجذب.
والناصية مقدم شعر الرأس، والأخذ من الناصية أخذ من لا يترك له تمكن من الانفلات فهو كناية عن أخذه إلى العذاب، وفيه إذلال لأنهم كانوا لا يقبضون على شعر رأس أحد إلا لضربه أو لجره. وأكد ذلك السفع بالباء المزيدة الداخلة على المفعول لتأكيد اللصوق.
والنون نون التوكيد الخفيفة التي يكثر دخولها في القسم المثبت، وكتبت في المصحف ألفا رعيا للنطق لها في الوقف لأن أواخر الكلم أكثر ما ترسم على مراعاة النطق في الوقف.
والتعريف في "الناصية" للعهد التقديري، أي بناصيته، أي ناصية الذي ينهى عبدا إذا صلى وهذا اللام هي التي يسميها نحاة الكوفة عوضا عن المضاف إليه. وهي تسمية حسنة وإن أباها البصريون فقدروا في مثله متعلقا لمدخول اللام.
و {ناصية} بدل من الناصية وتنكيرها لاعتبار الجنس، أي هي من جنس ناصية كاذبة خاطئة.
و {خاطئة} اسم فاعل من خطئ من باب علم، إذا فعل خطيئة، أي ذنبا، ووصف الناصية بالكاذبة والخاطئة مجاز عقلي. والمراد: كاذب صاحبها خاطئ صاحبها، أي آثم. ومحسن هذا المجاز أن فيه تخييلا بأن الكذب والخطء باديان من ناصيته فكانت
(30/397)
الناصية جديرة بالسفع.
[17-19] {فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} .
{فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة، كَلاَّ} .
تفريع على الوعد. ومناسبة ذلك ما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عند المقام فمر به أبو جهل فقال: يا محمد ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له رسول الله، فقال أبو جهل: يا محمد بأي شيء تهددني? أما والله إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا، فأنزل الله تعالى {فَلْيَدْعُ نَادِيَه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} يعني أن أبا جهل أراد بقوله ذلك تهديد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يغري عليه أهل ناديه.
والنادي: اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، يقال: ندا القوم ندوا، إذا اجتمعوا. والندوة بفتح النون الجماعة، ويقال: ناد وندي، ولا يطلق هذا الاسم على المكان إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه فإذا تفرقوا عنه فليس بناد، ويقال النادي لمجلس القوم نهارا، فأما مجلسهم في الليل فيسمى المسامر قال تعالى: {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} [المؤمنون:67].
واتخذ قصي لندوة قريش دارا تسمى دار الندوة حول المسجد الحرام وجعلها لتشاورهم ومهماتهم وفيها يعقد على الأزواج، وفيها تتدرع الجواري، أي يلبسوهن الدروع، أي الأقمصة إعلانا بأنهن قاربن سن البلوغ، وهذه الدار كانت اشترتها الخيزران زوجة المنصور أبي جعفر وأدخلتها في ساحة المسجد الحرام، وأدخل بعضها في المسجد الحرام في زيادة عبد الملك بن مروان وبعضها في زيادة أبي جعفر المنصور، وبقيت بقيتها بيتا مستقلا ونزل به المهدي سنة 160 في مدة خلافة المعتضد بالله العباسي لما زاد في المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجدا متصلا بالمسجد الحرام فاستمر كذلك ثم هدم وأدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبد العزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379.
ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه وهو معنى قول أبي جهل: إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا، أي ناسا يجلسون إلي يريد أنه رئيس يصمد إليه، وهو المعني هنا.
وإطلاق النادي على أهله نظير إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى: {وَاسْأَلْ
(30/398)
الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] ونظير إطلاق المجلس على أهله في قول ذي الرمة:
لهم مجلس صهب السبال أذلة ... سواسة أحرارها وعبيدها
وإطلاق المقامة على أهلها في قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
أي أصحاب مقامات حسان وجوههم.
وإطلاق المجمع على أهله في قول لبيد:
إنا إذا التقت المجامع لم يزل ... منا لزاز عظيمة جسامها
الأبيات الأربعة.
ولام الأمر في {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} للتعجيز لأن أبا جهل هدد النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة أنصاره وهم أهل ناديه فرد الله عليه بأن أمره بدعوة ناديه فإنه إن دعاهم ليسطوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله ملائكة فأهلكوه. وهذه الآية معجزة خاصة من معجزات القرآن فإنه تحدى أبا جهل بهذا وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الكلام يلهب حميته.
وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه قالت إعرابية سيد ناديه، وثمال عافيه.
وقوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} جواب الأمر التعجيزي، أي فإن دعا ناديه دعونا لهم الزبانية ففعل {سَنَدْعُ} مجزوم في جواب الأمر، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل.
والزبانية: بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة، أو جمع زبنية بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة، أو جمع زبني بكسر فسكون فتحتية مشددة، وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل عباديد. وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشدة يقال: ناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها، وحرب زبون يدفع بعضها بعضا بتكرر القتال.
فالزبانية الذين يزبنون الناس، أي يدفعونهم بشدة. والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشرطة.
و {كلا} ردع لإبطال ما تضمنه قوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} ، أي وليس بفاعل، وهذا تأكيد
(30/399)
للتحدي والتعجيز.
وكتب {سَنَدْعُ} في المصحف بدون واو بعد العين مراعاة لحالة الوصل، لأنها ليست محل وقف ولا فاصلة.
{لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} .
هذا فذلكة للكلام المتقدم من قوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10]، أي لا تترك صلاتك في المسجد الحرام ولا تخش منه.
وأطلقت الطاعة على الحذر الباعث على الطاعة على طريق المجاز المرسل، والمعنى: لا تخفه ولا تحذره فإنه لا يضرك.
وأكد قوله: {لاَ تُطِعْهُ} بجملة {وَاسْجُدْ} اهتماما بالصلاة.
وعطف عليه {وَاقْتَرِبْ} للتنويه بما في الصلاة من مرضاة الله تعالى بحيث جعل المصلي مقتربا من الله تعالى.
والاقتراب: افتعال من القرب، عبر بصيغة الافتعال لما فيها من معنى التكلف والتطلب، أي اجتهد في القرب إلى الله بالصلاة.
(30/400)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
سميت هذه السورة في المصاحف التفسير وكتب السنة "سورة القدر" وسماها ابن عطية في "تفسيره" وأبو بكر الجصاص في "أحكام القرآن" "سورة ليلة القدر".
وهي مكية في قول الجمهور وهو قول جابر بن زيد ويروى عن ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا والضحاك أنها مدنية ونسبه القرطبي إلى الأكثر. وقال الواقدي: هي أول سورة نزلت بالمدينة ويرجحه أن المتبادر أنها تتضمن الترغيب في إحياء ليلة القدر وإنما كان ذلك بعد فرض رمضان بعد الهجرة.
وقد عدها جابر بن زيد الخامسة والعشرين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد سورة عبس وقبل سورة الشمس، فأما قولب من قالوا إنها مدنية فيقتضي أن تكون نزلت بعد المطففين وقبل البقرة.
وآياتها خمس في العدد المدني والبصري والكوفي وست في العد المكي والشامي.
أغراضها
التنويه بفضل القرآن وعظمته بإسناد إنزاله إلى الله تعالى...
والرد على الذين جحدوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
ورفع شأن الوقت الذي أنزل فيه ونزول الملائكة في ليلة إنزاله.
وتفضيل الليلة التي توافق ليلة إنزاله من كل عام.
ويستتبع ذلك تحرير المسلمين على تحين ليلة القدر بالقيام والتصدق.
[1] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}
(30/401)
اشتملت هذه الآية على تنويه عظيم بالقرآن فافتتحت بحرف "إن" وبالإخبار عنها بالجملة الفعلية، وكلاهما من طرق التأكيد والتقوي.
ويفيد هذا التقديم قصرا وهو قصر قلب للرد على المشركين الذي نفوا أن يكون القرآن منزلا من الله تعالى.
وفي ضمير العظمة وإسناد الإنزال إليه تشريف عظيم للقرآن.
وفي الإتيان بضمير القرآن دون الاسم الظاهر إيماء إلى أنه حاضر في أذهان المسلمين لشدة إقبالهم عليه فكون الضمير دون سبق معاد إيماء إلى شهرته بينهم.
فيجوز أن يراد به القرآن كله فيكون فعل "أنزلنا" مستعملا في ابتداء الإنزال لأن الذي أنول في تلك الليلة خمس الآيات الأول من سورة العلق ثم فتر الوحي ثم عاد إنزاله منجما ولم يكمل إنزال القرآن إلا بعد نيف وعشرين سنة، ولكن لما كان جميع القرآن مقررا في علم الله تعالى مقداره وأنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجما حتى يتم، كان إنزاله بإنزال الآيات الأول منه لأن ما ألحق بالشيء يعد بمنزلة أوله فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه" الحديث فاتفق العلماء على أن الصرة فيما ألحق بالمسجد النبوي لها ذلك الفضل، وأن الطواف في زيادات المسجد الحرام يصح كلما اتسع المسجد.
ومن تسديد ترتيب المصحف أن وضعت سورة القدر عقب سورة العلق مع أنها أقل عدد آيات من سورة البينة وسور بعدها، كأنه إماء إلى أن الضمير في {أَنزَلْنَاه} يعود إلى القرآن الذي ابتدئ نزوله بسورة العلق.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا على المقدار الذي أنزل في تلك الليلة وهو الآيات الخمس من سورة العلق فإن كل جزء من القرآن يسمى قرآنا، وعلى كلا الوجهين فالتعبير بالمضي في فعل {أَنزَلْنَاه} لا مجاز فيه. وقيل أطلق ضمير القرآن على بعضه مجازا بعلاقة البعضية.
والآية صريحة في أن الآيات الأول من القرآن نزلت ليلا وهو الذي يقتضيه حديث بدء الوحي في "الصحيحين" لقول عائشه فيه "فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد" فكان تعبده ليلا، ويظهر أن يكون الملك قد نزل عليه أثر فراغه من تعبده، وأما قول عائشه "فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده" فمعناه أنه خرج من غار حراء إثر الفجر
(30/402)
بعد انقضاء تلقينه الآيات الخمس إذ يكون نزولها عليه في آخر تلك الليلة وذلك أفضل أوقات الليل كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وليلة القدر: اسم جعله الله لليلة التي ابتدئ فيها نزول القرآن، ويظهر أن أول تسميتها بهذا الاسم كان في هذه الآية ولم تكن معروفة عند المسلمين وبذلك يكون ذكرها بهذا الاسم تشويقا لمعرفتها ولذلك عقب قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2].
والقدر: الذي عرفت الليلة بالاضافة إليه هو بمعنى الشرف والفضل كما قال تعالى في سورة الدخان [3] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ، أي ليلة القدر والشرف عند الله تعالى مما أعطاها من البركة فتلك ليلة جعل الله لها شرفا فجعلها مظهرا لما سبق به علمه فجعلها مبدأ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والتعريف في {الْقَدْرِ} تعريف الجنس. ولم يقل: في ليلة قدر بالتنكير لأنه قصد جعل هذا المركب بمنزلة العلم لتلك الليلة كالعلم بالغلبة، لآن تعريف المضاف إليه باللام مع تعريف المضاف بالإضافة أوغل في جعل ذلك المركب لقبا لاجتماع تعريفين فيه.
وقد ثبت أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]. ولا شك أن المسلمين كانوا يعلمون ذلك إذ كان نزول هذه السورة قبل نزول سورة البقرة بسنين إن كانت السورة مكية أو بمدة أقل من ذلك إن كانت السورة مدنية، فليلة القدر المرادة هنا كانت في رمضان وتأيد ذلك بالأخبار الصحيحة من كونها من ليال رمضان في كل سنة.
وأكثر الروايات أن الليلة التي أنزل فيها القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبعه عشرة من رمضان. وسيأتي في تفسير الآيات عقب هذا الكلام في هل ليلة ذات عدد متماثل في جميع الأعوام أو تختلف في السنين? وفي هل تقع في واحدة من جميع ليالي رمضان أو لا تخرج عن العشر الأواخر منه? وهل هي مخصوصة بليلة وتر كما كانت أول مرة أو لا تختص بذلك?
والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيها على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتا شريفا مباركا لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يختار لإيقاعه فضل الأوقات والأمكنة، فاختيار فضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علو قدره عند الله تعالى كقوله: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:
(30/403)
79] على الوجهين في المراد من المطهرين.
[2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} .
تنويه بطريق الإبهام المراد به أن إدراك كنهها ليس بالسهل لما ينطوي عليه من الفضائل الجمة.
وكلمة "ما أدراك ما كذا" كلمة تقال في تفخيم الشيء وتظيمه، والمعنى: أي شيء يعرفك ما هي ليلة القدر، أي يعسر على شيء أن يعرفك مقدارها، وقد تقدمت غير مرة منها، قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في سورة الانفطار [17] قريبا. والواو واو الحال.
وأعيد اسم {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} الذي سبق قريبا في قوله: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضى الظاهر الإضمار، فقصد الاهتمام بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحا، وحصلت كتابة عن تعظيم ما أنزل فيها وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان.
[3] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} .
بيان أول لشيء من الإبهام الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] مقل البيان في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ} [البلد: 12-14] الآية. فلذلك فصلت الجملة لأنها استئناف بياني، أو لأنها كعطف البيان.
وتفضيلها بالخير على ألف شهر. إنما هو بتضعيف فضل ما يحصل فيها من الأعمال الصالحة واستجابة الدعاء ووفرة ثواب الصدقات والبركة للأمة فيها، لأن تفاضل الأيام لا يكون بمقادير أزمنتها ولا بما يحدث فيها من حر أو برد، أو مطر، ولا بطولها أو بقصرها، فإن تلك الأحوال غير معتد بها عند الله تعالى ولكن الله يعبأ بما يحصل من الصلاح للناس أفرادا وجماعات وما يعين على الحق والخير ونشر الدين. وقد قال في فضل الناس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فكذلك فضل الأزمان إنما يقاس بما يحصل فيها لأنها ظروف للأعمال وليست لها صفات ذاتية يمكن أن تتفاضل بها كتفاضل الناس ففضلها بما أعده الله لها من التفضيل كتفضيل ثلث الليل الأخير للقريات وعدد الألف يظهر أنه مستعمل في وفرة التكثير كقوله "واحد كألف" وعليه جاء قوله
(30/404)
تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96] وإنما جعل تمييز عدد الكثرة هنا بالشهر للرعي على الفاصلة التي هي بحرف الراء. وفي الموطأ قال مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثلما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} اهـ.
وإظهار لفظ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ} في مقام الإضمار للاهتمام، وقد تكرر هذه اللفظ ثلاث مرات والمرات الثلاث ينتهي عندها التكرير غالبا كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ} [آل عمران:78].
وقول عدي:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
ومما ينبغي التنبيه له ما وقع في جامع الترمذي بسنده إلى القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية فقال: سودت وجوه المؤمنين، أو يا مسود وجوه المؤمنين فقال: لا تؤنبني رحمك الله فأن النبي صلى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] يا محمد يعني نهرا من الجنة، ونزلت {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3] يملكها بنو أمية يا محمد قال القاسم: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا يزيد يوما ولا ينقص". قال أبو عيسى الترمذي، هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن نعرفه والقاسم بن الفضل ثقة ويوسف بن سعد رجل مجهول اه.
قال ابن كثير في "تفسيره" ورواه أبن جرير من طريق القاسم في الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وعيسى بن مازن غير معروف، وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث، أي لاضطرابهم في الذي يروي عنه القاسم بن الفضل، وعلى كل احتمال فهو مجهول.
وأقول: وأيضا ليس في سنده ما يفيد أن يوسف بن سعد سمع ذلك من الحسن رض الله عنه. وفي "تفسير الطبري" عن عيسى بن مازن أنه قال: قلت للحسن: يا مسود وجوه المؤمنين إلى آخر الحديث. وعيسى بن مازن غير معروف أصلا فإذا فرضنا توثيق يوسف بن سعد فليس في روايته ما يقتضي أنه سمعه بل يجوز أن يكون أراد ذكر قصه
(30/405)
تروى عن الحسن.
واتفق حذاق العلماء على أنه حديث منكر صرح بذلك أبن كثير وذكره عن شيخه المزي، وأقول: هو مختل المعنى وسمات الوضع لائحة عليه وهو من وضع أهل النحل المخالفة للجماعة فالاحتجاج به لا يليق أن يصدر مثله عن الحسن مع فرط علمه وفطنته، وآية ملازمة بين ما زعموه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دفع الحسن التأنيب عن نفسه، ولا شك أن هذا الخبر من وضع دعاة العباسيين على أنه مخالف للواقع لأن المدة التي بين تسليم الحسن الخلافة إلى معاوية وبين بيعة السفاح وهو أول خلفاء العباسية ألف شهر واثنان وتسعون شهرا أو أكثر بشهر أو بشهرين فما نسب إلى القاسم الحداني من قوله: فعددناها فوجدناها الخ كذب لا محالة. والحاصل أن هذا الخبر الذي أخرجه الترمذي منكر كما قاله المزي.
قال ابن عرفه وفي قوله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} المحسن المسمى تشابه الأطراف وهو إعادة لفظ القافية في الجملة التي تليها كقوله تعالى: { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [النور: 35] اهـ. يريد بالقافية ما يشمل القرينة في الأسجاع والفواصل في الآي، ومثاله في الشعر قول ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها الخ
[4، 5] {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .
إذا ضم هذا البيان الثني لما في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] من الإبهام التفخيمي حصل منها ما يدل دلالة بينة على أن الله جعل مثل هذه الفضيلة لكل ليلة من ليالي الأعوام تقع في مثل الليلة من شهر نزول القرآن كرامة للقرآن، ولمن أنزل عليه، وللدين الذي نزل فيه، وللأمة التي تتبعه، ألا ترى أن معظم السورة كان لذكر فضائل ليلة القدر فما هو إلا للتحريض على تطلب العمل الصالح فيها. فإن كونها خيرا من ألف شهر أومأ إلى ذلك وبينته الأخبار الصحيحة. والتعبير بالفعل المضارع بقوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} مؤذن بأن هذا التنزل متكرر في المستقبل بعد نزول هذه السورة.
وذكر نهايتها بطلوع الفجر لا أثر له في بيان فضلها فتعيين أنه إدماج للتعريف بمنتهاها
(30/406)
ليحرص الناس على كثرة العمل فيها قبل انتهائها.
لا جرم أن ليلة القدر التي ابتدئ فيها نزول القرآن قد انقضت قبل أن يشعر بها أحد عدا محمد صلى الله عليه وسلم إذ كان قد تحنث فيها، وأنزل عليه أول القرآن آخرها، وانقلب إلى أهله في صبيحتها، فلولا إرادة التعريف بفضل الليالي الموافقة في كل السنوات لاقتصر على بيان فضل تلك الليلة الأولى ولما كانت حاجة إلى تنزل الملائكة فيها، ولا إلى تعيين منتهاها.
وهذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى قال تعالى {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} [ابراهيم: 5] فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن.
وحكمة إخفاء تعيينها إرادة أن يكرر المسلمون حسناتهم في ليال كثيرة توخيا لمصادفة ليلة القدر كما أخفيت ساعة الإجابة يوم الجمعة.
هذا محصل ما أفاده القرآن في فضل ليلة القدر من كل عام ولم يبين أنها أية ليلة، ولا من أي شهر، وقد قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فتبين أن ليلة القدر الأولى هي من ليالي شهر رمضان لا محالة، فبنا أن نتطلب تعيين ليلة القدر الأولى التي ابتدئ إنزال القرآن فيها لنطلب تعيين ما يماثلها من ليالي رمضان في جميع السنين، وتعيين صفة المماثلة، والمماثلة تكون في صفات مختلفة فلا جائز أن تماثلها في اسم يومها نحو الثلاثاء أو الأربعاء، ولا في الفصل من شتاء أو صيف أو نحو ذلك مما ليس من الأحوال المعتبرة في الدين فعلينا أن نتطلب جهة من جهات المماثلة لها في اعتبار الدين وما يرضي الله. وقد أختلف في تعيين المماثلة اختلافا كثيرا وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح "تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان" .
والوتر: أفضل الأعداد عند الله كما دل عليه حديث "إن الله وتر يحب الوتر" .
وأنها ليست ليلة معينة مطردة في كل السنين بل هي متنقلة في الأعوام، وأنها في رمضان وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأحمد وأكثر أهل العلم قال ابن رشيد: وهو أصح الأقاويل وأولاها بالصواب. وعلى أنها متنقلة في الأعوام فأكثر أهل العلم على أنها
(30/407)
لا تخرج عن شهر رمضان. والجمهور على أنها لا تخرج عن العشر الأواخر منه، وقال جماعة: لا تخرج عن العشر الأواسط، والعشر الأواخر.
وتأولوا ما ورد من الآثار ضبطها على إرادة الغالب أو إرادة عام بعينه.
ولم يرد في تعيينها شيء صريح يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها وذلك مبسوط في كتب السنة فلا نطيل به، وقد أتى ابن كثير منه بكثير.
وحفظت عن الشيخ محي الدين بن العربي أنه ضبط تعيينها باختلاف السنين بأبيات ذكر في البيت الأخير منها قوله:
وضابطها بالقول ليلة جمعة ... توافيك بعد النصف في ليلة وتر
حفظناها عن بعض معلمينا ولم أقف عليها. وجربنا علامة ضوء الشمس في صبيحتها فلم تتخلف.
وأصل {تنزل} تتنزل فحذفت إحدى التاءين اختصارا. وظاهر أن تنزل الملائكة إلى الأرض.
ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم.
و {الروح} : هو جبريل، أي ينزل جبريل في الملائكة.
ومعنى {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أن هذا التنزيل كرامة أكرم الله بها المسلمين بأن أنزل لهم في تلك الليلة جماعات من ملائكته وفيهم أشرفهم وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حراء.
وفي هذا أصل لإقامة المواكب لإحياء ذكرى أيام مجد الإسلام وفضله وأن من كان له عمل في أصل تلك الذكرى ينبغي أن لا يخلو عنه موكب البهجة بتذكارها.
وقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق ب {تنزل} إما بمعنى السببية، أي يتنزلون بسبب إذن ربهم لهم في النزول فالإذن بمعنى المصدر، وإما بمعنى المصاحبة، أي مصاحبين لما أذن به ربهم، فالإذن بمعنى المأذون به من إطلاق المصدر على المفعول نحو {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11].
و {من} في قوله من {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} يجوز أن تكون بيانية تبين الإذن من قوله: {بِإِذْنِ
(30/408)
رَبِّهِمْ} أي بإذن ربهم الذي هو في كل أمر.
ويجوز أن تكون بمعنى الباء، أي تتنزل بكل أمر مثل ما في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي بأمر الله، وهذا إذا جعلت باء {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} سببية، ويجوز أن تكون للتعليل، أي من أجل كل أمر أراد الله قضاءه بتسخيرهم.
و {كل} مستعملة في معنى الكثرة للأهمية، أي في أمور كثيرة عظيمة كقوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقوله: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. وقوله النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} في سورة الحج.
وتنوين {أمر} للتعظيم، أي بأنواع الثواب على الأعمال في تلك الليلة. وهذا الأمر غير الأمر الذي في قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] مع أن {أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا} في سورة [الدخان: 5] متحدة مع اختلاف شؤونها، فإن لها شؤونا عديدة.
ويجوز أن يكون هو الأمر المذكور هنا فيكون هنا مطلقا وفي آية الدخان مقيدا.
واعلم أن موقع قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الى قوله: {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} ، من جملة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] موقع الاستئناف البياني أو موقع بدل الاشتمال فالمراعاة هذا الموقع فصلت الجملة عن التي قبلها ولم تعطف عليها مع أنهما مشتركان في كون كل واحدة منهما تفيد بيانا لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] فأوثرت مراعاة موقعها الاستئنافي أو البدلي على مراعاة اشتراكهما في كونها بيانا لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} لأن هذا البيان لا يفوت السامع عند إيرادها في صورة البيان أو البدل بخلاف ما لو عطفت على التي قبلها بالواو لفوات الإشارة إلى أن تنزل الملائكة فيها من أحوال خيريتها.
وجملة {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} بيان لمضمون {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} وهو كالاحتراس لأن تنزل الملائكة يكون للخير ويكون للشر لعقاب مكذبي الرسل قال تعالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ} [الحجر:8] وقال {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22]. وجمع بين إنزالهم للخير والشر فى قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
(30/409)
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} لأنفال:12] الآية، فأخبر هنا أن تنزل الملائكة ليلة القدر لتنفيذ أمر الخير للمسلمين الذين صاموا رمضان وقاموا ليلة القدر، فهذه بشارة.
والسلام: مصدر أو اسم مصدر معناه السلامة قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الانبياء:69]. ويطلق السلام على التحية والمدحة، وفسر السلام بالخير، والمعنيان حاصلان في هذه الآية، فالسلامة تشمل كل خير لأن الخير سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلام الغفران وإجزال الثواب واستجابة الدعاء بخير الدنيا والآخرة. والسلام بمعنى التحية والقول الحسن مراد به ثناء الملائكة على أهل ليلة القدر كدأبهم مع أهل الجنة فيما حكاه قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24].
وتنكير {سَلامٌ} للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة لأنه إخبار بالمصدر.
وتقديم المسند وهو سلام على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي ما هي إلا سلام. والقصر ادعائي لعدم الاعتداد بما يحصل فيها لغير الصائمين القائمين، ثم يجوز أن يكون {سَلامٌ هِيَ} مرادا به الإخبار فقط، ويجوز أن يراد بالمصدر الأمر والتقدير: سلموا سلاما، فالمصدر بدل من الفعل وعدل عن نصبه إلى الرفع ليفيد التمكن مثل قوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [هود: 69]. والمعنى: اجعلوها سلاما بينكم، أي لا نزاع ولا خصام. ويشير إليه ما في الحديث الصحيح "خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" .
و {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} غاية لما قبله من قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} إلى {سَلامٌ هِيَ} .
والمقصود من الغاية إفادة أن جميع أحيان تلك الليلة معمورة بنزول الملائكة والسلامة، فالغاية هنا مؤكدة لمدلول {ليلة} لأن الليلة قد تطلق على بعض أجزائها كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" ، أي من قام بعضها، فقد قال سعيد بن المسيب: من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. يريد شهدها في جماعة كما يقتضيه فعل شهد فإن شهود الجماعة من أفضل الأعمال الصالحة.
وجيء بحرف {حتى} لإدخال الغاية لبيان أن ليلة القدر تمتد بعد مطلع الفجر بحيث
(30/410)
أن صلاة الفجر تعتبر واقعة في تلك الليلة لئلا يتوهم أن نهايتها كنهاية الفطر بآخر جزء من الليل، وهذا توسعة من الله في امتداد الليلة إلى ما بعد طلوع الفجر.
ويستفاد من غاية تنزل الملائكة فيها، أن تلك غاية الليلة وغاية لما فيها من الأعمال الصالحة التابعة لكونها خيرا من ألف شهر، وغاية السلام فيها.
وقرأ الجمهور {مطلع} بفتح اللام على أنه مصدر ميمي، أي طلوع الفجر، أي ظهوره. وقرأه الكسائي وخلف بكسر اللام على معنى زمان طلوع الفجر.
(30/411)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البينة
وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب "إن الله أمرني أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} " قال: وسماني لك? قال: "نعم" . فبكى فقوله: أن أقرأ عليك {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} واضح أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة {لَمْ يَكُنِ} بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب.
وسميت في أكثر المصاحف "سورة القيمة" وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف "سورة البينة".
وذكر في "الإتقان" أنها سميت في مصحف أبي "سورة أهل الكتاب"، أي لقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1]، وسميت سورة "البرية" وسميت "سورة الانفكاك". فهذه ستة أسماء.
واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية: الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية.
وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام. وأخرج ابن كثير عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي حبة البدري قال: لما نزلت {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى آخرها قال جبريل: يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا" الحديث، أي وأبي من أهل المدينة. وجزم البغوي وابن كثير بأنها مدنية، وهو الأظهر لكثرة ما فيها من تخطئة أهل الكتاب ولحديث أبي حبة البدري، وقد عدها جابر بن زيد في عداد السور المدنية. قال ابن عطية: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دفع
(30/412)
إلى مناقضة أهل الكتاب بالدينة.
وقد عدت المائة وإحدى في ترتيب النزول نزلت بعد سورة الطلاق وقبل سورة الحشر، فتكون نزلت قبل غزوة بني النضير، وكانت غزوة النضير سنة أربع في ربيع الأول فنزول هذه السورة آخر سنة ثلاث أو أول سنة أربع.
وعدد آياتها ثمان عند الجمهور، وعدها أهل البصرة تسع آيات.
أغراضها
توبيخ المشركين وأهل الكتاب على تكذيبهم بالقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
والتعجيب من تناقض حالهم إذ هم ينتظرون أن تأتيهم البينة فلما أتتهم البينة كفروا بها.
وتكذيبهم في ادعائهم أن الله أوجب عليهم التمسك بالأديان التي هم عليها.
ووعيدهم بعذاب الآخرة.
والتسجيل عليهم بأنهم شر البرية.
والثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ووعدهم بالنعيم الأبدي ورضى الله عنهم وإعطائه إياهم ما يرضيهم.
وتخلل ذلك تنويه بالقرآن وفضله على غيره باشتماله على ما في الكتب الإلهية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل وما فيه من فضل وزيادة.
[1-3] {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ، رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} .
استصعب في كلام المفسرين تحصيل المعنى المستفاد من هذه الآيات الأربع من أول هذه السورة تحصيلا ينتزع من لفظها ونظمها فذكر الفخر عن الواحدي في التفسير البسيط له أنه قال: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وقد تخبط فيها الكبار من العلماء. قال الفخر: ثم إنه لم يلخص كيفية الإشكال فيها.
وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عماذا لكنه معلوم إذ المراد
(30/413)
هو الكفر والشرك الذين كانوا عليهما فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ثم إن كلمة {حتى} لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال بعد ذلك {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم فحينئذ حصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر اه كلام الفخر.
يريد أن الظاهر أن قوله {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} بدل من {البينة} ، وأن متعلق {مُنْفَكِّينَ} حذف لدلالة الكلام عليه لأنهم لما أجريت عليهم صلة الذين كفروا دل ذلك على أن المراد لم يكونوا منفكين على كفرهم، وإن حرف الغاية يقتضي أن إتيان البينة المفسرة ب {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} هي نهاية انعدام انفكاكهم عن كفرهم، أي فعند إتيان البينة يكونون منفكين عن كفرهم فكيف مع أن الله يقول {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] فإن تفرقهم راجع إلى تفرقهم عن الإسلام وهو ازدياد في الكفر إذ به تكثر شبه الضلال التي تبعث على التفرق في دينهم مع اتفاقهم في أصل الكفر، وهذا الأخير بناء على اعتبار قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة:4] الخ كلاما متصلا بإعراضهم عن الإسلام وذلك الذي درج عليه المفسرون ولنا في ذلك كلام سيأتي.
ومما لم يذكره الفخر من وجه الإشكال: أن المشاهدة دلت على أن الذين كفروا لم ينفكوا عن الكفر في زمن ما، وأن نصب المضارع بعد حتى ينادي على أنه منصوب ب {أن} مضمرة بعد {حتى} فيقتضي أن إتيان البينة مستقبل وذلك لا يستقيم فإن البينة فسرت ب {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} وإتيان الرسول وقع قبل نزول هذه الآيات بسنين وهم مستمرون على ما هم عليه: هؤلاء على كفرهم، وهؤلاء على شركهم.
وإذ قد تقرر وجه الإشكال وكان مظنونا أنه ملحوظ للمفسرين إجمالا أو تفصيلا فقد تعين أن هذا الكلام ليس واردا على ما يتبادر من ظاهره في مفرداته أو تركيبه، فوجب صرفه عن ظاهره، إما بصرف تركيب الخبر عن ظاهر الإخبار وهو إفادة المخاطب النسبة الخبرية التي تضمنها التركيب، بأن يصرف الخبر إلى أنه مستعمل في معنى مجازي للتركيب، وإما بصرف بعض مفرداته التي اشتمل عليها التركيب عن ظاهر معناها إلى معنى مجاز أو كناية.
فمن المفسرين من سلك طريقة صرف الخبر عن ظاهره. ومنهم من أبقوا الخبر على
(30/414)
ظاهر استعماله وسلكوا طريقة صرف بعض كلماته عن ظاهر معانيها وهؤلاء منهم من تأول لفظ {مُنْفَكِّينَ} ومنهم من تأول معنى {حتى} ومنهم من تأول {رسول} ، وبعضهم جوز في {البينة} وجهين.
وقد تعددت أقوال المفسرين فبلغت بضعة عشر قولا ذكر الآلوسي أكثرها وذكر القرطبي معظمها غير معزو، وتداخل بعض ما ذكره الآلوسي وزاد أحدهما ما لم يذكره الآخر.
ومراجع تأويل الآية تؤول إلى خمسة.
الأول: تأويل الجملة بأسرها بأن يؤول الخبر إلى معنى التوبيخ والتعجيب، وإلى هذا ذهب الفراء ونفطويه والزمخشري.
الثاني: تأويل معنى {مُنْفَكِّينَ} بمعنى الخروج عن إمهال الله إياهم ومصيرهم إلى مؤاخذتهم، وهو لابن عطية.
الثالث: تأويل متعلق {مُنْفَكِّينَ} بأنه عن الكفر وهو لعبد الجبار، أو عن الاتفاق على الكفر وهو للفخر وأبي حيان. أو منفكين عن الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق قبل بعثته وهو لابن كيسان عبد الرحمان الملقب بالأصم، أو منفكين عن الحياة، أي هالكين، وعزي إلى بعض اللغويين.
الرابع: تأويل {حتى} أنها بمعنى {إن} الاتصالية. والتقدير: وإن جاءتهم البينة.
الخامس: تأويل {رسول} بأنه رسول من الملائكة يتلو عليهم صحفا من عند الله فهو في معنى قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ} [النساء: 153] وعزاه الفخر إلى أبي مسلم وهو يقتضي صرف الخبر إلى التهكم.
هذا والمراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11].
وأنت لا يعوزك إرجاع أقوال المفسرين إلى هذه المعاقد فلا نحتاج إلى التطويل بذكرها فدونك فراجعها إن شئت. فبنا أن نهتم بتفسير الآية على الوجه البين.
إن هذه الآيات وردت مورد إقامة الحجة على الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب وعلى
(30/415)
المشركين بأنهم متنصلون من الحق متعللون للإصرار على الكفر عنادا، فلنسلك بالخبر مسلك مورد الحجة لا مسلك إفادة النسبة الخبرية فتعين علينا أن نصرف التركيب عن استعمال ظاهره إلى استعمال مجازي على طريقة المجاز المرسل المركب من قبيل استعمال الخبر في الإنشاء والاستفهام في التوبيخ ونحو ذلك الذي قال فيه التفتزاني في المطول: إن بيان أنه من أي أنواع النجاز هو مما لم يحم أحد حوله، والذي تصدى السيد الشريف لبيانه بما لا يبقي فيه شبهة.
فهذا الكلام مسوق مساق نقل الأقوال المستغربة المضطربة الدالة على عدم ثبات آراء أصحابها، فهو من الحكاية لما كانوا يعدون به فهو حكاية بالمعنى كأنه قيل: كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه حتى تأتينا البينة، وهذا تعريض بالتوبيخ بأسلوب الإخبار المستعمل في إنشاء التعجيب أو الشكاية من صلف المخبر عنه، وهو استعمال عزيز بديع وقريب منه قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] إذ عبر بصيغة يحذر وهم إنما تظاهروا بالحذر ولم يكونوا حاذرين حقا ولذلك قال الله تعالى: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا} .
فالخبر موجه لكل سامع، ومضمونه قول كان صدر من أهل الكتاب وأشتهر عنهم وعرفوا به وتقرر تعلل المشركين به لأهل الكتاب حين يدعونهم إلى اتباع اليهودية أو النصرانية فيقولوا: لم يأتنا رسول كما أتاكم قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157].
وتقرر تعلل أهل الكتاب به حين يدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، قال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183] الآية.
وشيوعه عن الفريقين قرينة على أن المراد من سياقه دمغهم بالحجة وبذلك كان التعبير بالمضارع المستقبل في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} مصادفا المحز فإنهم كانوا يقولون ذلك قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقريب من قوله تعالى في أهل الكتاب {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
(30/416)
وحاصل المعنى: أنكم كنتم تقولون لا نترك ما نحن عليه من الدين حتى تأتينا البينة، أي العلامة التي وعدنا بها.
وقد جعل ذلك تمهيدا وتوطئة لقوله بعده {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} الخ.
وإذ اتضح موقع هذه الآية وانقشع أشكالها فلننتقل إلى تفسير ألفاظ الآية.
فالانفكاك: الإقلاع، وهو مطاوع فكه إذا فصله وفرقه ويستعار لمعنى أقلع عنه ومتعلق {مُنْفَكِّينَ} محذوف دل عليه وصف المتحدث عنهم بصلة {الَّذِينَ كَفَرُوا} والتقدير: منفكين عن كفرهم وتاركين له، سواء كان كفرهم إشراكا بالله مثل كفر المشركين أو كان كفرا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا القول صادر من اليهود الذين في المدينة والقرى التي حولها ويتلقفه المشركون بمكة الذين لم ينقطعوا عن الاتصال بأهل الكتاب منذ ظهرت دعوة الإسلام يستفتونهم في ابتكار مخلص يتسللون به عن ملام من يلومهم على الإعراض عن الإسلام، وكذلك المشركون الذين حول المدينة من الأعراب مثل جهينة وغطفان، ومن أفراد المنتصرين بمكة أو بالمدينة.
وقد حكى الله عن اليهود أنهم قالوا {إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران: 183]، وقال عنهم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]. وحكى عن النصارى بقوله تعالى حكاية عن عيسى {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]. وقال عن الفريقين {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وحكى عن المشركين بقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وقولهم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الانبياء: 5].
ولم يختلف أهل الكتابين في أنهم أخذ عليهم العهد بانتظار نبي ينصر الدين الحق وجعلت علاماته دلائل تظهر من دعوته كقول التوراة في سفر التثنية أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه. ثم قولها فيه وأما النبي الذي يطغى فيتكلم كلاما لم أوصه أن يتكلم به فيموت ذلك النبي وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو
(30/417)
الكلام الذي لم يتكلم به الرب الإصحاح الثامن عشر. وقول الإنجيل وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزيا آخر لينكف معكم إلى الأبد أي شريعته لأن ذات النبي لا تمكث إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يرى ولا يعرفه يوحنا الإصحاح الرابع عشر الفقرة 6 وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم بكل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم يوحنا الإصحاح الرابع عشر فقره 26.
وقوله ويقوم أنبياء كذبة كثيرون، أي بعد عيسى ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى أي يبقى إلى انقراض الدنيا وهو مؤول في بقاء دينه إذ لا يبقى أحد إلى انقراض الدنيا فهذا يخلص ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى، أي نهاية الدنيا متى الإصحاح الرابع والعشرون، أي فهو خاتم الرسل كما هو بين.
وكان أحبارهم قد أساءوا التأويل للبشارات الواردة في كتبهم بالرسول المقفي وأدخلوا علامات يعرفون بها الرسول صلى الله عليه وسلم الموعود به هي من المخترعات الموهومة فبقي من خلفهم ينتظرون تلك المخترعات فإذا لم يجدوها كذبوا المبعوث إليهم.
و { البينة} : الحجة الواضحة والعلامة على الصدق وهو اسم منقول من الوصف جرى على التأنيث لأنه مؤول بالشهادة أو الآية.
ولعل إيثار التعبير بها هنا لأنها أحسن ما تترجم به العبارة الواقعة في كتب أهل الكتاب مما يحوم حول معنى الشهادة الواضحة لكل متبصر كما وقع في إنجيل متى لفظ شهادة لجميع الأمم، ولعل التزام هذه الكلمة هنا مرتين كان لهذه الخصوصية وقد ذكرت مع ذكر الصحف الأولى في قوله: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه:133].
والظاهر أن التعريف في {البينة} تعريف العهد الذهني، وهو أن يراد معهود بنوعه لا بشخصه كقولهم: ادخل السوق، لا يريدون سوقا معينة بل ما يوجد فيه ماهية سوق، ومنه قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
ولذلك قال علماء البلاغة: إن المعرف بهذه اللام هو في المعنى نكرة فكأنه قيل حتى تأتيهم بينة.
(30/418)
ويجوز أن يكون التعريف لمعهود عند المخبر عنهم، أي البينة التي هي وصايا أنبيائهم فهي معهودة عند كل فريق منهم وإن اختلفوا في تخيلها وابتعدوا في توهمها بما تمليه عليه تخيلاتهم واختلاقهم.
وأوثرت كلمة {البينة} لأنها تعبر عن المعنى الوارد في كلامهم ولذلك نرى مادتها متكررة في آيات كثيرة من القرآن في هذا الغرض كما في قوله: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه:133]. وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6] وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109]، وقال عن القرآن {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
و {من} في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية بيان للذين كفروا.
وإنما قدم أهل الكتاب على المشركين هنا مع أن كفر المشركين أشد من كفر أهل الكتاب لأن لأهل الكتاب السبق في هذا المقام فهم الذين بثوا بين المشركين شبهة انطباق البينة الموصوفة بينهم فأيدوا المشركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلمبما هو أتقن من ترهات المشركين إذ كان المشركون أميين لا يعلمون شيئا من أحوال الرسل والشرائع، فلما صدمتهم الدعوة المحمدية فزعوا إلى اليهود ليتلقوا منهم ما يردون به تلك الدعوة وخاصة بعدما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فالمقصود بالإبطال ابتداء هو دعوى أهل الكتاب، وأما المشركون فتبع لهم.
واعلم أنه يجوز أن يكون الكلام انتهى عند قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، فيكون الوقف هناك ويكون قوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} إلى آخرها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو قول الفراء، أي هي رسول من الله، يعني لأن ما في البينة من الإبهام يثير سؤال سائل عن صفة هذه البينة، وهي جملة معترضة بين جملة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .... مُنْفَكِّينَ} إلى آخرها وبين جملة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4].
ويجوز أن يكون {رسول} بدلا من {البينة} فيقتضي أن يكون من تمام لفظ {بينة} فيكون من حكاية ما زعموه. أريد إبطال معاذيرهم وإقامة الحجة عليهم بأن البينة التي ينتظرونها قد حلت ولكنهم لا يتدبرون أو لا ينصفون أو لا يفقهون، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89].
وتنكير {رسول} للنوعية المراد منها تيسير ما يستصعب كتنكير قوله تعالى: {أَيَّاماً
(30/419)
مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وقول { المص، كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1-2].
وفي هذا التبيين إبطال لمعاذيرهم كأنه قيل: فقد جاءتكم البينة، على حد قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]، وهو يفيد أن البينة هي الرسول وذلك مثل قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: 10-11].
فأسلوب هذا الرد مثل أسلوب قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً، وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} [الاسراء:90-94].
وفي هذا تذكير بغلطهم فإن كتبهم ما وعدت إلا بمجيء رسول معه شريعة وكتاب مصدق لما بين يديه وذلك مما يندرج في قولة التوراة وأجعل كلامي في فمه.
وقول الإنجيل ويذكركم بكل ما قلته لكم كما تقدم آنفا، وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] لأن التوراة والإنجيل لم يصفا النبي الموعود به إلا بأنه مثل موسى أو مثل عيسى، أي في أنه رسول يوحي الله إليه بشريعة، وأنه يبلغ عن الله وينطق بوحيه، وأن علامته هو الصدق كما تقدم آنفا. قال حجة الإسلام في كتاب المنقذ من الضلال إن مجموع الأخلاق الفاضلة كان بالغا في نبينا إلى حد الإعجاز وأن معجزاته كانت غاية في الظهور والكثرة.
و {من الله} متعلق ب {رسول} ولم يسلك طريق الإضافة ليتأتى تنوين {رسول} فيشعر بتعظيم هذا الرسول.
وجملة {يَتْلُو صُحُفاً} الخ صفة ثانية أو حال، وهي إدماج بالثناء على القرآن إذ الظاهر أن الرسول الموعود به في كتبهم لم يوصف بأنه يتلو صحفا مطهرة.
والتلاوة: إعادة الكلام دون زيادة عليه ولا نقص منه سواء كان كلاما مكتوبا أو محفوظا عن ظهر قلب، ففعل {يتلو} مؤذن بأنه يقرأ عليهم كلاما لا تبدل ألفاظه وهو الوحي المنزل عليه.
(30/420)
والصحف: الأوراق والقراطيس التي تجعل لأن يكتب فيها، وتكون من رق أو جلد، أو من خرق. وتسمية ما يتلوه الرسول {صُحُفاً} مجاز بعلاقة الأيلولة لأنه مأمور بكتابته فهو عند تلاوته سيكون صحفا، فهذا المجاز كقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36]. وهذا إشارة إلى أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن في الصحف وما يشبه الصحف من أكتاف الشاء والخرق والحجارة، وأن الوحي المنزل على الرسول سمي كتابا في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] لأجل هذا المعنى.
وتعدية فعل {يتلو} إلى {صُحُفاً} مجاز مرسل مشهور ساوى الحقيقة قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48]، وهو باعتبار كون المتلو مكتوبا، وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم القرآن عن ظهر قلب ولا يقرأه من صحف فمعنى {يَتْلُو صُحُفاً} يتلو ما هو مكتوب في صحف والقرينة ظاهرة وهي اشتهار كونه صلى الله عليه وسلم أميا.
ووصف الصحف ب {مطهرة} وهو وصف مشتق من الطهارة المجازية، أي كون معانيه لا لبس فيها ولا تشتمل على ما فيه تضليل، وهذا تعريض ببعض ما في أيدي أهل الكتاب من التحريف والأوهام.
ووصف الصحف التي يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن فيها كتبا، والكتب: جمع كتاب، وهو فعال اسم بمعنى المكتوب، فمعنى كون الكتب كائنة في الصحف أن الصحف التي يكتب فيها القرآن تشتمل على القرآن وهو يشتمل على ما تضمنته كتب الرسل السابقين مما هو خالص من التحريف والباطل، وهذا كما قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] وقال {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] ، فالقرآن زبدة ما في الكتب الأولى ومجمع ثمرتها، فأطلق على ثمرة الكتب اسم كتب على وجه مجاز الجزئية.
والمراد بالكتب أجزاء القرآن أو سورة فهي بمثابة الكتب.
والقيمة: المستقيمة، أي شديدة القيام الذي هو هنا مجاز في الكمال والصواب وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها بالقائم لاستعداده للعمل النافع، وضده العوج قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1]، أي لم يجعل فيه نقص الباطل والخطأ، فالقيمة مبالغة في القائم مثل السيد للسائد والميت للمائت.
(30/421)
وتأنيث الوصف لاعتبار كونه وصفا لجمع.
[4] {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} .
ارتقاء في الإبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلال لما ينافي ثبوت المدلول، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى، ولذلك أظهر فاعل {تفرق} ولم يقل: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، إذ لو أضمر لتوهمت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير، بعد أن أبطل زعمهم بقوله: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُطَهَّرَةً} [البينة:2] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالا مشوبا بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية.
فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالا على إبطال، ويجوز أن تكون واو الحال.
والمعنى: كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيا بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث ملتين اليهودية والنصرانية.
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثال إلياس واليسع وأشعياء. وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص، فلما جاءهم عيسى كذبوه، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة.
والمراد بالتفرق: تفرق بين إسرائيل بين مكذب لعيسى ومؤمن به وما أمن به إلا نفر قليل من اليهود.
وجعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافا في تصديق بينة عيسى عليه السلام، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مذمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].
فالتعريف في {البينة} المذكورة ثانيا يجوز أن يكون للعهد الذهني، أو للمعهود بين
(30/422)
المتحدث عنهم، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعروف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفة مثلها، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها.
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإسلام، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإسلام حاصل منهم ومن المشركين، وجعلوا المراد ب {البينة} الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم، سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبئ عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين تى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل {البينة} الأولى، إذ قال: المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى الله عليه وسلم، أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة، فهي عادة قديمة لهم ، وهو معارض لأول كلامه، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة.
[5] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} .
هذا إبطال ثالث لتنصلهم من متابعة الإسلام بعلة أنهم لا يتركون ما هم عليه حتى تأتيهم البينة وزعمهم أن البينة لم تأتهم.
وهو إبطال بطريق القول بالموجب في الجدل، أي إذا سلمنا أنكم موصون بالتمسك بما أنتم عليه لا تنفكون عنه حتى تأتيكم البينة، فليس في الإسلام ما ينافي ما جاء به كتابكم يأمر بما أمر به القرآن، وهو عبادة الله وحده دون إشراك، وذلك هو الحنيفية وهي دين إبراهيم الذي أخذ عليهم العهد به، فذلك دين الإسلام وذلك ما أمرتهم به في دينكم.
فلك أن تجعل الواو عاطفة على جملة {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4]. الخ.
(30/423)
ولك أن تجعل الواو للحال فتكون الجملة حالا من الضمير في قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1]. والمعنى: والحال أن البينة قد أتتهم إذ جاء الإسلام بما صدق قول الله تعالى لموسى عليه السلام أقيم لهم نبيئا من وسط إخوتهم وأجعل كلامي في فمه ، وقول عيسى عليه السلام فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.
والتعبير بالفعل المسند للمجهول مفيد معنيين، أي ما أمروا في كتابهم إلا بما جاء به الإسلام. فالمعنى: وما أمروا في التوراة والإنجيل إلا أن يعبدوا الله مخلصين إلى آخره، فإن التوراة أكدت على اليهود تجنب عبادة الأصنام، وأمرت بالصلاة، وأمرت بالزكاة أمرا مؤكدا مكررا. وتلك هي أصول دين الإسلام قبل أن يفرض صوم رمضان والحج، والإنجيل لم يخالف التوراة أو المعنى وما أمروا في الإسلام إلا بمثل ما أمرهم به كتابهم، فلا معذرة لهم في الإعراض عن الإسلام على كلا التقديرين.
ونائب فاعل {أمروا} محذوف للعموم، أي ما أمروا بشيء إلا بأن يعبدوا الله.
واللام في قوله: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} هي اللام التي تكثر زيادتها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر وتقدم ذكرها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في [سورة النساء: 26] وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في [سورة الأنعام: 71]، وسماها بعض النحاة لام {أن}.
والاخلاص: التصفية والإنقاء، أي غير مشاركين في عبادته معه غيره.
والدين: الطاعة قال تعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
وحنفاء: جمع حنيف، وهو لقب للذي يؤمن بالله وحده دون شريك قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161].
وهذا الوصف تأكيد لمعنى {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} مع التذكير بأن ذلك هو دين إبراهيم عليه السلام الذي ملئت التوراة بتمجيده واتباع هديه.
وإقامة الصلاة من أصول شريعة التوراة كل صباح ومساء.
وإيتاء الزكاة: مفروض في التوراة فرضا مؤكدا.
واسم الإشارة في قوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} متوجه إلى ما بعد حرف الاستثناء فإنه مقترن باللام المسماة لام أن المصدرية فهو في تأويل مفرد، أي إلا بعبادة الله وإقامة
(30/424)
الصلاة وإيتاء الزكاة، أي والمذكور دين القيمة.
و {دِينُ الْقَيِّمَةِ} يجوز أن تكون إضافة على بابها فتكون {القيمة} مرادا به غير المراد بدين مما هو مؤنث اللفظ مما يضاف إليه دين أي دين الأمة القيمة أو دين الكتب القيمة. ويرجح هذا التقدير أن دليل المقدر موجود في اللفظ قبله. وهذا إلزام لهم بأحقية الإسلام وأنه الدين القيم قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:30-31].
ويجوز أن تكون الإضافة صورية من إضافة الموصوف إلى الصفة وهي كثيرة الاستعمال، وأصله الدين القيم، فأنث الوصف على تأويل دين بملة أو شريعة، أو على أن التاء للمبالغة في الوصف مثل تاء علامة والمآل واحد، وعلى كلا التقديرين فالمراد بدين القيمة دين الإسلام.
والقيمة: الشديدة الاستقامة وقد تقدم آنفا.
فالمعنى: وذلك المذكور هو دين أهل الحق من الأنبياء وصالحي الأمم وهو عين ما جاء به الإسلام قال تعالى: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] وقال عنه وعن إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128]. وحكى عنه وعن يعقوب قولهما {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]، وقال سليمان {وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].
وقد مضى القول في ذلك عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في [سورة البقرة: 132].
والإشارة بذلك إلى الذي أمروا به أي مجموع ما ذكر هو دين الإسلام، أي هو الذي دعاهم إليه الإسلام فحسبوه نقضا لدينهم، فيكون مهيع الآية مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة: 59].
والمقصود إقامة الحجة على أهل الكتاب وعلى المشركين تبعا لهم بأنهم أعرضوا
(30/425)
عما هم يتطلبونه فإنهم جميعا مقرون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقل منهم من تهودوا أو تنصروا، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وأمية بن أبي الصلت.
وخص الضمير ب"أهل الكتاب" لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإسلام قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص: 46].
[6] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} .
بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معا خص أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها، أعقبه بوعيد الفريقين جمع بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة.
فالجملة استئناف ابتدائي، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعا لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة، ولأن معظم الرد كان موجها إلى أحوالهم في قوله: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 4-5]، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك.
و {من} بيانية مثل التي في قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1].
وتأكيد الخبر ب {إن} للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودة، فإن الظرفية التي اقتضتها {في} تفيد أنهم غير خارجين منها، وتأكد ذلك بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأسا.
والإخبار عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول: زيد في نعمة.
(30/426)
وجملة {أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} كالنتيجة لكونهم في نار جهنم خالدين فيها فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها وهو إخبار بسوء عاقبتهم في الآخرة وأريد بالبريئة هنا البريئة المشهورة في الاستعمال وهم البشر، فلا اعتبار للشياطين في هذا الاسم وهذا يشبه الاستغراق العرفي.
والبريئة: فعلية من برأ الله الخلق، أي صورهم.
ومعنى كونهم {شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أنهم أشد الناس شرا، ف {شر} هنا أفعل تفضيل أصله أشر مثل خير الذي هو بمعنى أخير، فإضافة {شر} إلى {الْبَرِيَّةِ} على نية {من} التفضيلية.
وإنما كانوا كذلك لأنهم ضلوا بعد تلبسهم بأسباب الهدى، فأما أهل الكتاب فلأن لديهم كتابا فيه هدى ونور فعدلوا عنه، وأما المشركون فلأنهم كانوا على الحنيفية فأدخلوا فيها عبادة الأصنام ثم إنهم أصروا على دينهم بعد ما شاهدوا من دلائل صدق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به القرآن من الإعجاز والإنباء بما في كتب أهل الكتاب، وذلك مما لم يشاركهم فيه غيرهم فقد اجتنوا لأنفسهم الشر من حيث كانوا أهلا لنوال الخير فحسرتهم على أنفسهم يوم القيامة أشد من حسرة من عداهم فكان الفريقان شرا من الوثنيين والزنادقة في استحقاق العقاب لا فيما يرجى منهم من الاقتراب.
وأقحم اسم الإشارة بين اسم {إن} وخيرها للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة كما في قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]. وتوسيط ضمير الفصل لإفادة اختصاصهم بكونهم شر البرية لا يشاركهم في ذلك غيرهم من فرق أهل الكفر لما علمت آنفا. ولا يرد أن الشياطين أشد شرا منهم لما علمت أن اسم البريئة أعتبر إطلاقه على البشر.
و {الْبَرِيَّةِ} قرأه نافع وحده وابن ذكوان عن أبن عامر بهمز بعد الياء فعيلة من برأ الله، إذا خلق.
وقرأه بقية العشرة بياء تحتية مشددة دون همز على تسهيل الهمزة بعد الكسرة ياء وإدغام الياء الأولى في الياء الثانية تخفيفا.
وإثبات الهمزة لغة أهل الحجاز، والتخفيف لغة بقية العرب، كما تركوا الهمز في الدرية والنبي. قال سيبويه: ليس أحد من العرب إلا ويقول: تنبأ مسيلمة بالهمز غير أنهم
(30/427)
تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الدرية والبرية إلا أهل مكة فإنهم يهمزونها ويخالفون العرب في ذلك.
[7-8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} .
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} .
قوبل حال الكفرة من أهل الكتاب وحال المشركين بحال الذين منوا بعد أن أشير إليهم بقوله: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، استيعابا لأحوال الفرق في الدنيا والآخرة وجريا على عادة القرآن في تعقيب نذارة المنذرين ببشارة المطمئنين وما ترتب على ذلك من الثناء عليهم، وقدم الثناء عليهم على بشارتهم على عكس نظم الكلام المتقدم في ضدهم ليكون ذكر وعدهم كالشكر لهم على إيمانهم وأعمالهم فإن الله شكور.
والجملة استئناف بياني ناشئ عن تكرر ذكر الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن ذلك يثير في نفوس الذين آمنوا من أهل الكتاب والمشركين تساؤلا عن حالهم لعل تأخر إيمانهم إلى ما بعد نزول الآيات في التنديد عليهم يجعلهم في انحطاط درجة، فجاءت هذه الآية مبينة أن من آمن منهم هو معدود في خير البريئة.
والقول في اسم الإشارة ، وضمير الفصل والقصر وهمزة البريئة كالقول في نظيره المتقدم.
واسم الإشارة والجملة المخبر بها عنه جميعها خبر عن اسم {إن} .
وجملة {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} إلى آخرها مبينة لجملة {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} .
و {عِنْدَ رَبِّهِمْ} ظرف وقع اعتراضا بين {جَزَاؤُهُمْ} ، وبين {جَنَّاتُ عَدْنٍ} للتنويه بعظم الجزاء بأنه مدخر لهم عند ربهم تكرمة لهم لما في {عند} من الإيماء إلى الحظوة والعناية، وما في لفظ ربهم من الإيماء إلى إجزال الجزاء بما يناسب عظم المضاف إليه {عند} ، وما يناسب شأن من يرب أن يبلغ بمربوبه عظيم الإحسان.
(30/428)
وإضافة: {جنات} إلى {عدن} لإفادة أنها مسكنهم لأن العدن الإقامة، أي ليس جزاؤهم تنزها في الجنات بل أقوى من ذلك بالإقامة فيها.
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} بشارة بأنها مسكنهم الخالد.
ووصف الجنات ب {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لبيان منتهى حسنها.
وجري النهر مستعار لانتقال السيل تشبيها لسرعة انتقال الماء بسرعة المشي.
والنهر: أخدود عظيم في الأرض يسيل فيه الماء فلا يطلق إلا على مجموع الأخدود ومائه. وإسناد الجري إلى الأنهار توسع في الكلام لأن الذي يجري هو ماؤها وهو المعتبر في ماهية النهر.
وجعل جزاء الجماعة جمع الجنات فيجوز أن يكون على وجه التوزيع، أي لكل واحد جنة كقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة:19] وقولك: ركب القوم دوابهم، ويجوز أن يكون لكل أحد جنات متعددة والفضل لا ينحسر قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
وجملة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} حال من ضمير {خَالِدِينَ} ، أي خالدين خلودا مقارنا لرضى الله عنهم، فهم في مدة خلودهم فيها محفوفون بآثار رضا الله عنهم، وذلك أعظم مراتب الكرامة قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] ورضا الله تعلق إحسانه وإكرامه لعبده.
وأما الرضى في قوله: {وَرَضُوا عَنْهُ} فهو كناية عن كونهم نالهم من إحسان الله ما لا مطلب لهم فوقه كقول أبي بكر في حديث الغار "فشرب حتى رضيت" وقول مخرمة حين أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء "رضي مخرمة". وزاده حسن وقع هنا ما فيه من المشاكلة.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}
تذييل آت على ما تقدم من الوعد للذين آمنوا والوعيد للذين كفروا بين به سبب العطاء وسب الحرمان وهو خشية الله تعالى بمنطوق الصلة ومفهومها.
والإشارة إلى الجزاء المذكور في قوله: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} يعني أن السبب الذي أنالهم ذلك الجزاء هو خشيتهم الله فإنهم لما خشوا الله توقعوا غضبه إذا لم يصغوا إلى من
(30/429)
يقول لهم: إني رسول الله إليكم، فأقبلوا على النظر في دلائل صدق الرسول فاهتدوا وآمنوا، وأما الذين آثروا حظوظ الدنيا فأعرضوا عن دعوة رسول من عند الله ولم يتوقعوا غضب مرسله فبقوا في ضلالهم.
فما صدق "من خشي ربه" هم المؤمنون، واللام للملك، أي ذلك الجزاء للمؤمنين الذين خشوا ربهم فإذا كان ذلك ملكا لهم لم يكن شيء منه ملكا لغيرهم فأفاد حرمان الكفرة المتقدم ذكرهم وتم التذييل.
وفي ذكر الرب هنا دون أن يقال: ذلك لمن خشي الله، تعريض بأن الكفار لم يرعوا حق الربوبية إذا لم يخشوا ربهم فهم عبيد سوء.
(30/430)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ} روى الواحدي في "أسباب النزول" عن عبد الله بن عمرو: "نزلت إذا زلزلت وأبو بكر قاعد فبكى" الحديث1 وفي حديث أنس بن مالك مرفوعا عند الترمذي {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن، وكذلك عنونها البخاري والترمذي.
وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير "سورة الزلزال".
وسميت في مصحف بخط كوفي قديم من مصاحف القيروان "زلزلت" وكذلك سماها في "الإتقان" في السور المختلف في مكان نزولها، وكذلك تسميتها في "تفسير ابن عطية"، ولم يعدها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من أسم فكأنه لم ير هذه ألقابا لها بل جعلها حكاية بعض ألفاظها ولكن تسميتها سورة الزلزلة تسمية بالمعنى لا بحكاية بعض كلماتها.
واختلف فيها فقال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعطاء والضحاك هي مكية. وقال قتادة ومقاتل: مدنية ونسب إلى ابن عباس أيضا. والأصح أنها مكية واقتصر عليه البغوي وابن كثير ومحمد بن الحسن النيسابوري في تفاسيرهم. وذكر القرطبي عن جابر أنها مكية ولعله يعني: جابر بن عبد الله الصحابي لأن المعروف عن جابر بن زيد أنها مدنية فإنها معدودة في نول السور المدنية فيما روي عن جابر بن زيد. وقال ابن عطية: آخرها وهو {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] الآية نزل في رجلين كانا بالمدينة
ـــــــ
1 تمامه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مايبكيك يا أبابكر؟" فقال: أبكاني هذه السورة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم لا تخطئون ولا تذنبون لخلق الله أمة بعدكم يخطئون ويذنبون ويستغفرون فيغفر لهم" .
(30/431)
اهـ. وستعلم أنه لا دلالة فيه على ذلك.
وقد عدت الرابعة والتسعين في عداد نزول السور فيما روي عن جابر بن زيد ونظمه الجعبري وهو بناء على أنها مدنية جعلها بعد سورة النساء وقبل سورة الحديد.
وعدد آيها تسع عند جمهور أهل العدد، وعدها أهل الكوفة ثماني للاختلاف في أن قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] آيتان أو آية واحدة.
أغراضها
إثبات البعث وذكر أشراطه وما يعتري الناس عند حدوثها من الفزع.
وحضور الناس للحشر وجزائهم على أعمالهم من خير أو شر وهو تحريض على فعل الخير واجتناب الشر.
[1-6] {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} .
افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف تشويق إلى متعلق الظرف إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم بل الإخبار عن وقوع ذلك وهو البعث، ثم الجزاء، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطه فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت.
ومعنى {زُلْزِلَتِ} : حركت تحريكا شديدا حتى يخيل للناس أنها خرجت من حيزها لأن فعل زلزل مأخوذ من الزلل وهو زلق الرجلين، فلما عنوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل للدلالة بالتضعيف على شدة الفعل كما قالوا: كبكبه، أي كبه ولملم بالمكان من اللم.
والزلزال: بكسر الزاي الأولى مصدر زلزل، وأما الزلزال بفتح الزاي فهو اسم مصدر كالوسواس والقلقال. وتقدم الكلام على الزلزال في سورة الحج.
وإنما بني فعل {زُلْزِلَتِ} بصيغة النائب عن الفاعل لأنه معلوم فاعله وهو الله تعالى.
وانتصب {زِلْزَالَهَا} على المفعول المطلق المؤكد لفعله إشارة إلى هول ذلك الزلزال
(30/432)
فالمعنى: إذا زلزلت الأرض زلزالا.
وأضيف {زِلْزَالَهَا} إلى ضمير الأرض لإفادة تمكنه منها وتكرره حتى كأنه عرف بنسبته إليها لكثرة اتصاله بها كقول النابغة:
أسائلتي سفاهتها وجهلا ... على الهجران أخت بني شهاب
أي سفاهة لها، أي هي معرفة بها، وقول أبي خالد القناني:
والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
يريد إيثارا عرفت به واختصصت به. وفي كتب السيرة أن من كلام خطر بن مالك الكاهن يذكر شيطانه حين رجم "بلبله بلباله" أي بلبال متمكن منه. وإعادة لفظ الأرض في قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} إظهار في مقام الإضمار لقصد التهويل.
والأثقال: جمع ثقل بكسر المثلثة وسكون القاف وهو المتاع الثقيل، ويطلق على المتاع النفيس.
وإخراج الأرض أثقالها ناشئ عن انشقاق سطحها فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر.
وذلك من تكرر الانفجارات الناشئة عن اضطراب داخل طبقاتها وانقلاب أعاليها أسافل والعكس.
والتعريف في {الإِنسَانُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي وقال الناس ما لها، أي الناس الذين هم أحياء ففزعوا وقال بعضهم لبعض، أو قال كل أحد في نفسه حتى استوى في ذلك الجبان والشجاع، والطائش والحكيم، لأنه زلزال تجاوز الحد الذي يصبر على مثله الصبور.
وقول {مَا لَهَا} استفهام عن الشيء الذي ثبت للأرض ولزمها لأن اللام تفيد الاختصاص، أي ما للأرض في هذا الزلزال، أو ما لها زلزلت هذا الزلزال، أي ماذا ستكون عاقبته. نزلت الأرض منزلة قاصد مريد يتساءل الناس عن قصده من فعله حيث لم يتبين غرضه منه، وإنما يقع مثل هذا الاستفهام غالبا مردفا بما يتعلق بالاستقرار الذي في الخبر مثل أن يقال: ما له يفعل كذا، أو ما له في فعل كذا، أو ما له وفلانا، أي معه، فلذلك وجب أن يكون هنا مقدر، أي ما لها زلزلت، أو ما لها في هذا الزلزال، أو ما لها
(30/433)
وإخراج أثقالها.
وجملة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} الخ جواب {إذا} باعتبار ما أبدل منها من قوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} فيومئذ بدل من {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} .
واليوم يطلق على النهار مع ليله فيكون الزلزال نهارا وتتبعه حوادث في الليل مع انكدار النجوم وانتشارها وقد يراد باليوم مطلق الزمان.
و {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} هو العامل في {يَوْمَئِذٍ} وفي البدل، والتقدير يوم إذ تزلزل الأرض وتخرج أثقالها ويقول الناس: ما لها تحدث أخبارها الخ.
و {أَخْبَارَهَا} مفعول ثان لفعل {تُحَدِّثُ} لأنه مما ألحق بظن لإفادة الخبر علما، وحذف مفعوله الأول لظهوره، أي تحدث الإنسان لأن الغرض من الكلام هو إخبارها لما فيه من التهويل.
وضمير {تُحَدِّثُ} عائد إلى {الأَرْضُ} .
والتحديث حقيقته: أن يصدر كلام بخبر عن حدث. وورد في حديث الترمذي عن أبي هريرة قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: "أتدرون ما أخبارها?" قالوا: الله ورسوله أعلم قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عمل يوم كذا وكذا فهذه أخبارها" اهـ.
وجمع {أَخْبَارَهَا} باعتبار تعدد دلالتها على عدد القائلين {مَا لَهَا} وإنما هو خبر واحد وهو المبين بقوله: {بأن ربك أوحى لها} .
وانتصب {أَخْبَارَهَا} على نزع الخافض وهو باء تعدية فعل {تُحَدِّثُ} .
وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} يجوز أن يتعلق بفعل {تُحَدِّثُ} والباء للسببية، أي تحدث أخبارها بسبب أن الله أمرها أن تحدث أخبارها.
ويجوز أن يكون بدلا من {أَخْبَارَهَا} وأظهرت الباء في البدل لتوكيد تعدية فعل {تُحَدِّثُ} إليه، وعلى كلا الوجهين قد أجملت أخبارها وبينها الحديث السابق.
وأطلق الوحي على أمر التكوين، أي أوجد فيها أسباب إخراج أثقالها فكأنه أسر إليها بكلام كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل:68] الآيات.
(30/434)
وعدي فعل {أَوْحَى} باللام لتضمين {أَوْحَى} معنى قال كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت:11]، وإلا فإن حق {أَوْحَى} أن يتعدى بحرف {إلى} .
والقول المضمن هو قول التكوين قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
وإنما عدل عن فعل: قال لها إلى فعل {أَوْحَى لَهَا} لأنه حكاية عن تكوين لا عن قول لفظي.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} بدل من جملة {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} والجواب هو فعل و {يَصْدُرُ النَّاسُ} وقوله: {يَوْمَئِذٍ} يتعلق به، وقدم على متعلقه للاهتمام. وهذا الجواب هو المقصود من الكلام لأن الكلام مسوق لإثبات الحشر والتذكير به والتحذير من أهواله فإنه عند حصوله يعلم الناس أن الزلزال كان إنذارا بهذا الحشر.
وحقيقة {يَصْدُرُ النَّاسُ} الخروج من محل اجتماعهم، يقال: صدر عن المكان، إذا تركه وخرج منه صدورا وصدرا بالتحريك. ومنه الصدر عن الماء بعد الورد، فأطلق هنا فعل {يَصْدُرُ} على خروج الناس إلى الحشر جماعات، أو انصرافهم من المحشر إلى مأواهم من الجنة أو النار، تشبيها بانصراف الناس عن الماء بعد الورد.
وأشتات: جمع شت بفتح الشين وتشديد الفوقية وهو المتفرق، والمراد: يصدرون متفرقين جماعات كل إلى جهة بحسب أعمالهم وما عين لهم من منازلهم.
وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة: انظروا أعمالكم ، أو انظروا مآلكم.
وبني فعل {لِيُرَوْا} إلى النائب لأن المقصود رؤيتهم أعمالهم لا تعيين من يريهم إياها. وقد أجمع القراء على ضم التحتية.
فالرؤية مستعملة في رؤية البصر والمرئي هو منازل الجزاء، ويجوز أن تكون الرؤية مستعملة في العلم بجزاء الأعمال فإن الأعمال لا ترى ولكن يظهر لأهلها جزاؤها.
(30/435)
[7-8] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} .
تفريع على قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6] تفريع الفذلكة، انتقالا للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء، والتفريع قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتا.
والمثقال: ما يعرف به ثقل الشيء، وهو ما يقدر به الوزن وهو كميزان زنة ومعنى.
والذرة: النملة الصغيرة في ابتداء حياتها.
و {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مثل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإيمان قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39].
وإنما أعيد قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ} دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإطناب.
وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لثلاثة" الحديث. فسئل عن الحمر فقال: "لم ينزل علي فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} " . وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: هذه أحكم آية في القرآن، وقال الحسن: قدم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئ النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صعصعة: حسبي فقد انتهت الموعظة لأبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها. وقال كعب الأحبار لقد أنزل على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} .
وإذ قد كان الكلام مسوقا للترغيب والترهيب معا أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويها بأهل الخير.
(30/436)
وفي "الكشاف": يحكى أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل قدمت وأخرت فقال:
خذا بطن هرشي أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشي لهن طريق اه.
وقد غفل هذا الإعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير.
روى الواحدي عن مقاتل: أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما.
ومن أجل هذه الرواية قال جمع: إن السورة مدنية، ولو صح هذا الخبر لما كان مقتضيا أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهدا يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة.
(30/437)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العاديات
سميت في المصاحف القيروانية العتيقة والتونسية والمشرقية "سورة العاديات" بدون واو، وكذلك في بعض التفاسير فهي تسمية لما ذكر فيها دون حكاية لفظه. وسميت في بعض كتب التفسير "سورة والعاديات" بإثبات الواو.
واختلف فيها فقال ابن مسعود وجابر بن زيد وعطاء والحسن وعكرمة: هي مكية. وقال أنس بن مالك وابن عباس وقتادة: هي مدنية.
وعدت الرابعة عشرة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد على أنها مكية نزلت بعد سورة العصر وقبل سورة الكوثر.
وآيها إحدى عشرة.
ذكر الواحدي في "أسباب النزول" عن مقاتل وعن غيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خيلا سرية إلى بني كنانة وأمر عليها المنذر بن عمرو انصاري فأسهبت أي أمعنت في سهب وهي الأرض الواسعة شهرا وتأخر خيرهم فارجف المنافقون وقالوا: قتلوا جميعا، فأخبر الله عنهم بقوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات:1] الآيات، إعلاما بأن خيلهم قد فعلت جميع ما في تلك الآيات.
وهذا الحديث قال في "الإتقان" رواه الحاكم وغيره. وقال أبن كثير: روى أبو بكر البزاز هنا حديثا غريبا جدا وساق الحديث قريبا مما للواحدي.
وأقول غرابة الحديث لا تناكد قبوله وهو مروي عن ثقات إلا أن في سنده حفص بن جميع وهو ضعيف. فالراجع أن السورة مدنية.
(30/438)
أغراضها
ذم خصال تفضي بأصحابها إلى الخسران في الآخرة، وهي خصال غالية على المشركين والمنافقين، ويراد تحذير المسلمين منها.
ووعظ الناس بأن وراءهم حسابا على أعمالهم بعد الموت ليتذكره المؤمن ويهدد به الجاحد. وأكد ذلك كله بأن افتتح بالقسم، وأدمج في القسم التنويه بخيل الغزاة أو رواحل الحجيج.
[1-8] {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا، فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} .
أقسم الله ب {الْعَادِيَاتِ} جمع العادية، وهو اسم فاعل من العدو وهو السير السريع يطلق على سير الخيل والإبل خاصة.
وقد يوصف به سير الإنسان وأحسب أنه على التشبيه بالخيل ومنه عداءو العرب، وهم أربعة: السليك بن السلكة، والشنفري، وتأبط شرا، وعمرو بن أمية الضمري. يضرب بهم المثل في العدو.
وتأنيث هذا الوصف هنا لأنه من صفات ما لا يعقل.
والضبح: اضطراب النفس المتردد في الحنجرة دون أن يخرج من الفم وهو من أصوات الخيل والسباع. وعن عطاء: سمعت ابن عباس يصف الضبح أح أح.
وعن ابن عباس ليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وهذا قول أهل اللغة واقتصر عليه في "القاموس". روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس قال: بينما أنا جالس في الحجر جاءني رجل فسألني عن {الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي ابن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم فسأله عنها، فقال: سألت عنها أحد قبلي? قال : نعم، سألت ابن عباس فقال: الخيل تغزو في سبيل الله، قال اذهب فادعه لي، فلما وقفت عند رأسه، قال: تفتي الناس بما لا علم لك به والله لكانت أول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد فكيف تكون
(30/439)
العاديات ضبحا، إنما العاديات ضبحا الإبل من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى يعني بذلك أن السورة مكية قبل ابتداء الغزو الذي أوله غزوة بدر قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي.
وليس في قول علي رضي الله عنه تصريح بأنها مكية ولا مدنية وبمثل ما قال علي قال ابن مسعود وإبراهيم ومجاهد وعبيد بن عمير.
والضبح لا يطلق على صوت الإبل في قول أهل اللغة. فإذا حمل {الْعَادِيَاتِ} على أنها الإبل، فقال المبرد وبعض أهل اللغة: من جعلها للإبل جعل {ضَبْحًا} بمعنى ضبعا، يقال: ضبحت الناقة في سيرها وضبعت، إذا مدت ضبعيهات في السير وقال أبو عبيدة: ضبحت الخيل وضبعت، إذا عدت وهو أن يمد الفرس ضبعيه إذا عدا، أي فالضبح لغة في الضبع وهو من قلب العين حاء. قال في الكشاف وليس بثبت. ولكن صاحب القاموس اعتمده وعلى تفسير {الْعَادِيَاتِ} بأنها الإبل يكون الضبح استعير لصوت الإبل، أي من شدة العدو قويت الأصوات المترددة في حناجرها حتى أشبهت ضبح الخيل أو أريد بالضبح الضبع على لغة الإبدال.
وانتصب {ضَبْحًا} فيجوز أن يجعل حالا من {الْعَادِيَاتِ} إذا أريد به الصوت الذي يتردد في جوفها حين العدو، أو يجعل مبينا لنوع العدو إذا كان أصله: ضبحا.
وعلى وجه أن المقسم به رواحل الحج فالقسم بها لتعظيمها بنا تعين به على مناسك الحج. واختير القسم بها لأن السامعين يوقنون أن ما يقسم عليه بها محقق، فهي معظمة عند الجميع من المشركين والمسلمين.
والموريات: التي توري، أي توقد.
والقدح: حك جسم على آخر ليقدح نارا، يقال: قدح فأورى. وانتصب {قَدْحًا} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله. وكل من سنابك الخيل ومناسم الإبل تقدح إذا صكت الحجر الصوان نارا تسمى نار الحباحب، قال الشنفري يشبه نفسه في العدو ببعير:
إذا الأمغر الصوان لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل
وذلك كناية عن الإمعان في العدو وشدة السرعة في السير.
ويجوز أن يراد قدح النيران بالليل حين نزولهم لحاجتهم وطعامهم، وجوز أن يكون {الْمُورِيَاتِ قَدْحًا} مستعار لإثارة الحرب لأن الحرب تشبه بالنار. قال تعالى: {كُلَّمَا
(30/440)
أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64]، فيكون {قَدْحًا} ترشيحا لاستعارة {الْمُورِيَاتِ} ومنصوبا على المفعول المطلق ل {الْمُورِيَاتِ} ومنصوبا على المفعول المطلق ل {الْمُورِيَاتِ} وجوز أن يكون {قَدْحًا} بمعنى استخراج المرق من القدر في القداح لإطعام الجيش أو الركب، وهو مشتق من اسم القدح،وهو الصحفة فيكون {قَدْحًا} مصدرا منصوبا على المفعول لأجله.
والمغيرات: اسم فاعل من: أغار، والإغارة تطلق غزو الجيش دارا وهو أشهر إطلاقها فإسناد الإغارة إلى ضمير {الْعَادِيَاتِ} مجاز عقلي فإن المغيرين راكبوها ولكن الخيل أو إبل الغزو أسباب للإغارة ووسائل.
وتطلق الإغارة على الاندفاع في السير.
و {صُبْحًا} ظرف زمان فإذا فسر {المغيرات} بخيل الغزاة فتقييد ذلك بوقت الصبح لأنهم كانوا إذا غزوا لا يغيرون على القوم إلا بعد الفجر ولذلك كان منذر الحي إذا أنذر قومه بمجيء العدو نادى: يا صباحاه، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:177].
وإذا فسر {المغيرات} بالإبل المسرعات في السير، فالمراد: دفعها من مزدلفة إلى منى صباح يوم النحر وكانوا يدفعون بكرة تشرق الشمس على ثبير ومن أقوالهم في ذلك أشرق ثبير كما نغير.
"وأثرن به نقعا": أصعدن غبار من الأرض من شدة عدوهن، والإثارة: الإهاجة، والنقع: الغبار.
والباء في {به} يجوز أن تكون سببية، والضمير المجرور عائد إلى العدو المأخوذ من {الْعَادِيَاتِ} . ويجوز كون الباء ظرفية والضمير عائد إلى {صُبْحًا} ، أي أثرن في ذلك الوقت وهو وقت إغارتها.
ومعنى "وسطن": كن وسط الجمع، يقال: وسط القوم، إذا كان بينهم.
و {جَمْعًا} مفعول "وسطن" وهو اسم لجماعة الناس، أي صرن في وسط القوم المغزوون. فأما بالنسبة إلى الإبل فيتعين أن يكون قوله: {جَمْعًا} بمعنى المكان المسمى {جَمْعًا} وهو المزدلفة فيكون إشارة إلى حلول الإبل في مزدلفة قبل أن تغير صبحا منها إلى عرفة إذ ليس ثمة جماعة مستقرة في مكان تصل إليه هذه الرواحل.
(30/441)
ومن بديع النظم وإعجازه إيثار كلمات "العاديات وضبحا والموريات وقدحا، والمغيرات وصبحا، ووسطن وجمعا" دون غيرها لأنها برشاقتها تتحمل أن يكون المقسم به خيل الغزو ورواحل الحج.
وعطف هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بالفاء لأن أسلوب العرب في عطف الصفات وعطف الأمكنة أن يكون بالفاء وهي للتعقيب، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول كما في هذه الآية، وكما في قول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب1
وقد يكون لمجرد تعقيب الذكر كما في سورة الصافات.
والفاء العاطفة لقوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} عاطفة على وصف {الْمُغِيرَاتِ} . والمعطوف بها من آثار وصف المغيرات. وليست عاطفة على صفة مستقلة مثل الصفات الثلاث التي قبلها لأن إثارة النقع وتوسط الجمع من آثار الإغارة صبحا، وليس مقسما بهما أصالة وإنما القسم بالأوصاف الثلاثة الأولى.
فلذلك غير الأسلوب في قول {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} ، فجيء بهما فعلين ماضيين ولم يأتيا على نسق الأوصاف قبلهما بصيغة اسم الفاعل للإشارة إلى أن الكلام انتقل من القسم إلى الحكاية عن حصول ما ترتب على تلك الأوصاف الثلاثة ما قصد منها بالظفر المطلوب الذي لإجله كان العدو والإيراء والإغارة عقبه وهي الحلول بدار القوم الذين غزوهم إذا كان المراد ب {الْعَادِيَاتِ} الخيل، أو بلوغ تمام الحج بالدفع عن عرفة إذا كان المراد ب {الْعَادِيَاتِ} رواحل الحجيج، فإن إثارة النقع يشعرون بها عند الوصول حين تقف الخيل والإبل دفعة، فتثير أرجلها نقعا شديدا فيما بينهما، وحينئذ تتوسطن الجمع من الناس. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المراد بقوله: {جَمْعًا} اسم المزدلفة حيث المشعر الحرام.
ومناسبة القسم بهذه الموصوفات دون غيرها إن أريد رواحل الحجيج وهو الوجه الذي فسر به علي بن أبي طالب وهو أن يصدق المشركون بوقوع المقسم عليه لأن القسم بشعائر الحج لا يكون إلا بارا حيث هم لا يصدقون بأن القرآن كلام الله ويزعمونه قول
ـــــــ
1 يعني: زيابة أمه. واسمه سلمة بن ذهل التيمي. والحارث هو ابن همام الشيباني الذي هدد ابن زيابة فأجابه ابن زيابة متهكما.
(30/442)
النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن أريد ب {الْعَادِيَاتِ} وما عطف عليها خيل الغزاة، فالقسم بها لأجل التهويل والترويع لإشعار المشركين بأن غارة تترقبهم وهي غزوة بدر، مع تسكين نفس النبي صلى الله عليه وسلم من التردد في مصير السرية التي بعث بها مع المنذر بن عمرو إذا صح خبرها فيكون القسم بخصوص هذه الخيل إدماجا للاطمئنان.
وجملة {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} جواب القسم.
والكنود: وصف من أمثلة المبالغة من كند ولغات العرب مختلفة في معناه فهو في لغة مضر وربيعة: الكفور بالنعمة، وبلغة كنانة: البخيل، وفي لغة كندة وحضرموت: العاصي، والمعنى: الشديد الكفران لله.
والتعريف في {الإِنسَانَ} تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا، أي أن في طبع الإنسان الكنود لربه، أي كفران نعمته، وهذا عارض يعرض لكل إنسان على تفاوت فيه ولا يسلم منه إلا الأنبياء وكمل أهل الصلاح لأنه عارض ينشأ عن إيثار المرء نفسه وهو أمر ي الجبلة لا تدفعه إلا المراقبة لنفسية وتذكر حق غيره. وبذلك قد يذهل أو ينسى حق الله، والإنسان يحس بذلك من نفسه في خطراته، ويتوانى أو يغفل عن مقاومته لأنه يشتغل بإرضاء داعية نفسه والأنفس متفاوتة في تمكن هذا الخلق منها، والعزائم متفاوتة في استطاعة مغالبته.
وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} فلذلك كان الاستغراق عرفيا أو عاما مخصوصا، فالإنسان لا يخلو من أحوال مآلها إلى كفران النعمة، بالقول والقصد، أو بالفعل والغفلة، فالإشراك كنود، والعصيان كنود، وقلة ملاحظة صرف النعمة فيما أعطيت لأجله كنود، وهو متفاوت، فهذا خلق متأصل في الإنسان فلذلك أيقظ الله له الناس ليريضوا أنفسهم على أمانة هذا الخلق من نفوسهم كما في قوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج:19] الآية وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] وقد تقدمت قريبا.
وعن ابن عباس: تخصيص الإنسان هنا بالكافر فهو من العموم العرفي.
وروي عن أبي أمامة الباهلي بسند ضعيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكنود هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده" وهو تفسير لأدنى معاني الكنود فإن أكله
(30/443)
وحده، أي عدم إطعامه أحدا معه، أو عدم إطعامه المحاويج إغضاء عن بعض مراتب شكر النعمة، وكذلك منعه الرفد، ومثله: ضربه عبده فإن فيه نسيانا لشكر الله الذي جعل العبد ملكا له ولم يجعله ملكا للعبد فيدل على أن ما هو أشد من ذلك أولى بوصف الكنود.
وقيل التعريف في {الإِنسَانَ} للعهد، وأن المراد به الوليد بن المغيرة، وقيل: قرطة بن عبد عمرو بن نوفل القرشي.
واللام في {لِرَبِّهِ} لام التقوية لأن "كنود" وصف ليس أصيلا في العمل وإنما يتعلق بالمعمولات لمشابهته الفعل في الاشتقاق فيكثر أن يقترن مفعوله بلام التقوية، ومع تأخيره عن معموله.
وتقديم {لِرَبِّهِ} لإفادة الاهتمام بمتعلق هذا الكنود لتشنيع هذا الكنود بأنه للرب الذي هو أحق الموجودات بالشكر وأعظم ذلك شرك المشركين، ولذلك أكد الكلام بلام الابتداء الداخلة على خبر "إن" للتعجيب من هذا الخبر.
وتقديم {لِرَبِّهِ} على عامله المقترن بلام الابتداء وهي من ذوات الصدر لأنهم يتوسعون في المجرورات والظروف، وابن هشام يرى أن لام الابتداء الواقعة في خبر "إن" ليست بذات صدارة.
وضمير {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} عائد ألى الإنسان على حسب الظاهر الذي يقتضيه انتساق الضمائر واتحاد المتحدث عنه وهو قول الجمهور.
والشهيد: يطلق على الشاهد هو الخبر بما يصدق دعوى مدع، ويطلق على الحاضر ومنه جاء إطلاقه على العالم الذي لا يفوته المعلوم، ويطلق على المقر لأنه شهد على نفسه.
والشهيد هنا: إما بمعنى المقر كما في "أشهد أن لا إله إلا الله".
والمعنى: أن الإنسان مقر بكنوده لربه من حيث لا يقصد الإقرار، وذلك في فلتات الأقوال مثل قول المشركين في أصنامهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وهذا قول يلزمه اعترافهم بأنهم عبدوا ما لا يستحق أن يعبد وأشركوا في العبادة مع المستحق للانفراد بها، أليس هذا كنودا لربهم، قال تعالى: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام:130]، وفي فلتات الأفعال كما يعرض للمسلم في المعاصي.
(30/444)
والمقصود في هذه الجملة تفظيع كنود الإنسان بأنه معلوم لصاحبه بأدنى تأمل في أقواله وأفعاله. وعلى هذا فحرف {على} متعلق ب"شهيد" واسم الإشارة مشار به إلى الكنود المأخوذ من صفة "كنود".
ويجوز أن يكون "شهيد" بمعنى "عليم" كقول الحارث بن حلزة في عمرو بن هند:
وهو الرب والشهيد على يو ... م الخيارين والبلاء بلاء
ومتعلق "شهيد" محذوفا دل عليه المقام، أي عليم بأن الله ربه، أي بدلائل الربوبية، ويكون قوله: {عَلَى ذَلِكَ} بمعنى: مع ذلك، أي مع ذلك الكنود هو عليم بأنه ربه مستحق للشكر والطاعة لا للكنود، فحرف {على} بمعنى "مع" كقوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة:177] و {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] وقول الحارث بن حلزة:
فبقينا على الشناءة تنم ... نا حصون وعزة قعساء
والجار والمجرور في موضع الحال وذلك زيادة في التعجب من كنود الإنسان.
وقال ابن عباس والحسن وسفيان: ضمير {وأنه} عائد إلى "ربه"، أي وأن الله على ذلك لشهيد، والمقصود أن الله يعلم ذلك في نفس الإنسان، وهذا تعريض بالتحذير من الحساب عليه. وهذا يسوغه أن الضمير عائد إلى أقرب مذكور ونقل عن مجاهد وقتادة كلا الوجهين فلعلهما رأيا جواز المحملين وهو أولي.
وتقديم {عَلَى ذَلِكَ} على "شهيد" للاهتمام والتعجب ومراعاة الفاصلة.
والشديد: البخيل. قال أبو ذؤيب راثيا:
حذرناه بأثواب في قعر هوة ... شديد على ما ضم في اللحد جولها
والجول بالفتح والضم: التراب، كما يقال للبخيل المتشدد أيضا قال طرفة:
عقيلة مال الفاحش المتشدد
واللام في {لِحُبِّ الْخَيْرِ} لام التعليل، والخير: المال قال تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180].
والمعنى إن في خلق الإنسان الشح لأجل حبه المال، أي الازدياد منه قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وتقديم {لِحُبِّ الْخَيْرِ} على متعلقه للاهتمام بغرابة هذا المتعلق ولمراعاة الفاصلة،
(30/445)
وتقديمه على عامله المقترن بلام الابتداء، وهي من ذوات الصدر لأنه مجرور كما علمت في قوله: {لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} .
وحب المال يبعث على منع المعروف، وكان العرب يعيرون بالبخل وهم مع ذلك يبخلون في الجاهلية بمواساة الفقراء والضعفاء ويأكلون أموال اليتامى ولكنهم يسرفون في الإنفاق في مظان السمعة ومجالس الشرب وفي الميسر قال تعالى: {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر:18-20].
[9-10] {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} .
فرع على الإخبار بكنود الإنسان وشحه استفهام إنكاري عن عدم علم الإنسان بوقت بعثرة ما في القبور وتحصيل ما في الصدور فإنه أمر عجيب كيف يغفل عنه الإنسان. وهمزة الاستفهام قدمت على فاء التعريف لأن الاستفهام صدر الكلام.
وانتصب {إذا} على الظرفية لمفعول {يَعْلَمُ} المحذوف اقتصارا، ليذهب السامع في تقديره كل مذهب ممكن قصدا للتهويل.
والمعنى: ألا يعلم العذاب جزاء له على ما في كنوده وبخله من جناية متفاوتة المقدار إلى حد أيجاب الخلود في النار.
وحذف مفعولا {يَعْلَمُ} ولا دليل في اللفظ على تعيين تقديرهما فيوكل إلى السامع تقدير ما يقتضيه المقام من الوعيد والتهويل ويسمى هذا الحذف عند النحاة الحذف الاقتصاري، وحذف كلا المفعولين اقتصارا جائز عند جمهور النحاة وهو التحقيق وإن كان سيبويه يمنعه.
وبعثر: معناه قلب من سفل إلى علو، والمراد به إحياء ما في القبور من الأموات الكاملة الأجساد أو أجزائها، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} في سورة التكوير [4].
وحصل: جمع وأحصي. وما في الصدور: هو ما في النفوس من ضمائر وأخلاق، أي جمع عده والحساب عليه.
[11] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} .
(30/446)
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن الإنكار، أي كان شأنهم ن يعلموا اطلاع الله عليهم إذا بعثر ما في القبور، وأن يذكروه لأن وراءهم الحساب المدقق، وتفيد هذه الجملة مفاد التذييل.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ} متعلق بقوله: {لَخَبِيرٌ} ، أي عليم.
والخبير: مكنى به عن المجازي بالعقاب والثواب، بقرينة تقييده بيومئذ لأن علم الله بهم حاصل من وقت الحياة الدنيا، وأما الذي يحصل من علمه بهم يوم بعثرة القبور، فهو لعلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وتقديم {بهم} على عامله وهو {لَخَبِيرٌ} للاهتمام به ليعلموا أنهم المقصود بذلك. وتقديم المجرور على العامل المقترن بلام الابتداء مع أن لها الصدر سائغ لتوسعهم في المجرورات والظرف كما تقدم آنفا في قوله: {لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] وقوله: {عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات:7] وقوله: {لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]. وقد علمت أن ابن هشام ينازع في وجوب صدارة لام الابتداء التي في خبر {إن} .
(30/447)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
اتفقت المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة على تسمية هذه السورة "سورة القارعة" ولم يرو شيء في تسميتها من كلام الصحابة والتابعين.
واتفق على أنها مكية.
وعدت الثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة.
وآيها عشر في عد أهل المدينة وأهل مكة، وثمان في عد أهل الشام والبصرة، وإحدى عشرة في عد أهل الكوفة.
أغراضها
ذكر فيها إثبات وقوع البعث وما يسبق ذلك من الأهوال.
وإثبات الجزاء على الأعمال وأن أهل الأعمال الصالحة المعتبرة عند الله في نعيم، وأهل الأعمال السيئة التي لا وزن لها عند الله في قعر الجحيم.
[1-3] {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} .
الافتتاح بلفظ {الْقَارِعَةُ} افتتاح مهول، وفيه تشويق إلى معرفة ما سيخبر به.
وهو مرفوع إما على الابتداء {مَا الْقَارِعَةُ} خبره ويكون هنالك منتهى الآية.
فالمعنى: القارعة شيء عظيم هي. وهذا يجري على أن الآية الأولى تنتهي بقوله: {مَا الْقَارِعَةُ} .
وإما أن تكون {الْقَارِعَةُ} الأول مستقلا بنفسه، وعد آية عند أهل الكوفة فيقدر خبر
(30/448)
عنه محذوف نحو: القارعة قريبة، أو يقدر فعل محذوف نحو أتت القارعة، ويكون قوله: {مَا الْقَارِعَةُ} استئنافا للتهويل، وجعل آية ثانية عند أهل الكوفة، وعليه فالسورة مسمطة من ثلاث فواصل في أولها وثلاث في آخرها وفاصلتين وسطها.
وإعادة لفظ {الْقَارِعَةُ} إظهار في مقام الإضمار عدل عن أن يقال: القارعة ما هيه، لما في لفظ القارعة من التهويل والترويع، وإعادة لفظ المبتدأ أغنت عن الضمير الرابط بين المبتدأ وجملة الخبر.
والقارعة: وصف من القرع وهو ضرب الجسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق القرع مجازا على الصوت الذي يتأثر به السامع تأثر خوف أو اتعاظ، يقال: قرع فلانا، أي زجره وعنفه بصوت غضب. وفي المقامة الأولى: ويقرع الأسماع بزواجر وعظه.
وأطلقت {الْقَارِعَةُ} على الحدث العظيم وإن لم يكن من الأصوات كقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرعد:31] وقيل تقول العرب: قرعت القوم قارعة، إذا نزل بهم أمر فظيع ولم أقف عليه فيما رأيت من كلام العرب قبل القرآن.
وتأنيث {الْقَارِعَةُ} لتأويلها بالحادثة أو الكائنة.
و {ما} استفهامية، والاستفهام مستعمل في التهويل على طريقة المجاز المرسل المركب لأن هول الشيء يستلزم تساؤل الناس عنه.
ف {الْقَارِعَةُ} هنا مراد بها حادثة عظيمة. وجمهور المفسرين على أن هذه الحادثة هي الحشر فجعلوا القارعة من أسماء يوم الحشر مثل القيامة، وقيل: أريد بها صيحة النفخة في الصور، وعن الضحاك: القارعة النار ذات الزفير، كأنه يريد أنها اسم جهنم.
وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] وقد تقدم.
ومعنى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} زيادة تهويل أمر القارعة و {ما} استفهامية صادقة على شخص، والتقدير: وأي شخص أدراك، وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وهولها لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفه. وأدراك: بمعنى أعلمك.
و {مَا الْقَارِعَةُ} استفهام آخر مستعمل في حقيقته، أي ما أدراك جواب هذا الاستفهام. وسد الاستفهام مسد مفعولي {أَدْرَاكَ} .
(30/449)
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} عطف على جملة {مَا الْقَارِعَةُ} .
والخطاب في {أَدْرَاكَ} لغير معين، أي وما أدراك أيها السامع.
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] وتقدم بعضه عند قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في سورة الانفطار [17].
[4-5] {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} .
{يوم} مفعول فيه منصوب بفعل مضمر دل عليه وصف القارعة لأنه في تقدير: تقرع، أو دل عليه الكلام كله فيقدر: تكون، أو تحصل، يوم يكون الناس كالفراش.
وجملة {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} مع متعلقها المحذوف بيان للإبهامين الذين في قوله: {مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:2] وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3].
وليس قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ} خبر عن {الْقَارِعَةُ} إذ ليس سياق الكلام لتعيين يوم وقوع القارعة.
والمقصود بهذا التوقيت زيادة التهويل بما أضيف إليه {يوم} من الجملتين المفيدتين أحوالا هائلة، إلا أن شأن التوقيت أن يكون بزمان معلوم، وإذ قد كان هذا الحال الموقت بزمانه غير معلوم مداه. كان التوقيت له إطماعا في تعيين وقت حصوله إذ كانوا يسألون متى هذا الوعد، ثم توقيته بما هو مجهول لهم إبهاما آخر للتهويل والتحذير من مفاجأته، وأبرز في صورة التوقيت للتشويق إلى البحث عن تقديره، فإذا باء الباحث بالعجز عن أخذ بحيطة الاستعداد لحلوله بما ينجيه من مصائبه التي قرعت به الأسماع في آي كثيرة.
فحصل في هذه الآية تهويل شديد بثمانية طرق: وهي الابتداء باسم القارعة، المؤذن بأمر عظيم، والاستفهام المستعمل في التهويل، والإظهار في مقام الإضمار أول مرة، والاستفهام عما ينبئ بكنه القارعة، وتوجيه الخطاب إلى غير معين، والإظهار في مقال الإضمار ثاني مرة، والتوقيت بزمان مجهول حصوله وتعريف ذلك الوقت بأحوال مهولة.
والفراش: فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضا وهو ما في قوله تعالى: {يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]. وقد يطلق الفراش على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلا وهو إطلاق آخر لا يناسب تفسير لفظ
(30/450)
الآية هنا به.
والمبثوث: المتفرق على وجه الأرض.
وجملة {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} معترضة بين جملة {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} وجملة {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:6] الخ. وهو إدماج لزيادة التهويل.
ووجه الشبه كثرة الاكتظاظ على أرض المحشر.
والعهن: الصوف، وقيل: يختص بالمصبوغ الأحمر، أو ذي الألوان، كما في قول زهير:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها قال تعالى: {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} [فاطر:27].
والمنفوش: المفرق بعض أجزاءه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا، ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندك بالزلازل ونحوها فتتفرق أجزاء.
وإعادة كلمة {تكون} مع حرف العطف للإشارة إلى اختلاف الكونين فإن أولهما كون إيجاد، والثاني كون اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم وظهور عالم آخر.
وتقدم قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} في سورة المعارج [9].
[6-11] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه،ْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .
تفصيل لما في قوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] من إجمال حال الناس حينئذ، فذلك هو المقصود بذكر اسم الناس الشامل لأهل السعادة وأهل الشقاء فلذلك كان تفصيله بحالين: حال حسن وحال فضيع.
وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضا من الله تعالى لكثرة حسناته، لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتناءها، وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه، وبضد ذلك يقولون:
(30/451)
فلان لا يقام له وزن، قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]، وقال النابغة:
وميزانه في سورة المجد ماتع
أي راجح وهذا متبادر في العربية فلذلك لم يصرح في اية بذكر ما يثقل الموازين لظهور أنه العمل الصالح.
وقد ورد ذكر الميزان للأعمال يوم القيامة كثيرا في القرآن قال ابن العربي في العواصم: لم يرد حديث صحيح في الميزان. والمقصود عدم فوات شيء من الأعمال، والله قادر على أن يجعل ذلك يوم القيامة بآلة أو بعمل الملائكة أو نحو ذلك.
والعيشة: اسم مصدر العيش كالخيفة اسم للخوف، أي في حياة.
ووصف الحياة ب {رَاضِيَةٍ} مجاز عقلي لأن الراضي صاحبها راض بها فوصفت به العيشة لأنها سبب الرضى أو زمان الرضى.
وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} إخبار عنه بالشقاء وسوء الحال، فالأم هنا يجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها. وهاوية: هالكة، والكلام تمثيل لحال من خفت موازينه يومئذ بحال الهالك في الدنيا لأن العرب يكنون عن حال المرء بحال أمه في الخير والشر لشدة محبتها ابنها فهي أشد سرورا بسروره وأشد حزنا بما يحزنه. صلى أعرابي وراء إمام فقرأ الإمام {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] فقال الأعرابي: لقد قرت عين أم إبراهيم ومنه قول ابن زيابة حين تهدده الحارث بن همام الشيباني:
يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب
ويقول في الشر: هوت أمه، أي أصابه ما تهلك به أمه، وهذا كقولهم: ثكلته أمه، في الدعاء، ومنه ما يستعمل في التعجب وأصله الدعاء كقول كعب ابن سعد الغنوي في رثاء أخيه أبي المغوار:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب
أي ماذا يبعث الصبح منه غاديا وما يرد الليل حين يؤوب غانما، وحذف منه في الموضعين اعتمادا على قرينة رفع الصبح والليل وذكر: غاديا ويؤوب و"من" المقدرة تجريدية فالكلام عل التجريد مثل: لقيت منه أسدا.
(30/452)
فاستعمل المركب الذي يقال عند حال الهلاك وسوء المصير في الحال المشبهة بحال الهلاك، ورمز إلى التشبيه بذلك المركب، كما تضرب الأمثال السائرة.
ويجوز أن يكون "أمه" مستعارا لمقره ومآله لأنه يأوي أليه كما يأوي الطفل إلى أمه.
و {هَاوِيَةٌ} المكان المنخفض بين الجبلين الذي إذا سقط فيه إنسان أو دابة هلك يقال سقط في الهاوية.
وأريد بها جهنم، وقيل هي اسم لجهنم، أي فمأواه جهنم.
ويجوز أن يكون "أمه" على حذف مضاف، أي أم رأسه، وهي أعلى الدماغ، {هَاوِيَةٌ} ساقطة من قولهم سقط على أم رأسه أي هلك.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} : تهويل كما تقدم آنفا.
وضمير {هيه} عائد إلى {هَاوِيَةٌ} ، فعلى الوجه الأول يكون في الضمير استخدام، إذ معاد الضمير وصف هالكة، والمراد منه اسم جهنم كما في قول معاوية بن مالك الملقب معوذ الحكماء:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وأن كانوا غضابا
وعلى الوجه الثاني يعود الضمير إلى {هَاوِيَةٌ} وفسرت بأنها قعر جهنم.
وعلى الوجه الثالث يكون في {هيه} استخدام أيضا كالوجه الأول.
والهاء التي لحقت ياء "هي" هاء السكت، هي هاء تجلب لأجل تخفيف اللفظ عند الوقف عليه، فمنه تخفيف واجب تجلب له هاء السكت لزوما، وبعضه حسن، وليس بلازم وذلك في كل اسم أو حرف بآخره حركة بناء دائمة مثل: هو، وهي، وكيف، وثم، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} في سورة الحاقة [19].
وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل.
وجملة {نَارٌ حَامِيَةٌ} بيان لجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} ، والمعنى: هي نار حامية. وهذا من من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال أهل اللغة.
(30/453)
ووصف {نَارٌ} ب {حَامِيَةٌ} من قبيل التوكيد اللفظي لأن النار لا تخلو عن الحمي فوصفها به وصف بما هو معنى لفظ {نَارٌ} فكان كذكر المرادف كقوله تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6].
(30/454)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكاثر
قال الآلوسي أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمونها "المقبرة" اه.
وسميت في معظم المصاحف ومعظم التفاسير "سورة التكاثر" وكذلك عنونها الترمذي في "جامعه" وهي كذلك معنونة في بعض المصاحف العتيقة بالقيروان. وسميت في بعض المصاحف "سورة ألهاكم" وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وهي مكية عند الجمهور قال ابن عطية: هي مكية لا أعلم فيها خلافا.
وعن ابن عباس والكلبي ومقاتل: إنها نزلت في مفاخرة جرت بين بني عبد مناف وبني سهم في الإسلام كما يأتي قريبا وكانوا من بطون قريش بمكة ولأن قبور أسلافهم بمكة.
وفي "الإتقان": المختار: أنها مدنية. قال: ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في قبيلتين من الأنصار تفاخروا، وما أخرجه البخاري عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب" . قال أبي: كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] اهـ. يريد المستدل بهذا أن أبيا أنصاري وأن ظاهر قوله: حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، أنها نزلت بعد أن كانوا يعدون "لو أن لابن آدم واديا من ذهب الخ من القرآن" وليس في كلام أبي دليل ناهض إذ يجوز أن يريد بضمير كنا المسلمين، أي كان من سبق منهم يعد ذلك من القرآن حتى نزلت سورة التكاثر وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كانوا يقولونه ليس بقرآن.
(30/455)
والذي يظهر من معاني السورة وغلظة وعيدها أنها مكية وأن المخاطب بها فريق من المشركين لأن ما ذكر فيها لا يليق بالمسلمين أيامئذ.
وسبب نزولها فيما قال الواحدي والبغوي عن مقاتل والكلبي والقرطبي عنهما وعن ابن عباس: أن بني عبد مناف وبني سهم من قريش تفاخروا فتعادوا السادة والأشراف من أيهم أكثر عددا فكثر بنو عبد مناف بنو سهم بثلاثة أبيات لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة الجرمي قال: نزلت في قبيلتين من الأنصار بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان، تشير إلى القبر. ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} .
وقد عدت السادسة عشرة في ترتيب نزول السور، ونزلت بعد سورة الكوثر وقبل سورة الماعون بناء على أنها مكية.
وعدد آيتها ثمان.
أغراضها
اشتملت على التوبيخ على اللهو عن النظر في دلائل القرآن ودعوة الإسلام بإيثار المال والتكاثر به والتفاخر بالأسلاف وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور كما صار من كان قبلهم وعلى الوعيد على ذلك.
وحثهم على التدبير فيما ينجيهم من الجحيم.
وأنهم مبعوثون ومسؤولون عن إهمال شكر المنعم العظيم.
[1-4] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
{أَلْهَاكُمُ} أي شغلكم عما يجب عليكم الاشتغال به لأن اللهو شغل يصرف عن تحصيل أمر مهم.
و {التَّكَاثُرُ} : تفاعل في الكثر أي التباري في الإكثار من شيء مرغوب في كثرته،
(30/456)
فمنه تكاثر في الأموال، ومنه تكاثر في العدد من الأولاد والأحلاف للاعتزاز بهم. وقد فسرت الآية بهما قال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35].
وقال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
روى مسلم عن عبد الله بن الشخير قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: "يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت" فهذا جار مجرى التفسير لمعنى من معاني التكاثر اقتضاه حال الموعظة ساعتئذ وتحتمه الآية.
والخطاب للمشركين بقرينة غلظة الوعيد بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] إلى آخر السورة، ولأن هذا ليس من خلق المسلمين يومئذ.
والمراد بالخطاب: سادتهم وأهل الثراء منهم لقوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، ولأن سادة المشركين هم الذين آثروا ما هم فيه من النعمة على التهمم بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فتصدوا لتكذيبه وإغراء الدهماء بعدم الإصغاء له. فلم يذكر الملهى عنه لظهور أنه القرآن والتدبر فيه، والإنصاف بتصديقه. وهذا الإلهاء حصل منهم وتحقق كما دل عليه حكايته بالفعل الماضي.
وإذا كان الخطاب للمشركين فلأن المسلمين يعلمون أن التلبس بشيء من هذا الخلق مذموم عند الله، وأنه من خصال أهل الشرك فيعلمون أنهم محذرون من التلبس بشيء من ذلك فيحذرون من أن يلهيهم حب المال عن شيء من فعل الخير، ويتوقعون أن يفاجئهم الموت وهم لهون عن الخير، قال تعالى يخاطب المؤمنين {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] الآية.
وقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} غاية، فيحتمل أن يكون غاية لفعل {أَلْهَاكُمُ} كما في قوله تعالى: {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91]، أي دام إلهاء التكاثر إلى أن زرتم المقابر، أي استمر بكم طول حياتكم، فالغاية مستعملة في الإحاطة
(30/457)
بأزمان المغيا لا في تنهيته وحصول ضده لأنهم إذا صاروا إلى المقابر انقطعت أعمالهم كلها.
ولكون زيارة المقابر على هذا الوجه عبارة عن الحلول فيها، أي قبور المقابر. وحقيقة الزيارة الحلول في المكان حلولا غير مستمر، فأطلق فعل الزيارة هنا تعريضا بهم بأن حلولهم في المقابر يعقبهم خروج منها.
والتعبير بالفعل الماضي في {زُرْتُمُ} لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لأنه محقق وقوعه مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1].
ويحتمل أن تكون الغاية للمتكاثر به الدال عليه التكاثر، أي بكل شيء حتى بالقبور تعدونها. وهذا يجري على ما روى مقاتل والكلبي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا بكثرة السادة منهم، كما تقدم في سبب نزولها آنفا، فتكون الزيارة مستعملة في معناها الحقيقي، أي زرتم المقابر لتعدوا القبور، والعرب يكنون بالقبر عن صاحبه قال النابغة:
لئن كان للقبرين قبر بجلق ... وقبر بصيداء الذي عند حارب
وقال عصام بن عبيد الزماني، أو همام الرقاشي:
لو عد قبر كنت أقربهم ... قبرا وأبعدهم من منزل الذام
أي كنت أقربهم منك قبرا، أي صاحب قبر.
والمقابر جمع مقبرة بجمع الموحدة وبضمها. والمقبرة الأرض التي فيها قبور كثيرة.
والتوبيخ الذي استعمل فيه الخبر أتبع بالوعيد على ذلك بعد الموت، وبحرف الزجر والإبطال بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فأفاد {كلا} زجرا وإبطالا لإنهاء التكاثر.
و {سَوْفَ} لتحقيق حصول العلم. وحذف مفعول {تَعْلَمُونَ} لظهور أن المراد: تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر عن قبول دعوة الإسلام.
وأكد الزجر والوعيد بقوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} فعطف عطفا لفظيا بحرف التراخي أيضا للإشارة إلى تراخي رتبة هذا الزجر والوعيد عن رتبة الزجر والوعيد الذي قبله، فهذا زجر ووعيد مماثل للأول لكن عطفه بحرف {ثم} اقتضى كونه أقوى من الأول لأنه أفاد تحقيق الأول وتهويله.
(30/458)
فجملة {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} توكيد لفظي لجملة {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعن ابن عباس {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما ينزل بكم من عذاب في القبر {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} عند البعث إن ما وعدتم به صدق، أي تجعل كل جملة مرادا بها تهديد بشيء خاص. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على معونة القرائن بتقدير مفعول خاص لكل من فعلي {تَعْلَمُونَ} ، وليس تكرير الجملة بمقتض ذلك في أصل الكلام. ومفاد التكرير حاصل على كل حال.
[5] {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} .
أعيد الزجر ثالث مرة زيادة في إبطال ما هم عليه من اللهو عن التدبر في أقوال القرآن لعلهم يقلعون عن انكبابهم عن التكاثر مما هم يتكاثرون فيه ولهوهم به عن النظر في دعوة الحق والتوحيد. وحذف مفعول {تَعْلَمُونَ} للوجه الذي تقدم في {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وجواب {لو} محذوف.
وجملة {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} تهويل وإزعاج لأن حذف جواب {لو} يجعل النفوس تذهب في تقديره كل مذهب ممكن. والمعنى: لو تعلمون علم اليقين لتبين لكم حال مفظع عظيم، وهي بيان لما في {كلا} من الزجر.
والمضارع في قوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} مراد به زمن الحال، أي لو علمتم الآن علم اليقين لعلمتم أمرا عظيما.
ولفعل الشرط مع {لو} أحوال كثيرة واعتبارات، فقد يقع بلفظ الماضي وقد يقع بلفظ المضارع وفي كليهما قد يكون استعماله في أصل معناه. وقد يكون منزلا منزلة غير معناه، وهو هنا مستعمل في معناه من الحال بدون تنزيل ولا تأويل.
وإضافة {عِلْمَ} إلى {الْيَقِينِ} إضافة بيانية فإن اليقين علم، أي لو علمتم علما مطابقا للواقع لبان لكم شنيع ما أنتم فيه ولكن علمهم بأحوالهم جهل مركب من أوهام وتخيلات، وفي هذا نداء عليهم بالتقصير في اكتساب العلم الصحيح. وهذا خطاب للمشركين الذين لا يؤمنون بالجزاء وليس خطابا للمسلمين لأن المسلمين يعلمون ذلك علم اليقين. وأعلم أن هذا المركب هو {عِلْمَ الْيَقِينِ} نقل في الاصطلاح العلمي فصار لقبا لحالة من مدركات العقل وقد تقدم بيان ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} في سورة الحاقة [51] فارجع إليه.
[6-7] {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} .
(30/459)
استئناف بياني لأن ما سبقه من الزجر والردع المكرر ومن الوعيد المؤكد على إجماله يثير في نفس السامع سؤالا عما يترقب من هذا الزجر والوعيد فكان قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جوابا عما يجيش في نفس السامع.
وليس قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} جواب "لو" على معنى: لو تعلمون علم اليقين لكنتم كمن ترون الجحيم، أي لترونها بقلوبكم، لأن نظم الكلام صيغة قسم بدليل قرنه بنون التوكيد، فليست هذه اللام لام جواب "لو" لأن جواب "لو" ممتنع الوقوع فلا تقترن به نون التوكيد.
والإخبار عن رؤيتهم الجحيم كناية عن الوقوع فيها، فإن الوقوع في الشيء يستلزم رؤيته فيكنى بالرؤية عن الحضور كقول جعفر بن علبة الحارثي:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
وأكد ذلك بقوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} قصدا لتحقيق الوعيد بمعناه الكنائي. وقد عطف هذا التأكيد ب {ثم} التي هي للتراخي الرتبي على نحو ما قررناه آنفا في قوله: {ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:4]، وليس هنالك رؤيتان تقع إحداهما بعد الأخرى بمهلة.
و {عَيْنَ الْيَقِينِ} : اليقين الذي لا يشوبه تردد. فلفظ عين مجاز عن حقيقة الشيء الخالصة غير الناقصة ولا المشابهة.
وإضافة {عَيْنَ} إلى {الْيَقِينِ} بيانية كإضافة {حق} إلى {الْيَقِينِ} في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95].
وانتصب {عَيْنَ} على النيابة عن المفعول المطلق لأنه في المعنى صفة لمصدر محذوف، والتقدير ثم لترونها رؤية عين اليقين.
وقرأه الجمهور {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} بفتح المثناة الفوقية. وقرأه ابن عامر والكسائي بضم المثناة من "أراه".
وأما {لَتَرَوُنَّهَا} فلم يختلف القراء في قراءته بفتح المثناة.
وأشار في "الكشاف" إلى أن هذه الآيات المفتتحة بقوله: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3] والمنتهية بقوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ} ، اشتملت على وجوه من تقوية الإنذار والزجر،
(30/460)
فافتتحت بحرف الردع والتنبيه، وجيء بعده بحرف {ثم} الدال على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول. وكرر حرف الردع والتنبيه وحذف جواب {لَوْ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:5] لما في حذفه من مبالغة التهويل، وأتي بلام القسم لتوكيد الوعيد. وأكد هذا القسم بقسم آخر، فهذه ستة وجوه.
وأقول زيادة على ذلك: إن في قوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ} تأكيدين للرؤية بأنها يقين وأن اليقين حقيقة. والقول في إضافة {عَيْنَ الْيَقِينِ} كالقول في إضافة {عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] المذكور آنفا.
[8] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} .
أعقب التوبيخ والوعيد على لهوهم بالتكاثر عن النظر في دعوة الإسلام من حيث إن التكاثر صدهم عن قبول ما ينجيهم، بتهديد وتخويف من مؤاخذتهم على ما في التكاثر من نعيم تمتعوا به في الدنيا ولم يشكروا الله عليه بقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، أي عن النعيم الذي خولتموه في الدنيا فلم تشكروا الله عليه وكان به بطركم.
وعطف هذا الكلام بحرف {ثم} الدال على التراخي الرتبي في عطفه الجمل من أجل أن الحساب على النعيم الذي هو نعمة من الله أشد عليهم لأنهم ما كانوا يترقبونه، لأن تلبسهم بالإشراك وهم في نعيم أشد كفرانا للذي أنعم عليهم.
و {النَّعِيمِ} : اسم لما يلذ لإنسان مما ليس ملازما له، فالصحة وسلامة الحواس وسلامة الإدراك والنوم واليقظة ليست من النعيم، وشرب الماء وأكل الطعام والتلذذ بالمسموعات وبما فيه فخر وبرؤية المحاسن، تعد من النعيم.
والنعيم أخص من النعمة بكسر النون ومرادف للنعمة بفتح النون.
وتقدم النعيم عند قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} في سورة براءة [21].
والخطاب موجه إلى المشركين على نسق الخطابات السابقة.
والجملة المضاف إليها "إذ" من قوله: {يَوْمَئِذٍ} محذوف دل عليها قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] أي يوم إذ ترون الجحيم يغلظ عليكم العذاب.
وهذا السؤال عن النعيم الموجه إلى المشركين هو غير السؤال الذي يسأله كل منعم عليه فيما صرف فيه النعمة، فإن النعمة لما لم تكن خاصة بالمشركين خلافا للتكاثر كان
(30/461)
السؤال عنها حقيقا بكل منعم عليه وإن اختلفت أحوال الجزاء المترتب على هذا السؤال.
ويؤيده ما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر فقاما معه فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته. إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم إضيافا مني فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب وأخذ المدية فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة" الحديث. فهذا سؤال عن النعيم ثبت بالسنة وهو غير الذي جاء في هذه الآية. والأنصاري هو أبو الهيثم بن التيهان واسمه مالك.
ومعنى الحديث: لتسألن عن شكر تلك النعمة، أراد تذكيرهم بالشكر في كل نعمة. وسؤال المؤمنين سؤال لترتيب الثواب على الشكر أو لأجل المؤاخذة بالنعيم الحرام.
وذكر القرطبي عن الحسن لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، وروي1 أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: يا رسول الله أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب2 وما عذب، أنخاف أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه? فقال عليه السلام: " ذلك للكفار ثم قرأ {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17].
قال القشيري: والجمع بين الأخبار أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكافر سؤال توبيخ لأنه قد ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر.
والجملة المضاف إليها "إذ" من قوله: {يَوْمَئِذٍ} محذوفة دل عليها قوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] أي يوم إذ ترون الجحيم فيغلظ عليكم العذاب.
ـــــــ
1 ذكره القرطبي عن القشيري.
2 يقال: ذنبت البسرة، إذا ظهر مثل الوكت من جهة ذنبها، أي بدأ إرطابها. والرطب يسمى التذنوب بفتح المثناة الفوقية.
(30/462)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
ذكر ابن كثير أن الطبراني روى بسنده عن عبيد الله بن حصين قال كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر الخ ما سيأتي.
وكذلك تسميتها في مصاحف كثيرة وفي معظم كتب التفسير وكذلك هي في مصحف عتيق بالخط الكوفي من المصاحف القيروانية في القرن الخامس.
وسميت في بعض كتب التفسير وفي "صحيح البخاري" "سورة العصر" بإثبات الواو على حكاية أول كلمة فيها، أي سورة هذه الكلمة.
وهي مكية في قول الجمهور وإطلاق جمهور المفسرين. وعن قتادة ومجاهد ومقاتل أنها مدنية. وروي عن ابن عباس ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور المختلف فيها.
وقد عدت الثالثة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الانشراح وقبل سورة العاديات.
وآيها ثلاث آيات.
وهي إحدى سور ثلاث هن أقصر السور عدد آيات: هي والكوثر وسورة النصر.
أغراضها
واشتملت على إثبات الخسران الشديد لأهل الشرك ومن كان مثلهم من أهل الكفر بالإسلام بعد أن بلغت دعوته، وكذلك من تقلد أعمال الباطل التي حذر الإسلام المسلمين
(30/463)
منها.
وعلى إثبات نجاة وفوز الذين آمنوا وعملوا الصالحات والداعين منهم إلى الحق.
وعلى فضيلة الصبر على تزكية النفس ودعوة الحق.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذوها شعارا لهم في ملتقاهم. روى الطبراني بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله بن الحصين الأنصاري من التابعين أنه قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر أي سلام التفرق وهو سنة أيضا مثل سلام القدوم.
وعن الشافعي: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. وفي رواية عنه: لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم. وقال غيره: إنها شملت جميع علوم القرآن. وسيأتي بيانه.
[1-3] {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
أقسم الله تعالى بالعصر قسما يراد به تأكيد الخبر كما هو شأن أقسام القرآن.
والمقسم به من مظاهر بديع التكوين الرباني الدال على عظيم قدرته وسعة علمه.
وللعصر معان يتعين أن يكون المراد منها لا يعدوا أن يكون حالة دالة على صفة من صفات الأفعال الربانية، يتعين إما بإضافته إلى ما يقدر، أو بالقرينة، أو بالعهد، وأيا ما كان المراد منه هنا فإن القسم به باعتبار أنه زمن يذكر بعظيم قدرة الله تعالى في خلق العالم وأحواله، وبأمور عظيمة مباركة مثل الصلاة المخصوصة أو عصر معين مبارك.
وأشهر إطلاق لفظ العصر أنه علم بالغلبة لوقت ما بين آخر وقت الظهر وبين اصفرار الشمس فمبدؤه إذا صار ظل الجسم مثله بعد القدر الذي كان عليه عند زوال الشمس ويمتد إلى أن يصير ظل الجسم مثلي قدره بعد الظل الذي كان له عند زوال الشمس. وذلك وقت اصفرار الشمس، والعصر مبدأ العشي. ويعقبه الأصيل والاحمرار وهو ما قبل غروب الشمس قال الحارث بن حلزة:
آنست نبأة وأفزعها القن ... اص عصرا وقد دنا الإمساء
فذلك وقت يؤذن بقرب انتهاء النهار، ويذكر بخلقة الشمس والأرض، ونظام حركة
(30/464)
الأرض حول الشمس، وهي الحركة التي يتكون منها الليل والنهار كل يوم وهو من هذا الوجه كالقسم بالضحى وبالليل والنهار وبالفجر من الأحوال الجوية المتغيرة المتغير بتوجه شعاع الشمس نحو الكرة الأرضية.
وفي ذلك الوقت يتهيأ الناس للانقطاع عن أعمالهم في النهار كالقيام على حقولهم وجناتهم، وتجاراتهم في أسواقهم، فيذكر بحكمة نظام المجتمع الإنساني وما ألهم الله في غريزته من دأب عن عمل ونظام لابتدائه وانقطاعه. وفيه يتحفز الناس للإقبال على بيوتهم لمبيتهم والتأنس بأهليهم وأولادهم. وهو من النعمة أو من النعيم، وفيه إيماء إلى التذكير بمثل الحياة حين تدنو آجال الناس بعد مضي أطوار الشباب والاكتهال والهرم.
وتعريفه باللام على هذه الوجوه تعريف العهد الذهني أي كل عصر.
ويطلق العصر على الصلاة الموقتة بوقت العصر. وهي صلاة معظمة. قيل: هي المراد بالوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وجاء في الحديث "من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله" . وورد في الحديث الصحيح "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة" فذكر "ورجل حلف يمينا فاجرة بعد العصر على سلعة لقد أعطي بها ما لم يعط" وتعريفه على هذا تعريف العهد وصار علما بالغلبة كما هو شأن كثير من أسماء الأجناس المعرفة باللام مثل العقبة.
ويطلق العصر على مدة معلومة لوجود جيل من الناس، أو ملك أو نبي، أو دين، ويعين بالإضافة، فيقال: عصر الفطحل، وعصر إبراهيم، وعصر الإسكندر، وعصر الجاهلية، فيجوز أن يكون مراد هذا الإطلاق هنا ويكون المعني به عصر النبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف فيه تعريف العهد الحضوري مثل العريف في "اليوم" من قولك: فعلت اليوم كذا، فالقسم به كالقسم بحياته في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ} . قال الفخر: فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، وبعمره في قوله: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72]. اهـ.
ويجوز أن يراد عصر الإسلام كله وهو خاتمة عصور الأديان لهذا العالم وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم عصر الأمة الإسلامية بالنسبة إلى عصر اليهود وعصر النصارى بما بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس بقوله "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له إلى الليل فعملت اليهود إلى نصف النهار ثم قالوا لا حاجة لنا إلى أجرك وما عملنا باطل، واستأجر آخرين بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي
(30/465)
شرطت لهم فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا: لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا، واستأجر قوما أن يعملوا بقية يومهم فعملوا حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما فأنتم هم". فلعل ذلك التمثيل النبوي له اتصال بالرمز إلى عصر الإسلام في هذه الآية.
ويجوز أن يفسر العصر في هذه الآية بالزمان كله فقال ابن عطية: قال أبي بن كعب: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العصر فقال: "أقسم ربكم بآخر النهار" . وهذه المعاني لا يفي باحتمالها غير لفظ العصر.
ومناسبة القسم بالعصر لغرض السورة على إرادة عصر الإسلام ظاهرة فإنها بينت حال الناس في عصر الإسلام بين من كفر به ومن آمن واستوفى حظه من الأعمال التي جاء بها الإسلام، ويعرف منه حال من أسلموا وكان في أعمالهم تقصير متفاوت، أما أحوال الأمم التي كانت قبل الإسلام فكانت مختلفة بحسب مجيء الرسل إلى بعض الأمم، وبقاء بعض الأمم بدون شرائع متمسكة بغير دين الإسلام من الشرك أو بدين جاء الإسلام بنسخه مثل اليهودية والنصرانية قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في [سورة آل عمران: 85].
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس مراد به الاستغراق وهو استغراق عرفي لأنه يستغرق أفراد النوع الإنساني الموجودين في زمن نزول الآية وهو زمن ظهور الإسلام كما علمت قريبا. ومخصوص بالناس الذين بلغتهم الدعوة في بلاد العالم على تفاوتها. ولما استثني منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقي حكمه متحققا في غير المؤمنين كما سيأتي...
والخسر: مصدر وهو ضد الربح في التجارة، استعير هنا لسوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبة حسنة، وتلك هي العاقبة الدائمة وهي عاقبة الإنسان في آخرته من نعيم أو عذاب.
وقد تقدم في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في [سورة البقرة: 16]، وتكررت نظائره في القرآن آنفا وبعيدا.
والظرفية في قوله: {لَفِي خُسْرٍ} مجازية شبهت ملازمة الخسر بإحاطة الظرف بالمظروف فكانت أبلغ من أن يقال: إن الإنسان لخاسر.
(30/466)
ومجيء هذا الخبر على العموم مع تأكيده بالقسم وحرف التوكيد في جوابه، يفيد التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس.
وأعقب الاستثناء بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} الآية فيتقرر الحكم تماما في نفس السامع مبينا أن الناس فريقان: فريق يلحقه الخسران، وفريق لا يلحقه شيء منه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يلحقهم الخسران بحال إذا لم يتركوا شيئا من الصالحات بارتكاب أضدادها وهي السيئات.
ومن أكبر الأعمال الصالحات التوبة من الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإيمان ولم يعمل السيئات أو عملها وتاب منها فقد تحقق له ضد الخسران وهو الربح المجازي، أي حسن عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران.
وهذا الخسر متفاوت فأعظمه وخالده الخسر المنجر عن انتفاء الإيمان بوحدانية الله وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم دون ذلك تكون مراتب الخسر متفاوتة بحسب كثرة الأعمال السيئة ظاهرها وباطنها. وما حدده الإسلام لذلك من مراتب الأعمال وغفران بعض اللمم إذا ترك صاحبه الكبائر والفواحش وهو ما فسر به قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وهذا الخبر مراد به الحصول في المستقبل بقرينه مقام الإنذار والوعيد، أي لفي خسر في الحياة الأبدية الآخرة فلا التفات إلى أحوال الناس في الحياة الدنيا، قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197].
وتنكير {خسر} يجوز أن يكون للتنويع، ويجوز أن يكون مفيدا للتعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسم.
والمعنى: أن الناس لفي خسران عظيم وهم المشركون.
والتعريف في قوله: {الصالحات} تعريف الجنس مراد به الاستغراق، أي عملوا جميع الأعمال الصالحة التي أمروا بعملها بأمر الدين وعمل الصالحات يشمل ترك السيئات. وقد أفاد استثناء المتصفين بمضمون الصلة ومعطوفها إيماء إلى علة حكم الاستثناء وهو نقيض الحكم الثابت للمستثنى منه فإنهم ليسوا في خسر لأجل أنهم آمنوا
(30/467)
وعملوا الصالحات.
فأما الإيمان فهو حقيقة مقول على جزئياتها بالتواطئ. وأما الصالحات فعمومها مقول عليه بالتشكك، فيشير إلى أن انتفاء الخسران عنهم يتقدر بمقدار ما عملوه من الصالحات وفي ذلك مراتب كثيرة.
وقد دل استثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أن يكونوا في خسر على أن سبب كون بقية الإنسان في خسر هو عدم الإيمان والعمل الصالح بدلالة مفهوم الصفة. وعلم من الموصول أن الإيمان والعمل الصالح هما سبب انتفاء إحاطة الخسر بالإنسان.
وعطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه يظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق، فالتواصي بالحق يشمل تعليم حقائق الهدي وعقائد الصواب وإراضة النفس على فهمها بفعل المعروف وترك المنكر.
والتواصي بالصبر عطف على التواصي بالحق عطف الخاص على العام أيضا وإن كان خصوصه خصوصا من وجه لأن الصبر تحمل مشقة إقامة الحق وما يعترض المسلم من أذى في نفسه في إقامة بعض الحق.
وحقيقة الصبر أنه: منع المرء نفسه من تحصيل ما يشتهيه أو من محاولة تحصيله إن كان صعب الحصول فيترك محاولة تحصيله لخوف ضر ينشأ عن تناوله كخوف غضب الله أو عقاب ولاة الأمور أو لرغبة في حصول نفع منه كالصبر على مشقة الجهاد والحج رغبة في الثواب والصبر على الأعمال الشاقة رغبة في تحصيل مال أو سمعة أو نحو ذلك.
ومن الصبر على ما يلاقيه المسلم إذا أمر بالمعروف من امتعاض بعض المأمورين به أو من أذاهم بالقول كمن يقول لآمره: هلا نظرت في أمر نفسك، أو نحو ذلك.
وأما تحمل مشقة فعل المنكرات كالصبر على تجشم السهر في اللهو والمعاصي، والصبر على بشاعة طعم الخمر لشاربها، فليس من الصبر لأن ذلك التحمل منبعث عن رجحان اشتهاء تلك المشقة على كراهية المشقة التي تعترضه في تركها.
(30/468)
وقد اشتمل قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} على إقامة المصالح الدينية كلها، فالعقائد الإسلامية والأخلاق الدينية مندرجة في الحق، والأعمال الصالحة وتجنب السيئات مندرجة في الصبر.
والتخلق بالصبر ملاك فضائل الأخلاق كلها فإن الارتياض بالأخلاق الحميدة لا يخلو من حمل المرء نفسه على مخالفة شهوات كثيرة، ففي مخالفتها تعب يقتضي الصبر عليه حتى تصير مكارم الأخلاق ملكة لمن راض نفسه عليها، كما قال عمرو بن العاص:
إذا المرء لم يترك طعاما يحبه ... ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما
فيوشك أن تلفى له الدهر سبة ... إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما
وكذلك الأعمال الصالحة كلها لا تخلو من إكراه النفس على ترك ما يميل إليه. وفي الحديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. وعن علي بن أبي طالب: "الصبر مطية لا تكبو".
وقد مضى الكلام على الصبر مشبعا عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في [سورة البقرة: 45].
وأفادت صيغة التواصي بالحق وبالصبر أن يكون شأن حياة الممنين قائما على شيوع التآمر بهما ديدنا لهم. وذلك يقتضي اتصاف المؤمنين بإقامة الحق وصبرهم على المكاره في مصالح الإسلام وأمته لما يقتضيه عرف الناس من أن أحدا لا يوصي غيره بملازمة أمر إلا وهو يرى ذلك الأمر خليقا بالملازمة إذ قل أن يقدم أحد على أمر بحق هو لا يفعله أو أمر بصبر وهو ذو جزع، وقد قال تعالى توبيخا لبني إسرائيل {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقد تقدم هذا المعنى عند قوله تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الفجر: 18].
(30/469)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الهمزة
سميت هذه السورة في المصاحف ومعظم التفاسير "سورة الهمزة" بلام التعريف. وعنونها في "صحيح البخاري" وبعض التفاسير "سورة ويل لكل همزة". وذكر الفيروز آبادي في "بصائر ذوي التمييز" أنها تسمى "سورة الحطمة" لوقوع هذه الكلمة فيها.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثانية والثلاثين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة القيامة وقبل سورة المرسلات.
وآيها تسع بالاتفاق.
روي أنها نزلت في جماعة من المشركين كانوا أقاموا أنفسهم للمز المسلمين وسبهم واختلاق الأحدوثات السيئة عنهم. وسمي من هؤلاء المشركين: الوليد بن المغيرة المخزومي، وأمية بن خلف، وأبي بن خلف وجميل بن معمر بن بني جمح وهذا أسلم يوم الفتح وشهد حنينا والعاص بن وائل من بني سهم. وكلهم من سادة قريش. وسمي الأسود بن عبد يغوث، والأخنس بن شريق الثقفيان من سادة ثقيف من أهل الطائف. وكل هؤلاء من أهل الثراء في الجاهلية والازدهار بثرائهم وسؤددهم. وجاءت آية السورة عامة فعم حكمها المسمين ومن كان على شاكلتهم من المشركين ولم تذكر أسماءهم.
أغراضها
فغرض هذه السورة وعيد جماعة من المشركين جعلوا همز المسلمين ولمزهم ضربا من ضروب أذاهم طمعا في أن يلجئهم الملل من أصناف الأذى، إلى الانصراف عن الإسلام والرجوع إلى الشرك.
(30/470)
[1-7] {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا} .
كلمة ويل له دعاء على المجرور اسمه باللام بأن يناله الويل وهو سوء الحال كما تقدم غير مرة منها قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} في [سورة البقرة: 79].
والدعاء هنا مستعمل في الوعيد بالعقاب.
وكلمة كل تشعر بأن المهددين بهذا الوعيد جماعة وهم الذين اتخذوا همز المسلمين ولمزهم ديدنا لهم أولئك الذين تقدم ذكرهم في سبب نزول السورة.
وهمزة ولمزة، بوزن فعلة صيغة تدل على كثرة صدور الفعل المصاغ منه. وأنه صار عادة لصاحبه كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، ولعنة لكثير اللعن. وأصلها: أن صيغة فعل بضم ففتح ترد للمبالغة في فاعل كما صرح به الرضي في "شرح الكافية" يقال: رجل حطم إذا كان قليل الرحمة للماشية أي والدواب.
ومنه قولهم: ختع "بخاء معجمة ومثناة فوقية" وهو الدليل الماهر بالدلالة على الطريق فإذا أريدت زيادة المبالغة في الوصف ألحق به الهاء كما ألحقت في: علامة ورحالة، فيقولون: رجل حطمة وضحكة ومنه همزة، وبتلك المبالغة الثانية يفيد أن ذلك تفاقم منه حتى صار له عادة قد ضري بها كما في "الكشاف"، وقد قالوا: إن عيبة مساو لعيابة، فمن الأمثلة ما سمع فيه الوصف بصيغتي فعل وفعلة نحو حطم وحطمة بدون هاء وبهاء، ومن الأمثلة ما سمع فيه فعلة دون فعل نحو رجل ضحكة، ومن الأمثلة ما سمع فيه فعل دون فعلة وذلك في الشتم مع حرف النداء يا غدر ويا فسق ويا خبث ويا لكع.
قال المرادي في "شرح التسهيل" قال: بعضهم ولم يسمع غيرها ولا يقاس عليها وعن سيبويه أنه أجاز القياس عليها في النداء اه. قلت: وعلى قول سيبويه بنى الحريري قوله في "المقامة السابعة والثلاثين" صه يا عقق، يا من هو الشجا والشرق.
(30/471)
وهمزة: وصف مشتق من الهمز. وهو أن يعيب أحدا أحدا بالإشارة بالعين أو بالشدق أو بالرأس بحضرته أو عند توليه، ويقال: هامز وهماز، وصيغة فعلة يدل على تمكن الوصف من الموصوف.
ووقع {همزة} وصفا لمحذوف تقديره: ويل لكل شخص همزة، فلما حذف موصوفه صار الوصف قائما مقامه فأضيف إليه {كل} .
ولمزة: وصف مشتق من اللمز وهو المواجهة بالعيب، وصيغته دالة على أن ذلك الوصف ملكة لصاحبه كما في همزة.
وهذان الوصفان من معاملة أهل الشرك للمؤمنين يومئذ، ومن عامل من المسلمين أحدا من أهل دينه بمثل ذلك كان له نصيب من هذا الوعيد.
فمن اتصف بشيء من هذا الخلق الذميم من المسلمين مع أهل دينه فإنها خصلة من خصال أهل الشرك. وهي ذميمة تدخل في أذى المسلم وله مراتب كثيرة بحسب قوة الأذى وتكرره ولم يعد من الكبائر إلا ضرب المسلم. وسب الصحابة رضي الله عنهم. وإدمان هذا الأذى بأن يتخذه ديدنا فهو راجع إلى إدمان الصغائر وهو معدود من الكبائر.
وأتبع {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ} لزيادة تشنيع صفتيه الذميمتين بصفة الحرص على المال. وإنما ينشأ ذلك من بخل النفس والتخوف من الفقر، والمقصود من ذلك دخول أولئك الذين عرفوا بهمز المسلمين ولمزهم الذين قيل إنهم سبب نزول السورة لتعيينهم في هذا الوعيد.
واسم الموصول من قوله: {الَّذِي جَمَعَ مَالاً} نعت آخر ولم يعطف {الذي} بالواو لأن ذكر الأوصاف المتعددة للموصوف الواحد يجوز أن يكون بدون عطف نحو قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم: 10-13].
والمال: مكاسب الإنسان التي تنفعه وتكفي مؤونة حاجته من طعام ولباس وما يتخذ منه ذلك كالأنعام والأشجار ذات الثمار المثمرة. وقد غلب لفظ المال في كل قوم من العرب على ما هو كثير من مشمولاتهم فغلب اسم المال بين أهل الخيام على الإبل قال زهير:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه ... صحيحات مال طالعات بمخرم
(30/472)
يريد إبل الدية ولذلك قال: طالعات بمخرم.
وهو عند أهل القرى الذين يتخذون الحوائط يغلب على النخل يقولون خرج فلان إلى ماله، أي إلى جناته. وفي كلام أبي هريرة "وأن إخواني الأنصار شغلهم العمل في أموالهم وقال أبو طلحة وإن أحب أموالي إلي بئر حاء".
وغلب عند أهل مكة على الدراهم لأن أهل مكة أهل تجر ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "أين المال الذي عند أم الفضل" .
وتقدم في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [سورة آل عمران: 92].
ومعنى {عدده} أكثر من عده، أي حسابه لشدة ولعه بجمعه فالتضعيف للمبالغة في عد ومعاودته.
وقرأ الجمهور {جَمَعَ مَالاً} بتخفيف الميم. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر ورويس عن يعقوب وخلف بتشديد الميم مزاوجا لقوله: {عَدَّدَهُ} وهو مبالغة في {جمع} . وعل قراءة الجمهور دل تضعيف {عدده} على معنى تكلف جمعه بطريق الكناية لأنه لا يكرر عده إلا ليزيد جمعه.
ويجوز أن يكون {عَدَّدَهُ} بمعنى أكثر إعداده، أي إعداد أنواعه فيكون كقوله تعالى: {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
وجملة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} يجوز أن تكون حالا من همزة فيكون مستعملا في التهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يوحد من يحسب أن ماله يخلده، فيكون الكلام من قبيل التمثيل، أو تكون الحال مرادا بها التشبيه وهو تشبيه بليغ.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملا في الإنكار، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملا في التهكم به بأنه موقن بأن مال يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت.
والهمزة في {أخلده} للتعدية، أي جعله خالدا.
وقرأ الجمهور {يحسب} بكسر السين، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر
(30/473)
بفتح السين وهما لغتان.
ومعنى الآية: أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة.
و {كلا} إبطال لأن يكون المال مخلدا لهم. وزجر عن التلبس بالحالة الشنيعة التي جعلتهم في حال من يحسب أن المال يخلد صاحبه، أو إبطال للحرص في جمع المال جمعا يمنع به حقوق الله في المال من نفقات وزكاة.
{كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
استئناف بياني ناشئ عن ما تضمنته جملة {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} من التهكم والإنكار، وما أفاده حرف الزجر من معنى التوعد.
والمعنى: ليهلكن فلينبذن في الحطمة.
واللام جواب قسم محذوف. والضمير عائد إلى الهمزة.
والنبذ: الإلقاء والطرح، وأكثر استعماله في إلقاء ما يكره. قال صاحب الكشاف في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [القصص: 40] شبههم استحقارا لهم بحصيات أخذهن آخذ بكفه فطرحهن اه.
والحطمة: صفة بوزن فعلة، مثل ما تقدم في الهمزة، أي لينبذن في شيء يحطمه، أي يكسره ويدقه.
والظاهر أن اللام لتعريف العهد لأنه اعتبر الوصف علما بالغلبة على شيء يحطم وأريد بذلك جهنم، وأن إطلاق هذا الوصف على جهنم من مصطلحات القرآن. وليس في كلام العرب إطلاق هذا الوصف على النار.
فجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} في موضع حال من قوله: {الحطمة} والرابط إعادة لفظ الحطمة، وذلك إظهار في مقام الإظمار للتهويل كقوله: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} وما فيها من الاستفهام، وفعل الدراية يفيد تهويل الحطمة، وقد تقدم {مَا أَدْرَاكَ} غير مرة منها عند قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} في
(30/474)
[سورة الانفطار: 17].
وجملة {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} جواب على جملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ} مفيد مجموعهما بيان الحطمة ما هي، وموقع الجملة موقع الاستئناف البياني، والتقدير هي، أي الحطمة نار الله، فحذف المبتدأ من الجملة جريا على طريقة استعمال أمثاله من كل إخبار عن شيء بعد تقدم حديث عنه وأوصاف له، وقد تقدم عند قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} في [سورة البقرة: من الآية18].
وإضافة {نار} إلى اسم الجلالة للترويع بها بأنها نار خلقها القادر على خلق الأمور العظيمة.
ووصف {نار} بـ {موقدة} ، وهو اسم مفعول من: أوقد النار، إذا أشعلها وألهبها. والتوقد: ابتداء التهاب النار فإذا صارت جمرا فقد خف لهبها، أو زال، فوصف {نار} بـ {موقدة} يفيد أنها لا تزول تلتهب ولا يزول لهيبها. وهذا كما وصفت نار الأخدود بذات الوقود بفتح الواو في سورة البروج، أي النار التي يجد اتقادها بوقود وهو الحطب الذي يلقى في النار لتتقد فليس الوصف بالموقدة هنا تأكيدا.
ووصفت {نَارُ اللَّهِ} وصفا ثانيا بـ {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} .
والاطلاع يجوز أن يكون بمعنى الإتيان مبالغة في طلع، أي الإتيان السريع بقوة واستيلاء، فالمعنى: التي تنفذ إلى الأفئدة فتحرقها في وقت حرق ظاهر الجسد.
وأن يكون بمعنى الكشف والمشاهدة قال تعالى: {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 55]، فيفيد أن النار تحرق الأفئدة إحراق العالم بما تحتوي عليه الأفئدة من الكفر فتصيب كل فؤاد بما هو كفاؤه من شدة الحرق على حسب مبلغ سوء اعتقاده، وذلك بتقدير من الله بين شدة النار وقابلية المتأثر بها لا يعلمه إلا مقدره.
[8-9] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} .
هذه جملة يجوز أن تكون صفة ثالثة ل {نَارُ اللَّهِ} بدون عاطف، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا وتأكيدها ب {إن} لتهويل الوعيد بما ينفي عنه احتمال المجاز أو المبالغة.
وموصدة: اسم مفعول من أوصد الباب، إذا أغلقه غلقا مطبقا. ويقال: اآصد
(30/475)
بهمزتين إحداهما أصلية والأخرى همزة التعدية، ويقال: أصد الباب فعلا ثلاثيا، ولا يقال: وصد بالواو بمعنى أغلق.
وقرأ الجمهور {موصدة} بواو بعد الميم على تخفيف الهمزة. وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم المضمومة.
ومعنى إيصادها عليهم: ملازمة العذاب واليأس من الإفلات منه كحال المساجين الذين أغلق عليهم باب السجن تمثيل تقريب لشدة العذاب بما هو متعارف في أحوال الناس، وحال عذاب جهنم أشد مما يبلغه تصور العقول المعتاد.
وقوله: {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} حال: إما من ضمير {عليهم} أي في حال كونهم في عمد، أي موثوقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فلقة ذات ثقب يدخل في رجله أو في عنقه كالقرام. وإما حال من ضمير {إنها} ، أي أن النار الموقدة في عمد، أي متوسطة عمدا كما تكون نار الشواء إذ توضع عمد وتجعل النار تحتها تمثيلا لأهلها بالشواء.
و {عمد} قرأه الجمهور بفتحتين على أنه اسم جمع عمود مثل: أديم وأدم، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف عمد بضمتين وهو جمع عمود، والعمود: خشبة غليظة مستطيلة.
والممددة: المجعولة طويلة جدا، وهو اسم مفعول من مدده، إذا بالغ في مده، أي الزيادة فيه.
وكل هذه الأوصاف تقوية لتمثيل شدة الإغلاظ عليهم بأقصى ما يبلغه متعارف الناس من الأحوال.
(30/476)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفيل
وردت تسميتها في كلام بعض السلف سورة {أَلَمْ تَرَ} . روى القرطبي في تفسير "سورة قريش" عن عمرو بن ميمون قال: صليت المغرب خلف عمر ابن الخطاب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1]. وكذلك عنونها البخاري. وسميت في جميع المصاحف وكتب التفسير "سورة الفيل".
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت التاسعة عشرة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وقبل "سورة الفلق". وقيل قبل "سورة قريش" لقول الأخفش إن قوله تعالى: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] متعلق بقوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]، ولأن أبي بن كعب جعلها وسورة قريش سورة واحدة في مصحفه ولم يفصل بينهما بالبسملة ولخبر عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب المذكور آنفا روى أن عمر بن الخطاب قرأ مرة في المغرب في الركعة الثانية سورة الفيل وسورة قريش، أي ولم يكن الصحابة يقرأون في الركعة من صلاة الفرض سورتين لأن السنة قراءة الفاتحة وسورة فدل أنهما عنده سورة واحدة. ويجوز أن تكون سورة قريش نزلت بعد سورة الفلق وألحقت بسورة الفيل فلا يتم الاحتجاج بما في مصحف أبي بن كعب ولا بما رواه عمرو بن ميمون.
وآيها خمس.
أغراضها
وقد تضمنت التذكير بأن الكعبة حرم الله وأن الله حماه ممن أرادوا به سوءا أو أظهر غضبه عليهم فعذبهم لأنهم ظلموا بطمعهم في هدم مسجد إبراهيم وهو عندهم في كتابهم،
(30/477)
وذلك ما سماه الله كيدا، وليكون ما حل بهم تذكرة لقريش بأن فاعل ذلك هو رب ذلك البيت وأن لا حظ فيه للأصنام التي نصبوها حوله.
وتنبيه قريش أو تذكيرهم بما ظهر من كرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله إذ أهلك أصحاب الفيل في عام ولادته.
ومن وراء ذلك تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله يدفع عنه كيد المشركين فإن الذي دفع كيد من يكيد لبيته لأحق بأن يدفع كيد من يكيد لرسوله صلى الله عليه وسلم ودينه ويشعر بهذا قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2].
ومن وراء ذلك كله التذكير بأن الله غالب على أمره، وأن لا تغر المشركين قوتهم ووفرة عددهم ولا يوهن النبي صلى الله عليه وسلم تألب قبائلهم عليه فقد أهلك الله من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعا.
ولم يتكرر في القرآن ذكر إهلاك أصحاب الفيل خلافا لقصص غيرهم من الأمم لوجهين: أحدهما أن هلاك أصحاب الفيل لم يكن لأجل تكذيب رسول من الله، وثانيهما أن لا يتخذ من المشركين غرورا بمكانة لهم عند الله كغرورهم بقولهم المحكي في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 19] الآية وقوله: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنفال: 34].
[1] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} .
استفهام تقريري وقد بينا غير مرة أن الاستفهام التقريري كثيرا ما يكون على نفي المقرر بإثباته للثقة فإن المقرر لا يسعه إلا إثبات المنفي وانظر عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في [سورة البقرة: 243]. والاستفهام التقريري هنا مجاز بعلاقة اللزوم وهو مجاز كثر استعماله في كلامهم فصار كالحقيقة لشهرته. وعليه فالتقرير مستعمل مجازا في التكريم إشارة إلى أن ذلك كان إرهاصا للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون من باب قوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2]، وفيه مع ذلك تعريض بكفران قريش نعمة عظيمة من نعم الله عليهم إذ لم يزالوا يعبدون غيره.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه قوله: {ربك} . فمهيع هذه الآية شبيه بقوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} [الضحى:6] الآيات وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ
(30/478)
حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1-2]، على أحد الوجوه المتقدمة.
فالرؤية يجوز أن تكون مجازية مستعارة للعلم البالغ من اليقين حد الأمر المرئي لتواتر ما فعل الله بأصحاب الفيل بين أهل مكة وبقاء بعض آثار ذلك يشاهدونه. وقال أبو صالح: رأيت في بيت أم هانئ بنت أبي طالب نحوا من قفيزين من تلك الحجارة سودا مخططة بحمرة. وقال عتاب بن أسيد: أدركت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وقالت عائشة: لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان الناس. وفعل الرؤية معلق بالاستفهام.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية بالنسب لمن تجاوز سنه نيفا وخمسين سنة عند نزول الآية ممن شهد حادث الفيل غلاما أو فتى مثل أبي قحافة وأبي طالب وأبي بن خلف.
و {كيف} للاستفهام سد مسد مفعولين أو مفعول {تر} ، أي لم تر جواب هذا الاستفهام كما تقول: هل زيد قائم? وهو نصب على الحال من فاعل {تر} . ويجوز أن يكون كيف مجردا عن معنى الاستفهام مرادا منه مجرد الكيفية فيكون نصبا على المفعول به.
وإيثار {كيف} دون غيره من أسماء الاستفهام أو الموصول فلم يقل: ألم تر ما فعل ربك، أو الذي فعل ربك، للدلالة على حالة عجيبة يستحضرها من يعلم تفصيل القصة.
وأوثر لفظ {فَعَلَ رَبُّكَ} دون غيره لأن مدلول هذا الفعل يعم أعمالا كثيرة لا يدل عليها غيره.
وجيء في تعريف الله سبحانه بوصف {رب} مضافا إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود من التذكير بهذه القصة تكريم النبي صلى الله عليه وسلم إرهاصا لنبوته إذ كان ذلك عام مولده.
وأصحاب الفيل: الحبشة الذين جاءوا مكة غازين مضمرين هدم الكعبة انتقاما من العرب من أجل ما فعله أحد بني كنانة الذين كانوا أصحاب النسيء في أشهر الحج. وكان خبر ذلك وسببه أن الحبشة قد ملكوا اليمن بعد واقعة الأخدود التي عذب فيها الملك ذو نواس النصاري، وصار أمير الحبشة على اليمن رجلا يقال له أبرهة وأن أبرهة بنى كنيسة عظيمة في صنعاء دعاها القليس بفتح القاف وكسر اللام بعدها تحتية ساكنة،
(30/479)
وبعضهم يقولها بضم القاف وفتح اللام وسكون التحتية. وفي "القاموس" بضم القاف وتشديد اللام مفتوحة وسكون الياء. وكتبه السهيلي بنون بعد اللام ولم يضبطه وزعم أنه اسم مأخوذ من معاني القلس للارتفاع. ومنه القلنسوة واقتصر على ذلك ولم أعرف أصل هذا اللفظ فإما أن يكون اسم جنس للكنيسة ولعل لفظ كنيسة في العربية معرب منه، وإما أن يكون، علما وضعوه لهذه الكنيسة الخاصة وأراد أن يصرف حج العرب إليها دون الكعبة فروي أن رجلا من بني فقيم من بني كنانة وكانوا أهل النسيء للعرب كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} في [سورة براءة: 37]، قصد الكناني صنعاء حتى جاء القليس فأحدث فيها تحقيرا لها ليتسامع العرب بذلك فغضب أبرهة وأزمع غزو مكة ليهدم الكعبة وسار حتى نزل خارج مكة ليلا بمكان يقال له المغمس كمعظم موضع قرب مكة في طريق الطائف أو ذو الغميس لم أر ضبطه وأرسل إلى عبد المطلب ليحذره من أن يحاربوه وجرى بينهما كلام، وأمر عبد المطلب آله وجميع أهل مكة بالخروج منها إلى الجبال المحيطة بها خشية من معرة الجيش إذا دخلوا مكة. فلما أصبح هيأ جيشه لدخول مكة وكان أبرهة راكبا فيلا وجيشه معه فبينا هو يتهيأ لذلك إذ أصاب جنده داء عضال هو الجدري الفتاك يتساقط منه الأنامل، ورأوا قبل ذلك طيرا ترميهم بحجارة لا تصيب أحدا إلا هلك وهي طير من جند الله فهلك معظم الجيش وأدبر بعضهم ومرض أبرهة فقفل راجعا إلى صنعاء مريضا. فهلك في صنعاء وكفى الله أهل مكة أمر عدوهم. وكان ذلك في شهر محرم الموافق لشهر شباط فبراير سنة 570 بعد ميلاد عيسى عليه السلام، وبعد هذا الحادث بخمسين يوما ولد النبي صلى الله عليه وسلم على أصح الأخبار وفيها اختلاف كثير.
والتعريف في {الفيل} للعهد، وهو فيل أبرهة قائد الجيش كما قالوا للجيش الذي خرج مع عائشة أم المؤمنين أصحاب الجمل يريدون الجمل الذي كانت عليه عائشة، مع أن في الجيش جمالا أخرى. وقد قيل أن جيش أبرهة لم يكن فيه إلا فيل واحد، هو فيل أبرهة وكان اسمه محمود. وقيل كان فيه فيلة أخرى، قيل ثمانية وقيل اثنا عشر. وقال بعض: ألف فيل ووقع في رجز ينسب إلى عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والأفيالا
فيكون التعريف تعريف الجنس ويكون العهد مستفادا من الإضافة.
والفيل: حيوان عظيم من ذوات الأربع ذوات الخف، من حيوان البلاد الحارة ذات الأنهار من الهند والصين والحبشة والسودان. ولا يوجد في غير ذلك إلا مجلوبا، وهو
(30/480)
ذكي قابل للتأنس والتربية، ضخم الجثة أضخم من البعير، وأعلى منه بقليل وأكثر لحما وأكبر بطنا. وخف رجله يشبه خف البعير وعنقه قصير جدا له خرطوم طويل هو أنفه يتناول به طعامه وينتشق به الماء فيفرغه في فيه ويدفع به عن نفسه يختطف به ويلويه على ما يريد أذاه من الحيوان ويلقيه على الأرض ويدوسه بقوائمه. وفي عينيه خزر وأذناه كبيرتان مسترخيتان، وذنبه قصير أقصر من ذنب البعير وقوائمه غليظة. ومناسمه كمناسم البعير وللذكر منه نابان طويلان بارزان من فمه يتخذ الناس منها العاج. وجلده أجرد مثل جلد البقر، أصهب اللون قاتم كلون الفار ويكون منه الأبيض الجلد. وهو مركوب وحامل أثقال وأهل الهند والصين يجعلون الفيل كالحصن في الحرب يجعلون محفة على ظهره تسع ستة جنود. ولم يكن الفيل معروفا عند العرب فلذلك قل أن يذكر في كلامهم وأول فيل دخل بلاد العرب هو الفيل المذكور في هذه السورة.
وقد ذكرت أشعار لهم في ذكر هذه الحادثة في السيرة. ولكن العرب كانوا يسمعون أخبار الفيل ويتخيلونه عظيما قويا، قال لبيد:
ومقام ضيق فرجته ... ببيان ولسان وجدل
لو يقوم الفيل أو فياله ... زل عن مثل مقامي ورحل
وقال كعب بن زهير في قصيدته:
لقد أقوم مقاما لو يقوم به ... أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل يرعد إلا أن يكون له ... من الرسول بإذن الله تنويل
وكنت رأيت أن... قال إن أمه أرته أو حدثته أنها رأت روث الفيل بمكة حول الكعبة ولعلهم تركوا إزالته ليبقى تذكرة.
وعن عائشة وعتاب بن أسيد: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس.
والمعنى: ألم تعلم الحالة العجيبة التي فعلها الله بأصحاب الفيل، فهذا تقرير على إجمال يفسره ما بعده.
[2-5] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} .
(30/481)
هذه الجمل بيان لما في جملة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1] من الإجمال. وسمى حربهم كيدا لأنه عمل ظاهره الغضب من فعل الكناني الذي قعد في القليس وإنما هو تعلة تعللوا بها لإيجاد سبب لحرب أهل مكة وهدم الكعبة لينصرف العرب إلى حج القليس في صنعاء فيتنصروا.
أو أريد بكيدهم بناءهم القليس مظهرين أنهم بنوا كنيسة وهم يريدون أن يبطلوا الحج إلى الكعبة ويصرفوا العرب إلى صنعاء.
والكيد: الاحتيال على إلحاق ضر بالغير ومعالجة إيقاعه.
والتضليل: جعل الغير ضالا، أي لا يهتدي لمراده وهو هنا مجاز في الإبطال وعدم نوال المقصود لأن ضلال الطريق عدم وصول السائر.
وظرفية الكيد في التضليل مجازية، استعير حرف الظرفية لمعنى المصاحبة الشديدة، أي أبطل كيدهم بتضليل، أي مصاحبا للتضليل لا يفارقه، والمعنى: أنه أبطله إبطالا شديدا إذ لم ينتفعوا بقوتهم مع ضعف أهل مكة وقلة عددهم. وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] أي ضياع وتلف، وقد شمل تضليل كيدهم جميع ما حل بهم من أسباب الخيبة وسوء المنقلب.
وجملة {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} يجوز أن تجعل معطوفة على جملة {فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] أي وكيف أرسل عليهم طيرا من صفتها كيت وكيت، فبعد ا، وقع التقرير على ما فعل الله بهم من تضليل كيدهم عطف عليه تقرير بعلم ما سلط عليهم من العقاب على كيدهم تذكيرا بما حل بهم من نقمة الله تعالى، لقصدهم تخريب الكعبة، فذلك من عناية الله ببيته لإظهار توطئته لبعثة رسوله صلى الله عليه وسلم بدينه في ذلك البلد، إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، فكما كان إرسال الطير عليهم من أسباب تضليل كيدهم، كان فيه جزاء لهم، ليعلموا أن الله مانع بيته، وتكون جملة {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
ويجوز أن تجعل {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ} عطفا على جملة {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} فيكون داخلا في حيز التقرير الثاني بأن الله جعل كيدهم في تضليل، وخص ذلك بالذكر لجمعه بين كونه مبطل لكيدهم وكونه عقوبة لهم، ومجيئه بلفظ الماضي باعتبار أن المضارع في قوله: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} قلب زمانه إلى المضي لدخول حرف
(30/482)
{لم} كما تقدم في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} في [سورة الضحى 6-7]، فكأنه قيل: أليس جعل كيدهم في تضليل.
والطير: اسم جمع طائر، وهو الحيوان الذي يرتفع بالجو بعمل جناحيه. وتنكيره للنوعية لأنه نوع لم يكن معروفا عند العرب. وقد اختلف القصاصون في صفته اختلافا خياليا. والصحيح ما روي عن عائشة: أنها أشبه شيء بالخطاطيف، وعن غيرها أنها تشبه الوطواط.
و {أبابيل} : جماعات. قال الفراء وأبو عبيدة: أبابيل اسم جمع لا واحد له من لفظة عباديد وشماطيط وتبعهما الجوهري، وقال الرؤاسي والزمخشري: أحد أبابيل إبالة مشددة الموحدة مكسورة الهمزة. ومنه قولهم في المثل: ضغث على إبالة، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، وعليه فوصف الطير بأبابيل على وجه التشبيه البليغ.
وجملة {ترميهم} حال من {طيرا} وجيء بصيغة المضارع لاستحضار الحالة بحيث تخيل للسامع كالحادثة في زمن الحال ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} [فاطر: 9] الآية.
وحجارة: اسم جمع حجر. وعن ابن عباس قال: طين في حجارة، وعنه أن سجيل معرب سنك كل من الفارسية، أي عن كلمة سنك وضبط بفتح السين وسكون النون وكسر الكاف اسم الحجر وكلمة كل بكسر الكاف اسم الطين وجموع الكلمتين يراد به الآجر.
وكلتا الكلمتين بالكاف الفارسية المعمدة وهي بين مخرج الكاف ومخرج القاف، ولذلك تكون {من} بيانية، أي حجارة هي سجيل، وقد عد السبكي كلمة سجيل في منظومته في المعرب الواقع في القرآن.
وقد أشار إلى أصل معناه قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذريات:33] مع قوله في آيات أخر {حِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} فعلم أنه حجر أصله طين.
وجاء نظيره في قصة قوم لوط في سورة هود {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82] وفي سورة الحجر {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [الحجر:74] فتعين أن تكون الحجارة التي أرسلت على أصحاب الفيل من جنس الحجارة التي أمطرت على قوم لوط أي ليست حجرا صخريا ولكنها طين متحجر دلالة على أنها
(30/483)
مخلوقة لعذابهم.
قال ابن عباس: كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده فكان ذلك أول الجدري1. وقال عكرمة: إذا أصاب أحدهم منها خرج به الجدري.
وقد قيل إن الجدري لم يكن معروفا في مكة قبل ذلك.
وروي أن الحجر كان قدر الحمص. روى أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص حمرا بحتمة أي سوداء كأنها جزع ظفار. وعن ابن عباس: أنه رأى من هذه الحجارة عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة بالجزع الظفاري.
والعصف: ورق الزرع وهو جمع عصفة. والعصف إذا دخلته البهائم فأكلته داسته بأرجلها وأكلت أطرافه وطرحته على الأرض بعد أن كان أخضر يانعا. وهذا تمثيل لحال أصحاب الفيل بعد تلك النضرة والقوة كيف صاروا متساقطين على الأرض هالكين.
ـــــــ
1 بضم الجيم وفتح الدال المهملة ويقال بفتحهما لغتان: قروح إذا كثرت أهلكت وإذا أصابت الجلد بقي أثرها حفرا وتصيب العين فيعمى المصاب.
(30/484)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قريش
سميت هذه السورة في عهد السلف "سورة لإيلاف قريش" قال عمرو بن ميمون الأودي صلى عمر بن الخطاب المغرب فقرأ في الركعة الثانية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ} و {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} وهذا ظاهر في إرادة التسمية ولم يعدها في "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم.
وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة قريش" لوقوع اسم قريش فيها ولم يقع في غيرها، وبذلك عنونها البخاري في "صحيحه".
والسورة مكية عند جماهير العلماء. وقال ابن عطية: بلا خلاف. وفي القرطبي عن الكلبي والضحاك أنها مدنية، ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور المختلف فيها.
وقد عدت التاسعة والعشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة التين وقبل سورة القارعة.
وهي سورة مستقلة بإجماع المسلمين على أنها سورة خاصة.
وجعلها أبي بن كعب مع سورة الفيل سورة واحدة ولم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة التي كانوا يجعلونها علامة فصل بين السور، وهو ظاهر خبر عمرو بن ميمون عن قراءة عمر بن الخطاب. والإجماع الواقع بعد ذلك نقض ذلك.
وعدد آياتها أربع عند جمهور العادين. وعدها أهل مكة والمدينة خمس آيات.
ورأيت في مصحف عتيق من المصاحف المكتوبة في القيروان عددها أربع آيات مع أن قراءة أهل القيروان قراءة أهل المدينة.
(30/485)
أغراضها
أمر قريش بتوحيد الله تعالى بالربوبية تذكيرا لهم بنعمة أن الله مكن لهم السير في الأرض للتجارة برحلتي الشتاء والصيف لا يخشون عاديا يعدو عليهم.
وبأنه أمنهم من المجاعات وأمنهم من المخاوف لما وقر في نفوس العرب من حرمتهم لأنهم سكان الحرم وعمار الكعبة.
وبما ألهم الناس من جلب الميرة إليهم من الآفاق المجاورة كبلاد الحبشة.
ورد القبائل فلا يغير على بلدهم أحد قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت:67] فأكسبهم ذلك مهابة في نفوس الناس وعطفا منهم.
[1-4] {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} .
افتتاح مبدع إذ كان بمجرور بلام التعليل وليس بإثره بالقرب ما يصلح للتعليق به ففيه تشويق إلى متعلق هذا المجرور. وزاده الطول تشويقا إذ فصل بينه وبين متعلقه بالفتح بخمس كلمات، فيتعلق {لِإِيلافِ} بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا} .
وتقديم هذا المجرور للاهتمام به إذ هو من أسباب أمرهم بعبادة الله التي أعرضوا عنها بعبادة الأصنام والمجرور متعلق بفعل {ليعبدوا} .
وأصل نظم الكلام: لتعبد قريش رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فلما اقتضى قصد الاهتمام بالمعمول تقديمه على عامله، تولد من تقديمه معنى جعله شرطا لعامله فاقترن عامله بالفاء التي هي من شأن جواب الشرط، فالفاء الداخلة في قوله: {فَلْيَعْبُدُوا} مؤذنة بأن ما قبلها من قوة الشرط، أي مؤذنة بأن تقديم المعمول مقصود به اهتمام خاص وعناية قوية هي عناية المشترط بشرطه، وتعليق بقية كلامه عليه لما ينتظره من جوابه، وهذا أسلوب من الإيجاز بديع.
قال في "الكشاف" دخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط لأن المعنى إما لا فيعبدوه لإيلافهم، أي أن نعم الله عليهم لا تحصى فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة اه.
(30/486)
وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر:3] دخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل: وما كان فلا تدع تكبيره اه. وهو معنى ما في "الكشاف" . وسكتا عن منشأ حصول معنى الشرط وذلك أن مثل هذا جار عند تقديم الجار والمجرور، ونحوه من متعلقات الفعل وانظر قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} في [سورة البقرة: 40]، ومنه قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في [سورة يونس: 58]، وقوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ} في سورة [الشورى: 15]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله عن الجهاد فقال له: "ألك أبوان?" فقال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" .
ويجوز أن تجعل اللام متعلقة بفعل أعجبوا محذوفا ينبئ عنه اللام لكثرة وقوع مجرور بها بعد مادة التعجب، يقال: عجبا لك، وعجبا لتلك القضية، ومنه قول امرئ القيس فيا لك من ليل لأن حرف النداء مراد به التعجب فتكون الفاء في قوله: {فليعبدوا} تفريعا على التعجب.
وجوز الفراء وابن إسحاق في "السيرة" أن يكون {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} متعلقا بما في [سورة الفيل:5] من قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} قال القرطبي. وهو معنى قول مجاهد ورواية ابن جبير عن ابن عباس. قال الزمخشري: وهذا بمنزلة التضمين في الشعر وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به اه. يعنون أن هذه السورة وإن كانت سورة مستقلة فهي ملحقة بسورة الفيل فكما تلحق الآية بآية نزلت قبلها، تلحق آيات هي سورة فتتعلق بسورة نزلت قبلها.
والإيلاف: مصدر أألف بهمزتين بمعنى ألف وهما لغتان، والأصل هو ألف، وصيغة الإفعال فيه للمبالغة لأن أصلها أن تدل على حصول الفعل من الجانبين، فصارت تستعمل في إفادة قول الفعل مجازا ثم شاع ذلك في بعض الأفعال حتى ساوى الحقيقة مثل سافر، وعافاه الله، وقاتلهم الله.
وقرأه الجمهور في الموضعين {لإيلاف} بياء بعد الهمزة وهي تخفيف للهمزة الثانية. وقرأه ابن عامر "لإلاف" الأول بحذف الياء التي أصلها همزة ثانية، وقرأه {إيلافهم} بإثبات الياء مثل الجمهور. وقرأ أبو جعفر "ليلاف قريش" بحذف الهمزة الأولى. وقرأ "إلافهم" بهمزة مكسورة من غير ياء.
وذكر ابن عطية والقرطبي: إن أبا بكر عن عاصم قرأ بتحقيق الهمزتين في "لإألاف" وفي "إألافهم"، وذكر ابن عطية عن أبي علي الفارسي أن تحقيق الهمزتين لا وجه له.
(30/487)
قلت: لا يوجد في كتب القراءات التي عرفناها نسبة هذه القراءة إلى أبي بكر عن عاصم. والمعروف أن عاصما موافق للجمهور في جعل ثانية الهمزتين ياء، فهذه رواية ضعيفة عن أبي بكر عن عاصم.
وقد كتب في المصحف "إلفهم" بدون ياء بعد الهمزة وأما الألف المدة التي بعد اللام التي هي عين الكلمة فلم تكتب في الكلمتين في المصحف على عادة أكثر المدات مثلها، والقراءات روايات وليس خط المصحف إلا كالتذكرة للقارئ، ورسم المصحف سنة متبعة سنها الصحابة الذين عينوا لنسخ المصاحف وإضافة "إيلاف" إلى {قريش} على معنى إضافة المصدر إلى فاعله وحذف مفعوله لأنه هنا أطلق بالمعنى الاسمي لتلك العادة فهي إضافة معنوية بتقدير اللام.
وقريش: لقب الجد الذي يجمع بطون كثيرة وهو فهر بن مالك بن النضر ابن كنانة. هذا قول جمهور النسابين وما فوق فهر فهم من كنانة، ولقب فهر بلقب قريش بصيغة التصغير وهو على الصحيح تصغير قرش بفتح القاف وسكون الراء وشين معجمة اسم نوع من الحوت قوي يعدو على الحيتان وعلى السفن.
وقال بعض النسابين: أن قريشا لقب النضر بن كنانة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن قريش? فقال: "من ولد النضر" وفي رواية أنه قال "إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا" . فجميع أهل مكة هم قريش وفيهم كانت مناصب أهل مكة في الجاهلية موزعة بينهم وكانت بنو كنانة بخيف منى. ولهم مناصب في أعمال الحج خاصة منها النسيء.
وقوله: {إيلافهم} عطف بيان من {إِيلافِ قُرَيْشٍ} وهو من أسلوب الإجمال، فالتفصيل للعناية بالخبر ليتمكن في ذهن السامع ومنه قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36-37] حكاية لكلام فرعون، وقول امرئ القيس:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
والرحلة بكسر الراء: اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى آخر بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يسافر عليه راحلة.
وإضافة رحلة إلى الشتاء من إضافة الفعل إلى زمانه الذي يقع فيه فقد يكون الفعل مستغرقا لزمانه مثل قولك: سهر الليل، وقد يكون وقتا لابتدائه مثل صلاة الظهر، وظاهر
(30/488)
الإضافة أن رحلة الشتاء والصيف معروفة معهودة، وهما رحلتان. فعطف {والصيف} على تقدير مضاف، أي ورحلة الصيف، لظهور أنه لا تكون رحلة واحدة تبتدأ في زمانين فتعين أنهما رحلتان في زمنين.
وجوز الزمخشري: أن يكون لفظ {رحلة} المفرد مضافا إلى شيئين لظهور المراد وأمن اللبس، وقال أبو حيان: هذا عند سيبويه لا يجوز إلى في الضرورة.
والشتاء أسم لفصل من السنة الشمسية المقسمة إلى أربعة فصول. وفصل تسعة وثمانون يوما وبضع دقائق مبدؤها حلول الشمس في برج الجدي. ونهايتها خروج الشمس من برج الحوت، وبروجه ثلاثة: الجدي، والدلو، والحوت، وفصل الشتاء مدة البرد.
والصيف: اسم لفصل من السنة الشمسية، وهو زمن الحر ومدته ثلاثة وتسعون يوما وبضع ساعات، مبدأها حلول الشمس في برج السرطان ونهايته خروج الشمس من برج السنبلة، وبروجه ثلاثة، السرطان، والأسد، والسنبلة.
قال ابن العربي: قال مالك: الشتاء نصف السنة والصيف نصفها ولم أزل أرى ربيعة ابن أبي عبد الرحمان ومن معه لا يخلعون عمائمهم حتى تطلع الثريا يعني طلوع الثريا عند الفجر وذلك أول فصل الصيف وهو يوم التاسع عشر من بشنس وهو يوم خمسة وعشرين من عدد الروم أو الفرس اه. وشهر بشنس هو التاسع من أشهر السنة القبطية المجزأة إلى اثني عشر شهرا.
وشهر بشنس يبتدأ في اليوم السادس والعشرين من شهر نيسان أبريل وهو ثلاثون يوما ينتهي يوم 25 من شهر "إيار- ماية".
وطلوع الثريا عند الفجر وهو يوم تسعة عشر من شهر بشنس من أشهر القبط. قال أيمة اللغة: فالصيف عند العامة نصف السنة وهو ستة أشهر والشتاء نصف السنة وهو ستة أشهر.
والسنة بالتحقيق أربعة فصول: الصيف: ثلاثة أشهر، وهو الذي يسميه أهل العراق وخراسان الربيع، ويليه القيظ ثلاثة أشهر، وهو شدة الحر، ويليه الخريف ثلاثة أشهر، ويليه الشتاء ثلاثة أشهر. وهذه الآية صالحة للاصطلاحين. واصطلاح علماء الميقات تقسيم السنة إلى ربيع وصيف وخريف وشتاء، ومبدأ السنة الربيع هو دخول الشمس في
(30/489)
برج الحمل. وهاتان الرحلتان هما رحلة تجارة وميرة كانت قريش تجهزهما في هذين الفصلين من السنة إحداهما في الشتاء إلى بلاد الحبشة ثم اليمن يبلغون بها بلاد حمير، والأخرى في الصيف إلى الشام يبلغون بها مدينة بصرى من بلاد الشام.
وكان الذين سن لهم هاتين الرحلتين هاشم بن عبد مناف، وسبب ذلك أنهم كانوا يعتريهم خصاصة فإذا لم يجد أهل بيت طعاما لقوتهم حمل رب البيت عياله إلى موضع معروف فضرب عليهم خباء وبقوا فيه حتى يموتوا جوعا ويسمى ذلك الاعتفار بالعين المهملة وبالراء وقيل بالدال عوض الراء وبفاء فحدث أن أهل بيت من بني مخزوم أصابتهم فاقة شديدة فهموا بالاعتفار فبلغ خبرهم هاشما لأن أحد أبنائهم كان تربا لأسد بن هاشم، فقام هاشم خطيبا في قريش وقال إنكم أحدثتم حدثا تقلون فيه وتكثر العرب وتذلون وتعز العرب وأنتم أهل حرم الله والناس لكم تبع ويكاد هذا الاعتفار يأتي عليكم، ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارات فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم، وفيه يقول مطرود الخزاعي:
يأيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف
الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف
وأخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي
ولم تزل الرحلتان من إيلاف قريش حتى جاء الإسلام وهم على ذلك.
والمعروف المشهور أن الذي سن الإيلاف هو هاشم، وهو المروي عن ابن عباس وذكر ابن العربي عن الهروي: أن أصحاب الإيلاف هاشم وإخوته الثلاثة الآخرون عبد شمس، والمطلب، ونوفل، وأن واحد منهم أخذ حبلا، أي عهدا من أحد الملوك الذين يمرون في تجارتهم على بلادهم وهم ملك الشام، وملك الحبشة، وملك اليمن، وملك فارس. فأخذ هاشم هذا من ملك الشام وهو ملك الروم، وأخذ عبد شمس من نجاشي الحبشة وأخذ المطلب من ملك اليمن وأخذ نوفل من كسرى ملك فارس، فكانوا يجعلون جعلا لرؤساء القبائل وسادات العشائر يسمى الإيلاف أيضا، يعطونهم شيئا من الربح ويحملون إليهم متاعا ويسوقون إليهم إبلا مع إبلهم ليكفوهم مؤونة الأسفار وهم يكفون قريش دفع الأعداء فاجتمع لهم بذلك أمن الطريق كله إلى اليمن وإلى الشام وكانوا يسممون المجيرين.
وقد توهم النقاش من هذا أن لكل واحد من هؤلاء الأربعة رحلة فزعم أن الرحل
(30/490)
كانت أربعا، قال ابن عطية: وهذا قول مردود، وصدق ابن عطية فإن كون أصحاب العهد الذي كان به الإيلاف أربعة لا يقتضي أن تكون الرحلات أربعا، فإن ذلك لم يقله أحد. ولعل هؤلاء الاخوة كانوا يتداولون السفر مع الرحلات على التناوب لأنهم المعروفون عند القبائل التي تمر عليهم العير، أو لأنهم توارثوا ذلك بعد موت هاشم فكانت تضاف العير إلى أحدهم كما أضافوا العير التي تعرض المسلمون لها يوم بدر عير أبي سفيان إذ هو يومئذ سيد أهل الوادي بمكة.
ومعنى الآية تذكير قريش بنعمة الله عليهم إذ يسر لهم ما لم يتأت لغيرهم من العرب من الأمن من عدوان المعتدين وغارات المغيرين في السنة كلها بما يسر لهم من بناء الكعبة وشرعة الحج وإن جعلهم عمار المسجد الحرام وجعل لهم مهابة وحرمة في نفوس العرب كلهم في الأشهر الحرم وفي غيرها.
وعند القبائل التي تحرم الأشهر الحرم والقبائل التي لا تحرمها مثل طيء وقضاعة وخثعم، فتيسرت لهم الأسفار في بلاد العرب من جنوبها إلى شمالها، ولاذ بهم أصحاب الحاجات يسافرون معهم، وأصحاب التجارات يحملونهم سلعهم، وصارت مكة وسطا تجلب إليها السلع من جميع البلاد العربية فتوزع إلى طالبيها في بقية البلاد، فاستغنى أهل مكة بالتجارة إذ لم يكونوا أهل زرع ولا ضرع إذ كانوا بواد غير ذي زرع وكانوا يجلبون أقواتهم فيجلبون من بلاد اليمن الحبوب من بر وشعير وذرة وزبيب وأديم وثياب والسيوف اليمانية، ومن بلاد الشام الحبوب والتمر والزيت والزبيب والثياب والسيوف المشرفية، زيادة على ما جعل لهم مع معظم العرب من الأشهر الحرم، وما أقيم لهم من مواسم الحج وأسواقه كما يشير إليه قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} .
فذلك وجه تعليل الأمر بتوحيدهم الله بخصوص نعمة هذا الإيلاف مع أن لله عليهم نعم كثيرة لأن هذا الإيلاف كان سببا جامعا لأهم النعم التي بها قوام بقائهم.
وقد تقدم آنفا الكلام على معنى الفاء من قوله: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} . على الوجوه كلها.
والعبادة التي أمروا بها عبادة الله وحده دون إشراك الشركاء معه في العبادة لأن إشراك من لا يستحق العبادة مع الله الذي هو الحقيق بها ليس بعبادة أو لأنهم شغلوا بعبادة الأصنام عن عبادة الله فلا يذكرون الله إلا في أيام الحج في التلبية على أنهم قد زاد بعضهم فيها بعد قولهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
(30/491)
وتعريف {رب} بالإضافة إلى {هَذَا الْبَيْتِ} دون أن يقال: فليعبدوا الله، لما يومئ إليه لفظ {رب} من استحقاقه الإفراد بالعبادة دون شريك.
وأوثر إضافة {رب} إلى {هَذَا الْبَيْتِ} دون أن يقال: ربهم للإيماء إلى أن البيت هو أصل نعمة الإيلاف بأن أمر إبراهيم ببناء البيت الحرام فكان سببا لرفعة شأنهم بين العرب قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة: 97] وذلك إدماج للتنويه بشأن البيت الحرام وفضله.
والبيت معهود عند المخاطبين.
والإشارة إليه لأنه بذلك العهد كان كالحاضر في مقام الكلام علىأن البيت بهذا التعريف باللام صار علما بالغلبة على الكعبة و"رب البيت" هو الله والعرب يعترفون بذلك.
وأجري وصف الرب بطريقة الموصول {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} لما يؤذن به من التعليل للأمر بعبادة رب البيت الحرام بعلة أخرى زيادة على نعمة تيسير التجارة لهم، وذلك مما جعلهم أهل ثراء، وهما نعمة إطعامهم وأمنهم. وهذه إشارة إلى ما يسر لهم من ورود سفن الحبشة في البحر إلى جدة تحمل الطعام ليبيعوه هناك. فكانت قريش يخرجون إلى جدة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وكان أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن المخصبة يحملون الطعام في مكة فكانوا في سعة من العيش بوفر الطعام في بلادهم كذلك يسر لهم إقامة الأسواق حول مكة في أشهر الحج وهي سوق مجنة، وسوق ذي المجاز، وسوق عكاظ، فتأتيهم فيها الأرزاق ويتسع العيش، وإشارة إلى ما ألقي في نفوس العرب من حرمة مكة وأهلها فلا يريدهم أحد بتخويف. وتلك دعوة إبراهيم عليه السلام إذ قال {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126] فلم يتخلف ذلك عنهم إلا حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته "اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف" فأصابتهم مجاعة وقحط سبع سنين وذلك أول الهجرة.
و {من} الداخلة على {جوع} وعلى {خوف} معناها البدلية، أي أطعمهم بدلا من الجوع وآمنهم بدلا من الخوف. ومعنى البدلية هو أن حالة بلادهم تقتضي أن يكون أهلها في جوع فإطعامهم بدل من الجوع الذي تقتضيه البلاد، وأن حالتهم في قلة العدد وكونهم أهل حضر وليسوا أهل بأس ولا فروسية ولا شكة سلاح تقتضي أن يكونوا معرضين
(30/492)
لغارات القبائل فجعل الله لهم الأمن في الحرم عوضا عن الخوف الذي تقتضيه قلتهم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
وتنكير {جوع} و {خوف} للنوعية لا للتعظيم إذ لم يحل بهم جوع وخوف من قبل، قال مساور بن هند في هجاء بني أسد:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم الاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
(30/493)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون
سميت هذه السورة في كثير من المصاحف وكتب التفسير "سورة الماعون" لورود لفظ الماعون فيها دون غيرها.
وسميت في بعض التفاسير "سورة أرأيت" وكذلك في مصحف من مصاحف القيروان في القرن الخامس، وكذلك عنونها في "صحيح البخاري".
وعنونها ابن عطية ب "سورة أرأيت الذي". وقال الكواشي في "التلخيص" "سورة الماعون والدين وأرأيت"، وفي "الإتقان": وتسمى "سورة الدين" وفي "حاشيتي الخفاجي وسعدي" تسمى "سورة التكذيب" وقال البقاعي في "نظم الدرر" تسمى "سورة اليتيم". وهذه ستة أسماء.
وهي مكية في قول الأكثر. وروي عن ابن عباس، وقال القرطبي عن قتادة: هي مدنية. وروي عن ابن عباس أيضا. وفي "الإتقان": قيل نزلت ثلاث أولها بمكة أي إلى قوله: {الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] وبقيتها نزلت بالمدينة، أي بناء على أن قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] إلى آخر السورة أريد بها المنافقون وهو مروي عن ابن عباس وقاله هبة الله الضرير1 وهو الأظهر.
وعدت السابعة عشرة في عداد نزول السور بناء على أنها مكية، نزلت بعد سورة التكاثر وقبل سورة الكافرون.
وعدت آياتها ستا عند معظم العادين: وحكى الآلوسي: أن الذين عدوا آياتها ستا أهل
ـــــــ
1 هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم الضرير البغدادي المفسر له "كتاب الناسخ والمنسوخ"، كانت له حلقة في جامع المنصور توفي سنة 410، "تاريخ بغداد"، و"نكت الهميان".
(30/494)
العراق أي البصرة والكوفة وقال الشيخ علي النوري الصفاقسي في "غيث النفع": وآيها سبع حمصي أي شامي وست في الباقي. وهذا يخالف ما قاله الآلوسي.
أغراضها
من مقاصد التعجيب من حال من كذبوا بالبعث وتفظيع أعمالهم من الاعتداء على الضعيف واحتقاره والإمساك عن إطعام المسكين، والإعراض عن قواعد الإسلام من الصلاة والزكاة لأنه لا يخطر بباله أن يكون في فعله ذلك ما يجلب له غضب الله وعقابه.
[1-3] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
الاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المكذبين بالجزاء، وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع. فالتعجب من تكذيبهم بالدين وما تفرع عليه من دع اليتيم وعدم الحض على طعام المسكين وقد صيغ هذا التعجيب في نظم مشوق لأن الاستفهام عن رؤية من ثبتت له صلة الموصول يذهب بذهن السامع مذاهب شتى من تعرف المقصد بهذا الاستفهام، فإن التكذيب بالدين شائع فيهم فلا يكون مثارا للتعجب فيترقب السامع ماذا يرد بعده وهو قوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
وفي إقحام اسم الإشارة واسم الموصول بعد الفاء زيادة تشويق حتى تقرع الصلة سمع السامع فتتمكن منه كمال تمكن.
وأصل ظاهر الكلام أن يقال: أرأيت الذي يكذب بالدين فيدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين.
والإشارة إلى الذي يكذب بالدين باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز حتى يتبصر السمع فيه وفي صفته، أو لتنزيله منزلة الظاهر الواضح بحيث يشار إليه.
والفاء لعطف الصفة الثانية على الأولى لإفادة تسبب مجموع الصفتين في الحكم المقصود من الكلام، وذلك شأنها في عطف الصفات إذا كان موصوفها واحدا مثل قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات: 1-3].
فمعنى الآية عطف صفتي: دع اليتيم، وعدم إطعام المسكين على جزم التكذيب بالدين.
(30/495)
وهذا يفيد تشويه إنكار البعث بما ينشأ عن إنكاره من المذام ومن مخالفة للحق ومنافيا لما تقتضيه الحكمة من التكليف، وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء.
وجيء في {يكذب} ، {يدع} ، {ويحض} بصيغة المضارع لإفادة تكرر ذلك منه ودوامه.
وهذا إيذان بأن الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة التي يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتاج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات حتى إذا اختلى بنفسه وأمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النكراء.
والرؤية بصرية يتعدى فعلها إلى مفعول واحد، فإن المكذبين بالدين معروفون وأعمالهم مشهورة، فنزلت شهرتهم بذلك منزلة الأمر المبصر المشاهد.
وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي بعد الراء من أرأيت ألفا. وروى المصريون عن ورش عن نافع إبدالها ألفا وهو الذي قرأنا به في تونس، وهكذا في فعل "رأى" كلما وقع بعد الهمزة استفهام وذلك فرار من تحقيق الهمزتين، قرأ الجمهور بتحقيقها.
وقرأه الكسائي بإسقاط الهمزة التي بعد الراء في كل فعل من هذا القبيل. واسم الموصول وصلته مراد بهما جنس اتصف بذلك. وأكثر المفسرين درجوا على ذلك.
وقيل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وقيل في الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل في عمر بن عائذ المخزومي، وقيل في أبي سفيان بن حرب قبل إسلامه بسبب أنه كان ينحر كل أسبوع جزورا فجاءه مرة يتيم فسأله من لحمها فقرعه بعصا. وقيل في أبي جهل: كان وصيا على يتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا.
والذين جعلوا السورة مدنية قالوا: نزلت في منافق لم يسموه، وهذه أقوال معزو بعضها إلى بعض التابعين ولو تعينت لشخص معين لم يكن سبب نزولها مخصصا حكمها بما نزلت بسببه.
ومعنى {يدع} يدفع بعنف وقهر، قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} [الطور:13].
(30/496)
والحض: الحث، وهو أن تطلب غيرك فعلا بتأكيد.
والطعام: اسم الإطعام، وهو اسم مصدر إلى مفعوله إضافة لفظية. ويجوز أن يكون الطعام مرادا به ما يطعم كما في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} [البقرة: 259] فتكون إضافة طعام إلى مسكين معنوية على معنى اللام، أي الطعام الذي هو حقه على الأغنياء ويكون فيه تقدير مضاف مجرور ب"على" تقديره: على إعطاء طعام المسكين.
وكني بنفي الحض عن نفي الإطعام لأن الذي يشح بالحض على الإطعام هو بالإطعام أشح كما تقدم في قوله: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الفجر:18] وقوله: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في [سورة الحاقة: 34].
والمسكين: الفقير، ويطلق على الشديد الفقر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} في [سورة التوبة: 60].
[4-7] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} .
موقع الفاء صريح في اتصال ما بعدها بما قبلها من الكلام على معنى التفريع والترتيب والتسبب.
فيجيء على القول أن السورة مكية بأجمعها أن يكون المراد بالمصلين عين المراد بالذي يكذب بالدين، ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فقوله: {لِلْمُصَلِّينَ} إظهار في مقام الإضمار كأنه قيل: فويل له على سهوه عن الصلاة، وعلى الرياء، وعلى منع الماعون، دعا إليه زيادة تعداد صفاته الذميمة بأسلوب سليم عن تتابع ست صفات لأن ذلك التتابع لا يخلو من كثرة تكرار النظائر فيشبه تتابع الإضافات الذي قيل إنه مناكد للفصاحة، مع الإشارة بتوسيط ويل له إلى أن الويل ناشئ عن جميع تلك الصفات التي هو هلها وهذا المعنى أشار إليه كلام الكشاف بغموض.
فوصفهم ب {المصلين} إذن تهكم، والمراد عدمه، أي الذين لا يصلون، أي ليسوا بمسلمين كقوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43-44] وقرينة التهكم وصفهم ب {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} .
وعلى القول بأنها مدنية أو أن هذه الآية وما بعدها منها مدنية يكون المراد
(30/497)
بـ {الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} المنافقين. وروى هذا ابن وهب وأشهب عن مالك فتكون الفاء قي قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} من هذه الجملة لربطها بما قبلها لأن الله أراد ارتباط هذا الكلام بعضه ببعض.
وجيء في هذه الصفة بصيغة الجمع لأن المراد ب {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} : جنس المكذبين على أظهر الأقوال. فإن كان المراد به معينا على بعض تلك الأقوال المتقدمة كانت صيغة الجمع تذليلا يشمله وغيره فإنه واحد من المتصفين بصفة ترك الصلاة، وصفة الرياء، وصفة منع الماعون.
وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} صفة {لِلْمُصَلِّينَ} مقيدة لحكم الموصوف فإن الويل للمصلي الساهي عن صلاته لا للمصلي على الإطلاق.
فيكون قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ترشيحا للتهكم الواقع في إطلاق وصف المصلين عليهم.
وعدي {ساهون} بحرف {عن} لإفادة إنهم تجاوزوا إقامة صلاتهم وتركوها ولا علاقة لهذه الآية بأحكام السهو في الصلاة.
وقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} يجوز أن يكون معناه الذين لا يؤدون الصلاة إلا رياء فإذا خلوا تركوا الصلاة.
ويجوز أن يكون معناه: الذين يصلون دون نية وإخلاص فهم في حالة الصلاة بمنزلة الساهي عما يفعل فيكون إطلاق {ساهون} تهكما كما قال تعالى: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} في المنافقين في [سورة النساء:142].
ويراءون يقصدون أن يرى الناس أنهم على حال حسن وهم بخلافه ليتحدث الناس لهم بمحاسن ما هم بموصوفين بها ولذلك كثر أن تعطف السمعة على الرياء فيقال: رياء وسمعة.
وهذا الفعل وارد في الكلام على صيغة المفاعلة ولم يسمع منه فعل مجرد لأنه يلازمه تكرير الإراءة.
و { الماعون} : يطلق على الإعانة بالمال، فالمعنى: يمنعون فضلهم أو يمنعون
(30/498)
الصدقة على الفقراء. فقد كانت الصدقة واجبة في صدر الإسلام بغير تعيين قبل مشروعية الزكاة.
وقال سعيد بن المسيب وابن شهاب: الماعون المال بلسان قريش.
وروى أشهب عن مالك: الماعون الزكاة: ويشهد له قول الراعي:
قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ماعونهم ويضيعوا التهليلا
لأنه أراد بالتهليل الصلاة فجمع بينها وبين الزكاة.
ويطلق على ما يستعان به على عمل البيت من آنية وآلات طبخ وشد وحفر ونحو ذلك مما لا خسارة على صاحبه في إعارته وإعطاءه. وعن عائشة: الماعون الماء والنار والملح. وهذا ذم لهم بمنتهى البخل. وهو الشح بما لا يزرأهم.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {هُمْ يُرَاؤُونَ} لتقوية الحكم، أي تأكيده.
فأما على القول بأن السورة مدنية أو بأن هذه الآيات الثلاث مدنية يكون المراد بالمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون والصلاة بعدها: المنافقين، فإطلاق المصلين عليهم بمعنى المتظاهرين بأنهم يصلون وهو من إطلاق الفعل على صورته كقوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة: 64] أي يظهرون أنهم يحذرون تنزيل سورة.
و {يَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} أي الصدقة أو الزكاة قال تعالى في المنافقين {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة: 67] فلما عرفوا بهذه الخلال كان مفاد فاء التفريع أن أولئك المتظاهرين بالصلاة وهم تاركوها في خاصتهم هم من جملة المكذبين بيوم الدين ويدعون اليتيم ولا يحضون على طعام المسكين.
وحكى هبة الله بن سلامة في "كتاب الناسخ والمنسوخ": أن هذه الآيات الثلاث نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول، أي فإطلاق صيغة الجمع عليه مراد بها واحد على حد قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] أي الرسول إليهم.
والسهور حقيقته: الذهول عن أمر سبق علمه، وهو هنا مستعار للإعراض والترك عن عمد استعارة تهكمية مثل قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] أي تعرضون عنهم، ومثله استعارة الغفلة للإعراض في قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا
(30/499)
غَافِلِينَ} في [سورة الأعراف: 136] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} في [سورة يونس: 7]، وليس المقصود الوعيد على السهو الحقيقي عن الصلاة لأن حكم النسيان مرفوع على هذه الأمة، وذلك ينادي على أن وصفهم بالمصلين تهكم بهم بأنهم لا يصلون.
واعلم أنه إذا أراد الله إنزال شيء من القرآن ملحقا بشيء قبله جعل نظم الملحق مناسبا لما هو متصل به، فتكون الفاء للتفريع. وهذه نكتة لم يسبق لنا إظهارها فعليك ملاحظتها في كل ما ثبت أنه نزل من القرآن ملحقا بشيء نزل قبله منه.
(30/500)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكوثر
سميت هذه السورة في جميع المصاحف التي رأيناها في جميع التفاسير أيضا "سورة الكوثر" وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه". وعنونها البخاري في صحيحه سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي ليس لها أكثر من اسم. ونقل سعد الله الشهير بسعدي في "حاشيته على تفسير البيضاوي" عن البقاعي أنها تسمى "سورة النحر".
وهل هي مكية أو مدنية? تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال: أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي: وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: "أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ثم قال: أتدرون ما الكوثر?" قلنا الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة" الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ آنفا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى: {وانحر} من أن النحر في الحج أو يوم
(30/501)
الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل: إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر.
أغراضها
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة.
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان.
[1-2] {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر. والإشعار بأنه شيء عظيم يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]. والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الأخبار بعطاء سابق.
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم.
و { الْكَوْثَرَ} : اسم في اللغة الخير الكثير صيغ على زنة فوعل، وهي من صيغ
(30/502)
الأسماء الجامدة غالبا نحو الكوكب، والجورب، والحوشب والدوسر1، ولا تدل في الجوامد على غير مسماها، ولما وقع هنا فيها مادة الكثر كانت صيغته مفيدة شدة ما اشتقت منه بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى، ولذلك فسره الزمخشري بالمفرط في الكثرة، وهو أحسن ما فسر به وأضبطه، ونضيره: جوهر، بمعنى الشجاع كأنه يجاهر عدوه، والصومعة لاشتقاقها من وصف أصمع وهو دقيق الأعضاء لأن الصومعة دقيقة لأن طولها أفرط من غلظها.
ويوصف الرجل صاحب الخير الكثير بكوثر من باب الوصف بالمصدر كما في قول لبيد في رثاء عوف بن الأحوص الأسدي:
وصاحب ملحوب فجعنا بفقده ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
"ملحوب والرداع" كلاهما ماء لبني أسد بن خزيمة، فوصف البيت بالكوثر ولاحظ الكميث هذا في قوله في مدح عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقايل كوثرا
وسمي نهر الجنة كوثرا كما في حديث مسلم عن أنس بن مالك المتقدم آنفا.
وقد فسر السلف الكوثر في هذه الآية بتفاسير أعموها أنه الخير الكثير، وروي عن ابن عباس قال سعيد بن جبير فقلت لابن عباس: إن ناس يقولون هو نهر في الجنة، فقال: هو من الخير الكثير. وعن عكرمة: الكوثر هنا: النبوءة والكتاب، وعن الحسن: هو القرآن، وعن المغيرة: أنه الإسلام، وعن أبي بكر بن عياش: هو كثرة الأمة، وحكى الماوردي: أنه رفعة الذكر، وأنه نور القلب، وأنه الشفاعة. وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المروي في حديث أنس لا يقتضي حصر معاني اللفظ فيما ذكره.
وأريد من هذا الخبر بشارة النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة ما عسى أن يكون في خاطره من قول من قال فيه: هو أبتر، فقوبل معنى الأبتر بمعنى الكوثر، إبطالا لقولهم.
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} اعتراض والفاء للتفريع على هذه البشارة بأن يشكر ربه عليها، فإن الصلاة أفعال وأقوال دالة على تعظيم الله والثناء عليه وذلك شكر لنعمته.
وناسب أن يكون الشكر بالازدياد مما عاداه عليه المشركون وغيرهم ممن قالوا مقالتهم الشنعاء: إنه أبتر، فإن الصلاة لله شكر له وإغاظة للذين ينهونه عن الصلاة كما قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] لأنهم إنما نهوه عن الصلاة التي هي لوجه الله دون العبادة لأصنامهم، وكذلك النحر لله.
ـــــــ
1 الجورب: ثوب يجعل في صورة خف وتلف فيه الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وعظم في باطن الحافر، واسم للأرنب الذكر، والثعلب الذكر، والدوسر: الضخم الشديد.
(30/503)
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} دون: فصل لنا، لما في لفظ الرب من الإيماء إلى استحقاقه العبادة لأجل ربوبيته فضلا عن فرط إنعامه.
وإضافة رب إلى ضمير المخاطب لقصد تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتقريبه، وفيه تعريض بأنه يربه ويرأف به.
ويتعين أن في تفريع الأمر بالنحر مع الأمر بالصلاة على أن أعطاه الكوثر خصوصية تناسب الغرض الذي نزلت السورة له، ألا ترى أنه لم يذكر الأمر بالنحر مع الصلاة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} في [سورة الحجر: 97-98].
ويظهر أن هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صد المشركين إياه عن البيت في الحديبية، فأعلمه الله تعالى بأنه أعطاه خيرا كثيرا، أي قدره له في المستقبل وعبر عنه بالماضي لتحقيق وقوعه، فيكون معنى الآية كمعنى قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1] فإنه نزل في أمر الحديبية فقد قال له عمر بن الخطاب: أفتح هذا? قال: نعم.
وهذا يرجع إلى ما رواه الطبري عن قول سعيد بن جبير: أن قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أمر بأن يصلي وينحر هديه وينصرف من الحديبية.
وأفادت اللام من قوله: {لربك} أنه يخص الله في صلاته فلا يصلي لغيره. ففيه تعريض للمشركين بأنهم يصلون للأصنام بالسجود لها والطواف حولها.
وعطف {وانحر} على {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} يقتضي تقدير متعلقه مماثلا لمتعلق {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} لدلالة ما قبله عليه كما في قوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] أي وأبصر بهم، فالتقدير: وانحر له. وهو إيماء إلى إبطال نحر المشركين قربانا للأصنام فإن كانت السورة مكية فلعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اقترب وقت الحج وكان يحج كل عام قبل البعثة وبعدها وقد تردد في نحر هداياه في الحج بعد بعثته، وهو يود أن يطعم المحاويج من أهل مكة ومن يحضر في الموسم ويتحرج من أن يشارك أهل الشرك في أعمالهم فأمره الله أن ينحر الهدي لله ويطعمها المسلمين، أي لا يمنعك نحرهم للأصنام أن تنحر أنت ناويا بما تنحره أنه لله.
وإن كانت السورة مدنية وكان نزولها قبل فرض الحج كان النحر مرادا به الضحايا يوم عيد النحر ولذلك قال كثير من الفقهاء إن قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} مراد به صلاة العيد،
(30/504)
وروي ذلك عن مالك في تفسير الآية وقال لم يبلغني فيه شيء.
واخذوا من وقوع الأمر بالنحر بعد الأمر بالصلاة دلالة على أن الضحية تكون بعد الصلاة، وعليه فالأمر بالنحر دون الذبح مع أن الضأن أفضل في الضحايا وهي لا تنحر وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالضأن تغليب للفظ النحر وهو الذي روعي في تسمية يوم الأضحى يوم النحر وليشمل الضحايا في البدن والهدايا في الحج أو ليشمل الهدايا التي عطل إرسالها في يوم الحديبية كما علمت آنفا. ويرشح إيثار النحر رعي فاصلة الراء في السورة. وللمفسرين الأولين أقوال أخر في تفسير انحر تجعله لفظا غريبا.
[3] {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} .
استئناف يجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا. ويجوز أن تكون الجملة تعليل لحرف {إن} إذا لم يكن لرد الإنكار يكثر أن يفيد التعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة: 32].
واشتمال الكلام على صيغة قصر وعلى ضمير غائب وعلى لفظ الأبتر مؤذن بأن المقصود به رد كلام صادر من معين، وحكاية لفظ مراد بالرد، قال الواحدي: قال ابن عباس: إن العاصي بن وائل السهمي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام عند باب بني سهم فتحدث معه وأناس من صناديد قريش في المسجد فلما دخل العاصي عليهم قالوا له: من الذي كنت تتحدث معه فقال: ذلك الأبتر، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن مات ابنه القاسم قبل عبد الله فانقطع بموت عبد الله الذكور من ولده صلى الله عليه وسلم يومئذ، وكانوا يصفون من ليس له ابن بأبتر فأنزل الله هذه السورة، فحصل القصر في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} لأن ضمير الفصل يفيد قصر صفة الأبتر على الموصوف وهو شانئ النبي صلى الله عليه وسلم، قصر المسند على المسند إليه وهو قصر قلب، أي هو الأبتر لا أنت.
و { الْأَبْتَرُ} : حقيقته المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيها بالدابة المقطوع ذنبها تشبيه معقول بمحسوس كما في الحديث "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر" يقال: بتر شيئا إذا قطع بعضه وبتر بالكسر كفرح فهو أبتر، ويقال للذي لا عقب له ذكورا هو أبتر على الاستعارة تشبيه متخيل بمحسوس شبهوه بالدابة المقطوع ذنبها لأنه قطع أثره في تخيل
(30/505)
أهل العرف.
ومعنى الأبتر في الآية الذي لا خير فيه وهو رد لقول العاصي بن وائل أو غيره في حق النبي صلى الله عليه وسلم فبهذا المعنى استقام وصف العاصي أو غيره بالأبتر دون المعنى الذي عناه هو حيث لمز النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أبتر، أي لا عقب له لأن العاصي بن وائل له عقب فابنه عمرو الصحابي الجليل، وابن ابنه عبد الله بن عمرو ابن العاص الصحابي الجليل ولعبد الله عقب كثير. قال ابن حزم في الجمهرة عقبه بمكة وبالرهط1.
فقوله تعالى: {هُوَ الْأَبْتَرُ} اقتضت صيغة القصر إثبات صفة الأبتر لشانئ النبي صلى الله عليه وسلم ونفيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأبتر بمعنى الذي لا خير فيه.
ولكن لما كان وصف الأبتر في الآية جيء به لمحاكاة قول القائل محمد أبتر إبطال لقوله ذلك، وكان عرفهم في وصف الأبتر أنه الذي لاعقب له تعين أن يكون هذا الإبطال ضربا من الأسلوب الحكيم وهو تلقي السامع بغير ما يترقب بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أن الأحق غير ما عناه من كلامه كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. وذلك بصرف مراد القائل عن الأبتر الذي هو عديم الابن الذكر إلى ما هو أجدر بالاعتبار وهو ناقص حظ الخير، أي ليس ينقص للمرء أنه لا ولد له لأن ذلك لا يعود على المرء بنقص في صفاته وخلائقه وعقله. وهب أنه لم يولد له البتة، وإنما أصطلح الناس على اعتباره نقصا لرغبتهم في الولد بناء على ما كانت عليه أحوالهم الاجتماعية من الاعتماد على الجهود البدنية فهم يبتغون الولد الذكور رجاء الاستعانة بهم عند الكبر وذلك أمر قد يعرض وقد لا يعرض أو لمحبة ذكر المرء بعد موته وذلك أمر وهمي، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أغناه الله بالقناعة، وأعزه بالتأييد، وقد جعل الله له لسان صدق لم يجعل مثله لأحد من خلقه، فتمحض أن كماله الذاتي بما علمه الله فيه إذ جعل فيه رسالته، وأن كماله العرضي بأصحابه وأمته إذ جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وفي الآية محسن الاستخدام التقديري لأن سوق الإبطال بطريق القصر بقوله: {هُوَ الْأَبْتَرُ} نفي وصل الأبتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بمعنى غير المعنى الذي عناه شانئه
ـــــــ
1 كذا في طبعة "جمهرة ابن حزم". وقال ياقوت: الرهط موبضع في شعر هذيل.
وأقول : لعله تحريف راهط وراهط موضع بغوطة دمشق.
(30/506)
فهو استخدام ينشأ من صيغة القصر بناء على أن ليس الاستخدام منحصر في استعمال الضمير في غير معنى معاده، على ما حققه أستاذنا العلامة سال أبو حاجب وجعله وجها في واو العطف من قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] لأن العطف بمعنى إعادة العامل فكأنه قال: وجاء الملك، وهو مجيء مغاير لمعنى مجيء الله تعالى، قال وقد سبقنا الخفاجي إلى ذلك إذ أجراه في حرف الاستثناء في "طراز المجالس" في قول محمد الصالحي من شعراء الشام:
وحديث حبي ليس بال ... منسوخ إلا في الدفاتر
والشانئ: المبغض وهو فاعل من الشناءة وهي البغض ويقال فيه: الشنآن، وهو يشمل كل مبغض له من أهل الكفر فكلهم بتر من الخير ما دام فيه شنآن للنبي صلى الله عليه وسلم فأما من أسلموا منهم فقد أنقلب بعضهم محبة له واعتزازا به.
(30/507)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرون
عنونت هذه السورة في المصاحف التي بأيدينا قديمها وحديثها وفي معظم التفاسير "سورة الكافرون" بإضافة "سورة" إلى {الْكَافِرُونَ} وثبوت واو الرفع في {الْكَافِرُونَ} على حكاية لفظ القرآن الواقع في أولها.
ووقع في "الكشاف" و"تفسير ابن عطية" و"حرز الأماني" "سورة الكافرون" بياء الخفض في لفظ {الْكَافِرُونَ} بإضافة "سورة" إليه أن المراد سورة ذكر الكافرين، أو نداء الكافرين، وعنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
قال في "الكشاف" و"الإتقان": وتسمى هي وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بالمشققشتين لأنهما تشقشقان من الشرك أي تبرئان منه يقال: قشقش، إذ أزال المرض.
وتسمى أيضا سورة الإخلاص فيكون هذان الاسمان مشتركين بينها وبين سورة قل هو الله أحد.
وقد ذكر في سورة براءة أن سورة براءة تسمى المقشقشة لأنها تقشقش، أي تبرئ من النفاق فيكون هذا مشتركا بين السور الثلاث فيحتاج إلى التمييز.
وقال سعد الله المعروف بسعدي عن "جمال القراء" أنها تسمى سورة العبادة وفي "بصائر ذوي التمييز" للفيروز آبادي تسمى "سورة الدين".
وهي مكية بالاتفاق في حكاية ابن عطية وابن كثير، وروي عن ابن الزبير أنها مدنية.
وقد عدت الثامنة عشرة في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الماعون وقبل سورة الفيل.
وعدد آياتها ست.
(30/508)
أغراضها
وسبب نزولها فيما حكاه الواحدي في أسباب النزول وابن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف في الكعبة فاعترضه الأسود بن المطلب بن أسد، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد سنة وتعبد ما نعبد سنة فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظه منا وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه فقال: "معاذ الله أن أشرك به غيره" ، فأنزل الله فيهم {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقرأها عليهم فيئسوا منه عند ذلك وإنما عرضوا عليه ذلك لأنهم رأوا حرصه على أن يؤمنوا فطمعوا أن يستزلوه إلى الاعتراف بإلهية أصنامهم.
وعن ابن عباس: فيئسوا منه وآذوه وآذوا أصحابه.
وبهذا يعلم الغرض الذي اشتملت عليه وأنه تأييسهم من أن يوافقهم في شيء مما هم عليه من الكفر بالقول الفصل المؤكد في الحال والاستقبال وأن دين الإسلام لا يخالط شيئا من دين الشرك.
[1-3] {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} .
افتتاحها ب {قل} للاهتمام بما بعد القول بأنه كلام يراد إبلاغه إلى الناس بوجه خاص منصوص فيه على أنه مرسل بقول يبلغه وإلا فإن القرآن كله مأمور بإبلاغه، ولهذه الآية نظائر في القرآن مفتتحة بالأمر بالقول في غير جواب عن سؤال منها {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ} في [سورة الجمعة:6]. والسور المفتتحة بالأمر بالقول خمس سور: {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1]، وسورة الكافرون، وسورة الإخلاص، والمعوذتان، فالثلاث الأول لقول يبلغه، والمعوذتان لقول يقوله لتعويذ نفسه.
والنداء موجه للأربعة الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، كما في خبر سبب النزول وذلك الذي يقتضيه قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} كما سيأتي.
وابتدئ خطابهم بالنداء لإبلاغهم، لأن النداء يستدعي إقبال أذهانهم على ما سيلقي
(30/509)
عليهم.
ونودوا بوصف الكافرين تحقيرا لهم وتأييدا لوجه التبرؤ منهم وإيذانا بأنه لا يخشاهم إذا ناداهم بما يكرهون مما يثير غضبهم لأن الله كفاه إياهم وعصمه من أذاهم. قال القرطبي: قال أبو بكر بن الأنباري: إن المعنى: قل للذين كفروا يا أيها الكافرون أن يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم: يا أيها الكافرون وهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر.
فقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} إخبار عن نفسه بما حصل منها.
والمعنى: لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقا لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه "لا" النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل كما درج عليه في "الكشاف"، وهو قول جمهور أهل العربية. ومن أجل ذلك كان حرف "لن" مفيدا تأكيد النفي في المستقبل زيادة على منطلق النفي، ولذلك قال الخليل: أصل "لن": لا أن، فلما أقادت "لا" وحدها نفي المستقبل كان تقدير "أن" بعد "لا" مفيدا تأكيد ذلك النفي في المستقبل فمن أجل ذلك قالوا أن "لن" تفيد تأكيد النفي في المستقبل فعلمنا أن "لا" كانت مفيدة نفي الفعل في المستقبل. وخالفهم ابن مالك كما في "مغني اللبيب"، وأبو حيان كما قال في هذه السورة، والسهيلي عند كلامه على نزول هذه السورة في "الروض الآنف".
ونفي عبادته آلهتهم في المستقبل يفيد نفي أن يعبدها في الحال بدلالة فحوى الخطاب، ولأنهم ما عرضوا عليه إلا أن يعبد آلهتهم بعد سنة مستقبلة.
ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، أي ما أنتم بمغيرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه لأن يبتدئوا هم فهم يعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ.
وهذا أخباره إياهم بأنه يعلم إنهم غير فاعلين ذلك من الآن بإنباء الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، بذلك فكان قوله هذا من دلائل نبوءته نضير قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] فإن أولئك النفر بأربعة لم يسلم منهم أحد فماتوا على شركهم.
وما صدق {مَا أَعْبُدُ} هو الله تعالى وعبر بـ"ما" الموصولة لأنها موضوعة للعاقل وغيره من المختار وإنما تختص بـ"من" بالعاقل، فلا مانع من إطلاق "ما" على العاقل إذا
(30/510)
كان اللبس مأمونا. وقال السهيلي في "الروض الآنف": أن "ما" الموصولة يؤتى بها لقصد الإبهام لتفيد المبالغة في التفخيم كقول العرب: سبحان ما سبح الرعد بحمده، وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} كما تقدم في [سورة الشمس: 5].
[4] {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} .
عطف على {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:3] عطف الجملة على الجملة لمناسبة نفي أن يعبدوا الله فأردف بنفي أن يعبد هو آلهتهم، وعطفه بالواو صارف عن أن يكون المقصود به تأكيد {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فجاء به على طريقة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} بالجملة الاسمية. للدلالة على الثبات، ويكون الخبر اسم فاعل دالا على زمان لحال، فلما نفى عن نفسه أن يعبد في المستقبل ما يعبدونه بقوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} كما تقدم آنفا، صرح هنا بما تقتضيه دلالة الفحوى على نفي أن يعبد آلهتهم في الحال، بما هو صريح الدلالة على ذلك لأن المقام يقتضي مزيد البيان، فاقتضى الاعتماد على دلالة المنطوق إطنابا في الكلام، لتأييسهم مما راودوه عليه ولمقابلة كلامهم المردود بمثله في إفادة الثبات. وحصل من ذلك تقرير المعنى السابق وتأكيده، تبعا لمدلول الجملة لا لموقعها، لأن موقعها أنها عطف على جملة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وليس توكيدا لجملة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} بمرادفها لأن التوكيد للفظ بالمرادف لا يعرف إلا في المفردات ولأن وجود الواو يعين أنها معطوفة إذ ليس في جملة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} واو حتى يكون الواو في هذه الجملة مؤكدا لها.
ولا يجوز الفصل بين الجملتين بالواو لأن الواو لا يفصل بها بين الجملتين في التوكيد اللفظي. والأجود الفصل بـ"ثم" كما في "التسهيل" مقتصرا على "ثم". وزاد الرضي الفاء ولم يأتي له بشاهد ولكنه قال وقد تكون "ثم" والفاء لمجرد التدرج في الارتقاء وإن لم يكن المعطوف مترتبا في الذكر على المعطوف عليه وذلك إذا تكرر الأول بلفظه نحو: بالله، فالله، ونحو والله ثم والله.
وجيء بالفعل الماضي في قوله: {مَا عَبَدْتُمْ} للدلالة على رسوخهم في عبادة الأصنام من أزمان مضت، وفيه رمز إلى تنزهه صلى الله عليه وسلم من عبادة الأصنام من سالف الزمان وإلا لقال: ولا أنا عابد ما كنا نعبد.
[5] {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
(30/511)
عطف على جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:4] لبيان تمام الاختلاف لبيان حالهم وحاله وإخبار بأنهم لا يعبدون الله إخبارا ثانيا تنبيها على أن الله أعلمه بأنهم لا يعبدون الله، وتقوية لدلالة هذين الإخبار عن نبوءته صلى الله عليه وسلم فقد أخبر عنهم بذلك فمات أولئك كلهم على الكفر وكانت هذه السورة من دلائل النبوة.
وقد حصل من ذكر هذه الجملة بمثل نظيرتها السابقة توكيد للجملة السابقة توكيدا للمعنى الأصلي منها، وليس موقعها موقع التوكيد لوجود واو العطف كما علمت آنفا في قوله: {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} .
ولذلك فالواو في قوله هنا {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عاطفة جملة على جملة لأجل ما اقتضته جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} من المناسبة.
ويجوز أن تكون جملة {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} تأكيدا لفظيا لنظيرتها السابقة بتمامها بما فيها من واو العطف في نظيرتها السابقة وتكون جملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} معترضة بين التأكيد والمؤكد.
والمقصود من التأكيد تحقيق تكذيبهم في عرضهم أنهم يعبدون رب محمد صلى الله عليه وسلم.
[6] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} .
تذييل وفذلكة للكلام السابق بما فيه من التأكيدات، وقد أرسل هذا الكلام إرسال المثل وهو أجمع وأوجز من قول قيس بن الخطيم:
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
ووقع في "تفسير الفخر" هنا جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة وذلك غير جائز لأن تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه ثم يعمل بموجبه اه.
وهذا كلام غير محرر لأن التمثل به لا ينافي العمل بموجبه وما التمثل به إلا من تمام بلاغته واستعداد للعمل به. وهذا المقدار من التفسير تركه الفخر في المسودة.
وقدم في كلتا الجملتين المسند على المسند إليه ليفيد قصر المسند إليه على المسند، أي دينكم مقصور على الكون بأنه لكم لا يتجاوزكم إلى الكون لي، وديني مقصور على الكون بأنه لا يتجاوزني إلى كونه لكم، أي لأنهم محقق عدم إسلامهم. فالقصر قصر أفراد، واللام في الموضعين لشبه الملك وهو الاختصاص أو الاستحقاق.
(30/512)
والدين: العقيدة والملة، وهو معلومات وعقائد يعتقدها المرء فتجري أعماله على مقتضاها، فلذلك سمي دينا لأن أصل معنى الدين المعاملة والجزاء.
وقرأ الجمهور {دين} بدون ياء بعد النون على أن ياء المتكلم محذوفة للتخفيف مع بقاء الكسرة على النون. وقرأه يعقوب بإثبات الياء في الوصل والوقف. وقد كتبت هذه الكلمة في المصحف بدون ياء اعتمادا على حفظ الحفاظ لأن الذي يثبت الياء مثل يعقوب يشبع الكسرة إذ ليست الياء إلا مدة للكسرة فعدم رسمها في الخط لا يقتضي إسقاطها في اللفظ.
وقرأ نافع والبزي عن أبن كثير وهشام عن أبي عامر وحفص عن عاصم بفتح الياء في قوله: {ولي} . وقرأه قنبل عن ابن كثير واب ذكوان عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بسكون الياء.
(30/513)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
سميت هذه السورة في كلام السلف "سورة إذا جاء نصر الله والفتح". روى البخاري إن عائشة قالت: "لما نزلت سورة إذا جاء نصر الله والفتح" الحديث.
وسميت في المصاحف وفي معظم التفاسير "سورة النصر" لذكر نصر الله فيها، فسميت بالنصر المعهود عهدا ذكريا.
وهي معنونة في "جامع الترمذي" "سورة الفتح" لوقوع هذا اللفظ فيها فيكون هذا الاسم مشتركا بينها وبين {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} .
وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع في "الإتقان" لما فيها من الإيماء إلى وداعه صلى الله عليه وسلم اهـ. يعني من الإشارة إلى اقتراب لحاقه بالرفيق الأعلى كما سيأتي عن عائشة.
وهي مدنية بالاتفاق. واختلف في وقت نزولها فقيل نزلت منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر أي في سنة سبع ، ويؤيده ما رواه الطبري والطبراني عن ابن عباس بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء نصر أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله وما أهل اليمن? قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية" اهـ، ومجيء أهل اليمن أول مرة هو مجيء وفد الأشعريين عام غزوة خيبر.
ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالفتح في الآية هو فتح مكة وعليه فالفتح مستقبل دخول الناس في الدين أفواجا مستقبل أيضا وهو الأليق باستعمال إذا ويحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم جاء نصر الله والفتح على أنه استعمال الماضي في معنى المضارع
(30/514)
لتحقق وقوعه أو لأن النصر في خيبر كان بادرة لفتح مكة.
وعن قتادة: نزلت قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين. وقال الواحدي عن ابن عباس نزلت منصرفه من حنين ، فيكون الفتح قد مضى ودخول الناس في الدين أفواجا مستقبلا، وهو في سنة الوفود سنة تسع، وعليه تكون "إذا" مستعملة في مجرد التوقيت دون تعيين.
وروى البزاز والبيهقي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر أنها أنزلت أواسط أيام التشريق أي عام حجة الوداع. وضعفه ابن رجب بأن فيه موسى ابن عبيدة وهو ضعيف. وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه وإن صحت هذه الرواية كان الفتح ودخول الناس في الدين أفواجا قد مضيا.
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بعد نزولها نحو ثلاثة أشهر وعليه تكون "إذا" مستعملة للزمن الماضي لأن الفتح ودخول الناس في الدين قد وقعا.
وقد تظافرت الأخبار رواية وتأويلا أن هذه السورة تشتمل على إيماء إلى اقتراب أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يرجح أحد الأقوال في وقت نزولها إذ لا خلاف في أن هذا الإيماء يشير إلى توقيت مجيء النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا فإذا حصل ذلك حان الأجل الشريف.
وفي حديث ابن عباس في صحيح البخاري، هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].
وفي هذا ما يؤول ما في بعض الأخبار من إشارة إلى اقتراب ذلك الأجل مثل ما في حديث ابن عباس عند البيهقي في دلائل النبوة والدارمي وابن مردويه لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: "أنه قد نعيت إلى نفسي فبكت" الخ، فإن قوله لما نزلت مدرج من الراوي، وإنما هو إعلام لها في مرضه كما جاء في حديث الوفاة في الصحيحين فهذا جمع بين ما يلوح منه تعارض في هذا الشأن.
وعدها جابر بن زيد السورة المائة والثلاث في ترتيب نزول السور، وقال نزلت بعد سورة الحشر وقبل سورة النور. وهذا جار على رواية أنها نزلت عقب غزوة خيبر.
وعن ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن فتكون على قوله السورة المائة وأربع عشرة نزلت بعد سورة براءة ولم تنزل بعدها سورة أخرى.
(30/515)
وعدد آياتها ثلاث وهي مساوية لسورة الكوثر في عدد الآيات إلا أنها أطول من سورة الكوثر عدة كلمات، وأقصر من سورة العصر. وهاته الثلاث متساوية في عدد الآيات. وفي حديث ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق السبعي في حديث طعن عمر بن الخطاب "رض" فصلى عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة بأقصر سورتين في القرآن {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] و {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1].
أغراضها
والغرض منها الوعد بنصر كامل من عند الله أو بفتح مكة، والبشارة بدخول خلائق كثيرة في الإسلام بفتح وبدونه إن كان نزولها عند منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر كما قال ابن أحد قوليه.
والإيماء إلى أنه حين يقع ذلك فقد اقترب انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآخرة.
ووعدوه بأن الله غفر له مغفرة تامة لا مؤاخذة عليه بعدها في شيء مما يختلج في نفسه الخوف أن يكون منه تقصير يقتضيه تحديد القوة الإنسانية الحد الذي لا يفي بما تطلبه همته الملكية بحيث يكون قد ساوى الحد الملكي الذي وصفه الله تعالى في الملائكة بقوله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الانبياء:20].
[1-3] {ذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
{إذا} اسم زمان مبهم يتعين مقداره بمضمون جملة يضاف إليها هو. ف {إذا} اسم زمان مطلق، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالبا. ولذلك يضمن معنى الشرط غالبا، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالبا لإفادة التحقق، وقد يكون مضارعا كقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى:29].
ويستعمل في الزمن الماضي وحينئذ يتعين أن تقع الجملة بعده بصيغة الماضي، ولا تضمن {إذا} معنى الشرط حينئذ وإنما هي لمجرد الإخبار دون قصد تعليق نحو {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
(30/516)
و {إذا} هنا مضمنة الشرط لا محالة لوجود الفاء بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} وقضية الاستقبال وعدمه تقدمت.
والنصر: الإعانة على العدو. ونصر الله يعقبه التغلب على العدو. و { الفتح} : امتلاك بلد العدو وأرضه لأنه يكون بفتح باب البلد كقوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة: 23]، ويكون باقتحام ثغور الأرض ومحارسها فقد كانوا ينزلون بالأرضين التي لها شعاب وثغور قال لبيد:
وأجن عورات الثغور ظلامها
وقد فتح المسلمون خيبر قبل نزول هذه الآية فتعين أن الفتح المذكور فيها فتح آخر وهو فتح مكة كما يشعر به التعريف بلام العهد،وهو المعهود في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} [الفتح: 1-3].
فإضافة {نصر} إلى {الله} تشعر بتعظيم هذا النصر وأنه نصر عزيز خارق للعادة اعتنى الله بإيجاد أسبابه ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها.
و {جاء} مستعمل في معنى: حصل وتحقق مجازا.
والتعريف في {الفتح} للعهد وقد وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به غير مرة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:27]. وهذه الآية نزلت عام الحديبية وذلك قبل نزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على جميع الأقوال.
وقد اتفقت أقوال المفسرين من السلف فمن بعدهم على أن الفتح المذكور في هذه السورة هو فتح مكة إلا رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس هو فتح المدائن والقصور، يعني الحصون. وقد كان فتح مكة يخالج نفوس العرب كلهم فالمسلمون كانوا يرجونه ويعلمون ما أشار به القرآن من الوعد وأهل مكة يتوقعونه وبقية العرب ينتظرون ماذا يكون الحال بين أهل مكة وبين النبي صلى الله عليه وسلم ويتلومون بدخولهم في الإسلام فتح مكة يقولون: إن ظهر محمد على قومه فهو نبي. وتكرر أن صد بعضهم بعضا ممن يريد اتباع الإسلام، عن الدخول فيه وإنظاره إلى ما سيظهر من غلب الإسلام أو غلب الشرك.
(30/517)
أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي.
وعن الحسن: لما فتحت مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفر بأهل الحرم فليس لنا به يدان فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا. فعلى قول الجمهور في أن الفتح هو فتح مكة يستقيم أن تكون هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر وهو قول الأكثرين في وقت نزولها.
ويحتمل على قول القائلين بأنها نزلت عقب غزوة حنين أن يكون الفتح قد مضى ويكون التعليق على مجموع فتح مكة ومجيء نصر من الله آخر ودخول الناس في الإسلام وذلك بما فتح عليه بعد ذلك ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود.
وعلى ما روي عن ابن عمر إنها نزلت في حجة الوداع يكون تعليق جملة فسبح بحمد ربك على الشرط الماضي مرادا به التذكير بأنه حصل، أي إذا تحقق ما وعدناك به من النصر والفتح وعموم الإسلام بلاد العرب {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، وهو مراد من قال من المفسرين "إذا" بمعنى "قد"، فهو تفسير حاصل المعنى، وليست "إذا" مما يأتي بمعنى "قد".
والرؤية في قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ} يجوز أن تكون عملية، أي وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجا وذلك بالأخبار الواردة من آفاق بلاد العرب ومواطن قبائلهم وبمن يحضر من وفودهم. فيكون جملة {يَدْخُلُونَ} في محل المفعول الثاني لـ {رأيت} .
ويجوز أن تكون رؤية بصرية بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة يدخلون في الإسلام وذلك سنة تسع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ببصره ما علم منه دخولهم كلهم في الإسلام بمن حضر معه الموقف في حجة الوداع فقد كانوا مائة ألف من مختلف قبائل العرب فتكون جملة {يَدْخُلُونَ} في موضع الحال من الناس.
و {دِينِ اللَّهِ} هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران:19] وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30].
والدخول في الدين: مستعار للنطق بكلمة الشهادة والتزام أحكام الدين الناشئة عن
(30/518)
تلك الشهادة. فشبه الدين ببيت أو حظيرة على طريقة المكنية ورمز إليه بما هو من لوازم المشبه به وهو الدخول على تشبيه التلبس بالدين بتلبس المظروف بالظرف، ففيه استعارة أخرى تصريحية.
والناس: اسم جمع يدل على جماعة من الآدميين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في [سورة البقرة:8]. وإذا عرف اسم ناس باللام احتملت العهد نحو {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ} [آل عمران: 173]، واحتملت الجنس نحو {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، واحتملت الاستغراق نحو {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} [البقرة:8]، ونحو {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1].
والتعريف في هذه الآية للاستغراق العرفي، أي جميع الناس الذين يخطرون بالبال لعدم إرادة معهودين معينين ولاستحالة دخول كل إنسان في دين الله بدليل المشاهدة، فالمعنى: ورأيت ناسا كثيرين أو رأيت العرب.
قال ابن عطية: قال أبو عمر بن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستيعاب في باب خراش الهذلي: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حين والطائف، منهم من قدم ومنهم من قدم وافده اه. وإنما يراد عرب الحجاز ونجد واليمن لأن من عرب الشام والعراق من لم يدخلوا في الإسلام، وهم: تغلب وغسان في مشارف الشام، وكذلك لخم وكلب من العراق فهؤلاء كانوا نصارى ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام والعراق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في دين الله رؤية بصرية.
ويجوز أن يكون الله أعلمه بذلك أن جعلن الرؤية علمية.
والأفواج: جمع فوج وهو الجماعة الكثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} في [سورة ص: 59]، أي يدخلون في الإسلام، وانتصب {أفواجا} على الحال من ضمير {يَدْخُلُونَ} .
وجملة {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} جواب {إذا} باعتبار ما تضمنته من معنى الشرط، وفعل {فسبح} هو العامل في {إذا} النصب على الظرفية، والفاء رابطة للجواب لأنه فعل إنشاء.
وقرن التسبيح بالحمد بباء المصاحبة المقتضية أن التسبيح لاحق للحمد لأن باء
(30/519)
المصاحبة بمعنى "مع" فهي مثل "مع" في إنها تدخل على المتبوع فكان حمد الله على حصول النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام شيئا مفروغا منه لا يحتاج إلى الأمر بإيقاعه لأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قد فعله، وإنما يحتاج إلى تذكيره بتسبيح خاص لم يحصل من قبل في تسبيحاته وباستغفار خاص لم يحصل من قبل في استغفاره.
ويجوز أن يكون التسبيح المأمور به تسبيح ابتهاج وتعجب من تيسير الله تعالى له ما لا يخطر ببال أحد أن يتم له ذلك، فإن سبحان الله ونحوه يستعمل في التعجب كقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
وفي تقديم الأمر بالتسبيح والحمد على الأمر بالاستغفار تمهيد لإجابة استغفاره على عادة العرب في تقديم الثناء قبل سؤال الحاجة كما قال ابن أبي الصلت:
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام.
وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب {إذا} ، وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال "إنه ليعان على قلبي فاستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة" فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل? وهو التهيؤ للقاء الله، وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء، وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبي صلى الله عليه وسلم في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه، مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67] الآية، أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية.
(30/520)
والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك. وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود، فعن مقاتل لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا عم?" قال: نعيت إليك نفسك. فقال: "إنه لكما تقول" . وفي رواية نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما، فقالا: فيه نعي رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقتما نعيت إلي نفسي" .
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك، فقال لهم عمر: إنه من قد علمتم. قال: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم، فسألهم عن هذه السورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقالوا: أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال: ما تقول يابن عباس? قلت: ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيه حضور أجله فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} . فذلك علامة موتك? فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه.
وقال في "الكشاف": روي أنه لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله عز وجل. فعلم أبو بكر فقال: فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا اه.
قال ابن حجر في "تخريج أحاديث الكشاف": الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة اه. ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية "الكشاف" والثانية عند خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه.
وعن ابن مسعود أن هذه السورة تسمى سورة التوديع أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب، فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى، ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه، وهو أداء العبد ما يجب عليه الشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد، وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه.
(30/521)
ومقتضى الظاهر أن يقول: فسبح بحمده، لتقدم اسم الجلالة في قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} فعدل على الضمير إلى الاسم الظاهر وهو ربك لما في صفة "رب" وإضافتها إلى ضمير المخاطب من الإيماء إلى أن من حكمة ذلك النصر والفتح ودخول الناس في الإسلام نعمة أنعم الله بها عليه إذا حصل هذا الخير الجليل بواسطته فذلك تكريم له وعناية به وهو شأن تلطف الرب بالمربوب، لأن معناه السيادة المرفوقة بالرفق والإبلاغ إلى الكمال.
وقد انتهى الكلام عند قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قراءته يقف عند {وَاسْتَغْفِرْهُ} ثم يكمل السورة.
[3] {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} .
تذييل للكلام السابق كله وتعليل لما يقتضي التعليل فيه من الأمر باستغفار ربه باعتبار الصريح من الكلام السابق كما سيتبين لك.
وتواب: مثال مبالغة من تاب عليه. وفعل تاب المتعدي بحرف "على" يطلق بمعنى وفق للتوبة، أثبته في اللسان والقاموس، وهذا الإطلاق خاص بما أسند إلى الله.
وقد اشتملت الجملة على أربع مؤكدات هي: أن، وكان، وصيغة المبالغة في التواب، وتنوين التعظيم فيه.
وحيث كان التوكيد بـ"إن" هنا غير مقصود به رد إنكار ولا إزالة تردد إذ لا يفرضان في جانب المخاطب صلى الله عليه وسلم، فقد تمخض "إن" لإفادة الاهتمام الخبر بتأكيده. وقد تقرر أن من شأن "إن" إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء الترتيب والتسبب وتفيد التعليل وربط الكلام بما قبله كما تفيده الفاء، وقد تقدم غير مرة، منها عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة:32]، فالمعنى: هو شديد القبول لتوبة عباده كثير قبوله إياها.
وإذ قد كان الكلام تذييلا وتعليلا للكلام السابق تعين أن حذف متعلق {تَوَّابًا} يقدر بنحو: على التائبين. وهذا المقدار مراد به العموم، وهو عموم مخصوص بالمشيئة تخصصه أدلة وصف الربوبية، ولما ذكر دليل العموم عقب أمره بالاستغفار أفاد انه إذا استغفره غفر له دلالة تقتضيها مستتبعات التراكيب، فأفادت هذه لجملة تعليل الأمر بالاستغفار لأن الاستغفار طلب الغفر، فالطالب يترقب إجابة طلبه، وأما ما في الجملة من الأمر بالتسبيح
(30/522)
والحمد فلا يحتاج إلى تعليل لأنهما إنشاء تنزيه وثناء على الله.
ومن وراء ذلك أفادت الجملة إشارة إلى وعد بحسن القبول عند الله تعالى حينما يقدم على العالم القدسي، وهذا معنى كنائي لأن من عرف بكثرة قبول توبة التائبين شأنه أن يكرم وفادة الوافدين الذين سعوا جهودهم في مرضاته بمنتهى الاستطاعة، أو هو مجاز بعلاقة اللزوم العرفي لأن منتهى ما يخافه الأحبة عند اللقاء مرارة العتاب، فالإخبار بأنه تواب اقتضى أنه لا يخاف عتابا.
فهذه الجملة بمدلولها الصريح ومدلولها الكنائي أو المجازي ومستتبعاتها تعليل لما تضمنته الجملة التي قبلها من معنى صريح أو كنائي يناسبه التعليل بالتسبيح والحمد باعتبارهما تمهيدا للأمر بالاستغفار كما تقدم آنفا لا يحتاجان إلى التعليل، أو يغني تعليل الممهد له بهما عن تعليلهما ولكنهما باعتبار كونهما رمزا إلى مداناة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون ما في قوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} من الوعد بحسن القبول تعليلا لمدلولهما الكنائي، وأما الأمر بالاستغفار فمناسبة التعليل له بقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} ناهضة باعتبار كلتا دلالتيه الصريحة والكنائية، أي أنه متقبل استغفارك ومتقبلك بأحسن قبول، شأن من عهد من الصفح والتكرم.
وفعل {كان} هنا مستعمل في لازم معنى الاتصاف بالوصف في الزمن الماضي. وهو أن هذا الوصف ذاتي له لا يتخلف معموله عن عباده فقد دل استقراء القرآن على إخبار الله عن نفسه بذلك من مبدأ الخليقة قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:37].
ومقتضى الظاهر أن يقال: إنه كان غفارا، كما في آية {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] فيجري الوصف على ما يناسب قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ} ، فعدل عن ذلك تلطفا مع النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمره بالاستغفار ليس مقتضيا إثبات ذنب له لما علمت آنفا من أن وصف {تواب} جاء من تاب عليه الذي يستعمل بمعنى وفقه للتوبة إيماء إلى أن أمره بالاستغفار إرشاد إلى مقام التأدب مع الله تعالى، فإنه لا يسأل عما يفعل بعباده، لولا تفضله بما بين لهم من مراده، ولأن وصف {تواب} أشد ملائمة لإقامة الفاصلة مع فاصلة {أفواجا} لأن حرف الجيم وحرف الباء كليهما حرف من الحروف الموصوفة بالشدة، بخلاف حرف الراء فهو من الحروف التي صفتها بين الشدة والرخوة.
وروي في "الصحيح" عن عائشة قالت ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت
(30/523)
عليه سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلا يقول: "سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن أي يتأول الأمر في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} على ظاهره كما تأوله في مقام آخر على معنى اقتراب أجله صلى الله عليه وسلم.
(30/524)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المسد
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف "سورة تبت" وكذلك عنونها الترمذي في "جامعه" وفي أكثر كتب التفسير، تسمية لها بأول كلمة فيها.
وسميت في بعض المصاحف وفي بعض التفاسير "سورة المسد". واقتصر في "الإتقان" على هذين.
وسماها جمع من المفسرين "سورة أبي لهب" على تقدير: سورة ذكر أبي لهب. وعنونها أبو حيان في "تفسيره" "سورة اللهب" ولم أره لغيره.
وعنونها ابن العربي في "أحكام القرآن" سورة ما كان من أبي لهب وهو عنوان وليس باسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة من السور نزولا، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة التكوير.
وعدد آيها خمس.
روي أن نزولها كان في السنة الرابعة من البعثة. وسبب نزولها على ما في "الصحيحين" عن ابن عباس قال صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا فنادى "يا صباحاه" كلمة ينادى بها للإنذار من عدو يصبح القوم فاجتمعت إليه قريش فقال: "إني نذير لكم من يدي عذاب شديد أرأيتم لو أني أخبرتكم أن العدو ممسيكم أو مصبحكم أكنتم تصدقوني? قالوا: ما جربنا عليك كذبا، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا? فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]. ووقع في الصحيحين من رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وقومك منهم
(30/525)
المخلصين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا إلى آخر الحديث المتقدم.
ومعلوم أن آية {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} من [سورة الشعراء: 214]، وهي متأخرة النزول عن سورة تبت، وتأويل ذلك أن آية تشبه آية سورة الشعراء نزلت قبل سورة أبي لهب لما رواه أبو أسامة يبلغ ابن عباس لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وقومك منهم المخلصين ولم يقل من سورة الشعراء خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فتعين أن آية سورة الشعراء تشبه صدر الآية التي نزلت قبل نزول سورة أبي لهب.
أغراضها
زجر أبي لهب على قوله تبت لك ألهذا جمعتنا? ووعيده على ذلك، ووعيد امرأته على انتصارها لزوجها، وبغضها النبي صلى الله عليه وسلم.
[1] {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} .
افتتاح السورة بالتبات مشعر بأنها نزلت لتوبيخ ووعيد، فذلك براعة استهلال مثل ما تفتتح أشعار الهجاء بما يؤذن بالذم والشتم ومنه قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] إذ افتتحت السورة المشتملة على وعيد المطففين للفظ الويل ومن هذا القبيل قول عبد الرحمان بن الحكم من شعراء "الحماسة" :
لحا الله قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
وقول أبي تمام في طالعة هجاء:
النار والعار والمكروه والعطب
ومنه أخذ أبو بكر بن الخازن قوله في طالع قصيدة هناء بمولد:
مجشري فقد أنجز الإقبال ما وعد
والتب: الخسران والهلاك، والكلام دعاء وتقريع لأبي لهب دافع الله به عن نبيه بمثال اللفظ الذي شتم به أبو لهب محمد صلى الله عليه وسلم جزاء وفاقا.
وإسناد التب إلى اليدين لما روي من أن أبا لهب لما قال للنبي تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا أخذ بيد حجرا ليرميه به. وروي عن طارق المحاربي قال بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا الله
(30/526)
تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه ساقيه وعرقوبيه يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه. فقلت: من هذا? فقالوا: هذا محمد يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب، فوقع الدعاء على يديه لأنهما سبب أذا النبي صلى الله عليه وسلم كما يقال للذي يتكلم بمكروه بفيك الحجارة أو بفيك الكثكث.
وقول النابغة:
قعود الذي أبياتهم يثمدونهم ... رمى الله في تلك الأكف الكوانع
ويقال بضد ذلك للذي يقول كلاما حسنا: لافض فوك، وقال إعرابي من بني أسد:
دعوت لما نابني مسورا ... فلبى فلبي يدي مسور
لأنه دعاه لما نابه من العدو للنصر، والنصر يكون بعمل اليد بالضرب أو الطعن.
وأبو لهب: هو عبد العزى بن عبد المطلب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكنيته أبو عيبة تكنية باسم ابنه، وأما كنيته بأبي لهب في الآية فقيل كان يكنى بذلك في الجاهلية لحسنه وإشراق وجهه وأنه اشتهر بتلك الكنية كما اقتضاه حديث طارق المحاربي، ومثله حديث عن ربيعة بن عباد الديلي في "مسند أحمد". فسماه القرآن بكنيته دون اسمه لأن في اسمه عبادة العزى، وذلك لا يقره القرآن، أو لأنه كان بكنيته أشهر منه باسمه العلم، أ، لأن في كنيته ما يتأتى به التوجيه بكونه صائرا إلى النار، وذلك كناية عن كونه جهنميا، لأن اللهب ألسنة النار إذا اشتعلت وزال عنها الدخان. والأب: يطلق على ملازم ما أضيف إليه كقولهم أبوها وكيالها وكما كني إبراهيم عليه السلام: أبا الضيفان وكنى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمان بن صخر الدوسي: أبا هريرة لأنه حمل هرة في كم قميصه، وكني شهر رمضان: أبا البركات، وكني الذئب: أبا جعدة والجعدة سخلة المعز لأنه يلازم طلبها لافتراسها، فكانت كنية أبي لهب صالحة موافقة لحاله من استحقاقه لهب جهنم فصار هذا التوجيه كناية عن كونه جهنميا لينتقل من جعل أبي لهب بمعنى ملازم اللهب إلى لازم تلك الملازمة في العرف، وهو من أهل جهنم وهو لزوم ادعائي مبني على التفاؤل بالأسماء ونحوها كما أشار إليه التفتزاني في مبحث العلمية من "شرح المفتاح" وأنشد قول الشاعر:
قصدت أبا المحاسن كي أراه ... لشوق كان يجذبني إليه
فلما أن رأيت رأيت فردا ... ولم أر من بنيه ابنا لديه
وقد يكون أبو لهب كنيته الحطب كما أنبأ عنه ما روي عن أبي هريرة أن ابنة أبي
(30/527)
لهب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم إن الناس يصيحون بي ويقولون إني ابنة حطب النار الحديث.
وقرأ الجمهور لفظ {لهب} بفتح الهاء، وقرأه ابن كثير بسكون الهاء، وهو لغة لأنهم كثيرا ما يسكنون عين الكلمة المتحركة مع الفاء، وقد يكون ذلك لأن {لهب} صار جزء علم والعرب قد يغيرون بعض حركات الاسم إذا نقلوه إلى العلمية كما قالوا: شمس بضم الشين. ولشمس بن مالك الشاعر الذي ذكره تأبط شرا في قوله:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
قال أبو الفتح بن جني في كتاب إعراب الحماسة يجوز أن يكون ضم الشين على وجه تغيير الأعلام نحو معد يكرب، وتهلك وموهب وغير ذلك مما غير على حال نظائره لأجل العلمية الحادثة فيه اه.
وكما قالوا: أبو سلمى بضم السين كنية والد زهير بن أبي سلمى لأنهم نقلوا اسم سلمى بفتح السين من أسماء النساء إلى جعله اسم رجل يكنى به لأنهم لا يكنون بأسماء النساء غالبا. ولذلك لم يسكن ابن كثير الهاء من قوله تعالى: {ذَاتَ لَهَبٍ} وقراءة ابن كثير قراءة أهل مكة فلعل أهل مكة اشتهرت بينهم كنية أبي لهب بسكون الهاء تحقيقا لكثرة دورانها على الألسنة في زمانه.
وجملة {وتب} إما معطوفة على جملة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} عطف الدعاء على الدعاء إذا كان إسناد التبات إلى اليدين لأنهما آلة الأذى بالرمي في الحجارة كما في خبر طارق المحاربي، فأعيد الدعاء على جميعه إغلاظا له في الشتم والتفريع، وتفيد بذلك تأكيدا لجملة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} لأنها بمعناها وإنما اختلفا في الكلية والجزئية، وذلك الاختلاف هو مقتضي عطفها، وإلا لكان التوكيد غير معطوف لأن التوكيد اللفظي لا يعطف بالواو كما تقدم في سورة الكافرون.
وإما أن تكون في موضع الحال، والواو واو الحال ولا تكون دعاء إنما هي تحقيق لحصول ما دعي عليه به كقول النابغة:
جزى ربه عني عدي بن حاتم ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
فيكون الكلام قبله مستعملا في الذم والشماتة به أو لطلب الإزدياد، ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله بن مسعود وقد تب فيتمحض الكلام قبله لمعنى الذم والتحقير دون
(30/528)
معنى طلب حصول التبات له، وذلك كقول عبد الله بن رواحة حين خروجه إلى غزوة مؤتة التي استشهد فيها:
حتى إذا مروا على جدثي ... أرشدك الله من غاز وقد رشدا
يعني ويقولوا: وقد رشدا، فيصير قوله: أرشدك الله من غاز لمجرد الثناء والغبطة بما حصله من الشهادة.
[2] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} .
استئناف ابتدائي للانتقال من إنشاء الشتم والتوبيخ إلى الإعلام بأنه آيس من النجاة من هذا التبات، ولا يغنيه ماله، ولا كسبه، أي لا يغني عنه ذلك في دفع شيء عنه في الآخرة.
والتعبير بالماضي في قوله: {مَا أَغْنَى} لتحقيق وقوع عدم الإغناء.
و {مَا } نافية، ويجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والإنكار.
والمال: الممتلكات المتمولة، وغلب على العرب إطلاقه على الإبل، ومن كلام عمر لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله الخ في اتقاء دعوة المظلوم، من الموطأ، وقال زهير:
صحيحات مال طالعات بمخرم
وأهل المدينة وخيبر والبحرين يغلب عندهم على النخيل، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} في [سورة البقرة:29] وفي مواضع.
{وَمَا كَسَبَ} موصول وصلته والعائد محذوف جوازا لأنه ضمير نصب، والتقدير: وما كسبه، أي ما جمعه. والمراد به: ما يملكه من غير النعم من نقود وسلاح وربع وعروض وطعام، ويجوز أن يراد بماله: جميع ماله، ويكون عطف {وَمَا كَسَبَ} من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به، أي ما أغنى عنه ماله التالد وهو ما ورثه عن أبيه عبد المطلب وما كسبه هو بنفسه وهو طريفه.
وروي عن ابن مسعود أن أبا لهب قال إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا افتدي نفسي يوم القيامة بمالي وولدي فأنزل الله {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} وقال ابن
(30/529)
عباس {مَا كَسَبَ} هو ولده فإن الولد من كسب أخيه.
[3] {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} .
بيان لجملة {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي لا يغني عنه شيء من عذاب جهنم. ونزل هذا القرآن في حياة أبي لهب وقد مات بعد ذلك كافرا، فكانت هذه الآية إعلاما بأنه لا يسلم وكانت من دلائل النبوة.
والسين للتحقيق مثل قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف:98].
و"يصلى نارا" يشوى بها ويحس بإحراقها. وأصل الفعل: صلاه بالنار، إذا شواه ثم جاء منه صلي كأفعال الإحساس مثل فرح ومرض. ونصب "نارا" على نزع الخافض.
ووصف النار بـ {ذَاتَ لَهَبٍ} لزيادة تقرير المناسبة بين اسمه وبين كفره إذ هو أبو لهب والنار ذات لهب.
وهو ما تقدم الإيماء إليه بذكر كنيته كما قدمناه آنفا، وفي وصف النار بذلك زيادة كشف بحقيقة النار وهو مثل التأكيد.
وبين لفظي {لهب} الأول و {لهب} الثاني الجناس التام.
[4-5] {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ، فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} .
أعقب ذم أبي لهب ووعيده بمثل ذلك لامرأته لأنها كانت تشاركه في أذى النبي صلى الله عليه وسلم وتعينه عليه.
وامرأته: أي زوجه قال تعالى في قصة إبراهيم {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ} [هود:71] وفي قصة لوط {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83]، وفي قصة يوسف {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:30].
وامرأة أبي لهب هي أم جميل، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان بن حرب، وقيل: اسمها العوراء، فقيل هو وصف وإنها كانت عوراء وقيل اسمها، وذكر بعضهم: إن اسمها العواء بهمزة بعد الواو.
وكانت أم جميل هذه تحمل حطب العضاه والشوك فتضعه في الليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم الذي يسلك منه إلى بيته ليعقر قدميه.
(30/530)
فلما حصل لأبي لهب وعيد مقتبس من كنيته جعل لامرأته وعيد مقتبس لفظه من فعلها وهو حمل الحطب في الدنيا، فأنذرت بأنها تحمل الحطب في جهنم ليوقد به على زوجها، وذلك خزي لها ولزوجها إذ جعل شدة عذابه على يد أحب الناس إليه، وجعلها سببا لعذاب أعز الناس عليها.
فقوله: {وَامْرَأَتُهُ} عطف على الضمير المستتر في {سَيَصْلَى} [المسد:3] أي وتصلى امرأته نارا.
وقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} قرأه الجمهور برفع {حمالة} على أنه صفة لامرأته فيحتما أنها صفتها في جهنم ويحتمل أنها صفتها التي كانت تعمل في الدنيا بجلب حطب العضاه لتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة التوجيه والإيماء إلى تعليل تعذيبها بذلك.
وقرأه عاصم بنصب {حمالة} على الحال من {امرأته} . وفيه من التوجيه والإيماء ما في قراءة الرفع.
وجملة {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} صفة ثانية أو حال ثانية وذلك إخبار بما تعامل به في الآخرة، أي يجعل لها حبل في عنقها تحمل فيه الحطب في جهنم لإسعار النار على زوجها جزاء مماثلا لعملها في الدنيا الذي أغضب الله تعالى عليها.
والجيد: العنق، وغلب في الاستعمال على عنق المرأة وعلى محل القلادة منه فقل أن يذكر العنق في وصف النساء في الشعر العربي إلا إذا كان عنقا موصوفا بالحسن وقد جمعهما امرئ القيس في قوله:
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش ... إذا هي نصته ولا بمعطل
قال السهيلي في الروض: والمعروف أن يذكر العنق إذا ذكر الحلي أو الحسن فإنما حسن هنا ذكر الجيد في حكم البلاغة لأنها امرأة والنساء تحلي أجيادهن وأم جميل لا حلي لها في الآخرة إلا الحبل المجعول في عنقها فلما أقيم لها ذلك مقام الحلي ذكر الجيد معه ، ألا ترى إلى قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي ... د أسيل تزينه الأطواق
ولم يقل عن عنق، وقول الآخر:
وأحسن من عقد المليحة جيدها
(30/531)
ولم يقل عنقها ولو قال لكان غثا من الكلام. اه.
قلت: وأما قول المعري:
الحجل للرجل والتاج المنيف لما ... فوق الحجاج وعقد الدر للعنق
فإنما حسنه ما بين العقد والعنق من الجناس إتماما للمجانسة التي بين الحجل والرجل، والتاج والحجاج، وهو مقصود الشاعر.
والحبل: ما يربط به الأشياء التي يراد اتصال بعضها ببعض وتقيد به الدابة والمسجون كي لا يبرح من المكان، وهو ضفير من الليف أو من سيور جلد في طول متفاوت على حسب قوة ما يشد به أو يربط في وتده أو حلقة أو شجرة بحيث يمنع المربوط به من مغادرة موضعه إلى غيره إلى بعد يراد، وتربط به قلوع السفن في الأرض في الشواطئ، وتقدم في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} ، وقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} كلاها في [سورة آل عمران: 103-112]، ويقال: حبله إذا ربطه.
والمسد: ليف من ليف اليمن شديد، والحبال التي تفتل منه تكون قوية وصلبة.
وقدم الخبر من قوله: {فِي جِيدِهَا} للاهتمام بوصف تلك الحالة الفضيعة التي عوضت فيها بحبل في جيدها عن العقد الذي كانت تحلي به جيدها في الدنيا فتربط بها إذا كانت هي وزوجها من أهل الثراء وسادة أهل البطحاء، وقد ماتت أم جميل على الشرك.
(30/532)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإخلاص
المشهور في تسميتها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيما جرى من لفظه وفي أكثر ما روي عن الصحابة تسميتها "سورة قل هو الله أحد".
روى الترمذي عن أبي هريرة، وروى أحمد عن أبي مسعود الأنصاري وعن أم كلثوم بنت عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" وهو ظاهر في أن أراد تسميتها بتلك الجملة لأجل تأنيث الضمير من قوله تعدل فإنه على تأويلها بمعنى السورة.
وقد روي عن جمع من الصحابة ما فيه تسميتها بذلك، فذلك هو الاسم الوارد في السنة.
ويؤخذ من حديث البخاري عن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" فذكر ألفاظا تخالف ما تقرأ به، ومحمله على إرادة التسمية. وذكر القرطبي أن رجلا لم يسمه قرأ كذلك والناس يستمعون وادعى أن ما قرأ به هو الصواب وقد ذمه القرطبي وسبه.
وسميت في أكثر المصاحف وفي معظم التفاسير وفي "جامع الترمذي" "سورة الإخلاص" واشتهر هذا الاسم لاختصاره وجمعه معاني هذه السورة لأن فيها تعليم الناس إخلاص العبادة لله تعالى، أي سلامة الاعتقاد من الإشراك بالله غيره في الإلهية.
وسميت في بعض المصاحف التونسية سورة التوحيد لأنها تشتمل على إثبات أنه تعالى واحد.
وفي "الإتقان" أنها تسمى سورة الأساس لاشتمالها على توحيد الله وهو أساس
(30/533)
الإسلام. وفي "الكشاف" روي عن أبي وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إست السماوات السبع والأرضون السبع على {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1. يعني ما خلقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله ومعرفة صفاته.
وذكر في "الكشاف": أنها وسورة الكافرون تسميان المقشقشتين، أي المبرئتين من الشرك ومن النفاق.
وسماها البقاعي في "نظم الدرر" سورة الصمد ، وهو من الأسماء التي جمعها الفخر. وقد عقد الفخر في "التفسير الكبير" فصلا لأسماء هذه السورة فذكر لها عشرين اسما بإضافة عنوان سورة إلى كل اسم منها ولم يذكر أسانيدها فعليك بتتبعها على تفاوت فيها وهي: التفريد، والتجريد لأنه لم يذكر فيها سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال ، والتوحيد كذلك ، والإخلاص لما ذكرناه آنفا ، والنجاة لأنها تنجي من الكفر في الدنيا ومن النار في الآخرة ، والولاية لأن من عرف الله بوحدانيته فهو من أوليائه المؤمنين الذين لا يتولون غير الله والنسبة لما روي أنها نزلت لما قال المشركون: أنسب لنا ربك، كما سيأتي ، والمعرفة لأنها أحاطت بالصفات التي لا تتم معرفة الله إلا بمعرفتها والجمال لأنها جمعت أصول صفات الله وهي أجمل الصفات وأكملها، ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن الله جميل يحب الجمال" فسألوه عن ذلك فقال: "أحد صمد لم يلد ولم يولد" ، والمقشقشة يقال: قشقش الدواء الجرب إذا أبرأه لأنها تقشقش من الشرك، وقد تقدم آنفا أنه اسم لسورة الكافرون أيضا ، والمعوذة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن مضعون وهو مريض فعوذه بها وبالسورتين اللتين بعدها وقال له: "تعوذ بها" . والصمد لأن هذا اللفظ خص بها ، والأساس لأنها أساس العقيدة الأسلامية والمانعة لما روي: أنها تمنع عذاب القبر ولفحات النار والمحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت. والمنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها والبراءة لأنها تبرئ من الشرك ، والمذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد الذي هو مودع في الفطرة ، والنور لما روي: أن نور القرآن قل هو الله أحد ، والأمان لأن من اعتقد ما فيها أمن من العذاب.
وبضميمة اسمها المشهور {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تبلغ أسماؤها اثنين وعشرين، وقال الفيروز آبادي في بصائر التمييز أنها تسمى الشافية فتبلغ واحدا وعشرين اسما.
ـــــــ
1 يثال أس البناء إذا أقامه وفي نسخة أسست، وهذا الحديث ضعيف.
(30/534)
وهي مكية في قول الجمهور، وقال قتادة والضحاك والسدي وأبو العالية والقرضي: هي مدنية ونسب كلا القولين إلى ابن عباس.
ومنشأ هذا الخلاف الاختلاف في سبب نزولها فروى الترمذي عن أبي بن كعب، وروى عبيد العطار عن ابن مسعود، وأبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فنزلت قل هو الله أحد إلى آخرها فتكون مكية.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعو أخا لبيد أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا? قال: "إلى الله" ، قال: صفه لنا أمن ذهب هو، أم من فضة، أم من حديد، أم من خشب? يحسي لجهله أن الإله صنم كأصنامهم من معدن أو خشب أو حجارة فنزلت هذه السورة، لإتكون مدنية لأنهما ما أتياه إلا بعد الهجرة.
وقال الواحدي أن أحبار اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم صف لنا ربك لعلنا نؤمن بك، فنزلت.
والصحيح أنه مكية فإنها جمعت أصل التوحيد وهو الأكثر فيما نزل من القرآن بمكة، ولعل تأويل من قال: إنها نزلت حينما سأل عامر بن الطفيل وأربد، أو حينما سأل أحبار اليهود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم هذه السورة، فظنها الراوي من الأنصار نزلت ساعتئذ أو لم يضبط الرواة عنهم عبارتهم تمام الضبط.
قال في "الإتقان": وجمع بعضهم بين الروايتين بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية كما بينته في أسباب النزول اه.
وعلى الأصح من أنها مكية عدت السورة الثانية والعشرون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الناس وقبل سورة النجم.
وآياتها عند أهل العدد بالمدينة والكوفة والبصرة أربع، وعند أهل مكة والشام خمس باعتبار {لَمْ يَلِدْ} آية {وَلَمْ يُولَدْ} آية.
أغراضها
إثبات وحدانية الله تعالى.
وأنه لا يقصد في الحوائج غيره وتنزيهه عن سمات المحدثات.
وإبطال أن يكون له ابن.
(30/535)
وإبطال أن يكون المولود إلها مثل عيسى عليه السلام.
والأحاديث في فضائلها كثيرة وقد صح أنها تعدل ثلث القرآن. وتأويل هذا الحديث مذكور في شرح "الموطأ" و"الصحيحين".
[1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
افتتاح هذه السورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول كما علمت ذلك عند قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1].
ولذلك الأمر في هذه السورة فائدة أخرى، وهي أنها نزلت على سبب قول المشركين: انسب لنا ربك، فكانت جوابا عن سؤالهم فلذلك قيل له {قل} كما قال تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فكان للأمر بفعل {قل} فائدتان.
وضمير {هو} ضمير الشأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده، وإذا سمعه الذين سألوا تطلعوا إلى ما بعده.
ويجوز أن يكون {هو} أيضا عائدا إلى الرب في سؤال المشركين حين قالوا: انسب لنا ربك.
ومن العلماء من عد ضمير {هو} في هذه السورة اسما من أسماء الله الحسنى وهي طريقة صوفية درج عليها فخر الدين الرازي في "شرح الأسماء الحسنى" نقله ابن عرفة عنه في "تفسيره" وذكر الفخر ذلك في "مفاتيح الغيب" ولا بد من المزج بين كلاميه.
وحاصلهما قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها ثلاثة أسماء لله تعالى تنبيها على ثلاثة مقامات.
الأول: مقام السابقين المقربين الناظرين إلى حقائق الأشياء من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله لأنه هو الذي لأجله يجب وجوده فما سوى الله عندهم معدوم فقوله: {هو} إشارة مطلقة. ولما كان المشار إليه معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين فكان قوله: {هو} إشارة من هؤلاء المقربين إلى الله فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز فكانت لفظة {هو} كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء.
المقام الثاني: مقام أصحاب اليمين المقتصدين فهم شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الممكنات موجودة فحصلت كثرة في الموجودات فلم تكن لفظة {هو} تامة الإفادة في
(30/536)
حقهم فافتقروا معها إلى مميز فقيل لأجلهم {هُوَ اللَّهُ} .
والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال وهم الذين يجوزون تعدد الآلهة فقرن لفظ {أحد} بقوله: {هُوَ اللَّهُ} إبطالا لمقالتهم اهـ.
فاسمه تعالى العلم ابتدئ به قبل إجراء الأخبار عليه ليكون ذلك طريق استحضار صفاته كلها عند التخاطب بين المسلمين وعد المحاجة بينهم وبين المشركين، فإن هذا الاسم معروف عند جميع العرب فمسماه لا نزاع في وجوده ولكنهم كانوا يصفونه بصفات تنزه عنها.
أما {أَحَدٌ} فاسم بمعنى واحد. وأصل همزته الواو، فيقال: وحد كما يقال أحد، قلبت الواو همزة على غير قياس لأنها مفتوحة بخلاف قلب واو وجوه ومعناه منفرد قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد
أي كأني وضعت الرجل على ثور وحش أحس بأنسي وهو منفرد عن قطيعه.
وهو صفة مشبهة مثل حسن، يقال: وحد مثل كرم، ووحد مثل فرح. وصيغة الصفة المشبهة تفيد تمكن الوصف في موصوفها بأنه ذاتي له، فلذلك أوثر {أَحَدٌ} هنا على واحد لأن واحد اسم فاعل لا يفيد التمكن. ف واحد و {أَحَدٌ} وصفان مصوغان بالتصريف لمادة متحدة وهي مادة الوحدة يعني التفرد.
هذا هو أصل إطلاقه وتفرعت عنه إطلاقات صارت حقائق للفظ أحد، أشهرها أنه يستعمل اسما بمعنى إنسان في خصوص النفي نحو قوله تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} في [البقرة: 185]، وقوله: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف:38] في الكهف وكذلك إطلاقه على العدد في الحساب نحو: أحد عشر، وأحد وعشرين، ومؤنثه إحدى، ومن العلماء من خلط بين واحد وبين أحد فوقع في ارتباك.
فوصف الله بأنه {أحد} معناه: أنه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم وهي الإلهية المعروفة، فإذا قيل { اللَّهُ أَحَدٌ} فالمراد أنه منفرد بالإلهية. وإذا قيل الله واحد، فالمراد أنه واحد لا متعدد فمن دونه ليس بإله. ومآل الوصفين. ومآل الوصفين إلى معنى نفي الشريك له تعالى في إلهيته.
فلما أريد في صدر البعثة إثبات الوحدة الكاملة لله تعليما للناس كلهم، وإبطالا
(30/537)
لعقيدة الشرك وصف الله في هذه السورة بـ {أحد} ولم يوصف ب واحد لأن الصفة المشبهة نهاية ما يمكن به تقريب معنى وحدة الله تعالى إلى عقول أهل اللسان العربي المبين.
وقال ابن سينا في تفسير له لهذه السورة: إن {أحد} دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول، ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة. والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم، وذلك متضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل، والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال، والألوان، وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل على أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وتبيينه: أما الواحد فمقول على ما تحته بالتشكيك، والذي لا ينقسم بوجهه أصلا أولى بالواحدية مما ينقسم من بعض الوجوه، والذي لا ينقسم انقساما عقليا أولى بالواحدية من الذي ينقسم انقساما بالحس بالقوة ثم بالفعل، فأحد جامع للدلالة على الواحدية من جميع الوجوه وأنه لا كثرة في موصوفه اهـ.
قلت: قد فهم المسلمون هذا فقد روي أن بلالا كان إذا عذب على الإسلام يقول: أحد أحد. وكان شعار المسلمين يوم بدر: أحد أحد.
والذي درج عليه أكثر الباحثين في أسماء الله تعالى أن {أحد} ليس ملحقا بالأسماء الحسنى لأنه لم يرد ذكره في حديث أبي هريرة عند الترمذي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعا وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" . وعدها ولم يذكر فيها وصف أحد، وذكر وصف واحد وعلى ذلك درج إمام الحرمين في كتاب الإرشاد وكتاب اللمع والغزالي في شرح الأسماء الحسنى.
وقال الفهري في "شرحه على لمع الأدلة" لإمام الحرمين عند ذكر اسمه تعالى {الواحد} . وقد ورد في بعض الروايات الأحد فلم يجمع بين الاسمين في اسم.
ودرج ابن برجان الأشبيلي في "شرح الأسماء"1 والشيخ محمد بن محمد الكومي
ـــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الرحمن شهر بابن برجان بفتح الباء وبشديد الراء المفتوحة اللخمي الإشبيلي المتوفى سنة 536هـ، له، "شرح على الأسماء الحسنى" وأبلغها إلى مائة واثنين وثلاثين اسما.
(30/538)
"بالميم" التونسي، ولطف الله الأرضرومي في "معارج النور"، على عد أحد في عداد الأسماء الحسنى مع اسمه الواحد فقالا: الواحد الأحد بحيث هو كالتأكيد له كما يقتضيه عدهم الأسماء تسعة وتسعين، وهذا بناء على أن حديث أبي هريرة لم يقتض حصر الأسماء الحسنى في التسعة والتسعين، وإنما هو لبيان فضيلة تلك الأسماء المعدودة فيه.
والمعنى: أن الله منفرد بالإلهية لا يشاركه فيها شيء من الموجودات. وهذا إبطال للشرك الذي يدين به أهل الشرك، وللتثليث الذي أحدثه النصارى الملكانية وللثانوية عند المجوس، وللعد الذي لا يحصى عند البراهمة.
فقوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} نظير قوله في الآية الأخرى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. وهذا هو المعنى الذي يدركه المخاطبون في هذه الآية السائلون عن نسبة الله، أي حقيقته، فابتدئ لهم بأنه واحد ليعلموا أن الأصنام ليست من الإلهية في شيء.
ثم أن الأحدية تقتضي الوجود لا محالة فبطل قول المعطلة والدهريين.
وقد اصطلح علماء الكلام من أهل السنة على استخراج الصفات السلبية الربانية من معنى الأحدية لأنه إذا كان منفردا بالإلهية كان مستغنيا عن المخصص بالإيجاب لأنه لو افتقر إلى من يوجده لكان من يوجده إلها أول منه فلذلك كان وجود الله قديما غير مسبوق بعدم ولا محتاج إلى مخصص للوجود بدلا عن العدم، وكان مستعينا على الإمداد بالوجود فكان باقيا، وكان غنيا عن غيره، وكان مخالفا للحوادث وإلا لاحتاج مثلها إلى المخصص فكان وصفه تعالى ب {أحد} جامعا للصفات السلبية. ومثل ذلك يقال في مرادفه وهو وصف واحد.
واصطلحوا على أن أحدية الله أحدية واجبة كاملة، فالله تعالى واحد من جميع الوجوه. وعلى كل التقادير فليس لكنه الله كثرة أصلا لا كثرة معنوية وهي تعدد المقومات من الأجناس والفصول التي تتقوم منها المواهي، ولا كثرة الأجزاء في الخارج التي تتقوم منها الأجسام. فأفاد وصف {أحد} أنه منزه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة كما أشار إليه ابن سينا.
قال في "الكشاف": وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم {اللَّهُ أَحَدٌ} بغير {قُلْ هُوَ} اه ولعله أخذه مما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من قرأ {اللَّهُ أَحَدٌ} كان بعدل ثلث القرآن" ، كما ذكره
(30/539)
بأثر قراءة أبي بدون {قل} مما تأوله الطيبي إذ قال وهذا استشهاد على هذه القراءة.
وعندي إن صح ما روي من القراءة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها التلاوة وإنما قصد الامتثال لما أمر بأن يقول. وهذا كما كان يكثر أن يقول سبحان ربي العظيم وبحمده اللهم اغفر لي يتأول قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3].
[2] {اللَّهُ الصَّمَدُ} .
جملة ثانية محكية بالقول المحكي به جملة {اللَّهُ أَحَدٌ} ، فهي خبر ثاني عن الضمير. والخبر المتعدد يجوز عطفه وفصله، وإنما فصلت عن التي قبلها لأن هذه الجمل مسوقة لتلقين السامعين فكانت جديرة بأن تكون كل جملة مستقلة بذاتها غير ملحقة بالتي قبلها بالعطف، على طريقة إلقاء المسائل على المتعلم نحو أن يقول: الحوز شرط صحة الحبس، الحوز لا يتم إلا بالمعاينة، ونحو قولك: عنترة من فحول الشعراء، عنترة من أبطال الفرسان.
ولهذا الاعتبار وقع إظهار اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} وكان مقتضى الظاهر أن يقال: هو الصمد.
و { الصَّمَدُ} : السيد الذي لا يستغنى عنه في المهمات، وهو سيد القوم المطاع فيهم.
قال في "الكشاف": وهو فعل بمعنى مفعول من: صمد إليه، إذا قصده، فالصمد المصمود في الحوائج. قلت: ونظيره السند الذي تسند إليه الأمور المهمة. والفلق اسم الصباح بأنه يتفلق عنه الليل.
و { الصَّمَدُ} : من صفات الله، والله هو الصمد الحق الكامل الصمدية على وجه العموم.
فالصمد من الأسماء التسعة والتسعين في حديث أبي هريرة عند الترمذي. ومعناه: المفتقر إليه كل ما عداه، فالمعدوم مفتقر وجوده إليه والموجود مفتقر في شؤونه إليه.
وقد كثرت عبارات المفسرين من السلف في معنى الصمد، وكلها مندرجة تحت هذا المعنى الجامع، وقد أنهاها فخر الدين إلى ثمانية عشر قولا. ويشمل هذا الاسم صفات الله المعنوية الإضافية وهي كونه تعالى حيا، عالما، مريدا، قادرا، متكلما، سميعا،
(30/540)
بصيرا، لأنه لو انتفى عنه أحد هذه الصفات لم يكن مصمودا إليه.
وصيغة {اللَّهُ الصَّمَدُ} صيغة قصر بسبب تعريف المسند فتفيد قصر صفة الصمدية على الله تعالى، وهو قصر قلب الإبطال ما تعوده أهل الشرك في الجاهلية من دعائهم أصنامهم في حوائجهم والفزع إليها في نوائبهم حتى نسوا الله. قال أبو سفيان ليلة فتح مكة وهو بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عني شيئا" .
[3] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} .
جملة {لَمْ يَلِدْ} خبر ثاني عن اسم الجلالة من قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، أو حال من المبتدأ أو بدل اشتمال من جملة {اللَّهُ الصَّمَدُ} ، لأن من يصمد إليه لا يكون من حاله أن يلد لأن طلب الولد لقصد الاستعانة به في إقامة شؤون الوالد وتدارك عجزه، ولذلك استدل على إبطال قولهم {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} بإثبات أنه الغني في قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس:68]
فبعد أن أبطلت الآية الأولى من هذه السورة تعدد الإله بالأصالة والاستقلال، أبطلت هذه الآية تعدد الإله بطريق تولد إله عن إله، لأن المتولد مساو لما تولد عنه.
والتعدد بالتولد مساو في الاستحالة لتعدد الإله بالأصالة لتساوي ما يلزم على التعدد في كليهما من فساد الأكوان المشار إليه بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهو برهان التمانع ولأنه لو تولد عن الله موجود آخر للزم انفصال جزء عن الله تعالى وذلك مناف للأحدية كما علمت آنفا وبطل اعتقاد المشركين من العرب أن الملائكة بنات الله تعالى فعبدوا الملائكة لذلك، لأن النبوة للإله تقتضي إلهية الابن قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26].
وجملة {وَلَمْ يُولَدْ} عطف على جملة {لَمْ يَلِدْ} ، أي ولم يلده غيره وهي بمنزلة الاحتراس سدا لتجويز أن يكون له والد، فأردف نفي الولد بنفي الوالد. وإنما قدم نفي الولد بأنه أهم إذ قد نسب أهل الضلالة الولد إلى الله تعالى ولم ينسبوا إلى الله والدا. وفيه الإيماء إلى أن من يكون مولودا مثل عيسى لا يكون إلها لأنه لو كان الإله مولودا لكان وجوده مسبوقا بعدم لا محالة وذلك محال لأنه لو كان مسبوقا بعدم لكان مفتقرا إلى من يخصصه بالوجود بعد العدم، فحصل من مجموع جملة {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}
(30/541)
إبطال أن يكون الله والدا لمولود، أو مولودا من والد بالصراحة. وبطلت إلهية كل مولود بطريق الكناية فبطلت العقائد المبنية على تولد الإله مثل عقيدة زرادشت الثانوية القائلة بوجود إلهين: إله الخير وهو الأصل، وإله الشر وهو متولد عن إله الخير، لأن إله الخير وهو المسمى عندهم يزدان فكر فكرة سوء فتولد منه إله الشر المسمى عندهم أهرمن وقد أشار إلى مذهبهم أبو العلاء بقوله:
قال أناس باطل زعمهم ... فراقبوا الله ولا تزعمن
فكر (يزدان) على غرة ... فصيغ من تفكيره (أهرمن)
وبطلت عقيدة النصارى بإلهية عيسى عليه السلام بتوهمهم أنه ابن الله وأن ابن الله لا يكون إلا إلها بأن الإله يستحيل أن يكون له ولد فليس عيسى بابن الله، وبأن الإله يستحيل أن يكون مولودا بعد عدم. فالمولود المتفق على أنه مولود يستحيل أن يكون إلها فبطل أن يكون عيسى إلها.
فلما أبطلت الجملة الاسمية الأولى إلهية إله غير الله بالأصالة، وأبطلت الجملة الثانية إلهية غير الله بالاستحقاق، أبطلت هذه الجملة إلهية غير الله بالفرعية والتولد بطريق الكناية.
وإنما نفي أن يكون الله والدا وأن يكون مولودا في الزمن الماضي، لأن عقيدة التولد ادعت وقوع ذلك في زمن مضى، ولم يدع أحد أن الله سيتخذ ولدا في المستقبل.
[4] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} .
في معنى التذليل للجمل التي قبلها لأنها أعم من مضمونها لأن تلك الصفات المتقدمة صريحها وكنايتها وضمنيها لا يشبهه فيها غيره، مع إفادة هذه انتفاء شبيه له فيما عداها مثل صفات الأفعال كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج:73].
والواو في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} اعتراضية، وهي واو الحال، كالواو في قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ:17] فإنها تذليل لجملة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} [سبأ:17]، ويجوز أن يكون الواو عاطفة إن جعلت الواو الأولى عاطفة فيكون المقصود من الجملة إثبات وصف مخالفته تعالى للحوادث وتكون استفادة معنى التذليل تبعا للمعنى، والنكت ولا تتزاحم.
(30/542)
والكفؤ: بضم الكاف وضم الفاء وهمزة في آخره. وبه قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر، إلا أن الثلاثة الأولين حققوا الهمزة وأبو جعفر سهلها ويقال: كفء بضم الكاف وسكون الفاء وبالهمز، وبه قرأ حمزة ويعقوب، ويقال {كفؤا} بالواو عوض الهمز، وبه قرأ حفص عن عاصم وهي لغات ثلاث فصيحة.
ومعناه: المساوي والمماثل في الصفات.
و {أحد} هنا بمعنى إنسان أو موجود، وهو من الأسماء النكرات الملازمة للوقوع في حيز النفي.
وحصل بهذا جناس تام مع قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
وتقديم خبر "كان" على اسمها للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بذكر الكفؤ عقب الفعل المنفي ليكون أسلق إلى السمع.
وتقديم المجرور بقوله: {له} على متعلقه وهو {كفوا} للاهتمام باستحقاق الله نفي كفاءة أحد له، فكان هذا الاهتمام مرجحا تقديم المجرور على متعلقه وإن كان الأصل تأخير المتعلق إذ كان ظرفا لغويا. وتأخيره عند سيبويه أحسن ما لم يقتضي التقديم مقتضى كما أشار إليه في "الكشاف".
وقد وردت في فصل هذه السورة أخبار صحيحة وحسنة استوفاها المفسرون. وثبت في الحديث الصحيح في "الموطأ" و"الصحيحين" من طرق عدة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" .
واختلفت التأويلات التي تأول بها أصحاب معاني الآثار بهذا الحديث ويجمعها أربعة تأويلات:
الأول: أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب القراءة، أي تعدل ثلث القرآن إذا قرئ بدونها حتى لو كررها القارئ ثلاث مرات كان له ثواب من قرأ القرآن كله.
الثاني: أنها تعدل ثلث القرآن إذا قرأها من لا يحسن غيرها من سور القرآن.
الثالث: أنها تعدل ثلث معاني القرآن باعتبار أجناس المعاني لأن معاني القرآن أحكام وأخبار وتوحيد، وقد انفردت هذه السورة بجمعها أصول العقيدة الإسلامية ما لم يجمعه غيرها.
وأقول: أن ذلك كان قبل نزول آيات مثلها مثل آية الكرسي، أو لأنه لا توجد سورة
(30/543)
واحدة جامعة لما في سورة الإخلاص.
التأويل الرابع : أنها تعدل ثلث القرآن في الثواب مثل التأويل الأول ولكن لا يكون تكريرها ثلاث مرات بمنزلة قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد في "البيان والتحصيل"1: أجمع العلماء على أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات لا يساوي في الأجر من أحيا بالقرآن كله اهـ. فيكون هذا التأويل قيدا للتأويل الأول، ولكن في حكايته الإجماع على أن ذلك هو المراد نظر، فإن في بعض الأحاديث ما هو صريح في أن تكريرها ثلاث مرات يعدل قراءة ختمة كاملة.
قال ابن رشد: واختلافهم في تأويل الحديث لا يرتفع بشيء منه عن الحديث الأشكال ولا يتخلص عن أن يكون فيه اعتراض.
وقال أبو عمر بن عبد البر السكوت على هذه المسألة أفضل من الكلام فيها.
ـــــــ
1 في سماع ابن القاسم عن مالك من كتاب الصلاة الثاني.
(30/544)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفلق
سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} . روى النسائي عن عقبة بن عامر قال: اتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني يا رسول الله سورة هود وسورة يوسف، فقال: "لن تقرأ شيئا أبلغ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وهذا ظاهر في أنه أراد سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} لأنه كان جوابا على قول عقبة: أقرأني سورة هود الخ، ولأنه عطف على قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] ولم يتم سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
عنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الفلق" بإضافة سورة إلى أول جملة منها.
وجاء في بعض كلام الصحابة تسميتها مع سورة الناس "المعوذتين". روى أبو داود والترمذي وأحمد عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوذات بكسر الواو المشددة وبصيغة الجمع بتأويل الآيات المعوذات، أي آيات السورتين وفي رواية بالمعوذتين في دبر كل صلاة. ولم يذكر أحد من المفسرين أن الواحدة منهما تسمى المعوذة بالإفراد، وقد سماها ابن عطية سورة المعوذة الأولى، فإضافة سورة إلى المعوذة من إضافة المسمى إلى الاسم، ووصف السورة بذلك مجاز يجعلها كالذي يدل الخائف على المكان الذي يعصمه من مخيفه أو كالذي يدخله المعاذ.
وسميت في أكثر المصاحف ومعظم كتب التفسير "سورة الفلق".
وفي "الإتقان": أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم الشينين على
(30/545)
القافين من قولهم خطيب مشقشق اه. أي مسترسل القول تشبيها له بالفحل الكريم من الإبل يهدر بشقشقة وهي كاللحم يبرز من فيه إذا غضب ولم أحقق وجه وصف المعوذتين بذلك.
وفي "تفسير القرطبي" و"الكشاف" أنها وسورة الناس تسميان المشقشقتين بتقديم القاف على الشينين زاد القرطبي: أي تبرئان من النفاق، وكذلك قال الطيبي، فيكون اسم المقشقشة مشتركا بين أربع سور هذه، وسورة الناس، وسورة براءة، وسورة الكافرون.
واختلف فيها أمكية هي أم مدنية، فقال جابر بن زيد والحسن وعطاء وعكرمة: مكية، ورواه كريب عن ابن عباس. وقال قتادة: هي مدنية، ورواه أبو صالح عن ابن عباس.
والأصح أنها مكية لأن رواية كريب عن ابن عباس مقبولة بخلاف رواية أبي صالح عن ابن عباس ففيها متكلم.
وقال الواحدي: قال المفسرون إنها نزلت بسبب أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في "الصحاح" أنها نزلت بهذا السبب، وبنى صاحب الإتقان عليه ترجيح أن السورة مدنية وسنتكلم على قصة لبيد بن الأعصم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4].
وقد قيل: أن سبب نزولها والسورة بعدها: أن قريشا ندبوا، أي ندبوا من اشتهر بينهم أنه يصيب النبي صلى الله عليه وسلم بعينه فأنزل الله المعوذتين ليتعوذ منهم بهما، ذكره الفخر عن سعيد بن المسيب ولم يسنده.
وعدت العشرين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الفيل وقبل سورة الناس.
وعدد آياتها خمس بالاتفاق.
واشتهر عن عبد الله بن مسعود في "الصحيح" أنه كان ينكر أن تكون المعوذتان من القرآن ويقول: إنما أمر رسول الله أن يتعوذ بهما، أي ولم يؤمر بأنهما من القرآن. وقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على القراءة بهما في الصلاة وكتبا في مصاحفهم، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في صلاته.
(30/546)
أغراضها
والغرض منها تعليم النبي صلى الله عليه وسلم كلمات للتعوذ بالله من شر ما يتقى شره من المخلوقات الشريرة، والأوقات التي يكثر فيها حدوث الشر، والأحوال التي يستر أحوال الشر من ورائها لئلا يرمى فاعلوها بتبعاتها، فعلم الله نبيه هذه المعوذة ليتعوذ بها، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بهذه السورة وأختها ويأمر أصحابه بالتعوذ بهما فكان التعوذ بهما من سنة المسلمين.
[1-2] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} .
الأمر بالقول يقتضي المحافظة على هذه الألفاظ لأنها التي عينها الله للنبي صلى الله عليه وسلم ليتعوذ بها فإجاباتها مرجوة، إذ ليس هذا المقول مشتملا على شيء يكلف به أو يعمل حتى يكون المراد: قل لهم كذا كما في قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وإنما هو إنشاء معنى في النفس تدل عليه هذه الأقوال الخاصة.
وقد روي عن ابن مسعود في أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتين فقال قيل لي قل فقلت لكم قولوا. يريد بذلك المحافظة على هذه الألفاظ للتعوذ وإذ قد كانت من القرآن فالمحافظة على ألفاظها متعينة والتعوذ يحصل بمعناها وبألفاظها حتى كلمة {قل} .
والخطاب في {قل} للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا قد كان قرآنا كان خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به يشمل الأمة حيث لا دليل على تخصيصه به، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالتعوذ بهذه السورة ولذلك أيضا كان يعوذ بهما الحسن والحسين كما ثبت في "الصحيح"، فتكون صيغة الأمر الموجهة إلى المخاطب مستعملة في معنيي الخطاب من توجهه إلى معين وهو الأصل، ومن إرادة كل من يصح خطابه وهو طريق من طرق الخطاب تدل على قصده القرائن، فيكون من استعمال المشترك في معنييه.
واستعمال صيغة التكلم في فعل {أعوذ} يتبع ما يراد بصيغة الخطاب في فعل {قل} فهو مأمور به لكل من يريد التعوذ بها.
وأما تعويذ قارئها غيره بها كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بالمعوذتين الحسن والحسين. وما روي عن عائشة قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنت أنفث به عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها ، فلذلك
(30/547)
على نية النيابة عمن لا يحسن أن يعوذ نفسه بنفسه بتلك الكلمات بعجز أو صغر أو عدم حفظ.
والعوذ: اللجأ إلى شيء يقي من يلجأ إليه من يخافه، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بحصن، ويقال: استعاذ، إذا سأل غيره أن يعيذه قال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]. وعاذ من كذا، إذا صار إلى ما يعيذه منه قال تعالى {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
و {الفلق} : الصبح، وهو فعل بمعنى مفعول مثل الصمد لأن الليل شبه بشيء مغلق ينفلق عن الصبح، وحقيقة الفلق: الانشقاق عن باطن شيء، واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل. وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:29]، واستعارة السلخ له في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} [يس:37].
ورب الفلق: هو الله، لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح، وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شرا كثيرا يحدث في الليل من لصوص، وسباع، وذوات سموم، وتعذر السير، وعسر النجدة، وبعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى، حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر.
والمعنى: أعوذ بفالق الصبح منجاة من شرور الليل، فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجي أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح، فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة.
[3] {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} .
عطف أشياء خاصة هي مما شمله عموم {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور:
أحدهما: وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل.
والثاني: صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير.
والثالث: صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به.
(30/548)
وأعيدت كلمة {مِنْ شَرِّ} بعد حرف العطف في هذه الجملة. وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء تعرضا للإجابة. وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب.
والغاسق: وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال: غسق الليل يغسق، ذا أظلم قال تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:79]. فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ} [الشورى:32] وتنكير {غَاسِقٍ} للجنس لأن المراد جنس الليل.
وتنكير {غَاسِقٍ} في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم. ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة: يا أهل ذا المعنى وقيتم ضرا أي وقيتم كل ضر.
وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى في كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33].
والليل: تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفا.
وتقييد ذلك بظرف {إِذَا وَقَبَ} أي إذا اشتد ظلمته لأن ذلك وقت يتحينه الشطار وأصحاب الدعارة والعيث، لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه، يقال: أغدر الليل، لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه، فعبر عن ذلك بأنه أغدر، أي صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي.
ومعنى {وقب} دخل وتغلغل في الشيء، ومنه الوقبة: اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء، ووقبت الشمس غابت، خص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعا لحصول المكروه.
[4] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} .
هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]. وعطف {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد.
والنفث: نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل، يفعله السحرة
(30/549)
إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها.
فالمراد بـ {النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} : النساء الساحرات، وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة، فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن ونحو ذلك، فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن، وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن. وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة ابن الوليد بن المغيرة اتهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش.
و {العقد} : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة، ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه. أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة، وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور، قال تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا} [الفرقان:8].
وجملة القول هنا: أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها.
وأما السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} في سورة [البقرة:102].
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث، فلم يقل: إذا نفثن في العقد، للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر، لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعلمه لأجله إلا احتال على إيصاله إليه، فربما له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو غير قصد، أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاطه أو إرادته، وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليرى لمن يسألونه السحر سحره لا يختلف ولا يخطئ.
وتعريف {النفاثات} تعريف الجنس وهو في معنى النكرة لا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} وقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} [الفلق:5]. وإنما
(30/550)
أوثر لفظ {النفاثات} بالتعريف لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أنه حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم أرسلها العراك كما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في [سورة الفاتحة:2].
وتعريف {النفاثات} باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب.
[5] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} .
عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل، لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرة وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته، فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل، لأن الليل وقت والخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد وبالمحسود.
والحسد: إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها. وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازا.
والغبطة: تمني المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره، وهو محمل الحديث الصحيح "لا حسد إلا في اثنتين" ، أي لا غبطة، أي لا تحقق الغبطة إلا في تينك الخصلتين، وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين.
فقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكها رأسا. وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قرباه ولم يقبل من الآخر، كما قصه الله تعالى في سورة العقود.
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت {إِذَا حَسَدَ} لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضر به. والمراد من الحسد في قوله: {إِذَا حَسَدَ} حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته فلا إشكال في تقييد الحسد بـ {حسد} وذلك قول عمرو بن معد يكرب:
(30/551)
وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى
أي تجلى واضحا منيرا.
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود، وبعكسه الكناية عن سيئ الحال بالحاسد وعليه قول أبي الأسود:
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لمشوم
وقول بشارة بن برد:
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
(30/552)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سورة الناس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} .
وتقدم في سورة الفلق أنها وسورة الناس تسميان "المعوذتين"، و"المشقشقتين" بتقديم الشين على القافين، وتقدم أيضا أن الزمخشري والقرطبي ذكرا أنهما تسميان "المشقشقتين" بتقديم القافين على الشينين، وعنونها ابن عطية في "المحرر الوجيز" "سورة المعوذة الثانية" بإضافة "سورة" إلى "المعوذة" من إضافة الموصوف إلى الصفة. وعنونهما الترمذي "المعوذتين"، وعنونها البخاري في "صحيحه" "سورة قل أعوذ برب الناس".
وفي مصاحفنا القديمة والحديثة المغربية والمشرقية تسمية هذه السورة "سورة الناس" وكذلك أكثر كتب التفسير.
وهي مكية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مكية، ومدنية في قول الذين قالوا في سورة الفلق أنها مدنية. والصحيح أنهما نزلتا متعاقبتين، فالخلاف في إحداهما كالخلاف في الأخرى.
وقال في "الإتقان": أن سبب نزولها قصة سحر لبيد بن الأعصم، وأنها نزلت مع "سورة الفلق" وقد سبقه على ذلك القرطبي والواحدي، وقد علمت تزييفه في سورة الفلق.
وعلى الصحيح من أنها مكية فقد عدت الحادية والعشرين من السور، نزلت عقب سورة الفلق وقبل سورة الإخلاص.
وعد آيها ست آيات، وذكر في "الإتقان" قولا: إنها سبع آيات وليس معزوا لأهل العدد.
(30/553)
أغراضها
إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم لأن يتعوذ بالله ربه من شر الوسواس الذي يحاول إفساد عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وإفساد إرشاده ويلقي في نفوس الناس الإغراض عن دعوته. وفي هذا الأمر إيماء إلى الله تعالى معيذه في ذلك فعاصمه في نفسه من تسلط وسوسة الوسواس عليه، ومتمم دعوته حتى تعم في الناس. ويتبع ذلك تعليم المسلمين التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ بذلك، فيكون لهم من هذا التعوذ ما هو حظهم. ومن قابلية التعرض إلى الوسواس، ومن السلامة منه بمقدار مراتبهم في الزلفى.
[1-6] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
شابهت فاتحتها فاتحة سورة الفلق إلا أن سورة الفلق تعوذ من شرور المخلوقات من حيوان وناس، وسورة الناس تعوذ من شرور مخلوقات خفية وهي الشياطين.
والقول في الأمر بالقول، وفي المقول، وفي أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود شموله أمته، كالقول في نظيره في سورة الفلق سواء.
وعرف {رب} بإضافته إلى {الناس} دون غيرهم من المربوبين لأن الاستعاذة من شر من يلقيه الشيطان في قلوب الناس فيضلون ويضلون، فالشر المستعاذ منه مصبه إلى الناس، فناسب أن يستحضر المستعاذ إليه بعنوان أنه رب من يلقون الشر ومن يلقى إليهم ليصرف هؤلاء ويدفع عن الآخرين كما يقال لمولى العبد: يا مولى فلان كف عني عبدك.
وقد رتبت أوصاف الله بالنسبة إلى الناس ترتيبا مدرجا فإن الله خالقهم، ثم هم غير خارجين عن حكمه إذا شاء أن يتصرف في شؤونهم، ثم زيد بيانا بوصف إلهيته لهم ليتبين أن ربوبيته لهم وحاكميته فيهم ليست كربوبية بعضهم بعضا وحاكمية بعضهم في بعض.
وفي هذا الترتيب إشعار أيضا بمراتب النظر في معرفة الله تعالى فإن الناظر يعلن بادئ ذي بدء بأن له ربا بسبب ما يشعر به من وجود نفسه، ونعمة تركيبه، ثم يتغلغل في النظر فيشعر بأن ربه هو الملك الحق الغني عن الخلق، ثم يعلم أنه المستحق للعبادة فهو إله الناس كلهم.
(30/554)
و {مَلِكِ النَّاسِ} عطف بيان من {رَبِّ النَّاسِ} وكذلك {إِلَهِ النَّاسِ} فتكرير لفظ {الناس} دون اكتفاء بضميره لأن عطف البيان يقتضي الإظهار ليكون الاسم المبين بكسر الياء مستقلا بنفسه لأن عطف البيان بمنزلة علم للاسم المبين بالفتح.
و { النَّاسِ} : اسم جمع للبشر جميعهم أو طائفة منهم ولا يطلق على غيرهم على التحقيق.
و {الْوَسْوَاسِ} : المتكلم بالوسوسة، وهي الكلام الخفي قال رؤبة يصف صائدا في قترته:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق
فالوسواس اسم فاعل ويطلق الوسواس بفتح الواو مجازا على ما يخطر بنفس المرء من الخواطر التي يتوهمها مثل كلام يكلم به نفسه قال عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
والتعريف في {الْوَسْوَاسِ} تعريف الجنس وإطلاق {الْوَسْوَاسِ} على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه:121]، ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى، لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به، وهم الذين يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم الدوائر ويغرون الناس بأذيته.
و { الْخَنَّاسِ} : الشديد الخنس والكثيرة. والمراد أنه صار عادة له. والخنس والخنوس: الاختفاء. والشيطان يلقب بـ {الْخَنَّاسِ} لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنه خنس فيه، وأهل المكر والكيد والتختل خناسون لأنهم يتحيلون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم.
فالتعريف في {الْخَنَّاسِ} على وزن تعريف موصوفه، ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها ويزجره النفس اللوامة، أو يزعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها، فكأن الشيطان يبدو له ثم يختفي، ثم يبدو ثم يختفي حتى
(30/555)
يتمكن من تدليته بغرور.
ووصف {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} بـ {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} لتقؤيب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها، وذلك بأن بين أن مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الأثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب" ، فغاية الوسواس من وسوسته بثها في نفس المغرور والمشبوك في فخه، فوسوسة الشيطانين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان وشببها مرة بالنفث، ومرة بالإبساس. وفي الحديث "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما" .
وإطلاق فعل {يُوَسْوِسُ} على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان. وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة. وتعلق المجرور من قوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} بفعل {يُوَسْوِسُ} بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي، وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كل من فعل {يُوَسْوِسُ} ومتعلقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز.
و {من} في قوله: {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} بيانية بينت {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} بأنه جنس ينحل باعتبار إرادة حقيقته ومجازه إلى صنفين: صنف من الجنة وهو أصله، وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول، وجمع الله هذين الصنفين في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجر من وسوسة نوع الإنسان، لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان، وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين، وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا وهم بالتعوذ منهم أجدر، لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر، وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر.
(30/556)
ولا يستقيم أن يكون {من} بيانا للناس إذ لا يطلق اسم { النَّاسِ} على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبعد.
وقدم {الْجِنَّةِ} على { النَّاسِ} هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين، لأن الله عصم أنبيائه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين، ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله.
والجنة: اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن، فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال: إنسي للواحد من الإنس.
وتكرير كلمة { النَّاسِ} في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ} [آل عمران:78].
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله: {فِي صُدُورِ النَّاسِ} فهو إظهار لأجل بعد المعاد.
وأما تكريره المرة الرابعة بقوله: {مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس، وذلك غير ما صدق كلمة { النَّاسِ} في المرات السابقة.
والله يكفينا شر الفريقين، وينفعنا بصالح الثقلين.
تم تفسير "سورة الناس" وبه تم تفسير القرآن العظيم.
يقول محمد الطاهر ابن عاشور: قد وفيت بما نويت، وحقق الله ما ارتجيت فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته، مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة، واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمة، وقد جئت بما أرجو أن أكون وفقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها، ودقائق ربما جلت وجوها ولم تجل كنها، فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه، ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء
(30/557)
دون مرامه1 .
وإن كلام رب الناس، حقيق بأن يخدم سعيا على الرأس، وما أدى هذا الحق إلا قلم المفسر يسعى على القرطاس، وإن قلمي طالما استن بشوط فسيح، وكم زجر عند الكلال والإعياء زجر المنيح، وإذ قد أتى على التمام فقد حق له أن يستريح.
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف. فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر. وهي حقبة لم تخلو من أشغال صارفة، ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة، ومنازع بقريحة شاربة طورا وطورا غارفة، وما خلا ذلك من تشتت بال، وتطور أحوال، مما لم تخلو عن الشكاية منه الأجيال، ولا كفران الله فإن نعمه أوفى، ومكاييل فضله علي لا تطفف ولا تكفا.
وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن ينجد ويغور، وأن ينفع به الخاصة والجمهور، ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور.
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقي مدينة تونس، وكتبه محمد الطاهر ابن عاشور.
ـــــــ
"1" تضمين لمصراع بيت المعري:
برومك والجوزاء دون مرامه ... عدو بعيب البدر عند تمامه
(30/558)