الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوح
بهذا الاسم سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير، وترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه" بترجمة "سورة إنا أرسلنا نوحا". ولعل ذلك كان الشائع في كلام السلف ولم يترجم لها الترمذي في "جامعه" .
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الثالثة والسبعين في ترتيب نزول السور، نزلت بعد نزول أربعين آية من سورة النحل وقبل سورة الطور.
وعد العادون بالمدينة ومكة آيها ثلاثين آية، وعدها أهل البصرة والشام تسعا وعشرين آية، وعدها أهل الكوفة ثمانا وعشرين آية.
أغراضها
أعظم مقاصد السورة ضرب المثل للمشركين بقوم نوح وهم أول المشركين الذين سلط عليهم عقاب في الدنيا، وهو أعظم عقاب أعني الطوفان. وفي ذلك تمثيل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه بحالهم.
وفيها تفصيل كثير من دعوة نوح عليه السلام إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام وإنذاره قومه بعذاب أليم واستدلاله لهم ببدائع صنع الله تعالى وتذكيرهم بيوم البعث.
وتصميم قومه على عصيانه وعلى تصلبهم في شركهم.
وتسمية الأصنام التي كانوا يعبدونها.
ودعوة نوح على قومه بالاستئصال.
(29/172)

وأشارت إلى الطوفان.
ودعاء نوح بالمغفرة له وللمؤمنين، وبالتبار للكافرين كلهم.
وتخلل ذلك إدماج وعد المطيعين بسعة الأرزاق وإكثار النسل ونعيم الجنة.
[1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام. وكثيرا ما يفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا "إن" داخلة على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ، أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ} [النمل: 30-31] الآية.
وذكر نوح عليه السلام مضى في سورة آل عمران. وتقدم أن هذا الاسم غير عربي، وأنه مشتق من مادة النوح.
و {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه، ف {أَنْ} تفسيرية لأنها وقعت بعد {أَرْسَلْنَا} . وفيه معنى القول دون حروفه. ومعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله، فأمره الله أن ينذرهم عذابا يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدما على حلول العذاب. وهذا يقتضي أنه أمر بأن يعلمهم بهذا العذاب، وأن الله وقته بمدة بقائهم بعد الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أرسل به في مدة يقع الإبلاغ في مثلها، فحذف متعلق فعل {أَنْذِرْ} لدلالة ما يأتي بعده من قوله: {أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي} [نوح:3].
وحرف {مِنْ} زائد للتوكيد، أي قبل أن يأتيهم عذاب فهي قبلية مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه {قَبْلِ} .
و"قوم نوح" هم الناس الذين كانوا عامرين الأرض يومئذ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة.
والقوم: الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم.
وإضافة "قوم" إلى ضمير { نوح} لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه
(29/173)

واحد منهم وهم بين أبناء له وأنسباء فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد.
وعدل عن أن يقال له: أنذر الناس إلى قوله: {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} إلهابا لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته، وهم عدد تكون بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض. ولعل عددهم يوم أرسل نوح إليهم لا يتجاوز بضعة آلاف.
[2-4] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} .
لم تعطف جملة {قَالَ يَا قَوْمِ} بالفاء التفريعية على جملة {أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح: 1]. لأنها في معنى البيان لجملة {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أمر أن يقول فقال، تنبيها على مبادرة نوح لإنذار قومه في حين بلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه.
ولك أن تجعلها استئنافا بيانيا لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} ، وهما متقاربان.
وافتتاح دعوته قومه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم، ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلا ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.
والنذير: المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
وقد تقدم في أول سورة البقرة [10] عند قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وحذف متعلق
(29/174)

{نَذِيرٌ} لدلالة قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} عليه. والتقدير: إني لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقوه ولم تطيعوني.
والمبين: يجوز أن يكون من أبان المتعدي الذي مجرده بان، أي موضح أو من أبان القاصر، الذي هو مرادف بان المجرد، أي نذير واضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع لدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:109-110].
وتقديم {لَكُمْ} على عامله وهو {نَذِيرٌ} للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته.
فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي: النداء، وجعل المنادى لفظ {يا قوم} المضاف إلى ضميره، وافتتاح كلامه بحرف التأكيد، واجتلاب لام التعليل، وتقديم مجرورها.
و {أن} في {أَنِ اعْبُدُوا} تفسيرية لأن وصف {نَذِيرٌ} فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس [71] {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} . وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلا تاما.
واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات. والمراد: حال من أحوال الذات من باب {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به. وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون: لم يكن في شريعة نوح إلا الدعوة إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تطلب الطاعة فيها لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإشراك اعتقادا وسجودا.
وجزم {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} في جواب الأوامر الثلاثة {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم. وهذا وعد بخير الآخرة.
وحرف {من} زائد للتوكيد، وهذا من زيادة {من} في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الخفش وأبي علي الفارسي وابن جني من البصريين وهو قول الكسائي
(29/175)

وجميع نحاة الكوفة. فيفيد أن الإيمان يجب ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإسلام.
ويجوز أن تكون {من} للتبعيض، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم، أي ذنوب الإشراك وما معه، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية، ومغفرة الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله. وقال ابن عطية: معنى التبعيض: مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد. وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر {من} التبعيضية اقتصادا في الكلام بالقدر المحقق.
وأما قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإنسان حب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارض ومكدرات. وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع. قال المعري:
وكل يريد العيش والعيش حتفه ... ويستعذب اللذات وهي سمام
والتأخير: ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع من أجل الشيء.
وقد أشعر وعده إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جعل جزاء لكل من عبد الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1]. كما تقدم آنفا، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه. وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم. والمعنى: ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة.
والأجل المسمى: هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقه كل أحد منه، فالتنوين في {أجل} للنوعية، أي الجنس، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [الحج:5]
ومعنى {مُسَمّىً} أنه محدد معين وهو ما في قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} في
(29/176)

سورة [الأنعام:2]
فالأجل المسمى: هو عمر كل واحد، المعين له في ساعة خلقه المشار إليه في الحديث "أن الملك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما ينفخ فيه الروح" ، واستعيرت التسمية للتعيين لشبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال.
والمعنى: ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعا فيؤخر كل أحد إلى أجله المعين له على تفاوت آجالهم.
فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود [3]. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلا لقوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ، أي تعليلا للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ} الخ لأن الربط بين الأمر وجوابه يعطي بمفهومه معنى: إن لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى، فعلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ، أي أن الوقت الذي عينه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إبانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإيمان ساعتئذ، كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98]، فيكون هذا حثا على التعجيل بعبادة الله وتقواه.
فالأجل الذي في قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} غير الأجل الذي في قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} ويناسب ذلك قوله عقبه {لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعينة لاستئصالهم، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين. وفي إضافة {أجل} إلى اسم الجلالة في قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عينه الله إنذارا لهم ليؤمنوا بالله. ويحتمل أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في
(29/177)

قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} .
ويحتمل أن تكون الجملة تعليلا لكلا الأجلين: الأجل المفاد من قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فإن لفظ {قبل} يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مبهم غير بعيد، والأجل المذكور بقوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} فيكون أجل الله صادقا على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم.
وإضافته إلى الله إضافة كشف، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد.
وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وبين قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} إما لاختلاف المراد بلفظي "الأجل" في قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} وقوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ، وإما لاختلاف معنيي التأخير في قوله: {إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} فانفكت جهة التعارض.
أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين: أصل العلم الإلهي بما سيكون، وأصل تقدير الله للأسباب وترتب مسبباتها عليها.
فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] أي في علم الله، والناس لا يطلعون على ما في علم الله.
وأما وجود الأسباب كلها كأسباب الحياة، وترتب مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيرات لم تكن موجودة إكراما لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر. وفي الحديث "صدقة المرء المسلم تزيد في العمر" . وهو حديث حسن مقبول. وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم "من سره أن يمد في عمره فليتق الله وليصل رحمه" . وسنده جيد، فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركتها قابلة للزيادة والنقص. وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صدق قوله: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} وقد قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج.
فالذي رغب نوح قومه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرت آجالهم
(29/178)

وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كشف للناس أن الله علم أنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "اعملوا فكل ميسر إلى ما خلق إليه" ، وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي.
وفي إقحام فعل {كُنْتُمْ} قبل {تَعْلَمُونَ} إيذان بأن عملهم بذلك المنتفي لوقوعه شرطا لحرف {لو} محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ} في سورة يونس [2].
وجواب {لو} محذوف دل عليه قوله: {لا يُؤَخَّرُ} . والتقدير: لأيقنتم أنه لا يؤخر.
[5-6] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} .
جرد فعل {قَالَ } هنا، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له {أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] عومل معاملة الجواب الذي يتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى: {الُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30]، تنبيها على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} وحصول يأسه منهم، فجعل مراجعته ربه بعد مدة مستفادة من قوله: {لَيْلاً وَنَهَاراً} بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورين. ولك أن تجعل جملة {قَالَ رَبِّ} الخ مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب معرفة ماذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى.
وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر. وذلك ما سيفضي إليه بقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] الآيات.
وفائدة حكاية ما ناجى به نوج ربه إظهار توكله على الله، وانتصار الله له، والإتيان على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له. وتلك ثمان مقالات هي:
1- {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} الخ [نوح: 1].
(29/179)

2- {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 2]الخ.
3- { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} [نوح: 5]الخ.
4- {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] الخ.
5- {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] الخ.
6- {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} [نوح:24] الخ.
7 {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ} الخ [نوح:26].
8- {رَبِّ اغْفِرْ لِي} الخ [نوح:28].
وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم في أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره، من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدو وراحة البال وهي أوقات الليل.
ومعنى {لَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلا بعدا منه، فالفرار مستعار لقوة الإعراض، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قربا مما أدعوهم إليه.
واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع. والتقدير: فلم يزدهم دعائي قربا من الهدى لكن زادهم فرارا كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود:63] .
وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سببا في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم.
وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو تأكيد الشيء بما يشبه ضده، وهو هنا تأكيد إعراضهم المشبه بالابتعاد بصورة تشبه ضد الإعراض.
ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتا لهم من قبل كان قوله: {لَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً} من تأكيد الشيء بما يشبه ضده.
(29/180)

وتصدير كلام نوح بالتأكيد لإرادة الاهتمام بالخير.
[7] {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} .
{كُلَّمَا} مركبة من كلمتين كلمة "كل" وهي اسم يدل على استغراق أفراد ما تضاف هي إليه، وكلمة "ما" المصدرية وهي حرف يفيد أن الجملة بعده في تأويل مصدر. وقد يراد بذلك المصدر زمان حصوله فيقولون "ما" ظرفية مصدرية لأنها نائبة عن اسم الزمان.
والمعنى: أنهم لم يظهروا مخيلة من الإصغاء إلى دعوته ولم يتخلفوا عن الإعراض والصدود عن دعوته طرفة عين، فلذلك جاء بكلمة {كُلَّمَا} الدالة على شمول كل دعوة من دعواته مقترنة بدلائل الصد عنها، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة:20].
وحذف متعلق {دَعَوْتُهُمْ} لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [نوح: 3].
والتقدير: كلما دعوتهم إلى عبادتك وتقواك وطاعتي فيما أمرتهم به.
واللام في قوله: {لِتَغْفِرَ} لام التعليل، أي دعوتهم بدعوة التوحيد فهو سبب المغفرة، فالدعوة إليه معللة بالغفران.
ويتعلق قوله: {كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} بفعل {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ} على أنه ظرف زمان.
وجملة {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ} خبر {إن} والرابط ضمير {دَعَوْتُهُمْ} .
وجعل الأصابع في الآذان يمنع بلوغ أصوات الكلام إلى المسامع.
وأطلق اسم الأصابع على الأنامل على وجه المجاز المرسل بعلاقة البعضية فإن الذي يجعل في الأذن الأنملة لا الأصبع كله فعبر عن الأنامل بالأصابع للمبالغة في إرادة سد المسامع بحيث لو أمكن لأدخلوا الأصابع كلها، وتقدم في قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ} في سورة البقرة [19].
واستغشاء الثياب: جعلها غشاء، أي غطاء على أعينهم، تعضيدا لسد آذانهم بالأصابع لئلا يسمعوا كلامه ولا ينظروا إشاراته، وأكثر ما يطلق الغشاء على غطاء العينين، قال تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7] والسين والتاء في {اسْتَغْشَوْا}
(29/181)

للمبالغة.
فيجوز أن يكون جعل الأصابع في الآذان واستغشاء الثياب هنا حقيقة بأن يكون ذلك من عادات قوم نوح إذا أراد أحد أن يظهر كراهية لكلام من يتكلم معه أن يجعل إصبعيه في أذنيه ويجعل من ثوبه ساترا لعينيه.
ويجوز أن يكون تمثيلا لحالهم في الإعراض عن قبول كلامه ورؤية مقامه بحال من يسك سمعه بأنملتيه ويحجب عينيه بطرف ثوبه.
وجعلت الدعوة معللة بمغفرة الله لهم لأنها دعوة إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بالله وحده وطاعة أمره على لسان رسوله.
وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتعجب من خلقهم ذ يعرضون عن الدعوة لما فيه نفعهم فكان مقتضى الرشاد أن يسمعوها ويتدبروها.
والإصرار: تحقيق العزم على فعل، وهو مشتق من الصر وهو الشد على شيء والعقد عليه، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} في سورة آل عمران [135].
وحذف متعلق {أَصَرُّوا} لظهوره، أي أصروا على ما هم عليه من الشرك.
{وَاسْتَكْبَرُوا} مبالغة في تكبروا، أي جعلوا أنفسهم أكبر من أن يأتمروا لواحد منهم {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود:27].
وتأكيد {اسْتَكْبَرُوا} بمفعوله المطلق للدلالة على تمكن الاستكبار. وتنوين {اسْتِكْبَاراً} للتعظيم، أي استكبارا شديدا لا يفله حد الدعوة.
[8-12] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} .
ارتقى في شكواه واعتذاره بأن دعوته كانت مختلفة الحالات في القول من جهر وإسرار، فعطف الكلام ب {ثم} التي تفيد في عطفها الجمل أن مضمون الجملة المعطوفة أهم من مضمون المعطوف عليها، لأن اختلاف كيفية الدعوة ألصق بالدعوة من أوقات
(29/182)

إلقائها لأن الحالة أشد ملابسة بصاحبها من ملابسة زمانه. فذكر أنه دعاهم جهارا، أي علنا.
وجهار: اسم مصدر جهر، وهو هنا وصف لمصدر {دَعَوْتُهُمْ} ، أي دعوة جهارا.
وارتقى فذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار لأن الجمع بين الحالتين أقوى في الدعوة وأغلظ من إفراد إحداهما. فقوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ} تأكيد لقوله: {دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} ذكر ليبنى عليه عطف {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
والمعنى: أنه توخى ما يضنه أوغل إلى قلوبهم من صفات الدعوة فجهير حينما يكون الجهر أجدى مثل مجامع العامة، وأسر للذين يظنهم متجنبين لوم قومهم عليهم في التصدي لسماع دعوته وبذلك تكون ضمائر الغيبة في قوله: {دَعَوْتُهُمْ} ، وقوله: {أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ} موزعة على مختلف الناس.
وانتصب {جِهَاراً} بالنيابة عن المفعول المطلق المبين لنوع الدعوة.
وانتصب {إِسْرَاراً} على أنه مفعول مطلق مفيد للتوكيد، أي إسرارا خفيا.
ووجه توكيد الإسرار أن إسرار الدعوة كان في حال دعوته سادتهم وقادتهم لأنهم يمتعضون من إعلان دعوتهم بمسمع من أتباعهم.
وفصل دعوته بفاء التفريع فقال {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} فهذا القول هو الذي قال لهم ليلا ونهارا وجهارا وإسرارا.
ومعنى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} ، آمنوا إيمانا يكون استغفارا لذنبكم فإنكم إن فعلتم غفر الله لكم.
وعلل ذلك لهم بأن الله موصوف بالغفران صفة ثابتة تعهد الله بها لعباده المستغفرين، فأفاد التعليل بحرف "إن" وأفاد ثبوت الصفة لله بذكر فعل {كان} . وأفاد كمال غفرانه بصيغة المبالغة بقوله {غَفَّاراً} .
وهذا وعد بخير الآخرة ورتب عليه وعدا بخير الدنيا بطريق جواب الأمر، وهو {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ} الآية.
وكانوا أهل فلاحة فوعدهم بنزول المطر الذي به السلامة من القحط وبالزيادة في الأموال.
(29/183)

و {السَّمَاءَ} : هنا المطر، ومن أسماء المطر السماء. وفي حديث "الموطأ" و "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهني: أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل الحديث. وقال معاوية بن مالك بن جعفر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار: الكثيرة الدر والدرور، وهو السيلان، يقال: درت السماء بالمطر، وسماء مدرار.
ومعنى ذلك: أن يتبع بعض الأمطار بعضا.
ومدرار، زنة مبالغة، وهذا الوزن لا تلحقه علامة التأنيث إلا نادرا كما في قول سهل بن مالك الفزاري:
أصبح يهوى حرة معطارة
فلذلك لم تلحق التاء هنا مع أن اسم السماء مؤنث.
والإرسال: مستعار للإيصال والإعطاء، وتعديته ب {عَلَيْكُمْ} لأنه إيصال من علو كقوله: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3].
و"أموال": جمع مال وهو يشمل كل مكسب يبذله المرء في اقتناء ما يحتاج إليه.
والمراد بالجنات في قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ} النخيل والأعناب، لأن الجنات تحتاج إلى السقي.
وإعادة فعل يجعل بعد واو العطف في قوله: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} للتوكيد اهتماما بشأن المعطوف لأن الأنهار قوام الجنات وتسقي المزارع والأنعام.
وفي هذا دلالة على أن الله يجازي عباده الصالحين بطيب العيش قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] وقال {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن:16].
[13-14] {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} .
بدل خطابه مع قومه من طريقة النصح والأمر إلى طريقة التوبيخ بقوله: {مَا لَكُمْ لا
(29/184)

تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .
وهو استفهام صورته صورة السؤال عن أمر ثبت لهم في حال انتفاء رجائهم توقير الله.
والمقصود أنه لا شيء يثبت لهم صارف عن توقير الله فلا عذر لكم في عدم توقيره.
وجملة {لا تَرْجُونَ لِلَّهِ} في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وكلمة "ما لك" ونحوها تلازمها حال بعدها نحو {فَمَا لَهُمْ عَنْ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر:49].
وقد اختلف في معنى قوله: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} في تعلق معمولاته بعوامله على أقوال: بعضها يرجع إلى إبقاء معنى الرجاء على معناه المعروف وهو ترقب الأمر، وكذلك معنى الوقار على المتعارف وهو العظمة المقتضية للإجلال، وبعضها يرجع إلى تأويل معنى الرجاء، وبعضها إلى تأويل معنى الوقار، ويتركب من الحمل على الظاهر ومن التأويل أن يكون التأويل في كليهما، أو أن يكون التأويل في أحدهما مع إبقاء الآخر على ظاهر معناه.
فعلى حمل الرجاء على المعنى المتعارف الظاهر وحمل الوقار كذلك. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح وبن كيسان: ما لكم لا ترجون ثوابا من الله ولا تخافون عقابا، أي فتعبدوه راجين أن يثيبكم على عبادتكم وتوقيركم إياه. وهذا التفسير ينحو إلى أن يكون في الكلام اكتفاء، أي ولا تخافون عقابا. وإن نكتة الاكتفاء بالتعجب من عدم رجاء الثواب: أن ذلك هو الذي ينبغي أن يقصده أهل الرجاء والتقوى. وإلى هذا المعنى قال صاحب الكشاف: إذ صدر بقوله: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب.
وهذا يقتضي أن يكون الكلام كناية تلويحية عن حثهم على الإيمان بالله الذي يستلزم رجاء ثوابه وخوف عقابه لأن من رجا تعظيم الله إياه آمن به وعبده وعمل الصالحات.
وعلى تأويل معنى الرجاء قال مجاهد والضحاك: معنى {لا تَرْجُونَ} لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية لمضر وهذيل وخزاعة يقولون: لم أرج أي لم أبال، وقال الوالبي والعوفي عن ابن عباس: معنى {لا تَرْجُونَ} لا تعلمون، وقال مجاهد أيضا: لا ترون، وعن ابن عباس أنه سأله عنها نافع بن الأزرق، فأجابه أن الرجاء بمعنى الخوف، وأنشد قول أبي ذؤيب:
(29/185)

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل
أي لم يخف لسعها واستمر على اشتيار العسل. قال الفراء: إنما يوضع الرجاء موضع الخوف لأن مع الرجاء طرفا من الخوف من الناس ومن ثم استعمل الخوف بمعنى العلم كقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} الآية[البقرة:229]. والمعنى: لا تخافون عظمة الله وقدرته بالعقوبة.
وعلى تأويل الوقار قال قتادة: الوقار: العاقبة، أي ما لكم لا ترجون لله عاقبة، أي عاقبة الإيمان، أي أن الكلام كناية عن التوبيخ على تركهم الإيمان بالله، وجعل أبو مسلم الأصفهاني: الوقار بمعنى الثبات، قال: ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أي اثبتن، ومعناه: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله.
وتتركب من هذين التأويلين معان أخرى من كون الوقار مسندا في التقرير إلى فاعله أو إلى مفعوله، وهي لا تخفى.
وأما قوله: {لله} فالأظهر أنه متعلق ب {تَرْجُونَ} ، ويجوز في بعض التأويلات الماضية أن يكون متعلقا ب {وقارا} : إما تعلق فاعل المصدر بمصدره فتكون اللام في قوله: {لله} لشبه الملك، أي الوقار الذي هو تصرف الله في خلقه إن شاء أن يوقركم، أي يكرمكم بالنعيم، وأما تعلق مفعول المصدر، أي أن توقروا الله وتخشوه ولا تتهاونوا بشأنه تهاون من لا يخافه فتكون اللام لام التقوية.
وجملة {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} حال من ضمير {لكم} أو ضمير {تَرْجُونَ} ، أي في حال تحققكم أنه خلقكم أطوارا.
فأما أنه خلقهم فموجب للاعتراف بعظمته لأنه مكونهم وصانعهم فحق عليهم الاعتراف بجلاله.
وأما كون خلقهم أطوارا فلأن الأطوار التي يعلمونها دالة على رفقه بهم في ذلك التطور، فذلك تعريض بكفرهم النعمة، ولأن الأطوار دالة على حكمة الخالق وعلمه وقدرته، فإن تطور الخلق من طور النطفة إلى طور الجنين إلى طور خروجه طفلا إلى طور الصبا إلى طور بلوغ الأشد إلى طور الشيخوخة وطور الموت على الحياة وطور البلى على الأجساد بعد الموت، كل ذلك والذات واحدة، فهو دليل على تمكن الخالق من كيفيات الخلق والتبديل في الأطوار، وهم يدركون ذلك بأدنى التفات الذهن، فكانوا محقوقين بأن
(29/186)

يتوصلوا به إلى معرفة عظمة الله وتوقع عقابه لأن الدلالة على ذلك قائمة بأنفسهم وهل التصرف فيهم بالعقاب والإثابة إلا دون التصرف فيهم بالكون والفساد.
والأطوار: جمع طور بفتح فسكون، والطور: التارة، وهي المرة من الأفعال أو من الزمان، فأريد من الأطوار هنا ما يحصل في المرات والأزمان من أحوال مختلفة، لأنه لا يقصد من تعدد المرات والأزمان إلا تعدد ما يحصل فيها، فهو تعدد بالنوع لا بالتكرار كقول النابغة:
فإن أفاق لقد طالت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار
وانتصب {أَطْوَارا} على الحال من ضمير المخاطبين، أي تطور خلقهم لأن {أَطْوَارا} صار في تأويل أحوالا في أطوار.
[15-16] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} .
إن كان هذا من حكاية كلام نوح عليه السلام لقومه كما جرى عليه كلام المفسرين، كان تخلصا من التوبيخ والتعريض إلى الاستدلال عليهم بآثار وجود الله ووحدانيته وقدرته، مما في أنفسهم من الدلائل، إلى ما في العالم منها، لما علمت من إيذان قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] من تذكير بالنعمة وإقامة للحجة، فتخلص منه لذكر حجة أخرى فمان قد نبههم على النظر في أنفسهم أولا لأنها أقرب ما يحسونه ويشعرون به ثم على النظر في العالم وما سوي فيه من العجائب الشاهدة على الخالق العليم القدير.
وإن كان من خطاب الله تعالى للأمة وهو ما يسمح به سياق السورة من الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المساوية لأحوال المشركين كان هذا الكلام اعتراضا للمناسبة.
والهمزة في {أَلَمْ تَرَوْا} للاستفهام التقريري مكنى به عن الإنكار عن عدم العلم بدلائل ما يرونه.
والرؤيا بصرية. ويجوز أن تكون علمية أي ألم تعلموا فيدخل فيه المرئي من ذلك. وانتصب {كَيْفَ} على المفعول به ل {ترو} ، ف {كَيْفَ} هنا مجردة عن الاستفهام متمحضة للدلالة على الكيفية، أي الحالة.
والمعنى: ألستم ترون هيئة وحالة خلق الله السماوات.
(29/187)

والسماوات: هنا هي مدارات بمعنى الكواكب فإن لكل كوكب مدارا قد يكون هو سماؤه.
وقوله: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} يجوز أن يكون وصف {سبع} معلوما للمخاطبين من قوم نوح، أو من أمة الدعوة الإسلامية بأن يكونوا علموا ذلك من قبل؛ فيكون مما شمله فعل {أَلَمْ تَرَوْا} . ويجوز أن يكون تعليما للمخاطبين على طريقة الإدماج، ولعلهم كانوا سلفا للكلدانيين في ذلك.
و {طباقا} : بعضها أعلى من بعض، وذلك يقتضي أنها منفصل بعضها عن بعض وأن بعضها أعلى من بعض سواء كانت متماسة أو كان بينها ما يسمى بالخلاء.
وقوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} صالح لاعتبار القمر من السماوات، أي الكواكب على الاصطلاح القديم المبني على المشاهدة، لأن ظرفي {في} تكون لوقوع المحوي في حاوية مثل الوعاء، وتكون لوقوع الشيء بين جماعته، كما في حديث الشفاعة وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، وقول النميري:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوة خفرات
والقمر كائن في السماء المماسة للأرض وهي المسماة بالسماء الدنيا، والله أعلم بأبعادها.
وقوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} هو بتقدير: وجعل الشمس فيهن سراجا، والشمس من الكواكب.
والإخبار عن القمر بأنه نور مبالغة في وصفه بالإنارة بمنزلة الوصف بالمصدر. والقمر ينير ضوءه الأرض إنارة مفيدة بخلاف غيره من نجوم الليل فإن إنارتها لا تجدي البشر.
والسراج: المصباح الزاهر نوره الذي يوقد بفتيلة في الزيت يضيء التهابها المعدل بمقدار بقاء مادة الزيت تغمرها.
والإخبار عن الشمس من التشبيه البليغ وهو تشبيه، والقصد منه تقريب المشبه من إدراك السامع، فإن السراج كان أقصى ما يستضاء به في الليل وقل من العرب من يتخذوه وإنما كانوا يرونه في أديرة الرهبان أو قصور الملوك وأضرابهم، قال امرؤ القيس:
يضي سناه أو مصابيح راهب ... أمال الذبال بالسليط المفتل
(29/188)

ووصفوا قصر غمدان بالإضاءة على الطريق ليلا.
ولم يخبر عن الشمس بالضياء كما في آية سورة يونس [5] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} ، والمعنى واحد وهو الإضاءة، فلعل إيثار السراج هنا لمقاربة تعبير نوح في لغته، مع ما فيه من الرعاية على الفاصلة، لأن الفواصل التي قبلها جاءت على حروف صحيحة ولو قيل ضياء لصارت الفاصلة همزة والهمزة قريبة من حروف العلة فيثقل الوقف عليها.
وفي جعل القمر نورا إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم ووفي جعل القمر نورا إيماء إلى أن ضوء القمر ليس من ذاته فإن القمر مظلم وإنما يضيء بانعكاس أشعة الشمس على ما يستقبلها من وجهه بحسب اختلاف ذلك الاستقبال من تبعض وتمام وهو أثر ظهوره هلالا ثم اتساع استنارته إلى أن يصير بدرا، ثم ارتجاع ذلك، وفي تلك الأحوال يضيء على الأرض إلى أن يكون المحاق. وبعكس ذلك جعلت الشمس سراجا لأنها ملتهبة وأنوارها ذاتية فيها صادرة عنها إلى الأرض وإلى القمر مثل أنوار السراج تملأ البيت وتلمع أواني الفضة ونحوها مما في البيت من الأشياء المقابلة.
وقد اجتمع في قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} استدلال وامتنان.
[17-18] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} .
أنشأ الاستدلال بخلق السماوات حضور الأرض في الخيال فأعقب نوح به دليله السابق، استدلالا بأعجب ما يرونه من أحوال ما على الأرض وهو حال الموت وإقبار، ومهد لذلك ما يتقدمه من إنشاء الناس.
وأدمج في ذلك تعليمهم بأن الإنسان مخلوق من عناصر الأرض مثل النبات وإعلامهم بأن بعد الموت حياة أخرى.
وأطلق على معنى: أنشأكم، فعل {أَنْبَتَكُمْ} للمشابهة بين إنشاء الإنسان وإنبات النبات من حيث إن كليهما تكوين كما قال تعالى: {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، أي أنشأها وكما يقولون: زرعك الله للخير، ويزيد وجه الشبه هنا قربا من حيث إن إنشاء الإنسان مركب من عناصر الأرض، وقيل التقدير: أنبت أصلكم، أي آدم عليه السلام، قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59].
(29/189)

و {نَبَاتاً} : اسم من أنبت، عومل معاملة المصدر فوقع مفعولا مطلقا ل {أَنْبَتَكُمْ} للتوكيد، ولم يجر على قياس فعله فيقال: إنباتا، لأن نباتا أخف فلما تسنى الإتيان به لأنه مستعمل فصيح لم يعدل عنه إلى الثقيل كمالا في الفصاحة، بخلاف قوله بعده {إِخْرَاجاً} فإنه لم يعدل عنه إلى: خروجا، لعدم ملاءمته لألفاظ الفواصل قبله المبنية على ألف مثل ألف التأسيس فكما تعد مخالفتها في القافية عيبا كذلك تعد المحافظة عليها في الأسجاع والفواصل كمالا.
وقد أدمج الإنذار بالبعث في خلال الاستدلال، ولكونه أهم رتبة في الاستدلال عليهم بأصل الإنشاء عطفت الجملة ب {ثم} الدالة على التراخي الرتبي في قوله: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} لأن المقصود من الجملة هو فعل {يُخْرِجُكُمْ} ، وأما قوله: {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ} فهو تمهيد له.
وأكد يخرجكم بالمفعول المطلق لرد إنكارهم البعث.
[19-20] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} .
هذا استدلال وامتنان، ولذلك علق بفعل {جعل} مجرور بلام التعليل وهو {لكم} أي لأجلكم.
والبساط: ما يفرش للنوم عليه والجلوس من ثوب أو زريبة فالإخبار عن الأرض ببساط تشبيه بليغ، أي كالبساط. ووجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزاءه بحيث لا يوجع أرجل الماشين ولا يقض جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كروي، وقد نبه على ذلك بالعلة الباعثة في قوله: {لكم} ، والعلة الغائبة في قوله: {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً} وحصل من مجموع العلتين الإشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع، وإلى نعمه خاصة وهي السير في الأرض وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.
والسبل:جمع سبيل وهو الطريق، أي لتتخذوا لأنفسكم سبلا من الأرض تهتدون بها في أسفاركم.
والفجاج: جمع فج، والفج: الطريق الواسع، وأكثر ما يطلق على الطريق بين جبلين لأنه يكون أوسع من الطريق المعتاد.
(29/190)

[21-23] {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً، وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} .
هذه الجملة بدل من جملة {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} [نوح:5] بدل اشتمال لأن حكاية عصيان قومه إياه مما اشتملت عليه حكاية أنه دعاهم فيحتمل أن تكون المقالتان في وقت واحد جاء فيه نوح إلى مناجاة ربه بالجواب عن أمره له بقوله: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] فتكون إعادة فعل {قال} من قبيل ذكر عامل المبدل منه في البدل كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114]، للربط بين كلاميه لوط الفصل بينهما.
ويحتمل أن تكون المقالتان في وقتين جمعها القرآن حكاية لجوابيه لربه، فتكون إعادة فعل {قال} لما ذكرنا مع الإشارة إلى تباعد ما بين القولين.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ما سبقها من قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي} إلى هنا مما يشير عجبا في حال قومه المحكي بحيث يتساءل السامع عن آخر أمرهم، فابتدئ ذكر ذلك بهذه الجملة وما بعدها إلى قوله: {أَنْصَارًا} [نوح:25]. وتأخير هذا بعد عن قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} [نوح:5] ارتقاء في التذمر منهم لأن هذا حكاية حصول عصيانهم بعد تقديم الموعظة إليهم بقوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} إلى قوله: {سُبُلاً فِجَاجاً} [نوح:11-20].
وإظهار اسم {نوح} مع القول الثاني دون إضمار لبعد معاد الضمير لو تحمله الفعل، وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه، كما تقدم في قوله: {قَالَ رَبِّ} الخ. وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام بما استعمل فيه من التحسر والاستنصار.
ثم ذكر أنهم أخذوا بقول الذين يصدونهم عن قبول دعوة نوح، أي اتبعوا سادتهم وقادتهم. وعدل عن التعبير عنهم بالكبراء ونحوه إلى الموصول لما تؤذن به الصلة من بطرهم نعمة الله عليهم بالأموال والأولاد. فقلبوا النعمة عندهم موجب خسار وضلال.
وأدمج في الصلة أنهم أهل أموال وأولاد إيماء إلى أن ذلك سبب نفاذ قولهم في قومهم وائتمار القوم بأمرهم: فأموالهم إذا أنفقوها لتأليف أتباعهم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36]، وأولادهم أرهبوا بهم من
(29/191)

يقاومهم.
والمعنى: واتبعوا أهل الأموال والأولاد التي لم تزدهم تلك الأموال والأولاد إلا خسارا لأنهم استعملوها في تأييد الكفر والفساد فزادتهم خسارا إذ لو لم تكن لهم أموال ولا أولاد لكانوا أقل ارتكابا للفساد قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11].
والخسار: مستعار لحصول الشر من وسائل شأنها أن تكون سبب خير كخسارة التاجر من حيث أراد الربح، فإذا كان هؤلاء خاسرين فالذين يتبعونهم يكونون مثلهم في الخسارة وهم يحسبون أنهم أرشدوهم إلى النجاح.
وما صدق {من} فريق من القوم أهل مال وأولاد ازدادوا بذلك بطرا دون الشكر وهم سادتهم، ولذلك أعيد عليه ضمير الجمع في قوله: {وَمَكَرُوا} ، وقوله: {وَقَالُوا} ، وقوله: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح:24].
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {وَوَلَدُهُ} بفتح الواو وفتح اللام، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {وَوُلَدُهُ} بضم الواو وسكون اللام، فأما الولد بفتح الواو وفتح اللام فاسم يطلق على الواحد من الأولاد وعلى الجمع فيكون اسم جنس، وأما ولد بضم فسكون فقيل: هو لغة في ولد فيستوي فيه الواحد والجمع مثل الفلك. وقيل: هو جمع ولد مثل أسد جمع أسد.
والمكر: إخفاء العمل، أو الرأي الذي يراد به ضر الغير، أي مكروا بنوح والذين آمنوا معه بإضمار الكيد لهم حتى يقعوا في الضر قيل كانوا يدبرون الحيلة على قتل نوح وتحريش الناس على أذاه وأذى أتباعه.
و {كُبَّاراً} : مبالغة، أي كبيرا جدا وهو وارد بهذه الصيغة في ألفاظ قليلة مثل طوال، أي طويل جدا، وعجاب، أي عجيب، وحسان، وجمال، أي جميل وقراء لكثير القراءة، ووضاء، أي وضيء. قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية.
{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً} الخ، أي قال بعضهم لبعض: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، هذه أصنام قوم نوح، وبهذا تعلم أن أسماءها غير جارية على اشتقاق الكلمات العربية، وفي واو "ود" لغتان للعرب منهم من يضم الواو، وبه قرأ نافع وأبو جعفر. ومنهم من يفتح الواو وكذلك قرأ الباقون.
(29/192)

روى البخاري عن ابن عباس: "ود وسواع وغوث ويعوق ونسر: أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت"، وعن محمد بن كعب: هي أسماء أبناء خمسة لآدم عليه السلام وكانوا عبادا. وعن الماوردي أن {ودا} أول صنم معبود.
والآية تقتضي أن هذه الأنصاب عبدت قبل الطوفان وقد قال بعض المفسرين: كانوا أصناما بين زمن آدم وزمن نوح.
ولا يلتئم هذا مع حدوث الطوفان إذ لا بد أن يكون جرفها وخلص البشر من الإشراك بعد الطوفان، ومع وجود هذه الأسماء في قبائل العرب إلى زمن البعثة المحمدية، فقد كان في دومة الجندل بلاد كلب صنم اسمه "ود". قيل كان على صورة رجل وكان من صفر ورصاص وكان على صورة امرأة، وكان لهذيل صنم اسمه "سواع" وكان لمراد وغطيف "بغين معجمة وطاء مهملة" بطن من مراد بالجوف عند سبأ صنم اسمه {يغوث} ، وكان أيضا لغطفان وأخذته أنعم وأعلى وهما من طيء وأهل جرش من مذحج فذهبوا به إلى مراد فعبدوه، ثم إن بني ناجية راموا نزعه من أعلى وأنعم ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث من خزاعة. قال أبو عثمان النهدي: رأيت يغوث من رصاص وكانوا يحملونه على جمل أحرد "بالحاء المهملة، أي يخبط بيديه إذا مشى" ويسيرون معه ولا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فيضربون عليه بناء ينزلون حوله.
وكان يغوث على صورة أسد.
وكان لهمدان صنم اسمه {يعوق} وهو على صورة فرس، وكان لكهلان من سبأ ثم توارثه بنوه حتى صار إلى همدان.
وكان لحمير ولذي الكلاع منهم صنم اسمه "نسر" على صورة النسر من الطير. وهذا مروي في "صحيح البخاري" عن ابن عباس. وقال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح إلى العرب اه. فيجوز أن تكون انتقلت بأعيانها ويجوز أن يكون العرب سموا عليها ووضعوا لها صورا.
(29/193)

ولقد اضطر هذا بعض المفسرين إلى تأويل نظم الآية بأن معاد ضمير {قالوا} إلى مشركي العرب، وأن ذكر ذلك في أثناء قصة قوم نوح بقصد التنظير، أي قال العرب بعضهم لبعض: لا تذرن آلهتكم ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كما قال قوم نوح لأتباعهم {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، ثم عاد بالذكر بعد ذلك إلى قوم نوح، وهو تكلف بين وتفكيك لأجزاء نظم الكلام. فالأحسن ما رآه بعض المفسرين وما نريده بيانا: أن أصنام قوم نوح قد دثرت وغمرها الطوفان وأن أسماءها بقيت محفوظة عند الذين نجوا مع نوح من المؤمنين فكانوا يذكرونها ويعظون ناشئتهم بما حل بأسلافهم من جراء عبادة تلك الأصنام، فبقيت تلك الأسماء يتحدث بها العرب الأقدمون في أثارات عملهم وأخبارهم، فجاء عمر بن لحي الخزاعي الذي أعاد للعرب عبادة الأصنام فسمى لهم الأصنام بتلك الأسماء وغيرها فلا حاجة بالمفسر إلى التطوع إلى صفات الأصنام التي كانت لها هذه الأسماء عند العرب ولا إلى ذكر تعيين القبائل التي عبدت مسميات هذه الأسماء.
ثم يحتمل أن يكون لقوم نوح أصنام كثيرة جمعها قوم كبراءهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، ثم خصوا بالذكر أعظمها وهي هذه الخمسة، فيكون ذكرها من عطف الخاص على العام للاهتمام به كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]. ويحتمل أن لا يكون لهم غير تلك الأصنام الخمسة فيكون ذكرها مفصلة بعد الإجمال للاهتمام بها ويكون العطف من قبيل عطف المرادف.
ولقصد التوكيد أعيد فعل النهي {وَلا تَذَرُنَّ} ولم يسلك طريق الإبدال، والتوكيد اللفظي قد يقرن بالعاطف كقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17-18].
ونقل عن الآلوسي في طرة تفسيره لهذه الآية هذه الفقرة قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة. وتكرير {لا} النافية في قوله: {وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ} لتأكيد النفي الذي في قوله: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} وعدم إعادة {لا} مع قوله: {وَيَعُوقَ وَنَسْراً} لأن الاستعمال جار على أن لا يزاد في التأكيد على ثلاث مرات.
وقرأ نافع وأبو جعفر {ودا} بضم الواو. وقرأها غيرهما بفتح الواو، وهو اسم عجمي يتصرف فيه لسان العرب كيف شاؤا.
(29/194)

[24] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} .
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} .
عطف على {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، أي أضلوا بقولهم هذا وبغيره من تقاليد الشرك كثيرا من الأمة بحيث ما آمن مع نوح إلا قليل.
{وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً}
يجوز أن تكون هذه الجملة تتمة كلام نوح متصلة بحكاية كلامه السابق، فتكون الواو عاطفة جزء جملة مقولة لفعل {قَالَ} [نوح:21] على جزئها الذي قبلها عطف المفاعيل بعضها على بعض كما تقول قال امرؤ القيس قفا نبك. ختم نوح شكواه إلى الله بالدعاء على الضالين المتحدث عنهم بأن يزيدهم الله ضلالا.
ولا يريبك عطف الإنشاء على الخبر لأن منع عطف الإنشاء على الخبر على الإطلاق غير وجيه والقرآن طافح به.
ويجوز أن تكون جملة {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} غير متصلة بحكاية كلامه في قوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] بل هو حكاية كلام آخر له صدر في موقف آخر فتكون الواو عاطفة جملة مقولة قول على جملة مقولة قول آخر، أي نائبة عن فعل قال كما تقول: قال امرؤ القيس:
قفا نبك
و:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
وقد نحا هذا المعنى من يأبون عطف الإنشاء على الخبر.
والمراد ب {الظَّالِمِينَ} : قومه الذين عصوه فكان مقتضى الظاهر التعبير عنهم بالضمير عائدا على قومي من قوله: {دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا} [نوح:5] فعدل عن الإضمار إلى الإظهار على خلاف مقتضى الظاهر لما يؤذن به وصف {الظَّالِمِينَ} من استحقاقهم لحرمان من عناية الله بهم لظلمهم، أي إشراكهم بالله، فالظلم هنا الشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
(29/195)

والضلال، مستعار لعدم الاهتداء إلى طرائق المكر الذي خشي نوح غائلته في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح:22]، أي حل بيننا وبين مكرهم ولا تزدهم إمهالا في طغيانهم علينا إلا أن تضللهم عن وسائله، فيكون الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أو أراد إبهام طرق النفع عليهم حتى تنكسر شوكتهم وتلين شكيمتهم نظير قول موسى عليه السلام {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
وليس المراد بالضلال الضلال عن طريق الحق والتوحيد لظهور أنه ينافي دعوة نوح قومه إلى الاستغفار والإيمان بالبعث فكيف يسأل الله أن يزيدهم منه.
ويجوز أن يكون الضلال أطلق على العذاب المسبب عن الضلال، أي في عذاب يوم القيامة وهو عذاب الإهانة والآلام.
ويجوز أن تكون جملة معترضة وهي من كلام الله تعالى لنوح فنكون الواو اعتراضية ويقدر قول محذوف: وقلنا لا تزد الظالمين. والمعنى: ولا تزد في دعائهم فإن ذلك لا يزيدهم إلا ضلالا، فالزيادة منه تزيدهم كفرا وعنادا. وبهذا يبقى الضلال مستعملا في معناه المشهور في اصطلاح القرآن، فصيغة النهي مستعملة في التأييس من نفع دعوته إياهم. وأعلم الله نوحا أنه مهلكهم بقوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} الآية [نوح:25] وهذا في معنى قوله: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود:36-37].
ألا ترى إن ختام كلتا الآيتين متحد المعنى من قوله هنا {أُغْرِقُوا} وقوله في الآية الأخرى {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} .
[25] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} .
جملة معترضة بين مقالات نوح عليه السلام وليست من حكاية قول نوح فهي إخبار من الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قدر النصر لنوح والعقاب لمن عصوه من قوله قبل أن يسأله نوح استئصالهم فإغراق قوم نوح معلوم للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قصد إعلامه بسببه.
والغرض من الاعتراض بها التعجيل بتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه مما يماثل ما لاقاه نوح من قومه على نحو قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ
(29/196)

الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
ويجوز أن تكون متصلة بجملة {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24] على الوجه الثاني المتقدم فيها من أن تكون من كلام الله تعالى الموجه إلى نوح بتقدير: وقلنا لا تزد الظالمين إلا ضلالا، وتكون صيغة المضي في قوله: {أُغْرِقُوا} مستعملة في تحقق الوعد لنوح بإغراقهم، وكذلك قوله: {فَأُدْخِلُوا نَاراً} .
وقدم {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} على عامله بإفادة القصر، أي أغرقوا فأدخلوا نارا من أجل مجموع خطيئاتهم لا لمجرد استجابة دعوة نوح التي ستذكر عقب هذا ليعلم أن الله لا يقر عباده على الشرك بعد أن يرسل إليهم رسولا وإنما تأخر عذابهم إلى ما بعد دعوة نوح لإظهار كرامته عند ربه بين قومه ومسرة له وللمؤمنين معه وتعجيلا لما يجوز تأخيره.
و"من" تعليلية، و"ما" مؤكدة لمعنى التعليل.
وجمع الخطيئات مراد بها الإشراك، وتكذيب الرسول، وأذاه، وأذى المؤمنين معه، والسخرية منه حين توعدهم بالطوفان، وما ينطوي عليه ذلك كله من الجرائم والفواحش.
وقرأ الجمهور {خَطِيئَاتِهِمْ} بصيغة جمع خطيئة بالهمزة. وقرأه أبو عمرو وحده {خطاياهم} جمع خطية بالياء المشددة مدغمة فيها الياء المنقلبة عن همزة للتخفيف.
وفي قوله: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} محسن الطباق لأن بين النار والغرق المشعر بالماء تضادا.
وتفريع {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} تعريض بالمشركين من العرب الذين كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الكوارث يعني في الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث، أي كما لم تنصر الأصنام عبدتها من قوم نوح كذلك لا تنصركم أصنامكم.
وضمير {يَجِدُوا} عائد إلى {الظَّالِمِينَ} من قوله: {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24] وكذلك ضمير {لهم} .
والمعنى: فلم يجدوا لأنفسهم أنصارا دون عذاب الله.
[26-27] {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} .
(29/197)

عطف على {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح:21] أعقبه بالدعاء عليهم بالإهلاك والاستئصال بأن لا يبقي منهم أحدا، أي لا تبق منهم أجدا على الأرض.
وأعيد فعل {قَالَ} لوقوع الفصل بين أقوال نوح بجملة {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح:25] الخ، أوبها وبجملة {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24].
وقرنت بواو العطف لتكون مستقلة فلا تتبع جملة {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} للإشارة إلى أن دعوة نوح حصلت بعد شكايته بقوله: {إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} .
و {دَيَّارًا} : اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعم كل إنسان، وهو اسم من وزن فيعال مشتق من اسم الدار فعينه واو لأن عين دار مقدرة واوا، فأصل ديار: ديوار فلما اجتمعت الواو والياء واتصلتا وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء ثم أدغمت بالياء الزائدة كما فعل بسيد وميت. ومعنى ديار: من يحل بدار القوم كناية عن إنسان.
ونظير {دَيَّارًا} في العموم والوقوع في النفي أسماء كثيرة في كلام العرب أبلغها أبن السكيت في إصلاح المنطق إلى خمسة وعشرين، وزاد كراع النمل سبعة فبلغت اثنين وثلاثين اسما، وزاد ابن مالك في التسهيل ستة فصارت ثمانية وثلاثين.
ومن أشهرها: آحد، وديار، وعريب وكلها بمعنى الإنسان، ولفظ {بد} بضم الموحدة وتشديد الدال المهملة وهو المفارقة.
وجملة {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} تعليل لسؤاله أن لا يترك الله على الأرض أحدا من الكافرين يريد أنه خشي أن يضلوا بعض المؤمنين وأن يلدوا أبناء ينشأون على كفرهم.
والأرض يجوز أن يراد بها جميع الكرة الدنيوية، وأن يراد أرض معهودة للمتكلم والمخاطب كما في قوله تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} يعني أرض مصر في سورة يوسف: [55].
ويحتمل أن يكون البشر يومئذ منحصرين في قوم نوح، ويجوز خلافه، وعلى هذه الاحتمالات ينشأ احتمال أن يكون الطوفان قد غمر جميع الكرة الأرضية، واحتمال أن يكون طوفانا قاصرا على ناحية كبيرة من عموم الأرض، والله أعلم. وقد تقدم ذلك عند تفسير قوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ} في سورة الأعراف: [64].
(29/198)

وخبر {إنك} مجموع الشرط مع جوابه الواقع بعد "إن" لأنه إذا اجتمع مبتدأ وشرط رجح الشرط على المبتدأ فأعطي الشرط الجواب ولم يعط المبتدأ خبرا لدلالة جملة الشرط وجوابه عليه.
وعلم نوح أنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا بأن أولادهم ينشأون فيهم فيلقنونهم دينهم ويصدون نوحا عن أن يرشدهم فحصل له علم بهذه القضية بدليل التجربة.
والمعنى: ولا يلدوا إلا من يصير فاجرا كفارا عند بلوغه سن العقل.
والفاجر: المتصف بالفجور، وهو العمل الشديد الفساد.
والكفار: مبالغة في الموصوف بالكفر، أي إلا من يجمع بين سوء الفعل وسوء الاعتقاد، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].
وفي كلام نوح دلالة على أن المصلحين يهتمون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال الآتية إذ الأجيال كلها سواء في نظرهم الإصلاحي. وقد انتزع عمر بن الخطاب من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] دليلا على إبقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الذي فتح العراق وجعلها خراجا لأهلها قصدا لدوام الرزق منها لمن سيجيء من المسلمين.
[28] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} .
جعل الدعاء لنفسه ووالديه خاتمة مناجاته فابتدأ بنفسه ثم بأقرب الناس به وهما والداه، ثم عمم أهله وذويه المؤمنين فدخل أولاده وبنوه والمؤمنات من أزواجهم وعبر عنهم بمن دخل بيته كناية عن سكناهم معه، فالمراد بقوله: {دَخَلَ بَيْتِيَ} دخول مخصوص وهو الدخول المتكرر الملازم. ومنه سميت بطانة المرء دخيلته ودخلته ثم عمم المؤمنين والمؤمنات، ثم عاد بالدعاء على الكفرة بأن يحرمهم الله النجاح وهو على حد قوله المتقدم {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً} [نوح:24].
والتبار: الهلاك والخسار، فهو تخصيص للظالمين من قومه بسؤال استئصالهم بعد أن شملهم وغيرهم بعموم قوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26] حرصا على سلامة المجتمع الإنساني من شوائب المفاسد وتطهيره من العناصر الخبيثة.
(29/199)

ووالداه: أبوه وأمه، وقد ورد اسم أبيه في التوراة لمك وأما أمه فقد ذكر الثعلبي أن اسمها شمخى بنت آنوش.
وقرأ الجمهور {بيتي} بسكون ياء المتكلم. وقرأه حفص عن عاصم بتحريكها.
واستثناء {إِلَّا تَبَاراً} منقطع لأن التبار ليس من الزيادة المدعو بنفيها فإنه أراد لا تزدهم من الأموال والأولاد لأن في زيادة ذلك لهم قوة لهم على أذى المؤمنين. وهذا كقول موسى عليه السلام {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [يونس:88] الآية. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا} [نوح:6].
(29/200)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجن
سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس "سورة الجن". وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، وترجمها البخاري في كتاب التفسير "سورة قل أوحي ألي".
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم {قُلْ أُوحِيَ} [الجن:1].
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] وأنزل اله على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1].
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين.
(29/201)

أغراضها
إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
وإبطال عبادة ما يبعد من الجن.
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعث، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم.
[1-2] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} .
افتتاح السورة بالأمر بالقول يشير إلى أن ما سيذكر بعده حدث غريب وخاصة بالنسبة للمشركين الذين هم مظنة التكذيب به كما يقتضيه قوله: {كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن:7] حسبما يأتي.
أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعلم المسلمين وغيرهم بأن اله أوحى إليه وقوع حدث عظيم في دعوته أقامه الله تكريما لنبيه وتنويها بالقرآن وهو أن سخر بعض من النوع المسمى جنا لاستماع القرآن وألهمهم أو علمهم فهم ما سمعوه واهتداءهم إلى مقدار إرشاده إلى الحق والتوحيد وتنزيه الله والإيمان بالبعث والجزاء فكانت دعوة الإسلام في أصولها بالغة إلى عالم من العوالم المغيبة لا علاقة لموجوداته بالتكاليف ولا بالعقائد بل هو عالم مجهول أهله على ما جبلوا عليه من خير أو شر لا يعدوا أحدهم في مدة الدنيا جبلته فيكون على معيارها مصيره الأبدي في الحياة الآخرة ولذلك لم يبعث إليهم بشرائع.
(29/202)

وقد كشف الله لهذا الفريق منهم حقائق من عقيدة الإسلام وهديه ففهموه.
هذا العالم هو عالم الجن وهو بحسب ما يستخلص من ظواهر القرآن ومن صحاح الأخبار النبوية وحسنها نوع من المجردات أعني الموجودات اللطيفة غير الكثيفة، الخفيفة عن حاسة البصر والسمع، منتشرة في أمكنة مجهولة ليست على سطح الأرض ولا في السماوات بل هي في أجواء غير محصورة وهي من مقولة الجوهر من الجواهر المجردات أي ليست أجساما ولا جسمانيات بل هي موجودات روحانية مخلوقة من عنصر ناري ولها حياة واردة وإدراك خاص بها لا يدرى مداه. وهذه المجردات النارية جنس من أجناس الجواهر تحتوي على الجن وعلى الشياطين فهما نوعان لجنس المجردات النارية لها إدراكات خاصة وتصرفات محدودة وهي مغيبة عن الأنظار ملحقة بعالم الغيب لا تراها الأبصار ولا تدركها أسماع الناس إلا إذا أوصل الله الشعور بحركاتها وإرادتها إلى البشر على وجه المعجزة خرقا للعادة لأمر قضاه الله وأراده.
وبتعاضد هذه الدلائل وتناصرها وإن كان كل واحد منها لا يعدوا أنه ظني الدلالة وهي ظواهر القرآن، أو ظني المتن والدلالة وهي الأحاديث الصحيحة، حصل ما يقتضي الاعتقاد بوجود موجودات خفية تسمى الجن فتفسر بذلك معاني آيات من القرآن وأخبار من السنة.
وليس ذلك مما يدخل في أصول عقيدة الإسلام ولذلك لم نكفر منكري وجود موجودات معينة من هذا النوع إذ لم تثبت حقيقتها بأدلة قطعية، بخلاف حال من يقول: إن ذكر الجن لم يذكر في القرآن بعد علمه بآيات ذكره.
وأما ما يروى في الكتب من أخبار جزئية في ظهورهم للناس وإتيانهم بأعمال عجيبة فذلك من الروايات الخيالية.
وإنا لم نلق أحدا من إثبات العلماء الذين لقيناهم من يقول: إنه رأي أشكالهم أو آثارهم وما نجد تلك القصص إلا على ألسنة الذين يسرعون إلى التصديق بالأخبار أو تغلب عليهم التخيلات.
وإن كان فيهم من لا يتهم بالكذب ولكنه مما يضرب له مثل قول المعري:
ومثلك من تخيل ثم خالا
فظهور الجن للنبي صلى الله عليه وسلم تارات كما في حديث الجني الذي تفلت ليفسد عليه صلاته
(29/203)

وهو من معجزاته مثل رؤيته الملائكة ورؤيته الجنة والنار في حائط القبلة وظهور الشيطان لأبي هريرة في حديث زكاة الفطر.
وقد مضى ذكر الجن عند قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} في سورة الأنعام: [100] وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} في سورة الأعراف: [179].
والذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم أنه أوحي إليه بخبر الجن: هم جميع الناس الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يبلغهم القرآن من المسلمين والمشركين أراد الله إبلاغهم هذا الخبر لما له من دلالة على شرف هذا الدين وشرف كتابه وشرف من جاء به، وفيه إدخال مسرة على المسلمين وتعريض بالمشركين إذ كان الجن قد أدركوا شرف القرآن وفهموا مقاصده وهم لا يعرفون لغته ولا يدركون بلاغته فأقبلوا عليه، والذين جاء بلسانهم وأدركوا خصائص بلاغته أنكروه وأعرضوا عنه.
وفي الإخبار عن استماع الجن للقرآن بأنه أوحي إليه ذلك إيماء إلى أنه ما علم بذلك إلا بإخبار الله إياه بوقوع هذا الاستماع، فالآية تقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم بحضور الجن لاستماع القرآن قبل نزول هذه الآية.
وأما آية الأحقاف [29] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآيات، فتذكير بما في هذه الآية أو هي إشارة إلى قصة أخرى رواها عبد الله بن مسعود وهي في صحيح مسلم في أحاديث القراءة في الصلوات ولا علاقة لها بهذه الآية.
وقوله: { أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} في موضع نائب فاعل {أوحي} أي أوحي إلي استماع نفر. وتأكيد الخبر الموحى بحرف "أن" للاهتمام به ولغرابته.
وضمير {أنه} ضمير الشأن وخبره جملة {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وفي ذلك زيادة اهتمام بالخبر الموحى به.
ومفعول {اسْتَمَعَ} محذوف دل عليه {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً} ، أي استمع القرآن نفر من الجن.
والنفر: الجماعة من واحد إلى عشرة وأصله في اللغة لجماعة من البشر فأطلق على جماعة من الجن على وجه التشبيه إذ ليس في اللغة لفظ آخر كما أطلق رجال في قوله: {يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:6] على شخوص الجن. وقولهم {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} قالوه لبعض منهم لم يحضر لاستماع القرآن ألهمهم الله أن ينذروهم ويرشدوهم إلى
(29/204)

الصلاح قال تعالى في سورة الأحقاف [29-30] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} الآيات.
ومعنى القول هنا: إبلاغ مرادهم إلى من يريدون أن يبلغوه إليهم من نوعهم بالكيفية التي يتفاهمون بها، إذ ليس للجن ألفاظ تجري على الألسن، فيما يظهر فالقول هنا مستعار للتعبير عما في النفس مثل قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل:18] فيكون ذلك تكريما لهذا الدين أن جعل الله له دعاة من الثقلين.
ويجوز أن يكون قولا نفسيا، أي خواطر جالت في مدركاتهم جولان القول الذي ينبعث عن إرادة صاحب الإدراك به إبلاغ مدركاته لغيره، فإن مثل ذلك يعبر عنه بالقول كما في بيت النابغة يتحدث عن كلب صيد:
قالت له النفس إني لا أرى طمعا ... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة:8].
وتأكيد الخبر ب"أن" لأنهم أخبروا به فريقا منهم يشكون في وقوعه فأتوا بكلامهم بما يفيد تحقيق ما قالوه وهو الذي يعبر عن مثله في العربية بحرف "إن".
ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى، أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.
وقد حصل لهم العلم بمزايا القرآن بانكشاف وهبهم الله إياه. قال المازري في "شرح صحيح مسلم" لا بد لمن آمن عند سماع القرآن أن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة. وبعد ذلك يقع العلم بصدق الرسول؛ فإما أن يكون الجن قد علموا ذلك أو علموا من كتب الرسل المتقدمة ما دلهم على أنه هو النبي الأمي الصادق المبشر به اه. وأنا أقول حصل للجن علم جديد بذلك بإلهام من الله لأدلة كانوا لا يشعرون بها إذ لم يكونوا مطالبين بمعرفتها، وأن فهمهم للقرآن من قبيل الإلهام خلقه الله فيهم على وجه خرق العادة كرامة للرسول صلى الله عليه وسلم وللقرآن.
والإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بمن جاء به وبمن أنزله ولذلك قالوا {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} .
وقد حصل لهؤلاء النفر من الجن شرف المعرفة بالله وصفاته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم
(29/205)

وصدق القرآن وما احتوى عليه ما سمعوه منه فصاروا من خيرة المخلوقات، وأكرموا بالفوز في الحياة الآخرة فلم يكونوا ممن ذرأ الله لجهنم من الجن والإنس.
ومتعلق {اسْتَمَعَ} محذوف دل عليه قوله بعده {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} .
و {الرُّشْدِ} : بضم الراء وسكون الشين أو يقال بفتح الراء وفتح الشين هو الخير والصواب والهدى. واتفقت القراءات العشر على قراءته بضم فسكون.
وقولهم: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} ، أي ينتفي ذلك في المستقبل. وهذا يقتضي أنهم كانوا مشركين ولذلك أكدوا نفي الإشراك بحرف التأييد فكما أكد خبرهم عن القرآن والثناء عليه ب"إن" أكد خبرهم عن إقلاعهم عن الإشراك ب {لن} .
[3] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} .
هذا محكي عن كلام الجن، قرأه الجمهور بكسر همزة {إنه} على اعتباره معطوفا على قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} إذ يجب كسر همزة "إن" إذا حكيت بالقول.
وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة على أنه معطوف على الضمير المجرور بالباء في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} أي آمنا بأنه تعالى جد ربنا. وعدم إعادة الجار مع المعطوف على المجرور بالحرف مستعمل، وجوزه الكوفيون، على أنه حرف الجر كثير حذفه مع "أن" فلا ينبغي أن يختلف في حذفه هنا على التأويل.
قال في الكشاف: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} [الجن:1] بالفتح لأنه فاعل أوحي أي نائب الفاعل {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسر لأنه مبتدأ محكي بعد القول ثم تحمل عليها البواقي فما كان من الوحي فتح وما كان من قول الجن كسر، وكلهن من قولهم إلا الثنتين الأخريين: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:19] ومن فتح كلهن فعطفا على محل الجار والمجرور في {آمَنَّا بِهِ} [الجن:2] كأنه قيل: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه كان يقول سفيهنا، وكذلك البواقي اه.
والتعالي: شدة العلو، جعل شديد العلو كالمتكلف العلو لخروج علوه عن غالب ما تعارفه الناس فأشبه التكلف.
(29/206)

والجد: بفتح الجيم العظمة والجلال، وهذا تمهيد وتوطئة لقوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} لأن اتخاذ الصاحبة للافتقار إليها لأنسها وعونها والالتذاذ بصحبتها، وكل ذلك من آثار الاحتياج، والله تعالى الغني المطلق، وتعالى جده بفناه المطلق، والولد يرغب فيه للاستعانة والأنس به، مع ما يقتضيه من انفصاله من أجزاء والديه وكل ذلك من الافتقار والانتقاص.
وضمير {إنه} ضمير شأن وخبره جملة {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} .
وجملة {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً} إلى آخرها بدل اشتمال من جملة {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} .
وتأكيد الخبر ب"إن" سواء كانت مكسورة أو مفتوحة لأنه مسوق إلى فريق يعتقدون خلاف ذلك من الجن.
والاقتصار في بيان تعالي جد الله على انتفاء الصاحبة عنه والولد ينبئ بأنه كان شائعا في علم الجن ما كان يعتقده المشركون أن الملائكة بنات الله من سروات الجن وما اعتقاد المشركين إلا ناشئ عن تلقين الشيطان وهو من الجن، ولأن ذلك مما سمعوه من القرآن مثل قوله تعالى سبحانه: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} في سورة الأنعام [101].
وإعادة {لا} النافية مع المعطوف للتأكيد للدلالة على أن المعطوف منفي باستقلاله لدفع توهم نفي المجموع.
وضمير الجماعة في قوله: {ربنا} عائد إلى كل متكلم مع تشريك غيره، فعلى تقدير أنه من كلام الجن فهو قول كل واحد منهم عن نفسه ومن معه من بقية النفر.
[4] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} .
قرأه الجمهور بكسرة همزة {وإنه} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو جعفر وخلف بفتح الهمزة كما تقدم في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] فقد يكون إيمانهم بتعالي الله عن أن يتخذ صاحبة وولدا ناشئا على ما سمعوه من القرآن وقد يكون ناشئا عن إدراكهم ذلك بأدلة نظرية.
والسفيه: هنا جنس، وقيل: أرادوا به إبليس، أي كان يلقنهم صفات الله بما لا يليق بجلاله، أي كانوا يقولون على الله شططا بل نزول القرآن بتسفيههم في ذلك.
(29/207)

والشطط: مجاوزة الحد وما يخرج عن العدل والصواب، وتقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تُشْطِطْ} في سورة [ص:22]. والمراد بالشطط إثبات ما نفاه قوله: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:2] وقوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3]. وضمير {وإنه} ضمير الشأن.
والقول فيه وفي التأكيد ب"إن" مكسورة أو مفتوحة كالقول في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3] الخ.
[5] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} .
قرأ همزة {أن} بالكسر الجمهور وأبو جعفر، وقرأها بالفتح ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي وخلف.
فعلى قراءة كسر "إن" هو من المحكي بالقول، ومعناه الاعتذار عما اقتضاه قولهم {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن:2] من كونهم كانوا مشركين لجهلهم وأخذهم قول سفهائهم يحسبونهم لا يكذبون على الله.
والتأكيد ب {إن} لقصد تحقيق عذرهم فيما سلف من الإشراك، وتأكيد المظنون ب {لن} المفيدة لتأييد النفي يفيد أنهم كانوا متوغلين في حسم ظنهم بمن ضللوهم ويدل على أن الظن هنا بمعنى اليقين وهو يقين مخطئ.
وعلى قراءة الفتح هو عطف على المجرور بالباء في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2] فالمعنى: وآمنا فإنما ظننا ذلك فأخطأنا في ظننا.
وفي هذه الآية إشارة إلى خطر التقليد في العقيدة، وأنها لا يجوز فيها الأخذ بحسن الظن بالمقلد بفتح اللام بل يتعين النظر واتهام رأي المقلد حتى ينهض دليله.
وقرأ الجمهور {تقول} بضم القاف وسكون الواو. وقرأه يعقوب بفتح القاف والواو مشددة، من التقول وهو نسبة كلام إلى من يقله وهو في معنى الكذب وأصله تتقول بتائين فعلى هذه القراءة يكون {كذبا} مصدرا مؤكدا لفعل {تقَوَّل} لأنه مرادفه.
[6] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
قرأ الجمهور همزة {وإنه} بالكسر. وقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وأبو
(29/208)

جعفر وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء، والمقصود منه هو قوله: {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} وأما قوله: {كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ} الخ، فهو تمهيد لما بعده.
وإطلاق الرجال على الجن عن طريق التشبيه والمشاكلة لوقوعه مع رجال من الإنس فإن الرجل اسم للذكر البالغ من بني آدم.
والتأكيد ب {إن} مكسورة أو مفتوحة راجع إلى ما تفرع على خبرها من قولهم {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} .
والعوذ: الالتجاء إلى ما ينجي من شيء يضر، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون:97]، فإذا حمل العوذ على حقيقته كان المعنى أنه كان رجال يلتجئون إلى الجن ليدفع الجن عنهم بعض الأضرار فوقع تفسير ذلك بما كان يفعله المشركون في الجاهلية إذا سار أحدهم في مكان، قفر ووحش أو تعزب في الرعي كانوا يتوهمون أن الجن تسكن القفر ويخافون تعرض الجن والغيلان لهم وعبثها بهم في الليل فكان الخائف يصيح بأعلى صوته: يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك، فيخال أن الجني الذي بالوادي يمنعه، قالوا: وأول من سن ذلك لهم قوم من أهل اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا ذلك في العرب وهي أوهام وتخيلات.
وزعم أهل هذا التفسير أن معنى {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أن الجن كانوا يحتقرون الإنس بهذا الخوف فكانوا يكثرون من التعرض لهم والتخيل إليهم فيزدادون بذلك مخافة.
والرهق: الذل.
والذي أختاره في معنى الآية أن العوذ هنا هو الالتجاء إلى الشيء والالتفاف حوله. وأن المراد أنه كان قوم من المشركين يعبدون الجن اتقاء شرها. ومعنى {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} فزادتهم عبادتهم إياهم ضلالا. والرهق: يطلق على الإثم.
[7] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} .
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر همزة {وإنهم} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة على اعتبار ما تقدم في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن:3].
والمعنى: أن رجالا من الإنس ظنوا أن الله لا يبعث أحدا، أو أنا آمنا بأنهم ظنوا
(29/209)

كما ظننتم الخ، أي آمنا بأنهم أخطأوا في ظنهم.
والتأكيد ب"إن" المكسورة أو المفتوحة للاهتمام بالخبر لغايته. والبعث يحتمل بعث الرسل ويحتمل بعث الأموات للحشر، أي حصل لهم مثلما حصل لكم من إنكار إرسال الرسل.
والإخبار عن هذا فيه تعريض بالمشركين بأن فساد اعتقادهم تجاوز عالم الإنس إلى عالم الجن.
وجملة {كَمَا ظَنَنْتُمْ} معترضة بين {ظنوا} ومعموله، فيجوز أن تكون من القول المحكي يقول الجن بعضهم لبعض يشبهون كفارهم بكفار الإنس.
ويجوز أن تكون من كلام الله تعالى المخاطب به المشركون الذي أمر رسوله بأن يقوله لهم، وهذا الوجه يتعين إذا جعلنا القول في قوله تعالى: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن:1] عبارة عما جال في نفوسهم على أحد الوجهين السابقين هنالك.
و {أن} من قوله: {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ} مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف.
وجملة {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} خبره. والتعبير بحرف تأييد النفي للدلالة على أنهم كانوا غير مترددين في إحالة وقوع البعث.
[8-9] {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً، وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}
قرأ الجمهور ووافقهم أبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتح الهمزة عطفا على المجرور بالباء فيكون من عطفه على المجرور بالباء هو قوله: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} .
والتأكيد ب"إن" في قولهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} لغرابة الخبر باعتبار ما يليه من قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الخ.
واللمس: حقيقة الجس باليد، ويطلق مجازا على اختبار أمر لأن إحساس اليد أقوى إحساس، فشبه به الاختبار عن طريق الاستعارة كما أطلق مرادفه وهو المس على الاختبار في قول يزيد بن الحكم الكلابي:
(29/210)

مسسنا من الآباء شيئا فكلنا ... إلى نسب في قومه غير واضع
أي اختبرنا نسب آبائنا وآبائكم فكنا جميعا كرام الآباء.
وملئت: مستعمل في معنى كثر فيها. وحقيقة الملء غمر فراغ المكان أو الإناء بما يحل فيه، فأطلق هنا على كثرة الشهب والحراس على وجه الاستعارة.
والحرس: اسم جمع للحراس ولا واحد له من لفظه مثل خدم، وإنما يعرف الواحد منه بالحرسي. ووصف بشديد وهو مفرد نظرا إلى لفظ حرس كما يقال: السلف الصالح، ولو نظر إلى ما يتضمنه من الآحاد لجاز أن يقال: شداد. والطوائف من الحرس أحراس.
والشهب: جمع شهاب وهو القطعة التي تنفصل عن بعض النجوم فتسقط في الجو أو في الأرض أو البحر وتكون مضاءة عند انفصالها ثم يزول ضوؤها ببعدها عن مقابلة شعاع الشمس وتسمى الواحد منها عند علماء الهيئة نيزكا باسم الرمح القصير، وقد تقدم الكلام عليها في أول سورة الصافات.
والمعنى: إننا اختبرنا حال السماء لاستراق السمع فوجدناها كثيرة الحراس من الملائكة وكثيرة الشهب للرجم، فليس في الآية ما يؤخذ منه أن الشهب لم تكن قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم كما ظنه الجاحظ فإن العرب ذكروا تساقط الشهب في بعض شعرهم في الجاهلية. كما قال في الكشاف وذكر شواهد من الشعر الجاهلي.
نعم يؤخذ منها أن الشهب تكاثرت في مدة الرسالة المحمدية حفظا للقرآن من دسائس الشياطين كما دل عليه قوله عقبه {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} وسيأتي بيان ذلك.
وهذا الكلام توطئة وتمهيد لقولهم بعده {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} إلى آخره، إذ المقصود أن يخبروا من لا خبر عنده من نوعهم بأنهم قد تبينوا سبب شدة حراسة السماء وكثرة الشهب فإن المخبرين بفتح الباء يشاهدونه.
وقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} الخ قرأه بكسر الهمزة الذين قرأوا بالكسر قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} وبفتح الهمزة الذين قرأوا بالفتح وهذا من تمام قولهم {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} . وإنما أعيد معه كلمة {وإنا} للدلالة على أن الخبر الذي تضمنه هو المقصود وأن ما قبله للتوطئة له فإعادة {وإنا}
(29/211)

توكيد لفظي.
وحقيقة القعود الجلوس وهو ضد القيام، أي هو جعل النصف الأسفل مباشرا للأرض مستقرا عليها وانتصاف النصف الأعلى. وهو هنا مجاز في ملازمة المكان زمنا طويلا لأن ملازمة المكان من لوازم القعود ومنه قوله تعالى: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5].
والمقاعد: جمع مقعد وهو مفعل للمكان الذي يقع فيه القعود، وأطلق هنا على مكان الملازمة فإن القعود يطلق على ملازمة الحصول كما في قول امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
واللام في قوله: {للسمع} لام العلة أي لأجل السمع، أي لأن نسمع ما يجري في العالم العلوي من تصاريف الملائكة بالتكوين والتصريف، ولعل الجن منساقون إلى ذلك بالجبلة كما تنساق الشياطين إلى الوسوسة، وضمير {منها} للسماء.
و"من" تبعيضية، أي من ساحاتها وهو متعلق ب {نقعد} ، وليس المجرور حالة من {مقاعد} مقدما على صاحبه لأن السياق في الكلام على حالهم في السماع فالعناية بمتعلق فعل القعود أولى، ونظيره قول كعب:
يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... منها لبان وأقرب زهاليل
فقوله "منها" متعلق بفعل "يزلقه" وليس حالا من "لبان".
واعلم أنه قد جرى على قوله تعالى: {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} مبحث في مباحث فصاحة الكلمات نسبه ابن الأثير في المثل السائر إلى ابن سنان الخفاجي فقال: إنه قد يجيء من الكلام ما معه قرينه فأوجب قبحه كقول الرضي في رثاء الصابي:
أعزز علي بأن أراك وقد خلا ... عن جانبيك مقاعد العواد
فإن إيراد هذه اللفظة أي {مقاعد} في هذا الموضع صحيح إلا أنه يوافق ما يكره ذكره لا سيما وقد أضافه إلى من يحتمل إضافته أي ما يكره إليه وهم العواد. ولو انفرد لكان الأمر فيه سهلا. قال ابن الأثير: هذه اللفظة المعيبة في شعر الرضي قد جاءت في القرآن فجاءت حسنة مرضية في قوله تعالى: {تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران:121] وقوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ، ألا ترى أنها في هاتين الآيتين غير مضافة إلى من تقبح إضافتها إليه ولو قال الشاعر بدلا من مقاعد العواد مقاعد الزيارة
(29/212)

لزالت تلك الهجنة اه. وأقوال: إن لمصطلحات الناس في استعمال الكلمات أثر في وقع الكلمات عند الأفهام.
والفاء التي فرعت {مَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} تفريع على محذوف دل عليه فعل {كنا} وترتب الشرط وجزائه عليه. وتقديره: كنا نقعد منها أي من السماء مقاعد للسمع فنستمع أشياء فمن يستمع الآن لا يتمكن من السماع.
وكلمة {الآن} مقابل كلمة {كنا} ، أي كان ذلك ثم انقضى.
وجيء بصيغة الشرط وجوابه في التفريع لأن الغرض تحذير إخوانهم من التعرض للاستماع لأن المستمع يتعرض لأذى الشهب.
والجن لا تنكف عن ذلك لأنهم منساقون إليه بالطبع مع ما ينالهم من أذى الرجم والاحتراق، شأن انسياق المخلوقات إلى ما خلقت له مثل تهافت الفراش على النار، لاحتمال ضعف القوة المفكرة في الجن بحيث يغلب عليها الشهوة، ونحن نرى البشر يقتحمون الأخطار والمهالك تبعا للهوى مثل مغامرات الهواة في البحار والجبال والثلوج.
ووقوع {شهابا} في سياق الشرط يفيد العموم لأن سياق الشرط بمنزلة سياق النفي في إفادة عموم النكرة.
والرصد: اسم جمع راصد وهو الحافظ للشيء وهو وصف ل {شهابا} ، أي شهبا راصدة، ووصفها بالرصد استعارة شبهت بالحراس الراصدين. وهذا إشارة إلى انقراض الكهانة إذ الكاهن يتلقى من الجني أنباء مجملة بما يتلقفه الجني من خبر الغيب تلقف اختطاف ناقصا فيكمله الكاهن بحدسه بما يناسب مجاري أحوال قومه وبلده. وفي الحديث فيزيد على تلك الكلمة مائة كذبة.
وأما اتصال نفوس الكهان بالنفوس الشيطانية فيجوز أن يكون من تناسب بين النفوس، ومعظمه أوهام. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" .
أخرج البخاري عن ابن عباس قال كان الجن يستمعون الوحي أي وحي الله إلى الملائكة بتصاريف الأمور فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا، قالوا: ما هذا إلا لأمر حدث فضربوا في الأرض يتحسسون السبب فلما وجدوا رسول الله قائما يصلي بمكة قالوا: هذا الذي حدث في الأرض فقالوا لقومهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] الآية وأنزل على نبيه {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1] وإنما أوحي إليه قول الجن اهـ.
(29/213)

ولعل كيفية حدوث رجم الجن بالشهب كان بطريقة تصريف الوحي إلى الملائكة في مجار تمر على مواقع انقضاض الشهب حتى إذا اتصلت قوى الوحي بموقع أحد الشهب انفصل الشهاب بقوة ما يغطه من الوحي فسقط مع مجرى الوحي ليحرسه من اقتراب المسترق حتى يبلغ إلى الملك الموحى إليه فلا يجد في طريقه قوة شيطانية أو جنية إلا أحرقها وبخرها فهلكت أو استطيرت وبذلك بطلت الكهانة وكان ذلك من خصائص الرسالة المحمدية.
[10] {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} .
قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى: وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض، أي الناس، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك. هذا توجيه القراءة بفتح همزة {أنا} ومحاولة غير هذا تكلف.
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن:9] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يخبرهم به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئا من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحى به إليه والذي يحمله إليه.
فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.
وهذا تمهيد لما سيقولونه من قولهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ} [الجن:11] ثم قولهم {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ} [الجن:12] ثم قولهم {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} إلى قوله: {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:13-15].
ومفعول {ندري} هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وهو الذي علق فعل {ندري} عن العمل. والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولا يستخلص من الاستفهام تقديره: لا ندري جواب هذا الاستفهام، وذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب. هذا هو تفسير الآية على
(29/214)

المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ} [الأحقاف:9].
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1-3] وقولهم: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [الجن:9] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيرا بهذا الدين وبصرف الجن عن استراق السمع.
وتكرير "إن" واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضا لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.
والرشد: إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير، فلهذا الاعتبار جعل مقابلا للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابلة أسند إليه بقوله: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} ، جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
[11] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.
وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء، أي آمنا بأنا منا الصالحون، أي أيقنا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.
ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليس بصالحين، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون، ثم تلطفوا فقالوا: ومنا دون ذلك، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإرشاد إلى الخير.
و {دون} : اسم بمعنى "تحت"، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية
(29/215)

المكانية، أي في مكان منحط من الصالحين.
والتقدير: ومنا فريق في مرتبة دونهم.
وظرفية {دون} مجازية. ووقع الظرف هنا ظرفا مستقرا في محل الصفة لموصوف محذوف تقديره: فريق، كقوله تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بحرف {من} مقدم عليه وكانت الصفة ظرفا كما هنا، أو جملة كقول العرب: منا ظعن ومنا أقام.
وقوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} تشبيه بليغ، شبه تخالف الأحوال والقائد بالطرائق تفضي كل واحدة منها إلى مكان لا تفضي إليه الأخرى.
و {طرائق} : جمع طريقة، والطريقة هي الطريق، ولعلها تختص بالطريق الواسع الواضح لأن التاء للتأكيد مثل دار ودارة، ومثل مقام ومقامة، ولذلك شبه بها أفلاك الكواكب في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون:17] ووصفت بالمثلى في قوله: {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} [طه:63].
ووصف {طرائق} ب {قددا} ، وهو اسم جمع قدة بكسر القاف وتشديد الدال والقدة: القطعة من جلد ونحوه المقطوعة طولا كالسير، شبهت الطرائق في كثرتها بالقدد المقتطعة من الجلد يقطعها صانع حبال القد كانوا يقيدون بها الأسرى.
والمعنى: أنهم يدعون إخوتهم إلى وحدة الاعتقاد باقتفاء هدى الإسلام، فالخبر مستعمل في التعريض بذم الاختلاف بين القوم وأن على القوم أن يتحدوا ويتطلبوا الحق ليكون اتحادهم على الحق.
وليس المقصود منه فائدة الخبر لأن المخاطبين يعلمون ذلك، والتوكيد ب"إن" متوجهة إلى المعنى التعريضي.
[12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر همزة {وإنا} . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2]. والتقدير: وآمنا بأن لن نعجز الله في الأرض. وذكر فعل {ظننا} تأكيد لفظي لفعل "آمنا" المقدر بحرف العطف، لأن الإيمان يقين وأطلق الظن هنا على اليقين وهو إطلاق كثير.
(29/216)

لما كان شأن الصلاح أن يكون مرضيا عند الله تعالى وشأن ضده بعكس ذلك كما قال تعالى: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] أعقبوا لتعريض الإقلاع عن ضد الصلاح بما يقتضي أن الله قد أعد لغير الصالحين عقابا فأيقنوا أن عقاب الله لا يفلت من أحد استحقه. وقدموه على الأمر بالإيمان الذي في قوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن:13] الآية، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والتخلية مقدمة على التحلية، وقد استفادوا علم ذلك مما سمعوا من القرآن ولم يكونوا يعلمون ذلك من قبل إذ يكونوا مخاطبين بتعليم في أصول العقائد، فلما ألهمهم الله لاستماع القرآن وعلموا أصول العقائد حذروا إخوانهم اعتقادا الشرك ووصف الله بما يليق به لأن الاعتقاد الباطل لا يقره الإدراك المستقيم بعد تنبيهه لبطلانه، وقد جعل الله هذا النفر من الجن نذيرا لإخوانهم ومرشدا إلى الحق الذي أرشدهم إليه القرآن، وهذا لا يقتضي أن الجن مكلفون بشرائع الإسلام.
وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179] الآية فقد أشار إلى أن عقابهم على الكفر والإشراك، أو أريد بالجن الشياطين فإن الشياطين من جنس الجن.
والإعجاز: جعل الغير عاجزا، أي غير قادر عن أمر بذكر مع ما يدل على العجز وهو هنا كناية عن الإفلات والنجاة كقول إياس بن قبيصة الطائي:
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها
أي لا تفوتني ولا تخرج عن مكنتي.
وذكر {فِي الْأَرْضِ} يؤذن بأن المراد بالهرب في قوله: {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً} الهرب من الرجم بالشهب، أي لا تطمعوا أن تسترقوا السمع فإن رجم الشهب في السماء لا يخطئكم، فابتدأوا الإنذار من عذاب الدنيا استنزالا لقومهم.
ويجوز أن يكون {نعجز} الأول بمعنى مغالب كقوله تعالى: {فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [النحل:46] أي لا يغلبون قدرتنا، ويكون {فِي الْأَرْضِ} مقصودا به تعميم الأمكنة كقوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} [العنكبوت:22]، أي في مكان كنتم. والمراد: أنا لا نغلب الله بالقوة. ويكون {نعجز} الثاني، بمعنى الإفلات ولذلك بين ب {هربا} ، والهرب مجاز في الانفلات مما أراد الله إلحاقه بهم من الرجم والاحتراق.
(29/217)

والظن هنا مستعمل في اليقين بقرينة تأكيد المضنون بحرف {لن} الدال على تأييد النفي وتأكيده.
[13] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفا على المجرور في قوله: {فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:2].
والمقصود بالعطف قوله: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} ، وأما جملة {لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ} فتوطئة لذلك.
بعد أن ذكروا قومهم بعذاب الله في الدنيا أو اطمأنوا بتذكر ذلك في نفوسهم، عادوا إلى ترغيبهم في الإيمان بالله وحده، وتحذيرهم من الكفر بطريق المفهوم. وأريد بالهدى القرآن إذ هو المسموع لهم ووصفوه بالهدى للمبالغة في أنه هاد.
ومعنى {يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ} ، أي بوجوده وانفراده بالإلهية كما يشعر به إحضار اسمه بعنوان الرب إذ الرب هو الخالق فما لا يخلق لا يعبد.
وجملة {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} يجوز أن تكون من القول المحكي عن الجن. ويجوز أن تكون كلاما من الله موجها للمشركين وهي معترضة بين الجملتين المتعاطفتين.
والبخس: الغبن في الأجر ونحوه.
والرهق: الإهانة، أي لا يخشى أن يبخس في الجزاء على إيمانه ولا أن يهان. وفهم منه أن من لا يؤمن يهان بالعذاب. والخلاف في كسر همزة {إنا} وفتحها كالخلاف في التي قبلها.
وجملة {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} جواب لشرط "من" جعلت بصورة الجملة الاسمية فقرنت بالفاء مع أن ما بعد الفاء فعل، وشأن جواب الشرط أن لا يقترن بالفاء إلا إذا كان غير صالح لأن يكون فعل الشرط فكان اقترانه بالفاء وهو فعل مضارع مشيرا إلى إرادة جعله خبر مبتدأ محذوف بحيث تكون الجملة اسمية، والاسمية تقترن بالفاء إذا وقعت جواب شرط، فكان التقدير هنا: فهو لا يخاف ليكون دالا على تحقيق سلامته من
(29/218)

خوف البخس والرهق، وليدل على اختصاصه بذلك دون غيره الذي لا يؤمن بربه، فتقدير المسند إليه قبل الخبر الفعلي يقتضي التخصيص تارة والتقوي أخرى وقد يجتمعان كما تقدم في قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15]. واجتمعا هنا كما أشار إليه في الكشاف بقوله: فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره. وكلام الكشاف اقتصر على بيان مزية الجملة الاسمية وهو يقتضي توجيه العدول عن جزم الفعل لأجل ذلك.
وقد نقول: إن العدول عن تجريد الفعل من الفاء وعن جزمه لدفع إيهام أن تكون {لا} ناهية، فهذا العدول صراحة في إرادة الوعد دون احتمال إرادة النهي.
وفي "شرح الدماميني على التسهيل" أن جواب الشرط إذا كان فعلا منفيا ب"لا" يجوز الاقتران بالفاء وتركه. ولم أره لغيره وكلام الكشاف يقتضي أن الاقتران بالفاء واجب إلا إذا قصدت مزية أخرى.
[14-15] { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} .
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} .
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء. والمقصود بالعطف قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} وما قبله توطئة له أي أصبحنا بعد سماع القرآن منا المسلمون، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإسلام مما يليق بحالهم ومنا القاسطون، أي الكافرون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن:11] لأن فيه تصريحا بأن دون ذلك هو ضد الصلاح.
والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدركات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه.
{فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً}
الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن، وأنه كلام من جانب الله تعالى
(29/219)

لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل. وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستغلال العبرة منها، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله.
والتحري: طلب الحرا بفتحتين مقصورا واويا، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، يقال: بالحري أن تفعل كذا، وأحرى أن تفعل.
والرشد: الهدى والصواب، وتنوينه للتعظيم.
والمعنى: أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك.
والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضرب قسطا بفتح القاف وقسوطا بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإشراك. وفي الكشاف : أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول في? قال: قاسط عادل، فقال القوم ما أحسن ما قال حسبوا أنه وصفه بالقسط بكسر القاف والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} وقوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]اه.
وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24].
وإقحام فعل "كانوا" لتحقيق مصيرهم إلى النار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.
[16-17] {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .
أتفق القراء العشرة على فتح همزة {أَلَّوِ اسْتَقَامُوا} ، فجملة {أَلَّوِ اسْتَقَامُوا} معطوفة على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثان مما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس.
والتقدير: وأوحي إلي أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.
(29/220)

و {أن} مخففة من الثقيلة، وجيء ب {أن} المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل {أُوحِيَ} [الجن:1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره {لوِ اسْتَقَامُوا} إلى آخر الجملة. وسبك الكلام: أوحي إلي إسقاء الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.
وضمير {اسْتَقَامُوا} يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجردا عن ما صدقه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر.
ويجوز أن يكون عائدا إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير {اسْتَقَامُوا} عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.
والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق.
و {الطريقة} : الطريق، ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفا في قوله: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن:11].
والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيرا مستقيما على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطَّرِيقَةِ} للجنس لا للعهد.
وقوله: {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} : وعد بالجزاء على الاستقامة في الدين جزاءا حسنا في الدنيا يكون عنوانا على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كسني يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث الصحيحين عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان. وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوة من العيش وفي نخيل وجنات
(29/221)

فكان جعل ترتب الإسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف {لو} مشيرا إلى أن المراد: لأدمنا عليهم الإسقاء بالماء الغدق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء. وبذلك يتناسب التعليل بالإفتان في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلا لما تضمنه معنى إدامة الإسقاء فإنه تعليل للإسقاء الموجود حين نزول الآية وليبس تعليلا للإسقاء المفروض في جواب {لو} لأن جواب {لو} منتف فلا يصلح لأن يعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم. فلام التعليل في قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ظرف مستقر في موضع الحال من {مَاءً غَدَقاً} وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال متقاربة.
وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.
والغدق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.
وجملة {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} إدماج فهي معترضة بين جملة {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} الخ وبين جملة {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} الخ.
ثم اكدت الكناية عن الإنذار المأخوذة من قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ} الآية، بصريح الإنذار بقوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} ، أي فإن أعرضوا أنقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.
والسلك: حقيقته الإدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى:
كما سلك السكي في الباب فيتق
أي أدخل المسمار في الباب نجار.
وتقدم عند قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الحجر:12] في سورة الحجر.
واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة. والمعنى: نعذبه عذابا لا مصرف عنه.
وانتصب {عذابا} على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حل به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.
(29/222)

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ} دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإيماء إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذابا صعدا.
والصعد: الشاق الغالب، وكأنه جاء من مصدر صعد كفرح إذا علا وأرتفع، أي صعد على مفعوله وغلبه، كما يقال: علاه بمعنى تمكن منه، {وَأَنْ لاَ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان:19].
وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربه.
[18] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .
اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} فهي معطوفة على مرفوع {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ} [الجن:1]، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بأن يقوله. والمعنى: قل أوحي إلي أن المساجد لله فالمصدر المنسبك مع {أن} واسمها وخبرها نائب فاعل {أُوحِيَ} [الجن:1].
والتقدير: أوحي إلي اختصاص المساجد بالله، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها، وهي معالم التوحيد.
وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في "الحجة".
وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل {أن} ، فالمجرور مقدم على متعلقه للاهتمام. والتقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.
واللام في قوله {لله} للاستحقاق، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله.
والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام وجعلوا الصنم "هبل" على سطح الكعبة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] يعني بذلك المشركين من قريش.
(29/223)

وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ} [الأنفال:34]، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [البقرة:114] بلفظ {مَسَاجِدَ} ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيروا المساجد، أو لتعظيم المسجد الحرام. كما جمع {رُسُلِي} في قوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [سبأ:45]، على تقدير أن يكون ضمير {كَذَّبُوا} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ:43] أي كذبوا رسولي.
ومنه قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان:37] يريد نوحا، وهو أول رسول فهو مقصود بالجمع.
وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحدا، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية بزعمهم ذلك.
[19-20] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً، قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} .
قرأ نافع وحده وأبو بكر عن عاصم بكسر الهمزة. وقرأه بقية العشرة في رواياتهم المشهورة بالفتح.
ومآل القراءتين سواء في كون هذا خارجا عما صدر عن الجن وفي كونه مما أوحى الله به.
فكسر الهمزة على عطف الجملة على جملة {أُوحِيَ إِلَيَّ} ، والتقدير: وقل أنه لما قام عبد الله يدعوه بأن همزة "إن" إذا وقعت في محكي في القول تكثر، ولا يليق أن يجعل من حكاية مقالة الجن لأن ذلك قد انقضى وتباعد ونقل الكلام إلى أغراض أخرى ابتداء من قوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} .
وأما الفتح فعلى اعتباره معطوف على جملة {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ} [الجن:1]، أي وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله، أي أوحى الله إلي اقتراب المشركين من أن يكونوا لبدا على عبد الله لما قام يدعو ربه.
(29/224)

وضمير {إنه} ضمير الشأن وجملة {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} إلى آخرها خبره.
وضمير {كَادُوا يَكُونُونَ} عائدان إلى المشركين المنبئ عنهم المقام غيبة وخطابا ابتداء من قوله: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} إلى قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
و {عَبْدُ اللَّهِ} هو محمد صلى الله عليه وسلم، وضع الاسم الظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: وأنه لما قمت تدعو الله كادوا يكونون عليك، أو لما قمت أدعو الله كادوا يكونون علي. ولكن عدل إلى الاسم الظاهر لقصد تكريم النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {عَبْدُ اللَّهِ} لما في هذه الإضافة من التشريف مع وصف {عبد} كما تقدم غير مرة منها عند قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
و {لبدا} بكسر اللام وفتح الموحدة اسم جمع: لبدة، وهي ما تلبد بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد للشعر المتراكم في رقبته.
والكلام على التشبيه، أي كاد المشركون يكونون مثل اللبد متراصين مقتربين منه يستمعون قراءته ودعوته إلى توحيد الله. وهو التفاف غيض وغضب وهم بالأذى كما يقال: تألبوا عليه.
ومعنى {قام} : اجتهد في الدعوة إلى الله، كقوله تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في سورة الكهف [14]، وقال النابغة:
بأن حصنا وحيا من بني أسد ... قاموا فقالوا حمانا من غير مقروب
وقد تقدم عن قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في أول سورة البقرة [3].
ومعنى قيام النبي صلى الله عليه وسلم إعلانه بالدعوة وظهور دعوته قال جزء بن كليب الفقعسي:
فلا تبغينها يا بن كوز فإنه ... غذا الناس مذ قام النبي الجواريا
أي قام يعبد الله وحده، كما دل عليه بيانه بقوله بعده {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} ، فهم لما لم يعتادوا دعاء غير الأصنام تجمعوا لهذا الحدث العظيم عليهم وهو دعاء محمد صلى الله عليه وسلم الله تعالى.
وجملة {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} بيان لجملة {يدعوه} .
وقرأ الجمهور {قال} بصيغة المضي. وقرأه حمزة وعاصم وأبو جعفر {قل} بدون
(29/225)

ألف على صيغة الأمر، فتكون الجملة استئنافا. والتقدير: أوحي إلي أنه لما قام عبد الله إلى آخره قل إنما أدعو ربي، فهو من تمام ما أوحي به إليه.
و {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} يفيد قصرا، إلى أدعو غيره، أي لا أعبد غيره دونه.
وعطف عليه {وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} تأكيدا لمفهوم القصر، وأصله أن لا يعطف فعطفه لمجرد التشريك للعناية باستقلاله بالإبلاغ.
[21-23] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً، قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} .
هذا استئناف ابتدائي، وهو انتقال من ذكر ما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه خطاب مستأنف إليه، فبعد أن حكي في هذه السورة ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم مما خفي عليه من الشؤون المتعلقة به من اتباع متابعين وإعراض معرضين، انتقل إلى تلقينه ما يرد على الذين أظهروا له العناد والتورك.
ويجوز أن يكون {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} الخ، تكريرا لجملة {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن:20] على قراءة حمزة وعاصم وأبي جعفر.
والضر: إشارة إلى ما يتوركون به من طلب إنجاز ما يتوعدهم بن من النصر عليهم.
وقوله: {وَلا رَشَداً} تتميم.
وفي الكلام احتباك لأن الضر يقابله النفع، والرشد يقابله الضلال، فالتقدير: لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا ضلالا ولا رشدا.
والرشد بفتحتين: مصدر رشد، والرشد، بضم فسكون: الاسم، وهو معرفة الصواب، وقد تقدم قريبا في قوله: {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:2].
وتركيب لا أملك لكم معناه: لا أقدر قدرة لأجلكم على ضر ولا نفع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الممتحنة [4]، وتقدم أيضا
(29/226)

في سورة الأعراف.
وجملتا {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} إلى {مُلْتَحَداً} معترضتان بين المستثني منه والمستثنى، وهو اعتراض رد لما يحاولونه منه أن يترك ما يؤذيهم فلا يذكر القرآن إبطال معتقدهم وتحقير أصنامهم، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15].
والملتحد: اسم مكان الالتحاد، والالتحاد: المبالغة في اللحد، وهو العدول إلى مكان غير الذي هو فيه، والأكثر أن يطلق ذلك على اللجأ، أي العياذ بمكان يعصمه. والمعنى: لن أجد مكانا يعصمني.
و {مِنْ دُونِهِ} حال من {مُلْتَحَداً} أي ملتحدا كائنا من دون الله، أي بعيدا عن الله غير داخل من ملكوته، فإن الملتحد مكان فلما وصف بأنه من دون الله كان المعنى أنه مكان من غير الأمكنة في ملك الله، وذلك متعذر، ولهذا جاء لنفي وجدانه حرف {لن} الدال على تأييد النفي.
و {من} في قوله: {مِنْ دُونِهِ} مزيدة جارة للظرف وهو "دون".
وقوله: {إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} استثناء منقطع من {ضرا} و {رشدا} ، وليس متصلا لأن الضر والرشد المنيفين في قوله: {لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} هما الضر والرشد الواقعان في النفس بالإلجاء.
ويجوز أن يكون مع ذلك استثناء من {مُلْتَحَداً} ، أي بتأويل {مُلْتَحَداً} بمعنى: مخلص أو مأمن.
وهذا الاستثناء من أسلوب تأكيد الشيء بما يشبه ضه.
والبلاغ: اسم مصدر بلغ، أي أوصل الحديث أو الكلام، ويطلق على الكلام المبلغ من إطلاق المصدر على المفعول مثل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11].
ومن ابتدائية صفة "بلاغ"، أي بلاغا كائنا من جانب الله، أي إلا كلاما أبلغه من القرآن الموحى من الله.
و {رسالاته} : جمع رسالة: وهي ما يرسل من كلام أو كتاب فالرسالات بلاغ
(29/227)

خاص بألفاظ مخصوصة، فالمراد منها هنا تبليغ القرآن.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} .
لما كان قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [الجن:20] إلى هنا كلاما متضمنا أنهم أشركوا وعاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى التوحيد واقترحوا عليه ما توهموه تعجيزا له من ضروب الاقتراح، أعقب ذلك بتهديدهم ووعيدهم بأنهم إن داموا على عصيان الله ورسوله سيلقون نار جهنم لأن كل من يعصي الله ورسوله كانت له نار جهنم.
و {من} شرطية وجواب الشرط قوله: {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} .
[24] {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} .
كانوا إذا سمعوا آيات الوعد بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين في الدنيا والآخرة، وآيات الوعيد للمشركين بالانهزام وعذاب الآخرة وعذاب الدنيا استسخروا من ذلك وقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [السجدة:28] ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يس:48]، وقالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16]، فهم مغرورون بالاستدراج والإمهال فلذلك عقب وعيدهم بالغاية المفادة من {حتى} ، فالغاية هنا متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام من سخرية الكفار من الوعيد واستضعافهم المسلمين في العدد والعدد فإن ذلك يفهم منه أنهم لا يزالون يحسبون أنهم غالبون فائزون حتى إذا رأوا ما يوعدون تحققوا إخفاق آمالهم.
و {حتى} هنا ابتدائية وكلما دخلت {حتى} في جملة مفتتحة ب {إذا} ف {حتى} للابتداء وما بعدها جملة ابتدائية. وذهب الأخفش وابن مالك إلى أن {حتى} في مثله جارة وأن {إذا} في محل جر وليس ببعيد.
واعلم أن {حتى} لا يفارقها معنى الغاية كيفما كان عمل {حتى} .
و {إذا} اسم زمان للمستقبل مضمن معنى الشرط وهو في محل نصب بالفعل الذي في جوابه وهو {فَسَيَعْلَمُونَ} .
وعلى رأي الأخفش وابن مالك {إذا} محل جر ب {حتى} . واقتران جملة {سَيَعْلَمُونَ} بالفاء دليل على أن {إذا} ضمن معنى الشرط، واقتران الجواب بسين
(29/228)

الاستقبال يصرف الفعل الماضي بعد {إذا} إلى زمن الاستقبال. وجيء بالجملة المضاف إليها {إذا} فعلا ماضيا للتنبيه على تحقيق وقوعه.
وفعل {سَيَعْلَمُونَ} معلق عن العمل بوقوع الاستفهام بعده وهو استعمال كثير في التعليق لأن الاستفهام بما فيه من الإبهام يكون كناية عن الغرابة بحيث يسأل الناس عن تعيين الشيء بعد البحث عنه.
وضعف الناصر وهن لهم من جهة وهن أنصارهم، وقلة العدد وهن لهم من جانب أنفسهم، وهذا وعيد لهم بخيبة غرورهم بالأمن من غلب المسلمين في الدنيا فإنهم كانوا يقولون: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر:44]. وقالوا: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا} [سبأ:35].
[25-28] {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} .
كان المشركون يكثرون أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس:48]، و {عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:187]، وتكررت نسبة ذلك إليهم في القرآن، فلما قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا} [الجن:24] الآية علم أنهم سيعيدون ما اعتادوا قوله من السؤال عن وقت الوعيد فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعيد عليهم ما سبق من جوابه.
فجملة {قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن القول المأمور بأن يقوله جواب لسؤالهم المقدر.
والأمد: الغاية وأصله في الأمكنة. ومنه قول ابن عمر في حديث "الصحيحين" : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي لم تضمر وجعل أمدها ثنية الوداع" "أي غاية المسابقة". ويستعار الأمد لمدة من الزمان معينة قال تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] وهو كذلك هنا. ومقابلته ب"قريب" يفيد أن المعنى أن يجعل له أمدا بعيدا.
(29/229)

وجملة {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} في موضع العلة لجملة {إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} الآية.
و {عَالِمُ الْغَيْبِ} : خبر مبتدأ محذوف، أي هو عالم الغيب والضمير المحذوف عائد إلى قوله: {ربي} . وهذا الحذف من قبيل حذف المسند إليه حذفا اتبع فيه الاستعمال إذا كان الكلام قد اشتمل على ذكر المسند إليه وصفاته كما نبه عليه السكاكي في "المفتاح" .
و {الْغَيْبِ} : مصدر غاب إذا استتر وخفي عن الأنظار وتعريفه تعريف الجنس.
وإضافة صفة {عالم} إلى {الْغَيْبِ} تفيد العلم بكل الحقائق المغيبة سواء كانت ماهيات أو أفرادا فيشمل المعنى المصدري للغيب مثل علم الله بذاته وصفاته، ويشمل الأمور الغائبة بذاتها مثل الملائكة والجن. ويشمل الذوات المغيبة عن علم الناس مثل الوقائع المستقبلة التي يخبر عنها أو التي لا يخبر عنها، فإيثار المصدر هنا لأنه اشتمل لإحاطة علم الله بجميع ذلك.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة [3].
وتعريف المسند مع تعريف المسند إليه المقدر يفيد القصر، أي هو عالم الغيب لا أنا.
وفرع على معنى تخصيص الله تعالى بعلم الغيب جملة {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} ، فالفاء لتفريع حكم على حكم والحكم المفرع إتمام للتعليل وتفصيل لأحوال عدم الاطلاع على غيبه.
ومعنى {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} : لا يطلع ولا ينبئ به، وهو أقوى من يطلع لأن {يظهر} جاء من الظهور وهو المشاهدة، ولتضمينه معنى: يطلع، عدي بحرف {على} .
ووقوع الفعل في حيز النفي يفيد العموم، وكذلك وقوع مفعوله وهو نكرة في حيزه يفيد العموم.
وحرف {على} مستعمل في التمكن من الاطلاع على الغيب وهو كقوله تعالى: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم:3] فهو استعلاء مجازي.
واستثني من هذا النفي من ارتضاه ليطلعه على بعض الغيب، أي على غيب أراد إظهاره من الوحي فإنه من غيب الله، وكذلك ما أراد الله أن يؤيد به رسوله صلى الله عليه وسلم من إخبار
(29/230)

بما سيحدث أو إطلاع على ضمائر بعض الناس.
فقوله: {ارتضى} مستثنى من عموم {أحدا} . والتقدير: إلا أحدا ارتضاه، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى.
والإتيان بالموصول والصلة في قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} لقصد ما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى تعليل الخبر، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى الناس، فيعلم من هذا الإيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو يفعلوه، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة، أو أمور الدنيا، وما يؤيد به الرسل عن الإخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 2-4].
والمراد بهذا الإطلاع المحقق المفيد علما كعلم المشاهدة. فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة، ففي الحديث "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، أو بالإلهام" قال النبي صلى الله عليه وسلم "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" رواه مسلم. قال مسلم: قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهمون.
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة: أنها تسر ولا تغر، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها.
و {مِنْ رَسُولٍ} بيان لإبهام {من} الموصولة فدل على ما صدق {من} جماعة من الرسل، أي إلا الرسل الذين ارتضاهم، أي اصطفاهم.
وشمل {رسول} كل مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل لإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام. وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم.
وهنا أربعة ضمائر غيبة:
الأول ضمير {فإنه} وهو عائد إلى الله تعالى.
والثاني الضمير المستتر في {يسلك} وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه
(29/231)

ضمير {فإنه} .
والثالث والرابع ضميرا {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، وهما عائدان إلى {رسول} أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصدا من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصدا، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبة.
والسلك حقيقته: الإدخال كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الحجر [12].
وأطلق السلك على الإيصال المباشر تشبيها له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفا في قوله: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن:17] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يبلغ أليه ما أوحي إليه من الغيب، كأنهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم. وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والمراد ب {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} الكناية عن جميع الجهات، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف.
والرصد: اسم جمع كما تقدم آنفا في قوله: {يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9]. وانتصب {رَصَدًا } على أنه مفعول به لفعل {يسلك} .
ويتعلق {ليعلم} بقوله: {يسلك} ، أي يفعل الله ذلك ليبلغ الغيب إلى الرسول كما أرسل إليه لا يخالطه شيء مما يلبس عليه الوحي فيعلم الله أن الرسل أبلغوا ما أوحي إليهم كما بعثه من دون تغيير، فلما كان علم الله بتبليغ الرسول الوحي مفرعا ومسببا عن تبليغ الوحي كما أنزل الله، جعل المسبب علة وأقيم مقام السبب إيجازا في الكلام لأن علم الله بذلك لا يكون إلا على وفق ما وقع، وهذا كقول إياس بن قبيصة:
وأقبلت والخطي يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
أي ليظهر من هو شجاع ومن هو جبان فأعلم ذلك. وهذه العلة هي المقصد الأهم من اطلاع من ارتضى من رسول على الغيب، وذكر هذه العلة لا يقتضي انحصار علل الاطلاع فيها.
وجيء بضمير الإفراد في قوله: {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} مراعاة للفظ {رسول} ،
(29/232)

ثم جيء له بضمير الجمع في قوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} مراعاة لمعنى رسول وهو لجنس، أي الرسل على طريقة قوله الله تعالى السابق آنفا {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23].
والمراد: ليعلم الله أن قد أبلغوا رسالات الله أدوا الأمانة علما يترتب عليه جزاؤهم الجزيل.
وفهم من قوله: {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} أن الغيب المتحدث عنه في هذه الآية هو الغيب المتعلق بالشريعة وأصولها من البعث والجزاء، لأن الكلام المستثنى منه هو نفي علم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرب ما يوعدون به أو بعده وذلك من علائق الجزاء والبعث.
ويلحق به ما يوحى به إلى الأنبياء الذين ليسوا رسلا لأن ما يوحى إليهم لا يخلو من أن يكون تأييدا لشرع سابق كأنبياء بني إسرائيل والحواريين أو أن يكون لإصلاح أنفسهم وأهليهم مثل آدم وأيوب.
واعلم أن الاستثناء من النفي ليس بالمقتض أن يثبت للمستثنى جميع نقائض أحوال الحكم الذي للمستثنى منه، بل قصارى ما يقتضيه أنه كالنقض في المناظرة يحصل بإثبات جزئي من جزئيات ما نفاه الكلام المنقوص، فليس قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} بمقتض أن الرسول يطلع على جميع غيب الله، وقد بين النوع المطلع عليه بقوله: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} .
وقرأ رويس عن يعقوب {ليعلم} بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول على أن {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} نائب عن الفاعل، والفاعل المحذوف حذف للعلم به، أي ليعلم الله أن قد أبلغوا.
{وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} .
الواو واو الحال أو اعتراضية لأن مضمونها تذييل لجملة {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ} ، أي أحاط بجميع ما لدى الرسل من تبليغ وغيره، وأحاط بكل شيء مما عدا ذلك، فقوله: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} تعميم بعد تخصيص ما قبله بعلمه بتبليغهم ما أرسل إليهم، وقوله: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} تعميم أشمل بعد تعميم ما.
وعبر عن العلم بالإحصاء على طريق الاستعارة تشبيها لعلم الأشياء بمعرفة الأعداد
(29/233)

لأن معرفة الأعداد أقوى، وقوله: {عَدَداً} ترشيح للاستعارة.
والعدد: بالفك اسم لمعدود وبالإدغام مصدر عد، فالمعنى هنا: وأحصى كل شيء معدودا، وهو نصب على الحال، بخلاف قوله تعالى: {وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:94]. وفرق العرب بين المصدر والمفعول لأن المفعول أوغل في الاسمية من المصدر فهو أبعد عن الإدغام لأن الأصل في الإدغام للأفعال.
(29/234)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزمل
ليس لهذه السورة إلا أسم "سورة المزمل" عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها، فيجوز أن يراد حكاية اللفظ، ويجوز أن يراد به النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1].
قال ابن عطية: هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} [المزمل:20] إلى نهاية السورة فذلك مدني. وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي.
وقال في الإتقان: إن استثناء قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اه.
يعني وذلك كله بمكة، أي فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله: {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] أمر به في مكة.
والروايات تظاهرت على أن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها، فقالت عائشة نزل بعد صدر السورة بسنة. ومثله روى الطبري عن ابن عباس، وقال الجمهور: نزل صدر السورة بمكة ونزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخرها بالمدينة، أي بعد نزول أولها بسنين.
فالظاهر أن الأصح أن نزول {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20] إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة.
(29/235)

وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1]. مكث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [المزمل:20] اه، أي نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة كان عشر سنين وهو قول جم غفير.
والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان. وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة، وبعض الروايات يقولون فيها: إنها كانت تفرش لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1-2] فكتب عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم، فأنزل {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} إلى {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20]، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة. وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن بعائشة إلا في المدينة، ولأن قولها فخرج مغضبا يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده، ويؤيده أخبار ثبت قيام الليل في مسجده.
ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه.
ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال: قال النخعي في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كان النبي صلى الله عليه وسلم متزملا بقطيفة عائشة، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي اه، وإنما بنى النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة في المدينة، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محلة كما سنبينه عند قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5]، وأن قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وإنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب.
وحكى القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: إن آيتين وهما {وَاصْبِرْ
(29/236)

عَلَى مَا يَقُولُونَ} إلى قوله: {وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل:11] نزلتا بالمدينة.
واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور، والأصح التي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة: أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق، فقيل: سورة ن والقلم، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة. وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية. يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} .
والأصح أن سبب نزول {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى: {يا أيها المزمل} الآية.
وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة وفي عد من عداهم عشرون.
أغراضها
الإشعار بملاطفة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بندائه بوصفه بصفة تزمله.
واشتملت على الأمر بقيام النبي صلى الله عليه وسلم غالب الليل والثناء على طائفة من المؤمنين حملوا أنفسهم على قيام الليل.
وعلى تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بتحمل إبلاغ الوحي.
والأمر بإدامة إقامة الصلاة وأداء الزكاة وإعطاء الصدقات.
وأمره بالتمحض للقيام بما أمره الله من التبليغ وبأن يتوكل عليه.
وأمره بالإعراض عن تكذيب المشركين.
وتكفل الله له بالنصر عليهم وأن جزاءهم بيد الله.
والوعيد لهم بعذاب الآخرة.
ووعظهم مما حل بقوم فرعون لما كذبوا رسول الله إليهم.
(29/237)

وذكر يوم القيامة ووصف أهواله.
ونسخ قيام معظم الليل بالاكتفاء بقيام بعضه رعيا للأعذار الملازمة.
والوعد بالجزاء العظيم على أفعال الخيرات.
والمبادرة بالتوبة وأدمج في ذلك أدب قراءة القرآن وتدبره.
وأن أعمال النهار لا يغني عنها قيام الليل.
وفي هذه السورة مواضع عويصة وأساليب غامضة فعليك تدبرها.
[1-4] {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} .
افتتاح الكلام بالنداء إذ كان المخاطب واحدا ولم يكن بعيدا يدل على الاعتناء بما سيلقي إلى المخاطب من كلام.
والأصل في النداء أن يكون باسم المنادى العلم إذا كان معروفا عند المتكلم فلا يعدل من الاسم العلم إلى غيره من وصف أو إضافة إلا لغرض يقصده البلغاء من تعظيم وتكريم نحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64]، أو تلطف وتقرب نحو: يا بني ويا أبت، أو قصد تهكم نحو {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] فإذا نودي المنادي بوصف هيئته من لبسه أو لبسه أو جلسة أو ضجعة كان المقصود في الغالب التلطف به والتحبب إليه ولهيئته، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب وقد وجده مضطجعا في المسجد وقد علق تراب المسجد بجنبه "قم أبا تراب" وقوله لحذيفة بن اليمان يوم الخندق "قم يا نومان" ، وقوله لعبد الرحمن بن صخر الدوسي وقد رءاه حاملا هرة صغيرة في كمه "يا أبا هريرة" .
فنداء النبي ب {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ناء تلطف وارتفاق ومثله قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
و {المزمل} : اسم فاعل من تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، أو مريد النوم وهو مثل لمدثر في مآل المعنى وإن كان بينهما اختلاف في أصل الاشتقاق فالتزمل مشتق من
(29/238)

معنى التلفف، والتدثر مشتق من معنى اتخاذ الدثار للتدفؤ. وأصل التزمل مشتق منالزمل بفتح فسكون وهو الإخفاء ولا يعرف ل "تزمل" فعل مجرد في معناه فهو من التفعل الذي تنوسي منه معنى التكلف للفعل، وأريد في إطلاقه معنى شدة التلبس، وكثر مثل هذا في الاشتمال على اللباس، فمنه التزمل ومنه التعمم والتأزر والتقمص، وربما صاغوا له صيغة الافتعال مثل: ارتدى وائتزر.
وأصل {المزمل} : المتزمل، أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا لتقارهما.
وهذا التزمل الذي أشارت إليه الآية قال الزهري وجمهور المفسرين: إنه التزمل الذي جرى في قول النبي صلى الله عليه وسلم "زملوني زملوني" حين نزل من غار حراء بعد أن نزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] الآيات كما في حديث عروة عن عائشة في كتاب بدء الوحي من صحيح البخاري وإن لم يذكر في ذلك الحديث نزول هذه السورة حينئذ، وعليه فهو حقيقة.
وقيل: هو ما في حديث جابر بن عبد الله قال لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه "أي صفوه وصفا تتفق عليه الناس" فقالوا: كاهن، وقالوا:مجنون، وقالوا: ساحر، فصدر المشركون على وصفه ب ساحر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وتزمل في ثيابه وتدثر، فأتاه جبريل فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1].
وسيأتي في سورة المدثر: أن سبب نزولها رؤيته الملك جالسا على كرسي بين السماء والأرض فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده فقال دثروني فيتعين أن سبب ندائه ب {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} كان عند قوله زملوني، فذلك عندما اغتم من وصف المشركين إيه بالجنون وأن ذلك غير سبب ندائه ب {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} في سورة المدثر.
وقيل: هو تزمل للاستعداد للصلاة فنودي {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} وهذا مروي عن قتادة. وقريب منه عن الضحاك وهي أقوال متقاربة.
ومحملها على أن التزمل حقيقة، وقال عكرمة: معناه زملت هذا الأمر فقم به، يريد أمر النبؤة فيكون قوله: {اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} مع قوله: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً} [المزمل:7] تحريضا على استفراغ جهده في القيام بأمر التبليغ في جميع الأزمان من ليل
(29/239)

ونهار إلا قليلا من الليل وهو ما يضطر إليه من الهجوع فيه. ومحمل التزمل عنده على المجاز.
فإذا كانت سورة المزمل قد أنزلت قبل سورة المدثر كان ذلك دالا على أن الله تعالى بعد أن أبتدأ رسوله بالوحي بصدر سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ثم أنزل عليه سورة القلم لدحض مقالة المشركين فيه التي دبرها الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إنه مجنون.
أنزل عليه التلطف به على تزمله بثيابه لما اعتراه من الحزن من قول المشركين فأمره الله بأن يدفع ذلك عنه بقيام الليل، ثم فتر الوحي فلما رأى الملك الذي أرسل إليه بحراء تدثر من شدة وقع تلك الرؤية فأنزل عليه {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
فنداء النبي صلى الله عليه وسلم بوصف {المزمل} باعتبار حالته وقت ندائه ليس المزمل معدودا من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، قال السهيلي: ولم يعرف به وذهب بعض الناس إلى عده من أسمائه.
وفعل {قم} منزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا القيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك.
و {الليل} : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر. وأنتصب {الليل} على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإنسان.
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاة المغرب والعشاء ورواتبهما.
وأمر الرسول بقيام الليل أمر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزول هذه السورة، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} إلى قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل:20] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يخرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري "فغطني حتى بلغ مني الجهد" ثم قال:
(29/240)

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] الحديث، ويدل هذه الحكمة قوله تعالى عقبه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحى إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة.
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيما لشأنه بكثرة الإقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} ، أي زيادة قرب لك. وقد تقدم في سورة الإسراء: [79].
فكان هذا حكما خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجبا على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس. وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرهم على ذلك فكانوا يرونه لزاما عليهم، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} [المزمل:20] الآية، قالت عائشة "إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه"، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين. وتقرر أنه مندرب مندوب فيه. واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه.
وقوله: {إِلَّا قَلِيلاً} استثناء من {الليل} أي إلا قليلا منه، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها.
و {نصفه} بدل من {قليلا} بدلا مطابقا وهو تبيين لإجمال {قليلا} فجعل القيام هنا النصف أو أقل منه بقليل.
وفائدة هذا الإجمال الإيماء إلى أن الأولى أن يكون القيام أكثر من مدة نصف الليل رحمة ورخصة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويدل ذلك تعقيبه بقوله: {أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} أي انقص من النصف قليلا، فيكون زمن قيام الليل أقل من نصفه، وهو حينئذ قليل فهو رخصة من الرخصة.
(29/241)

وقال {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} وهو عود إلى الترغيب في أن تكون مدة القيام أكثر من نصف الليل ولذلك لم يقد {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} بمثل ما قيد به {أَوِ انْقُصْ مِنْهُ} لتكون الزيادة على النصف متسعة، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بالعزيمة فقام حتى تورمت قدماه وقيل له في ذلك إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: "أفلا أكون عبدا شكورا" .
والتخيير المستفاد من حرف {أو} منظور فيه إلى تفاوت الليالي بالطول والقصر لأن ذلك ارتباطا بسعة النهار للعمل ولأخذ الحظ الفائت من النوم.
وبعد فذلك توسيع على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع حرج تحديده لزمن القيام فسلك به مسلك التقريب.
وجعل ابن عطية {الليل} اسم جنس يصدق على جميع الليالي، وأن المعنى: إلا قليلا من الليالي، وهي الليالي التي يكون فيها عذر يمنعه من قيامها، أي هو استثناء من الليالي باعتبار جزيئاتها لا باعتبار الأجزاء، ثم قال {نصفه} إلى آخره.
وتخصيص الليل بالصلاة فيه لأنه وقت النوم عادة فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقيام فيه زيادة في إشغال أوقاته بالإقبال على مناجاة الله: ولأن الليل وقت سكون الأصوات وإشغال الناس فتكون نفس القائم فيه أقوى استعدادا لتلقي الفيض الرباني.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} .
يجوز أن يكون متعلقا بقيام الليل، أي رتل قراءتك في القيام.
ويجوز أن يكون أمرا مستقلا بكيفية قراءة القرآن جرى ذكره بمناسبة الأمر بقيام الليل، وهذا أولى لأن القراءة في الصلاة تدخل في ذلك. وقد كان نزول هذه السورة في أول العهد بنزول القرآن فكان جملة القرآن حين نزول هذه السورة سورتين أو ثلاث سور بناء على أصح الأقوال في أن هذا المقدار من السور مكي، وفي أن هذه السورة من أوائل السور، وهذا مما أشعر به قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] أي سنوحي إليك قرآنا.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ القرآن بمهل وتبيين.
والترتيل: جعل الشيء مرتلا، أي مفرقا، وأصله من قولهم: ثغر مرتل، وهو المفلج
(29/242)

الأسنان، أي المفرق بين أسنانه تفريقا قليلا بحيث لا تكون النواجذ متلاصقة. وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته، أي التمهل في النطق بحروف القرآن حتى تخرج من الفم واضحة مع إشباع الحركات التي تستحق الإشباع. ووصفت عائشة الترتيل فقالت "لو أراد السامع أن يعد حروفه لعدها لا كسردكم هذا".
وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلق بحوافظهم، ويتدبر قارئه وسامعه معانيه كي لا يسبق لفظ اللسان عمل الفهم. قال قائل لعبد الله بن مسعود: قرأت المفصل في ليلة فقال عبد الله هذا كهذ الشعر لأنهم كانوا إذا أنشدوا القصيدة أسرعوا ليظهر ميزان بحرها، وتتعاقب قوافيها على الأسماع. والهذ: إسراع القطع.
وأكد هذا المر بالمفعول المطلق لإفادة تحقيق صفة الترتيل. وقرأ الجمهور {أَوِ انْقُص} بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين عند سقوط همزة الوصل، حركة الواو بضمة لمناسبة ضمة قاف {انْقُص} بعدها. وقرأه حمزة وعاصم بكسر الواو على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين.
ووقع في قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ} إذا "شبعت" فتحة نون القرآن محسن الاتزان بأن يكون مصراعا من بحر الكامل أحد دخله الإضمار مرتين.
[5] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} .
تعليل للأمر بقيام الليل وقع اعتراضا بين جملة {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] وجملة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل:6]، وهو جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لحكمة الأمر بقيام الليل بأنها تهيئة نفس النبي صلى الله عليه وسلم ليحمل شدة الوحي، وفي هذا إيماء إلى أن الله يسر عليه ذلك كما قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17]، فتلك مناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] فهذا إشعار بأن نزول هذه الآية كان في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بنزول القرآن فلما قال له: {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] أعقب ببيان علة الأمر بترتيل القرآن.
والقول الثقيل هو القرآن وإلقاؤه عليه: إبلاغه له بطريق الوحي بواسطة الملك.
وحقيقة الإلقاء: رمي الشيء من اليد إلى الأرض وطرحه، ويقال: شيء لقى، أي مطروح، استعير الإلقاء للإبلاغ دفعة على غير ترقب.
(29/243)

والثقل الموصوف به القول ثقل مجازي لا محالة، مستعار لصعوبة حفظه لاشتماله على معان ليست من معتاد ما يجول في مدارك قومه فيكون حفظ ذلك القول عسيرا على الرسول الأمي تنوء الطاقة عن تلقيه.
وأشعر قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أن ثقله متعلق ابتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم لقوله قبله {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ} وهو ثقل مجازي في جميع اعتباراته وهو ثقيل صعب تلقيه ممن أنزل عليه. قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد له جلده أي تغير بمثل القشعريرة وقالت عائشة رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا.
ويستعار ثقل القول لاشتماله على معان وافرة يحتاج العلم بها لدقة النظر وذلك بكمال هديه ووفرة معانيه. قال الفراء ثقيلا ليس بالكلام السفساف. وحسبك أنه حوى من المعارف والعلوم ما لا يفي العقل بالإحاطة به فكم غاصت فيه أفهام العلماء من فقهاء ومتكلمين وبلغاء ولغويين وحكماء فشابه الشيء الثقيل في أنه لا يقوى الواحد على الاستقلال بمعانيه.
وتأكيد هذا الخبر بحرف التأكيد للاهتمام به وإشعار الرسول صلى الله عليه وسلم بتأكيد قربه واستمراره، ليكون وروده أسهل عليه من ورود الأمر المفاجيء.
[6] {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً}
تعليل لتخصيص زمن الليل بالقيام فيه فهي مرتبطة بجملة {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2]، أي قم الليل لأن ناشئته أشد وطئا وأقوم قيلا.
والمعنى: أن في قيام الليل تزكية وتصفية لسرك وارتقاء بك إلى المراقي الملكية.
و {نَاشِئَةَ} وصف من النشء وهو الحدوث. وقد جرى هذا الوصف هنا على غير موصوف، وأضيف إلى الليل إضافة على معنى "في" مثل "مكر الليل"، وجعل من أقوم القيل، فعلم أن فيه قولا وقد سبقه الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فتعين أن موصوفه المحذوف هو صلاة، أي الصلاة الناشئة في الليل، فإن الصلاة تشتمل على أفعال وأقوال وهي قيام.
ووصف الصلاة بالناشئة لأنها أنشأها المصلي فنشأت بعد هدأة الليل فأشبهت
(29/244)

السحابة التي تتنشأ من الأفق بعد صحو، وإذا كانت الصلاة بعد نوم فمعنى النشء فيها أقوى، ولذلك فسرتها عائشة بالقيام بعد النوم. وفسر ابن عباس {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} بصلاة الليل كلها. واختاره مالك. وعن علي بن الحسين: أنها ما بين المغرب والعشاء. وعن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير: أن أصل هذا معرب عن الحبشة، وقد عدها السبكي في منظومته في معربات القرآن.
وإيثار لفظ {ناشئة} في هذه الآية دون غيره من نحو: قيام، أو تهجد، لأجل ما يحتمله من هذه المعاني ليأخذ الناس فيه بالاجتهاد.
وقرأ جمهور العشرة {وَطْئاً} بفتح الواو وسكون الطاء بعدها همزة، والوطء: أصله وضع الرجل على الأرض، وهو هنا مستعار لمعنى يناسب أن يكون شأنا للظلام بالليل، فيجوز أن يكون الوطء استعير لفعل من أفعال المصلي على نحو إسناد المصدر إلى فاعله، أي واطئا أنت، فهو مستعار لتمكن المصلي من الصلاة في الليل بتفرغه لها وهدوء باله من الأشغال النهارية تمكن الواطئ على الأرض فهو أمكن للفعل. والمعنى: أشد وقعا، وبهذا فسره جابر بن زيد والضحاك وقاله الفراء.
ويجوز أن يكون الوطء مستعارا لحالة صلاة الليل وأثرها في المصلي، أي أشد أثر خير في نفسه وأرسخ خيرا وثوابا، وبهذا فسره قتادة.
وقرأه ابن عامر وأبو عمرو وحده {وطاء} بكسر الواو وفتح الطاء ومدها مصدر واطأ من مادة الفعال. والوطاء: الوفاق والملائمة، قال تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37]. والمعنى: أن صلاة الليل أوفق بالمصلي بين اللسان والقلب، أي بين النطق بالألفاظ وتفهم معانيها للهدوء الذي يحصل في الليل وانقطاع الشواغل وبحاصل هذا فسر مجاهد.
وضمير {هي} ضمير فصل، وانظر ما سيأتي عند قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل:20] في وقوع ضمير الفصل بين معرفة واسم تفضيل. وضمير الفصل هنا لتقوية الحكم لا للحصر.
والأقوم: الأفضل في التقوي الذي هو عدم الاعوجاج والالتواء واستعير {أقوم} للأفضل الأنفع.
وقيلا: القول، وأريد به قراءة القرآن لتقدم قوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}
(29/245)

[المزمل:5]. فالمعنى: أن صلاة الليل أعون على تذكر القرآن والسلامة من نسيان بعض الآيات، وأعون على المزيد من التدبر. قال ابن عباس: {وَأَقْوَمُ قِيلاً} : أدنى من أن يفقهوا القرآن. وقال قتادة: أحفظ للقراءة، وقال ابن زيد: أقوم قراءة لفراغه من الدنيا.
وانتصب {وَطْئاً} و {قِيلاً} نسبة تمييزي ل {أشد} ، ول {أَقْوَمُ} .
[7] {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} .
فصل هذه الجملة دون عطف على ما قبلها يقتضي أن مضمونها ليس من جنس حكم ما قبلها، فليس المقصود تعيين صلاة النهار إذ لم تكن الصلوات الخمس قد فرضت يومئذ على المشهور، ولم يفرض حينئذ إلا قيام الليل.
فالذي يبدو أن موقع هذه الجملة موقع العلة لشيء مما في جملة {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] وذلك دائر: بين أن يكون تعليلا لاختيار الليل لفرض القيام عليه فيه، فيفيد تأكيد للمحافظة على قيام الليل لأن النهار لا يغني غناءه فيتحصل من المعنى: قم الليل لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا، لأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك. وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين، فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل، وبين أن يكون تلطفا واعتذارا عن تكليفه بقيام الليل، وفيه إرشاد إلى أن النهار ظرف واسع لإيقاع ما عسى أن يكلفه قيام الليل من فتور بالنهار لينام بعض النهار وليقوم بمهامه فيه.
ويجوز أن يكون تعليلا لما تضمنه {أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً} [المزمل:3] أي إن نقصت من نصف الليل شيئا لا يفتك ثواب علمه، فإن لك في النهار متسعا للقيام والتلاوة مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:62].
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في النهار من أول البعثة قبل فرض الصلوات الخمس كما دل عليه قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10]. وقد تقدم في سورة الجن أن استماعهم القرآن كان في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في نخلة في طريقهم إلى عكاظ. ويظهر أن يكون كل هذا مقصودا لأنه مما تسمح به دلالة كلمة {سَبْحاً طَوِيلاً} وهي من بليغ الإيجاز.
(29/246)

والسبح: أصله العوم، أي السلوك بالجسم في ماء كثير، وهو مستعار هنا للتصرف السهل المتسع الذي يشبه حركة السابح في الماء فإنه لا يعترضه ما يعوق جولانه على وجه الماء ولا إعياء السير في الأرض.
وقريب من هذه الاستعارة استعارة السبح لجري الفرس دون كلفة في وصف امرئ القيس الخيل السابحات في قوله في مدح فرسه:
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن الغبار في الكديد المركل
فعبر عن الجاريات بالسابحات.
وفسر ابن عباس السبح بالفراغ، أي لينام في النهار، وقال ابن وهب عن ابن زيد قال: فراغا طويلا لحوائجك فافرغ لدينك في الليل.
والطويل: وصف من الطول، وهو ازدياد امتداد القامة أو الطريق أو الثوب على مقادير أكثر من أمثاله. فالطول من صفات الذوات، وشاع وصف الزمان به يقال: ليل طويل وفي الحديث الشتاء ربيع المؤمن قصر نهاره فصامه وطال ليله فقامه.
أما وصف السبح ب"طويل" في هذه الآية فهو مجاز عقلي لأن الطويل هو مكان السبح وهو الماء المسبوح فيه. وبعد هذا ففي قوله: {طَوِيلاً} ترشيح لاستعارة السبح للعمل في النهار.
[8-9] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} .
عطف على {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل:2] وقصد بإطلاق الأمر عن تعيين زمان إلى إفادة تعميمه، أي ذكر اسم ربك في الليل وفي النهار كقوله: {وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الإنسان:25].
وإقحام كلمة {اسم} لأن المأمور به ذكر اللسان وهو الجامع للتذكر بالعقل لأن الألفاظ تجري على حسب ما في النفس، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ} [الأعراف:205].
والتبتل: شدة البتل، وهو مصدر تبتل القاصر الذي هو مطاوع بتله ف {تبتل} وهو هنا للمطاوعة المجازية يقصد من صيغتها المبالغة في حصول الفعل حتى كأنه فعله غيره به
(29/247)

فطاوعه، والتبتل: الانقطاع وهو هنا انقطاع مجازي، أي تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس وانحاز إلى جانب الله فعدي ب"إلى" الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
منارة ممسى راهب متبتل
والتبتيل: مصدر بتل المشدد الذي هو فعل متعد مثل التقطيع.
وجيء بهذا المصدر عوضا عن التبتل للإشارة إلى حصول التبتل، أي الانقطاع يقتضي التبتيل أي القطع. ولما كان التبتيل قائما بالمتبتل تعين أن تبتيله قطع نفسه عن غير من تبتل هو إليه فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى فالجمع بين {تبتل} و {تبتيلا} مشير إلى إراضة النفس عن ذلك التبتل. وفيه مع ذلك وفاء برعي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به انقطاع خاص وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمتعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين ولذلك قيل {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} أي إلى الله فكل عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال الحياة فهو لدين الله فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله. وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم مثل الطيب، وتزوج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" .
وليس هو التبتل المفضي إلى الرهبانية وهو الإعراض عن النساء وعن تدبير أمور الحياة لأن ذلك لا يلاقي صفة الرسالة.
وفي حديث سعد في "الصحيح" "رد رسول الله على عثمان ابن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا" يعني رد عليه استشارته في الإعراض عن النساء.
ومن أكبر التبتل إلى الله الانقطاع عن الإشراك، وهو معنى الحنيفية، ولذلك عقب قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} بقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
وخلاصة المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور أن لا تخلو أوقاته عن إقبال على عبادة الله ومراقبته والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي صلى الله عليه وسلم من قبل غير غافل عن هذا الانقطاع بإرشاد من الله كما ألهمه التحنث في غار حراء ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة. فالأمر في قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ} مراد به الدوام على ذلك فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل فإن في سورة القلم [51] "وقد نزلت قبل المزمل" {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ
(29/248)

كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم:51] على أن القرآن الذي أنزل أولا أكثره إرشاد للنبي صلى الله عليه وسلم إلى طرائق دعوة الرسالة فلذلك كان غالب ما في السور الأول منه مقتصرا على سن التكاليف الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ووصف الله بأنه {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} لمناسبة الأمر بذكره في الليل وذكره في النهار وهما وقتا ابتداء غياب الشمس وطلوعها، وذلك يشعر بامتداد كل زمان منهما إلى أن يأتي ضده؛ فيصح أن يكون المشرق والمغرب جهتي الشروق والغروب فيكون لاستيعاب جهات الأرض، أي رب جميع العالم وذلك يشعر بوقتي الشروق والغروب.
ويصح أن يراد بهما وقتا الشروق والغروب أي مبدأ ذينك الوقتين ومنتهاهما، كما يقال: سبحوا الله كل مشرق شمس، وكما يقال: صلاة المغرب.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر برفع {رب} على أنه خبر لمبتدأ محذوف حذفا جرى على الاستعمال في مثله مما يسبق في الكلام حديثا عنه. ثم أريد الإخبار عنه بخبر جامع لصفاته، وهو من قبيل النعت المقطوع المرفوع بتقدير مبتدأ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بخفض {رب} على البدل من {ربك} .
وعقب وصف الله ب {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، بالإخبار عنه أو بوصفه بأنه لا إله إلا هو لأن تفرده بالإلهية بمنزلة النتيجة لربوبية المشرق والمغرب فلما كانت ربوبيته للعالم لا ينازع فيها المشركون أعقبت بما يقتضي إبطال دعوى المشركين تعدد الآلهة بقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} تعريضا بهم في أثناء الكلام وإن كان الكلام مسوقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك فرع عليه قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} ، وإذا كان الأمر باتخاذ وكيلا مسببا عن كونه لا إله إلا هو كان ذلك في قوة النهي عن اتخاذ وكيل غيره، إذ ليس غيره بأهل لاتخاذه وكيلا.
والوكيل: الذي يوكل إليه الأمور، أي يفوض إلى تصرفه، ومن أهم التفويض أمر الانتصار لمن توكل عليه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه قول المشركين فيه اغتم لذلك، وقد روي أن ذلك سبب تزمله من موجدة الحزن فأمره الله بأن لا يعتمد إلا عليه، وهذا تكفل بالنصر ولذلك عقب بقوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10].
[10] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} .
عطف على قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9]، والمناسبة أن الصبر على الأذى
(29/249)

يستعان عليه بالتوكل على الله.
وضمير {يقولون} عائد إلى المشركين، ولم يتقدم له معاد فهو من الضمائر التي استغني عن ذكر معادها بأنه معلوم للسامعين كما تقدم غير مرة، ومن ذلك عند قوله تعالى: {وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن:16] الآيات من سورة {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن:1]، ولأنه سيأتي عقبه قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11] فيبين المراد من الضمير.
وقد مضى في السور التي نزلت قبل سورة المزمل مقالات أذى من المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ففي سورة العلق [9-10] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} . قيل هو أبو جهل تهدد رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن صلى في المسجد الحرام ليفعلن ويفعلن. وفيها {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7]. قيل هو الأخنس بن شريق تنكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كان حليفه، وفي سورة القلم [2-15] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} إلى قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ} ، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} إلى قوله: {قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [القلم:15] ردا لمقالاتهم. وفي سورة المدثر [11-25] إن كانت نزلت قبل سورة المزمل {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ، قيل: قائل ذلك الوليد بن المغيرة فلذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يقولون.
والهجر الجميل: هو الحسن في نوعه، فإن الأحوال والمعاني منها حسن ومنها قبيح في نوعه، وقد يقال: كريم، وذميم، وخالص، وكدر، ويعرض الوصف للنوع بما من شأنه أن يقترن به من عوارض تناسب حقيقة النوع فإذا جردت الحقيقة عن الأعراض التي قد تتعلق بها كان نوعه خالصا، وإذا ألصق بالحقيقة ما ليس من خصائصها كان النوع مكدرا قبيحا، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]، ومن هذا المعنى قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} في سورة يوسف [18]، وقوله: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} في سورة المعارج [5].
فالهجر الجميل هو الذي يقتصر صاحبه على حقيقة الهجر، وهو ترك المخالطة فلا يقرنها بجفاء آخر أو أذى، ولما كان الهجر ينشأ عن بعض المهجور، أو كراهية أعماله كان معرضا لأن يتعلق به أذى من سب أو ضرب أو نحو ذلك. فأمر الله رسوله بهجر المشركين هجرا جميلا، أي أن يهجرهم ولا يزيد على هجرهم سبا أو انتقاما.
(29/250)

وهذا الهجر: هو إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} .
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.
[11] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .
القول فيه كالقول في {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} في سورة القلم [44]، أي دعني وإياهم، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.
وانتصب {الْمُكَذِّبِينَ} على المفعول معه، والواو واو المعية.
والمكذبون هم من عناهم بضمير {يقولون} و {اهجرهم} ، وهم المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم من أهل مكة، فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
ووصفهم ب {أُولِي النَّعْمَةِ} توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم، وتهديدا لهم بأن الذي قال {ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} سيزيل عنهم ذلك التنعم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم، لأنهم كانوا يعدون سعة العيش ووفرة المال كمالا، وكانوا يعيرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} الآيات [المطففين: 29-30]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ} [محمد:12].
و {النعمة} : هنا بفتح بفتح النون باتفاق القراء. وهي اسم للترفه، وجمعها أنعم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية، وأمن ورزق،
(29/251)

ونحو ذلك من الرغائب. وجمعها: نعم بكسر النون وفتح العين، وتجمع جمع سلامة على نعمات بكسر النون وبفتح العين لجمهور العرب. وتكسر العين في لغة أهل الحجاز كسرة إتباع.
والنعمة بضم النون اسم للمسرة فيجوز أن تجمع على نعم على أنه اسم جمع، ويجوز أن تجمع على نعم بضم ففتح مثل: غرفة وغرف، وهو مطرد في الوزن.
وجعلهم ذوي النعمة المفتوحة النون للإشارة إلى قصارى حظهم في هذه الحياة هي النعمة، أي الانطلاق في العيش بلا ضيق، والاستظلال بالبيوت والجنات، والإقبال على لذيذ الطعوم ولذائذ الانبساط إلى النساء والخمر والميسر، وهم معرضون عن كمالات النفس ولذة الاهتداء والمعرفة قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وتعريف {النعمة} للعهد.
والتمهيل: الإمهال الشديد، والإمهال: التأجيل وتأخير العقوبة، وهو مترتب في المعنى على قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} ، أي وانتظر أن ننتصر لك كقوله تعالى: {وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
و {قليلا} وصف لمصدر محذوف، أي تمهيلا قليلا. وانتصب على المفعول المطلق.
[12-14] {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً، وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً، يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} .
وهذا تعليل لجملة {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11]، أي لأن لدينا ما هو أشد عليهم من ردك عليهم، وهذا التعليل أفاد تهديدهم بأن هذه النقم أعدت لهم لأنها لما كانت من خزائن نقمة الله تعالى كانت بحيث يضعها الله في المواضع المستأهلة لها، وهم الذين بدلوا نعمة الله كفرا، فأعد الله ما يكون عليهم في الحياة الأبدية ضدا لأصول النعمة التي خولوها، فبطروا بها وقابلوا المنعم بالكفران.
فالأنكال مقابل كفرانهم بنعمة الصحة والمقدرة لأن الأنكال القيود. والجحيم: هو نار جهنم مقابل ما كانوا عليه من لذة الاستظلال والتبرد. والطعام: ذو الغصة مقابل ما كانوا منهمكين فيه من أطعمتهم الهنيئة من الثمرات والمطبوخات والصيد. والأنكال: جمع
(29/252)

نكل بفتح النون وبكسرها وبسكون الكاف، وهو القيد الثقيل.
والغصة بضم الغين: اسم لأثر الغص في الحلق وهو تردد الطعام والشراب في الحلق بحيث لا يسيغه الحلق من مرض أو حزن وعبرة.
وإضافة الطعام إلى الغصة إضافة مجازية وهي من الإضافة لأدنى ملابسة، فإن الغصة عارض في الحلق سببه الطعام أو الشرب الذي لا يستساغ لبشاعة أو يبوسة.
والعذاب الأليم: مقابل ما في النعمة من ملاذ البشر، فإن الألم ضد اللذة. وقد عرف الحكماء اللذة بأنها الخلاص من الألم.
وقد جمع الأخير جمع ما يضاد معنى النعمة "بالفتح".
وتنكير هذه الأجناس الأربعة لقصد تعظيمها وتهويلها، و"لدى" يجوز أن يكون على حقيقته ويقدر مضاف بينه وبين نون العظمة. والتقدير: لدى خزائننا، أي خزائن العذاب، ويجوز أن يكون مجازا في القدرة على إيجاد ذلك متى أراد الله.
ويتعلق {يَوْمَ تَرْجُفُ} بالاستقرار الذي يتضمنه خبر {إن} في قوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} .
والرجف: الزلزلة والاضطراب، والمراد: الرجف المتكرر المستمر، وهو الذي يكون به انفراط أجزاء الأرض وانحلالها.
والكثيب: الرمل المجتمع كالربوة، أي يصير حجارة الجبال دقاقا.
ومهيل: اسم مفعول من هال الشيء هيلا، إذا نثره وصبه. وأصله مهيول، استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى الساكن قبلها فالتقى ساكنان فحذفت الواو، ولأنها زائدة ويدل عليها الضمة.
وجيء بفعل {كانت} في قوله: {وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا} ، للإشارة إلى تحقيق وقوعه حتى كأنه وقع في الماضي. ووجه مخالفته لأسلوب {تَرْجُفُ} أن صيرورة الجبال كثبا أمر عجيب غير معتاد، فلعله يستبعده السامعون وأما رجف الأرض فهو معروف، إلا أن هذا الرجف الموعود به أعظم ما عرف جنسه.
[15-16] {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً،
(29/253)

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} .
نقل الكلام إلى مخاطبة المشركين بعد أن كان الخطاب، موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والمناسبة لذلك التخلص إلى وعيدهم بعد أن أمره بالصبر على ما يقولون وهجرهم هجرا جميلا إذ قال له {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} إلى قوله: {وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:13].
فالكلام استئناف ابتدائي، ولا يعد هذا الخطاب من الالتفات لأن الكلام نقل إلى غرض غير الغرض الذي كان قبله.
فالخطاب فيه جار على مقتضى الظاهر على كلا المذهبين: مذهب الجمهور ومذهب السكاكي.
والمقصود من هذا الخبر التعريض بالتهديد أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم ممن كذبوا الرسل فهو مثل مضروب للمشركين.
وهذا أول مثل ضربه الله للمشركين للتهديد بمصير أمثالهم على قول الجمهور في نزول هذه السورة.
واختير لهم ضرب المثل بفرعون مع موسى عليه السلام، لأن الجامع بين حال أهل مكة وحال أهل مصر في سبب الإعراض عن دعوة الرسول وهو مجموع ما هم عليه من عبادة غير الله، وما يملأ نفوسهم من التكبر والتعاظم على الرسول المبعوث إليهم بزعمهم أن مثلهم لا يطع مثله كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} [المؤمنون:47] وقد قال أهل مكة {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]. وقد تكرر في القرآن ضرب المثل بفرعون لأبي جهل وهو زعيم المناوين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤلبين عليه وأشد صناديد قريش كفرا.
وأكد الخبر ب"أن" لأن المخاطبين منكرون أن الله أرسل إليهم رسولا.
ونكر {رسولا} لأنهم يعلمون المعني به في هذا الكلام، ولأن مناط التهديد والتنظير ليس شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو صفة الإرسال.
وأدمج في التنظير والتهديد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه شاهدا عليهم.
(29/254)

والمراد بالشهادة هنا: الشهادة بتبليغ ما أراده الله من الناس وبذلك يكون وصف {شاهدا} موافقا لاستعمال الوصف باسم الفاعل في زمن الحال، أي هو شاهد عليكم الآن بمعاودة الدعوة والإبلاغ.
وأما شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة فهي شهادة بصدق المسلمين في شهادتهم على الأمم بأن رسلهم أبلغوا إليهم رسالات ربهم، وذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} كما ورد تفصيل تفسيرها في الحديث الصحيح، وقد تقدم في سورة البقرة [143].
وتنكير {رسولا} المرسل إلى فرعون لأن الاعتبار بالإرسال لا بشخص المرسل إذ التشبيه تعلق بالإرسال في قوله: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ} إذ تقديره كإرسالنا إلى فرعون رسولا.
وتفريع {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} إيماء إلى أن ذلك هو الغرض من هذا الخبر وهو التهديد بأن يحل بالمخاطبين لما عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما حل بفرعون.
وفي إظهار اسم فرعون في قوله: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ} دون أن يؤتى بضميره للنداء عليه بفظاعة عصيانه الرسول.
ولما جرى ذكر الرسول المرسل إلى فرعون أول مرة جيء به في ذكره ثاني مرة معرفا بلام العهد وهو العهد الذكري، أي الرسول المذكور آنفا فإن النكرة إذا أعيدت معرفة باللام كان مدلولها عين الأولى.
والأخذ مستعمل في الإهلاك مجازا لأنه لما أزالهم من الحياة أشبه فعله أخذ الآخذ شيئا من موضعه وجعله عنده.
والوبيل: فعيل صفة مشبهة من وبل المكان، إذا وخم هواؤه أو مرعى كلئه، وقال زهير:
إلى كلا مستوبل متوخم
وهو هنا مستعار لسيء العاقبة شديد السوء وأريد به الغرق الذي أصاب فرعون وقومه.
[17-18] {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً، السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ
(29/255)

كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً}
الاستفهام ب"كيف" مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلا المؤاخذة بما شهد به. وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتعاظ وخوف من الوعيد بما حل بأمثالهم مما شأنه أن يثير فيهم تفكيرا من النجاة من الوقوع فيما هددوا به، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة، فدلت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى.
فالمعنى: هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة، ففعل الشرط من قوله: {إِنْ كَفَرْتُمْ} مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدوام من فعل {كَفَرْتُمْ} وإلا فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية.
و {يوما} منصوب على المفعول به لـ {تتقون} . واتقاء اليوم اتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر.
ووصف اليوم بأنه {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان، لأنه شاع أن ألهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصفهم هم ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده. وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب، لأني م أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو:
إذم والله نرميهم بحرب ... تشيب الطفل من قبل المشيب
فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت. وقال العيني: لم أجده في ديوانه. وقد أخذ المعنى الصمة بن عبد الله القشيري في قوله:
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} إلى اليوم مجاز عقلي
(29/256)

بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال، والأهوال سبب للشيب عرفا.
والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله: {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} .
وجملة {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} صفة ثانية.
والباء بمعنى "في" وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن لانفطار السماء أشد هولا ورعبا مما كني عنه بجملة {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} . أي السماء على عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه.
والانفطار: التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} في سورة المعارج [4].
وذكر انفطار السماء في ذلك اليوم زيادة في تهويل أحواله لأن ذلك يزيد المهددين رعبا وإن لم يكن انفطار السماء من آثار أعمالهم ولا له أثر في زيادة نكالهم.
ويجوز أن تجعل جملة {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} مستأنفة معترضة بين جملة {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} الخ، وجملة {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} والباء للسببية ويكون الضمير المجرور بالباء عائد إلى الكفر المأخوذ من فعل {كَفَرْتُمْ} .
ويجوز أن يكون الإخبار بانفطار السماء على طريقة التشبيه البليغ أي كالمنفطر به فيكون المعنى كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88-90].
ووصف السماء بمنفطر بصيغة التذكير مع أن السماء في اللغة من الأسماء المعتبرة مؤنثة في الشائع. قال الفراء: السماء تذكر على التأويل بالسقف لأن أصل سميتها سماء على أصل التشبيه بالسقف، أي والسقف مذكر والسماء مؤنث. وتبعه الجوهري وابن بري. وأنشد الجوهري على ذلك قول الشاعر:
فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب
وأنشد ابن بري أيضا في تذكير السماء بمعنى السقف قول الآخر:
وقالت سماء البيت فوقك مخلق ... ولما تيسر اجتلاء الركائب
(29/257)

ولا ندري مقدار صحة هذين الشاهدين من العربية على أنه قد يكونان من ضرورة الشعر. وقيل إذا كان الاسم غير حقيقي التأنيث جاز إجراء وصفه على التذكير فلا تلحقه هاء التأنيث قياسا على الفعل المسند للمؤنث غير حقيقي التأنيث في جواز اقترانه بتاء التأنيث وتجريده منها، إجراء للوصف مجرى الفعل وهو وجيه.
ولعل العدول في الآية عن الاستعمال الشائع في الكلام الفصيح في إجراء السماء على التأنيث، إلى التذكير إيثارا لتخفيف الوصف لأنه لما جيء به بصيغة منفعل بحفي زيادة وهما الميم والنون كانت الكلمة معرضة للثقل إذا ألحق بها حرف زائد آخر ثالث، وهو هاء التأنيث فيحصل فيها ثقل يجنبه الكلام البالغ غاية الفصاحة ألا ترى أنها لم تجر على التذكير في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] إذ ليس في الفعل إلا حرف مزيد واحد وهو النون إذ لا اعتداد بهمزة الوصل لأنها ساقطة في حالة الوصل، فجاءت بعدها تاء التأنيث.
وجملة {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} صفة أخرى لـ {يوما} ، وهذا الوصف إدماج للتصريح بتحقيق وقوع ذلك اليوم بعد الإنذار به الذي هو مقتض لوقوعه بطريق الكناية استقصاء في إبلاغ ذلك إلى علمهم وفي قطع معذرتهم.
وضمير {وعده} عائد إلى {يوما} الموصوف، وإضافة {وعد} إليه من إضافة المصدر إلى مفعوله على التوسع، أي الوعد به، أي بوقوعه.
[19] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
تذييل أي تذكرة لمن يتذكر فإن كان من منكري البعث آمن به وإن كان مؤمنا استفاق من بعض الغفلة التي تعرض للمؤمن فاستدرك ما فاته، وبهذا العموم الشامل لأحوال المتحدث عنهم وأحوال غيرهم كانت الجملة تذييلا.
والإشارة ب {هذه} إلى الآيات المتقدمة من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15].
وتأكيد الكلام بحرف التأكيد لأن المواجهين به ابتداء هم منكرون كون القرآن تذكرة وهدى فإنهم كذبوا بأنه من عند الله ووسموه بالسحر وبالأساطير، وذلك من أقوالهم التي أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر عليها قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10].
(29/258)

والتذكرة: اسم لمصدر الذكر بضم الذال، الذي هو خطورة الشيء في البال، فالتذكرة: الموعظة لأنه تذكر الغافل عن سوء العواقب، وهذا تنويه بآيات القرآن وتجديد للتحريض على التدبر فيه والتفكر على طريقة التعريض.
وفرع على هذا التحريض التعريضي تحريض صريح بقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} أي من كان يريد أن يتخذ إلى ربه سبيلا فقد تهيأ له اتخاذ السبيل إلى الله بهذه التذكرة فلم تبق للمتغافل معذرة.
والإتيان بموصول {مَنْ شَاءَ} من قبيل التحريض لأنه يقتضي أن هذا السبيل موصول إلى الخير فلا حائل يحول بين طالب الخير وبين سلوك هذا السبيل إلا مشيئته، لأن قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} قرينة على ذلك. ومن هذا القبيل قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. فليس ذلك إباحة للإيمان والكفر ولكنه تحريض على الإيمان، وما بعده تحذير من الكفر، أي تبعة التفريط في ذلك على المفرط. ولذلك قال ابن عطية: ليس معناه إباحة الأمر وضده بل يتضمن معنى الوعد والوعيد.
وفي تفسير ابن عرفة الذي كان بعض شيوخنا يحملها على أنه مخير في تعيين السبيل فمتعلق التخيير عنده أن يبين سبيلا ما من السبل قال: وهو حسن، فيبقى ظاهر الآية في حالة من التخيير اه.
وقد علمت مما قررناه أنه لا حاجة إليه وأن ليس في الآية شيء بمعنى التخيير.
وفي قوله: {إِلَى رَبِّهِ} تمثيل لحال طالب الفوز والهدى بحال السائر إلى ناصر أو كريم قد أري السبيل الذي يبلغه إلى مقصده فلم يبقى له ما يعوقه عن سلوكه.
[20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} .
(29/259)

من هنا يبتدئ ما نزل من هذه السورة بالمدينة كما تقدم ذكره في أول السورة.
وصريح هذه الآية ينادي على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل قبل نزول الآية وأن طائفة من أصحابه كانوا يقومون عملا بالأمر الذي في أول السورة من قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] الآية، فتعين أن هذه الآية نزلت للتخفيف عنهم جميعا لقوله فيها {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} فهي ناسخة للأمر الذي في أول السورة.
واختلف السلف في وقت نزولها ومكانه وفي نسبة مقتضاها من مقتضى الآية التي قبلها. والمشهور الموثوق به أن صدر السورة نزل بمكة.
ولا يغتر بما رواه الطبري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة مما يوهم أن صدر السورة نزل بالمدينة. ومثله ما روي عن النخعي في التزمل بمرط لعائشة.
ولا ينبغي أن يطال القول في أن القيام الذي شرع في صدر السورة كان قياما واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن قيام من قام من المسلمين معه بمكة إنما كان تأسيا به وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه ولكن رأت عائشة أن فرض الصلوات الخمس نسخ وجوب قيام الليل، وهي تريد أن قيام الليل كان فرضا على المسلمين، وهو تأويل، كما لا ينبغي أن يختلف في أن أول ما أوجب الله على المة هو الصلوات الخمس التي فرضت ليلة المعراج وأنها لم يكن قبلها وجوب صلاة على الأمة ولو كان لجرى ذكر تعريضه بالصلوات الخمس في حديث المعراج، وأن وجوب الخمس على النبي صلى الله عليه وسلم مثل وجوبها على المسلمين. وهذا قول ابن عباس لأنه قال: إن قيام الليل لم ينسخه إلا آية {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} الآية، ولا أن يختلف في أن فرض الصلوات الخمس لم ينسخ فرض القيام على النبي صلى الله عليه وسلم سوى أنه نسخ استيعاب نصف الليل أو دونه بقليل فنسخه {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} .
وقد بين ذلك حديث ابن عباس ليلة بات في بيت خالته ميمونة أم المؤمنين قال فيه نام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله ثم وصف وضوءه وأنه صلى ثلاث عشرة ركعة ثم نام حتى جاءه المنادي لصلاة الصبح. وابن عباس يومئذ غلام فيكون ذلك في حدود سنة سبع أو ثمان من الهجرة.
ولم ينقل أن المسلمين كانوا يقومون معه إلا حين احتجز موضعا من المسجد لقيامه
(29/260)

في ليالي رمضان فتسامع أصحابه به فجعلوا ينسلون إلى المسجد ليصلوا بصلاة نبيهم صلى الله عليه وسلم حتى احتبس عنهم في إحدى الليالي وقال لهم "لقد خشيت أن تفرض عليكم" وذلك بالمدينة وعائشة عنده كما تقدم في أول السورة.
وهو صريح في أن القيام الذي قاموه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضا عليهم وأنهم لم يدوموا عليه وفي أنه ليس شيء من قيام الليل بواجب على عموم المسلمين وإلا لما كان لخشية أن يفرض عليهم موقع لأنه لو قدر أن بعض قيام الليل كان مفروضا لكان قيامهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أداء لذلك المفروض، وقد عضد ذلك حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحفصة وقد قصت عليه رؤيا رآها عبد الله بن عمر "أن عبد الله رجل صالح لو كان يقوم الليل" .
وافتتاح الكلام ب {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} يشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به وأنه كان يبسط إليه ويهتم به ثم يقتصر على القدر المعين فيه النصف أو أنقص منه قليلا أو زائد عليه بل أخذ بالأقصى وذلك ما يقرب من ثلثي الليل كما هو شأن أولي العزم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} [القصص:29] "أنه قضى أقصى الأجلين وهو العشر السنون" .
وقد جاء في الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تورمت قدماه" .
وتأكيد الخبر ب {إن} للاهتمام به، وهو كناية عن أنه أرضى ربه بذلك وتوطئة للتخفيف الذي سيذكر في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ليعلم أنه تخفيف رحمة وكرامة ولإفراغ بعض الوقت من النهار للعمل والجهاد.
ولم تنزل تكثر بعد الهجرة أشغال النبي صلى الله عليه وسلم بتدبير مصالح المسلمين وحماية المدينة وتجهيز الجيوش ونحو ذلك، فلم تبق في نهاره من السعة ما كان له فيه أيام مقامه بمكة، فظهرت حكمة الله في التخفيف عن رسوله صلى الله عليه وسلم من قيام الليل الواجب منه والرغيبة.
وفي حديث علي بن أبي طالب أنه سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى منزله فقال: كان إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك بالخاصة على العامة ولا يدخر عنهم شيئا فمنهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما يصلحهم والأمة من مسألته عنهم وإخبارهم بالذي ينبغي لهم.
(29/261)

وإيثار المضارع في قوله: {يعلم} للدلالة على استمرار ذلك العلم وتجدده إيذان بأنه بمحمل الرضى منه.
وفي ضده قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] لأنه في معرض التوبيخ، أي لم يزل عالما بذلك حينا فحينا لا يخفى عليه منه حصة.
و {أدنى} أصله أقرب، من الدنو، استعير للأقل لأن المسافة التي بين الشيء والأدنى منه قليلة، وكذلك يستعار الأبعد للأكثر.
وهو منصوب على الظرفية لفعل {تقوم} ، أي تقوم في زمان يقدر أقل من ثلثي الليل وذلك ما يزيد على نصف الليل وهو ما اقتضاه قوله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4].
وقرأ الجمهور {ثلثي} بضم اللام على الأصل. وقرأه هشام عن ابن عامر بسكون اللام على التخفيف لأنه عرض له بعض الثقل بسبب التثنية.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} بخفضهما عطفا على {ثُلُثَي اللَّيْلِ} ، أي أدنا من نصفه وأدنى من ثلثه.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بنصب {وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} على أنهما منصوبان على المفعول ل {تقوم} أي تقوم ثلثي الليل، وتقوم نصف الليل، وتقوم ثلث الليل، بحيث لا ينقص عن النصف وعن الثلث. وهذه أحوال مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالليل تابعة لاختلاف أحوال الليالي والأيام في طول بعضها وقصر بعض وكلها داخلة تحت التخيير الذي خيره الله في قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] إلى قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل:4].
وبه تظهر مناسبة تعقيب هذه الجملة بالجملة المعترضة، وهي جملة {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَار} أي قد علمها الله كلها وأنبأه بها. فلا يختلف المقصود باختلاف القراءات. فمن العجاب قول الفراء أن النصب أشبه بالصواب.
و {طائفة} عطف على اسم {إن} بالرفع وهو وجه جائز إذا كان بعد ذكر خبر {إن} لأنه يقدر رفعه حينئذ على الاستئناف كما في قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]. وهو من اللطائف إذا كان اتصاف الاسم والمعطوف بالخبر مختلفا فإن بين قيام النبي صلى الله عليه وسلم وقيام الطائفة التي معه تفاوتا في الحكم والمقدار، وكذلك براءة الله من المشركين وبراءة رسوله. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويقرأ عليهم القرآن
(29/262)

ويعاملهم، وأما الله فغاضب عليهم ولاعنهم. وهذا وجه العدول عن أن يقول: إن الله يعلم أنكم تقومون. إلى قوله: {أَنَّكَ تَقُومُ} ثم قوله: {وَطَائِفَةٌ} الخ.
ووصف {طَائِفَةٌ} بأنهم "من الذين معك"، فإن كان المراد بالمعية المعية الحقيقية، لأي المصاحبة في عمل مما سيق له الكلام، أي المصاحبين لك في قيام الليل، لم يكن في تفسيره تعيين لناس بأعيانهم، ففي حديث عائشة في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال "قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" ، وذلك في رمضان.
وإن كانت المعية معية مجازية وهي الانتساب والصحبة والموافقة فقد عددنا منهم: عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وسلمان الفارسي وأبا الدرداء، وزينب بنت جحش، وعبد الله بن عمر، والحولاء بنت تويت الأسدية، فهؤلاء ورد ذكرهم مفرقا في أحاديث التهجد من "صحيح البخاري" .
واعلم أن صدر هذه الآية إيماء إلى الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في وفائه بقيام الليل حق الوفاء وعلى الطائفة الذين تابعوه في ذلك.
فالخبر بأن الله يعلم أنك تقوم مراد به الكناية عن الرضى عنه فيما فعلوا.
والمقصود: التمهيد لقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} إلى آخر الآية.
ولأجل هذا الاعتبار أعيد فعل {علم} في جملة {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الخ ولم يقل: وأن سيكون منكم مرضى بالعطف.
وجملة {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} معترضة بين جملتي {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} وجملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} وقد علمت مناسبة اعتراضها آنفا.
وجملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} يجوز أن تكون خبرا ثانيا عن {أن} بعد الخبر في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ} الخ.
ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا لما ينشأ عن جملة {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ} من
(29/263)

ترقب السامع لمعرفة ما مهد له بتلك الجملة، فبعد أن شكرهم على عملهم خفف عنهم منه.
والضمير المنصوب في {تحصوه} عائد إلى القيام المستفاد من {أَنَّكَ تَقُومُ} .
والإحصاء حقيقته: معرفة عدد شيء معدود مشتق من اسم الحصى جمع حصاة لأنهم كانوا إذا عدوا شيئا كثيرا جعلوا لكل واحد حصاة وهو هنا مستعار للإطاقة. شبهت الأفعال الكثيرة من ركوع وسجود وقراءة في قيام الليل، بالأشياء المعدودة، وبهذا فسر الحسن وسفيان، ومنه قوله في الحديث "استقيموا ولن تحصوا" أي ولن تطيقوا تمام الاستقامة، أي فخذوا منها بقدر الطاقة.
و {أن} مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف وخبره الجملة، وقد وقع الفصل بين {أن} وخبرها بحرف النفي لكون الخبر فعلا غير دعاء ولا جامد حسب المتبع في الاستعمال الفصيح.
و {أن} وجملتها سادة مسد مفعولي {علم} إذ تقديره علم عدم إحصائكموه واقعا.
وفرع على ذلك {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وفعل {تاب} مستعار لعدم المؤاخذة قبل حصول التقصير لأن التقصير متوقع فشابه الحاصل فعبر عن عدم التكليف بما يتوقع التقصير فيه، بفعل {تاب} المفيد رفع المؤاخذة بالذنب بعد حصوله.
والوجه أن يكون الخطاب في قوله: {تحصوه} وما بعده موجها إلى المسلمين الذين كانوا يقومون الليل: إما على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب بعد قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، وإما على طريقة العام المراد به الخصوص بقرينة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يضن تعذر الإحصاء عليه، وبقرينة قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} الخ.
ومعنى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} فصلوا ما تيسر لكم، ولما كانت الصلاة لا تخلوا عن قراءة القرآن اتبع ذلك بقوله هنا {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} ، أي صلوا كقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] أي صلاة الفجر وفي الكناية عن الصلاة بالقرآن جمع بين الترغيب في القيام والترغيب في تلاوة القرآن فيه بطريقة الإيجاز.
والمراد القرآن الذي كان نزل قبل هذه الآية المدنية وهو شيء كثير من القرآن المكي كله وشيء من المدني، وليس مثل قوله في صدر السورة {وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] كما علمت هنالك.
(29/264)

وقوله: {مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ} أي ما تيسر لكم من صلاة الليل فلا دلالة في هذه الآية على مقدار ما يجزئ من القراءة في الصلاة إذ ليس سياقها في هذا المهيع، ولئن سلمنا، فإن ما تيسر مجمل وقد بينة قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" ، وأما السورة مع الفاتحة فإنه لم يروا عنه أنه قرأ في الصلاة أقل من سورة، وهو واجب عند جمهور الفقهاء فيكره أن يقرأ المصلي بعض سورة في الفريضة. ويجوز في القيام بالقرآن في الليل وفي قيام رمضان، وعند الضرورة، ففي "الصحيح" "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فأخذته بحة فركع" أي في أثناء السورة.
وقال أو حنيفة وأحمد في رواية عنه: تجزئ قراءة آيه من القرآن ولو كانت قصيرة ومثلة الحنفية بقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:64] ولا تتعين فاتحة الكتاب وخالفه صاحباه في الأمرين.
وتعيين من تجنب له القراءة من منفرد وإمام ومأموم مبين في كتب الفقه.
وفعل {تاب} إذا أريد به قبول توبة التائب عدي بحرف {على} لتضمينه معنى من وإذا كان بمعنى الرجوع عن الذنب والذنب منه عدي بما يناسب.
وقد نسخت هذه الآية تحديد مدة قيام الليل بنصفه أو أزيد أو أقل ثلثه، وأصحب التحديد بالمقدار المتيسر من غير ضبط، أما حكم ذلك القيام فهو على ما تقدم شرحه.
{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} ، وهذا تخفيف آخر لأجل أحول أخرى اقتضت التخفيف.
وهذه حكمة أخرى لنسخ تحديد الوقت في قيام الليل وهي مراعاة أحوال طرأت على المسلمين من ضروب ما تدعو إليه حالة الجماعة الإسلامية. وذكر من ذلك ثلاثة أضرب هي أصول الأعذار:
الضرب الأول: أعذار اختلال الصحة وقد شملها قوله: {أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} .
الضرب الثاني: الأشغال التي تدعو إليها ضرورة العيش في تجارة وصناعة وحراثة
(29/265)

وغير ذلك، وقد أشار إليها قوله: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} . وفضل الله هو الرزق.
الضرب الثالث: أعمال لمصالح الأمة وأشار إليه بقوله: {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ودخل في ذلك حراسة الثغور والرباط بها، وتدبير الجيوش، وما يرجع إلى نشر دعوة الإسلام من إيفاد الوفود وبعث السفراء. وهذا كله من شؤون الأمة على الإجمال فيدخل في بعضها النبي صلى الله عليه وسلم كما في القتال في سبيل الله، والمرض ففي الحديث اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقيم ليلة أو ليلتين.
وإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى استقلال وقترة على أعدائهم فيقاتلون في سبيل الله وإن كانت مدنية فهو عذر لهم بما ابتدأوا فيه من السرايا والغزوات.
وقد كان بعض الصحابة يتأول من هذه الآية فضيلة التجارة والسفر للتجر حيث سوى الله بين المجاهدين والمكتسبين المال الحلال، يعني أن الله ما ذكر هذين السببين لنسخ تحديد القيام إلا تنويها بهما لأن في غيرهما من الأعذار ما هو أشبه بالمرض، ودقائق القرآن ولطائفه لا تنحصر.
روي عن ابن مسعود أنه قال أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين محتسبا فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء، وقرأ {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
وعن ابن عمر "ما خلق الله موتا بعد الموت في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رحلي أبتغي من فضل الله ضاربا في الأرض".
فإذا كانت هذه الآية مما نزل بمكة ففيها بشارة بأن أمر المسلمين صائر إلى قترة على عدوهم وإن كانت مدنية فهي عذر لهم بما عرض لهم.
ومعنى {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} يسيرون في الأرض.
وحقيقة الضرب: قرع جسم بجسم آخر، وسمي السير في الأرض ضربا في الأرض لتضمين فعل {يَضْرِبُونَ} معنى يسيرون فإن السير ضرب للأرض بالرجلين لكنه تنوسي منه معنى الضرب وأريد المشي فلذلك عدي بحرف {في} لأن الأرض ظرف للسير كما قال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] وقد تقدم عند قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
(29/266)

الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} في سورة النساء [101].
والابتغاء من فضل الله طلب الرزق قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي التجارة في مدح الحج، فقوله تعالى: {يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} مراد بالضرب في الأرض فيه السفر للتجارة لأن السير في الأسفار يكون في الليل كثير ويكون في النهار فيحتاج المسفر للنوم في النهار.
وفرع عليه مثل ما فرع على الذي قبله فقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} أي من القرآن.
وقد نيط مقدار القيام بالتيسير على جميع المسلمين وإن اختلفت الأعذار.
وهذه الآية اقتضت رفع وجوب قيام الليل عن المسلمين إن كان قد وجب عليهم من قبل على أحد الاحتمالين، أو بيان لم يوجب عليهم وكانوا قد التزموه فبين لهم أن ما التزموه من التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك غير لازم لهم. وعلل عدم وجوبه عليهم بأن الأمة يكثر فيها أصحاب الأعذار التي يشق معها قيام الليل فلم يجعله الله واجبا عليهم أو رفع وجوبه. ولولا اعتبار المظنة العامة لأبقي حكم القيام ورخص لأصحاب العذر في مدة العذر فقط فتبين أن هذا تعليل الحكم الشرعي على قول عائشة أم المؤمنين: "إن الصلاة فرضت ركعتين ثم زيد في ثلاث من الصلوات في الحضر وأبقيت صلاة السفر"، وعلة بقاء الركعتين هو مظنة المشقة في السفر.
وأوجب الترخص في قيام الليل أنه لم يكن ركنا من أركان الإسلام فلم تكن المصلحة الدينية قوية فيه.
وأما حكم القيام فهو ما دل عليه قوله: {قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] وما دلت عليه أدلة التحريض عليه من السنة. وقد مضى ذلك كله. فهذه الآية صالحة أن تكون أصلا للتعليل بالمظنة وصالحة لأن تكون أصلا تقاس عليه الرخصة العامة التي تراعى فيها مشقة غالب الأمة مثل رخصة بيع السلم دون الأحوال الفردية والجزئية.
وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} تذكير بأن الصلوات الواجبة هي التي تحرصون على إقامتها وعدم التفريط فيها كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
وفي هذا التعقيب بعطف الأمر بإقامة الصلاة إيماء إلى أن الصلوات الخمس ما
(29/267)

يرفع التبعة عن المؤمنين وأن قيام الليل نافلة لهم وفيه خير كثير وقد تضافرت الآثار على هذا ما هو في كتب السنة.
وعطف {وَآتُوا الزَّكَاةَ} تتميم لأن الغالب أنه لم يحل ذكر الصلاة من ذكر الزكاة معها حتى استنبط أبو بكر رضي الله عنه من ذلك أن مانع الزكاة يقاتل عليها، فقال لعمر رضي الله عنه "لأقاتلن بين من فرق بين الصلاة والزكاة".
وإقراض الله هو الصدقات غير الواجبة، شبه إعطاء الصدقة للفقير بقرض يقرضه الله لأن الله وعد على الصدقة بالثواب الجزيل فشابه حال معطي الصدقة مستجيبا رغبة الله فيه بحال من أقرض مستقرضا في أنه حقيق بأن يرجع إليه ما أقرضه، وذلك في الثواب الذي يعطاه يوم الجزاء.
ووصف القرض بالحسن يفيد الصدقة المراد بها وجه الله تعالى والسالمة من المن والأذى، والحسن متفاوت.
والحسن في كل نوع هو ما فيه الصفات المحمودة في ذلك النوع في بابه، ويعرف المحمود من الصدقة من طريق الشرع بما وصفه القرآن في حسن الصدقات وما ورد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وقد تقدم في سورة البقرة [245] قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} وفي سورة التغابن [17] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} .
{وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} .
تذييل لما سبق من الأمر في قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، فإن قوله: {مِنْ خَيْرٍ} يعم جميع فعل الخير.
وفي الكلام إيجاز حذف. تقدير المحذوف: وافعلوا الخير وما تقدموا لأنفسكم منه تجدوه عند الله، فاستغني عن المحذوف بذكر الجزاء على الخير.
و {ما} شرطية. ومعنى تقديم الخير: فعله في الحياة، شبه فعل الخير في مدة الحياة لرجاء الانتفاع بثوابه في الحياة الآخرة بتقديم العازم على السفر ثقله وأدواته وبعض أهله إلى المحل الذي يروم الانتهاء إليه ليجد ما ينتفع به وقت حصوله.
و {مِنْ خَيْرٍ} بيان لإبهام {ما} الشرطية.
(29/268)

والخير: هو ما وصفه الدين بالحسن ووعد على فعله بالثواب.
ومعنى {تَجِدُوهُ} يجدوا جزاءه وثوابه، وهو الذي قصده فاعله، فكأنه وجد نفس الذي قدمه، وهذا استعمال كثير في القرآن والسنة أن يعبر عن عوض الشيء وجزائه باسم المعوض عنه والمجازى به، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يكنز المال ولا يؤدي حقه "مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك أنا كنزك" .
وضمير الغائب في {تَجِدُوهُ} هو المفعول الأول ل"تجدوا" ومفعوله الثاني {خيرا} .
والضمير المنفصل الذي بينهما ضمير فعل، وجاز وقوعه بين معرفة ونكرة خلافا للمعروف في حقيقة ضمير الفصل من وجوب وقوعه بين معرفتين لأن أفعل من كذا أشبه المعرفة في أنه لا يجوز دخول حرف التعريف عليه.
و {خيرا} : اسم تفضيل، أي خيرا مما تقدمونه إذ ليس المراد أنكم تجدونه من جنس الخير، بل المراد مضاعفة الجزاء، لما دل عليه قوله تعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17] وغير ذلك من كثير من الآيات.
وأفاد ضمير الفصل هنا لمجرد التأكيد لتحقيقه.
وعطف {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} على {خيرا} أو هو منسحب عليه تأكيد ضمير الفصل1.
وانتصب {أجرا} على أنه تمييز نسبة لـ {أعظم} لأنه في معنى الفعل. فالتقدير: وأعظم أجره، كما تقول: وجدته منبسطا كفا، والمعنى: أن أجره خير وأعظم مما قدمتموه.
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
يجوز أن تكون الواو للعطف فيكون معطوفا على جملة {وَمَا تُقَدِّمُوا ِلأَنْفُسِكُمْ} الخ، فيكون لها حكم التذييل إرشاد لتدارك ما عسى أن يعرض من التفريط في بعض ما أمره الله بتقديمه من خير فإن ذلك يشمل الفرائض التي يقتضي التفريط في بعضها توبة منه.
ـــــــ
1 ضمير الفصل هنا وقع بين معرفة وهو الضمير المفعول الأول لفعل "تجده"، وبين ما هو بمنزلة المعرفة وهو اسم التفضيل لشبهه بالمعرفة في امتناع دخول حرف التعرف عليه كما ذكره في "المفصل" "والكشاف" .
(29/269)

ويجوز أن تكون الواو للاستئناف وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن الترخيص في ترك بعض القيام إرشادا من الله لما يسد مسد قيام الليل الذي يعرض تركه بأن يستغفر المسلم ربه إذا انتبه من أجزاء الليل، وهو مشمول لقوله تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ينزل ربنا كل ليلة1 إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" . وقال: "من تعار2 من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة لا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له" .
وجملة {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تعليل للآمر بالاستغفار، أي لأن الله كثير المغفرة شديد الرحمة. والمقصود في هذا التعليل الترغيب والتحريض على الاستغفار بأنه مرجو الإجابة. وفي الإتيان بالوصفين الدالين على المبالغة في الصفة إيماء إلى الوعد بالإجابة.
ـــــــ
1 هذا من المتشابه، وتأويله: أنه ينزل رضاه على عباده.
2 التعارر: التقلب على الفراش ليلا بعد نوم حين يتنبه النائم فيبدل جنبا عوض جنب.
(29/270)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر
تسمى في كتب التفسير "سورة المدثر" وكذلك سميت في المصاحف التي رأيناها ومنها كتب في القيروان في القرن الخامس.
وأريد بالمدثر النبي صلى الله عليه وسلم موصوفا بالحالة التي ندي بها، كما سميت بعض السور بأسماء الأنبياء الذين ذكروا فيها.
وأما تسمية باللفظ الذي وقع فيها، ونظيره ما تقدم في تسمية "سورة المزمل"، ومثله ما تقدم في سورة المجادلة من احتمال فتح الدال أو كسرها.
وهي مكية حكى الاتفاق على ذلك ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها في الإتقان في السور التي بعضها مدني. وذكر الآلوسي أن صاحب التحرير "محمد بن النقيب المقدسي المتوفى سنة 698 له تفسير" ذكر قول مقاتل أو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً} [المدثر:31] الخ نزل بالمدينة اه. ولم نقف على سنده في ذلك ولا رأينا ذلك لغيره وسيأتي.
قيل إنها ثانية السور نزولا وإنها لم ينزل قبلها إلا سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] وهو الذي جاء في حديث عائشة في الصحيحين في صفة بدأ الوحي "أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ثم قالت: ثم فتر الوحي". فلم تذكر نزول وحي بعد آيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} .
وكذلك حديث جابر بن عبد الله من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن من طرق كثيرة وبألفاظ يزيد بعضها على بعض. وحاصل ما يجتمع من طرقه: قال جابر بن عبد الله وهو
(29/271)

يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه رعبا فأتيت خديجة فقلت: دثروني فدثروني زاد غير ابن شهاب من روايته وصبوا علي ماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا" . قال النووي: صب الماء لتسكين الفزع. فأنزل الله {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} إلى {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1-5] ثم حمي الوحي وتتابع اه.
ووقع في صحيح مسلم عن جابر أنها أول القرآن سورة المدثر وهو الذي يقول في حديثه أن رسول الله يحدث عن فترة الوحي وإنما تقع الفترة بين شيئين فتقتضي وحيا نزل قبل سورة المدثر وهو ما بين في حديث عائشة.
وقد تقدم في صدر سورة المزمل قول جابر بن زيد: أن سورة القلم نزلت بعد سورة العلق وأن سورة المزمل ثالثة وأن سورة المدثر أربعة.
وقال جابر بن زيد: نزلت بعد المدثر سورة الفاتحة. ولا شك أن سورة المدثر نزلت قبل المزمل وأن عناد المشركين كان قد تزايد بعد نزول سورة المدثر فكان التعرض لهم في سورة المزمل أوسع.
وقد وقع في حديث جابر بن عبد الله في صحيح البخاري وجامع الترمذي من طريق ابن شهاب إن نزول هذه السورة كان قبل أن تفرض الصلاة.
والصلاة فرضت بعد فترة الوحي سواء كانت خمسة أو أقل وسواء كانت واجبة كما هو ظاهر قولهم: فرضت أم كانت مفروضة بمعنى مشروعة وفترة الوحي مختلف في مدتها اختلافا كثيرا فقيل كانت سنتين ونصفا، وقيل: أربعين يوما، وقيل: خمسة عشر يوما، والأصح أنها كانت أربعين يوما. فيظهر أن المدثر نزلت في السنة الأولى من البعثة وأن الصلاة فرضت عقب ذلك كما يشعر به ترتيب ابن إسحاق في سوق حوادث سيرته.
وعد أهل المدينة في عدهم الأخير الذي أرسوا عليه وأهل الشام آيها خمس وخمسين وعدها أهل البصرة والكوفة وأهل المدينة في عدهم الأول الذي رجعوا عنه ستا وخمسين.
(29/272)

أغراضها
جاء فيها من الأغراض تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والأمر بإبلاغ دعوة الرسالة.
وإعلان وحدانية الله بالإلهية.
والأمر بالتطهر الحسي والمعنوي.
ونبذ الأصنام.
والإكثار من الصدقات.
والأمر بالصبر.
وإنذار المشركين بهول البعث.
وتهديد من تصدى للطعن في القرآن وزعم أنه قول البشر وكفر الطاعن نعمة الله عليه فأقدم على الطعن في آياته مع علمه بأنها حق.
ووصف أهوال جهنم.
والرد على المشركين الذين استخفوا بها وزعموا قلة عدد حفظتها.
وتحدي أهل الكتاب بأنهم جهلوا عدد حفظتها.
وتأييسهم من التخلص من العذاب.
وتمثيل ضلالهم في الدنيا.
ومقابلة حالهم بحال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة والتصديق بيوم الجزاء.
[1-2] {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ} .
نودي النبي صلى الله عليه وسلم بوصفه حالة خاصة تلبس بها حين نزول السورة وهي أنه لما رأى الملك بين السماء والأرض فرق من رؤيته فرجع إلى خديجة فقال: "دثروني دثروني، أو قال زملوني، أو قال: زملوني" فدثروني، على اختلاف الروايات، والجمع بينها ظاهر فدثرته فنزلت {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} .
وقد مضى عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] ما في هذا النداء من
(29/273)

التكرمة والتلطف.
و {المدثر} : اسم فاعل من تدثر، إذا لبس الدثار، فأصله المتدثر أدغمت التاء في الدال لتقاربهما في النطق كما وقع في فعل ادعى.
والدثار: بكسر الدال: الثوب الذي يلبس فوق الثوب الذي يلبس مباشرا للجسد الذي يسمى شعارا. وفي الحديث الأنصار شعار والناس دثار.
فالوصف ب {المدثر} حقيقة، وقيل هو مجاز على معنى: المدثر بالنبوة، كما يقال ارتدى بالمجد وتأزر به على نحو ما قيل في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، أي يا أيها اللابس خلعة النبوة ودثارها.
وقيام المأمور به ليس مستعملا في حقيقته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حين أوحي إليه بهذا نائما ولا مضطجعا ولا هو مأمور بأن ينهض على قدميه وإنما هو مستعمل في الأمر بالمبادرة والإقبال والتهمم بالإنذار مجازا أو كناية.
وشاع هذا الاستعمال في فعل القيام حتى صار معنى الشروع في العمل من معاني مادة القيام مساويا للحقيقة وجاء بهذا المعنى في كثير من كلامهم، وعد ابن مالك في التسهيل فعل قام من أفعال الشروع. فاستعمال فعل القيام في معنى الشروع قد يكون كناية عن لازم القيام من العزم والتهمم كما في الآية، قال في الكشاف: قم قيام عزم وتصميم.
وقد يراد المعنى الصريح مع المعنى الكنائي نحو قول مرة بن محكان التميمي من شعراء الحماسة:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي والغربا
فإذا اتصلت بفعل القيام الذي هو بهذا المعنى الاستعمال جملة حصل من مجموعهما معنى الشروع في الفعل بجد وأنشدوا قول حسان بن المنذر:
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد
وقول الشاعر، وهو من شواهد النحو ولم يعرف قائله:
فقام يذود الناس عنها بسيفه ... وقال ألا لا من سبيل إلى هند
وأفادت فاء {فَأَنذِرْ} تعقيب إفادة التحفز والشروع في الأمر بإيقاع الإنذار.
(29/274)

ففعل {قم} منزل منزلة اللازم، وتفريع {فَأَنذِرْ} عليه يبين المراد من الأمر بالقيام.
والمعنى: يا أيها المدثر من الرعب لرؤية ملك الوحي لا تخف وأقبل على الإنذار.
والظاهر: أن هذه الآية أول ما نزل في الأمر بالدعوة لأن سورة العلق لم تتضمن أمرا بالدعوة. وصدر سورة المزمل تضمن أنه مسبوق بالدعوة لقوله فيه: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} [المزمل:15]، وقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل:11]. وإنما كان تكذيبهم بعد أن أبلغهم أنه رسول من الله إليهم وابتدئ بالأمر بالإنذار لأن الإنذار يجمع معاني التحذير من فعل شيء لا يليق وعواقبه فالإنذار حقيق بالتقديم قبل الأمر بمحامد الفعال لأن التخلية مقدمة على التحلية ودرء المفاسد مقدم جلب المصالح، ولأن غالب أحوال الناس يومئذ محتاجة إلى الإنذار والتحذير.
ومفعول {أنذر} محذوف لإفادة العموم، أي أنذر الناس كلهم وهم يومئذ جميع الناس ما عدا خديجة رضي الله عنها فإنها آمنت فهي جديرة بالبشارة.
[3] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
انتصب {ربك} على المفعولية لفعل {كبر} قدم على عامله إفادة الاختصاص، أي لا تكبر غيره، وهو قصر إفراد، أي دون الأصنام.
والواو عطفت جملة {رَبَّكَ فَكَبِّرْ} على جملة {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2].
ودخلت الفاء على "كبر" إيذانا بشرط محذوف يكون "كبر" جوابه، وهو شرط عام إذ لا دليل على شرط مخصوص وهيئ لتقدير الشرط بتقدم المفعول. لأن تقديم المعمول قد ينزل منزلة الشرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم "ففيهما فجاهد" "يعني الأبوين".
فالتقدير: مهما يكن شيء فكبر ربك.
والمعنى: أن لا يفتر عن الإعلان بتعظيم الله وتوحيده في كل زمان وكل حال وهذا من الإيجاز. وجوز ابن جني أن تكون الفاء زائدة قال: هو كقولك زيدا فاضرب، تريد: زيدا اضرب.
وتكبير الرب تعظيمه ففعل "كبر" يفيد معنى نسبة مفعوله إلى أصل مادة اشتقاقه وذلك من معاني صيغة فعل، أي أخبر عنه بخبر التعظيم، وهو تكبير مجازي بتشبيه الشيء المعظم بشيء كبير في نوعه بجامع الفضل على غيره في صفات مثله.
(29/275)

فمعنى {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} : صف ربك بصفات التعظيم، وهذا يشمل تنزيهه عن النقائص فيشمل توحيده بالإلهية وتنزيهه عن الولد، ويشمل وصفه بصفات الكمال كلها.
ومعنى "كبر": كبره في اعتقادك: وكبره بقولك تسبيحا وتعليما. ويشمل هذا المعنى أن يقول الله أكبر لأنه إذا قال هذه الكلمة أفاد وصف الله بأنه أكبر من كل كبير، أي أجل وأنزه من كل جليل، ولذلك جعلت هذه الكلمة افتتاحا للصلاة.
وأحسب أن في ذكر التكبير إيماء إلى شرع الصلاة التي أولها التكبير وخاصة اقترانه بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فإنه إيماء إلى شرع الطهارة، فلعل ذلك إعداد لشرع الصلاة، ووقع في رواية معمر عن الزهري عند مسلم أن قال: وذلك قبل أن تفرض الصلاة. فالظاهر أن الله فرض عليه الصلاة عقب هذه السورة وهي غير الصلوات الخمس فقد ثبت أنه صلى في المسجد الحرام.
[4] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} .
هو في النظم مثل نظم {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها كقول عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
كناية عن طعنه بالرمح
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33].
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا فتحصل أربعة معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوي بعضها بعضا وأقواها ما رواه الترمذي "إن الله نظيف يحب النظافة" . وقال: هو غريب.
والطهارة لجسده بالأولى.
(29/276)

ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأنه يعطف على {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} لأنه لما أمر بالصلاة أمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلا في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوة عليه. وفي كلام العرب: فلان نقي الثياب. وقال غيلان بن سلمة الثقفي:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس:
ثياب عوف طهارى نقية ... وأوجههم بيض المسافر غران
ودخول الفاء على فعل {فطهر} كما تقدم عند قوله: {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
وتقديم {ثيابك} على فعل "طهر" للاهتمام به في الأمر بالتطهير.
[5] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} .
{الرجز} : يقال بكسر الراء وضمها وهما لغتان فيه والمعنى واحد عند جمهور أهل اللغة. وقال أبو العلية والربيع والكسائي: الرجز بالكسر العذاب والنجاسة والمعصية، وبالضم الوثن. ويحمل الرجز هنا على ما يشتمل الأوثان وغيرها من آكل الميتة والدم.
وتقديم {الرجز} على فعل "اهجر" للاهتمام مهيع الأمر بتركه.
والقول في {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} كالقول في {ورَبَّكَ فَكَبِّرْ} .
والهجر: ترك المخالطة وعدم الاقتراب من الشيء. والهجر هنا كناية عن ترك التلبس بالأحوال الخاصة بأنواع الرجز لكل نوع بما يناسبه في عرف الناس.
والأمر بهجر الرجز يستلزم أن لا يعبد الأصنام وأن ينفي عنها الإلهية.
[6] {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} .
مناسبة عطف {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} على الأمر بهجر الرجز أن المن في العطية كثير من خلق أهل الشرك فلما أمره الله بهجر الرجز نهاه عن أخلاق أهل الرجز نهيا يقتضي
(29/277)

الأمر بالصدقة والإكثار منها بطريق الكناية فكأنه قال: وتصدق وأكثر من الصدقة ولا تمنن، أي لا تعد ما عطيته كثيرا فتمسك عن الازدياد فيه، أو تتطرق إليك ندامة على ما أعطيت.
والسين والتاء في قوله: {تَسْتَكْثِرُ} للعد، أي بعد ما أعطيته كثيرا.
وهذا من بديع التأكيد لحصول المأمور به جعلت الصدقة كالحاصلة، أي لأنها من خلقه صلى الله عليه وسلم إذ كان أجود الناس وقد عرف بذلك من قبل رسالته لأن الله هيأه لمكارم الأخلاق فقد قالت له خديجة في حديث بدء الوحي "إنك تحمل الكل وتكسب المعدوم". ففي هذه الآية إيماء إلى التصديق، كما كان فيها إيماء إلى الصلاة، ومن عادة القرآن الجمع بين الصلاة والزكاة.
والمن: تذكير المنعم المنعم عليه بإنعامه.
والاستكثار: عد الشيء كثيرا، أي لا تستعظم ما تعطيه.
وهذا النهي يفيد تعميم كل استكثار كيفما كان ما يعطيه من الكثرة. وللأسبقين من المفسرين تفسيرات لمعناه {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ليس شيء منها بمناسب، وقد أنهاها القرطبي إلى حد عشر.
و {تَسْتَكْثِرُ} جملة في وضع في موضع الحال من ضمير {تَمْنُنْ} وهي حال مقدورة.
[7] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تحمل ما يلقاه من أذى المشركين وعلى مشاق الدعوة.
والصبر: ثبات النفس وتحملها المشاق والآلام ونحوها.
ومصدر الصبر وما يشتق منه يتضمن معنى التحمل للشيء الشاق.
ويعدى فعل الصبر إلى اسم الذي يتحمله الصابر بحرف "على"، يقال: صبر على الأذى. ويتضمن معنى الخضوع للشيء الشاق فيعدي إلى اسم ما يتحمله الصابر باللام. ومناسبة المقام ترجح إحدى التعديتين، فلا يقال: اصبر على الله، ويقال: اصبر على حكم الله، أو لحكم الله. فيجوز أن تكون اللام في قوله: {لِرَبِّكَ} لتعدية فعل الصبر على تقدير مضاف. أي اصبر لأمره وتكاليف وحيه كما قال {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} في
(29/278)

سورة الطور [48] وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} في سورة الإنسان [24] فيناسب نداءة ب {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] لأنه تدثر من شدة وقع رؤية الملك، وترك ذكر المضاف لتذهب النفس إلى كل ما هو من شأن المضاف إليه مما يتعلق بالمخاطب.
ويجوز أن تكون اللام للتعليل، وحذف متعلق فعل الصبر، أي اصبر لأجل ربك على كل ما يشق عليك.
وتقديم {لربك} على "اصبر" للاهتمام بالأمور التي يصبر لأجلها مع الرعاية على الفاصلة، وجعل بعضهم اللام في {لربك} لام التعليل، أي اصبر على أذاهم لأجله، فيكون في معنى: إنه يصبر توكلا على أن الله يتولى جزاءهم، وهذا مبني على أن سبب نزول السورة ما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.
والصبر تقدم عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في [البقرة: 45]
وفي التعبير أن الله بوصف "ربك" إيماء إلى أن هذا الصبر بر بالمولى وطاعة له.
فهذه ست وصايا أوصى الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم في مبدأ رسالته وهي من جوامع كلامه أراد الله بها تزكية رسوله وجعلها قدوة لأمته.
[8-10] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} .
الفاء لتسبب هذا الوعيد عن الأمر بالإنذار في قوله: {فَأَنذِرْ} [المدثر:2]، أي فأنذر المنذرين وأنذرهم وقت النقر في الناقور وما يقع يومئذ بالذين انذروا فأعرضوا عن التذكرة، إذ الفاء يجب أن تكون مرتبطة بالكلام الذي قبلها.
ويجوز أن يكون معطوفا على {فَاصْبِرْ} [المدثر:7] بناء على أنه أمر بالصبر على أذى المشركين.
و {الناقور} : البوق الذي ينادى به الجيش ويسمى الصور وهو قرن كبير، أو شبهه ينفخ فيه النافخ لنداء ناس يجتمعون إليه من جيش ونحوه، وقال خفاف بن ندبة:
إذا ناقورهم يوم تبدى ... أجاب الناس من غرب وشرق
ووزنه فاعول وهو زنة لما يقع به الفعل من النقر وهو صوت اللسان مثل الصفير
(29/279)

فقوله نقر، أي صوت، أي صوت مصوت. وتقدم ذكر الصور في سورة الحاقة.
و"إذا" اسم زمان أضيف إلى جملة {نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} وهو ظرف وعامله ما دل عليه قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} لأنه من قوة فعل، أي عسر الأمر على الكافرين.
وفاء {فذلك} لجزاء "إذا" لأن "إذا" يتضمن معنى شرط.
والإشارة إلى مدلول "إذا نقر"، أي فذلك الوقت يوم عسير.
و {يومئذ} بدل من اسم الإشارة وقع لبيان اسم الإشارة على نحو ما يبين بالاسم المعروف ب"ال" في نحو {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:2].
ووصف اليوم بالعسير باعتبار ما يحصل فيه من العسر على الحاضرين فيه، فهو وصف مجازي عقلي. وإنما العسير ما يقع فيه من الأحداث.
و {عَلَى الْكَافِرِينَ} متعلق ب {عسير} .
ووصف اليوم ونحوه من أسماء الزمان بصفات أحداثه مشهور في كلامهم، قال السموأل، أو الحارثي:
وأيامنا مشهورة في عدونا ... لها غرر معلومة وحجول
وإنما الغرر و الحجول مستعارة لصفات لقائهم العدو في أيامهم. وفي المقامة الثلاثين لا عقد هذا العقد المبجل، في هذا اليوم الأخر المحجل، إلا الذي جال وجاب، وشب في الكدية وشاب وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} في سورة فصلت [16].
و {غَيْرُ يَسِيرٍ} تأكيد لمعنى {عسير} بمرادفه. وهذا من غرائب الاستعمال كما يقال: عاجلا غير آجل، قال طالب بن أبي طالب:
فليكن المغلوب غير الغالب ... وليكن المسلوب غير السالب
وعليه من غير التأكيد قوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام:140] {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56]. وأشار الزمخشري إلى أن فائدة هذا التأكيد يشعر به لفظ {غير} من المغايرة فيكون تعريضا بأن له حالة أخرى، وهي اليسر، أي على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين وإغاظتهم، وبشارة المؤمنين.
(29/280)

[11-16] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} .
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا}
لما جرى ذكر الكافرين في قوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المدثر: 9-10]. وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الخ. استئناف يؤذن بأن حدثا كان سببا لنزول هذه الآية عقب الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاوده الوحي بعد فترة وأنه أمر بالإنذار، ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتماع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، والعصي بن وائل، والمطعم بن عدي. فقالوا: إن وفود العرب ستقدم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الإخبار عنه. فمن قائل يقول: مجنون وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسموا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به فقام رجل منهم فقال: شاعر، فقال الوليد بن المغيرة: سمعت كلام أبي الأبرص يعني عبيد بن الأبرص وأمية بن أبي الصلت، وعرفت الشعر كلهو وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا: كاهن فقال الوليد: ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه. والكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يخنق فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، فقالوا: ساحر، قال الوليد: لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا أبا عبد شمس أصبأت? فقال الوليد: فكرت في أمر محمد وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: سحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته فقال ابن إسحاق: فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} الآيات.
(29/281)

وعن أبي نصر القشيري أنه قال: قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة: أنت ساحر فوجد من ذلك غما وحم فتدثر بثيابه فقال الله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2].
وأيا ما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعني بقوله تعالى: {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فإن كان قول الوليد صدر منه بعد نزول صدر هذه السورة فجملة {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} مستأنفة استئنافا ابتدائيا ولمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلا بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل، وما بينهما اعتراض، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوما على الأصح سواء نزل وحي بين بدء الوحي وفترته مدة أيام، أو لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعت فترته فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فاخذ المشركون بالاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وتصدير الجملة بفعل {ذرني} إيماء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتما ومغتما مما اختلقه الوليد بن المغيرة، فاتصاله بقوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} يزداد وضوحا.
وتقدم ما في النحو {ذرني} وكذا، من التهديد والوعيد للمذكور بعد واو المعية، في تفسير قوله تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} في سورة القلم [44].
وجيء بالموصول وصلته في قوله: {وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} لإدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد.
وانتصب {وحيدا} على الحال من {من} الموصولة.
والوحيد: المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام، أو شهرة أو قصة، وهو فعيل من وحد من باب كرم وعلم، إذا انفرد.
وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهو كثرة الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه من قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسن من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به. وجاء هذا الوصف بعد فعل {خَلَقْتُ} ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل {خَلَقْتُ} أي أوجدته وحيدا عن المال والبنين والبسطة، فيغير عن غرض المدح
(29/282)

والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حال كل مخلوق فتكون من قبيل قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل:78] الآية.
وعطف على ذلك {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً} عطف الخاص على العام.
والممدود: اسم مفعول من مد الذي بمعنى: أطال، بأن شبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم، أو من مد الذي بمعنى: زاد في الشيء من مثله، كما يقال: مد الوادي النهر، أي مالا مزيدا في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب. وكان الوليد من أوسع قريش ثراء. وعن ابن عباس: كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإبل والغنم والعبيد والجواري والجنان وكانت غلة ماله ألف دينار أي في السنة.
وامتن الله عليه بنعمة البنين ووصفهم بشهود جمع شاهد، أي حاضر، أي لا يفارقونه بل مستأنس بهم لا يشتغل باله بمغيبهم وخوف معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخرا له، قيل: كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابنا، والمذكور منهم سبعة، وهم: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وقيس أو أبو قيس، وعبد شمس وبه يكنى. ولم يذكر ابن حزم في جمهرة الأنساب: العاصي، واقتصر على ستة.
والتمهيد: مصدر مهد بتشديد الهاء الدال على قوة المهد. والمهد: تسوية الأرض وإزالة ما يقض جنب المضطجع عليها، ومهد الصبي تسمية بالمصدر.
والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.
وأكد {مَهَّدْتُ} بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز.
ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة. فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ} [القلم:10] الخ بناء على قول من قال: إن المراد به الوليد بن المغيرة وقد علمت أنها احتمال لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ يَطْمَعُ} للتراخي الرتبي، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في
(29/283)

الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يسر أموره. وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به بقوله: {كلا} .
والطمع: طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام أو لأنه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أمها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجا بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة.
ولهذه النكتة عدل عن أن يقال: يطمع في الزيادة، أو يطمع أن يزاد.
و {كلا} ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النعم وقطع لرجائه.
والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88].
وفي هذا الإبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]. ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
{إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلا للردع والإبطال، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفرانا للنعمة فكانت سببا لقطعها عنه إذ قد تجاوز حد الكفر إلى المناواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعما عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافا للأشعري، واختار المحققون أنه خلاف لفظي.
ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى: {كلا} .
والعنيد: الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فعيل من: عند يعند كضرب، إذا نازع وجادل الحق البين.
وعناده: هو محاولته الطعن في القرآن ومحاولته للتمويه بأنه سحر، أو شعر، أو كلام
(29/284)

كهانة، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش، قبل أن يلومه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة، وهو أن يقول: هو سحر، تشبثا بأن فيه خصائص الشعر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة.
[17-25] {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ، يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} .
جملة {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} معترضة بين {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} وبين {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مساءة له وتعجيل المسرة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} مبينة لجملة {إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} فهي تكملة وتبيين لها.
والإرهاق: الإتعاب وتحميل ما لا يطاق، وفعله رهق كفرح، قال تعالى: {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} في سورة الكهف [73].
والصعود: العقبة الشديدة التصعد الشاقة على الماشي وهي فعول مبالغة من صعد، فإن العقبة صعدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعدا من العقبات المعتادة قيل لها: صعود.
وكأن أصل هذا الوصف أن العقبة وصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسم جنس لها.
وقوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً} ، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له.
قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.
وقد وزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذكر عناده وهو من مقاصده السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء. ولما ذكر طعنه في القرآن بقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} وأنكر أنه وحي من الله بقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} أردف بذكر عذاب الآخرة بقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26].
(29/285)

وعن النبي صلى الله عليه وسلم "أن صعودا جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا" . رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري. وقال الترمذي: هو حديث غريب. فجعل الله صفة صعود علما على ذلك الجبل في جهنم. وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} .
وجملة {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} إلى آخرها بدل من جملة {إِنَّهُ كَانَ ِلأَيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:16] بدل اشتمال.
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف. فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.
ومعنى {فَكَّرَ} أعمل فكره وكرر نظر رأيه ليبتكر عذرا يموهه ويروجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أو حي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
و {قَدَّرَ} جعل قدرا لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما ينحله القرآن من أنواع كلام البشر أو ما يسم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفة أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفت الشعر وسمعت كلام الشعراء، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر. فهذا معنى {قَدَّرَ} .
وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} كلام معترض بين {فَكَّرَ} و {قَدَّرَ} وبين {ثُمَّ نَظَرَ} وهو إنشاء شتم مفرع على الإخبار عنه بأنه فكر وقدر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه.
فالفاء لتفريع ذمه عن سيئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43-44].
والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه. والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها. ومن زعموا: أن الاعتراض لا يكون
(29/286)

بالفاء فقد توهموا.
و {قتل} : دعاء عليه بأن يقتله قاتل، أي دعاء عليه بتعجيل موته لأن حياته حياة سيئة. وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاء له كقوله: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة30] وقولهم: عدمتك، وثكلته أمه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه. وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغا يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت. وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال. والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قدره ليس مما يغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعقد السحرة ولا نفثهم وبعد أن فكر قال {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} فناقض نفسه.
وقوله: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} تكيد لنظيره المفرع بالفاء. والعطف ب {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها في الغرض المسوق له الكلام. فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة. وهذا كقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4-5].
و {كَيْفَ قَدَّرَ} في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلق {كيف} .
والاستفهام موجه إلى سامع غير معين يستفهم المتكلم سامعه استفهاما عن حالت تقديره، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإنكار على وجه المجاز المرسل.
و {كيف} في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها {قَدَّرَ} .
وقوله: {ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} عطف على {وقَدَّرَ} وهي ارتقاء متوال فيما اقتضى التعجيب من حاله والإنكار عليه. فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمن لأن نظره وعبوسه وبسره وإدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.
والنظر هنا: نظر العين ليكون زائدا على ما أفاده {فَكَّرَ وَقَدَّرَ} . والمعنى: نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آرائهم في انتحال ما يصفون به القرآن.
وعبس: قطب وجهه لما استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمزا مقبولا.
(29/287)

و {بسر} : معناه كلح وجهه وتغير لونه خوفا وكمدا حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول، قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، َظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} في سورة القيامة [24-25].
والإدبار: هنا يجوز أن يكون مستعارا لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدره يائسا من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى.
ويجوز أن يكون مستعارا لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} حكاية عن فرعون في سورة النازعات [22].
وصفت أشكاله التي تشكل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن وذلك تهكم بالوليد.
وصيغة الحصر في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال: ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون، كما تقدم في خبره.
ووصف هذا السحر بأنه مأثور، أي مروي عن الأقدمين، يقول هذا ليدفع به اعتراضا يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.
وجملة {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} بدل اشتمال من جملة {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} بأن السحر يكون أقوالا وأفعالا فهذا من السحر القولي. وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أن القرآن ليس وحيا من الله.
وعطف قوله: {فقال} بالفاء لأن هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقا بأن يعطف بحرف التعقيب.
[26-30] {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} .
جملة {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}
(29/288)

[المدثر:17] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.
ويجوز أن تكون بدلا من جملة {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} 1. والإصلاء: جعل الشيء صاليا، أي مباشرا حر النار. وفعل صلي يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدفئ كقول الحارث بن حلزة:
فتنورت نارها من بعيد ... بخزازى أيان منك الصلاء
أي أنت بعيد من التدفئ بها وكما قال حميد بن ثور:
لا تصطلي النار إلا مجمرا أرجا ... قد كسرت في يلنجوج له وقصا
ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} في سورة أبي لهب [3] وقال {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى} في سورة الليل [14-15]، وقال {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} في سورة النساء [10] والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإحراق كقوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} في سورة النساء [30]. ومنه قوله هنا {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} .
وسقر: علم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السادس من جهنم. قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي اه. واقتصر عليه ابن عطية. وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسرون سقر بما يرادف جهنم.
وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: {لا تُبْقِي} إلى قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} . وقيل سقر معرب نقله في الإتقان عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعربة ولا من أية لغة هو.
و {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} جملة حالية من {سَقَرُ} ، أي سقر التي حالها لا ينبئك به منبئ وهذا تهويل لحالها.
و {مَا سَقَرُ} في محل مبتدأ وأصله سقر ما، أي ما هي، فقدم {ما} لأنه اسم استفهام وله الصدارة.
فإن {ما} الأولى استفهامية. والمعنى: أي شيء يدريك، أي يعلمك.
ـــــــ
1 في المطبوعة: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} والمثبت من "الكشاف" (4/183) ط. دار الفكر.
(29/289)

و {ما} الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن {سَقَرُ} .
وجملة {لا تُبْقِي} بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} ، فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها. والجملة خبر ثان عن سقر.
وحذف مفعول {تبقى} لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحدا أو لا تبقي من أجزائهم شيئا.
وجملة {وَلا تَذَرُ} عطف على {لا تُبْقِي} فهي في معنى الحال. ومعنى {لا تَذَرُ} ، أي لا تترك من يلقى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها. وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56].
و {لَوَّاحَةٌ} : خبر ثالث عن {سَقَرُ} . و {لَوَّاحَةٌ} فعالة، من اللوح وهو تغيير الذات من ألم ونحوه وقال الشاعر، وهو من شواهد الكشاف ولم أقف على قائله:
تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر
والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سوداء، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.
وقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} خبر رابع عن {سَقَرُ} من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} .
ومعنى {عليها} على حراستها، ف"على" للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر ملكا.
وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.
وقيل: تسعة عشر صنفا من الملائكة وقيل تسعة عشر صفا. وفي تفسير الفخر : ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها: أحدها قول أهل الحكمة إن سبب فساد النفس هو القوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعية فهي: المجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة، فهذه سبعة، فتلك تسعة عشرة. فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اه.
والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزعون على دركات سقر أو جهنم لكل درك
(29/290)

ملك فلعل هذه الدركات معين كل درك منها لأهل شعبة من شعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} في سورة النساء [145] فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الآلهة، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشياطين والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإباحية ولو مع إثبات الإله الواحد.
وفي ذكر هذا العدد تحد لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر:31].
وقرأ الجمهور {تِسْعَةَ عَشَرَ} بفتح العين من {عشر} . وقرأ أبو جعفر {تسعة عشر} بسكون العين من {عشر} تخفيفا لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد. ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة.
[31] {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} .
روى الطبري عن ابن عباس وجابر بن زيد إن أبا جهل لما سمع قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم1 أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم? فقال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} ، أي ما جعلناهم رجالا فيأخذ كل رجل رجلا، فمن ذا يغلب الملائكة اه.
وفي "تفسير القرطبي" عن السدي: أن أبا الأشد بن كلدة الجمحي قال مستهزئا: لا
ـــــــ
1 الدهم بفتح الدال وسكون الهاء: الجماعة الكثيرة، ويقال: الدهماء.
(29/291)

يهولنكم التسعة عشر، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر تسعة ثم تمرون إلى الجنة، وقيل: قال الحارث بن كلدة: أنا أكفيكم سبعة عشرة واكفوني أنتم اثنين، يريد التهكم مع إظهار فرط قوته بين قومه.
فالمراد من {أَصْحَابَ النَّارِ} خزنتها، وهم المتقدم ذكرهم بقوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30].
والاستثناء من عموم الأنواع، أي ما جعلنا خزنة النار من نوع إلا من نوع الملائكة.
وصيغة القصر تفيد قلب اعتقاد أبي جهل وغيره ما توهموه أو تظاهروا بتوهمه أن المراد تسعة عشر رجلا فطمع أن يخلص منهم هو وأصحابه بالقوة فقد قال أبو الأشد بن أسيد الجمحي: لا يبلغون ثوبي حتى أجهضهم عن جهنم، أي أنحيهم.
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} تتميم في إبطال توهم المشركين حقارة عدد خزنة النار، وهو كلام جار على تقدير الأسلوب الحكيم إذ الكلام قد أثار في النفوس تساؤلا عن فائدة جعل خزنة جهنم تسعة عشر وهلا كانوا آلافا ليكون مرآهم أشد هولا على أهل النار، أو هلا كانوا ملكا واحدا فإن قوى الملائكة تأتي كل عمل يسخرها الله له، فكان جواب هذا السؤال: أن هذا العدد قد أظهر لأصناف الناس مبلغ فهم الكفار للقرآن. وإنما حصلت الفتنة من ذكر عددهم في الآية السابقة. فقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} تقديره: وما جعلنا ذكر عدتهم إلا فتنة، ولاستيقان الذين أوتوا الكتاب، وازدياد الذين آمنوا إيمانا، واضطراب الذين في قلوبهم مرض فيظهر ضلال الضالين واهتداء المهتدين. فالله جعل عدة خزنة النار تسعة عشر لحكمة أخرى غير ما ذكر هنا اقتضت ذلك الجعل يعلمها الله.
والاستثناء مفرغ لمفعول ثان لفعل {جعلنا} تقديره جعلنا عدتهم فتنة لا غير، ولما كانت الفتنة حالا من أحوال الذين كفروا لم تكن مراد منها ذاتها بل عروضها للذين كفروا فكانت حالا لهم.
والتقدير: ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا؛ فانتصب {فتنة} على أنه مفعول ثان لفعل {جعلنا} على الاستثناء المفرغ، وهو قصر قلب للرد على الذين كفروا إذ اعتقدوا أن عدتهم أمر هين.
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الخ. علة ثانية لفعل {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا
(29/292)

فِتْنَةً} . ولولا أن كلمة {فِتْنَةً} منصوبة على المفعول به لفعل {جَعَلْنَا} . لكان حق {لِيَسْتَيْقِنَ} أن يعطف على {فِتْنَةً} ولكنه جاء في نظم الكلام متعلقا بفعل {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} .
ويجوز أن يكون {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} متعلقا بفعل {جَعَلْنَا} وب {فِتْنَةً} ، على وجه التنازع فيه، أي ما جعلنا عدتهم للذين كفروا إلا فتنة لهم إذ لم يحصل لهم من ذكرها إلا فساد التأويل، وتلك العدة مجعولة لفوائد أخرى لغير الذين كفروا الذين يفوضون معرفة ذلك إلى علم الله وإلى تدبر مفيد.
والاستيقان: قوة اليقين، فالسين والتاء فيه للمبالغة. والمعنى: ليستيقنوا صدق القرآن حيث يجدون هذا العدد مصدقا لما في كتبهم.
والمراد ب {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} اليهود حين يبلغهم ما في القرآن متن مثل ما في كتبهم أو أخبارهم. فكان اليهود يترددون على مكة في التجارة ويتردد عليهم أهل مكة للميرة في خيبر وقريظة ويثرب فيسأل بعضهم بعضا عما يقول محمد صلى الله عليه وسلم ويود المشركون لو يجدون عند اليهود ما يكذبون به أخبار القرآن ولكن ذلك لم يجدوه ولو وجدوه لكان أيسر ما يطعنون به في القرآن.
والاستيقان من شانه أن يعقبه الإيمان إذا صادف عقلا بريئا من عوارض الكفر كما وقع لعبد الله بن سلام وقد لا يعقبه الإيمان لمكابرة أو حسد أو إشفاق من فوات جاه أو مال كما كان شأن كثير من اليهود الذين قال الله فيهم {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146] ولذلك اقتصرت الآية على حصول الاستيقان لهم.
روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة النار?. قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا. فجاء رجل إلى النبي فقال: يا محمد غلب أصحابكم اليوم، قال: "وبم غلبوا" قال سألهم اليهود: هل يعلم نبيكم عدد خزنت النار، قال: "فما قالوا?" قال: قالوا لا ندري حتى نسأل نبينا، قال: "أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون?" فقالوا: قالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا إلى أن قال جابر: فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنه جهنم? قال. "هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة عشرة وفي مرة تسع بإشارة الأصابع" قالوا: نعم إلخ. وليس في هذا ما يلجىء إلى اعتبار هذه الآية نازلة بالمدينة كما روي عن قتادة لأن المراجعة بين
(29/293)

المشركين واليهود في أخبار القرآن مألوفة من وقت كون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة.
قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : حديث جابر صحيح والآية التي فيها {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] مكية بإجماع، فكيف تقول اليهود هذا ويدعوهم النبي للجواب وذلك كان بالمدينة، فيحتمل أن الصحابة قالوا: لا نعلم، لأنهم لم يكونوا قرأوا الآية ولا كانت انتشرت عندهم أي لأنهم كانوا من الأنصار الذين لم يتلقوا هذه الآية من سورة المدثر لبعد عهد نزولها بمكة والذين كانوا يجتمعون باليهود ويسألهم اليهود هم الأنصار. قال: ويحتمل أن الصحابة لم يمكنهم لأن يعينوا أن التسعة عشر هم الخزنة دون أن يعينهم الله حتى صرح به النبي صلى الله عليه وسلم اه. فقد ظهر مصداق قوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بعد سنين من وقت نزوله.
ومعنى {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} أنهم لا يؤمنون به في جملة ما يؤمنون به من الغيب فيزداد في عقولهم جزئي في جزئيات حقيقية إيمانه بالغيب، فهي زيادة كمية لا كيفية لأن حقيقة الإيمان التصديق والجزم وذلك لا يقبل الزيادة، وبمثل هذا يكون تأويل كل ما ورد في زيادة الإيمان من أقوال الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
وقوله: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} عطف على {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ، أي لينتفي عنهم الريب فلا تعتروهم شبهة من بعد علمه لأنه إيقان عن دليل. وإن كان الفريقان في العمل بعلمهم متفاوتين، فالمؤمنون علموا وعملوا، والذين أوتوا الكتاب علموا وعاندوا فكان علمهم حجة عليهم وحسرة في نفوسهم.
والمقصود من ذكره التمهيد لذكر مكابرة الذين في قلوبهم مرض والكافرين في سوء فهمهم لهذه العدة تمهيدا بالتعريض قبل التصريح، لأنه إذا قيل {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} شعر الذين في قلوبهم مرض والكافرون بأنهم لما ارتابوا في ذلك فقد كانوا دون مرتبة الذين أوتوا الكتاب لأنهم لا ينازعون في أن الذين أوتوا الكتاب أرجح منهم عقولا وأسد قولا، ولذلك عطف عليه {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ، أي ليقولوا هذا القول إعرابا عما في نفوسهم من الطعن في القرآن غير عالمين بتصديق الذين أوتوا الكتاب.
واللام لام العاقبة مثل التي في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
(29/294)

والمرض في القلوب: هو سوء النية في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم الذين لم يزالوا في تردد بين أن يسلموا وأن يبقوا على الشرك مثل الأخنس بن شريق والوليد بن المغيرة، وليس المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون لأن المنافقين ما ظهروا إلا في المدينة بعد الهجرة والآية مكية.
و {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ} استفهام إنكاري فإن "ما" استفهامية، و"ذا" أصله اسم إشارة فإذا وقع بعد "ما" أو "من" الاستفهاميتين أفاد معنى الذي، فيكون تقديره: ما الأمر الذي أراده الله بهذا الكلام في حال أنه مثل، والمعنى: لم يرد الله هذا العدد الممثل به، وقد كني بنفي إرادة الله العدد عن إنكار أن يكون الله قال ذلك، والمعنى: لم يرد الله العدد الممثل به فكنوا بنفي إرادة الله وصف هذا العدد عن تكذيبهم أن يكون هذا العدد موافقا للواقع لأنهم ينفون فائدته وإنما أرادوا تكذيب أن يكون هذا وحيا من عند الله.
والإشارة بهذا إلى قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30].
و {مثلا} منصوب على الحال من هذا، والمثل: الوصف، أي بهذا العدد وهو تسعة عشر، أي ما الفائدة في هذا العدد دون غيره مثل عشرين.
والمثل: وصف الحالة العجيبة، أي ما وصفه من عدد خزنة النار كقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد:15] الآية.
وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} في سورة البقرة [26].
{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}
اسم الإشارة عائد إلى ما تضمنه الكلام المتقدم من قوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إلى قوله: {مثلا} بتأويل ما تضمنه الكلام، بالمذكور، أي مثل ذلك الضلال الحاصل للذين في قلوبهم مرض وللكافرين، والحاصل للذين أوتوا الكتاب بعد أن استيقنوا فلم يؤمنوا يضل الله من يشاء أن يضله من عباده، مثل ذلك الهدى الذي اهتداه المؤمنون فزادهم إيمانا مع إيمانهم يهدي الله من يشاء.
والغرض من هذا التشبيه تقريب المعنى المعقول وهو تصرف الله تعالى بخلق أسباب الأحوال العارضة للبشر، إلى المعنى المحسوس المعروف في واقعة الحال، تعليما
(29/295)

للمسلمين وتنبيها للنظر في تحصيل ما ينفع نفوسهم.
ووجه الشبه هو السببية في اهتداء من يهتدي وضلال من يضل، في أن كلا من المشبه والمشبه به جعله الله سببا وإرادة لحكمة اقتضاها علمه تعالى فتفاوت الناس في مدى إفهامهم فيه بين مهتد ومرتاب مختلف المرتبة في ريبه، ومكابر كافر وسيء فهم كافر.
وهذه الكلمة عظيمة في اختلاف تلقي العقول للحقائق وانتفاعهم بها أو ضده بحسب اختلاف قرائحهم وفهومهم وتراكيب جبلاتهم المتسلسلة من صواب إلى مثله، أو من تردد واضطراب إلى مثله، أو من حنق وعناد إلى مثله، فانطوى التشبيه من قوله: {كذلك} على أحوال وصور كثيرة تظهر في الخارج.
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى باعتبار أنه موجد الأسباب الأصلية في الجبلات، واقتباس الأهواء وارتباط أحوال العالم بعضها ببعض، ودعوة الأنبياء والصلحاء إلى الخير، ومقاومة أيمة الضلال لتلك الدعوات. تلك الأسباب التي دلت بالضالين إلى ضلالهم وبالمهتدين إلى هداهم. وكل من خلق الله. فما على الأنفس المريدة الخير والنجاة إلا التعرض لأحد المهيعين بعد التجرد والتدبر {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286].
ومشيئة الله في ذلك تعلق علمه بسلوك المهتدين والضالين.
ومحل {كذلك} نصب بالنيابة عن المفعول المطلق لأن الجار والمجرور هنا صفة لمصدر محذوف دلت عليه الصفة، والتقدير: يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء إضلالا وهديا وكذلك الإضلال والهدي. وليس هذا من قبيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].
وقدم وصف المفعول المطلق للاهتمام بهذا التشبيه لما يرشد إليه من تفصيل عند التدبر فيه، وحصل من تقديمه محسن الجمع ثم التقسيم إذ جاء تقسيمه بقوله: {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} .
كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها الضالون ومرضى القلوب عند سماع
(29/296)

الأخبار عن عالم الغيب وأمور الآخرة من نحو: ما هذا به أبو جهل في أمر خزنة جهنم يشمل ذلك وغيره، فلذلك كان لهذه الجملة حكم التذييل.
والجنود: جمع جند وهو اسم لجماعة الجيش واستعير هنا للمخلوقات التي جعلها الله لتنفيذ أمره لمشابهتها الجنود في تنفيذ المراد.
وإضافة رب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إضافة تشريف، وتعريض بأن من شأن تلك الجنود أن بعضها يكون به نصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونفي العلم هنا نفي للعلم التفصيلي بأعدادها وصفاتها وخصائصها بقرينة المقام، فإن العلم بعدد خزنة جهنم قد حصل للناس بإعلام من الله لكنهم لا يعلمون ما وراء ذلك.
{وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} .
وفيه معان كثيرة أعلاها أن يكون هذا تتمة لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على أن يكون جاريا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن النافع لكم أن تعلموا أن الخبر عن خزنة النار بأنهم تسعة عشر فائدته أن يكون ذكرى للبشر ليتذكروا دار العقاب بتوصيف بعض صفاتها لأن في ذكر الصفة عونا على زيادة استحضار الموصوف، فغرض القرآن الذكرى، وقد اتخذه الضالون ومرضى القلوب لهوا وسخرية ومراء بالسؤال عن جعلهم تسعة عشر ولم لم يكونوا عشرين أو مآت أو آلافا.
وضمير {هي} على هذا الوجه راجع إلى {عدتهم} .
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكلام السابق وتأنيث ضميره لتأويله بالقصة أو الصفة أو الآيات القرآنية.
والمعنى: نظير المعنى على الاحتمال الأول.
ويحتمل أن يرجع إلى {سقر} وإنما تكون {ذكرى} باعتبار الوعيد بها وذكر أهوالها.
والقصر متوجه إلى مضاف محذوف يدل عليه السياق تقديره: وما ذكرها أو وصفها أو نحو ذلك.
ويحتمل أن يرجع ضمير {هي} إلى {جُنُودَ رَبِّكَ} والمعنى المعنى، والتقدير التقدير، أي وما ذكرها أو عدة بعضها.
(29/297)

وجوز الزجاج أن يكون الضمير راجعا إلى نار الدنيا، أي أنها تذكر الناس بنار الآخرة، يريد أنه من قبيل قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 71-73]. وفيه محسن الاستخدام.
وقيل المعنى: وما عدتهم إلا ذكرى للناس ليعلموا غنى الله عن الأعوان والجند فلا يظلوا في استقلال تسعة عشر تجاه كثرة أهل النار.
وإنما حملت الآية هذه المعاني بحسن موقعها في هذا الموضع وهذا من بلاغة نظم القرآن. ولو وقعت أثر قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] لتمحض ضمير {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى} للعود إلى سقر، وهذا من الإعجاز بمواقع جمل القرآن كما في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وبين لفظ البشر المذكور هنا ولفظ البشر المتقدم في قوله: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} لتجنيس التام.
[32-37] { كَلاَّ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ، إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ، نَذِيرًا لِلْبَشَرِ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} .
{كَلاَّ}
{كلا} حرف ردع وإبطال. والغالب أن يقع بعد كلام من متكلم واحد أو من متكلم وسامع مثل قوله تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِي} [الشعراء: 61-62] فيفيد الردع عما تضمنه الكلام المحكي قبله. ومنه قوله تعالى: {كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} في سورة مريم [79]، ويجوز تقديمه على الكلام إذا أريد التعجيل بالردع والتشويق إلى سماع ما بعده، وهو هنا محتمل لأن يكون إبطالا لما قبله من قولهم: فإذا أراد الله بهذا مثلا، فيكون ما بينهما اعتراضا ويكون قوله: {والقمر} ابتداء كلام فيحسن الوقوف على {كلا} . ويحتمل أن يكون حرف إبطال مقدما على الكلام الذي بعده من قوله: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} وتقديم اهتمام لإبطال ما يجيء بعده من مضمون قوله: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} ، أي من حقهم أن ينتذروا بها فلم ينتذر أكثرهم على نحو معنى قوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] فيحسن أن توصل في القراءة بما بعدها.
{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ
(29/298)

شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ}
الواو المفتتح بها هذه الجملة واو القسم، يجوز أن يكون تذييلا لما لما قبله مؤكدا لما أفادته {كلا} من الإنكار والإبطال لمقالتهم في شأن عدة خزنة النار، فتكون جملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} تعليلا للإنكار الذي أفادته {كلا} ويكون ضمير {إنها} عائد إلى {سَقَرَ} [المدثر:26] أي هي جديرة بأن يتذكر بها فلذلك كان من لم يتذكر بها حقيقا بالإنكار عليه وردعه.
وجملة القسم على هذا الوجه معترضة وتعليلها، ويحتمل أن يكون القسم صدرا للكلام الذي بعده وجملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} جواب القسم والضمير راجع إلى {سَقَرَ} ، أي أن سقر لأعظم الأهوال، فلا تجزي في معاد ضمير {إنها} جميع الاحتمالات التي جرت في ضمير {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى} .
وهذه ثلاثة أيمان لزيادة التأكيد فإن التأكيد اللفظي إذا أكد بالتكرار يكرر ثلاث مرات غالبا، أقسم بمخلوق عظيم، وبحالين عظيمين من آثار قدرة الله تعالى.
ومناسبة القسم ب {وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} أن هذه الثلاثة تظهر بها أنوار في خلال الظلام فناسبت حالي الهدي والضلال من قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ومن قوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} ففي هذا القسم تلويح إلى تمثيل حال الفريقين من الناس عند نزول القرآن بحال اختراق النور في الظلمة.
وإدبار الليل: اقتراب تقضيه عند الفجر، وإسفار الصبح: ابتداء ظهور ضوء الفجر.
وكل من {إذ} و {إذا} واقعان اسمي زمان منتصبان على الحال من الليل ومن الصبح، أي أقسم به في هذه الحالة العجيبة الدالة على النظام المحكم المتشابه لمحو الله ظلمات الكفر بنور الإسلام قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم:1].
وقد أجريت جملة {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} مجرى المثل.
ومعنى {إحدى} أنها المتوحدة المتميزة من بين الكبر في العظم لا نظير لها كما يقال: هو أحد الرجال لا يراد: أنه واحد منهم، بل يراد: أنه متوحد فيهم بارز ظاهر، كما تقدم في قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11]. وفي المثل "هذة إحدى حظيات لقمان".
(29/299)

وقرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب وخلف {إِذْ أَدْبَرَ} بسكون ذال {إذ} وبفتح همزة {أدبر} وإسكان داله، أقسم بالليل في حالة إدباره التي مضت وهي حالة متجددة تمضي وتحضر وتستقبل، فأي زمن اعتبر معها فهي حقيقة بأن يقسم بكونها فيه، ولذلك أقسم بالصبح إذا أسفر مع اسم الزمن المستقبل. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر {إذا دبر} بفتح الذال المعجمة من {إذا} بعدها ألف، وبفتح الدال المهملة من دبر على أنه فعل مضي مجرد، يقال: دبر: بمعنى أدبر، ومنه وصفه بالدابر في قولهم:أمس الدابر، كما يقال: قبل بمعنى أقبل، فيكون القسم بالحالة المستقبلة من إدبار الليل بعد نزول الآية، على وزان {إذا أسفر} في قراءة الجميع، وكل ذلك مستقيم فقد حصل في قراءة نافع وموافقيه تفنن في القسم.
و {الكبر} : جمع الكبرى في نوعها، جمعوه هذا الجمع على غير قياس بابه لأن فعلى حقها أن تجمع جمع سلامة على كبريات، وأما بنية فعل فإنها جمع تكسير لفعلة كغرفة وغرف، لكنهم حملوا المؤنث بالألف على المؤنث بالهاء لأنهم تأولوه بمنزلة اسم للمصيبة العظيمة ولم يعتبروه الخصلة الموصوفة بالكبر، أي أنثى الأكبر فلذلك جعلوا ألف التأنيث التي فيه بمنزلة هاء التأنيث فجمعوه كجمع المؤنث بالهاء من وزن فعلة ولم يفعلوا ذلك في أخواته مثل عظمى.
وانتصب {نذيرا} على الحال من ضمير {إنها} ، أي إنها لعظمى العظائم في حال إنذارها للبشر وكفى بها نذيرا.
والنذير: المنذر، وأصله وصف بالمصدر لأن {نذيرا} جاء في المصادر كما جاء النكير، والمصدر إذا وصف به أو أخبر به يلزم الإفراد والتذكير، وقد كثر الوصف ب"النذير" حتى صار بمنزلة الاسم للمنذر.
وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} بدل مفصل من مجمل من قوله: {للبشر} ، وأعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27-28] وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيدًا ِلأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة:114]. والمعنى: إنها نذير لمن شاء أن يتقدم إلى الإيمان والخير لينتذر بها، ولمن شاء أن يتأخر عن الإيمان والخير فلا يرعوي بنذارتها لأن التقدم مشي إلى جهة الأمام فكأن المخاطب يمشي إلى جهة الداعي إلى الإيمان وهو كناية عن قبول ما يدعو
(29/300)

إليه، وبعكسه التأخر، فحذف متعلق {يتقدم} و {يتأخر} لظهوره من السياق.
ويجوز أن يقدر: لمن شاء أن يتقدم إليها، أي إلى سقر بالإقدام على الأعمال التي تقدمه إليها، أو يتأخر عنها بتجنب ما من شأنه أن يقربه منها.
وتعليق {نذيرا} بفعل المشيئة إنذار لمن لا يتذكر بأن عدم تذكره ناشئ عن عدم مشيئته فتبعته عليه لتفريطه على نحو قول المثل يداك أوكتا وفوك نفخ، وقد تقدم في سورة المزمل [19] قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} . وفي ضمير {منكم} التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن مقتضى الظاهر أن يقال: لمن شاء منهم، أي من البشر.
[38-48] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
استئناف بياني للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] أي كل إنسان رهن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم.
ورهينة: خبر عن {كُلُّ نَفْسٍ} وهو بمعنى مرهونة.
والرهن: الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدين، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه: فرسا رهان، وكلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت من المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانا لئلا يخيس القوم بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.
وبهذا يكون قوله: {كُلُّ نَفْسٍ} مرادا به خصوص أنفس المنذرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة، أي قرينة ما تعطيه مادة رهينة من معنى الحبس والأسر.
والباء للمصاحبة لا للسببية.
(29/301)

وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديد أهل الشر.
و {رهينة} : مصدر بزون فعيلة كالشتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفعولة والفعالة، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثل قتيلة، إذ لو قصد الوصف لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا، والإخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مسور بن زيادة الحارثي:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل
ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلا لما كان موجب للتأنيث.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} استثناء منقطع.
و {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} : هم أهل الخير جعلت علاماتهم في الحشر بجهات اليمين في مناولة الصحف وفي موقف الحساب وغير ذلك. فاليمين هو جهة أهل الكرامة في الاعتبار كجهة يمين العرش أو يمين مكان القدس يوم الحشر لا يحيط بها وصفنا وجعلت علامة أهل الشر الشمال في تناول صحف أعمالهم وفي مواقفهم وغير ذلك.
وقوله: {فِي جَنَّاتٍ} يجوز أن يكون متعلقا بقوله: {يَتَسَاءَلُونَ} قدم للاهتمام، و {يَتَسَاءَلُونَ} حال من {أَصْحَابَ الْيَمِينِ} وهو مناط التفصيل الذي جيء لأجله بالاستثناء المنقطع.
ويجوز أن يكون في جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم في جنات. والجملة استئناف بياني لمضمون جملة الاستثناء ويكون يتساءلون حالا من الضمير المحذوف.
ومعنى {يَتَسَاءَلُونَ} يجوز أن يكون على ظاهر صيغة التفاعل للدلالة على صدور الفعل من جانبين، أي يسأل أصحاب اليمين بعضهم بعضا عن شأن المجرمين، وتكون جملة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} بيانا لجملة {يَتَسَاءَلُونَ} . وضمير الخطاب في قوله: {سَلَكَكُمْ} يؤذن بمحذوف. والتقدير: فيسألون المجرمين ما سلككم في سقر، وليس التفاتا، أو يقول بعض المسؤولين لأصحابهم جوابا لسائليهم قلنا لهم: ما سلككم في سقر.
ويجوز أن تكون صيغة التفاعل مستعملة في معنى تكرير الفعل أي يكثر سؤال كل أحد منهم سؤالا متكررا أو هو من تعداد السؤال لأجل تعداد السائلين.
(29/302)

قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ} في أول سورة النساء: [1] هو كقولك تداعينا. ونقل عنه أيضا أنه قال هنا إذا كان المتكلم مفردا يقال: دعوت، وإذا كان المتكلم متعددا يقال: تداعينا، ونظيره، رميته، وترامينا. ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا تفاعلا من الجانبين اه. ذكره صاحب الكشاف في سورة النساء، أي هو فعل من جانب واحد ذي عدد كثير؛ وعلى هذا يكون مفعول {يَتَسَاءَلُونَ} محذوفا يدل عليه قوله: {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} .
والتقدير: يتساءلون المجرمين عنهم، أي عن سبب حصولهم في سقر، ويدل عليه بيان جملة {يَتَسَاءَلُونَ} بجملة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، فإن ما سلككم في بيان للتساؤل.
وأصل معنى سلكه أدخله يبن أجزاء شيء حقيقة ومنه جاء سلك العقد، واستعير هنا للزج بهم، وتقدم في سورة الحجر [12] قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} وفي قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} في سورة الجن [17] والمعنى: ما زج بكم في سقر.
فإن كان السؤال على حقيقته والاستفهام مستعملا في أصل معناه كان الباعث على السؤال:
إما نسيان كانوا علموه في الدنيا من أسباب الثواب والعقاب فيبقى عموم {يتساءلون} الراجع إلى أصحاب اليمين وعموم المجرمين على ظاهره، فكل من أصحاب اليمين يشرف على المجرمين من أعالي الجنة فيسألهم عن سبب ولوجهم النار فيحصل جوابهم وذلك إلهام من الله ليحمده أهل الجنة على ما أخذوه به من أسباب نجاتهم مما أصاب المجرمين ويفرحوا بذلك.
وإما أن يكون سؤالا موجها من بعض أصحاب اليمين إلى ناس كانوا يظنونهم من أهل الجنة فرأوهم في النار من المنافقين أو المرتدين بعد موت أصحابهم، فيكون المراد بأصحاب اليمين بعضهم وبالمجرمين بعضهم وهذا مثل ما في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنْ الْيَمِينِ} الآيات في سورة الصافات [27-28] وقوله فيها: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} إلى قوله: {فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:51-55].
وإن كان السؤال ليس على حقيقته وكان الاستفهام مستعملا في التنديم، أو التوبيخ فعموم أصحاب اليمين وعموم المجرمين على حقيقته.
(29/303)

وأجاب المجرمون بذكر أسباب الزج بهم في النار لأنهم ما ظنوا إلا ظاهر الاستفهام، فذكروا أربعة أسباب هي أصول الخطايا وهي: أنهم لم يكونوا من أهل الصلاة فحرموا أنفسهم من التقرب إلى الله.
وأنهم لم يكونوا من المطعمين المساكين وذلك اعتداء على ضعفاء الناس بمنعهم حقهم في المال.
وأنهم كانوا يخوضون خوض المعهود الذي لا يعدو عن تأييد الشرك وأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وأنهم كذبوا بالجزاء فلم يتطلبوا ما ينجيهم. وهذا كناية عن عدم إيمانهم، سلكوا بها طريق الإطناب المناسب لمقام التحسر والتلهف على ما فات، فكأنهم قالوا لأنا لم نكن من المؤمنين لأن أهل الإيمان اشتهروا بأنهم أهل الصلاة، وبأنهم في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وبأنهم يؤمنون بالآخرة وبيوم الدين ويصدقون الرسل وقد جمعها قوله تعالى في سورة البقرة [2-4] {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
وأصل الخوض الدخول في الماء، ويستعار كثيرا للمحادثة المتكررة، وقد اشتهر إطلاقه في القرآن على الجدال واللجاج غير المحمود قال تعالى: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91] وغير ذلك، وقد جمع الإطلاقين قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68].
وباعتبار مجموع الأسباب الأربعة في جوابهم فضلا عن معنى الكناية، لم يكن في الآية ما يدل للقائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
ويوم الدين: يوم الجزاء والجزاء.
و {اليقين} : اسم مصدر يقن كفرح، إذا علم علما لا شك معه ولا تردد.
وإتيانه مستعار لحصوله بعد إن لم يكن حاصلا، شبه الحصول بعد الانتفاء بالمجيء بعد المغيب.
والمعنى: حتى حصل لنا العلم بأن ما كنا نكذب به ثابت، فقوله: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} على هذا الوجه غاية لجملة {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} .
(29/304)

ويطلق اليقين أيضا على الموت لأنه معلوم حصوله لكل حي فيجوز أن يكون مرادا هنا كما في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]. فتكون جملة {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} غاية للجمل الأربع التي قبلها من قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى {بِيَوْمِ الدِّينِ} .
والمعنى: كنا نفعل ذلك مدة حياتنا كلها.
وفي الأفعال المضارعة في قوله {لم نك، ونخوض، ونكذب} إيذان بأن ذلك ديدنهم ومتجدد منهم طول حياتهم.
وفي الآية إشارة إلى أن المسلم الذي أضاع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مستحق حظا من سقر على مقدار إضاعته وعلى ما أراد الله من معادلة حسناته وسيئاته، وظواهره وسرائره، وقبل الشفاعة وبعدها.
وقد حرم الله هؤلاء المجرمين الكافرين أن تنفعهم الشفاعة فعسى أن تنفع الشفاعة المؤمنين على أقدارهم.
وفي قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} إيماء إلى ثبوت الشفاعة لغيرهم يوم القيامة على الجملة وتفصيلها في صحاح الأخبار.
وفاء {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} تفريع على قوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، أي فهم دائمون في الارتهان في سقر.
[49-51] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ، كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَة، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .
تفريع للتعجيب من إصرارهم على الإعراض على ما فيه تذكرة على قوله: {وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31].
وجيء باسم التذكرة الظاهر دون أن يؤتى بضميره نحو: أن يقال: عنها معرضين، لئلا يختص الإنكار والتعجيب بإعراضهم عن تذكرة الإنذار بسقر، بل المقصود التعميم لإعراضهم عن كل تذكرة وأعظمها تذكرة القرآن كما هو المناسب للإعراض قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27].
و {مَا لَهُمْ} استفهام مستعمل في التعجيب من غرابة حالهم بحيث تجدر أن يستفهم
(29/305)

عنها المستفهمون وهو مجاز مرسل بعلاقة الملازمة، و {لهم} خبر عن "ما" الاستفهامية. والتقدير: ما ثبت لهم، و {مُعْرِضِينَ} حال من ضمير {لهم} ، أي يستفهم عنهم في هذه الحالة العجيبة.
وتركيب: ما لك ونحوه، لا يخلو من حال تلحق بضميره مفردة أو جملة نحو {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ} في سورة يوسف [11]. وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الانشقاق. وقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في سورة الصافات [154] وسورة القلم [36]. {عَنِ التَّذْكِرَةِ} متعلق ب {مُعْرِضِينَ} .
وشبهت حالة إعراضهم المتخيلة بحالة فرار حمر نافرة مما ينفرها.
والحمر: جمع حمار، وهو الحمار الوحشي، وهو شديد النفار إذا أحس بصوت القانص وهذا من تشبيه المعقول بالمحسوس.
وقد كثر وصف النفرة وسرعة السير والهرب بالوحش من حمر أو بقر وحش إذا أحسسن بما يرهبنه كما قال لبيد في تشبيه راحلته في سرعة سيرها بوحشية لحقها الصياد:
فتوجست رز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها
وقد كثر ذلك في شعر العرب في الجاهلية والإسلام كما في معلقة طرفة، ومعلقة لبيد، ومعلقة الحارث، وفي أراجيز الحجاج ورؤية ابنه وفي شعر ذي الرمة.
والسين والتاء في {مُسْتَنْفِرَة} للمبالغة في الوصف مثل: استكمل واستجاب واستعجب واستسخر واستنبط، أي نافرة نفارا قويا فهي تعدو بأقصى سرعة العدو.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {مُسْتَنْفِرَة} بفتح الفاء، أي استنفرها مستنفر، أي أنفرها، فهو من استنفر المتعدي بمعنى أنفره. وبناء الفعل للنائب يفيد الإجمال ثم التفصيل بقوله: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} .
وقرأها الجمهور بكسر الفاء، أي استفرت هي مثل: استجاب فيكون جملة {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} بيانا لسبب نفورها.
وفي تفسير الفخر عن أبي علي الفارسي قال محمد بن سلام: سألت أبا سوار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كأنهم حمر ماذا فقال: مستنفرة: بفتح الفاء فقلت له:
(29/306)

إنما هو فرت من قسورة. فقال: أفرت? قلت: نعم قال: فمستنفرة إذن، فكسر الفاء.
و {قسورة} قيل هو اسم جمع قسور وهو الرامي، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فعلل أن يجمع على فعللة. وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جاريا على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب.
وقيل: القسورة مفرد، وهو الأسد، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس: إنه الأسد بالحبشية، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافا لفظيا، وعنه: أنه أنكر أن يكون قسور اسم الأسد، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية. وقد عده ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك، وقال ابن سيده: القسور الأسد والقسورة كذلك، أنثوه كما قالوا: أسامة، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إعراض مخلوط برعب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان.
وإيثار لفظ {قسورة} هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة.
[52] {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} .
إضراب انتقالي لذكر حالة أخرى من أحوال عنادهم إذ قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وغيرهما من كفار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: لا نؤمن لك حتى يأتي إلى كل رجل منا كتاب فيه من الله إلى فلان بن فلان، وهذا من أفانين تكذيبهم بالقرآن أنه منزل من الله.
وجمع "صحف" إما لأنهم سألوا أن يكون كل أمر أو نهي تأتي الواحد منهم في شأن صحيفة باسمه وكانوا جماعة متفقين جمع لذلك فكأن الصحف جميعها جاءت لكل امرئ منهم.
والمنشرة: المفتوحة المقروءة أي لا نكتفي بصحيفة مطوية لا نعلم ما كتب فيها و {منشرة} مبالغة في منشورة. والمبالغة واردة على ما يقتضيه فعل "نشر" المجرد من كون الكتاب مفتوحا واضحا من الصحف المتعارفة. وفي حديث الرجم فنشروا التوراة.
[53] {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} .
{كَلَّا} إبطال لظاهر كلامهم ومرادهم منه وردع عن ذلك، أي لا يكون لهم ذلك.
(29/307)

ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإضراب فقال: {بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أي ليس ما قالوه إلا تنصلا فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لايخافون الآخرة، أي لا يؤمنون بها فكني عن عدم الإيمان بالآخرة بعدم الخوف منها، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يخاف عذابها إذا كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلا لتكذيبهم بالقرآن.
[54-56] {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .
{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} .
{كَلَّا} ردع ثان مؤكد للردع الذي قبله، أي لا يؤتون صحفا منشورة ولا يوزعون إلا بالقرآن.
وجملة {إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} تعليل للردع عن سؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشرة، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50-51]. فضمير {إنه} للقرآن، وهو معلوم من المقام، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير {تذكرة} للتعظيم.
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} في سورة المزمل [19].
وهذا تعريض بالترغيب في التذكر، أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شأتم فتذكروا.
والضمير الظاهر في {ذكره} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير {إنه} وهو القرآن فيكون على الحذف والإيصال وأصله: ذكر به.
ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضر من المقام على نحو قوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [المزمل:19].
وضمير {شاء} راجع إلى {من} ، أي من أراد أن يتذكر ذكر بالقرآن وهو مثل قوله آنفا {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37] وقوله في سورة المزمل [19] {فَمَنْ
(29/308)

شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
وهو إنذار للناس بأن التذكر بالقرآن يحصل إذا شاؤوا التذكر به. والمشيئة تستدعي التأمل فيما يخلصهم من المؤاخذة على التقصير وهم لا عذر لهم في إهمال ذلك، وقد تقدم في سورة المزمل.
وجملة {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} معترضة في آخر الكلام لإفادة تعلمهم بهذه الحقيقة، والواو اعتراضية.
والمعنى: أن تذكر من شاءوا أن يتذكروا لا يقع إلا مشروطا بمشيئة الله أن يتذكروا. وقد تكرر هذا في القرآن تكررا ينبه على أنه حقيقة واقعة كقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29] وقال هنا: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} فعلمنا أن للناس مشيئة هي مناط التكاليف الشرعية والجزاء في الدنيا والآخرة وهي المعبر عنها عند أهل التحقيق من المتكلمين بالكسب كما حققه الأشعري، وعند المعتزلة بالقدرة الحادثة، وهما عبارتان متقاربتان، وأن لله تعالى المشيئة العظمى التي لا يمانعها مانع ولا يقسرها قاسر، فإذا لم يتوجه تعلقها إلى إرادة أحد عباده لم يحصل له مراد.
وهذه المشيئة هي المعبر عنها بالتوفيق إذا تعلقت بإقدار العبد على الداعية إلى الطاعة وامتثال الوصايا الربانية، وبالخذلان إذا تعرضت بتركه في ضلالة الذي أوبقته فيه آراؤه الضالة وشهواته الخبيثة الموبقة له في الإعراض عن شرائع الله ودعوة رسله، وإذا تعلقت بانتشال العبد من أوحال الضلال وبإنارة سبيل الخير لبصيرته سميت لطفا مثل تعلقها بإيمان عمر بن الخطاب وصلاحه بعد أن كان في عناد، وهذا تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وهذا حاصل ما يتمخض من الجمع بين أدلة الشريعة المقتضية أن الأمر لله، والأدلة التي اقتضت المؤاخذة على الضلال، وتأويلها الأكبر في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 78-79] ولله في خلقه سر جعل بينهم وبين كنهه حجابا، ورمز إليه بالوعد والوعيد ثوابا وعقابا.
(29/309)

وقرأ نافع ويعقوب {وَمَا يَذْكُرُونَ} بمثناة فوقية على الالتفات، وقرأه الجمهور بتحتية على الغيبة، فالمعنى: أنهم يغلب عليهم الاستمرار من عدم الذكرى بهذه التذكرة إلا أن يشاء الله التوفيق لهم ويلطف بهم فيخلق انقلابا في سجية من يشاء توفيقه واللطف به. وقد شاء الله ذلك فيمن آمنوا قبل نزول هذه الآية ومن آمنوا بعد نزولها.
{هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .
جملة واقعة في موقع التعليل لمضمون جملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تقوية للتعريض بالترغيب في التذكر والتذكر يفضي إلى التقوى.
فالمعنى: فعليكم بالتذكر واتقوا الله تعالى لأن الله هو أهل التقوى.
وتعريف جزأي الجملة في قوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} يفيد قصر مستحق انتقاء العباد إياه على الله تعالى وأن غيره لا يستحق أن يتقى. ويتجنب غضبه كما قال {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
فأما أن يكون القصر قصرا إضافيا للرد على المشركين الذين يخشون غضب الأصنام ويطلبون رضاها أو يكون قصرا ادعائيا لتخصيصه تعالى بالتقوى الكاملة الحق وإلا فإن بعض التقوى مأمور بها كتقوى حقوق ذوي الأرحام في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] وقد يقال: إن ما ورد الأمر به من التقوى في الشريعة راجع إلى تقوى الله، وهذا من متممات القصر الادعائي.
وأهل الشيء: مستحقه.
وأصله: أنه ملازم الشيء وخاصته وقرابته وزوجه ومنه {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [هود: 81].
ومعنى أهل المغفرة: أن المغفرة من خصائصه وأنه حقيق بأن يغفر لفرط رحمته وسعة كرمه وإحسانه ومنه بيت الكشاف في سورة المؤمن:
ألا يا ارحموني يا إله محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وهذا تعريض بالتحريض للمشركين أن يقلعوا عن كفرهم بأن الله يغفر لهم ما أسلفوه قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [لأنفال: 38]، وبالتحريض للعصاة أن يقلعوا عن الذنوب قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
(29/310)

روى الترمذي عن سهيل عن ثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية "قال الله تعالى "أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له" قال الترمذي: حسن غريب. وسهيل ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث عن ثابت.
وأعيدت كلمة {أهل} في الجملة المعطوفة دون أن يقال: والمغفرة، إلى اختلاف المعنى بين أهل الأول وأهل الثاني على طريقة إعادة فعل وأطيعوا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59].
(29/311)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القيامة
عنونت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة ب"سورة القيامة" لوقوع القسم بيوم القيامة في أولها ولم يقسم به فيما نزل قبلها من السور.
وقال الآلوسي: يقال لها "سورة لا أقسم"، ولم يذكرها صاحب الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت الحادية والثلاثين في عداد نزول سور القرآن. نزلت بعد سورة القارعة وقبل سورة الهمزة.
وعدد آيها عند أهل العدد من معظم الأمصار تسعا وثلاثين آية، وعدها أهل الكوفة أربعين.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث.
والتذكير بيوم القيامة وذكر أشراطه.
وإثبات الجزاء على الأعمال التي عملها الناس في الدنيا.
واختلاف أحوال أهل السعادة وأهل الشقاء وتكريم أهل السعادة.
والتذكير بالموت وأنه أول مراحل الآخرة.
والزجر عن إيثار منافع الحياة العاجلة على ما أعد لأهل الخير من نعيم الآخرة.
(29/312)

وفي "تفسير أبن عطية" عن عمر أبن الخطاب ولم يسنده: أنه قال "من سأل عن القيامة أو أراد أن يعرف حقيقة وقوعها فليقرأ هذه السورة".
وأدمج في آيات {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} إلى {وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17] لأنها في أثناء نزول هذه السورة كما سيأتي.
[1-4] {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} .
افتتاح السورة بالقسم مؤذن بأن ما سيذكر بعده أمر مهم لتستشرف له نفس السامع كما تقدم في عدة مواضع من أقسام القرآن.
وكونوا القسم بيوم القيامة براعة استهلال لأن غرض السورة بيوم القيامة.
وفيه أيضا كون المقسم به هو المقسم على أحواله تنبيها على زيادة مكانته عند المقسم في قول أبي تمام:
وثناياك إنها اغريض ... ولئال تؤم وبرق وميض
كما تقدم عند قوله تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} في سورة الزخرف [1-3].
وصيغة {لا أُقْسِمُ} صيغة قسم، أدخل حرف النفي على فعل {أُقْسِمُ} لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم للسامع أن المتكلم يهم أن يقسم به ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول: لا أقسم به، أي ولا أقسم بأعز منه عندي، وذلك كناية عن تأكيد القسم وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة الواقعة [75].
وفيه محسن بديعي من قبيل ما يسمى تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهذا لم نذكره في ما مضى ولم يذكره أحد.
والقسم {بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} باعتباره ظرفا بما يجري فيه من عدل الله وإفاضة فضله وما يحضره من الملائكة والنفوس المباركة.
وتقد الكلام على {يَوْمِ الْقِيَامَةِ} غير مرة منها قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} في سورة البقرة [85].
(29/313)

وجواب القسم يؤخذ من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} لأنه دليل الجواب إذ التقدير: لنجمع عظام الإنسان أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه.
وفي "الكشاف" قالوا أنه "أي لا أقسم" في الإمام بغير ألف وتبرأ منه بلفظ "قالوا" لأنه مخالف للموجود في المصاحف. وقد نسب إلى البزي عن أبن كثير أنه قرأ {لا أُقْسِمُ} الأول دون ألف وهي رواية عنه ذكره الشيخ علي النوري في غيث النفع ولم يذكرها الشاطبي. واقتصر أبن عطية على نسبتها إلى أبن كثير دون تقيد، فتكون اللام لام قسم. والمشهور عن أبن كثير خلاف ذلك، وعطف قوله: {ولا أُقْسِمُ} تأكيدا للجملة المعطوف عليها، وتعريف {النفس} تعريف الجنس، أي الأنفس اللوامة. والمراد نفوس المؤمنين. ووصف اللوامة مبالغة لأنها تكثر لوم صاحبها على التقصير في التقوى والطاعة. وهذا اللوم هو المعبر عنه في الاصطلاح بالمحاسبة، ولومها يكون بتفكيرها وحديثها النفسي. قال الحسن ما يرى المؤمن إلا يلوم نفسه على ما فات ويندم، على الشر لم فعله وعلى الخير لم لا لم يستكثر منه فهذه نفوس خيرة حقيقة أن تشرف بالقسم بها وما كان يوم القيامة إلا لكرامتها.
والمراد اللوامة في الدنيا لوما تنشأ عنه التوبة والتقوى وليس المراد لوم الآخرة إذ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24].
ومناسبة القسم بها مع يوم القيامة إنها النفوس ذات الفوز في ذلك اليوم. وعن بعض المفسرين أن {لا أُقْسِمُ} مراد منه عدم القسم ففسر النفس اللوامة بالتي تلوم على فعل الخير.
وقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الخ دليل على جواب القسم إذ تقدير الجواب لنجمعن عظامكم ونبعثكم للحساب.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق الإنكار الذي هو في معنى النفي يقتضي العموم، وهو عموم عرفي منظور فيه إلا غالب الناس يومئذ إذ كان المؤمنون قليلا. فالمعنى: أيحسب الإنسان الكافر.
وجملة {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} مركبة من حرف {أن} المفتوحة الهمزة المخففة النون التي هي أخت {إن} المكسورة.
واسم {أن} ضمير شأن محذوف.
(29/314)

والجملة الواقعة بعد {أن} خبر عن ضمير الشأن، فسيبويه يجعل {أن} مع اسمها وخبرها سادة مسد مفعولي فعل الظن. والأخفش يجعل {أن} مع جزئيها في مقام المفعول الأول أي لأنه مصدر ويقدر مفعولا ثانيا. وذلك أن من خواص أفعال القلوب جواز دخول "أن" المفتوحة المهمزة بعدها فيستغني الفعل ب"أن" واسمها وخبرها على مفعوليه.
وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي لحكاية اعتقاد المشركين استحالة جمع العظام بعد رمامها وتشتتها.
قال القرطبي: نزلت في عدي بن ربيعة الصواب ابن أبي ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد حدثني عن يوم القيامة فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عدي: "لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك أو يجمع الله العظام" فنزلت هذه الآية، ألا قلت: إن سبب النزول لا يخصص الإنسان بهذا السائل.
والعظام: كناية عن الجسد كله، وإنما خصت بالذكر لحكاية أقواله: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يّس: 78] {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الاسراء: 49] {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} [النازعات:11] فهم احتجوا باستحالة قبول العظام للإعادة بعض البلى، على أن استحالة إعادة اللحم والعصب والفؤاد بالأولى. فإثبات إعادة العظام اقتضى إلى إعادة بقية الجسم مساو لإعادة العظم وفي ذلك كفاية من الاستدلال مع الإيجاز.
ثم إن كانت إعادة الخلق لجمع أجزاء أجسامهم المتفرقة من ذرات الله أعلم بها، وهو أحد قولين لعلمائنا، ففعل {نجمع} محمول على حقيقته. وإن كان البعث بخلق أجسام أخرى على سور الأجسام الفانية سواء كان خلقا مستأنفا أو مبتدأ من إعجاب الأذناب على ما ورد في بعض الأخبار وهما قولان لعلمائنا. ففعل {نجمع} مستعار للخلق الذي هو على صورة الجسم الذي بلي. ومناسبة استعارته مشاكلة أقوال المشركين التي أريد إبطالها لتجنب الدخول معهم في تصوير كيفية البعث، ولذلك لا ترى في آيات القرآن إلا إجمالها ومن ثم اختلف علماء الإسلام في كيفية إعادة الأجسام عند البعث. واختار إمام الحرمين التوقف، وآيات القرآن ورد فيها ما يصلح للأمرين.
و {بلى} حرف إبطال للنفي الذي دل عليه {لَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فمعناه بل تجمع عظامه على اختلاف المحملين في معنى الجمع.
و {قادرين} حال من الضمير في الفعل المحذوف بعد {بلى} الذي يدل عليه قوله:
(29/315)

{أَلَّنْ نَجْمَعَ} ، أي بل نجمعها في حال قدرتنا على أن نسوي بنانه.
ويجوز أن يكون {بلى} إبطالا للنفيين: النفي الذي أفاده الاستفهام الإنكاري من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} ، والنفي الذي في مفعول {يحسب} ، وهو إبطال بزجر، أي بل ليحسبنا قادرين، لأن مفاد {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} أن لا نقدر على جمع عظامه فيكون {قادرين} مفعولا ثانيا ليحسبنا المقدر، وعدل في متعلق {قادرين} عن أن يقال: قادرين على جمع عظامه إلى قادرين على أن نسوي بنانه لأنه أوفر معنى وأوفق بإرادة إجمال كيفية البعث والإعادة.
ولمراعاة هذه المعاني عدل عن رفع: قادرون، بتقدير: نحن قادرون فلم يقرأ بالرفع.
والتسوية: تقويم الشيء وإتقان الخلق قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] وقال في هذه السورة {فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38]. وأريد بالتسوية إعادة خلق البنان مقومة متقنة، فالتسوية كناية عن الخلق لأنها تستلزمه فإنه ما سوي إلا وقد أعيد خلقه قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2].
والبنان أصابع اليدين والرجلين أو أطراف تلك الأصابع. وهو اسم جمع بنانه.
وإذا كانت هي أصغر الأعضاء الواقعة في نهاية الجسد كانت تسويتها كناية عن تسوية جمع الجسد لظهور أن تسوية أطراف الجسد تقتضي تسوية ما قبلها كما تقول: قلعت الريح أوتاد الخيمة كناية عن قلعها الخيمة كلها فإنه قد يكنى بأطراف الشيء عن جميعه.
ومنه قولهم: لك هذا الشيء بأسره، أي مع الحبل الذي يشد به، كناية عن جمع الشيء. وكذلك قولهم: هو لك برمته، أي بحبله الذي يشد به.
[5] {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} .
بل إضراب انتقالي إلى ذكر حال آخر من أحوال فجورهم، فموقع الجملة بعد {بل} بمنزلة الاستئناف الابتدائي للمناسبة بين معنى الجملتين، أي لما دعوا إلى الإقلاع عن الإشراك وما يستدعيه من الآثام وأنذروا بالعقاب عليه يوم القيامة كانوا مصممين على الاسترسال في الكفر.
والفجور: فعل السوء الشديد ويطلق على الكذب، ومنه وصفت اليمين الكاذبة
(29/316)

بالفاجرة، فيكون فجر بمعنى كذب وزنا ومعنى، فيكون قاصرا ومتعديا مثل فعل كذب. مخفف الذال روي عن ابن عباس أنه قال يعني الكافر يكذب بما أمامه. وعن ابن قتيبة: أن أعرابيا سأل عمر بن الخطاب أن يحمله على راحلة وشكا دبر راحلته فاتهمه عمر فقال الأعرابي:
ما مسها من نقب ولا دبر ... أقسم بالله أبو حفص عمر
فاغفر له اللهم إن كان فجر
قال: يعني إن كان نسبني إلى الكذب.
وقوله: {يُرِيدُ الْأِنْسَانُ} يجوز أن يكون إخبارا عما في نفوس أهل الشرك من محبة الاسترسال فيما هم عليه من الفسق والفجور.
ويجوز أن يكون استفهاما إنكاريا موافقا لسياق ما قبله من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} .
وأعيد لفظ {الْأِنْسَانُ} إظهارا في مقام الإضمار لأن المقام لتقريعه والتعجيب في ضلاله.
وكرر لفظ {الْأِنْسَانُ} في هذه السورة خمس مرات لذلك، مع زيادة ما في تكرره في المرة الثانية والمرتين والرابعة والخامسة من خصوصية لتكون تلك الجمل الثلاث التي ورد ذكره فيها مستقلة بمفادها.
واللام في قوله: {لِيَفْجُرَ} هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] وقول كثير:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
وينتصب الفعل بعدها ب"أن" مضمرة، لأن أصل هذه اللام لام التعليل ولذلك قيل هي لام التعليل وقيل زائدة. وعن سيبويه أن الفعل الذي قبل هذه اللام مقدر بمصدر مرفوع على الابتداء وأن اللام وما بعدها خبره، أي إرادتهم للفجور. واتفقوا على أن لا مفعول للفعل الواقع بعدها، ولهذا الاستعمال الخاص بها. قال النحاس سماها بعض القراء لام أن. وتقدم الكلام عليها في مواضع منها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].
(29/317)

وأمام: أصله اسم الذي هو قبالة من أضيف هو إليه وهو ضد خلف، ويطلق مجازا على الزمان المستقبل. قال ابن عباس: يكذب بيوم الحساب، وقال عبد الرحمن بن زيد: يكذب بما أمامه سفط.
وضمير {أمامه} يجوز أن يعود إلى الإنسان، أي في مستقبله، أي من عمره فيمضي قدما راكبا رأسه لا يقلع عما هو فيه من الفجور فينكر البعث فلا يزع نفسه عما لا يريد أن يزعها من الفجور. وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس وأصحابه.
ويجوز أن يكون {أمامه} أطلق على اليوم المستقبل مجازا. وإلى هذا نحا ابن عباس في رواية عنه وعبد الرحمن بن زيد، ويكون {يَفْجُرَ} بمعنى يكذب، أي يكذب باليوم المستقبل.
[6] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} .
يجوز أن تكون هذه الجملة متصلة بالتي قبلها على أنها بدل اشتمال منها لأن إرادته الاسترسال على الفجور يشتمل على التهكم بيوم البعث أو على أنها بدل مطابق على تفسير {لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5] بالتكذيب بيوم البعث.
ويجوز أن تكون مستأنفة للتعجيب من حال سؤالهم عن وقت يوم القيامة وهو سؤال استهزاء لاعتقادهم استحالة وقوعه.
و {أيان} اسم استفهام عن الزمان البعيد لأن أصلها: أن آن كذا، ولذلك جاء في بعض لغات العرب مضمون النون وإنما فتحوا النون ونما فتحوا النون في اللغة الفصحى لأنهم جعلوا الكلمة كلها ظرفا فصارت {أيان} بمعنى "متى". وتقدم عند قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في الأعراف [187]. فالمعنى أنهم يسألون تعيين وقت معروف مضبوط بعد السنين ونحوها، أو بما يتعين به عند السائلين من حدث يحل معه هذا اليوم. فهو طلب تعيين أمد لحلول اليوم يقوم فيه الناس.
[7-13] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ، كَلَّا لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ، يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .
عدل عن أن يجابوا بتعيين وقت ليوم القيامة إلى أن يهددوا بأهواله، لأنهم لم يكونوا
(29/318)

جادين في سؤالهم فكان من مقتضى حالهم أن ينذروا بما يقع من الأهوال عند حلول هذا اليوم مع تضمين تحقيق وقوعه فإن كلام القرآن إرشاد وهدى ما يترك فرصة للهدي والإرشاد إلا انتهزها، وهذا تهديد في ابتدائه جاء في صورة التعيين لوقت يوم القيامة إيهاما بالجواب عن سؤالهم كأنه حمل لكلامهم على خلاف الاستهزاء على طريقة الأسلوب الحكيم. وفيه تعريض بالتوبيخ على أن فرطوا في التوقي من ذلك اليوم واشتغلوا بالسؤال عن وقته. وقريب منه ما روي أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة? فقال له: "ماذا أعددت لها" .
فإن هذه الأحوال المذكورة في الآية مما يقع عند حلول الساعة وقيام القيامة فكان ذلك شيئا من تعيين وقته بتعيين أشراطه.
والفاء لتفريع الجواب عن السؤال.
و {برق} قرأه الجمهور بكسر الراء، ومعناه: دهش وبهت، يقال: برق يبرق فهو برق من باب فرح فهو من أحوال الإنسان.
وإنما أسند في الآية إلى البصر على سبيل المجاز العقلي تنزيلا له منزلة مكان البرق لأنه إذا بهت شخص بصره. كما أسند الأعشى البرق إلى الأعين في قوله:
كذلك فاعل ما حييت إذا شتوا ... وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
وقرأه نافع وأبو جعفر بفتح الراء من البريق بمعنى اللمعان، أي لمع البصر من شدة شخوصه، ومضارعه يبرق بضم الراء. وإسناده إلى البصر حقيقة.
ومآل معنى القرائتين واحد وهو الكناية عن الفزع والرعب كقوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الانبياء: 97]، فلا وجه لترجيح الطبري قراءة الجمهور على قراءة نافع وأبي جعفر، لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من مقتضى التفسير.
والتعريف في {البصر} للجنس المراد به الاستغراق، أي أبصار الناس كلهم من الشدة الحاصلة في ذلك الوقت، على أنهم متفاوتون في الرعب الحاصل لهم على تفاوتهم فيما يعرضون عليه من طرائق منازلهم.
وخسوف القمر أريد به انطماس نوره انطماسا مستمرا بسبب تزلزله من مداره حول الأرض الدائرة حول الشمس بحيث لا ينعكس عليه نورها ولا يلوح للناس نيرا، وهو ما
(29/319)

دل عليه قوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} ، فهذا الخسوف ليس هو خسوفه المعتاد عندما تحول الأرض بين القمر وبين مسامتته الشمس.
ومعنى جمع الشمس والقمر: التصاق القمر بالشمس فتلتهمه الشمس لأن القمر منفصل من الأرض التي هي من الأجرام الدائرة حول الشمس كالكواكب ويكون ذلك بسبب اختلال الجاذبية التي وضع الله عليها النظام الشمسي.
و {إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} ظرف متعلق ب {يَقُولُ الْأِنْسَانُ} ، وإنما قدم على عامله للاهتمام بالظرف المقصود من سياق مجاوبة قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
وطوي التصريح بأن ذلك حلول يوم القيامة اكتفاء بذكر ما يدل عليه وهو قولهم {أَيْنَ الْمَفَرُّ} فكأنه قيل:حل يوم القيامة وحضرت أهواله يقول الإنسان يومئذ ثم تأكد بقوله إلى {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} .
و {يومئذ} ظرف متعلق ب {يقول} أيضا، أي يوم إذ يبرق البصر ويخسف القمر ويجمع الشمس والقمر، فتنوين "إذ" تنوين عوض عن الجملة المحذوفة التي دلت عليها الجملة التي أضيف إليها "إذ".
وذكر {يومئذ} مع أن قوله: {إِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} الخ مغن عنه للاهتمام ذكر ذلك اليوم الذي كانوا ينكرون وقوعه ويستهزئون فيسألون عن وقته،وللتصريح بأن حصول هذه الأحوال الثلاثة في وقت واحد.
و {الإنسان} : هو المتحدث عنه من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ،أي يقول الإنسان الكافر يومئذ: أين المفر.
و {المفر} : بفتح الميم وفتح الفاء مصدر،والاستفهام مستعمل في التمني،أي ليت لي فرارا في مكان نجاة، ولكنه لا يستطيعه.
و {أين} ظرف مكان.
و {كلا} ردع وإبطال لما تضمنه {أَيْنَ الْمَفَرُّ} من الطمع في أن يجد للفرار سبيلا.
و {الوزر} :المكان الذي يلجأ إليه للتوقي من إصابة مكروه مثل الجبال والحصون.
فيجوز أن يكون {كَلَّا لا وَزَرَ} كلاما مستأنفا من جانب الله تعالى جوابا لمقالة الإنسان، أي لا وزر لك، فينبغي الوقف على {المفر} . ويجوز أن يكون من تمام مقالة
(29/320)

الإنسان، أي يقول: أين المفر? ويجيب نفسه بإبطال طعمه فيقول {كَلَّا لا وَزَرَ} أي لا وزر لي، وذلك بأن نظر في جهاته فلم يجد إلا النار كما ورد في الحديث، فيحسن أن يوصل {أَيْنَ الْمَفَرُّ} بجملة {كَلَّا لا وَزَرَ} .
وأما قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} فهو كلام من جانب الله تعالى خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا بقرينة قوله: {يَوْمَئِذٍ} ، فهو اعتراض وإدماج للتذكير بملك ذلك اليوم.
وفي إضافة "رب" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أنه ناصره يومئذ بالانتقام من الذين لم يقبلوا دعوته.
و {المستقر} : مصدر ميمي من استقر إذا قر في المكان ولم ينتقل، والسين والتاء للمبالغة في الوصف.
وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي إلى ربك لا إلى ملجأ آخر. والمعنى: لا ملجأ يومئذ للإنسان إلا منتهيا إلى ربك، وهذا كقوله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].
وجملة {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} مستأنفة استئنافا بيانيا أثاره قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ، أو بدل اشتمال من مضمون تلك الجملة، أي إلى الله مصيرهم وفي مصيرهم ينبأون بما قدموا وما أخروا.
وينبغي أن يكون المراد ب {الإنسان} الكافر جريا على سياق الآيات السابقة لأنه المقصود بالكلام وإن كان كل إنسان ينبأ يومئذ بما قدم وأخر من أهل الخير ومن أهل الشر قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30] الآية.واختلاف مقامات الكلام يمنع من حمل ما يقع فيها من الألفاظ على محمل واحد، فإن في القرآن فنونا من التذكير لا تلزم طريقة واحدة. وهذا مما يغفل عن مراعاته بعض المفسرين في حملهم معاني الآيات المتقاربة المغزى على محامل متماثلة.
وتنبئة الإنسان بما قدم وأخر كناية عن مجازاته على ما فعله: إن خيرا فخير وإن سوءا فسوء، إذ يقال له: هذا جزاء الفعلة الفلانية فيعلم من ذلك فعلته ويلقى جزاءها، فكان الإنباء من لوازم الجزاء قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] ويحصل في ذلك الإنباء تقريع وفضح لحاله.
والمراد ب {ما قدم} : ما فعله و ب {ما أخر} : ما تركه مما أمر بفعله أو نهي عن
(29/321)

فعله في الحالين فخالف ما كلف به ومما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت" .
[14-15] {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .
إضراب انتقالي، وهو للترقي من مضمون {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} إلى الإخبار بأن الكافر يعلم ما فعله لأنهم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، إذ هو قرأ كتاب أعماله فقال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25-26]، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49]. وقال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:14].
ونظم قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} صالح لإفادة معنيين:
أولهما أن يكون {بَصِيرَةٌ} بمعنى مبصر شديد المراقبة فيكون {بَصِيرَةٌ} خبرا عن {الإنسان} . و {عَلَى نَفْسِهِ} متعلقا ب {بَصِيرَةٌ} ، أي الإنسان بصير بنفسه. وعدي بحرف {على} لتضمينه معنى المراقبة وهو معنى قوله في الآية الأخرى {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} . وهاء {بَصِيرَةٌ} تكون للمبالغة مثل هاء علامة ونسابة، أي الإنسان عليم بصير قوي العلم بنفسه يومئذ.
والمعنى الثاني: أن يكون {بَصِيرَةٌ} مبتدأ ثانيا، والمراد به قرين الإنسان من الحفظة وعلى نفسه خبر المبتدأ الثاني مقدما عليه، ومجموع الجملة خبرا عن {الإنسان} ، و {بَصِيرَةٌ} حينئذ يحتمل أن يكون معنى بصير، أي مبصر والهاء للمبالغة كما تقدم في المعنى الأول، وتكون تعدية {بَصِيرَةٌ} ب {على} لتضمينه معنى الرقيب كما في المعنى الأول.
ويحتمل أن تكون {بَصِيرَةٌ} صفة لموصوف محذوف، تقديره: حجة بصيرة، وتكون {بَصِيرَةٌ} مجازا في كونها بينة كقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الاسراء: من الآية102]. ومنه قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الاسراء: 59] والتأنيث لتأنيث الموصوف.
وقد جرت هذه مجرى المثل لإيجازها ووفرة معانيها.
(29/322)

وجملة {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} في موضع الحال من المبتدأ وهو الإنسان، وهي حالة أجدر بثبوت معنى عاملها عند حصولها.
و {لو} هذه وصلية كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91]. والمعنى: هو بصيرة على نفسه حتى في حال إلقائه معاذيره.
والإلقاء: مراد به الإخبار الصريح على وجه الاستعارة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في سورة النحل [86].
والمعاذير: اسم جمع معذرة، وليس جمعا لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر، ومثل المعاذير قولهم: المناكير، اسم جمع منكر. وعن الضحاك أن معاذير هنا جمع معذار بكسر الميم وهو الستر بلغة اليمن يكون الإلقاء مستعملا في المعنى الحقيقي، أي الإرخاء. وتكون الاستعارة في المعاذير بتشبيه جحد الذنوب كذبا بإلقاء الستر على الأمر المراد حجبه.
والمعنى: أن الكافر يعلم يومئذ أعماله التي استحق العذاب عليها ويحاول أن يتعذر وهو يعلم أن لا عذر له ولو أفصح عن جميع معاذيره.
و {معاذيره} : جمع معرف بالإضافة يدل على العموم. فمن هذه المعاذير قولهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99-100] ومنها قولهم {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ} [المائدة: 19] وقولهم: {هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [لأعراف: 38] ونحو ذلك من المعاذير الكاذبة.
[16-19] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
هذه الآية وقعت هنا معترضة. وسبب نزولها ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد أن يحفظه مخافة أن يتفلت منه، أو من شدة رغبته في حفظه فكان يلاقي من ذلك شدة فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . قال: جمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قال فاستمع له وأنصت، ثم إن علينا لنبينه بلسانك، أي تقرأه اهـ.
(29/323)

فلما نزل هذا الوحي في أثناء السورة للغرض الذي نزل فيه ولم يكن سورة مستقلة كان ملحقا بالسورة وواقعا بين الآي التي نزل بينها.
فضمير {به} عائد على القرآن كما هو المعروف في آيات كثيرة.
وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} ، أي إذا قرأه جبريل عنا، فأسندت القراءة إلى ضمير الجلالة على طريقة المجاز العقلي، والقرينة واضحة.
ومعنى {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، أي أنصت إلى قراءتنا.
فضمير {قُرْآنَهُ} راجع إلى ما رجع إليه ضمير الغائب في {لا تُحَرِّكْ بِهِ} وهو القرآن بالمعنى الاسمي، فيكون وقوع هذه الآية في هذه السورة مثل وقوع {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} في سورة مريم [64]، ووقوع {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} في أثناء أحكام الزوجات في سورة البقرة [238]. قالوا: فنزلت هذه الآية في أثناء سورة القيامة: هذا ما لا خلاف فيه بين أهل الحديث وأيمة التفسير. وذكر الفخر عن القفال أنه قال: إن قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} ليس خطابا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ} فكان ذلك للإنسان حالما ينبأ بقبائح أفعاله فيقال له: اقرأ كتابك، فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار، ثم أن علينا بيان مراتب عقوبته، قال القفال: فهذا وجهه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به اه.
وأقول: إن كان العقل لا يدفعه فإن الأسلوب العربي ومعاني الألفاظ تنبو عنه.
والذي يلوح لي في موقع هذه الآية هنا دون أن تقع فيما سبق نزوله من السور قبل هذه السورة: إن سور القرآن حين كانت قليلة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخشى تفلت بعض الآيات عنه فلما كثرت السور فبلغت زهاء ثلاثين حسب ما عده سعيد بن جبير في ترتيب نزول السور، صار النبي صلى الله عليه وسلم يخشى أن ينسى بعض آياتها، فلعله صلى الله عليه وسلم أخذ يحرك لسانه بألفاظ القرآن عند نزوله احتياطا لحفظه وذلك من حرصه على تبليغ ما أنزل إليه بنصه. فلما تكفل الله بحفظه أمره أن لا يكلف نفسه تحريك لسانه، فالنهي عن تحريك لسانه نهي رحمة وشفقة لما كان يلاقيه في ذلك من الشدة.
و"قرآن" في الموضعين مصدر بمعنى القراءة مثل الغفران والفرقان، قال حسان في
(29/324)

رثاء عثمان بن عفان:
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا ولفظ
{علينا} في الموضعين للتكفل والتعهد.
و {ثم} في {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} للتراخي في الرتبة، أي التفاوت في رتبة الجملة المعطوف عليها وهي قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ، وبين رتبة الجملة المعطوفة وهي {إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . ومعنى الجملتين: أن علينا جمع الوحي وأن تقرأه وفوق ذلك أن تبينه للناس بلسانك، أي نتكفل لك بأن يكون جمعه وقرآنه بلسانك، أي عن ظهر قلب لا بكتابة تقرأها بل أن يكون محفوظا في الصدور بينا لكل سامع لا يتوقف على مراجعة ولا على إحضار مصحف من قرب أو بعد.
فالبيان هنا بيان ألفاظه وليس بيان معانيه لأن بيان معانيه ملازم لورود ألفاظه.
وقد احتج بهذه الآية بعض علمائنا الذين يرون جواز تأخير البيان عن المبين متمسكين بأن {ثم} للتراخي وهو متمسك ضعيف لأن التراخي الذي أفادته {ثم} إنما هو تراخ في الرتبة لا في الزمن، ولأن {ثم} قد عطفت مجموع الجملة ولم تعطف لفظ {بيانه} خاصة، فلو أريد الاحتجاج بالآية للزم أن يكون تأخير البيان حقا لا يخلو عنه البيان وذلك غير صحيح.
[20-21] {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} .
رجوع إلى مهيع الكلام الذي بنيت عليه السورة كما يرجع المتكلم إلى وصل كلامه بعد أن قطعه عارض أو سائل، فكلمة {كَلَّا} ردع وإبطال. يجوز أن يكون إبطالا لما سبق في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} إلى قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فأعيد {كَلَّا} تأكيدا لنظيره ووصلا للكلام بإعادة آخر كلمة منه.
والمعنى: أن مزاعمهم باطلة.
وقوله: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} إضراب أبطالي يفصل ما أجمله الرد ب {كَلَّا} من إبطال ما قبلها وتكذيبه، أي لا معاذير لهم في نفس الأمر ولكنهم أحبوا العاجلة، أي شهوات الدنيا وتركوا الآخرة، والكلام مشعر بالتوبيخ ومناط التوبيخ هو حب العاجلة مع نبذ الآخرة فأما لو أحب أحد العاجلة وراعى الآخرة، أي جرى على الأمر والنهي
(29/325)

الشرعيين لم يكن مذموما. قال تعالى فيما حكاه عن الذين أوتوا العلم من قوم قارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
ويجوز أن يكون إبطالا لما تضمنه قوله: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} فهو استئناف ابتدائي. والمعنى: أن معاذيرهم باطلة ولكنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، أي ثرا شهواتهم العاجلة ولم يحسبوا للآخرة حسابا.
وقرأ الجمهور {تحبون} و {تذرون} بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مواجهة بالتفريع لأنه ذلك أبلغ فيه. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمر ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة، والضمير عائد إلى {الإنسان} في قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] جاء ضمير جمع لأن الإنسان مراد به الناس المشركون، وفي قوله: {بَلْ تُحِبُّونَ} ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك.
[22-25] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .
المراد ب {يومئذ} يوم القيامة الذي تكرر ذكره بمثل هذا ابتداء من قوله: {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:10] وأعيد مرتين.
والجملة المقدرة المضاف إليها "إذ"، والمعوض عنها التنوين تقديرها: يوم إذ برق البصر.
وقد حصل من هذا تخلص إلى إجمال حال الناس يوم القيامة بين أهل سعادة وأهل شقاوة.
فالوجوه الناضرة وجوه أهل السعادة والوجوه الباسرة وجوه أهل الشقاء، وذلك بين من كلتا الجملتين.
وقد علم الناي المعني بالفريقين مما سبق نزوله من القرآن كقوله في سورة عبس [40-42] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} فعلم أن أصل أسباب السعادة الإيمان بالله وحده وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم والإيمان بما جاء به
(29/326)

الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أصل أسباب الشقاء الإشراك بالله وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذ ما جاء به.
وقد تضمن صدر هذه السورة ما ينبئ بذلك كقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] وقوله: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5].
وتنكير {وجوه} للتنويع والتقسيم كقوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] وقول الشاعر وهو من أبيات كتاب الآداب ولم يعزه ولا عزاه صاحب "العباب" في شرحه:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
وقول أبي الطيب:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوم بجود تطرد الفقر والجدبا
فالوجوه الناضرة الموصوفة بالنضرة بفتح النون وسكون الضاد هي حسن الوجه من أثر النعمة والفرح، وفعله كنصر وكرم وفرح، ولذلك يقال: ناضر ونضير ونضر، وكني بنضرة الوجوه عن فرح أصحابها ونعيمهم قال تعالى في أهل السعادة {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] لأن ما يحصل في النفس من الانفعالات يظهر أثره.
وأخبر عنها خبرا ثانيا بقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} وظاهر لفظ {نَاظِرَةٌ} أنه من نظر بمعنى: عاين ببصره إعلانا بتشريف تلك الوجوه انها تنظر إلى جانب الله تعالى نظرا خاصا لا يشاركها فيه من يكون دون رتبتهم، فهذا معنى الآية بإجماله ثابت بظاهر القرآن وقد أيدتها الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة إن أناسا قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة? قال: "هل تضارن في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوا?" قلنا: لا. قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارن في رؤيتهما" .
وفي رواية "فإنكم ترونه كذلك" وساق الحديث في الشفاعة.
وروى البخاري بن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر قال: "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته وربما قال سترون ربكم عيانا" .
(29/327)

وروى مسلم عن صهيب بن سنان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم? فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار، فيكشف الحجاب فما يعطون شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم" .
فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ضمنية لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخول رؤيتها لغير أهل السعادة.
ويلحق هذا بمتشابه الصفات وإن كان مقتضاه ليس إثبات صفة، ولكنه يؤول إلى الصفة ويستلزمها بأنه آيل إلى اقتضاء جهة للذات، ومقدار يحاط بجميعه أو ببعضه، إذا كانت الرؤيا بصرية فلا جرم أن يعد الوعد برؤية أهل الجنة ربهم تعالى من قبيل المتشابه.
ولعلماء الإسلام في ذلك أفهام مختلفة، فأما صدر الأمة وسلفها فإنهم جروا على طريقتهم التي تخلقوا بها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان بما ورد من هذا القبيل على إجماله، وصرف أنظارهم عن التعمق في حقيقته وإدراجه تحت أقسام الحكم العقلي، وقد سمعوا هذا ونظائره كلها أو بعضها أو قليلا منها، فيما شغلوا أنفسهم به ولا طلبوا تفصيله، ولكنهم انصرفوا إلى ما هم أحق بالعناية وهو التهمم بإقامة الشريعة وبثها وتقرير سلطانها، مع الجزم بتنزيه الله تعالى على اللوازم العارضة لتلك الصفات، جاعلين أمامهم المرجوع إليه في كل هذا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، أو ما يقارب هذا من دلائل التنزيه الخاصة بالتنزيه عن بعض ما ورد الوصف به مثل قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] بالنسبة إلى مقامنا هذا، مع اتفاقهم على أن عدم العلم بتفصيل ذلك لا يقدح في عقيدة الإيمان، فلما نبع في علماء الإسلام تطلب معرفة حقائق الأشياء وألجأهم البحث العلمي إلى التعمق في معاني القرآن ودقائق عباراته وخصوصيات بلاغته، لم يروا طريقة السلف مقنعة لإفهام أهل العلم من الخلف لأن طريقتهم في العلم طريقة تحميص وهي اللائقة بعصرهم، وقارن ذلك ما حدث في فرق الأمة الإسلامية من النحل الاعتقادية، وإلقاء شبه الملاحدة من المنتمين إلى الإسلام وغيرهم وحدا بهم ذلك إلى الغوص والتعمق لإقامة المعارف على أعمدة لا تقبل التزلزل، ولدفع شبه المتشككين ورد مطاعن الملحين، فسلكوا مسالك الجمع بين المتعارضات من أقوال ومعان وإقرار كل حقيقة في نصابها، وذلك بالتأويل الذي يقتضيه المقتضي ويعضده الدليل.
(29/328)

فسلكت جماعات مسالك التأويل الإجمالي بأن يعتقدوا تلك المتشابهات على إجمالها ويوقنوا بالتنزيه عن ظواهرها ولكنهم لا يفصلون صرفها عن ظواهرها يجملون التأويل وهذه الطائفة تدعى السلفية لقرب طريقتها من طريقة السلف في المتشابهات، وهذه الجماعات متفاوتة في مقدار تأصيل أصولها تفاوتا جعلها فرقا فمنهم الحنابلة، والظاهرية، الخوارج الأقدمون غير الذين التزموا طريقة المعتزلة.
ومنهم أهل السنة الذين كانوا قبل الأشعري مثل المالكية وأهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر ما جاءت به الأخبار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم مع التقييد بأنها مؤولة عن ظواهرها بوجه الإجمال. وقد غلا قوم من الآخذين بالظاهر مثل الكرامية والمشبهة فألحقوا بالصنف الأول.
ومنهم فرق النظارين في التوفيق بين قواعد العلوم العقلية وبين ما جاءت به أقوال الكتاب والسنة وهؤلاء هم المعتزلة، والأشاعرة، والماتردية.
فأقوالهم في رؤية أهل الجنة ربهم ناسجة على هذا المنوال:
فالسلف أثبتوها دون بحث والمعتزلة نفوها وتأولوا الأدلة بنحو المجاز والاشتراك، وتقدير محذوف لمعارضتها الأصول القطعية عندهم فرجحوا ما رأوه قطعيا وألغوها.
والأشاعرة أثبتوها وراموا الاستدلال لها بأدلة تفيد القطع وتبطل قول المعتزلة ولكنهم لم يبلغوا من ذلك المبلغ المطلوب.
وما جاء به كل فريق من حجاج لم يكن سالما من اتجاه نقوض ومنوع ومعارضات، وكذلك ما أثاره كل فريق على مخالفيه من معارضات لم يكن خالصا من اتجاه منوع مجردة أو مع المستندات، فطال الأخذ والرد. ولم يحصل طائل ولا انتهى إلى حد.
ويحسن أن نفوض كيفيتها إلى علم الله تعالى كغيرها من المتشابه الراجع إلى شؤون الخالق تعالى.
وهذا معنى قول سلفنا إنها رؤية بلا كيف وهي كلمة حق جامعة، وإن اشمأز منها المعتزلة.
هذا ما يتعلق بدلالة الآية على رؤية أهل الجنة ربهم وأما ما يتعلق بأصل جواز رؤية الله تعالى فقد مضى القول فيها عند قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} في سورة الأعراف [143].
(29/329)

وتقديم المجرور من قوله: {إِلَى رَبِّهَا} على عامله للاهتمام بهذا العطاء العجيب وليس للاختصاص لأنهم ليرون بهجات كثيرة في الجنة.
وبين {ناضرة} و {ناظرة} جناس محرف قريب من التام.
وسوغ الابتداء بالنكرة في قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} أنها أريد بها التفصيل والتقسيم لمقابلته بقوله: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} ، على حد قول الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر
وأما الوجوه الباسرة فنوع ثان من وجوه الناس يومئذ هي وجوه أهل الشقاء. وأعيد لفظ {يومئذ} تأكيد للاهتمام بالتذكير بذلك اليوم.
و {باسرة} : كالحة من تيقن العذاب، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} في سورة المدثر [22].
فجملة {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} استئناف بياني لبيان سبب بسورها.
و {فاقرة} : داهية عظيمة، وهو نائب فاعل {يُفْعَلَ بِهَا} ولم يقترن الفعل بعلامة التأنيث لأن مرفوعه ليس مؤنثا حقيقيا، مع وقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه، وكلا الأمرين يسوغ ترك علامة التأنيث. وإفراد {فاقرة} إفراد الجنس، أي نوعا عظيما من الداهية.
والمعنى: أنهم أيقنوا بأن سيلاقوا دواهي لا يكتنه كنهها.
[26-30] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ}
ردع ثان على قول الإنسان {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6]، مؤكد للردع الذي قبله في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20]. ومعناه زجر عن إحالة البعث فإنه واقع غير بعيد فكل أحد يشاهده حين الاحتضار للموت كما يؤذن به قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، أتبع توصيف أشراط القيامة المباشرة لحلوله بتوصيف أشراط حلول التهيؤ الأول للقائه من مفارقة الحياة الأولى.
وعن المغيرة بن شعبة يقولون: القيامة القيامة، وإنما قيامة أحدهم موته، وعن علقمة
(29/330)

أنه حضر جنازة فلما دفن قال: "أما هذا فقد قامت قيامته"، فحالة الاحتضار هي آخر أحوال الحياة الدنيا يعقبها مصير الروح إلى تصرف الله تعالى مباشرة.
وهو ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة كأنه قيل: ارتدوا وتنهبوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة وتنتقلون إلى الآجلة، فيكون ردعا على محبة العاجلة وترك العناية في الآخرة، فليس مؤكدا للردع الذي في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] بل هو ردع على ما تضمنه ذلك الردع من إيثار العاجلة على الآخرة.
و {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} متعلق بالكون الذي يقدر في الخبر وهو قوله: {إِلَى رَبِّكَ} . والمعنى: المساق يكون إلى ربك إذا بلغت التراقي.
وجملة {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} بيان للردع وتقريب لإبطال الاستعباد المحكي عن منكري البعث بقوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
و {إذا} ظرف مضمن معنى الشرط، وهو منتصب بجوابه أعنى قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} .
وتقديم {إِلَى رَبِّكَ} على متعلقة وهو {الْمَسَاقُ} للاهتمام به لأنه مناط الإنكار منهم.
وضمير {بَلَغَتِ} راجع إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معلوم من فعل {بَلَغَتْ} ونم ذكر {التَّرَاقِيَ} فإن فعل {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} يدل أنها روح الإنسان. والتقدير: إذا بلغت الروح أو النفس. وهذا التقدير يدل عليه الفعل الذي أسند إلى الضمير بحسب عرف أهل اللسان، ومثله قول حاتم الطائي:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
أي إذا حشرجت النفس. ومن هذا الباب قول العرب أرسلت يريدون: أرسلت السماء المطر، ويجوز أن يقدر في الآية ما يدل عليه الواقع.
والأنفاس: جمع نفس بفتح الفاء، وهو أنسب بالحقائق.
و {التَّرَاقِيَ} : جمع ترقوة بفتح الفوقية وسكون الراء وضم القاف وفتح الواو مخففة وهاء تأنيث وهي ثغرة النحر، ولكل إنسان ترقوتان عن يمينه وعن شماله.
فالجمع هنا مستعمل في التثنية لقصد تخفيف اللفظ وقد أمن اللبس، لأن في تثنية
(29/331)

ترقوة شيئا من الثقل لا يناسب أفصح كلام، وهذا مثل ما جلء في قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} في سورة التحريم [4].
ومعنى {بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} : أن الروح بلغت الحنجرة حيث تخرج الأنفاس الأخيرة فلا يسمع صوتها إلا في جهة الترقوة وهي آخر حالات الاحتضار، ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83] الآية.
واللام في {التَّرَاقِيَ} مثل اللام في {المساق} فيقال: هي عوض عن المضاف إليه، أي بلغت روحه تراقيه، أي الإنسان.
ومعنى {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} وقال قائل: من يرقي هذا رقيات لشفائه? أي سأل أهل المريض عن وجدان أحد يرقي، وذلك عند توقع اشتداد المرض به. والبحث عن عارف برقية المريض عادة عربية ورد ذكرها في حديث السرية الذين أتوا على حي من أحياء العرب إذ لدغ سيد ذلك الحي فعرض لهم رجل من أهل الحي، فقال: هل فيكم من راق? إن في الماء رجلا لديغا أو سليما. رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن عباس في الرقيا بفاتحة الكتاب.
والرقيا بالقصر، ويقال بهاء تأنيث: هي كلام خاص معتقد نفعه يقول قائل عند المريض واضعا يده في وقت القراءة على موضع الوجع من المريض أو على رأس المريض، أو يكتبه الكاتب في خرقة، أو ورقة وتعلق على المريض، وكانت من خصائص التطبب يزعمون أنها تشفي من صرع الجنون ومن ضر السموم ومن الحمى.
ويختص بمعرفتها ناس يزعمون أنهم يتلقونها من عارفين فلذلك سموا الراقي ونحوه عرافا، قال رؤبة بن العجاج:
بذلت لعرافة اليمامة حكمه ... وعرافي نجد إن هما شفياني
فما تركا من عوذة يعرفانها ... ولا رقية بها رقياني
وقال النابغ يذكر حال من لدغته أفعى:
تناذرها الراقون من سوء سمعها ... تطلقه طورا وطورا تراجع
وكان الراقي ينفث على المرقي ويتفل، وشار إليه في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله ثم إنه طمس المكتوب على غفلة، وتفل عليه مائة تفلة.
(29/332)

وأصل الرقية: ما ورثه العرب من طلب البركة بأهل الصلاح والدعاء إلى الله، فأصلها وارد من الأديان السماوية، ثم طرأ عليها سوء الوضع عند أهل الضلالة فألحقوها بالسحر أو بالطب، ولذلك يخلطونها من أقوال ربما كانت غير مفهومة، ومن أشياء كأحجار أو أجزاء من عظم الحيوان أو شعره، فاختلط أمرها بالأمم الجاهلة، وقد جاء في الإسلام الاستشفاء بالقرآن والدعوات المأثورة المتقلبة من أربابها وذلك من قبيل الدعاء.
والضمير المستتر في {ظن} عائد إلى الإنسان في قوله: {بَلْ يُرِيدُ الْأِنْسَانُ} [القيامة: 5] أي الإنسان الفاجر.
والظن: العلم المقارب لليقين، وضمير {أنه} ضمير شأن، أي وأيقن أنه، أي الأمر العظيم الفراق، أي فراق الحياة.
وقوله: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} إن حمل على ظاهره، فالمعنى التفاف ساقي المحتضر بعد موته إذ تلف الأكفان على ساقيه ويقرن بينهما في ثوب الكفن فكل ساق منها ملتفة صحبة الساق الأخرى، فالتعريف عوض عن المضاف إليه، وهذا نهاية وصف الحالة التي تهيأ بها لمصيره إلى القبر الذي هو أول مراحل الآخرة.
ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا فإن العرب يستعملون الساق مثلا في الشدة وجد الأمر تمثيلا بساق الساعي أو الناهض لعمل عظيم، يقولون: قامت الحرب على ساق.
وأنشد ابن عباس في قول الراجز:
صبرا عناق إنه لشرباق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق
وتقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} في سورة القلم [42].
فمعنى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} طرأت مصيبة على مصيبة.
والخطاب في قوله: {إِلَى رَبِّكَ} التفات عن طريق خطاب الجماعة في قوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [القيامة:20] لأنه لما كان خطابا لغير معين حسن التفنن فيه.
والتعريف في {المساق} تعريف الجنس الذي يعم الناس كلهم بما فيهم الإنسان الكافر المردود عليه. ولك أن تعبر عن اللام بأنها عوض عن المضاف إليه، أي مساق
(29/333)

الإنسان الذي يسأل: {أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة: 6].
و {المساق } : مصدر ميمي ل"ساق"، وهو تسيير ماش أمام مسيره إلى حيث يريد مسيره، وضده القود، وهو هنا مجاز مستعمل في معنى الإحضار والإيصال إلى حيث يلقى جزاء ربه.
وسلك في الجمل التي بعد {إذا} مسلك الإطناب لتهويل حالة الاحتضار على الكافر وفي ذلك إيماء إلى أن الكافر يتراءى له مصيره في حالة احتضاره وقد دل عليه حديث عبادة بن الصامت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، قالت عائشة أو بعض أزواجه: "إنا نكره الموت" . قال: "ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" .
[31-35] {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} .
تفريع على قوله: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [القيامة:6].
فالضمير عائد إلى الإنسان في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] أي لجهله البعث لم يستعد له.
وحذف مفعول {كذب} ليشمل كل ما كذب به المشركون، والتقدير: كذب الرسول والقرآن وبالبعث، وتولى عن الاستجابة لشرائع الإسلام.
ويجوز أن يكون الفاء تفريعا وعطفا على قوله: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، أي فقد فارق الحياة وسيق إلى لقاء الله خاليا من العدة لذلك اللقاء.
وفي الكلام على كلا الوجهين حذف يدل عليه السياق تقديره: فقد علم أنه قد خسر وتندم على ما أضاعه من الاستعداد لذلك اليوم.
وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 21-24].
(29/334)

وفعل {صدق} مشتق من التصديق، أي تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو المناسب لقوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} .
والمعنى: فلا آمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وبعض المفسرين فسر {صدق} بمعنى أعطى الصدقة، وهو غير الجار على قياس التصريف إذ حقه أن يقال: تصدق، على أنه لا يساعد الاستدراك في قوله: {وَلَكِنْ كَذَّبَ} .
وعطف {وَلا صَلَّى} على نفي التصديق تشويها له بأن حاله مبائن لأحوال أهل الإسلام. والمعنى: فلم يؤمن ولم يسلم.
و {لا} نافية دخلت على الفعل الماضي والأكثر في دخولها على الماضي أن يعطف عليها نفي آخر وذلك حين يقصد المتكلم أمرين مثل ما هنا وقول زهير:
فلا هو أخفاها ولم يتقدم
وهذا معنى قول الكسائي "لا" بمعنى "لم" ولكنه يقرن بغيره يقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا محسن حتى يقال: ولا مجمل اه فإذا يعطف عليه نفي آخر فلا يؤتى بعدها بفعل مضي إلا في إرادة الدعاء نحو "لا فض فوك" وشذ ما خالف ذلك. وأما قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] فإنه على تأويل تكرير النفي لأن مفعول الفعل المنفي بحرف {لا} وهو العقبة يتضمن عدة أشياء منفية بينها قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله: {مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 12-17]. فلما كان ذلك متعلق الفعل المنفي كان الفعل في تأويل تكرير النفي كأنه قيل: فك رقبة ولا أطعم يتيما ولا أطعم مسكينا ولا آمن.
وجملة {وَلَكِنْ كَذَّبَ} معطوفة على جملة {فَلا صَدَّقَ} .
وحرف {لكن} المخفف النون بالأصالة أي الذي لم يكن مخفف النون المشددة أخت "إن" هو حرف استدراك، أي نقض لبعض ما تضمنته الجملة التي قبله إما لمجرد توكيد المعنى بذكر نقيضه مثل قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وأما لبيان إجمال في النفي الذي قبله نحو {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 40].
وحرف {ولكن} المخفف لا يعمل إعرابا فهو حرف ابتداء ولذلك أكثر وقوعه بعد واو العطف وجملة {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أفادت معنيين: أحدهما توكيد قوله: {فَلا
(29/335)

صَدَّقَ} بقوله: {كذب} ، وثانيهما زيادة بيان معنى {فَلا صَدَّقَ} بأنه تولى عمدا لأن عدم التصديق له أحوال، ونظيره في غير الاستدراك قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34].
والتكذيب: تكذيبه بالبعث وبالقرآن وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
والتولي: الإعراض عن دعوته إلى النظر والتدبر في القرآن.
وفاعل {صدق} والأفعال المذكورة بعده ضمائر عائدة على الإنسان المتقدم ذكره.
و {يتمطى} : يمشي المطيطاء بضم الميم وفتح الطاء بعدها ياء ثم طاء مقصورة وممدودة وهي تبختر.
وأصل {يتمطى} : يتمطط، أي لأن المتبختر يمد خطاه وهي مشية المعجب بنفسه. وهنا انتهى وصف الإنسان المكذب.
والمعنى: أنه أهمل الاستعداد للآخرة ولم يعبأ بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى أهله مزدهيا بنفسه غير مفكر في مصيره.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين هذه الآية كلها من قوله: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} نزلت في ابن جهل بن هشام، قال: ثم كادت هذه الآية تصرح به في قوله تعالى: {يتمطى} فإنها كانت مشية بني مخزوم وكان أبو جهل يكثر منها اه. وفيه نظر سيأتي قريبا.
فقوله: {أَوْلَى لَكَ} وعيد، وهي كلمة توعد تجري مجرى المثل في لزوم هذا اللفظ لكن تلحقه علامات الخطاب والغيبة والتكلم، والمراد به ما يراد بقولهم: ويل لك، من دعاء على المجرور باللام بعدها، أي دعاء بأن يكون المكروه أدنى شيء منه.
{فأولى} : اسم تفضيل من ولي، وفاعله ضمير محذوف عائد على مقدر معلوم في العرف، فيقدره كل سامع بما يدل على المكروه قال الأصمعي معناه: قاربك ما تكره، قالت الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ... فأولى لنفسي أولى لها
وكان القانص إذا أفلته الصيد يخاطب الصيد بقوله: {أَوْلَى لَكَ} وقد قيل: إن منه قوله تعالى: {فَأَوْلَى لَهُمْ} من قوله: {فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} في سورة
(29/336)

القتال [20-21] على أحد تأويلين يجعل {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مستأنفا وليس فاعلا لاسم التفضيل. وذهب أبو علي الفارسي إلى أن {أولى} علم لمعنى الويل وأن وزنه أفعل من الويل وهو الهلاك، فأصل تصريفه أويل لك، أي أشد هلاكا لك فوقع فيه القلب "لطلب التخفيف" بأن أخرت الياء إلى آخر الكلمة وصار أولى بوزن أفلح، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا فقالوا: أولى في صورة وزن فعلى.
والكاف خطاب للإنسان المصرح به غير مرة في الآيات السابقة بطريق الغيبة إظهارا وإضمارا، وعدل هنا عن طريق الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات لمواجهة الإنسان بالدعاء لأن المواجهة أوقع في التوبيخ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: أولى له.
وقوله: {فأولى} تأكيد ل {أَوْلَى لَكَ} جيء فيه بفاء التعقيب للدلالة على أنه يدعى عليه بأن يعقبه المكروه ويعقب بدعاء آخر.
قال قتادة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل على باب بني مخزوم فاخذ رسول الله فلبب أبا جهل بثيابه وقال له: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} قال أبو جهل يتهددني محمد أي يستعمل كلمة الدعاء في إرادة التهديد فوالله إني لأعز أهل الوادي. وأنزل الله تعالى {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} كما قال لأبي جهل.
وقوله: {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} تأكيد للدعاء عليه ولتأكيده السابق.
وجيء بحرف {ثم} لعطف الجملة دلالة على أن هذا التأكيد ارتقاء في الوعيد، وتهديد بأشد مما أفاده التهديد وتأكيده كقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3-4].
وأحسب أن المراد: كل إنسان كافر كما يقتضيه أول الكلام من قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} إلى قوله: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 3-14]، وما أبو جهل إلا من أولهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم توعده باللفظ الذي أنزله الله تهديدا لأمثاله.
وكلمات المتقدمين في كون الشيء سبب نزول شيء من القرآن كلمات فيها تسامح.
[36] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} .
استئناف ابتدائي عاد به الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وهو ما ابتدئ به فارتبط بقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] فكأنه قيل: أيحسب أن
(29/337)

لن نجمع عظامه ويحسب أن نتركه في حالة العدم.
وزيد هنا أن مقتضى الحكمة الإلهية إيقاعه بقوله: {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كما ستعلمه.
والاستفهام إنكاري مثل الذي سبقه في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3].
وأصل معنى الترك: مفارقة الشيء شيئا اختياريا من التارك، ويطلق مجازا على إهمال أحد شيئا وعدم عنايته بأحواله وبتعهده، وهو هنا مستعمل في المعنى المجازي.
والمراد بما يترك عليه الإنسان هنا ما يدل عليه السياق، أي حال العدم دون إحياء مما دل عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3] وقوله: {يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:13].
وعدل عن بناء فعل يترك للفاعل فبني للنائب إيجازا لأجل العلم بالفاعل من قوله السابق: {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن نتركه دون بعث وأن نهمل أعماله سدى.
فجاء ذكر {سدى} هنا على طريقة الإدماج فيما سبق له الكلام، إيماء إلى أن مقتضى حكمة خلق الإنسان أن لا يتركه خالقه بعد الموت فلا يحييه ليجازيه على ما عمله في حياته الأولى.
وفي إعادة {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ} تهيئة لما سيعقبه من دليل إمكان البعث من جانب المادة بقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} [القيامة: 37] إلى آخر السورة.
فقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} تكرير وتعداد للإنكار على الكافرين تكذيبهم بالبعث، ألا ترى أنه وقع بعد وصف يوم القيامة وما فيه من الحساب على ما قدم الإنسان وأخر.
ومعنى هذا مثل قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
و {سدى} بضم السين والقصر: اسم بمعنى المهمل ويقال: سدى بفتح السين والضم أكثر وهو اسم يستوي فيه المفرد والجمع يقال: إبل سدى، وجمل سدى ويشتق منه فعل فيقال: أسدى إبله وأسديت إبلي، وألفه منقلبة عن الواو.
(29/338)

ولم يفسر صاحب "الكشاف" هذه الكلمة وكذلك الراغب في المفردات ووقع {سدى} في موضع الحال من ضمير {يترك} .
فإن الذي خلق الإنسان في أحسن تأويل وأبدع تركيبه ووهبه القوى العقلية التي لم يعطها غيره من أنواع الحيوان ليستعملها في منافع لا تنحصر أو في ضد ذلك من مفاسد جسيمة، ولا يليق بحكمته أن يهمله مثل الحيوان فيجعل الصالحين كالمفسدين والطائعين لربهم كالمجرمين، وهو العليم القدير المتمكن بحكمته وقدرته أن يجعل إليه المصير، فلو أهمله لفاز أهل الفساد في عالم كساد، ولم يلاق الصالحون من صلاحهم إلا الأنكاد، ولا يناسب حكمة الحكيم إهمال الناس يهيمون في كل وادي، وتركهم مضربا لقول المثل "فإن الريح للعادي".
ولذلك قال في جانب الاستدلال على وقوع البعث {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، أي لا نعيد خلقه ونبعثه للجزاء كما أبلغناهم، وجاء في جانب حكمته بما يشابه الأسلوب السابق فقال: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} مع زيادة فائدة بما دلت عليه جملة {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} ، أي لا يحسب أن يترك غير مرعي بالتكليف كما تترك الإبل، وذلك يقتضي المجازاة. وعن الشافعي: لم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى الذي لا يؤمر ولا ينهى اه. وقد تبين من هذا أن قوله: {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} كناية عن الجزاء لأن التكليف في الحياة الدنيا مقصود منه الجزاء في الآخرة.
[37-40] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
استئناف هو علة وبيان للإنكار المسوق للاستدلال بقوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ} [القيامة: 36] الذي جعل تكريرا وتأييد لمضمون قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} الآية، أي أن خلق الإنسان من مادة ضعيفة وتدرجه في أطوار كيانه دليل على إثبات القدرة على إنشائه إنشاء ثانيا بعد تفرق أجزائه واضمحلالها، فيتصل معنى الكلام هكذا: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه ويعد ذلك متعذرا. ألم نبدأ خلقه إذ كوناه نطفة ثم تطور خلقه أطوارا فماذا يعجزنا أن نعيد خلقه ثانيا كذلك، قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الانبياء: 104].
(29/339)

وهذه الجمل تمهيد لقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
وهذا البيان خاص بأحد معنيي الترك في الآية وهو تركه دون إحياء وأكتفي ببيان هذا عن بيان المعنى الآخر الذي قيده قوله: {سُدىً} [القيامة: 36]،أي تركه بدون جزاء على أعماله لأن فائدة الإحياء أن يجازي على عمله.والمعنى: أيحسب أن يترك فانيا ولا تجدد حياته.
ووقع وصف {سُدىً} في خلال ذلك موقع الاستدلال على لزوم بعث الناس من جانب الحكمة، وانتقل بعده إلى بيان إمكان البعث من جانب المادة،فكان وقوعه إدماجا.
فالإنسان خلق من ماء وطور أطوارا حتى صار جسدا حيا تام الخلقة والإحساس فكان بعضه من صنف الذكور وبعضه من صنف الإناث،فالذي قدر على هذا الخلق البديع لا يعجزه إعادة خلق كل واحد كما خلقه أول مرة بحكمة دقيقة وطريقة أخرى لا يعلمها إلا هو.
والنطفة: القليل من الماء سمي بها ماء التناسل، وتقدم في سورة فاطر.
وأختلف في تفسير معنى {تمنى} فقال كثير من المفسرين معناه:تراق.ولم يذكر في كتب اللغة أن فعل: منى أو أمنى يطلق بمعنى أراق سوى أن بعض أهل اللغة قال في تسمية"منى" التي بمكة إنها سميت كذلك لأنها تراق بها دماء الهدي،ولم يبينوا هل هو فعل مجرد أو بهمزة التعدية.
وأحسب هذا من التلفيقات المعروفة من أهل اللغة من طلبهم إيجاد أصل لاشتقاق الأعلام وهو تكلف صراح، فاسم"منى" علم مرتجل، وقال ثعلب:سميت من قولهم: منى الله عليه الموت، أي قدره لأنها تنحر فيها الهدايا ومثله عن أبن شميل وعن أبن عيينة. وفسر بعضهم {تمنى} بمعنى تخلق من قولهم منى الله الخلق،أي خلقهم. والأظهر قول بعض المفسرين أنه مضارع أمنى الرجل فيكون كقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} في سورة الواقعة [58].
والعلقة:القطعة الصغيرة من الدم المتعقد.
وعطف فعل {كَانَ عَلَقَةً} بحرف "ثم" للدلالة على التراخي الرتبي فإن كونه علقة
(29/340)

أعجب من كونه نطفة لأنه صار علقة بعد أن كان ماء فاختلط بما تفرزه رحم الأنثى من البويضات فكان من البويضات فكان من مجموعهما علقة كما تقدم في فائدة التقييد بقوله في سورة النجم [46] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .
ولما كان تكوينه علقة هو مبدأ خلق الجسم عطف عليه قوله: {فخلق} بالفاء، لأن العلقة يعقبها أن تصير مضغة إلى أن يتم خلق الجسد وتنفخ فيه الروح.
وضمير {خلق} عائد إلى {رَبِّكَ} [القيامة: 30]. وكذلك عطف {فسوى} بالفاء.
والتسوية: جعل الشىء سواء،أي معدلا مقوما قال تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وقال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]، أي فجعله جسدا من عظم ولحم.
ومفعول "خلق" ومفعول "سوى" محذوفان لدلالة الكلام عليهما، أي فخلقه فسواه.
وعقب ذلك بخلقه ذكرا أو أنثى زوجين ومنهما يكون التناسل أيضا.
وقرأ الجمهور {تمنى} بالفوقية على أنه وصف ل {نطفة} . وقرأه حفص ويعقوب بالتحتية على أنه وصف {مني} .
وجملة {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} واقعة موقع النتيجة من الدليل لأن خلق جسم الإنسان من عدم وهو أمر ثابت بضرورة المشاهدة، أحق بالاستبعاد من إعادة الحياة إلى الجسم بعد الموت سواء بقي الجسم غير ناقص أو نقص بعضه أو معظمه فهو إلى بث الحياة فيه وإعادة ما فني من أجزائه أقرب من إيجاد الجسم من عدم.
والاستفهام إنكار للمنفي إنكار تقرير بالإثبات وهذا غالب استعمال الاستفهام التقريري أن تقع على نفي ما يراد إثباته ليكون ذلك كالتوسعة على المقرر إن أراد إنكارا كناية عن ثقة المتكلم بأن المخاطب لا يستطيع الإنكار.
وقد جاء في هذا الختام بمحسن رد العجز على الصدر، فإن السورة افتتحت بإنكار أن يحسب المشركون استحالة البعث، ويسلسل الكلام في ذلك بأفانين من الإثبات والتهديد والتشريط والاستدلاال، إلا أن أفضى إلى استنتاج أن الله قادر على أن يحيي الموتى وهو المطلوب الذي قدم في قوله: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3-4].
وتعميم الموتى في قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} بعد جريان
(29/341)

أسلوب الكلام عل خصوص الإنسان الكافر أو خصوص كافر معين، يجعل جملة {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} تذييلا.
(29/342)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
سميت في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "سورة هل أتى على الإنسان". روى البخاري في باب القراءة في الفجر من صحيحه عن أبي هريرة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ب {ألم} السجدة و {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ}" [الانسان: 1].
واقتصر صاحب "الإتقان" على تسمية هذه السورة "سورة الإنسان" عند ذكر السور المكية والمدنية، ولم يذكرها في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
وتسمى "سورة الدهر" في كثير من المصاحف.
وقال الخفاجي تسمى "سورة الأمشاج"، لوقوع لفظ الأمشاج فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وذكر الطبرسي: أنها تسمى"سورة الأبرار"، لأن فيها ذكر نعيم الأبرار وذكرهم بهذا اللفظ ولم أره لتغييره.
فهذه خمسة أسماء لهذه السورة.
واختلف فيها فقيل هي مكية، وقيل مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني، فعن أبن عباس وابن أبي طلحة وقتادة ومقاتل: هي مكية، وهو قول ابن مسعود لأنه كذلك رتبها في مصحفه فيما رواه أبو داود كما سيأتي قريبا.وعلى هذا اقتصر معظم التفاسير ونسبه الخفاجي إلى الجمهور.
وروى مجاهد عن أبن عباس: أنها مدنية، وهو قول جابر بن زيد وحكي عن قتادة أيضا. وقال الحسن وعكرمة والكلبي: هي مدنية إلا قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] إلى آخرها، أو قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الانسان:24]
(29/343)

الخ. ولم يذكر هؤلاء أن تلك الآيات من أية سورة كانت تعد في مكة إلى أن نزلت سورة الإنسان بالمدينة وهذا غريب. ولم يعينوا أنه في أية سورة كان مقروءا.
والأصح أنها مكية فإن أسلوبها ومعانيها جارية على سنن السور المكية ولا أحسب الباعث على عدها في المدني إلا ما روي من أن آية {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الانسان: 8] نزلت في إطعام علي أبن أبي طالب بالمدينة مسكينا ليلة،ويتيما أخرى، وأسيرا أخرى، ولم يكن للمسلمين أسرى بمكة حملا للفظ أسير على معنى أسير الحرب، أو ما روي انه نزل في أبي الدحداح وهو أنصاري، وكثيرا ما حملوا نزول الآية على مثل تنطبق عليها معانيها فعبروا عنها بأسباب نزول كما بيناه في المقدمة الخامسة.
وعدها جابر بن زيد الثامنة والتسعين في ترتيب نزول السور. وقال: نزلت بعد سورة الرحمان وقبل سورة الطلاق. وهذا جري على ما رآه أنها مدنية.
فإذا كان الأصح أنها مكية أخذا بترتيب مصحف ابن مسعود فتكون الثلاثين أو الحادية والثلاثين وجديرة بأن تعد سورة القيامة أو نحو ذلك حسبما ورد في ترتيب أبن مسعود.
روى أبو داود في باب تحزيب القرآن من سننه عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين وعد سورا فقال: و {هَلْ أَتَى} و {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في ركعة" . قال أبو داود: هذا تأليف ابن مسعود"أي تأليف مصحفه": واتفق العادون على عد آيها إحدى وثلاثين.
أغراضها
التذكير بأن كل إنسان كون بعد أن لم يكن فكيف يقضي باستحالة إعادة تكوينه بعد عدمه.
وإثبات أن الإنسان محقوق بإفراد الله بالعبادة شكرا لخالقه ومحذر من الإشراك به.
وإثبات الجزاء على الحلين مع شيء من وصف ذلك الجزاء بحالتيه والإطناب في وصف جزاء الشاكرين.
وأدمج في خلال ذلك الامتنان على الناس بنعمة الإيجاد ونعمة الإدراك والامتنان بما أعطيه الإنسان من التمييز بين الخير والشر وإرشاده إلى الخير بواسطة الرسل فمن
(29/344)

الناس من شكر نعمة الله ومنهم من كفرها فعبد غيره.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على القيام بأعباء الرسالة والصبر على ما يلحقه في ذلك، والتحذير من أن يلين للكافرين، والإشارة إلى أن الاصطفاء للرسالة نعمة عظيمة يستحق الله الشكر عليها بالاضطلاع بها اصطفاه له وبإقبال على عبادته.
والأمر بالإقبال على ذكر الله والصلاة في أوقات من النهار.
[1] {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} .
استفهام تقريري والاستفهام من أقسام الخطاب وهو هنا موجه إلى غير معين ومستعمل في تحقيق الأمر المقرر به على طريق الكناية لأن الاستفهام طلب الفهم، والتقرير يقتضي حصول العلم بما تقرر به إلى إيماء إلى استحقاق الله أن يعترف الإنسان له بالوحدانية في الربوبية إبطالا لإشراك المشركين.
وتقديم هذا الاستفهام لما فيه من تشويق إلى معرفة ما يأتي بعده من الكلام.
فجملة {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} تمهيد وتوطئة للجملة التي بعدها وهي {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الانسان: 2] الخ.
و {هل} حرف يفيد الاستفهام ومعنى التحقيق، وقال جمع أصل {هل} إنها في الاستفهام مثل {قد} في الخبر، وبملازمة {هل} الاستفهام كثر في الكلام حذف حرف الاستفهام معها فكانت فيه بمعنى {قد} ، وخصت بالاستفهام فلا تقع في الخبر، ويتطرق إلى الاستفهام بها ما يتطرق إلى الاستفهام من الاستعمالات. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} في سورة البقرة [210].
وقد علمت أن حمل الاستفهام على معنى التقرير يحصل هذا المعنى.
والمعنى: هل يقر كل إنسان موجود أنه كان معدوما زمانا طويلا، فلم يكن شيئا يذكر، أي لم يكن يسمى ولا يتحدث عنه بذاته وإن كان قد يذكر بوجه العموم في نحو قول الناس: المعدوم متوقف وجوده على فاعل. وقول الواقف: حبست على ذريتي، ونحوه فإن ذلك ليس ذكرا لمعين ولكنه حكم على الأمر المقدر وجوده. وهم لا يسعهم إلا الإقرار بذلك، أكتفي بتوجيه هذا التقرير إلى كل سامع.
وتعريف {الإنسان} للاستغراق مثل قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ
(29/345)

آمَنُوا} [العصر: 2-3] الآية، أي هل أتى على كل إنسان حين كان فيه معدوما.
و {الدهر} : الزمان الطويل أو الزمان المقارن لوجود العالم الدنيوي.
والحين: مقدار مجمل من الزمان يطلق على ساعة وعلى أكثر، وقد قيل إن أقصى ما يطلق عليه الحين أربعون سنة ولا أحسبه.
وجملة {لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} يجوز أن تكون نعتا لـ {حين} بتقدير ضمير رابط بمحذوف لدلالة لفظ {حين} على أن العائد مجرور بحرف الظرفية حذف مع جاره كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] إذ التقدير: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا، فالتقدير هنا: لم يكن فيه الإنسان شيئا مذكورا، أي كان معدوما في زمن سبق.
ويجوز أن تكون الجملة حالا من {الإنسان} ، وحذف العائد كحذفه في تقدير النعت.
والشيء: اسم للموجود.
والمذكور: المعين الذي هو بحيث يذكر، أي يعبر عنه بخصوصه ويخبر عنه بالأخبار والأحوال. ويتعلق لفظه الدال عليه بالأفعال.
فأما المعدوم فلا يذكر لأنه لا تعين له فلا يذكر إلا بعنوانه العام كما تقدم آنفا، وليس هذا هو المراد بالذكر هنا.
ولهذا نجعل {مذكورا} وصفا لـ {شيئا} أريد به تقييد {شيئا} ، أي شيئا خاصا وهو الموجود المعبر عنه باسمه المعين له.
[2] {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
استئناف بياني مترتب على التقرير الذي دل عليه {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} لما فيه من التشويق.
والتقرير يقتضي الإقرار بذلك لا محالة لأنه معلوم بالضرورة، فالسماع يتشوف لما يرد بعد هذا التقرير فقيل له إن الله خلقه بعد أن كان معدوما فأوجد نطفة كانت معدومة ثم استخرج منها إنسانا، فثبت تعلق الخلق بالإنسان بعد عدمه.
(29/346)

وتأكيد الكلم بحرف "إن" لتنزيل المشركين منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لعدم جريهم على موجب العلم حيث عبدوا أصناما لم يخلقوهم.
والمراد ب {الإنسان} مثل ما أريد به من قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الانسان:1] أي كل نوع الإنسان.
وأدمج في ذلك كيفية خلق الإنسان من نطفة التناسل لما في تلك الكيفية من دقائق العلم الإلهي والقدرة والحكمة.
وقد تقدم معنى النطفة في سورة القيامة.
و {أمشاج} : مشتق من المشج وهو الخلط، أي نطفة مخلوطة قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يّس:36] وذلك تفسير معنى الخلط الذي أشير إليه هنا.
وصيغة {أمشاج} ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد، فهي إما جمع مشج بكسر فسكون بوزن عدل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذبح، وهذا ما اقتصر عليه في "اللسان" و "القاموس" ، أو جمع مشج بفتحتين مثل سبب وأسباب أو جمع مشج بفتح فكسر مثل كتف وأكتاف.
والوجه ما ذهب إليه صاحب "الكشاف" :أن {أمشاج} مفرد كقولهم: برمة أعشار وبرد أكياش بهمزة كاف وتحتية ألف وشين معجمة الذي أعيد غزله مرتين. قال ولا يصح أن يكون أمشاج جمع مشج بل هما أي مشج وأمشاج مثلان في الإفراد اه. وقال بعض الكاتبين: إنه خالف كلام سيبويه. وأشار البيضاوي إلى ذلك، وأحسب أنه لم ير كلام سيبويه صريحا في منع أن يكون {أمشاج} مفردا لأن أثبت الإفراد في كلمة أنعام والزمخشري معروف بشدة متابعة سيبويه.
فإذا كان {أمشاج} في هذه الآية مفردا كان على سورة الجمع كما في الكشاف . فوصف {نطفة} به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعا كما جرا عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد، كان وصف النطفة به باعتبار ما تشتمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضوا فوصفوا النطفة بجمع الاسم للمبالغة أي شديدة الاختلاط.
وهذه الأمشاج منها ما هو أجزاء كيميائية نباتية أو ترابية ومنها ما هو عناصر قوى
(29/347)

الحياة.
وجملة {نبتليه} في موضع الحال من الإنسان وهي حالة مقدرة، أي مريدين ابتلاءه في المستقبل، أي بعد بلوغه طور العقل والتكليف، وهذه الحال كقولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا.
وقد وقعت هذه الحال معترضة بين جملة {خلقنا} وبين {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لأن الابتلاء، أي التكليف الذي يظهر به امتثاله أو عصيانه إنما يكون بعد هدايته إلى السبيل الخير، فكان مقتضى الظاهر أن يقع {نبتليه} بعد جملة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الانسان: 3]، ولكنه قدم للاهتمام بهذا الابتلاء الذي هو سبب السعادة والشقاوة.
وجيء بجملة {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} بيانا لجملة {نبتليه} تفننا في نظم الكلام.
وحقيقة الابتلاء: الاختبار لتعرف حال الشيء وهو هنا كناية عن التكليف بأمر عظم لأن الأمر العظيم يظهر تفاوت المكلفين به في الوفاء بإقامته.
وفرع على خلقه {من نطفة} أنه جعله {سميعا بصيرا} ، وذلك إشارة إلى ما خلقه الله له من الحواس التي كانت أصل تفكيره وتدبيره، ولذلك جاء وصفه بالسميع البصير بصيغة المبالغة ولم يقل فجعلناه: سامعا مبصرا، لأن سمع الإنسان وبصره أكثر تحصيلا وتمييزا في المسموعات والمبصرات من سمع وبصر الحيوان، فبالسمع يتلقى الشرائع ودعوة الرسل وبالبصر ينظر في أدلة وجود الله وبديع صنعه.
وهذا تخلص إلى ما ميز الله به الإنسان من جعله تجاه التكليف وأتباع الشرائع وتلك خصيصية الإنسان التي بها ارتكزت مدينته وأنتظم جامعاته، ولذلك أعقبت هذه الجملة بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} : الآيات.
[3] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
استئناف بياني لبيان ما نشأ عن جملة {نبتليه} ولتفصيل جملة {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، وتخلص إلى الوعيد على الكفر والوعد على الشكر.
وهداية السبيل: تمثيل لحال المرشد. و { السبيل} : الطريق الجادة إلى ما فيه النفع بواسطة الرسل إلى العقائد الصحية والأعمال الصالحة التي هي سبب فوزه بالنعيم الأبدي، بحال من يدل السائر على الطريق المؤدية إلى مقصده من سيره.
(29/348)

وهذا التمثيل ينحل إلى تشبيهات أجزاء الحالة المركبة المشبهة بأجزاء الحالة المشبه بها، فالله تعالى كالهادي، والإنسان يشبه السائر المتحير في الطريق، وأعمال الدين تشبه الطريق، وفوز المتتبع لهدي الله يشبه البلوغ إلى المكن المطلوب.
وفي هذا النداء على أن الله أرشد الإنسان إلى الحق وأن بعض الناس أدخلوا على أنفسهم ضلال الاعتقاد ومفاسد الأعمال فمن برأ نفسه من ذلك فهو الشاكر وغيره الكفور، وذلك تقسيم بحسب حال الناس في أول البعثة، ثم ظهر من خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا.
وتأكيد الخبر ب"إن" للرد على المشركين الذين يزعمون أن ما يدعوهم إليه القران باطل.
و {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} حالان من ضمير الغيبة فيه {هديناه} ، وهو ضمير {الإنسان} .
و {إما} حرف تفصيل، وهو حرف بسيط عند الجمهور. وقال سيبويه: هو مركب من حرف "إن" الشرطية و"ما" النافية. وقد تجردت "إن" بالتركيب على الشرطية كما تجردت "ما" عن النفي، فصار مجموع {إما} حرف تفصيل ولا عمل لها في الاسم بعدها ولا تمنع العامل الذي قبلها عن العمل في معموله الذي بعدها فهي في ذلك مثل {آل} حرف التعريف. وقدر بعض النحاة {إما} الثانية حرف عطف وهو تحكم إذ جعلوا الثانية عاطفة وهي أخت الأولى، وإنما العاطف الواو وإما مقحمة بين الاسم ومعموله كما في قول تأبط شرا:
هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم والموت بالحر أجدر
فإن الاسمين بعد "إما" في موضوعين من البيت مجروران بالإضافة ولذلك حدثت النون من قوله: هما خطتا، وذلك أفصح كما جاء في هذه الآية.
قال ابن جني أما من جر "إسار" فإنه حذف النون للإضافة ولم يعتد "إما" فاصلا بين المضاف والمضاف إليه وعلى هذا تقول: هما إما غلاما زيد وإما عمروا وأجود من هذا أن تقول: هما خطتا إسار ومنة وإما خطتا دم ثم قال: وأما الرفع فطريق المذهب، وظاهره أمره أنه على لغة من حذف النون لغير الإضافة فقد حكي ذلك الخ.
ومقتضى كلامه أن البيت روي بالوجهين الجر والرفع وقريب منه كلام المرزوقي
(29/349)

وزاد فقال وحذف النون إذا رفعت إسار استطالة للاسم كأنه استطال خطتا ببدله وهو قوله: إما إسار الخ.
والمعنى: إنا هديناه السبيل في حال أنه متردد أمره بين أحد هذين الوصفين وصف شاكر ووصف كفور، فأحد الوصفين على الترديد مقارن لحال إرشاده إلى السبيل، وهي مقارنة عرفية، أي عقب التبليغ والتأمل، فإن أخذ بالهدى كان شاكرا وإن أعرض كان كفورا كمن لم يأخذ بإرشاد من يهديه الطريق فيأخذ في طريق يلقي به السباع أو اللصوص، وبذلك تم التمثيل الذي في قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} .
[4] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} .
أريد التخلص إلى جزاء الفريقين الشاكر والكفور.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قوله: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الانسان: 3] يثير تطلع السامعين إلى معرفة آثار هذين الحالين المتردد حاله بينهما، فابتدأ بجزاء الكافر لأن ذكره أقرب.
وأكد الخبر عن الوعيد بحرف التأكيد لإدخال الروع عليهم لأن المتوعد إذا أكد كلامه بمؤكد فقد أذن بأنه لا هوادة له في وعيده.
وأصل {أعتدنا} أي أعددنا، بدالين، أي هيئنا للكافرين، يقال: اعتد كما يقال: أعد، قال تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [يوسف: 31].
وقد تردد أيمة اللغة في أن أصل الفعل بدالين أو بتاء ودال فلم يجزموا بأيهما الأصل لكثرة ورود فعل: أعد وفعل اعتد في الكلام والأظهر أنهما فعلان نشئا من لغتين غير أن الاستعمال خص الفعل ذا التاء بعدة الحرب فقالوا: عتاد الحرب ولم يقولوا عداد.
وأما العدة بضم العين فتقع على كل ما يعد ويهيأ، يقال: أعد لكل حال عدة. ويطلق العتاد على ما يعد من الأمور.
والأكثر أنه إذا أريد الإدغام جيء بالفعل الذي عينه دال وإذا وجد مقتضى فك الإدغام لموجب مثل ضمير المتكلم جيء بالفعل الذي عينه تاء.
والسلاسل: القيود المصنوعة من حلق الحديد يقيد بها الجناة والأسرى.
(29/350)

والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو حلقة كبيرة من حديد توضع في رقبة المقيد، وتناط بها السلسلة قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] فالأغلال والسلاسل توضع لهم عند سوقهم إلى جهنم.
والسعير: النار المسعرة، أي التي سعرها الموقدون بزيادة الوقود ليشتد التهابها فهو في الأصل وصف بمعنى اسم المفعول جعل علما على جهنم. وقد تقدم عند قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} في سورة الإسراء [97].
وكتب {سَلاسِلا} في المصحف الإمام في جميع النسخ التي أرسلت إلى الأمصار بألف بعد اللام الثانية ولكن القراء اختلفوا في قراءتها، فنافع والكسائي وهشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر قرأوا {سَلاسِلا} منونا في الوصل ووقفوا عليه كما يوقف على المنون المنصوب، وإذا كان حقه أن يمنع من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجمع تعين أن قراءته بالتنوين لمراعاة مزاوجته مع الاسمين الذين بعده وهما {أَغْلالُ} و {سعيرا} ، والمزاوجة طريقة في فصيح الكلام، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم لنساء "ارجعن مأزورات غير مأجورات" فجعل "مأزورات" مهموزا وحقه أن يكون بالواو لكنه همز مزاوجة مأجورات، وكذلك قوله في حديث سؤال الملكين الكافر فيقال له: "لا دريت ولا تليت" ، وكان الأصل أن يقال: ولا تلوت. ومنه قول ابن مقبل أو القلاح:
هتاك أخبية ولاج أبوبة ... يخالط البر منه الجد واللينا
فقوله أبوبه جمع باب وحقه أن يقول أبواب.
وهذه القراءة متينة يعضدها رسم المصحف وهي جارية على طريقة عربية فصيحة. وقرأه الباقون بدون تنوين في الوصل.
واختلفوا في قراءته إذا وقفوا عليه فأكثرهم قرأه في الوقف بدون ألف فيقول {سلاسل} في الوقف. وقرأه أبو عمرو ورويس عن يعقوب بالألف على اعتباره منون في الوصل.
قرأه البزي عن ابن كثير وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم في الوقف بجواز الوجهين بالألف وبتركها.
فأما الذين لم ينونوا {سَلاسِلا} في الوصل ووقفوا عليه بألف بعد لامه الثانية.
وهما أبو عمرو ورويس عن يعقوب فمخالفة روايتهم برسم المصحف محمولةعلى أن
(29/351)

الرسم جرى على اعتبار حالة الوقف وذلك كثير فكتابة الألف بعد اللام لقصد التنبيه على إشباع الفتحة عند الوقف لمزاوجة الفواصل في الوقف لأن الفواصل كثيرا ما تعطي أحكام القوافي والأسجاع.
وبعد فالقراءات روايات مسموعة ورسم المصحف سنة مخصوصة به وذكر الطيبي: أن بعض العلماء اعتذر عن اختلاف القراء في قوله: {سَلاسِلا} بأنه من الاختلاف في كيفية الأداء كالمد والإمالة وتخفيف الهمزة وأن الاختلاف في ذلك لا ينافي التواتر.
[5-6] {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} .
هذا استئناف بياني ناشئ عن الاستئناف الذي قبله من قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا} [الانسان: 4] الخ. فإن من عرف ما عد للكفور من الجزاء يتطلع إلى معرفة ما أعد للشاكر من الثواب.
وآخر تفصيله عن تفصيل جزاء الكفور مع أن {شَاكِراً} [الانسان: 3] مذكور قبل {كَفُوراً} [الانسان: 3]، على طريقة اللف والنشر المعكوس ليتسع المجال لإطناب الكلام على صفة جزاء الشاكرين وما فيه من الخير والكرامة، تقريبا للموصوف من المشاهدة المحسوسة.
وتأكيد الخبر عن جزاء الشاكرين لدفع إنكار المشركين أن يكون المؤمنين خيرا منهم في عالم الخلود، والإفادة الاهتمام بهذه البشارة بالنسبة إلى المؤمنين.
و {الأبرار} : هم الشاكرون، عبر عنهم بالأبرار زيادة في الثناء عليهم.
و {الأبرار} : جمع بر بفتح الباء، وجمع بار أيضا مثل شاهد وإشهاد، والبار أو البر المكثر من البر بكسر الباء وهو فعل الخير، ولذلك كان البر من أوصاف الله تعالى قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].
ووصف بر أقوى من بار في الاتصاف بالبر، ولذلك يقال: الله بر، ولم يقل: الله بار.
ويجمع بر على بررة. ووقع في "مفردات الراغب" : أن بررة أبلغ أبرار.
وابتدأ في وصف نعيمهم بنعيم لذة الشرب من خمر الجنة لما للذة الخمر من الاشتهار بين الناس، وكانوا يتنافسون في تحصيلها.
(29/352)

والكأس: بالهمز الإناء المجعول للخمر فلا يسمى كأسا إلا كان فيه خمر، وقد تسمى الخمر كأسا على وجه المجاز المرسل بهذا الاعتبار كما سيجيء قريبا قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً} [الانسان: 17] فيجوز أن يراد هنا آنية الخمر فتكون {من} للابتداء وإفراد كأس للنوعية، ويجوز أن تراد الخمر فتكون {من} للتبعيض.
وعلى التقديرين فكأس مراد به الجنس وتنوينه لتعظيمه في نوعه.
والمزاج: بكسر الميم ما يمزج به غيره، أي يخلط وكانوا يمزجون الخمر بالماء إذا كانت الخمر معتقة شديدة ليخففوا من حدتها وقد ورد ذكر مزج الخمر في أشعار العرب كثيرا.
وضمير {مزاجها} عائد إلى {كأس} .
فإذا أريد بالكأس إناء الخمر فالإضافة لأدنى ملابسة، أي مزاج ما فيها، وإذا أريدت الخمر فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.
والكافور: زيت يستخرج من شجرة تشبه الدفلة تنبت في بلاد الصين وجاوة يتكون فيها إذا طالت مدتها نحوا من مائتي سنة فيغلى حطبها ويستخرج منه زيت يسمى الكافور. وهو ثخن قد يتصلب فيصير كالزبد وإذا يقع حطب شجرة الكافور في الماء صار نبيذا يتخمر فيصير مسكرا.
والكافور أبيض اللون ذكي الرائحة منعش.
فقيل أن المزاج هنا مراد به الماء والإخبار عنه بأنه كافور من قبيل التشبيه البليغ، أي في اللون أو ذكاء الرائحة، ولعل الذي دعا بعض المفسرين إلى هذا إن المتعارف بين الناس في طيب الخمر أن يوضع المسك في جوانب الباطية قال النابغة:
وتسقى إذا ما شئت غير مصرد ... بزوراء في حافاتها المسك كارع
ويختم على آنية الخمر بخاتم من مسك كما في قوله تعالى في صفة أهل الجنة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 25-26]. وكانوا يجعلون الفلفل في الخمر لحسن رائحته ولذعة حرارته لذعة لذيذة في اللسان، كما قال أمرؤ القيس:
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
ويحتمل أن يكونوا يمزجون الخمر بماء فيه الكافور أوبزيته فيكون المزاج في الآية
(29/353)

على حقيقته مما تمزج به الخمر ولعل ذلك كان من شأن أهل الترف لأن الكافور ثمين وهو معدود في العطور.
ومن المفسرين من قال: إن كافور اسم عين في الجنة لأجل قوله عقبه {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} وستعلم حق المراد منه.
وإقحام فعل {كان} في جملة الصفة بقوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} لإفادة أن ذلك مزاجها لا يفارقها إذ كان معتاد الناس في الدنيا ندرة ذلك المزاج لغلاء ثمنه وقلة وجدانه.
وانتصب {عينا} عن البدل من {كافورا} أي ذلك الكافور تجري به عين في الجنة من ماء محلول فيه أو من زيته مثل قوله: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد: 15]. وعدي فعل {يشرب} بالباء وهي باء الإلصاق لأن الكافور يمزج به شرابهم. فالتقدير: عينا يشرب عباد الله خمرهم بها، أي مصحوبا بمائها، وذهب الأصمعي إلى أن الباء في قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} بمعنى "من" التبعيضية ووافقه الفارسي وابن قتيبة وابن مالك، وعد في كتبه ذلك من معاني الباء ونسب إلى الكوفيين.
و {عِبَادُ اللَّهِ} مراد بهم: الأبرار. وهو إظهار في مقام الإضمار للتنويه بهم بإضافة عبوديتهم إلى الله تعالى إضافة تشريف.
والتفجير: فتح الأرض عن الماء أي استنباط الماء الغزير وأطلق هنا على الاستقاء منها بلا حد ولا نضوب فكان كل واحد يفجر لنفسه ينبوعا وهذا من الاستعارة.
وأكد فعل {يفجرونها تفجيرا} ترشيحا للاستعارة.
[7] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
اعتراض بين جملة {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] الخ وبين جملة {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 15] الخ. وهذا الاعتراض استئناف بياني هو جواب عن سؤال من شأن الكلام السابق أن يثيره في نفس السامع المغتبط بأنه ينال مثل ما نالوا من النعيم والكرامة في الآخرة. فيهتم بأن يفعل مثلما فعلوا، فذكر بعض أعمالهم الصالحة التي هي من آثار الإيمان مع التعريض لهم بالاستزادة منها في الدنيا.
والكلام إخبار عنهم صادر في وقت نزول هذه الآيات، بعضه وصف لحالهم في
(29/354)

الآخرة وبعضه وصف لبعض حالهم في الدنيا الموجب لنوال ما نالوه في الآخرة، فلا حاجة إلى قول الفراء: إن في الكلام إضمارا. وتقديره: كانوا يوفون بالنذر.
وليست الجملة حالا من {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5]وضميرهم لأن الحال قيد لعاملها فلو جعلت حالا لكانت قيدا لـ {يَشْرَبُونَ} [الانسان: 5]، وليس وفاؤهم بالنذر بحاصل في وقت شربهم من خمر الجنة بل هو بما أسلفوه في الحياة الدنيا.
والوفاء: أداء ما وجب على المؤدي وافيا دون نقص ولا تقصير فيه.
والنذر: ما يعتزمه المرء ويعقد عليه نيته، قال عنترة:
والناذرين إذ لم ألقهما دمي
والمراد به هنا ما عقدوا عليه عزمهم من الإيمان والامتثال وهو ما استحقوا به صفة {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5].
ويجوز أن يراد ب {النذر} ما ينذرونه من فعل الخير المتقرب به إلى الله، أي ينشئون النذور بها ليوجبوها على أنفسهم.
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على تجدد وفائهم بما عقدوا عليه ضمائرهم من الإيمان والعمل الصالح، وذلك مشعر بأنهم يكثرون نذر الطاعات وفعل القربات ولولا ذلك لما كان الوفاء بالنذر موجا الثناء عليهم.
والتعريف في "النذر" تعريف الجنس فهو يعم كل نذر.
وعطف على {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} قوله: {وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} لأنهم لما وصفوا بالعمل بما ينذرونه أتبع ذلك بذكر حسن نيتهم وتحقق إخلاصهم في أعمالهم لأن الأعمال بالنيات فجمع لهم بهذا صحة الاعتقاد وحسن الأعمال.
وخوفهم اليوم مجاز عقلي جرى في تعليق اليوم بالخوف لأنهم إنما يخافون ما يجري في ذلك اليوم من الحساب والجزاء على الأعمال السيئة بالعقاب فعلق فعل الخوف بزمان الأشياء المخوفة.
وانتصب {يوما} على المفعول به لـ {يَخَافُونَ} ولا يصح نصبه على الظرفية لأن المراد بالخوف خوف في الدنيا من ذنوب تجر إليهم العقاب في ذلك اليوم. وليس المراد أنهم يخافون في ذلك اليوم فإنهم في ذلك اليوم آمنون.
(29/355)

ووصف اليوم بأن له شرا مستطيرا وصفا مشعرا بعلة خوفهم إياه. فالمعنى: إنهم يخافون شر ذلك اليوم فيتجنبون ما يفضي بهم إلى شره من الأعمال المتوعد عليها بالعقاب.
والشر: العذاب والجزاء السوء.
والمستطير: هو اسم فاعل من استطار القاصر، والسين والتاء في استطار للمبالغة وأصله طار مثل استكبر. والطيران مجازي مستعار لانتشار الشيء وامتداده تشبيها له بانتشار الطير في الجو، ومنه قولهم: الفجر المستطير وهو الفجر الصادق الذي ينتشر ضوءه في الأفق ويقال: استطار الحريق إذ انتشر وتلاحق.
وذكر فعل {كان} للدلالة على تمكن الخبر من المخبر عنه وإلا فإن شر ذلك اليوم ليس واقعا في الماضي وإنما يقع بعد مستقبل بعيد، ويجوز أن يجعل ذلك من التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه.
وصيغة {يَخَافُونَ} دالة على تجدد خوفهم شر ذلك اليوم على نحو قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} .
[8-10] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً، إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} .
خصص الإطعام بالذكر لما في إطعام المحتاج من إيثاره على النفس كما أفاد قوله: {عَلَى حُبِّهِ} .
والتصريح بلفظ الطعام مع أنه معلوم من فعل {يُطْعِمُون} توطئة ليبنى عليه الحال وهو {عَلَى حُبِّهِ} فإنه لو قيل: ويطعمون مسكينا ويتيما وأسيرا لفات في قوله {عَلَى حُبِّهِ} من معنى إيثار المحاويج على النفس، على أن ذكر الطعام بعد {يُطْعِمُون} يفيد تأكيدا مع استحضار هيئة الإطعام حتى كأن السامع يشاهد الهيئة.
و {عَلَى حُبِّهِ} في موضع الحال من ضمير {يُطْعِمُون} .
و {على} بمعنى "مع"، وضمير {حبه} راجع للطعام، أي يطعمون الطعام مصحوبا بحبه. أي مصاحبا لحبهم إياه وحب الطعام هو اشتهاؤه.
فالمعنى: أنهم يطعمون طعاما هم محتاجون إليه.
(29/356)

ومجيء {على} بمعنى "مع" ناشئ عن تمجز في الاستعلاء، وصورته أن مجرور حرف {على} في مثله أفضل من معمول متعلقها فنزل منزلة المعتلي عليه.
والمسكين: المحتاج. واليتيم: فاقد الأب وهو مظنة الحاجة لأن أحوال العرب كانت قائمة على اكتساب الأب للعائلة بكدحه فإذا فقد الأب تعرضت العائلة للخصاصة.
وأما الأسير فإذ قد كانت السورة كلها مكية قبل عزة المسلمين، فالمراد من الأسير العبد من المسلمين إذ كان المشركون قد أجاعوا عبيدهم الذين أسلموا مثل بلال وعمار وأمه وربما سيبوا بعضهم إذا أضجرهم تعذيبهم وتركوهم بلا نفقة.
والعبودية تنشأ من الأسر فالعبد أسير ولذلك يقال له العاني أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم "فكوا العاني" وقال عن النساء "إنهن عوان عندكم" على طريقة التشبيه وقال سحيم عبد بني الحسحاس:
رأت قتبا رثا وسحق عمامة ... وأسود هما ينكر الناس عانيا
يريد عبدا. وذكر القرطبي عن الثعلبي: قال أبو سعيد الخدري قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} فقال: "المسكين الفقير، واليتيم: الذي لا أب له، والأسير: المملوك والمسجون" . ولم أقف على سند هذا الحديث.
وبهذا تعلم أن لا شاهد في هذه الآية لجعل السورة نزلت بالمدينة وفي الأسارى الذين كانوا في أسر المسلمين في غزوة بدر.
وجملة {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إلى آخرها مقول قول محذوف تقديره: يقولون لهم، أي للذين يطعمونهم فهو في موضع الحال من ضمير {يُطْعِمُون} ، وجملة {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} مبينة لمضمون جملة {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} .
وجملة {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} إلى آخرها واقعة موقع التعليل لمضمون جملة {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} .
والمعنى: إنهم يقولون ذلك لهم تأنيسا لهم ودفعا لانكسار النفس الحاصل عند الإطعام، أي ما نطعمكم إلا استجابة لما أمر الله، فالمطعم لهم هو الله.
فالقول قول باللسان، وهم ما يقولونه إلا وهو مضمر في نفوسهم. وعن مجاهد أنه قال: ما تكلموا به ولكن علمه الله فأثنى به عليهم.
(29/357)

فالقصر المستفاد من {إنما} قصر قلب مبني على تنزيل المطعمين منزلة من يضن أن من أطعمهم يمن عليهم ويريد منهم الجزاء والشكر بناء على المتعارف عندهم في الجاهلية. والمراد بالجزاء: ما هو عوض عن العطية من خدمة وإعانة، وبالشكور ذكرهم بالمزية.
والشكور: مصدر بوزن الفعول كالقعود والجلوس، وإنما اعتبر بوزن الفعول الذي هو مصدر فعل اللازم لأن فعل الشكر لا يتعدى للمشكور بنفسه غالبا بل باللام يقال: شكرت لك قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي} [البقرة: 152].
وأما قوله: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} فهو مقول لقول يقولونه في نفوسهم أو ينطق به بعضهم مع بعض وهو حال من ضمير {يَخَافُونَ} [الانسان: 7] أي يخافون ذلك اليوم في نفوسهم قائلين {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، فحكى وقوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} وقولهم {إِنَّا نَخَافُ} الخ. على طريقة اللف والنشر المعكوس والداعي إلى عكس النشر مراعاة حسن تنسيق النظم ليكون الانتقال من ذكر الإطعام إلى ما يقولونه للمطعمين والانتقال من ذكر خوف يوم الحساب إلى بشارتهم بوقاية الله إياهم من شر ذلك اليوم وما يلقونه فيه من النضرة والسرور والنعيم.
فيجوز أن يكون {من ربنا} ظرفا مستقرا وحرف {من} ابتدائية وهو من حال {يوما} قدم عليه، أي نخاف يوما عبوسا قمطريرا حال كونه من أيام ربنا، أي من أيام تصاريفه.
ويجوز أن تكون {من} تجريدية كقولك: لي من فلان صديق حميم. ويكون يوما منصوبا على الظرفية وتنويه للتعظيم، أي نخافه في يوم شديد.
وعبوسا: منصوبا على المفعول بفعل {نخاف} ، أي نخاف غضبان شديد الغضب هو ربنا، فيكون في التجريد تقوية للخوف إذ هو كخوف من شيئين وتلك نكتة التجريد، أو يكون {عبوسا} حالا {مِنْ رَبِّنَا} .
ويجوز أن تجعل {من} لتعدية فعل {نخاف} كما عدي في قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182]. وينتصب يوما على المفعول به لفعل {نخاف} فصار لفعل {نخاف} معمولان. و {عبوسا} صفة ل {يوما} ، والمعنى: نخاف عذاب يوم هذه صفته، ففيه تأكيد الخوف بتكرير متعلقة ومرجع التكرير إلى كونه خوف الله لأن اليوم يوم عدل الله وحكمه.
(29/358)

والعبوس: صفة مشبهة لمن هو شديد العبس، أي كلوح الوجه وعدم انطلاقه، ووصف اليوم بالعبوس على معنى الاستعارة، شبه اليوم الذي تحدث فيه حوادث تسوءهم برجل يخالطهم شرس الأخلاق عبوسا في معاملته.
والقمطرير: الشديد الصعب من كل شيء. وعن ابن عباس القمطرير المقبض بين عينيه مشتق من قمطر القاصر إذا اجتمع، أو قمطر المتعدي إذا شد القربة بوكاء ونحوه، ومنه سمي السفط الذي توضع فيه الكتب قمطرا وهو كالمحفظة. وميم قمطرير أصلية فوزنه فعلليل مثل خندريس وزنجبيل، يقال: قمطر للشر، إذا تهيأ له وجمع نفسه.
والجمهور جعلوا {قمطريرا} وصف {يوما} ومنهم من جعلوه وصف {عبوسا} أي شديد العبوس.
وهذه الآية تعم جميع الأبرار وعلى ذلك التحم نسجها، وقد تلقفها القصاصون والدعاة ووضعوا لها قصصا مختلفة وجاؤوا بأخبار موضوعة وأبيات مصنوعة فمنهم من زعم أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة رضي الله عنهما في قصة طويلة ذكرها الثعلبي والنقاش وساقها القرطبي بطولها ثم زيفها. وذكر عن الحكيم الترمذي أنه قال في نوادر الأصول: هذا حديث مزوق مزيف وأنه يشبه أن يكون من أحاديث أهل السجون.
وقيل نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري، وقيل في رجل غيره من الأنصار، وقد استوفي ذلك كله القرطبي في تفسيره فلا طائل تحت اجتلابه، وصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أهل لأن ينزل القرآن فيهم إلا أن هذه الأخبار ضعيفة موضوعة.
[11-14] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} .
تفريع على قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} إلى {قَمْطَرِيراً} [الانسان: 7-10].
وفي هذا التفريع تلوين للحديث عن جزاء الأبرار وأهل الشكور، وهذا برزخ للتخلص إلى عود الكلام على حسن جزاءهم أن الله وقاهم شر ذلك اليوم وهو الشر لمستطير المذكور آنفا، وقاهم إياه جزاء على خوفهم إياه وأنه لقاهم نظرة وسرورا جزاء
(29/359)

على ما فعلوا من خير.
وأدمج في ذلك قوله: {بِمَا صَبَرُوا} الجامع لأحوال التقوى والعمل الصالح كله لأن جميعه لا يخلوا عن تحمل النفس لترك محبوب أو فعل ما فيه كلفة، ومن ذلك إطعام الطعام على حبه.
و {لقاهم} معناه: جعلهم يلقون نضرة وسرورا، أي جعل لهم نظرة وهي حسن البشرة، وذلك يحصل من فرح النفس ورفاهية العيش قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] فمثل إلقاء النضرة على وجوههم بزج أحد إلى لقاء أحد على طريقة التمثيل.
وضمير الغائبة و {نضرة} مفعولا "لقى" من باب كسا.
وبين "وقاهم" و {لقاهم} الجناس المحرف.
وجملة {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، عطف على جملة {فوقاهم} وجملة {ولقاهم} لتماثل الجمل الثلاث في الفعلية والمضي وهما محسنان من محسنات الوصل.
والحرير: اسم لخيوط من مفرزات دودة مخصوصة، وتقدم الكلام عليه في سورة فاطر.
وكان الجزاء برفاهية العيش إذ جعلهم في أحسن المساكن وهو الجنة، وكساهم أحسن الملابس وهو الحرير الذي لا يلبسه إلا أهل فرط اليسار، فجمع لهم حسن الظرف الخارج وحسن الظرف المباشر وهو اللباس.
والمراد بالحرير هنا: ما ينسج منه.
و {متكئين} : حال من ضمير الجمع في {جزاهم} ، أي هم في الجنة متكئون على الأرائك.
والاتكاء: جلسة بين الجلوس والاضطجاع يستند فيها الجالس على مرفقه وجنبه ويمد رجليه وهي جلسة ارتياح، وكانت من شعار الملوك وأهل البذخ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا" وتقدم ذلك في سورة يوسف [31] عند قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} .
و {الأرائك} : جمع أريكة بوزن سفينة. والأريكة: سرير عليه وسادة معها ستر وهو حجلته، والحجلة بفتحتين وبتقديم الحاء المهملة على الجيم: كلة تنصب فوق السرير لتقي
(29/360)

الحر والشمس، ولا يسمى السرير أريكة إلا إذا كان معه حجلة.
وقيل: كل ما يتوسد ويفترش مما له حشو يسمى أريكة وإن لم تكن له حجلة، وفي الإتقان عن ابن الجوزي: أن الأريكة السرير بالحبشية فزاده السيوطي على أبيات ابن السبكي وابن حجر في جمع المعرب في القرآن.
وجملة {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} حال ثانية من ضمير الغائب في {جزاهم} أو صفة {جنة} .
والمراد بالشمس: حر أشعتها، فنفي رؤية الشمس في قوله: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} فيكون نفي رؤية الشمس كناية عن نفي وجود الشمس الذي يلزمه انتفاء حر شعاعها فهو من الكناية التلويحية كقوله:
ولا ترى الضب فيها ينجحر
أي لا ضب بها فتراه ولا يكون انجحاره.
والزمهرير: اسمك للبرد القوي في لغة الحجاز، والزمهرير: اسم البرد.
والمعنى: أن هواء الجنة معتدل لا ألم فيه بحال. وفي كلام الرابعة من نساء حديث أم زرع زوجي كليل تهامة، ولا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمة.
وقال ثعلب: الزمهرير اسم القمر في لغة طيء، وأنشد:
وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى على هذا: أنهم لا يرون في الجنة ضوء الشمس ولا ضوء القمر، أي ضوء النهار وضوء الليل لأن ضياء الجنة من نور واحد خاص بها. وهذا معنى آخر غير نفي الحر والبرد.
ومن الناس من يقول: المراد بالشمس حقيقتها وبالزمهرير البرد وأن في الكلام احتباكا، والتقدير: لا يرون فيها شمسا ولا قمرا ولا حرا ولا زمهريرا وجعلوه مثالا للاحتباك في المحسنات البديعية، ولعل مراده: أن المعنى أن نورها معتدل وهواءها معتدل.
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} انتصب {دانية} عطفا على {متكئين} لأن هذا حال سببي من أحوال المتكئين، أي ظلال شجر الجنة قريبة منهم. و {ظلالها} فاعل {دانية} وضمير
(29/361)

{ظلالها} عائد إلى {جنة} .
ودنو الظلال: قربها منهم وإذ لم يعهد وصف الظل بالقرب يظهر أن دنو الظلال كناية عن تدلي الأدواح التي من شأنها أن تظلل الجنات في معتاد الدنيا ولكن الجنة لا شمس فيها فيستظل من حرها، فتعين أن تركيب {دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا} مثل يطلق على تدلي أفنان الجنة لأن الظل المظلل للشخص لا يتفاوت بدنو ولا بعد، وقد يكون {ظلالها} مجازا مرسلا عن الأفنان بعلاقة اللزوم.
والمعنى: أن أدواح الجنة قريبة من مجالسهم وذلك مما يزيدها بهجة وحسنا وهو في معنى قوله تعالى {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:23].
ولذلك عطف عليه جملة {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} ، أي سخرت لهم قطوف تلك الألواح وسهلت لهم بحيث لا التواء فيها ولا صلابة تتعب قاطفها ولا يتمطون إليها بل يجتنونها بأسهل تناول.
فاستعير التذليل للتيسير كما يقال: فرس ذلول: أي مطواع لراكبه، وبقرة ذلول، أي ممرنة على العمل، وتقدم في سورة البقرة.
والقطوف: جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو العنقود من التمر أو العنب، سمي قطفا بصيغة من صيغ المفعول مثل ذبح، لأنه يقصد قطفه فإطلاق القطف عليه مجاز باعتبار المآل شاع في الكلام. وضمير {قطوفها} عائد إلى {جنة} أو إلى {ظلالها} باعتبار الظلال كناية عن الأشجار.
و {تذليلا} مصدر مؤكد لذلك، أي تذليلا شديدا منتهيا.
[15-16] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} .
عطف على جملة {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] الخ كما اقتضاه التناسب بين جملة {يشربون} وجملة {يُطَافُ عَلَيْهِمْ} في الفعلية والمضارعية، وذلك من أحسن أحوال الوصل، عاد الكلام إلى صفة مجالس شرابهم.
وهذه الجملة بيان لما أجمل في جملة {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5]. وإنما عطف عليها لما فيها من مغايرة مع الجملة المعطوف عليها من صفة آنية الشراب،
(29/362)

فلهذه المناسبة أعقب ذكر مجالس أهل الجنة ومتكآتهم، بذكر ما يستتبعه مما تعارفه أهل الدنيا من أحوال أهل البذخ والترف واللذات بشرب الخمر إذ يدير عليهم آنية الخمر سقاة. وإذ قد كان ذلك معروفا ولم تكن حاجة إلى ذكر فاعل الطواف فبني للنائب.
وهذا وعد لهم بإعطاء متمناهم في الدنيا مع مزيد عليه من نعيم الجنة ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.
والطواف: مشي مكرر حول شيء أو بين أشياء، فلما كان أهل المتكأ جماعة كان دوران السقاء بهم طوافا. وقد سموا سقي الخمر: إدارة الخمر أو إدارة الكأس. والساقي: مدير الكأس، أو مدير الجام أو نحو ذلك.
والآنية: جمع إناء ممدودا بوزن أفعلة مثل كساء وأكسية ووعاء وأوعية اجتمع في أول الجمع همزتان مزيدة وأصلية فخففت ثانيتهما ألفا.
والإناء: اسم لكل وعاء يرتفق به، وقال الراغب: ما يوضع فيه الشيء اه فيظهر انه يطلق على كل وعاء يقصد للاستعمال والمداولة للأطعمة والأشربة ونحوهما سواء كان من خشب أو معدن أو فخار أو أديم أو زجاج، يوضع فيه ما يشرب. أو يؤكل، أو يطبخ فيه، والظاهر أنه لا يطلق على ما يجعل للخزن فليست القربة بإناء ولا الباطية بإناء، والكأس إناء والكوز إناء والإبريق إناء والصحفة إناء.
والمراد هنا آنية مجالس شرابهم كما يدل عليه ذكر الأكواب وذلك في عموم الآنية وما يوضع معه من نقل أو شواء أو نحو ذلك كما قال تعالى في آية الزخرف [71] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} .
وتشمل الآنية الكؤوس وذكر الآنية بعد {كَأْسٍ} [الانسان: 5] من قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الانسان: 5] من ذكر العام بعد الخاص إلا إذا أريد الكأس بالخمر.
والأكواب: جمع كوب بضم الكاف بعده واو ساكنة. والكوب: كوز لا عروة له ولا خرطوم له، وتقدم في سورة الزخرف.
وعطف {أكواب} على "آنية" من عطف الخاص على العام لأن الأكواب تحمل فيها الخمر لإعادة ملء الكؤوس. ووصفت هنا بأنها من فضة، أي تأتيهم آنيتهم من فضة في بعض الأوقات ومن ذهب في أوقات أخرى كما دل عليه قوله في سورة الزخرف [71] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} لأن للذهب حسنا وللفضة حسنا فجعلت
(29/363)

آنيتهم من المعدنين النفيسين لئلا يفوتهم ما في كل من الحسن والجمال، أو يطاف عليهم بآنية من فضة وآنية من ذهب متنوعة متزاوجة لأن ذلك أبهج منظرا مثل ما قاله مرة {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 21]، ومرة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} [الكهف: 31] وذلك لإدخال المسرة على أنفسهم بحسن المناظر فإنهم كانوا يتمنونها في الدنيا لعزة وجودها أو وجود الكثير منها، وأوثر ذكر آنية الفضة هنا لمناسبة تشبيهها بالقوارير في البياض.
والقوارير: جمع قارورة، وأصل القارورة إناء شبه كوز، قيل: لا تسمى قارورة إلا إذا كانت من زجاج، وقيل مطلقا وهو الذي ابتدأ به صاحب القاموس .
وسميت قارورة اشتقاقا من القرار وهو المكث في المكان وهذا وزن غريب.
والغالب أن اسم القارورة للإناء من الزجاج، وقد يطلق على ما كان من زجاج وإن لم يكن إناء كما في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} [النمل: 44] وقد فسر قوله: {قواريرا} في هذه الآية بأنها شبيهة بالقوارير في صفاء اللون والرقة حتى كأنها تشف عما قريب.
والتنافس في رقة آنية الخمر معروف عند شاربيها قال الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق
وفعل {كانت} هنا تشبيه بليغ، والمعنى: إنها مثل القوارير في شفيفها، وقرينة ذلك قوله: {مِنْ فِضَّةٍ} ، أي هي من جنس الفضة في لون القوارير لأن قوله: {مِنْ فِضَّةٍ} حقيقة فإنه قال قبله {بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} .
ولفظ {قوارير} الثاني، يجوز أن بكون تأكيدا لفظيا لنضيره لزيادة تحقيق أن لها رقة الزجاج فيكون الوقف على {قوارير} الأول.
ويجوز أن يكون تكريرا لإفادة التصنيف فإن حسن التنسيق في آنية الشراب من مكملات رونق مجلسه، فيكون التكرير مثل ما في قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] وقول الناس: قرأت الكتاب بابا بابا فيكون الوقف على {قوارير} الثاني.
وكتب في المصحف {قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ} بألف آخر تلك الكلمتين التي هي علامة تنوين.
وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {قواريرا} الأول والثاني منونين
(29/364)

وتنوين الأول لمراعاة الكلمات الواقعة في الفواصل السابقة واللاحقة من قوله: {كَافُوراً} [الانسان: 5] إلى قوله: {تقديرا} وتنوين الثاني للمزاوجة مع نظيره وهؤلاء وقفوا عليهما بالألف مثل أخواتهما وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {سَلاسِلا وَأَغْلالاً} [الانسان: 4].
وقرأ ابن كثير وخلف ورويس عن يعقوب {قواريرا} الأول بالتنوين ووقفوا عليه بالألف وهو جار على التوجيه الذي وجهنا به قراءة نافع والكسائي. وقرأ {قواريرا} الثاني بغير تنوين على الأصل ولم تراع المزاوجة ووقفا عليه بالسكون.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم بترك التنوين فيهما لمنع الصرف وعدم مراعاة الفواصل ولا المزاوجة.
والقراءات رواية متواترة لا يناكدها رسم للمصحف فلعل الذين كتبوا المصاحف لم تبلغهم إلا قراءة أهل المدينة.
وحدث خلف عن يحيى بن آدم عن ابن إدريس قال في المصاحف الأول ثبت {قواريرا} الأول بالألف والثاني بغير ألف، يعني المصاحف التي في الكوفة فإن عبد الله بن إدريس كوفي. وقال أبو عبيد: رأيت في مصحف عثمان {قواريرا} الأول بالألف وكان الثاني مكتوبا بالألف فحكت فرأيت أثرها هناك بينا. وهذا كلام لا يفيد إذ لو صح لما كان يعرف من الذي كتبه بالألف، ولا من الذي محا الألف ولا متى كان ذلك فيما بين زمن كتابة المصاحف وزمن أبي عبيد، ولا يدري ماذا عني بمصحف عثمان أهو مصحفه الذي اختص به أم هو مصحف من المصاحف التي نسخت في خلافته ووزعها على الأمصار?.
وقرأ يعقوب بغير تنوين فيهما في الوصل.
وأما في الوقف فحمزة وقف عليهما بدون ألف. وهشام عن ابن عامر وقفا عليهما بالألف على أنه صلة للفتحة، أي إشباع للفتحة ووقف أبو عمر وحفص وابن ذكوان عن ابن عامر ورويس عن يعقوب على الأول بالألف وعلى الثاني بدون ألف ووجهه ما وجهت به قراءة ابن كثير وخلف.
وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} يجوز أن يكون ضمير الجمع عائد إلى {الْأَبْرَارَ} [الانسان: 5] أو {عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان: 6] الذي عادت إليه الضمائر المتقدمة في قوله: {يُفَجِّرُونَهَا} [الانسان: 6] و {يُوفُونَ} [الانسان: 7] إلى آخر الضمائر فيكون معنى التقدير رغبتهم أن تجيء
(29/365)

على وفق ما يشتهون.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى نائب الفاعل المحذوف المفهوم من بناء {يطاف} للنائب، أي الطائفون عليهم بها قدروا الآنية والأكواب، أي قدروا ما فيها من الشراب على حسب ما يطلبه كل شارب منهم ومآله إلى معنى الاحتمال الأول. وكان مما يعد في العادة من حذق الساقي أن يعطي كل أحد من الشرب ما يناسب رغبته.
و {تقديرا} مفعول مطلق مؤكد لعامله للدلالة على وفاء التقدير وعدم تجاوزه المطلوب ولا تقصيره عنه.
[17-18] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً، عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} .
أتبع وصف الآنية ومحاسنها بوصف الشراب الذي يحويه وطيبه، فالكأس كأس الخمر وهي من جملة عموم الآنية المذكورة فيما تقدم ولا تسمى آنية الخمر كأسا إلا إذا فيها خمر فكون الخمر فيها وهو مصحح تسميتها كأسا، ولذلك حسن تعديه فعل السقي إلى الكأس لأن مفهوم الكأس يتقوم بما في الإناء من الخمر، ومثل قول هذا قول الأعشى:
وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها
يريد: وخمر شربت.
والقول في إطلاق الكأس على الإناء أو على ما فيه كالقول في نظيره المتقدم في قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الانسان:5].
ومعنى الآية أن هذه سقية أخرى، أي مرة يشربون من كأس مزاجها الكافور ومرة يسقون كأسا مزاجها الزنجبيل.
وضمير {فيها} للجنة من قوله: {جَنَّةً وَحَرِيراً} [الانسان: 12].
وزنجبيل: كلمة معربة وأصلها بالكاف الأعجمية عوض الجيم. قال الجواليقي والثعالبي: هي فارسية، وهو اسم لجذور مثل جذور السعد بضم السين وسكون العين تكون في الأرض كالجزر الدقيق واللفت الدقيق لونها إلى بياض لها نبات له زهر، وهي ذات رائحة عطرية طيبة وطعمها شبيه بطعم الفلفل، وهو ينبت ببلاد الصين والسند وعمان والشحر، وهو أصناف أحسنها ما ينبت ببلاد الصين، ويدخل في الأدوية والطبخ كالأفاوية ورائحته بهارية حريف. وهو منبه ويستعمل منقوعا في الماء ومربى بالسكر.
(29/366)

وقد عرفه العرب وذكره شعراء العرب في طيب الرائحة.
أي يمزجون الخمر بالماء المنقوع فيه الزنجبيل لطيب رائحته وحس طعمه.
وانتصب {عينا} على البدل من {زنجبيلا} كما تقدم في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الانسان:5-6].
ومعنى كون الزنجبيل عينا: أن منقوعة أو الشراب المستخرج من كثير كالعين على نحو قوله تعالى: {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد: 15]، أي هو كثير جدا وكان يعرف في الدنيا بالعزة.
و {سلسبيل} : وصف قبل مشتق من السلاسة وهي السهولة واللين فيقال: ماء سلسل، أي عذب بارد قيل زيدت فيه الباء والياء أي زيدتا في أصل الوضع على غير قياس.
قال التبريزي في شرح الحماسة في قول البعيث بن حريث:
خيال لأم السلسبيل ودونها ... مسيرة شهر للبريد المذبذب
قال أبو العلاء: السلسبيل الماء السهل المساغ. وعندي أن هذا الوصف ركب من مادتي السلاسلة والسبالة، يقال: سبلت السماء، إذا أمطرت، فسبيل فعيل بمعنى مفعول، ركب من كلمتي السلاسلة والسبيل لإرادة سهولة شربه ووفرة جريه. وهذا من الاشتقاق الأكبر وليس اشتقاق تصريفي.
فهذا وصف من لغة العرب عند محققي أهل اللغة. وقال ابن الإعرابي: لم اسمع هذه اللفظة إلا في القرآن، فهو عنده من مبتكرات القرآن الجارية على أساليب الكلام العربي، وفي حاشية الهمذاني على الكشاف نسبة بيت البعث المذكور آنفا مع بيتين بعده إلى أمية بن أبي الصلت وهو عزو غريب لم يقله غيره.
ومعنى {تسمى} على هذا الوجه، أنها توصف بهذا الوصف حتى صار كالعلم لها كما قال تعالى: {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [لنجم: 27] أي يصفونهم بأنهم إناث، ومنه قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي لا مثيل له. فليس المراد أنه علم.
ومن المفسرين من جعل التسمية على ظاهرها وجعل {سلسبيلا} علما على هذه العين، وهو أنسب بقوله تعالى: {تسمى} . وعلى قول ابن الأعرابي والجمهور: لا
(29/367)

إشكال في تنوين {سلسبيلا} . وأما الجواليقي: إنه أعجمي سمي به، يكون تنوينه للمزاوجة مثل تنوين {سَلاسِلا} [الانسان: 4].
وهذا الوصف ينحل في السمع إلى كلمتين: سل، سبيلا، أي اطلب طريقا. وقد فسره بذلك بعض المفسرين وذكر أنه جعل علما لهذه العين من قبيل العلم المنقول عن جملة مثل: تأبط شرا، وذرى حبا. وفي الكشاف أن هذا تكلف وابتداع.
[19] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} .
هذا طواف آخر غير طواف السقاة المذكور آنفا بقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15] الخ فهذا طواف لأداء الخدمة فيشمل طواف السقاة وغيرهم.
و {ولدان} : جمع وليد، وأصل وليد فعيل بمعنى مفعول ويطلق الوليد على الصبي مجازا مشهورا بعلاقة ما كان، لقصد تقريب عهده بالولادة، وأحسن ما يتخذ للخدمة الولدان لأنهم أخف حركة وأسرع مشيا ولأن المخدوم لا يتحرج إذا أمرهم أو نهاهم.
ووصفوا بأنهم {مخلدون} للاحتراس مما يوهمه اشتقاق {ولدان} من أنهم يشبون ويكتهلون، أي لا تتغير صفاتهم فهم ولدان دوما وإلا فإن خلود الذوات في الجنة معلوم فما كان ذكره إلا لأنه تخليد خاص.
وقال أبو عبيدة {مخلدون} : محلون بالخلدة بوزن قردة. واحدها خلد كقفل وهو اسم للقرط في لغة حمير.
وشبهوا باللؤلؤ المنثور تشبيها مقيدا فيه المشبه بحال خاص لأنهم شبهوا به في حسن المنظر مع التفرق.
وتركيب {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ} مفيد للتشبيه المراد به التشابه والخطاب في {رأيت} خطاب لغير معين، أي إذا رآه الرائي.
والقول في معنى الطواف تقدم عند قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15] الآية.
[20] {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .
الخطاب لغير معين، و {ثم} إشارة إلى المكان ولا يكون إلا ظرفا والمشار إليه هنا
(29/368)

ما جرى ذكره أعني الجنة المذكورة في قوله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً} [الانسان: 12].
وفعل {رأيت} الأول منزل منزلة اللازم يدل على حصول الرؤية فقط لا تعلقها بمرئي، أي إذا وجهت نظرك. و {رأيت} الثاني جواب {إذا} ، أي إذا فتحت عينك ترى نعيما.
والتقييد ب {إذا} أفاد معنى الشرطية فدل على أن رؤية النعيم لا تتخلف عن بصر المبصر هنالك فأفاد معنى: لا ترى إلا نعيما، أي بخلاف ما يرى في جهات الدنيا.
وفي قوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} تشبيه بليغ، أي مثل أحوال الملك الكبير المتنعم ربه.
وفائدة هذا التشبيه تقريب المشبه لمدارك العقول.
والكبير مستعار للتعظيم وهو زائد على النعيم بما فيه من رفعة وتذليل للمصاعب.
[21] {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} .
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} .
هذه أشياء من شعار الملوك في عرف الناس زمانئذ، فهذا مرتبط بقوله: {وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان:20].
وقرأ نافع وحمزة وأبو جعفر {عاليهم} بسكون الياء على أن الكلام جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لجملة {رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان: 20]، ف {عاليهم} مبتدأ و {ثِيَابُ سُنْدُسٍ} فاعله ساد مسد الخبر وقد عمل في فاعله وإن لم يكن معتمدا على نفي أو استفهام و وصف، وهي لغة خبير بنو لهب وتكون الجملة في موضع البيان لجملة {رَأَيْتَ نَعِيماً} [الانسان: 20].
وقرأ بقية العشرة {عاليهم} بفتح التحتية على أنه حال مفرد لـ {الْأَبْرَار} [الانسان: 5]، أي تلك حالة أهل الملك الكبير.
وإضافة {ثياب} إلى {سندس} بيانية مثل: خاتم ذهب، وثوب خز. أي منه.
والسندس: الديباج الرقيق.
(29/369)

والإستبرق: الديباج الغليظ وتقدما عند قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} في سورة الكهف [31] وهما معربان.
فأما السندس فمعرب عن اللغة الهندية وأصله "سندون" بنون في آخره، قيل: إن سبب هذه التسمية أنه جلب إلى الإسكندر، وقيل له: إن اسمه "سندون" فصيره للغة اليونان سندوس لأنهم يكثرون تنهية الأسماء بحرف السين وصيره العرب سندسا. وفي "اللسان" : أن السندس يتخذ من المرعزي كذا ضبطه مصححه، والمعروف المرعز كما في "التذكرة" و "شفاء الغليل" . وفي "التذكرة" المرعز، ما نعم وطال من الصوف اه. فلعله صوف حيوان خاص فيه طول أو هو من نوع الشعر، والظاهر أنه لا يكون إلا أخضر اللون لقول يزيد بن حذاق العبدي يصف مرعى فرسه:
وداويتها حتى شتت حبشية ... كأن عليها سندسا وسدوسا
أي في أرض شديدة الخضرة كلون الحبشي. وفي اللسان: السدوس الطيلسان الأخضر. ولقول أبي تمام يرثي محمد بن حميد النبهاني الطوسي:
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأما الإستبرق فنسج من نسج الفرس واسمه فارسي، وأصله في الفارسية: استقره.
والمعنى: أن فوقهم ثيابا من الصنفين يلبسون هذا وذاك جمعا بين محاسن كليهما، وهي أفخر لباس الملوك وأهل الثروة.
ولون الأخضر أمتع للعين وكان من شعار الملوك. قال النابغة يمدح ملوك غسان:
يصونون أجسادا قديما نعيمها ... بخالصة الأردان خضر المناكب
والظاهر أن السندس كان لا يصبغ إلا أخضر اللون.
وقرأ نافع وحفص {خضر} بالرفع على الصفة لـ {ثياب} . و {إستبرق} بالرفع أيضا على أنه معطوف على {ثياب} بقيد كونها من سندس فمعنى عاليهم إستبرق: أن الإستبرق لباسهم.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {خضر} بالجر نعتا لـ {سندس} ، و {إستبرق} بالرفع عطفا على {ثياب} .
وقرأ ابن عامر وأبو عمروا وأبو جعفر ويعقوب {خضر} بالرفع و {إستبرق} بالجر
(29/370)

عطفا على {سندس} بتقدير: وثياب إستبرق.
وقرأ حمزة والكسائي {خضر} بالجر نعتا لـ {سندس} باعتبار أنه بيان للثياب فهو في معنى الجمع. وقرأ و {إستبرق} بالجر عطفا على {سندس} .
والأساور: جمع سور وهو حلي شكله أسطواني فارغ الوسط يلبسه النساء في معاصمهن ولا يلبسه الرجال إلا الملوك، وقد ود في الحديث ذكر السواري كسرى.
والمعنى: أن حال رجال أهل الجنة حال الملوك ومعلوم أن النساء يتخلين بأصناف الحلي.
ووصفت الأساور هنا بأنها {مِنْ فِضَّةٍ} . وفي سورة الكهف [31] بأنها {مِنْ فِضَّةٍ} في قوله: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} ، أي مرة يحلون هذه ومرة أخرى، أو يحلونهما جميعا بأن تجعل متزاوجة لأن ذلك أبهج منظرا كما ذكرناه في تفسير قوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَا، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان:15-16].
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً}
هذا احتراس مما يوهمه شربهم من الكأس الممزوجة بالكافور والزنجبيل من أن يكون فيها ما في أمثالها المعروفة في الدنيا ومن المغول وسوء القول والهذيان، فعبر عن ذلك بكون شرابهم طهورا بصيغة المبالغة في الطهارة وهي النزاهة من الخبائث، أي منزها عما في غيره من الخباثة والفساد.
وأسند سقيه إلى ربهم إظهارا لكرامتهم، أي أمر هو بسقيهم كما يقال: أطعمهم رب الدار وسقاهم.
[22] {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} .
هذا الكلام مقبول قول محذوف قرينته الخطاب إذ ليس بصلح لهذا الخطاب مما تقدم من الكلام إلا أن يكون المخاطبون هم الأبرار الموصوف نعيمهم.
والقول المحذوف يقدر فعلا في موضع الحال من ضمير الغائب قس {سَقَاهُمْ} [الانسان:21]، نحو: يقال لهم، أو يقول لهم ربهم، أو يقدر اسما هو حال من ذلك الضمير نحو: مقولا لهم هذا اللفظ، أو قائلا هذا اللفظ.
(29/371)

والإشارة إلى ما يكون حاضرا لديهم من ألوان النعيم الموصوف فيما مضى من الآيات.
والمقصود من ذلك الثناء عليهم بما أسلفوا من تقوى الله وتكرمتهم بذلك وتنشيط أنفسكم بأن ما أنعم به عليهم هو حق لهم جزاء على عملهم.
وإقحام فعل {كان} للدلالة على تحقيق كونه جزاء لا منا عليهم بما لم يستحقوا، فإن من تمام الإكرام عند الكرام أن يتبعوا كرامتهم بقول ينشط له المكرم ويزيل عنه ما يعرض من خجل ونحوه، أي هو جزاء حقا لا مبالغة في ذلك.
وعطف على ذلك قوله: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} علاوة على إيناسهم بأن ما أغدق عليهم كان جزاء لهم على ما فعلوا بأن سعيهم الذي كان النعيم جزاء عليه، هو سعي مشكور، أي مشكور ساعيه، فأسند المشكور إلى السعي على طريقة المجاز العقلي مثل قولهم: سيل مفعم.
ولك أن تجعل {مشكورا} مفعولا حقيقة عقلية لكن على طريقة الحذف والإيصال، أي مشكورا عليه.
وإقحام فعل {كان} كإقحام نظيره آنفا.
[23-24] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} .
من هنا يبتدئ ما لا خلاف في أنه مكي من هذه السورة.
وعلى كلا القولين فهذا استئناف ابتدائي ويجيء على قول الجمهور أن السورة كلها مكية وهو الأرجح، أنه استئناف للانتقال من الاستدلال على ثبوت البعث بالحجة والترهيب والوعيد للكافرين به والترغيب والوعد للمؤمنين به بمرهبات ومرغبات هي من الأحوال التي تكون بعد البعث، فلما استوفى ذلك ثني عنان الكلام إلى تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم والربط على قلبه لدفاع أن تلحقه آثار الغم على تصلب قومه في كفرهم وتكذيبهم بما أنزل عليه مما شأنه أن يوهن العزيمة البشرية، فذكره الله بأنه نزل عليه الكتاب لئلا يعبأ بتكذيبهم.
وفي إيراد هذا بعد طول الكلام في أحوال الآخرة، قضاء لحق الاعتناء بأحوال
(29/372)

الناس في الدنيا فابتدئ بحال أشرف الناس وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم بحال الذين دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بين من {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الانسان: 27] و {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الانسان: 29] فأدخلهم في رحمته.
وتأكيد الخبر ب"أن" للاهتمام به.
وتأكيد الضمير المتصل بضمير منفصل في قوله: {إِنَّا نَحْنُ} لتقرير مدلول الضمير تأكيدا لفظيا للتنبيه على عظمة ذلك الضمير ليفضي بع إلى زيادة الاهتمام بالخبر إذ يتقرر أنه فعل من ذلك الضميران له لأنه لا يفعل إلا فعلا منوطا بحكمة وأقصى الصواب.
وهذا من الكناية الرمزية. وبعد فالخبر بمجموعه مستعمل في لازم معناه وهو التثبيت والتأييد فمجموعه كناية رمزية.
وإيثار فعل {نزلنا} الدال على تنزيله منجما آيات وسورا تنزيلا مفرقا إدماج للإيمان إلى أن ذلك كان من حكمة الله تعالى التي أومأ إليها تأكيد الخبر ب"أن" وتأكيد الضمير المتصل بالضمير المنفصل، فأجمع فيه تأكيد على تأكيد وذلك يفيد مفاد القصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي، فالمعنى: ما نزل عليك القرآن إلا أنا.
وفيه تعريض بالمشركين الذين قالوا {لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فجعلوا تنزيله مفرقا شبهة في أنه ليس من عند الله.
والمعنى: ما أنزله منجما إلا أنا واقتضت حكمتي أن أنزله عليك منجما.
وفرع على هذا التمهيد أمره بالصبر على أعباء الرسالة وما يلقاه فيها من أذى المشركين، وشد عزيمته أن لا تخور.
وسمى ذلك حكما لأن الرسالة عند الله لا خيرة للمرسل في قبولها والاضطلاع بأمورها، ولأن ما يحف بها من مصاعب إصلاح الأمة وحملها على ما فيه خيرها في العاجل والآجل، وتلقي أصناف الأذى في خلال ذلك حتى يتم ما أمر الله به، كالحكم على الرسول بقبول ما يبلغ منتهى الطاقة إلى أجل معين عند الله.
وعدي فعل "اصبر" باللام لتضمين الصبر معنى الخضوع والطاعة للأمر الشاق، وقد يعدى بحرف "على" كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 10]. ومناسبة مقام
(29/373)

الكلام ترجح إحدى التعديتين كما تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} في سورة المدثر [7].
ولما كان من ضروب إعراضهم عن قبول دعوته ضرب فيه رغبات منهم مثل أن يترك قرعهم بقوارع التنزيل من تأفين رأيهم وتحقير دينهم وأصنامهم، وربما عرضوا عليه الصهر معهم، أو بذل المال منهم، أعقب أمره بالصبر على ما هو من ضروب الإعراض من صلابة وشدة، بأن نهاه عن أن يطيعهم في الضرب الآخر من ضروب الإعراض الواقع في قالب اللين والرغبة.
وفي هذا النهي تأكيد للأمر بالصبر لأن النهي عنه يشمل كل ما يرفع موجبات الصبر المراد هنا.
والمقصود من هذا النهي تأييسهم من استجابته لهم حين يقرأ عليهم هذه الآية لأنهم يحسبون أن ما عرضوه عليه سيكون صارفا له عما هو قائم به من الدعوة إذ هم بعداء عن إدراك ماهية الرسالة ونزاهة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والطاعة: امتثال الطلب بفعل المطلوب وبالكف عن المنهي عنه فقد كان المشركون يعمدون إلى الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ما يرغبون، مثل طرد ضعفاء المؤمنين من المجلس، والإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله بما يشايع أحوالهم، وأن يكف عما لا يريدون وقوعه من تحقير آلهتهم، والجهر بصلاته، فحذره الله من الاستماع إلى قولهم وإياسهم من حصول مرغوبهم.
ومقتضى الظاهر أن يقول: ولا تطعهم، أو ولا تطع منهم أحدا، فعدل عنه إلى {آثِماً أَوْ كَفُوراً} للإشارة بالوصفين إلى أن طاعتهم تفضي إلى ارتكاب إثم أو كفر، لأنهم في ذلك يأمرونه وينهونه غالبا فهم لا يمرون إلا بما يلائم صفاتهم.
فالمراد بالآثم والكفور: الصنفان من الموصوفين وتعليق الطاعة المنهي عنها بهذين النوعين مشعر بأن الوصفين علة في النهي.
والآثم والكفور متلازمان فكان ذكر أحد الوصفين مغنيا عن الآخر ولكن جمع بينهما لتشويه حال المتصف بهما قال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276].
وفي ذكر هذين الوصفين إشارة أيضا إلى زعيمين من زعماء الكفر والعناد وهما عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، لأن العتبة اشتهر بارتكاب المآثم والفسوق، والوليد اشتهر
(29/374)

بشدة الشكيمة في الكفر والعتو. وقد كانا كافرين فأشير إلى كل واحد منهما بما هو علم فيه بين بقية المشركين من كثرة المآثم لأولهما. والمبالغة في الكفر لثانيهما، فلذلك صيغت له صيغة المبالغة "كفور".
قيل عرض عتبة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوة الناس إلى الإسلام ويزوجه ابنته وكانت من أجمل نساء قريش. وعرض الوليد علية أن يعطيه من المال ما يرضيه ويرجع عن الدعوة، وكان الوليد من أكثر قريش مالا وهو الذي قال الله في شأنه {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:12]. فيكون في إيثار هذين الوصفين بالذكر إدماج لذمهما والتلميح لقصتهما.
وأيا ما كان فحرف {أو} لم يعد أصل معناه من عطف تشريك أحد شيئين أو أشياء في خبر أو طلب، وهذا التشريك يفيد تخييرا، أو إباحة، أو تقسيما، أو شكا، أو تشكيكا بحسب المواقع وبحسب عوامل الإعراب لتدخل {أو} التي تضمر بعدها "أن" فتنصب المضارع. وكون المشرك بها واحدا من متعدد ملازما لمواقعها كلها.
فمعنى الآية نهي عن طاعة أحد هذين الموصوفين ويعلم أن طاعة كليهما منهي عنها بدلالة الفحوى لأنه إذا أطاعهما معا فقد تحقق منه طاعة أحدهما وزيادة.
وموقع {منهم} موقع الحال من {آثما} فإنه صفة {آثما} فلما قدمت الصفة على الموصوف صارت حالا.
و"من" للتبعيض. والضمير المجرور بها عائد للمشركين، ولم يتقدم لهم ذكر لأنهم معلومون من سياق ادعوة أو لأنهم المفهوم من قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً} أي لا كما يزعم المشركون أنك جئت به من تلقاء نفسك، ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} ، أي على أذى المشركين.
ويؤول معناه: ولا تطع أحدا من المشركين.
[25-26] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} .
أي أقبل على شأنك من الدعوة إلى الله وذكر الله بأنواع الذكر. وهذا إرشاد إلى ما فيه عون له على الصبر على ما يقولون.
(29/375)

والمراد بالبكرة والأصيل استغراق أوقات النهار، أي لا يصدك إعراضهم عن معاودة الدعوة وتكريرها طرفي النهار. ويدخل في ذكر الله الصلوات مثل قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ، وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114-115] وكذلك النوافل التي هي من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم بين مفروض منها وغير مفروض. فالأمر في قوله: {واذكر} مستعمل في مطلق الطلب من وجوب ونفل.
وذكر اسم الرب يشمل تبليغ الدعوة ويشمل عبادة الله في الصلوات المفروضة والنوافل ويشمل الموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه.
وقوله: {بُكْرَةً وَأَصِيلاً} يشمل أوقات النهار كلها المحدودة منها كأوقات الصلوات وغير المحدود كأوقات النوافل، والدعاء والاستغفار.
و {بكرة} هي أول النهار، {وأصيلا} عشيا.
وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} إشارة إلى أن الليل وقت تفرغ من بث الدعوة كما تقدم في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} إلى قوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 2-20] الآية وهذا خاص بصلاة الليل فرضا ونفلا.
وقوله: {وسبحه} جملة معطوفة على جملة {مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} فتعين أن التسبيح التنفل.
والتسبيح: التنزيه بالقول وبالاعتقاد، ويشمل الصلوات والأقوال الطيبة والتدبر في دلائل صفات الله وكمالاته، وغلب إطلاق مادة التسبيح على الصلاة النافلة، وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]، أي من الليل. وعن عبد الملك بن حبيب: {وسبحه} هنا صلاة التطوع في الليل، وقوله: {طويلا} صفة {ليلا} وحيث وصف الليل بالطول بعد الأمر بالتسبيح فيه، علم أن {ليلا} أريد به أزمان الليل لأنه مجموع الوقت المقابل للنهار، لأنه لو أريد ذلك المقدار كله لم يكن في وصفه بالطول جدوى، فتعين أن وصف الطول تقييد للأمر بالتسبيح، أي سبحه أكثر الليل، فهو في معنى قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} إلى {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2-4] أو يتنازعه كل من {اسجد} و {سبحه} .
وانتصب {ليلا} على الظرفية لـ {سبحه} .
وعن ابن عباس وابن زيد: أن هاتين الآيتين إشارة إلى الصلوات الخمس وأوقاتها
(29/376)

بناء أن الأصيل يطلق على وقت الظهر فيكون قوله: {وسبحه} إشارة إلى قيام الليل.
وهذه الآية جاءت على وفق قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97-98] وقوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً، رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل: 8-10].
[27] {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
تعليل للنهي عن إطاعتهم في قوله: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24]، أي لأن خلقهم الانصباب على الدنيا مع الإعراض عن الآخرة إذ هم لا يؤمنون بالبعث فلو أعطاهم لتخلق بخلقهم قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} [النساء: 89] الآية. فموقع {إن} موقع التعليل وهي بمنزلة فاء السببية كما نبه عليه الشيخ عبد القاهر.
و {هؤلاء} إشارة إلى حاضرين في ذهن المخاطب لكثرة الحديث عنهم، وقد استقريت من القرآن أنه إذا أطلق {هؤلاء} دون سبق ما يكون مشارا إليه فالمقصود به المشركون، وقد ذكرت ذلك في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} في سورة الأنعام [89] وقوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} في سورة هود [109].
وقد تنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محبة الدنيا فقال "ما لي وللدنيا" فليس له محبة لأمورها عدا النساء والطيب كما قال "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب" .
فأما النساء فالميل إليهن مركوز في طبع الذكور، وما بالطبع لا يتخلف، وفي الأنس بهن انتعاش للروح فتناوله محمود إذا وقع على الوجه المبرأ من الإيقاع في فساد وما هو الأمثل تناول الطعام وشرب الماء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38].
وأما الطيب فلأنه مناسب للتزكية النفسية.
وصيغة المضارع في {يحبون} تدل على تكرر ذلك، أي أن ذلك دأبهم وديدنهم لا يشاركون مع حب العاجلة حب الآخرة.
(29/377)

و {العاجلة} : صفة لموصوف محذوف معلوم من المقام تقديره: الحياة العاجلة، أو الدار العاجلة. والمراد بها مدة الحياة الدنيا.
وكثر في القرآن إطلاق العاجلة على الدنيا كقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20-21] فشاع بين المسلمين تسمية الدنيا بالعاجلة.
ومتعلق {يحبون} مضاف محذوف، تقديره: نعيم أو منافع لأن الحب لا يتعلق بذات الدنيا.
وفي إيثار ذكر الدنيا بوصف العاجلة توطئة للمقصود من الذم لأن وصف العاجلة يؤذن بأنهم آثروها لأنها عاجلة. وفي ذلك تعريض بتحميقهم إذ رضوا بالدون لأنه عاجل وليس ذلك من شيم أهل التبصر، فقوله: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} واقع موقع التكميل لمناط ذمهم وتحميقهم لأنهم لو أحبوا الدنيا مع الاستعداد للآخرة لما كانوا مذمومين قال تعالى حكاية لقول الناصحين لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. وهذا نظير قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] إذ كان مناط الذم فيه هو أن قصروا أنفسهم على علم أمور الدنيا مع الإعراض عن العلم بالآخرة.
ومثلوا بحال من يترك شيئا وراءه فهو لا يسعى إليه وإنما يسعى إلى ما بين يديه.
وإنما أعرضوا عنه لأنهم لا يؤمنون بحلوله فكيف يسعون إليه.
وصيغة المضارع في {يذرون} تقتضي أنهم مستمرون على ذلك وأن ذلك متجدد فيهم ومتكرر لا يتخلفون عن ذلك الترك لأنهم لا يؤمنون بحلول ذلك اليوم، فالمسلمون لا يذرون وراءهم هذا اليوم لأنهم لا يخلون من عمل له على تفاوت بينهم في التقوى.
واليوم الثقيل: هو يوم القيامة، وصف بالثقيل على وجه الاستعارة لشدة ما يحصل فيه من المتاعب والكروب فهو كالشيء الثقيل الذي لا يستطاع حمله.
والثقل: مستعار للشدة والعسر قال تعالى: {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [لأعراف: 187] وقال {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
[28] {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} .
لما كان الإخبار عنهم بأنهم {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الانسان: 27] يتضمن أنهم
(29/378)

ينكرون وقوع ذلك اليوم كما قدمناه وكان الباعث لهم على إنكاره شبهة استحالة إعادة الأجساد بعد بلاها وفنائها، وكان الكلام السابق مسوقا مساق الذم لهم والإنكار عليهم جيء هنا بما هو دليل للإنكار عليهم وإبطال لشبهتهم ببيان إمكان إعادة خلقهم يعيده الذي خلقهم أول مرة كما قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الاسراء: 51] وغير ذلك من الآيات الحائمة حول هذا المعنى.
وافتتاح الجملة بالمبتدإ المخبر عنه بالخبر الفعلي دون أن تفتتح ب {خَلَقْنَاهُمْ} أو نحن خالقون، لإفادة تقوي الخبر وتحقيقه بالنظر إلى المعنيين بهذا الكلام وإن لم يكن خطابا لهم ولكنهم هم المقصود منه.
وتقوية الحكم بناء على تنزيل أولئك المخلوقين منزلة من يشك في أن الله خلقهم حيث لم يجرؤوا على موجب العلم فأنكروا أن الله يعيد الخلق بعد البلى فكأنهم يسندون الخلق الأول لغيره. وتقوي الحكم يترتب عليه أنه إذا شاء بدل أمثالهم بإعادة أجسادهم فلذلك لم يحتج إلى تأكيد جملة {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً} استغناء بتولد معناها عن معنى التي قبلها وإن كان هو أولى بالتقوية على مقتضى الظاهر. وهذا التقوي هنا مشعر بأن كلاما يعقبه هو مصب التقوي، ونظيره في التقوي والتفريع قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} فإن المفرع هو {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} وما اتصل به. وجملة {فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} معترضة وقد مضى في سورة الواقعة [57-61].
ف {أمثالهم} : هي الأجساد الثانية إذ هي أمثال لأجسادهم الموجودة حين التنزيل.
والشد: الإحكام وإتقان ارتباط أجزاء الجسد بعضها ببعض بواسطة العظام والأعصاب والعروق إذ بذلك يستقل الجسم.
والأسر: الربط وأطلق هنا على الإحكام والإتقان على وجه الاستعارة.
والمعنى: أحكمنا ربط أجزاء أجسامهم فكانت مشدودا بعضها على بعض.
وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} إخبار بأن الله قادر على أن يبدلهم بناس آخرين.
فحذف مفعول {شئنا} لدلالة جواب {إذا} عليه كما هو الشأن في فعل المشيئة غالبا.
(29/379)

واجتلاب {إذا} في هذا التعليق لأن شأن {إذا} أن يفيد اليقين بوقوع ما قيد بها بخلاف حرف {إن} فهو إيماء إلى أن حصول هذه المشيئة مستقرب الوقوع.
فيجوز أن يكون هذا بمنزلة النتيجة لقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} الخ، ويحمل الشرط على التحقق قال تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذريات:6].
ويجوز أن يكون قوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ} تهديدا لهم على إعراضهم وجحودهم للبعث، أي لو شئنا لأهلكناهم وخلقنا خلقا آخر مثلهم كقوله تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [ابراهيم: 19].
ويكون {إذا} مراد به تحقق التلازم بين شرط {إذا} وجوابها، أي الجملة المضاف إليها، والجملة المتعلق بها.
وفعل التبديل يقتضي مبدلا ومبدلا به وأيهما اعتبرته في موضع الآخر صح لأن كل مبدل هو أيضا مبدل به ذلك الشيء، ولا سيما إذا لم يكن في المقام غرض ببيان المرغوب في اقتناءه والمسموح ببذله من الشيئين المستبدلين، فحذف من الكلام هنا متعلق {بدلنا} وهو المجرور بالباء لأنه أولى بالحدث، وأبقي المفعول.
وقد تقدم نظيره في سورة الواقعة [61] في قوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} ، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} في سورة المعارج [40-41] فالتقدير: بدلنا منهم.
والأمثال: جمع مثل وهو المماثل في ذات أو صفة، فيجوز أن يراد أمثالهم في أشكال أجسادهم وهو التبديل الذي سيكون في المعاد.
ويجوز أن يراد أمثالهم في أنهم أمم، على الوجه الأول فهو يدل على أن البعث يحصل بخلق أجسام على مثال الأجساد التي كانت في الحياة الدنيا للأرواح التي كانت فيها.
وانتصب {تبديلا} على المفعول المطلق الموكد لعامله للدلالة على أنه تبديل حقيقي، وللتوصل بالتنوين إلى تعظيمه وعجوبته.
[29] {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي للانتقال من بسط التذكير والاستدلال إلى فذلكة الغرض وحوصلته،
(29/380)

إشعارا بانتهاء المقصود وتنبيها إلى فائدته، ووجه الانتفاع به، والحث على التدبر فيه، واستثمار ثمرته، وباعتبار ما تفرع عن هذه الجملة من قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ} الخ يقوى موقع الفذلكة للجملة وتأكيد الكلام بحرف {إن} لأن حال المخاطبين عدم اهتمامهم بها فهم ينكرون أنها تذكرة.
والإشارة إلى الآيات المتقدمة أو إلى السورة ولذلك أتي باسم الإشارة المؤنث.
والتذكرة: مصدر ذكره مثل التزكية، أي أكلمه كلاما يذكره به ما عسى أن يكون نسيه أطلقت هنا على الموعظة بالإقلاع عن عمل سيء والإقبال على عمل صالح وعلى وضوح الخير والشر لمن تذكر، أي تبصر بتشبيه حالة المعرض عن الخير المشغول عنه بحالة الناسي له لأن شأنه ألا يفرط فيه إلا من كان ناسيا لما فيه من نفع له.
وفرع عليه الحث على سلوك سبيل مرضاة الله بقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} ، أي ليس بعد هذه التذكرة إلا العمل بها إذا شاء المتذكر أن يعمل بها.
ففي قوله: {من شاء} حث على المبادرة بذلك لأن مشيئة المرء في مكنته فلا يمنعه منها إلا سوء تدبيره.
وهذا حث وتحريض فيه تعريض للمشركين بأنهم أبوا أن يتذكروا عنادا وحسدا.
واتخاذ السبيل: سلوكه، عبر عن السلوك بالاتخاذ على وجه الاستعارة بتشبيه ففي قوله: {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} استعارتان لأن السبيل مستعار لسبب الفوز بالنعيم والزلفى.
ويتعلق قوله: {إِلَى رَبِّهِ} ب {سبيلا} ، أي سبيلا مبلغة إلى الله، ولا يختلف العقلاء في شرف ما يوصل إلى الرب أي إلى إكرامه لأن ذلك قرارة الخيرات ولذلك عبر برب مضافا إلى ضمير {مَنْ شَاءَ} إذ سعادة العبد في الحظوة عند ربه.
وهذه السبيل هي التوبة فالتائب مثل الذي كان ضالا، أو آبقا فاهتدى إلى الطريق التي يرجع منها إلى مقصده، أو سلك الطريق إلى مولاه.
وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة المزمل.
[30] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} .
لما ناط اختيارهم سبيل مرضاة الله بمشيئتهم أعقبه بالتنبيه إلى الإقبال على طلب
(29/381)

مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبل الخير لهم لأنهم إذا كانوا منه بمحل الرضى والعناية لطف بهم ويسر لهم ما يعسر على النفوس من المصابرة على ترك الشهوات المهلكة، قال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] فإذا لم يسعوا إلى مرضاة ربهم وكلهم إلى أحوالهم التي تعودوها فاقتحمت بهم مهامه العماية إذ هم محفوفون بأسباب الضلال بما استقرت عليه جبلاتهم من إيثار الشهوات والاندفاع مع عصائب الضلالات، وهو الذي أفاده قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]، أي نتركه وشأنه فتتيسر عليه العسرى، أي تلحق به بلا تكلف ومجاهدة.
فجملة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} يجوز أن تكون عطفا على جملة { فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الانسان: 29] أو حالا من {مَنْ يَشَاءُ} [الانسان: 31] وهي على كلا والوجهين تتميم واحتراس.
وحذف مفعول {تشاءون} لإفادة العموم، والتقدير: وما تشاءون شيئا أو مشيئا وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة، أي ما تشاءون شيئا في وقت من الأوقات أو في حال من الأحوال.
وقد علل ارتباط حصول مشيئتهم بمشيئة الله، بأن الله عليم حكيم، أي عليم بوسائل إيجاد مشيئتهم الخير، حكيم بدقائق ذلك مما لا تبلغ إلى معرفة دقائقه بالكنه عقول الناس، لأن هنالك تصرفات علوية لا يبلغ الناس مبلغ الاطلاع على تفصيلها ولكن حسبهم الاهتداء بآثارها وتزكية أنفسهم للصد عن الإعراض عن التدبر فيها.
و {ما} نافية، والاستثناء من عموم الأشياء المشيئة وأحوالها وأزمانها، ولما كان ما بعد أداة الاستثناء حرف مصدر تعين أن المستثنى يقدر مصدرا، أي إلا شيء الله بمعنى مشيئته، وهو صالح لاعتبار المعنى المصدري ولاعتبار الحالة، ولاعتبار الزمان، لأن المصدر صالح لإرادة الثلاثة باختلاف التأويل فإن قدر مضاف كان المعنى: إلا حال مشيئة الله، أو إلا زمن مشيئته، وإن لم يقدر مضاف كان المعنى: لا مشيئة لكم في الحقيقة إلا تبعا لمشيئة الله.
وإيثار اجتلاب {أن} المصدرية من إعجاز القرآن.
ويجوز أن يكون فعلا {تشاءون} و {يَشَاءَ اللَّهُ} منزلين منزلة اللازم فلا يقدر لهما مفعولان على طريقة قول البحتري:
(29/382)

أن يرى مبصر ويسمع واع
ويكون الاستثناء من أحوال، أي وما تحصل مشيئتكم من حال من الأحوال إلا في حال حصول مشيئة الله. وفي هذا كله إشارة إلى دقة كنه مشيئة العبد تجاه مشيئة الله وهو المعنى الذي جمع الأشعري التعبير عنه بالكسب، فقيل فيه أدق من كسب الأشعري. ففي الآية تنبيه الناس إلى هذا المعنى الخفي ليرقبوه في أنفسهم فيجدوا آثاره الدالة عليه قائمة متوافرة، ولهذا أطنب وصف هذه المشيئة بالتذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فهو تذييل أو تعليل لجملة {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الانسان: 31]، أي لأنه واجب له العلم والحكمة فهو أعلم، فمن شاء أن يدخله في رحمته ومن شاء أبعده عنها.
وهذا إطناب لم يقع مثله في قوله تعالى في سورة عبس [11-12] {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} لأن حصول التذكر من التذكرة أقرب وأمكن، من العمل بها المعبر عنه بالسبيل الموصلة إلى الله تعالى فلذلك صرفت العناية والاهتمام إلى ما يلوح بوسيلة اتخاذ تلك السبيل.
وفعل {كان} يدل على أن وصفه تعالى بالعلم والحكمة وصف ذاتي لأنهما واجبان له.
وقد حصل من صدر هذه الآية ونهايتها ثبوت مشيئتين: إحداهما مشيئة العباد، والأخرى مشيئة الله، وقد جمعتهما هذه الآية فكانت أصلا للجمع بين متعارض الآيات القرآنية المقتضي بعضها بانفراد نوط التكاليف بمشيئة العباد وثوابهم وعقابهم على الأفعال التي شاءوها لأنفسهم، والمقتضي بعضها الآخر مشيئة الله في أفعال عباده.
فأما مشيئة العباد فهي إذا حصلت تحصل مباشرة بانفعال النفوس لفاعلية الترغيب والترهيب، وأما مشيئة الله انفعال النفوس فالمراد بها آثار المشيئة الإلهية التي إن حصلت فحصلت مشيئة العبد علمنا أن الله شاء لعبده ذلك وتلك الآثار هي مجموع أمور تتظاهر وتتجمع فتحصل منها مشيئة العبد.
وتلك الآثار هي ما في نظام العالم والبشر من آثار قدرة الله تعالى وخلقه من تأثير الزمان والمكان وتكوين الخلقة وتركيب الجسم والعقل، ومدى قابلية التفهم والفهم وتسلط المجتمع والبيئة والدعاية والتلقين على جميع ذلك، مما في ذلك كله من إصابة أو خطأ، فإذا استتبت أسباب قبول الهدى من مجموع تلك الآثار وتلاءم بعضها مع بعض أو رجح
(29/383)

خيرها على شرها عرفنا مشيئة الله لأن تلك مشيئته من مجموع نظام العالم ولأنه تعالى عالم بأنها تستب لفلان، فعلمه بتوفرها مع كونها آثار نظامه في الخلق وهو معنى مشيئته، وإذا تعاكست وتنافر بعضها مع بعض ولم يرجح خيرها على شرها بل رجح شرها على خيرها بالنسبة للفرد من الناس تعطل وصول الخير إلى نفسه فلم يشأه، عرفنا أن الله لم يشأ له قبول الخير وعرفنا أن الله عالم بما حف بذلك الفرد، فذلك معنى أن الله لم يشأ له الخير، أو بعبارة أخرى أنه شاء له أن يشاء الشر، ولا مخلص للعبد من هذه الربقة إلا إذا توجهت إليه عناية من الله ولطف فكون كائنات إذا دخلت تلك الكائنات فيما هو حاف بالعبد من الأسباب ولأحوال غيرت أحوالها وقلبت آثارهما رأسا على عقب، فصار العبد إلى صلاح بعد أن كان مغمورا بالفساد فتتهيأ للعبد حالة جديدة مخالفة لما كان حافا به، مثل ما حصل لعمر بن الخطاب من قبول عظيم الهدى وتوغله فيه في حين كان متلبسا بسابغ الضلالة والعناد.
فمثل هذا يكون تكرمة من الله للعبد وعناية به، وإنما تحصل هذه العناية بإرادة من الله خاصة: إما لأن حكمته اقتضت ذلك للخروج بالناس من شر إلى خير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين" وإما بإجابة دعوة داع استجيب له فقد أسلم عمر بن الخطاب عقب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة ودخل في الإسلام عقب قول النبي صلى الله عليه وسلم له "أما آن لك يا ابن الخطاب أن تسلم" ألا ترى أن الهداية العظمى التي أوتيها محمد صلى الله عليه وسلم كانت أثرا من دعوة إبراهيم عليه السلام بقوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129] الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم "أنا دعوة إبراهيم" .
فهذا ما أمكن من بيان هاتين المشيئتين بحسب المستطاع ولعل في ذلك ما يفسر قول الشيخ أبي الحسن الأشعري في معنى الكسب والاستطاعة إنها سلامة الأسباب والآلات.
وبهذا بطل مذهب الجبرية لأن الآية أثبتت مشيئة للناس وجعلت مشيئة الله شرطا فيها لأن الاستثناء في قوة الشرط، فللإنسان مشيئته لا محالة.
وأما مذهب المعتزلة فغير بعيد من قول الأشعري إلا في العبارة بالخلق أو بالكسب، وعبارة الأشعري أرشق وأعلق بالأدب مع الله الخالق، وإلا في تحقيق معنى مشيئة الله، والفرق بينها وبين الأمر أو عدم الفرق وتفصيله في علم الكلام.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب {وَمَا تَشَاءُونَ} بتاء الخطاب على
(29/384)

الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وخلف بياء الغائب عائدا إلى {فَمَنْ شَاءَ} [الانسان: 29].
[31] {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} .
يجوز أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} [الانسان: 30] إذ يتساءل السامع على أثر مشيئة الله في حال من اتخذ إلى ربه سبيلا ومن لم يتخذ إليه سبيلا، فيجاب بأنه يدخل في رحمته من شاء أن يتخذ إليه سبيلا وأنه أعد لمن لم يتخذ إليه سبيلا عذابا أليما وأولئك هم الظالمون.
ويجوز أن تكون الجملة خبر {إن} في قوله: {إِنَّ اللَّهَ} [الانسان: 30] وتكون جملة {كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الانسان: 30] معترضة بين اسم {إن} وخبرها أوحالا، وهي على التقديرين منبئة بأن إجراء وصفي العليم الحكيم على اسم الجلالة مراد به التنبيه على أن فعله كله من جزاء برحمة أو بعذاب جار على حسب علمه وحكمته.
وانتصب {الظالمين} على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه المذكور على طريقة الاشتغال والتقدير: أوعد الظالمين، أو كافأ، أو نحو ذلك مما يقدره السامع مناسبا للفعل المذكور بعده.
(29/385)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المرسلات
لم ترد لها تسمية صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يضاف لفظ سورة إلى جملتها الأولى.
وسميت في عهد الصحابة سورة "والمرسلات عرفا" ففي حديث عبد الله بن مسعود في "الصحيحين" قال: "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة والمرسلات عرفا فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية" الحديث.
وفي "الصحيح" عن ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل امرأة العباس فبكت وقالت: بني أذكرتني بقرائتك هذه السورة أنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.
وسميت "سورة المرسلات"، روى أبو داود عن ابن مسعود "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ النظائر السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة" ثم قال وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة فجعل هذه الألفاظ بدلا من قوله السورتين وسماها المرسلات لأن الواو التي في كلامه واو العطف مثل أخواتها في كلامه.
واشتهرت في المصاحف باسم "المرسلات" وكذلك في التفاسير وفي " صحيح البخاري" .
وذكر الخفاجي وسعد الله الشهير بسعدي في "حاشيتيهما" على البيضاوي أنها تسمى "سورة العرف" ولم يسنداه، ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في عداد السور ذات أكثر من اسم.
(29/386)

وفي "الإتقان" عن "كتاب ابن الضريس" عن ابن عباس في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات . وفيه عن "دلائل النبوة" للبيهقي عن عكرمة والحسن في عد السور التي نزلت بمكة فذكرها باسم المرسلات.
وهي مكية عند جمهور المفسرين من السلف، وذلك ظاهر حديث ابن مسعود المذكور آنفا، وهو يقتضي أنها من أوائل سور القرآن نزولا لأنها نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مختف في غار بمنى مع بعض أصحابه.
وعن ابن عباس وقتادة: أن آية { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] مدنية نزلت في المنافقين، ومحمل ذلك أنه تأويل ممن رواه عنه نظرا إلى أن الكفار الصرحاء لا يؤمرن بالصلاة، وليس في ذلك حجة لكون الآية مدنية فإن الضمير في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ} [المرسلات:48] وارد على طريقة الضمائر قبله وكلها عائدة إلى الكفار وهم المشركون. ومعنى {قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} : كناية عن أن يقال لهم أسلموا. ونظيره قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] فهي في المشركين وقوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} إلى قوله: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 4346].
وعن مقاتل نزلت {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} في شأن وفد ثقيف حين أسلموا بعد غزوة هوازن وأتوا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا نجبي فإنها مسبة علينا. فقال لهم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود " .
وهذا أيضا أضعف، وإذا صح ذلك فإنما أراد مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم الآية.
وهي السورة الثالثة والثلاثون في عداد ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. وأتفق العادون على عد آيها خمسين.
أغراضها
اشتملت على الاستدلال على وقوع البعث عقب فناء الدنيا ووصف بعض أشراط ذلك.
والاستدلال على إمكان إعادة الخلق بما سبق من خلق الإنسان وخلق الأرض.
ووعد منكريه بعذاب الآخرة ووصف أهواله.
(29/387)

والتعريض بعذاب لهم في الدنيا كما استؤصلت أمم مكذبة من قبل. ومقابلة ذلك بجزاء الكرامة للمؤمنين.
وإعادة الدعوة إلى الإسلام والتصديق بالقرآن لظهور دلائله.
[1-7] {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً، وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً، فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً، عُذْراً أَوْ نُذْراً، إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
قسم بمخلوقات عظيمة دالة على عظيم علم الله تعالى وقدرته.
والمقصود من هذا القسم تأكيد الخبر، وفي تطويل القسم تشويق السامع لتلقي المقسم عليه.
فيجوز أن يكون المراد بموصوفات هذه الصفات نوعا واحدا، ويجوز أن يكون نوعين أو أكثر من المخلوقات العظيمة. ومشى صاحب الكشاف على أن المقسم بها كلهم ملائكة.
ولم يختلف أهل التأويل أن {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً} للملائكة.
وقال الجمهور: العاصفات: الرياح ولم يحك الطبري فيه مخالفا. وقال القرطبي: قيل العاصفات: الملائكة.
و {الْفَارِقَاتِ} لم يحك الطبري إلا أنهم الملائكة أو الرسل. وحكى القرطبي عن مجاهد: أنها الرياح.
وفيما عدا هذه من الصفات اختلف المتأولون فمنهم من حملوها على أنها الملائكة ومنهم من حمل على أنها الرياح.
ف {المرسلات} قال ابن مسعود وأبو هريرة ومقاتل وأبو صالح والكلبي ومسروق: هي الملائكة. وقال ابن عباس وقتادة: هي الرياح، ونقل هذا عن ابن مسعود أيضا ولعله يجيز التأويلين وهو الأوفق بعطفها بالفاء.
و {الناشرات} قال ابن عباس والضحاك وأبو صالح: الملائكة. وقال ابن مسعود ومجاهد الرياح وهو عن أبي صالح أيضا.
ويتحصل من هذا أن الله أقسم بجنسين من مخلوقاته العظيمة مثل قوله: {وَالسَّمَاءِ
(29/388)

ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:2]، ومثله تكرر في القرآن.
ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس ما عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفات جنس آخر.
فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف وليست حرف قسم. ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم أن كليهما من الموجودات العلوية لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتا غير المعطوف عليه. وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل مثل قول الشاعر أنشده الفراء.
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
أراد صفات ممدوح واحد.
ولنتكلم على هذه الصفات:
فأما {المرسلات} فإذا جعل وصفا للملائكة كان المعني بهم المرسلين إلى الرسل والأنبياء مثل جبريل في إرساله بالوحي وغيره من الملائكة الذين يبعثهم الله إلى بعض أنبيائه بتعليم أو خبر أو نصر كما في قوله تعالى عن زكريا: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران: 39] الآية، أو {المرسلات} بتنفيذ أمر الله بالعذاب مثل المرسلين إلى قوم لوط، و {عرفا} حال مفيدة معنى التشبيه البليغ، أي مثل عرف الفرس في تتابع الشعر بعضه ببعض، يقال: هم كعرف الضبع، إذا تألبوا، ويقال: جاءوا عرفا واحدا. وهو صالح لوصف الملائكة ولوصف الريح.
وفسر {عرفا} بأنه اسم، أي الشعر الذي على رقبة الفرس ونصبه على الحال على طريقة التشبيه البليغ أي كالعرف في تتابع البعض لبعض وفسر بأنه مصدر بمعنى المفعول، أي معروف "ضد المنكر"، وأن نصبه على المفعول لأجله، أي لأجل الإرشاد والصلاح.
{فَالْعَاصِفَاتِ} تفريع على {المرسلات} ، أي ترسل فتعصف، والعصف يطلق على قوة هبوب الريح فإن أريد بالمرسلات وصف الرياح فالعصف حقيقة وإن أريد بالمرسلات وصف الملائكة فالعصف تشبيه لنزولهم في السرعة بشدة الريح وذلك في المبادرة في سرعة الوصول بتنفيذ ما أمروا به.
(29/389)

و {عصفا} مؤكد للوصف تأكيدا لتحقيق الوصف، إذ لا داعي لإرادة رفع احتمال المجاز.
والنشر: حقيقته ضد الطي ويكثر استعماله مجازا في الإظهار والإيضاح وفي الإخراج.
ف {الناشرات} إذا جعل وصفا للملائكة جاز أن يكون نشرهم الوحي أي تكرير نزولهم لذلك، وأن يكون النشر كناية عن الوضوح، أي بالشرائع البينة.
وإذ جعل وصفا للرياح فهو نشر السحاب في الأجواء فيكون عطفه بالواو دون الفاء للتنبيه على أنه معطوف على {المرسلات} لا على {العاصفات} لأن العصف حالة مضرة والنشر حالة نفع.
والقول في تأكيد {نشرا} وتنوينه كالقول في {عصفا} .
والفرق: التمييز بين الأشياء، فإذا كان وصفا للملائكة فهو صالح للفرق الحقيقي مثل تمييز أهل الجنة عن أهل النار يوم الحساب، وتمييز الأمم المعذبة في الدنيا عن الذين نجاهم الله من العذاب، مثل قوم نوح عن نوح، وعاد عن هود، وقوم لوط عن لوط وأهله عدا امرأته، وصالح للفرق المجازي، وهو أنهم يأتون بالوحي الذي يفرق بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.
وإن جعل وصفا للرياح فهو من آثار النشر، أي فرقها جماعات السحب على البلاد.
ولتفرع الفرق بمعنييه عن النشر بمعاينة عطف {الفارقات} على {الناشرات} بالفاء.
وأكد بالمفعول المطلق كما أكد ما قبله في قوله: {عصفا} و {نشرا} ، وتنوينه كذلك.
والملقيات: الملائكة الذين يبلغون الوحي وهو الذكر.
والإلقاء مستعار لتبليغ الذكر من العالم العلوي إلى أهل الأرض بتشبيهه بإلقاء شيء من اليد إلى الأرض.
وإلقاء الذكر تبليغ المواعظ إلى الرسل ليبلغوها إلى الناس وهذا الإلقاء متفرع على الفرق لأنهم يخصون كل ذكر بمن هو محتاج إليه، فذكر الكفار بالتهديد والوعيد بالعذاب، وذكر المؤمنين بالثناء والوعد بالنعيم.
وهذا معنى {عُذْراً أَوْ نُذْراً} . فالعذر: الإعلام بقبول إيمان المؤمنين بعد الكفر،
(29/390)

وتوبة التائبين بعد الذنب.
والنذر: اسم مصدر أنذر، إذا حذر.
و {عذرا} قرأه الجمهور بسكون الذال، وقرأه روح عن يعقوب بضمها على الاتباع لحركة العين.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {نذرا} بضم الذال وهو الغالب فيه.
وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بإسكان الذال على الوجهين المذكورين في {عذرا} ، وعلى كلتا القراءتين فهو اسم مصدر بمعنى الإنذار.
وانتصب {عُذْراً أَوْ نُذْراً} على بدل الاشتمال من {ذكرا} . و {أو} في قوله: {أَوْ نُذْراً} للتقسيم.
وجملة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جواب لقسم وزيدت تأكيدا ب {أن} لتقوية تحقيق وقوع الجواب.
و {إنما} كلمتان هما "إن" التي هي حرف تأكيد و"ما" الموصولة وليست هي "إنما" التي هي أداة حصر، والتي "ما" فيها زائدة. وقد كتبت هذه متصلة "إن" ب"ما" لأنهم لم يكونوا يفرقون في الرسم بين الحالتين، والرسم اصطلاح، ورسم المصحف سنة في المصاحف ونحن نكتبها مفصولة في التفسير وغيره.
و {مَا تُوعَدُونَ} : هو البعث للجزاء وهم يعلمون الصلة فلذلك جيء في التعبير عنه بالموصولية.
والخطاب للمشركين، أي ما توعدكم الله به من العقاب بعد البعث واقع لا محالة وإن شككتم فيه أو نفيتموه.
والواقع: الثابت: وأصل الوقع الساقط على الأرض فاستعير للشيء المحقق تشبيها بالمستقر.
[8-14] {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ، وإذا السماء فرجت، وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} .
(29/391)

الفاء للتفريع على قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] لأنه لما أفاد وقوع البعث وكان المخاطبون ينكرونه ويتعللون بعدم التعجيل بوقوعه، بين لهم ما يحصل قبله وزيادة في تهويله عليهم. والإنذار بأنه مؤخر إلى أن تحصل تلك الأحداث العظيمة، وفيه كناية رمزية على تحقيق وقوعه لأن الأخبار عن أمارات حلول ما يوعدون ويستلزم التحذير من التهاون به، ولذلك ختمت هذه الأخبار بقوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19].
وكررت كلمة {إذا} في أوائل الجمل المعطوفة على هذه الجملة بعد حروف العطف مع إغناء حرف العطف عن إعادة {إذا} كما في قوله: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْأِنْسَانُ} [القيامة: 7-10] الآية، لإفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل ليكون مضمونها مستقلا في جعله علامة على وقوع ما يوعدون.
وطمس النجوم: زوال نورها، وأن نور معظم ما يلوح للناس من النجوم سببه انعكاس أشعة الشمس عليها حين احتجاب ضوء الشمس على الجانب المظلم من الأرض، فطمس النجوم يقتضي طمس نور الشمس، أي زوال التهابها بأن تبرد حرارتها، أو بأن تعلو سطحها طبقة رمادية بسبب انفجارات من داخلها، أو تتصادم مع أجرام سماوية أخرى لاختلال نظام الجاذبية فتندك وتتكسر قطعا فيزول التهابها.
ومعنى {فرجت} تفرق ما كان ملتحما من هيكلها، يقال: فرج الباب إذا فتحه. والفرجة: الفتحة في الجدار ونحوه. فإذا أريد بالسماء الجنس الصادق بجميع السماوات على طريقة العموم الحقيقي، أو الصادق بسماوات مشهورة على طريقة العموم العرفي وهي السماوات السبع التي يعبر أهل الهيئة عنها بالكواكب السيارة جاز أن يكون فرج السماوات حدوث أخاديد عظيمة في الكواكب زيادة عن طمس نورها.
وإذا أريد بالسماء فرد معين معهود وهي ما نشاهده كالقبة الزرقاء في النهار وهي كرة الهواء، فمعنى {فرجت} : فساد عناصر الجو بحيث تصير فيه طرائق مختلفة الألوان تبدو كأنها شقوق في كرة الهواء كما في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] وكل ذلك مفض إلى انقراض العالم الدنيوي بجميع نظامه ومجموع أجسامه.
والنسف: قلع أجزاء الشيء بعضها عن بعض وتفريقها مثل الهدم.
ونسف الجبال: دكها ومصيرها ترابا مفرقا، كما قال تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل: 14].
(29/392)

وبناء هذه الأفعال الثلاثة بصيغة المبني للمجهول لأن المقصود الاعتبار بحصول الفعل لا بتعيين فاعله على أنه من المعلوم أن فاعلها هو الله تعالى إذ لا يقدر عليه غيره.
وجملة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} عطف على الجمل المتقدمة فهي تقييد لوقت حادث يحصل وهي مما جعل مضمونها علامة على وقوع ما يوعدون به فيلزم أن يكون مضمونها مستقبل الحصول وفي نظم هذه الجملة غموض ودقة. فأما {أقتت} فأصله وقتت بالواو في أوله، يقال: وقت وقتا، إذا عين وقتا لعمل ما، مشتقا من الوقت وهو الزمان، فلما بني للمجهول ضمت الواو وهو ضم لازم احتراز من ضمة {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] لأن ضمة الواو ضمة عارضة، فجاز إبدالها همزة لأن الضم على الواو ثقيل فعدل عن الواو إلى الهمزة. وقرأه الجمهور {أقتت} بهمزة وتشديد القاف. وقرأه أبو عمرو وحده بالواو وتشديد القاف، وقرأه أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف.
وشأن {إذا} أن تكون لمستقبل الزمان فهذا التأقيت للرسل توقيت سيكون في المستقبل، وهو علامة على أن ما يوعدون يحصل مع العلامات الأخرى.
ولا خلاف في أن {أقتت} مشتق من الوقت كما علمت آنفا، وأصل اشتقاق هذا الفعل المبني للمجهول أن يكون معناه: جعلت وقتا، وهو أصل إسناد الفعل إلى مرفوعه، وقد يكون بمعنى: وقت لها وقت على طريقة الحذف والإيصال.
وإذا كان {إذا} ظرفا للمستقبل وكان تأجيل الرسل قد حصل قبل نزول هذه الآية، تعين تأويل {أقتت} على معنى: حان وقتها، أي الوقت المعين للرسل وهو الوقت الذي أخبرهم الله بأن ينذروا أممهم بأنه يحل في المستقبل غير المعين، وذلك عليه قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ} فإن التأجيل يفسر التوقيت.
وقد اختلفت أقوال المفسرين الأولين في محمل معنى هذه الآية فعن ابن عباس أقتت: جمعت أي ليوم القيامة قال تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109]، وعن مجاهد والنخعي {أقتت} أجلت. قال أبو علي الفارسي: أي جعل يوم الدين والفصل لها وقتا.
قال في "الكشاف" : والوجه أن يكون معنى {وقتت} بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره يوم القيامة اه. وهذا صريح في أنه يقال: وقت بمعنى أحضر في الوقت المعين، وسلمه شراح "الكشاف" وهو معنى مغفول عنه في بعض كتب اللغة أو مطوي بخفاء في بعضها.
(29/393)

ويجيء على القول أن يكون قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} استئنافا، وتجعل "أي" اسم استفهام مستعمل للتهويل كما درج عليه جمهور المفسرين الذين صرحوا ولم يجملوا. والذي يظهر لي أن تكون "أي" موصولة دالة على التعظيم والتهويل وهو ما يعبر عنه بالدال على معنى الكمال وتكون صفة لموصوف محذوف يدل عليه ما أضيفت إليه "أي" وتقديره: ليوم أي يوم، أي ليوم عظيم. ويكون معنى {أقتت} حضر ميقاتها الذي وقت لها، وهو قول ابن عباس جمعت، وفي "اللسان" عن الفراء: أقتت جمعت لوقتها، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} [المائدة: 109] وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
ويكون اللام في قوله: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} لام التعليل، أي جمعت لأجل اليوم الذي أجلت إليه، وجملة {أجلت} صفة ليوم، وحذف العائد لظهوره، أي أجلت إليه.
وقوله: {ليوم الفصل} بدل من {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} بإعادة الحرف الذي جر به المبدل منه كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] أي أحضرت الرسل ليوم عظيم هو يوم الفصل.
والظاهر أن المبدل منه والبدل دليلا على جواب "إذا" من قوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} الخ، إذ يعلم أن المعنى إذا حصل جميع ما ذكر فذلك وقوع ما توعدون.
وجملة {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ} قد علمت آنفا الوجه الوجيه في معناها. ومن المفسرين من جعلها مقول محذوف: يقال يوم القيامة، ولا داعي إليه.
و {الفصل} : تمييز الحق من الباطل بالقضاء والجزاء إذ بذلك يزول الالتباس والاشتباه والتمويه الذي كان لأهل الضلال في الدنيا فتتضح الحقائق على ما هي عليه في الواقع.
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} في موضع الحال من يوم الفصل، والواو واو الحال والرابط لجملة الحال إعادة اسم صاحب الحال عوضا عن ضميره، مثل: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة: 1-2]. والأصل: وما أدراك ما هو، وإنما أظهر في مقام الإضمار لتقوية استحضار يوم الفصل قصدا لتهويله.
و {ما} استفهامية مبتدأ و {أدراك} خبر، أي أعلمك. و {مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} استفهام علق به فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين، و {ما} الاستفهامية مبتدأ أيضا و {يَوْمُ
(29/394)

الْفَصْلِ} خبر عنها والاستفهامان مستعملان في معنى التهويل والتعجيب.
[15] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
حمل هذه الجملة عن نظائرها الآتية في هذه السورة يقتضي أن تجعل استئنافا لقصد تهديد المشركين الذين يسمعون القرآن، وتهويل يوم الفصل في نفوسهم ليحذروه، وهو متصل في المعنى بجملة {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] اتصال أجزاء النظم، فموقع جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ابتداء الكلام، وموقع جملة {إِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] التأخر، وإنما قدمت لتؤذن بمعنى الشرط. وقد حصل من تغيير النظم على هذا الوجه أن صارت جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بمنزلة التذييل، فحصل في هذا النظم أسلوب رائع، ومعان بدائع. وبعض المفسرين جعل هذه الجملة جواب "إذا"، أي يتعلق "إذا" بالاستقرار الذي في الخبر وهو {لِلْمُكَذِّبِينَ} . والتقدير: إذا حصل كذا وكذا حل الويل للمكذبين وهو كالبيان لقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} ، فيحصل تأكيد الوعيد، ولا يرد على هذا عرو الجواب عن الفاء الرابطة للجواب لأن جواب "إذا" جواب صوري وإنما هو متعلق "إذا" عومل معاملة الجواب في المعنى.
ثم أن هذه الجملة صالحة لمعنى الخبرية ولمعنى الإنشاء لأن تركيب "ويل له" يستعمل إنشاء بكثرة.
والويل: أشد السوء والشر.
وعلى جملة الأول يكون المراد بالمكذبين كذبوا بالقرآن وعلى الوجه الثاني في معنى الجملة جميع الذين كذبوا الرسل وجاءوهم به، وبذلك العموم أفادت الجملة مفاد التذييل، ويشمل ذلك المشركين الذين كذبوا بالقرآن والبعث إذ هم المقصود من هذه المواعظ وهم الموجه إليهم هذا الكلام فخوطبوا بقوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} .
[16] {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} .
استئناف بخطاب موجه إلى المشركين الموجودين الذين أنكروا البعث معترض بين أجزاء كلام المخاطب به أهل الشرك في المحشر.
ويتضمن استدلالا على المشركين الذين في الدنيا، بأن الله انتقم من الذين كفروا بيوم البعث من الأمم سابقهم ولاحقهم ليحذروا أن يحل بهم ما حل بأولئك الأولين
(29/395)

والآخرين.
والاستفهام للتقرير استدلالا على إمكان البعث بطريقة قياس التمثيل.
والمراد بالأولين الموصوفون بالأولية أي السبق في الزمان، وهذا يقر به كل جيل منهم مسبوق بجيل كفروا.
فالتعريف في {الأولين} تعريف العهد، والمراد بالأولين جميع أمم الشرك الذين قالوا قبل مشركي عصر النبوة.
والإهلاك: الإعدام والإماتة. وإهلاك الأولين له حالتان حالة غير اعتيادية تنشأ عن غضب الله تعالى، وهو إهلاك الاستئصال مثل إهلاك عاد وثمود، وحالة اعتيادية وهي ما سن الله عليه نظام هذا العالم من حياة وموت.
وكلتا الحالتين يصح أن تكون مرادا هنا، فأما الحالة غير الاعتيادية فهي تذكير بالنظر الدال على أن الله لا يرضى عن الذين كذبوا بالبعث.
وأما الحالة الاعتيادية فدليل على الذي أحيا الناس يميتهم فلا يتعذر أن يعيد إحياءهم.
[17-18] {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ، كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} .
حرف "ثم" للتراخي الرتبي لأن التهديد أهم من الإخبار عن أهل المحشر، لأنه الغرض من سوق هذا كله، ولأن إهلاك الآخرين اشد من إهلاك الأولين لأنه مسبوق بإهلاك آخر.
ووقعت جملة {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} موقع البيان لجملة {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات:17]، وهو كالتذييل يبين سبب وقوع إهلاك الأولين وأنه سبب لإيقاع الإهلاك بكل مجرم، أي تلك سنة الله في معاملة المجرمين فلا محيص لكم عنها.
وذكر وصف {المجرمين} إيماء إلى أن سبب عقابهم بالإهلاك هو إجرامهم.
والإشارة في قوله: {كذلك} إلى الفعل المأخوذ من {نفعل} ، أي مثل ذلك الفعل نفعل.
(29/396)

و"المجرمون" من ألقاب المشركين في اصطلاح القرآن قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] وسيأتي في هذه السورة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46].
[19] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تقرير لنظيره المتقدم تأكيدا للتهديد وإعادة لمعناه.
التهديد: من مقامات التكرير كقول الحارث بن عياد:
قربا مربط النعامة مني
الذي كرره مرارا متوالية في قصيدته اللامية التي أثارت حرب البسوس.
فعلى الوجه الأول في موقع جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يقدر الكلام المعوض عنه تنوين {يومئذ} يوم إذ يقال لهم {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات:16].
والمراد بالمكذبين: المخاطبون فهو إظهار في مقام الإضمار لتسجيل أنهم مكذبون، والمعنى: ويل يومئذ لكم.
وعلى الوجه الثاني في موقع الجملة يقدر المحذوف المعرض عنه التنوين: يوم إذ {النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات:8] الخ، فتكون الجملة تأكيدا لفظيا لنظيرتها التي تقدمت. والمراد بالمكذبين جميع المكذبين الشامل للسامعين.
وعلى الاعتبارين فتقرير معنى الجملتين حاصل لأن اليوم يوم واحد ولأن المكذبين يصدق بالأحياء وبأهل المحشر.
[20-23] {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، فقدرنا فنعم القادرون} .
تقرير أيضا يجري فيه ما تقدم في قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} ، جيء به على طريقة تعداد الخطاب في مقام التوبيخ والتقريع.
وكل من التقرير والتقريع في مقتضيات ترك العطف لشبهه بالتكرير في أنه تكرير معنى وإن لم يكن تكرير لفظ، والتكرير شبيه بالأعداد المسرودة فكان حقه ترك العطف فيه.
(29/397)

وقد جاء هنا التقرير على ثبوت الإيجاد بعد العدم إيجادا متقنا دالا على كمال الحكمة والقدرة ليفضى بذلك التقرير إلى التوبيخ على إنكار البعث والإعادة وإلى إثبات البعث بإمكانه بإعادة الخلق كما بدئ أول مرة وكفى بذلك مرجحا لوقوع هذا الممكن لأن القدرة تجري على وفق الإرادة بترجيح جانب إيجاد الممكن على عدمه.
والماء: هو ماء الرجل. والمهين: الضعيف فعيل من مهن، إذا ضعف، وميمه أصلية وليس هو من مادة هان.
وهذا الوصف كناية رمزية عن عظيم قدرة الله تعالى إذ خلق من هذا الماء الضعيف إنسانا شديد القوة عقلا وجسما.
وحرف {من} للابتداء لأن تكوين الإنسان نشأ من ذلك الماء كما تقول هذه النخلة من نواة توزرية.
وجعل خلق الإنسان من ماء الرجل لأنه لا يتم تخلقه إلا بذلك الماء إذا لاقى بويضات الدم في الرحم، فاقتصرت الآية على ما هو مشهور بين الناس لأنهم لا يعلمون أكثر من ذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم تكوين الجنين من ماء المرأة وماء الرجل.
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} تفصيل لكيفية الخلق على سبيل الإدماج مع مناسبته لأن له دخلا في تبيين إن كان الإعادة إذ شديد القدرة لا يعجزه شيء، ولذلك ذيله بقوله: {فنعم القادرون} على التفسيرين الآتيين.
والقرار: محل القرور والمكث.
و {مكين} : صفة لـ {قرار} ، أي مكان متمكن في ذلك فهو فعيل من مكن مكانة، إذا ثبت ورسخ.
ووصف القرار بالمكين على طريقة المجاز العقلي، أي مكين الحال والمستقر فيه. فالتقدير: مكين فيه. والمراد بالقرار المكين: الرحم.
والقدر: بفتح الدال المقدار المعين المضبوط، والمراد مقدار من الزمان وهو مدة الحمل.
وقرأ نافع والكسائي وأبو جعفر {فقدرنا} بتشديد الدال. وقرأه الباقون يتخفيف الدال من قدر المتعدي وهما بمعنى واحد، يقال: قدر بالتشديد تقديرا فهو مقدر، وقدر
(29/398)

بالتخفيف قدرا فهو قادر، إذا جعل الشيء على مقدار مناسب لما جعل له.
والمعنى: فقدرنا الخلق كقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:19] وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
والفاء في قوله: {فقدرنا} للتفريع على قوله: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} ، أي جعلناه في الرحم إلى انتهاء أمد الحمل فقدرنا أطوار خلقكم حتى أخرجناكم أطفالا.
والفاء في {فنعم القادرون} للتفريع على "قدرنا" أي تفريع إنشاء ثناء، أي فدل تقديرنا على أننا نعم القادرون، أي كان تقديرنا تقدير أفضل قادر، وهذا تنويه بذلك الخلق العجيب بالقدرة.
و {القادرون} : اسم فاعل من قدر اللازم إذا كان ذا قدرة وبذلك يكون الكلام تأسيسا لا تأكيدا، أي فنعم القادرون على الأشياء.
وعلامة الجمع للتعظيم مثل نون "قدرنا" فإن القدرة لما أتت بما هو مقتضى الحكمة كانت قدرة جديرة بالمدح.
[24] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هو نحو ما تقدم في نظيره الموالي هو له.
[25-27] {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً، وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} .
جاء هذا التقرير على سنن سابقيه في عدم العطف لأنه على طريقة التكرير للتوبيخ، وهو تقرير لهم بما أنعم الله به عليهم من خلق الأرض بما فيها مما فيه منافعهم كما قال تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
ومحل الامتنان هو قوله: {أحياء} ، وأما قوله: {وأمواتا} فتتميم وإدماج.
وكفات: اسم للشيء الذي يكفت فيه، أي يجمع ويضم فيه، فهو اسم جاء على صيغة الفعال من كفت، إذا جمع، ومنه سمي الوعاء: كفاتا، كما سمي ما يعي الشيء: وعاء، وما يضم الشيء: الضمام.
(29/399)

و {أحياء} مفعول {كفاتا} لأن {كفاتا} فيه معنى الفعل كأنه قيل كافتة أحياء. وقد يقولون منصوب بفعل مقدر دل عليه {كفاتا} وكل ذلك متقارب.
و {أمواتا} عطف عليه وهو إدماج وتتميم لأن فيه مشاهدة الملازمة بين الأحياء والأموات تدل على أن الحياة هي المقصود من الخلقة.
وهذا تقرير لهم بالاعتراف بالأحوال المشاهدة في الأرض الدالة على تفرد الله تعالى بالإلهية.
وتنوين {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} للتعظيم مرادا به التكثير ولذلك لم يؤت بهما معرفين باللام، وفائدة ذكر هذين الجمعين ما في معنييهما من التذكير بالحياة والموت.
وقد تصدى الكلام لإثبات البعث بشواهد ثلاثة:
أحدهما: بحال الأمم البائدة في انقراضها.
الثاني: بحال تكوين الإنسان.
الثالث: مصير الكل إلى الأرض وفي كل ذلك إبطال لإحالتهم وقوع البعث لأنهم زعموا استحالته فأبطلت دعواهم بإثبات إمكان البعث فإنه إذا ثبت الإمكان بطلت الاستحالة فلم يبق إلا النظر في أدلة ترجيح وقوع ذلك الممكن.
وفي الآية امتنان يجعل الأرض صالحة لدفن الأموات، وقد ألهم الله لذلك ابن آدم حين قتل أخاه كما تقدم ذكره في سورة المائدة، فيؤخذ من الآية وجوب الدفن في الأرض إلا إذا تعذر ذلك كالذي يموت في سفينة بعيدة عن مراسي الأرض أو لا تستطيع الإرساء، أو كان الإرساء يضر بالراكبين أو يخاف تعفن الجثة فإنها يرمى بها في البحر وتثقل بشيء لترسب إلى غريق الماء. وعليه فلا يجوز إحراق الميت كما يفعل مجوس الهند، وكان يفعله بعض الرومان، ولا وضعه لكواسر الطير كما كان يفعل مجوس الفرس، وكان أهل الجاهلية يتمدحون بالميت الذي تأكله السباع أو الضباع وهو الذي يموت في فلاة، قال تأبط:
لا تدفنوني إن دفني محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
وهذا من جهالة الجاهلية وكفران النعمة.
واحتج ابن القاسم من أصحاب مالك بهذه الآية لكون القبر حرزا فأوجب القطع
(29/400)

على من سرق من القبر كفنا أو ما يبلغ ربع دينار، وقال مالك: القبر حوز للميت كما أن البيت حوز للحي.
وفي "مفاتيح الغيب" عن تفسير القفال: أن ربيعة استدل بها على ذلك.
والرواسي: جمع رأس، أي جبالا رواسي، أي ثوابت في الأرض قال السموأل:
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
وجمع على فواعل لوقوعه صفة لمذكور غير عاقل وهذا امتنان بخلق الجبال لأنهم كانوا يأوون إليها وينتفعون بما فيها من كلأ وشجر قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
والشامخات: المرتفعات.
وعطف {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} لمناسبة ذكر الجبال لأنها تنحدر منها المياه تجري في أسافلها وهي الأودية وتقر في قرارات وحياض وبحيرات.
والفرات: العذب وهو ماء المطر.
وتنوين {شَامِخَاتٍ} و {مَاءً فُرَاتاً} للتعظيم لدلالة ذلك على عظيم القدرة.
[28] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير للتوبيخ والتقريع مثل نظيرة الواقع ثانيا في هذه السورة.
[29-31] {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ، لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .
هذا خطاب للمكذبين في يوم الحشر فهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب بالانطلاق دون وجود مخاطب يؤمر به الآن.
والضمير المقدر مع القول المحذوف عائد إلى المكذبين، أي يقال للمكذبين.
والأمر بانطلاقهم مستعمل في التسخير لأنهم تنطلق بهم ملائكة العذاب قسرا.
وما كانوا به يكذبون هو جهنم وعبر عنه بالموصول وصلته لما تتضمنه الصلة من النداء على خطئهم وضلالهم على طريقة قول عبده بن الطبيب:
(29/401)

إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وجملة {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ} إلى آخرها، بدل اشتمال أو مطابق من جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
وأعيد فعل {انطلقوا} على طريقة التكرير لقصد التوبيخ أو الإهانة والدفع، ولأجله أعيد فعل {انطلقوا} ، وحرف {إلى} .
ومقتضى الظاهر أن يقال انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ظل ذي ثلاث شعب، فإعادة العامل في البدل للتأكيد في مقام التقريع.
وأريد بالظل دخان جهنم لكثافته، فعبر عنه بالظل تهكما بهم لأنهم يتشوقون ظلا يأوون إلى برده.
وأفرد {ظل} هنا لأنه جعل لهم ذلك الدخان في مكان واحد ليكونوا متراصين تحته لأن ذلك التراص يزيدهم ألما.
وقرأ الجمهور {انطلقوا} الثاني بكسر اللام مثل {انطلقوا} الأول، وقرأه رويس عن يعقوب بفتح اللام على صيغة الفعل الماضي على معنى أنهم أمروا بالانطلاق إلى النار فانطلقوا إلى دخانها، وإنما لم يعطف بالفاء لقصد الاستئناف ليكون خبرا آخر عن حالهم.
والشعب: اسم جمع شعبة وهي الفريق من الشيء والطائفة منه، أي ذي ثلاث طوائف وأريد بها طوائف من الدخان فإن النار إذا عظم اشتعالها تصاعد دخانها من طرفيها ووسطها لشدة انضغاطه في خروجه منها.
فوصف الدخان بأنه ذو ثلاث شعب لأنه يكون كذلك يوم القيامة. وقد قيل في سبب ذلك: إن شعبة منه عن اليمين وشعبة عن اليسار وشعبة من فوق، قال الفخر: وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفات الصادرة عن الإنسان في عقائده وفي أعماله ليس إلا هذه الثلاثة، ويمكن أن يقال ها هنا ثلاث درجات وهي: الحس، والخيال، والوهم. وهي مانعة للروح من الاستنارة بأنوار عالم القدس اه.
والظليل: القوي في ظلاله، اشتق له وصف من اسمه لإفادة كماله فيما يراد منه مثل: ليل أليل، وشعر شاعر، أي ليس هو مثل ظل المؤمنين قال تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} [النساء: 57]. وفي هذا تحسير لهم وهو في معنى قوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ،
(29/402)

لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44].
وجر {ظليل} على النعت لـ {ظل} ، وأقحمت {لا} فصارت من جملة الوصف ولا يظهر فيها إعراب كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة: 68] وشأن لا إذا أدخلت في الوصف أن تكرر فلذلك أعيدت في قوله: {وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} .
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج في ذلك الغرض، وتعديته ب"من" على معنى البدلية أو لتضمينه معنى:يبعد، ومثله قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف: 67]. وبذلك سلب عن هذا الظل خصائص الظلال لأن شأن الظل أن ينفس عن الذي يأوي إليه ألم الحر.
[32-33] {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .
يجوز أن يكون هذا من تمام ما يقال للمكذبين الذين قيل لهم {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29]، فإنهم بعد أن حصل لهم اليأس مما ينفس عنهم ما يلقون من العذاب، وقيل لهم: انطلقوا إلى دخان جهنم ربما شاهدوا ساعتئذ جهنم تقذف بشررها فيروعهم المنظر، أو يشاهدونها عن بعد لا تتضح منه الأشياء وتظهر عليهم مخائل توقعهم أنهم بالغون إليه فيزداد روعا وتهويلا، فيقال لهم: أن جهنم {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ، كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} .
ويجوز أن يكون اعتراضا في أثناء حكاية حالهم، أو في ختام حكاية حالهم.
فضمير {إنها} عائد إلى جهنم التي دل عليها قوله: {مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} كما يقال للذي يساق إلى القتل وقد رأى رجلا بيده سيف فاضطرب لرويته فيقال له: إنه الجلاد.
وإجراء تلك الأوصاف في الإخبار عنها لزيادة الترويع والتهويل، فإن كانوا يرون ذلك الشرر لقربهم منه فوصفه لهم لتأكيد الترويع والتهويل بتظاهر السمع مع الرؤية. وإن كانوا على بعد منه فالوصف للكشف عن حاله الفظيعة.
وتأكيد الخبر ب"إن" للاهتمام به لأنهم حينئذ لا يشكون في ذلك سواء رأوه أو أخبروا به.
والشرر: اسم جمع شررة: وهي القطعة المشتعلة من دقيق الحطب يدفعها لهب النار
(29/403)

في الهواء من شدة التهاب النار.
والقصر: البناء العالي. والتعريف فيه للجنس، أي كالقصور لأنه شبه به جمع، وهذا التعريف مثل تعريف الكتاب في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} [الحديد: 25]، أي الكتب. وعن ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب، أي كل شررة كقصر، وهذا تشبيه في عظم حجمه.
وقوله: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} تشبيه في حجمه ولونه وحركته في تطايره بجمالات صفر. وضمير {كأنه} عائد إلى شرر.
والجمالات: بكسر الجيم جمع جمالة وهي اسم جمع طائفة من الجمال، أي تشبه طوائف من الجمال متوزعة فرقا، وهذا تشبيه مركب لأنه تشبيه في هيئة الحجم مع لونه مع حركته. والصفرة: لون الشرر إذا ابتعد عن لهيب ناره.
وقرأ الجمهور {جِمَالَتٌ} بكسر الجيم وألف بعد اللام فهو جمع جمالة. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف {جمالة} بكسر الجيم بدون ألف بعد اللام وهو جمع جمل مثل حجر وحجارة.
وقرأه رويس عن يعقوب {جِمَالَات} بضم الجيم وألف بعد اللام جمع جمالة بالضم وهي حبل تشد به السفينة، ويسمى القلس بقاف مفتوحة ولام ساكنة والتقدير: كأن الواحدة منها جمالة، و {صفر} على هذه القراءة نعت لـ {جِمَالَتٌ} أو ل"شرر".
قال صاحب "الكشاف" : وقال أبو العلاء يعني المعري في صفة نار قوم مدحهم بالكرم:
حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف
شبه الشرارة بالطراف وهو بيت الأدم في العظم والحمرة وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ولتبجحه بما سول له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته بقوله حمراء توطئة لها ومناداة عليها وتنبيها للسامعين على مكانها، ولقد عمي جمع الله له عمى الدارين عن قوله عز وعلا {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} فإنه بمنزلة قوله كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر وهو الحصن تشبيها من جهتين من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء فأبعد الله إغرابه في طرافه وما نفخ شدقيه من استطرافه اه.
وأقول: هذا الكلام ظن سوء بالمعري لم يشم من كلامه، ولا نسبه إليه أحد من
(29/404)

أهل نبزه وملامه، زاد به الزمخشري في طنبور أصحاب النقمة، لنبز المعري ولمزه نغمة.
قال الفخر: كان الأولى لصاحب "الكشاف" أن لا يذكر ذلك أي لأنه ظن سواء بلا دليل.
وقال الطيبي: وليس كذلك لأنه لا يخفى على مثل المعري: أن الكلام بآخره لأن الله شبه الشرارة: أولا حين تنفصل عن النار بالقصر في العظم، وثانيا حين تأخذ في الارتفاع والانبساط فتنشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات في التفرق واللون والعظم والثقل، ونظر في ذلك إلى الحيوان وأن تلك الحركات اختيارية وكل ذلك مفقود في بيته.
[34] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير لقصد تهديد المشركين الأحياء والقول فيه كالقول في نظيره الواقع ثانيا في هذه السورة.
[35-36] {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
إن كانت الإشارة على ظاهرها كان المشار إليه هو اليوم الحاضر وهو يوم الفصل فتكون الجملة من تمام ما يقال لهم في ذلك اليوم بعد قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات:29] فيكون في الانتقال من خطابهم بقوله: {انطلقوا} إلى إجراء ضمائر الغيبة عليهم، التفات يزيده حسنا أنهم قد استحقوا الإعراض عنهم بعد إهانتهم بخطاب {انطلقوا} .
وهذا الوجه أنسب بقوله تعالى بعده {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38]، وموقع الجملة على هذا التأويل موقع تكرير التوبيخ الذي أفاده قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} وهو من جملة ما يقال لهم في ذلك اليوم، واسم الإشارة مستعمل في حقيقته للقريب.
وإن كانت الإشارة إلى المذكور في اللفظ وهو يوم الفصل المتحدث عنه بأن فيه الويل للمكذبين، كان هذا الكلام موجها إلى الذين خوطبوا بالقرن كلهم إنذارا للمشركين منهم وإنعاما على المؤمنين، فكانت ضمائر الغيبة جارية على أصلها وكانت عائدة على المكذبين من قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:34] وتكون الجملة معترضة بين جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، وجملة {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ}
(29/405)

[المرسلات:38]. واسم الإشارة الذي هو إشارة إلى القريب مستعمل في مشار إليه بعيد باعتبار قرب الحديث عنه على ضرب من المجاز أو التسامح.
واسم الإشارة مبتدأ و {يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} خبر عنه.
وجملة {لا يَنْطِقُونَ} مضاف إليها {يوم} ، أي هو يوم يعرف بمدلول هذه الجملة، وعدم تنوين {يوم} لأجل إضافته إلى الجملة كما يضاف "حين". والأفصح في هذه الأزمان ونحوه إذا أضيف إلى جملة مفتتحة ب {لا} النافية أن يكون معربا، وهو لغة مضر العليا. وأما مضر السفلى فهم يبنونه على الفتح دائما.
وعطف {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} على جملة {لا يَنْطِقُونَ} ، أي لا يؤذن إذنا يتفرع عليه اعتذارهم، أي لا يؤذن لهم في الاعتذار. فالاعتذار هو المقصود بالنفي، وجعل نفي الإذن لهم توطئة لنفي اعتذارهم، ولذلك جاء {فَيَعْتَذِرُونَ} مرفوعا ولم يجيء منصوبا على جوانب النفي إذ ليس المقصود نفي الإذن وترتب نفي اعتذارهم على نفي الإذن لهم إذ لا محصول لذلك، فلذلك لم يكن نصب {فَيَعْتَذِرُونَ} مساويا للرفع بل ولا جائزا بخلاف نحو {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] فإن نفي القضاء عليهم وهم في العذاب مقصود لذاته لأنه استمرار في عذابهم ثم أجيب بأنه لو قضي عليهم لماتوا، أي فقدوا الإحساس، فمعنى الجوابية هنالك مما يقصد. ولذا فلا حاجة هنا إلى ما ادعاه أبو البقاء أن {فَيَعْتَذِرُونَ} استئناف تقديره: فهم يعتذرون، ولا إلى ما قاله ابن عطية تبعا للطبري: إنه ينصب لأجل تشابه رؤوس الآيات، وبعد فإن مناط النصب في جواب النفي قصد المتكلم جعل الفعل جوابا للنفي لا مجرد وجود فعل مضارع بعد فعل منفي.
واعلم أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين الآيات التي جاء فيها ما يقضي أنهم يعتذرون نحو قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] لأن وقت انتفاء نطقهم يوم الفصل.
وأما نطقهم المحكي في قوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} فذلك صراخهم في جهنم بعد انقضاء يوم الفصل، وبنحو هذا أجاب ابن عباس نافع بن الأزرق حين قال نافع: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال الله {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] فقال ابن عباس: لا يتساءلون في النفخة الأولى حين نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض فلا يتساءلون حينئذ، ثم في النفخة الثانية أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. والذي يجمع الجواب عن تلك الآيات
(29/406)

وعن أمثالها هو أنه يجب التنبيه إلى مسألة الوحدات في تحقق التناقض.
[37] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير لتهديد المشركين متصل بقوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} الآية على أول الوجهين في موقع ذلك، أو هو وارد لمناسبة قوله: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} على ثاني الوجهين المذكورين فيه فيكون تكريرا لنظيره الواقع بعد قوله: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إلى قوله: {صفر} اقتضى تكريره عقبه أن جملة {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ} الخ تتضمن حالة من أحوالهم يوم الحشر لم يسبق ذكرها فكان تكرير {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} بعدها لوجود مقتضي تكرير الوعيد للسامعين.
[38-39] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ، فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} .
تكرير لتوبيخهم بعد جملة {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ، شيع به القول الصادر بطردهم وتحقيرهم، فإن المطرود يشيع بالتوبيخ، فهو مما يقال لهم يومئذ، ولم تعطف بالواو لأنها وقعت موقع التذييل للطرد، وذلك من مقتضيات الفصل سواء كان التكرير بإعادة اللفظ والمعنى، أم كان بإعادة المعنى والغرض.
والإشارة إلى المشهد الذي يشاهدونه من حضور الناس ومعدات العرض والحساب لفصل القضاء بالجزاء.
والإخبار عن اسم الإشارة بأنه {يَوْمُ الْفَصْلِ} باعتبار أنهم يتصورون ما كانوا يسمعون في الدنيا من محاجة عليهم لإثبات يوم يكون فيه الفصل وكانوا ينكرون ذلك اليوم وما يتعذرون بما يقع فيه، فصارت صورة ذلك اليوم حاضرة في تصورهم دون إيمانهم به فكانوا الآن متهيئين لأن يوقنوا بأن هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بحلوله، وقد عرف ذلك اليوم من قبل بأنه يوم الفصل [المرسلات:13]، أي القضاء وقد رأوا أهبة القضاء.
وجملة {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} بيان للفصل بأنه الفصل في الناس كلهم لجزاء المحسنين والمسيئين كلهم، فلا جرم جمع في ذلك اليوم الأولون والآخرون قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49-50].
والمخاطبون بضمير {جَمَعْنَاكُمْ} : المشركون الذين سبق الكلام لتهديدهم وهم المكذبون بالقرآن، لأن عطف {وَالْأَوَّلِينَ} على الضمير يمنع من أن يكون الضمير لجميع
(29/407)

المكذبين مثل الضمائر التي قبله، لأن الأولين من جملة المكذبين فلا يقال لهم: {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} ، فتعين أن يختص بالمكذبين بالقرآن.
والمعنى: جمعناكم والسابقين قبلكم من المكذبين.
وقد أنذروا بما حل بالأولين أمثالهم من عذاب الدنيا في قوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات:16]. فأريد توقيفهم يومئذ على صدق ما كانوا ينذرون به في الحياة الدنيا من مصيرهم إلى ما صار إليه أمثالهم، فلذلك لم يتعلق الغرض بذكر الأمم التي جاءت من بعدهم.
وباعتبار هذا الضمير فرع عليه قوله: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} فكان تخلصا إلى توبيخ الحاضرين على ما يكيدون به للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] وأن كيدهم زائل وأن سوء العقبى عليهم.
وفرع على ذلك {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} ، أي فإن كان لكم كيد اليوم كما كان لكم في الدنيا، أي كيد بديني ورسولي فافعلوه.
والأمر للتعجيز، والشرط للتوبيخ والتذكير بسوء صنيعهم في الدنيا، والتسجيل عليهم بالعجز عن الكيد يومئذ حيث مكنوا من البحث عما عسى أن يكون لهم من الكيد فإذا لم يستطيعوه بعد ذلك فقد سجل عليهم العجز، وهذا من العذاب الذي يعذبونه إذ هو من نوع العذاب النفساني وهو أوقع على العاقل من العذاب الجسماني.
[40] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله كاتصال نظيره المذكور آنفا.
[41-44] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
يجوز أن يكون هذا ختام الكلام الذي هو تقريع للمشركين حكي لهم فيه نعيم المؤمنين الذي لا يشاهده المشركون لبعدهم عن مكانه فيحكي لهم يومئذ فيما يقال لهم ليكون ذلك أشد حسرة عليهم وتنديما لهم على ما فرطوا فيه مما بادر إليه المتقون المؤمنون ففازوا، فيكون هذا من جملة القول الذي حذف فعله عند قوله: {انْطَلِقُوا}
(29/408)

[المرسلات: 29] الخ.
ويجوز أن يكون هذا ابتداء كلام مستأنف انتقل به إلى ذكر نعيم المؤمنين المتقين تنويها بشأنهم وتعريضا لترغيب من المشركين الموجودين في الإقلاع عنه لينالوا كرامة المتقين.
و {ظلال} : جمع ظل، وهي ظلال كثيرة لكثرة شجر الجنة كثرة المستظلين بظلها، ولأن كل واحد منهم ظلا يتمتع فيه هو ومن إليه، وذلك أوقع في النعيم.
والتعريف في {المتقين} للاستغراق فلكل واحد من المتقين كون في ظلال.
و {في} للظرفية وهي ظرفية حقيقية بالنسبة للظلال لأن المستظل يكون مظروفا في الظل، وظرفية مجازية بالنسبة للعيون والفواكه تشبيها لكثرة ما حولهم من العيون والفواكه بإحاطة الظروف، وقوله: {مِمَّا يَشْتَهُونَ} صفة {فواكه} . وجمع {فواكه} الفواكه وغيرها، فالتبعيض الذي دل عليه حرف "من" تبعيض من أصناف الشهوات لا من أصناف الفواكه فأفاد أن تلك الفواكه مضمومة إلى ملاذ أخرى مما اشتهوه.
وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مقول قول محذوف، وذلك المحذوف من موقع الحال من {المتقين} ، والتقدير: مقولا لهم كلوا واشربوا.
والمقصود من ذلك القول كرامتهم بعرض تناول النعيم عليهم كما يفعله المضيف بضيوفه فالأمر في {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مستعمل في العرض.
و {هنيئا} دعاء تكريم كما يقال للشارب أو الطعام في الدنيا: هنيئا مريئا، كقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} في سورة النساء [4].
و {هنيئا} وصف لموصوف غير مذكور دل عليه فعل {كُلُوا وَاشْرَبُوا} وذلك الموصوف مفعول مطلق من {كُلُوا وَاشْرَبُوا} مبين للنوع لقصد الدعاء مثل: سقيا، ورعيا بالدعاء بالخير، وتبا وسحقا في ضده.
والباء في {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} للسببية، أي لإفادة تسبب ما بعدها في وقوع متعلقه، أي كلوا واشربوا بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة وذلك من إكرامهم بأن جعل ذلك الإنعام حقا لهم.
وجملة {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ويجوز أن تكون مما يقال للمتقين بعد أن قيل
(29/409)

لهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا} الخ مسوقة إليهم مساق زيادة الكرامة بالثناء عليهم، أي هذا النعيم الذي أنعمت به عليكم هو سنتنا في جزاء المحسنين فإذا قد كنتم من المحسنين فذلك جزاء لكم نلتوه بأنكم من أصحاب الحق في مثله، ففي هذا هز من أعطاف المنعم عليهم.
والمعنى عليه: أن هذه الجملة تقال لكل متق منهم، أو لكل جماعة منهم مجتمعة على نعيم الجنة، وليعلموا أيضا أن أمثالهم في الجنات الأخرى لهم من الجزاء مثل ما هم ينعمون به.
ويجوز أن تكون الجملة موجهة إلى المكذبين الموجودين بعد أن وصف لهم ما ينعم به المتقون إثر قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} الخ، قصد منها التعريض بأن حرمانهم من مثل ذلك النعيم هم الذين قضوا به على أنفسهم إذ أبوا أن يكونوا من المحسنين تكملة لتنديمهم وتحسيرهم الذي بودئوا به من قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} إلى آخره، أي إنا كذلك نجزي المحسنين دون أمثالكم المسيئين.
وموقع الجملة على كلا الاعتبارين موقع التعليل لما قبلها على كلا التقديرين فيما قبلها، ومن أجل الإشعار بهذا التعليل افتتحت ب {إن} مع خلو المقام عن التردد في الخبر إذ الموقف يومئذ موقف الصدق والحقيقة، فلذلك كانت {إن} متمحضة لإفادة الاهتمام بالخبر وحينئذ تصير مغنية غناء فاء التسبب وتفيد مفاد التعليل والربط كما تقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] وتفصيله عند قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} في سورة آل عمران [96].
والإشارة بقوله: {كذلك} إلى النعيم المشاهد إن كانت الجملة التي فيها إشارة موجهة إلى { الْمُتَّقِينَ} ، أو الإشارة إلى النعيم الموصوف في قوله: {فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} إن كانت الجملة المشتملة على اسم الإشارة موجهة إلى المكذبين.
والجملة على كل تقدير تفيد معنى التذييل بما اشتملت عليه من شبه عموم كذلك، ومن عموم المحسنين، فاجتمع فيها التعليل التذييل.
[45] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هي على الوجه الأول في جملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} تكرير لنظائرها. واليوم المضاف إلى "إذ" ذات تنوين العوض هو يوم صدور تلك المقالة.
(29/410)

وأما على الوجه الثاني من جملة {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] الخ فهي متصلة بتلك الجملة لمقابلة ذكر نعيم المؤمنين المطنب في وصفه بذكر ضده للمشركين بإيجاز حاصل من كلمة {ويل} لتحصل مقابلة الشيء بضده ولتكون هذه الجملة تأكيدا لنظائرها، واليوم المضاف إلى "إذ" يوم غير مذكور ولكنه مما يقتضيه كون المتقين في ظلال وعيون وفواكه ليعلم بأن ذلك يكون لهم في يوم القيامة.
[46] {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} .
خطاب للمشركين الموجودين الذين خوطبوا بقوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات:7] وهو استئناف ناشئ عن قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [المرسلات:44] إذ يثير في نفوس المكذبين المخاطبين بهذه القوارع ما يكثره خطوره في نفوسهم من أنهم في هذه الدنيا في نعمة محققة وأن ما يوعدون به غير واقع فقيل لهم {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} .
فالأمر في قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا} مستعمل في الإمهال والإنذار، أي ليس أكلكم وتمتعكم بلذات الدنيا بشيء لأنه تمتع قليل ثم مأواكم العذاب الأبدي قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196-197].
وجملة {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} خبر مستعمل في التهديد والوعيد بالسوء، أي أن إجرامكم مهو بكم إلى العذاب، وذلك مستفاد من مقابلة وصفهم بالإجرام بوصف {الْمُتَّقِينَ} [المرسلات: 41] بالإحسان إذ الجزاء من جنس العمل، فالجملة واقعة موقع التعليل.
وتأكيد الخبر ب"إن" لرد إنكارهم كونهم مجرمين.
[47] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هو مثل نظيره المذكور ثانيا في هذه السورة.
ويزيد على ذلك بأن له ارتباطا خاصا بجملة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} لما في {تَمَتَّعُوا قَلِيلاً} من الكناية عن ترقب سوء عاقبة لهم فيقع قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 46] موقع البيان لتلك الكناية، أي كلوا وتمتعوا قليلا الآن وويل لكم يوم القيامة.
(29/411)

[48] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} .
يجوز أن يكون عطفا على قوله: {لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 47]، والتقدير: والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، فإن {ال} الداخلة على الأوصاف المشتقة بمنزلة اسم الموصول غالبا، ولذلك جعلها النحاة في عداد أسماء الموصول وجعلوا الوصف الداخلة عليه صلة لها.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً} [المرسلات: 46] والانتقال من الخطاب إلى الغيبة التفات.
وعلى كلا الوجهين فهو من الإدماج لينعى عليهم مخالفتهم المسلمين في الأعمال الدالة على الإيمان الباطن فهو كناية عن عدم إيمانهم لأن الصلاة عماد الدين ولذلك عبر عن المشركين ب {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5].
والمعنى: إذا قيل لهم آمنوا واركعوا لا يؤمنون ولا يركعون كما كني عن عدم الإيمان لما حكي عنهم في الآخرة {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] إلى آخره.
ويجوز أن يكون عطفا على قوله: {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46].
وعلى الوجوه كلها يفيد تهديدهم لأنه معطوف على التكذيب أو على الإجرام، وكلاهما سبب للتهديد بجزاء السوء في يوم الفصل.
وليس في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لعدم تعين معنى المصلين للذين يقيمون الصلاة.
[49] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} .
هذه الجملة مثل نظيرها الموالية هي له، إذ يجوز أن تكون متصلة بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] ويكون التعبير ب"المكذبين" إظهار في مقام الإضمار لقصد وصفهم بالتكذيب. والتقدير: ويل يومئذ لهم أو لكم فهي تهديد ناشئ عن جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} ، ويكون اليوم المشار إليه ب {يومئذ} الزمان الذي يفيده {إذا} من قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} الذي يجازى فيه بالويل للمجرمين الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، أي لا يؤمنون، وتفيد مع ذلك تقريرا
(29/412)

وتأكيدا لنظيرها المذكور ثانيا في هذه السورة.
[50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} .
الفاء فصيحة تنبئ عن شرط مقدر تقديره: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده يؤمنون، وقد دل على تعيين هذا المقدر ما تكرر في آيات {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 49] فإن تكذيبهم بالقرآن وما جاء فيه من وقوع البعث.
والاستفهام مستعمل في الإنكار التعجيبي من حالهم، أي إذا لم يصدقوا بالقرآن مع وضوح حجته فلا يؤمنون بحديث غيره.
والمقصود أن القرآن بالغ الغاية في وضوح الدلالة ونهوض الحجة فالذين لا يؤمنون به لا يؤمنون بكلام يسمعونه عقب ذلك.
وقوله: {بعده} يجوز أن يجعل صفة حديث فهو ظرف مستقر، والمراد بالبعدية: تأخر الزمان، ويقدر معنى بالغ أو مسموع بعد بلوغ القرآن أو سماعه سواء كان حديثا موجودا قبل نزول القرآن، أو حديثا يوجد بعد القرآن، فليس المعنى أنهم يؤمنون بحديث جاء قبل القرآن مثل التوراة والإنجيل وغيرهما من المواعظ والأخبار، بل المراد أنهم لا يؤمنون بحديث غيره بعد أن لم يؤمنوا بالقرآن لأنه لا يقع إليهم كلام أوضح دلالة وحجة من القرآن.
ويجوز أن يكون {بعده} متعلقا ب {يؤمنون} فهو ظرف لغو ويبقى لفظ {حديث} منفيا بلا قيد وصف أنه بعد القرآن، والمعنى: لا يؤمنون بعد القرآن بكل حديث.
وضمير {بعده} عائد إلى القرآن ولم يتقدم ما يدل عليه في هذه السورة ليكون معادا للضمير ولكنه اعتبر كالمذكور لأنه ملحوظ لأذهانهم كل يوم من أيام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم به.
وتقدم نظير هذه الآية في أواخر سورة الأعراف فضمه إلى ما هنا.
ويجوز أن يكون ضمير {بعده} عائدا إلى القول المأخوذ من {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فإن أمرهم بالركوع الذي هو كناية عن الإيمان كان بأقوال القرآن.
(29/413)

المجلد الثلاثون
سورة النبأ
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
سميت هذه السورة في أكثر المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة النبإ" لوقوع كلمة "النبأ" في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي "صحيح البخاري" وفي "تفسير ابن عطية" و"الكشاف" "سورة عم يتساءلون". وفي "تفسير القرطبي" سماها "سورة عم"، أي بدون زيادة "يتساءلون" تسمية لها بأول جملة فيها.
وتسمى "سورة التساؤل" لوقوع "يتساءلون" في أولها. وتسمى "سورة المعصرات" لقوله تعالى فيها {وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14]. فهذه خمسة أسماء. واقتصر "الإتقان" على أربعة أسماء: عم، والنبأ، والتساؤل، والمعصرات. وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السورة الثمانين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد ، نزلت بعد سورة المعارج وقبل سورة النازعات.
وفيما روي عن ابن عباس والحسن ما يقتضي أن هذه السورة نزلت في أول البعث، روي عن ابن عباس كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به فنزلت {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
وعن الحسن لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم فأنزل الله {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1-2] يعني الخبر العظيم.
وعد آيها أصحاب العدد من أهل المدينة والشام والبصرة أربعين. وعدها أهل مكة وأهل الكوفة إحدى وأربعين آية.
(30/5)

أغراضها
اشتملت هذه السورة على وصف خوض المشركين في شأن القرآن وما جاء به مما يخالف معتقداتهم، ومع ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضا عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
وتهديدهم على استهزائهم.
وفيها إقامة الحجة على إمكان البعث بخلق المخلوقات التي هي من أعظم من خلق الإنسان بعد موته وبالخلق الأول للإنسان وأحواله.
ووصف الأهوال الحاصلة عند البعث من عذاب الطاغين مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين.
وصفة يوم الحشر إنذارا للذين جحدوا به والإيماء إلى أنهم يعاقبون بعذاب قريب قبل عذاب يوم البعث.
وأدمج في ذلك أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال الناس.
[1-3] {عَمَّ يَتَسَاءَلُون، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ومن تشويق بطريقة الأجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن.
وإذا كان هذا الافتتاح مؤذنا بعظيم أمر كان مؤذنا بالتصدي لقول فصل فيه، ولما كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضهم يومئذ يجعل افتتاح الكلام به من براعة الاستهلال.
ولفظ {عَمَّ} مركب من كلمتين هما حرف "عن" الجار، و"ما" التي هي اسم استفهام بمعنى: أي شيء، ويتعلق {عَمَّ} بفعل {يَتَسَاءَلُونَ} فهذا مركب. وأصل ترتيبه: يتساءلون عن ما، فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به، وإذا قد كان
(30/6)

اسم الاستفهام مقترنا بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره قدما معا فصار {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}.
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن "ما" الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقة بينها وبين "ما" الموصولة.
وعلى ذلك جرى استعمال نطقهم، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق فكتبوا "ما" الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت مثل قوله تعالى {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات:43] {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54] {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43] {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف ألا في الشاذ.
ولما بقيت كلمة "ما" بعد حذف ألفها على حرف واحد جروا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف "عن" لأن "ما" لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجي، فلما كان حرف الجر الذي قبل "ما" مختوما بنون والتقت النون مع ميم "ما"، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميما ويدغمونها فيها، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعا للنطق، ونظيره قوله تعالى {مِمَّ خُلِقَ} وهو اصطلاح حسن.
والتساؤل: تفاعل وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل، وترد كثيرا لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه نحو قولهم: ساءل، بمعنى: سأل، قال النابغة:
أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا ... على عرصات الدار سبع كوامل
وقال رويشد بن كثير الطائي:
يأيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل نحو قولهم: عافاك الله، وذلك إما كناية أو مجاز ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه.
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ثم استقر أمرهم على الإنكار.
(30/7)

ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه على طريقة استعمال فعل "يحذر" في قوله تعالى {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} [التوبة:64] فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء.
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين يرجح كل فريق ما ذهب إليه. والوجه حمل الآية على كلتيهما لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب، فعن ابن عباس لما نزل القرآن كانت قريش يتحدثون فيما بينهم فمنهم مصدق ومنهم مكذب.
وعن الحسن وقتادة مثل قول ابن عباس، وقيل هو سؤال استهزاء أو تعجب وإنما هم موقنون بالتكذيب.
فأما التساؤل الحقيقي فأن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ فيسأل المسؤول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ، إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر فيسأل سؤال مستثبت، أو سؤال كشف عم معتقده، أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ كما قال بعضهم لبعض {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] وقال بعض آخر {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [النمل: 67-68].
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء فيقول أحدهم: هل بلغك خبر البعث? ويقول له الآخر: هل سمعت ما قال? فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي.
والاستفهام بما في قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ليس استفهاما حقيقيا بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [الشعراء:221].
والموجه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين.
وضمير {يَتَسَاءَلُونَ} يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة، كالضمير في قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] "يعني الشمس" {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي} [القيامة:26] "يعني الروح"، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات فالضمير ضمير جماعة المخاطبين.
(30/8)

ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} فجوابه مستعمل بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم فبين جانب التفخيم ونظيره قوله تعالى {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222]، فكأنه قيل هم يتساءلون عن النبأ العظيم ومنه قول حسان بن ثابت:
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين أعلى اليرموك والصمان
ذاك معنى لآل جفنة في الدهر ... وحق تقلب الأزمان
والنبأ: الخبر، قيل مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر وهو الذي جرى عليه إطلاق "القاموس" و"الصحاح" و"اللسان".
وقال الراغب: "النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا" اه. وهذا فرق حسن ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب فلا يقال: للخبر عن الأمور المعتادة نبأ وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} في سورة الأنعام [34] وقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67-68].
والعظيم حقيقته: كبير الجسم ويستعار للأمر المهم لأن أهمية المعنى تتخيل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدكرها كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
ووصف {النَّبَأِ} ب {الْعَظِيمِ} هنا زيادة في التنويه به لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظمة أوصال وأهوال، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث في ما نزل من آيات القرآن قبل هذا. ونظيره قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} في سورة ص [67-68].
والتعريف في {النَّبَأِ} تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول صلى الله عليه وسلم به،
(30/9)

وأول ذلك إنباؤه بأن القرآن كلام الله، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك، ومن إثبات بعث الناس يوم القيامة، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يحمل على التمثيل. فعن ابن عباس: هو القرآن، وعن مجاهد وقتادة: هو البعث يوم القيامة.
وسوق الاستدلال بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} إلى قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:16] يدل دلالة بينة على أن المراد من {النَّبَأِ الْعَظِيمِ} الإنباء بأن الله واحد لا شريك له.
وضمير {هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} يجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله: {يَتَسَاءَلُونَ} . واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به، كقول بعضهم {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام:25] وقول بعضهم: هذا كلام مجنون، وقول بعضهم: هذا كذب، وبعضهم: هذا سحر، وهم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره. فمنهم من يقطع بإنكار البعث مثل الذين حكى الله عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7-8]، ومنهم من يشكون فيه كالذين حكى الله عنهم بقوله: {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] على أحد التفسيرين.
وجيء بالجملة الاسمية في صلة الموصول دون أن يقول: الذي يختلفون فيه أو نحو ذلك، لتفيد الجملة الاسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات.
وتقديم {عنه} على {مُعْرِضُونَ} [صّ: 68] للاهتمام بالمجرور وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة.
[4] {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}.
{كَلَّا} حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالبا في الكلام يقتضي ردع المنسوب إليه وإبطال ما نسب إليه، وهو هنا ردع للذين يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون على ما يحتمله التساؤل من المعاني المتقدمة، وإبطال لما تضمنته جملة {يَتَسَاءَلُونَ} من تساؤل معلوم للسامعين.
فموقع الجملة موقع الجواب عن السؤال ولذلك فصلت ولم تعطف لأن ذلك طريقة السؤال والجواب.
(30/10)

والكلام وإن كان إخبارا عنهم فإنهم المقصودون به فالردع موجه إليهم بهذا الاعتبار.
والمعنى: إبطال الاختلاف في ذلك النبأ وإنكار التساؤل عنه ذلك التساؤل الذي أرادوا به الاستهزاء وإنكار الوقوع، وذلك يثبت وقوع ما جاء به النبأ وأنه حق لأن إبطال إنكار وقوعه يفضي إلى إثبات وقوعه.
والغالب في استعمال {كَلَّا} أن تعقب بكلام يبين ما أجملته من الردع والإبطال فلذلك عقبت هنا بقوله: {سَيَعْلَمُونَ} وهو زيادة في إبطال كلامهم بتحقيق أنهم سيوقنون بوقوعه ويعاقبون على إنكاره، فهما علمان يحصلان لهم بعد الموت: علم بحق وقوع البعث، وعلم في العقاب عليه.
ولذلك حذف مفعول {سَيَعْلَمُونَ} ليعم المعلومين فإنهم عند الموت يرون ما سيصيرون إليه فقد جاء في الحديث الصحيح "إن الكافر يرى مقعده فيقال له: هذا مقعدك حتى تبعث" ، وفي الحديث "القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" ، وذلك من مشاهد روح المقبور وهي من المكاشفات الروحية وفسر بها قوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 6-7].
فتضمن هذا الإبطال وما بعده إعلاما بأن يوم البعث واقع، وتضمن وعيدا وقد وقع تأكيده بحرف الاستقبال الذي شأنه إفادة تقريب المستقبل.
ومن محاسن هذا الأسلوب في الوعيد أن فيه إيهاما بأنهم سيعلمون جواب سؤالهم الذي أرادوا به الإحالة والتهكم، وصوروه في صورة طلب الجواب فهذا الجواب من باب قول الناس: الجواب ما ترى لا ما تسمع.
[5] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ}.
ارتقاء في الوعيد والتهديد فإن {ثم} لما عطفت الجملة فهي للترتيب الرتبي، وهو أن مدلول الجملة التي بعدها أرقى رتبة في الغرض من مضمون الجملة التي قبلها، ولما كانت الجملة التي بعد {ثم} مثل الجملة التي قبل {ثم} تعين أن يكون مضمون الجملة التي بعد {ثم} أرقى درجة من مضمون نظيرها. ومعنى ارتقاء الرتبة أن مضمون ما بعد {ثم} أقوى من مضمون الجملة التي قبل {ثم} ، وهذا المضمون هو الوعيد، فلما أستفيد تحقيق وقوع المتوعد به بما أفاده التوكيد اللفظي إذ الجملة التي بعد {ثم} أكدت الجملة
(30/11)

التي قبلها تعين انصراف معنى ارتقاء رتبة معنى الجملة الثانية هو أن المتوعد به الثاني أعظم مما يحسبون.
وضمير {سَيَعْلَمُونَ} في الموضوعين يجري على نحو ما تقدم في ضمير {يَتَسَاءَلُونَ} وضمير {فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 3].
[6] {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً}.
لما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن إبطال إلهية أصنامهم وإثبات إعادة خلق أجسامهم، وهم الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنه من عند الله وتألبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترويجهم تكذيبه، جاء هذا الاستئناف بيانا لإجمال قوله: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
وسيجيء بعده تكملته بقوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17].
وجمع الله لهم في هذه الآيات للاستدلال على الوحدانية بالانفراد بالخلق. وعلى إمكان إعادة الأجساد للبعث بعد البلى بأنها لا تبلغ مبلغ أيجاد المخلوقات العظيمة. ولكون الجملة في موقع الدليل لم تعطف على ما قبلها.
والكلام موجه إلى منكري البعث وهم الموجه إليهم الاستفهام فهو من قبيل الالتفات لأن توجيه الكلام في قوة ضمير المخاطب بدليل عطف {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8] عليه.
والاستفهام في {أَلَمْ نَجْعَلِ} تقريري وهو تقرير على النفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التقريري أن يكون بعده نفي والأكثر كونه بحرف "لم"، وذلك النفي كالإعذار للمقرر إن كان يريد أن ينكر وإنما المقصود التقرير بوقوع جعل الأرض مهادا لا بنفيه بحرف النفي لمجرد تأكيد معنى التقرير.
فالمعنى: أجعلنا الأرض مهادا ولذلك سيعطف عليه {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة البقرة [33]. ولا يسعهم إلا الإقرار به قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، وحاصل الاستدلال بالخلق الأول لمخلوقات عظيمة أنه يدل على إمكان الخلق الثاني لمخلوقات هي دون المخلوقات الأولى قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ "أي الثاني" وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
(30/12)

وجعل الأرض: خلقها على تلك الحالة لأن كونها مهادا أمر حاصل فيها من ابتداء خلقها ومن أزمان حصول ذلك لها من قبل خلق الإنسان لا يعلمه إلا الله.
والمعنى: أنه خلقها في حال أنها كالمهاد فالكلام تشبيه بليغ.
والتعبير ب {نَجْعَلِ} دون: نخلق، لأن كونها مهادا حالة من أحوالها عند خلقها أو بعده بخلاف فعل الخلق فإنه يتعدى إلى الذات غالبا أو إلى الوصف المقوم للذات نحو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:2].
والمهاد: بكسر الميم الفراش الممهد الموطأ؛ وزنة الفعال فيه تدل على أن أصله مصدر سمي به للمبالغة. وفي "القاموس": إن المهاد يراد في المهد الذي يجعل للصبي. وعلى كل فهو تشبيه للأرض به إذ جعل سطحها ميسرا للجلوس عليها والاضطجاع وبالأحرى المشي، وذلك دليل على إبداع الخلق والتيسير على الناس، فهو استدلال يتضمن امتنانا وفي ذلك الامتنان إشعار بحكمة الله تعالى إذ جعل الأرض ملائمة للمخلوقات التي عليها فإن الذي صنع هذا الصنع لا يعجزه أن يخلق الأجسام مرة ثانية بعد بلاها.
والغرض من الامتنان هنا تذكيرهم بفضل الله لعلهم أن يرعوا عن المكابرة ويقلبوا على النظر فيما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم تبليغا عن الله تعالى.
ومناسبة ابتداء الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض أن البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السامع عند الخوض في أمر البعث، أي بعث أهل القبور.
وجعل الأرض مهادا يتضمن الاستدلال بأصل خلق الأرض على طريقة الإيجاز ولذلك لم يتعرض إليه بعد عند التعرض لخلق السماوات.
[7] {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً}.
عطف على {الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] فالواو عاطفة {الْجِبَالَ} على {الأَرْضَ} ، وعاطفة {أَوْتَاداً} على {مِهَادًا} ، وهذا من العطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل.
(30/13)

والأوتاد: جمع وتد بفتح الواو وكسر المثناة الفوقية. والوتد: عود غليظ شيئا، أسفله أدق من أعلاه يدق في الأرض لتشد به أطناب الخيمة وللخيمة أوتاد كثيرة على قدر اتساع دائرتها. والإخبار عن الجبال بأنها أوتاد على طريقة التشبيه البليغ أي كالأوتاد.
ومناسبة ذكر الجبال دعا إليها ذكر الأرض وتشبيهها بالمهاد الذي يكون داخل البيت فلما كان البيت من شأنه أن يخطر ببال السامع من ذكر المهاد كانت الأرض مشبهة بالبيت على طريقة المكنية فشبهت جبال الأرض بأوتاد البيت تخييلا للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده.
وأيضا فإن كثرة الجبال الناتئة على وجه الأرض قد يخطر في الأذهان أنها لا تناسب جعل الأرض مهادا فكان تشبيه الجبال بالأوتاد مستملحا بمنزلة حسن الاعتذار، فيجوز أن تكون الجبال مشبهة بالأوتاد في مجرد الصورة مع هذا التخييل كقولهم: رأيت أسودا غابها الرماح. ويجوز أن تكون الجبال مشبهة بأوتاد الخيمة في أنها تشد الخيمة من أن تقلعها الرياح أو تزلزلها بأن يكون في خلق الجبال للأرض حكمة لتعديل سبح الأرض في الكرة الهوائية إذ نتو الجبال على الكرة الأرضية يجعلها تكسر تيار الكرة الهوائية المحيطة بالأرض فيعتدل تياره حتى تكون حركة الأرض في كرة الهواء غير سريعة.
على أن غالب سكان الأرض وخاصة العرب لهم منافع جمة في الجبال فمنها مسايل الأدوية، وقرارات المياه في سفوحها، ومراعي أنعامهم، ومستعصمهم في الخوف، ومراقب الطرق المؤدية إلى ديارهم إذا طرقها العدو. ولذلك كثر ذكر الجبال مع ذكر الأرض.
فكانت جملة {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} إدماجا معترضا بين جملة {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] وجملة {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ:8].
[8] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} .
معطوف على التقرير الذي في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6]. والتقدير: وأخلقناكم أزواجا، فكان التقرير هنا على أصله إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق فلذلك لم يقل: ألم نخلقكم أزواجا.
وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل لأنه تكوين ذواتهم فهو أدق من الجعل.
(30/14)

وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6]، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب.
والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول "لم" عليه صيره في معنى الماضي لما هو مقرر من أن "لم" تقلب معنى المضارع إلى الماضي فلذلك حسن عطف {خَلَقْنَاكُمْ} على {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 6-7] والكل تقرير على شيء مضى.
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم:48]، فالإتيان بالمضارع في {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال إذ هي مرئيات لهم. والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعودهم بمشاهدتها من قبل سن التفكر، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها، والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها والسير في وعرها وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها وصرف النظر إلى مسالك العدو وعند الاعتلاء وعند الاعتلاء إلى مراقبها، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحرية بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا.
وجيء بفعل المضي في قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} وما بعده لأن مفاعيل فعل "خلقنا" وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم.
وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما، فإقرارهم بها أيسر لأن دلالتها قريبة من البديهي.
وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم، والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]. وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك تني بالاستدلال بخلق الناس الأول لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا, أَوَلاَ
(30/15)

يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا} [مريم: 66-67].
وانتصب {أَزْوَاجًا} على الحال من ضمير الخطاب في {خَلَقْنَاكُمْ} لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجا، فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس، ولما كان المناسب لكونهم أزواجا أن يساق مساق أيجاد الأحوال جيء به حالا من ضمير الخطاب في {خَلَقْنَاكُمْ} ، ولو صرح له بفعل لقيل: وخلقناكم وجعلناكم أزواجا، على نحو ما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] ومما يأتي من قوله: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9].
والأزواج: جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد تكريرة واحدة وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد:
حتى إذا سلخا جمادى ستة
ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان، فقوله: {أَزْوَاجًا} أفاد أن يكون الذكر زوجا للأنثى والعكس، فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذكرها، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
وفي قوله: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} إيماء إلى ما في ذلك الخلق من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى وهو مناط الإيماء إلى الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على أيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق.
وفيه استدلال على عظيم قدرة الله وحكمته، وامتنان على الناس بأنه خلقهم، وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجا ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم، قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل {خَلَقْنَا} بضمير الناس. وجعل {أَزْوَاجًا} حالا منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال: وخلقنا لكم أزواجا.
وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإقبال على النظر فيما بلغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم.
(30/16)

[9] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً}.
انتقل من الاستدلال بخلق الناس إلى الاستدلال بأحوالهم وخص منها الحالة التي هي أقوى أحوالهم المعروفة شبها بالموت الذي يعقبه البعث وهي حالة متكررة لا يخلون من الشعور بما فيها من العبرة لأن تدبير نظام النوم وما يطرأ عليه من اليقظة أشبه حال بحال الموت وما يعقبه من البعث.
وأوثر فعل {جَعَلْنَا} لأن النوم كيفية يناسبها فعل الجعل لا فعل الخلق المناسب للذوات كما تقدم في قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] وكذلك قوله: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10-11].
فإضافة نوم إلى ضمير المخاطبين ليست للتقييد لإخراج نوم غير الإنسان فإن نوم الحيوان كله سبات، ولكن الإضافة لزيادة التنبيه للاستدلال، أي أن دليل البعث قائم بين في النوم الذي هو من أحوالكم، وأيضا لأن في وصفه بسبات امتنانا، والامتنان خاص بهم قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس:67].
والسبات: بضم السين وتخفيف الباء أسم مصدر بمعنى السبت، أي القطع، أي جعلناه لكم قطعا لعمل الجسد بحيث لا بد للبدن منه، وإلى هذا أشار ابن الاعرابي وابن قتيبة إذ جعلا المعنى: وجعلنا نومكم راحة، فهو تفسير معنى.
وإنما أوثر لفظ "سبات" لما فيه من الإشعار بالقطع عن العمل ليقابله قوله بعده {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11] كما سيأتي.
ويطلق السبات على النوم الخفيف، وليس مرادا في هذه الآية إذ لا يستقيم أن يكون المعنى: وجعلنا نومكم نوما، ولا نوما خفيفا.
وفي "تفسير الفخر": طعن بعض الملاحدة في هذه الآية فقالوا: السبات هو النوم فالمعنى: وجعلنا نومكم نوما. وأخذ في تأويلها وجوها ثلاثة من أقوال المفسرين لا يستقيم منها إلا ما قاله ابن الأعرابي أن السبات القطع كما قال تعالى {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص:72] وهو المعنى الأصلي لتصاريف مادة سبت.
وأنكر أبن الأنباري وابن سيده أن يكون فعل سبت بمعنى استراح، أي ليس معنى اللفظ، فمن فسر السبات بالراحة أراد تفسير حاصل المعنى.
(30/17)

وفي هذا امتنان على الناس بخلق نظام النوم فيهم لتحصل لهم راحة من أتعاب العمل الذي يكدحون له في نهارهم فالله تعالى جعل النوم حاصلا للإنسان بدون اختياره، فالنوم يلجئ الإنسان إلى قطع العمل لتحصل راحة لمجموعه الهصبي الذي ركنه في الدماغ، فبتلك الراحة يستجد العصب قواه التي أوهنها عمل الحواس وحركات الأعضاء وأعمالها، بحيث لو تعلقت رغبة أحد بالسهر لا بد له من أن يغلبه النوم وذلك لطف بالإنسان بحيث يحصل له ما به منفعة مداركه قسرا عليه لئلا يتهاون به، ولذلك قيل: إن أقل الناس نوما أقصرهم عمرا وكذلك الحيوان.
[10] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً}.
من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباسا حالة مهيئة لتكيف النوم ومعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الإبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره.
وكان دليلا على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فلما كذبوا خبر الرسول صلى الله عليه وسلم به، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدروه حق قدره لشكروه وما أشركوا، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطورة بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين.
والمعني من جعل الليل لباسا يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.
فيجوز أن يكون اللباس محمولا على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه، أي ما يلبسه الإنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلنا الليل للإنسان كاللباس له، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية. وتحته ثلاثة معان:
أحدها: أن الليل ساتر للإنسان كما يستره اللباس، فالإنسان في الليل يختلي بشؤونه
(30/18)

التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين أي إلهين: إله النور وهو صانع الخير، وإله الظلمة وهو صانع الشر. ويقال لهم الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين اثنين، وهم فرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذينك الأصلين، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المانوية نسبة إلى رجل يقال له "ماني" فارسي قبل الإسلام، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له "مزدك" فارسي قبل الإسلام. وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض بقوله:
وكم لظلام الليل عندك من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
المعنى الثاني: من معنيي وجه الشبه باللباس: أنه المشابهة في الرفق باللابس والملاءمة لراحته، فلما كان الليل راحة للإنسان وكان محيطا بجميع حواسه وأعصابه شبه باللباس في ذلك. ونسب مجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير السدي وقتادة إذ فسروا {سُبَاتًا} [النبأ:9] سكنا.
المعنى الثالث: أن وجه الشبه باللباس هو الوقاية، فالليل يقي الإنسان من الأخطار والاعتداء عليه، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحا ولذلك إذا غير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله: يا صباحاه. ويقال، صبحهم العدو. وكانوا إذ أقاموا حرسا على الربى ناظورة على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهارا فإذا أظلم الليل نزل الحرس، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكر فرسه:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة ... جرداء يحصر دونها جرامها
[11] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً}.
لما ذكر خلق نظام الليل قوبل بخلق نظام النهار، فالنهار: الزمان الذي يكون فيه ضوء الشمس منتشرا على جزء كبير من الكرة الأرضية. وفيه عبرة بدقة الصنع وإحكامه إذ جعل نظامان مختلفان منشؤهما سطوع نور الشمس واحتجابه فوق الأرض، وهما نعمتان للبشر مختلفتان في الأسباب والآثار؛ فنعمة الليل راجعة إلى الراحة والهدوء، ونعمة النهار راجعة إلى العمل والسعي، لأن النهار يعقب الليل فيكون الإنسان قد استجد راحته واستعاد نشاطه ويتمكن من مختلف الأعمال بسبب إبصار الشخوص والطرق.
(30/19)

ولما كان معظم العمل في النهار لأجل المعاش أخبر عن النهار بأنه معاش وقد أشعر ذكر النهار بعد ذكر كل من النوم والليل بملاحظة أن النهار ابتداء وقت اليقظة التي هي ضد النوم فصارت مقابلتهما بالنهار في تقدير: وجعلنا النهار واليقظة فيه معاشا، ففي الكلام اكتفاء دلت عليه المقابلة، وبذلك حصل بين الجمل الثلاث مطابقتان من المحسنات البديعة لفظا وضمنا.
والمعاش: يطلق مصدر عاش إذا حيي، فالمعاش: الحياة ويطلق اسما لما به عيش الإنسان من طعام وشراب على غير قياس.
والمعنيان صالحان للآية إذ يكون المعنى: وجعلنا النهار حياة لكم، شبهت اليقظة فيه الحياة، أو يكون المعنى وجعلنا النهار معيشة لكم، والإخبار عنه بأنه معيشة مجاز أيضا بعلاقة السببية لأن النهار سبب للعمل الذي هو سبب لحصول المعيشة وذلك يقابل جعل الليل سباتا بمعنى الانقطاع عن العمل، قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73].
ففي مقابلة السبات بالمعاش على هذين الاعتبارين مطابقتان من المحسنات.
[12] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} .
ناسب بعد ذكر الليل وانهار وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء أن يتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية.
والبناء: جعل الجاعل أو صنع الصانع بيتا أو قصرا من حجارة وطين أو من أثواب، أو من أدم على وجه الأرض، وهو مصدر بني فبيت المدر مبني، والخيمة مبنية، والطراف والقبة من الأدم مبنيان. والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض فليس الحفر بناء ولا نقر الصخور في الجبال بناء. قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتنا دعائمه أعز وأطول
فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة.
واستعير فعل {بَنَيْنَا} في هذه الآية لمعنى: خلقنا ما هو عال فوق الناس، لأن تكوينه عاليا يشبه البناء.
ولذلك كان قوله: {فَوْقَكُمْ} إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل {بَنَيْنَا} وليس
(30/20)

ذلك تجريدا للاستعارة لأن الفوقية لا تختص بالمبنيات، مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السبع الشداد.
والمراد بالسبع الشداد: السماوات، فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف للعلم به كقوله تعالى: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث إذ التقدير: سبع سماوات.
فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي: زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر. وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس.
وهذا المحمل هو الأظهر لأن العبرة بها أظفر لأن المخاطبين لا يرون السماوات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد. وهي "ستورن" و "نبتون" و "أورانوس" وهي في علم الله تعالى لا محالة لقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] وأن الله لا يقول إلا حقا وصدقا ويقرب للناس المعاني بقدر أفهامهم رحمة بهم.
فأما الأرض فقد عدت أخيرا في الكواكب السيارة وحذف القمر من الكواكب لتبين أن حركته تابعة لحركة الأرض إلا أن هذا لا دخل له في الاستدلال لأن الاستدلال وقع بما هو معلوم مسلم يومئذ والكل من صنع الله.
ويجوز أن يراد بالسماوات السبع طبقات علوية يعلمها الله تعالى وقد اقتنع الناس منذ القدم بأنها سبع سماوات.
وشداد: جمع شديدة، وهي الموصوفة بالشدة، والشدة: القوة.
والمعنى: أنها متينة الخلق قوية الأجرام لا يختل أمرها ولا تنقص على مر الأزمان.
[13] {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} .
ذكر السماوات يناسبه ذكر أعظم ما يشاهده الناس في فضائها وذلك الشمس، ففي ذلك مع العبرة بخلقها عبرة في كونها على تلك الصفة ومنة على الناس باستفادتهم من
(30/21)

نورها فوائد جمة.
والسراج: حقيقته المصباح الذي يستضاء به وهو إناء يجعل فيه زيت وفي الزيت خرقة مفتولة تسمى الذبالة تشعل بنار فتضيء ما دام فيها بلل الزيت.
والكلام على التشبيه البليغ والغرض من التشبيه تقريب صفة المشبه إلى الأذهان كما تقدم في سورة نوح.
وزيد ذلك التقريب بوصف السراج بالوهاج، أي الشديد السنا.
والوهاج: أصله الشديد الوهج "بفتح الواو وفتح الهاء، ويقال بفتح الواو وسكون الهاء" وهو الاتقاد يقال: وهجت النار إذا اضطرمت اضطراما شديدا.
ويطلق الوهاج على المتلألئ المضيء وهو المراد هنا لأن وصف وهاج أجري على سراج، أي سراجا شديد الإضاءة، ولا يقال سراج ملتهب.
قال الراغب: الوهج حصول الضوء والحر من النار. وفي "الأساس" عد قولهم: سراج وهاج في قسم الحقيقة. وعليه جرى قوله في "الكشاف" متلالئا وقادا. وتوهجت النار، إذ تلمظت فتوهجت بضوئها وحرها فإذن يكون التعبير عن الشمس بالسراج في هذه الآية هو موقع التشبيه.
ولذلك أوثر فعل {جَعَلْنَا} دون: خلقنا، لأن كونها سراجا وهاجا حالة من أحوالها وإنما يعلق فعل الخلق بالذوات.
فالمعنى: وجعلنا لكم سراجا وهاجا أو وجعلنا في السبع الشداد سراجا وهاجا على نحو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح:15-16] وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} [الفرقان:61] سواء قدرت ضمير {فِيهَا} عائدا إلى {السَّمَاء} أو إلى "البروج" لأن البروج هي بروج السماء.
وقوله: {سِرَاجاً} اسم جنس فقد يراد به الواحد من ذلك الجنس فيحتمل أن يراد الشمس أو القمر.
[14-16] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} .
(30/22)

استدلالا بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأ شبيها بحياة بعد شبيه بموت أو اقتراب منه ومنشأ تخلق موجودات من ذرات دقيقة. وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حب وشجرا وكلأ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإنسان والحيوان وهي حياة النماء فيكون ذلك دليلا للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شبه إحالة البعث.
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9-11]، ففي الآية استدلالان بإنزال الماء من السحاب، واستدلال بالإنبات، وفي هذا أيضا منة على المعرضين على النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم، ومن تنعمهم وجمال مرائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عندما يبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صادقة العزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة.
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية.
والمعصرات: بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدثها معصرة اسم فاعل من: أعصرت السحابة، إذا آن لها أن تعصر، أي تنزل إنزالا شبيها بالعصر. فهمزة "أعصر" تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمى همزة التهيئة كما في قولهم: أجز الزرع، إذا حان له أن يجز بزاي في آخره ، وأحصد إذا حان وقت حصاده. ويظهر من كلام صاحب "الكشاف" أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيؤ لإصدار الفعل فإنه ذكر: أعصرت الجارية، أي حان وقت أن تصير تحيض، وذكر ابن قتيبة في "أدب الكاتب": أركب المهر، إذا حان أن يركب، وأقطف الكرم، إذا حان أن يقطف. ثم ذكر: أقطف القوم: حان أن يقطفوا كرومهم، وأنتجت الخيل: حان وقت نتاجها.
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} الآية من سورة النور [43]، والعرب تقول: إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما جاء بالريح عصر بعضه بعضا فيخرج الودق منه، ومن ذلك قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} ومن
(30/23)

ذلك قول حسان:
كلتاهما حلب العصير فحاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
أراد حسان الخمر والماء الذي مزجت به، أي هذه من عصير العنب وهذه من عصير السحاب، فسر هذا التفسير قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن العنبري1 للقوم الذين حلف صاحبهم بالطلاق أن يسأل القاضي عن تفسير بيت حسان اه.
والثجاج: المنصب بقوة وهو فعال من ثج القاصر إذا انصب، يقال ثج الماء، إذا انصب بقوة، فهو فعل قاصر. وقد يسند الثج إلى السحاب، يقال: ثج السحاب يثج بضم الثاء، إذا صب الماء، فهو حينئذ فعل متعد.
ووصف الماء هنا بالثجاج للامتنان.
وقد بينت حكمة إنزال المطر من السحاب بأن الله جعله لإنبات النبات من الأرض جمعا بين الامتنان والإيماء إلى دليل تقريب البعث ليحصل إقرارهم بالبعث وشكر الصانع.
وجيء بفعل {لِنُخْرِجَ} دون نحو: لننبت، لأن المقصود الإيماء إلى تصوير كيفية بعث الناس من الأرض إذ ذلك المقصد الأول من هذا الكلام ألا ترى أنه لما كان المقصد الأول من آية سورة "ق" هو الامتنان جيء بفعل {أنبتنا} في قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ} [ق:9] الآية، ثم أتبع ثانيا بالاستدلال به على البعث بقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11]. والبعث خروج من الأرض قال تعالى: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} في سورة طه.
والحب: اسم جمع حبة وهي البرزة. والمراد بالحب هنا: الحب المقتات للناس مثل: الحنطة، والشعير، والسلت، والذرة، والأرز، والقطنية، وهي الحبوب التي هي ثمرة السنابل ونحوها.
والنبات أصله اسم مصدر نبت الزرع، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح:17]. وأطلق النبات على النابت من إطلاق المصدر على الفاعل وأصله المبالغة ثم شاع استعماله فنسيت المبالغة.
ـــــــ
1 ولي قضاء البصرة سنة 158 وعزل سنة 165 وتوفي سنة 168. وهو الذي ينسب إليه القول بأن المجتهد لا يأثم ولو في أصول الدين إذا لم يخرج باجتهاده عن الإسلام.
(30/24)

والمراد به هنا: النبات الذي لا يؤكل حبه بل الذي ينتفع بذاته وهو ما تأكله الأنعام والدواب مثل التبن والقرط والفصفصة والحشيش وغير ذلك.
وجعلت الجنات مفعولا ل"نخرج" على تقدير مضاف، أي نخل جنات أو شجر جنات، لأن الجنات جمع جنة وهي قطعة من الأرض المغروسة نخلا أو نخلا وكرما، أو بجميع الشجر المثمر مثل التين والرمان كما جاء في مواضع من القرآن، وهي استعمالات مختلفة باختلاف المنابت.
ووجه إيثار لفظ {جَنَّاتٍ} أن فيه إيماء إلى إتمام المنة لأنهم كانوا يحبون الجنات والحدائق لما فيها من التنعم بالظلال والثمار والمياه وجمال المنظر، ولذلك أتبعت بوصف {أَلْفَافًا} لأنه يزيدها حسنا، وإن كان الفلاحون عندنا يفضلون التباعد بين الأشجار لأن ذلك أوفر لكمية الثمار لأن تباعدها أسعد لها بتخلل الهواء وشعاع الشمس، لكن مساق الآية هنا الامتنان بما فيه نعيم الناس.
وألفاف: اسم جمع لا واحد له من لفظه وهو مثل أو زاع وأخياف، أي كل جنة ملتفة، أي ملتفة الشجر بعضه ببعض.
فوصف الجنة بألفاف مبني على المجاز العقلي لأن الالتفاف في أشجارها ولكن لما كانت الأشجار لا يلتف بعضها على بعض في الغالب إلا إذا جمعتها جنة أسند ألفاف إلى جنات بطريق الوصف. ولعله من مبتكرات القرآن إذا لم أر شاهدا عليه من كلام العرب قبل القرآن.
وقيل ألفاف جمع لف بكسر اللام بوزن جذع، أي كل جنة منها لف بكسر اللام ولم يأتوا بشاهد عليه. وذكر في "الكشاف" أن صاحب "الإقليد"1 ذكر بيتا أنشده الحسن بن علي الطوسي2 ولم يعزه إلى قائل. وفي "الكشاف" زعم ابن قتيبة3: أنه لفاء ولف ثم ألفاف "أي أن ألفافا جمع الجمع" قال "وما أظنه واجدا له نظيرا" أي لا يجمع
ـــــــ
1 الإقليد اسم تفسير كذا قال القزويني في "الكشف" على "الكشاف" ورأيت في طرة نسخة فيه أن الإقليد لأبي الفتح الهمذاني ولم أعثر على ترجمة مؤلفة.
2 الحسن بن علي الطوسي لعله الوزير الملقب نظام الملك والبيت هو:
جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر
3 لعله ذكر ذلك في غير كتاب أدب الكتاب فإني لم أجده فيه.
(30/25)

فعل جمعا على أفعال، أي لا نظير له إذ لا يقال خضر وأخضار وحمر وأحمار. يريد أنه لا يخرج الكلام الفصيح على استعمال لم يثبت ورود نظيره في كلام العرب مع وجود تأويل له على وجه وارد.
فكان أظهر الوجوه أن {أَلْفَافًا} اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وبهذا الاستدلال والامتنان ختمت الأدلة التي أقيمت لهم على انفراد الله تعالى بالإلهية وتضمنت الإيماء إلى إمكان البعث وما أدمج فيها من المنن عليهم عساهم أن يذكروا النعمة فيشعروا بواجب شكر المنعم ولا يستفظعوا إبطال الشركاء في الإلهية وينظروا فيما بلغهم عنه من الإخبار بالبعث والجزاء فيصرفوا عقولهم للنظر في دلائل تصديق ذلك.
وقد ابتدئت هذه الدلائل بدلائل خلق الأرض وحالتها وجالت بهم الذكرى على أهم ما على الأرض من الجماد والحيوان، ثم ما في الأفق من أعراض الليل والنهار. ثم تصاعد بهم التجوال بالنظر في خلق السماوات وبخاصة الشمس ثم نزل بهم إلى دلائل السحاب والمطر فنزلوا معه إلى ما يخرج من الأرض من بدائع الصنائع ومنتهى المنافع فإذا هم ينظرون من حيث صدروا وذلك من رد العجز على الصدر.
[17-18] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} .
هذا بيان لما أجمله قوله: {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأت للانتقال مناسبة ذكر الإخراج من قوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} [النبأ: 15] الخ، لأن ذلك شبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} إلى قوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} في سورة ق [9-11].
وهو استئناف بياني أعقب به قوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً} [النبأ: 15] الآية فيما قصد به من الإيماء إلى دليل البعث.
وأكد الكلام بحرف التأكيد لأن فيه إبطالا لإنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل.
ويوم الفصل: يوم البعث للجزاء.
والفصل: التمييز بين الأشياء المختلطة، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني
(30/26)

المتشابهة والملتبسة فلذلك أطلق على الحكم، وقد يضاف إليه فيقال: فصل القضاء، أي نوع من الفصل لأن القضاء يميز الحق من الظلم.
فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض.
وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإثبات شيئين:
أحدهما: أنه بين ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء وذلك فصل بين الصدق وكذبهم.
وثانيهما: القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اعتدى به بعضهم على بعض.
وإقحام فعل {كان} لإفادة أن توقيته متأصل في علم الله لما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدمه على ميقاته.
وتقدم {يَوْمُ الْفَصْلِ} غير مرة أخراها في سورة المرسلات [14].
ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} في سورة الطارق [13].
والميقات: مفعال مشتق من الوقت، والوقت: الزمان المحدد في عمل ما، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيدا بإضافة أو نحوها نحو وقت الصلاة.
فالميقات جاء على زنة اسم الآلة وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء مثل ميعاد وميلاد، في الخروج عن كونه اسم آلة ألى جعله اسما لنفس ما أشتق منه. والسياق دل على متعلق ميقات، أي كان ميقاتا للبعث والجزاء.
فكونه {مِيقَاتًا} كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ.
وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره، سؤالا يريدون منه الاستهزاء بخبره.
والمعنى: أن ليس تأخر وقوعه دالا على انتفاء حصوله.
والمعنى: ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانه المحدد له ولكن الله مستدرجكم مدة.
وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يدرى لعله يحصل قريبا قال تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} [الأعراف:187] وقال {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} [الإسراء:51].
(30/27)

و {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} بدل من {يَوْمَ الْفَصْلِ} .
وأضيف {يَوْمَ} إلى جملة {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فانتصب {يَوْمَ} على الظرفية وفتحته فتحة إعراب لأنه أضيف إلى جملة أولها معرب وهو المضارع.
وفائدة هذا البدل حصول التفصيل لبعض أحوال الفصل وبعض أهوال يوم الفصل.
والصور: البوق. وهو قرن ثور فارغ الوسط مضيق بعض فراغه ويتخذ من الخشب أو من النحاس، ينفخ فيه النافخ فيخرج منه الصوت قويا لنداء الناس إلى الاجتماع، وأكثر ما ينادى به الجيش والجموع المنتشرة لتجتمع إلى عمل يريده الآمر بالنفخ.
وبني {يُنْفَخُ} إلى النائب لعدم تعلق الغرض بمعرفة النافخ وإنما الغرض معرفة هذا الحادث العظيم وصورة حصوله.
والنفخ في الصور يجوز أن يكون تمثيلا لهيئة دعاء الناس وبعثهم إلى الحشر بهيئة جمع الجيش المتفرق لراحة أو تتبع عدو فلا يلبثون أن يتجمعوا عند مقر أميرهم.
ويجوز أن يكون نفخ يحصل به الإحياء لا تعلم صفته فإن أحوال الآخرة ليست على أحوال الدنيا، فيكون النفخ هذا معبرا به عن أمر التكوين الخاص وهو تكوين الأجساد بعد بلاها وبث أرواحها في بقاياها. وقد ورد في الآثار إن الملك الموكل بهذا النفخ هو إسرافيل، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
وعطف {تأتون} بالفاء لإفادة تعقيب النفخ بمجيئهم إلى الحساب.
والإتيان: الحضور بالمكان الذي يمشي إليه الماشي فالإتيان هو الحصول.
وحذف ما يحصل بين النفخ في الصور وبين حضورهم لزيادة الإيذان بسرعة حصول الإتيان حتى كأنه يحصل عند النفخ في الصور فتحيون فتسيرون فتأتون.
وأفواجا حال من ضمير {تأتون} ، والأفواج: جمع فوج بفتح الفاء وسكون الواو، والفوج: الجماعة المتصاحبة من أناس مقسمين باختلاف الأغراض، فتكون الأمم أفواجا، ويكون الصالحون وغيرهم أفواجا قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك:8] الآية.
والمعنى: فتأتون مقسمين طوائف وجماعات، وهذا التقسيم بحسب الأحوال
(30/28)

كالمؤمنين والكافرين وكل أولئك أقسام ومراتب.
[19] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} .
جملة هي حال من ضمير {تأتون} .
والتقدير: وقد فتحت السماء، أي قد حصل النفخ قبل ذلك أو معه.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} فيعتبر {يَوْمَ} مضافا إلى هذه الجملة على حد قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25]. والتعبير بالفعل الماضي على هذا الوجه لتحقيق وقوع هذا التفتيح حتى كأنه قد مضى وقوعه.
وفتح السماء: انشقاقها بنزول الملائكة من بعض السماوات التي هي مقرهم نزولا يحضرون به لتنفيذ أمر الجزاء كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ} [الفرقان:26].
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {وَفُتِحَتِ} بتشديد الفوقية، وهو مبالغة في فعل الفتح بكثرة الفتح أو شدته إشارة إلى أنه فتح عظيم لأن شق السماء لا يقدر عليه إلا الله.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الفوقية على أصل الفغل ومجرد تعلق الفتح بالسماء مشعر بأنه فتح شديد.
وفي الفتح عبرة لأن السماوات كانت ملتئمة فإذا فسد التئامها وتخللتها مفاتح كان معه انخرام نظام العالم الفاني قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} إلى قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق: 1-6].
فالتفتح والفتح سواء في المعنى المقصود، وهو تهويل {يَوْمَ الْفَصْلِ} .
وفرع على انفتاح السماء بفاء التعقيب {فَكَانَتْ أَبْوَاباً} ، أي ذات أبواب.
فقوله: {أَبْوَاباً} تشبيه بليغ، أي كالأبواب وحينئذ لا يبقى حاجز بين سكان السماوات وبين الناس كما تقدم في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4].
(30/29)

والأخبار عن السماء بأنها أبواب جرى على طريق المبالغة في الوصف بذات أبواب للدلالة على كثرة المفاتح فيها حتى كأنها هي أبواب وقريب منه قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} [القمر:12] حيث أسند التفجير إلى لفظ الأرض، وجيء باسم العيون تمييزا، وهذا يناسب معنى قراءة التشديد ويؤكده، ويقيد معنى قراءة التخفيف ويبينه.
و {كَانَتْ} بمعنى: صارت.
ومعنى الصيرورة في معاني "كان" وأخواتها الأربع وهي: ظل، وبات، وأمسى، وأصبح، وقرينة ذلك أنه مفرع على {فُتِحَتِ} ونظيره قوله تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37].
والأبواب: جمع باب، وهو الفرجة التي يدخل منها في حائل من سور أو جدار أو حجاب أو خيمة، وتقدم في قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} في سورة يوسف [23] وقوله: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} في سور العقود [23].
[20] {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} .
التسيير: جعل الشيء سائرا، أي ماشيا. وأطلق هنا على النقل من المكان، أي نقلت الجبال وقلعت من مقارها بسرعة بزلازل أو نحوها كما دل عليه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتْ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلاً} [المزمل:14]، حتى كأنها تسير من مكان إلى آخر وهو نقل يصحبه تفتيت كما دل عليه تعقيبه بقوله: {فَكَانَتْ سَرَاباً} لأن ظاهر التعقيب أن لا تكون معه مهلة، أي فكانت كالسراب في أنها لا شيء.
والقول في بناء {سُيِّرَتِ} للمجهول كالقول في {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} [النبأ:19].
وكذلك قوله: {فَكَانَتْ سَرَاباً} وهو كقوله: {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ:19].
والسراب: ما يلوح في الصحاري مما يشبه الماء وليس بماء ولكنه حالة في الجو القريب تنشأ من تراكم أبخرة على سطح الأرض. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} في سورة النور [39].
[21-23] {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا، لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} .
يجوز أن تكون جملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} في موضع خبر ثان لـ {إنَّ} من
(30/30)

قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] والتقدير: إن يوم الفصل إن جهنم كانت مرصادا فيه للطاغين، والعائد محذوف دل عليه قوله: {مِرْصَاداً} أي مرصادا فيه، أي في ذلك اليوم لأن معنى المرصاد مقترب من معنى الميقات إذ كلاهما محدد لجزاء الطاغين.
ودخول حرف "إن" في خبر "إن" يفيد تأكيدا على التأكيد الذي أفاده حرف التأكيد الداخل على قوله: {يَوْمَ الْفَصْلِ} على حد قول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كما تقدم في سورة الحج [17]. وتكون الجملة من تمام ما خوطبوا به بقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18].
والتعبير ب"الطاغين" إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بوصف الطغيان لأن مقتضى الظاهر أن يقول "لكم مئابا".
ويجوز أن تكون مستأنفة أستئنافا بيانيا عن جملة {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17] وما لحق بها لأن ذلك مما يثير في نفوس السامعين تطلب ماذا سيكون بعد تلك الأهوال فأجيب بمضمون {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} الآية. وعليه فليس في قوله: {لِلْطَّاغِينَ} تخريج على خلاف مقتضى الظاهر.
وابتدئ بذكر جهنم لأن المقام مقام تهديد إذ ابتدئت السورة بذكر تكذيب المشركين بالبعث ولما سنذكره من ترتيب نظم هذه الجمل.
وجهنم: اسم لدار العذاب في الآخرة. قيل وهو اسم معرب فلعله معرب عن العبرانية أو عن لغة أخرى سامية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة البقرة [206].
والمرصاد: مكان الرصد، أي الرقابة، وهو بوزن مفعال الذي غلب في اسم آلة الفعل مثل مضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل، ومنهاج للموضع الذي ينهج منه.
والمعنى: أن جهنم موضع يرصد منه الموكلون بها، ويترقبون من يزجي إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتيه من عدو.
(30/31)

ويجوز أن يكون مرصاد مصدرا على وزن المفعال، أي رصدا. والإخبار به عن جهنم للمبالغة حتى كأنها أصل الرصد، أي لا تفلت أحدا ممن حق عليهم دخولها.
ويجوز أن يكون مرصاد زنة مبالغة للراصد الشديد الرصد مثل صفة مغيار ومعطار، وصفت به جهنم على طريقة الاستعارة ولم تلحقه "ها" التأنيث لأن جهنم شبهت بالواحد من الرصد بتحريك الصاد، وهو الواحد من الحرس الذي يقف بالمرصد إذ لا يكون الحارس إلا رجلا.
ومتعلق {مِرْصَاداً} محذوف دل عليه قوله: {لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} .
والتقدير: مرصادا للطاغين، وهذا أحسن لأن قرائن السورة قصار فيحسن الوقف عند {مِرْصَاداً} لتكون قرينة.
ولك أن تجعل للطاغين متعلقا ب {مِرْصَاداً} وتجعل متعلق {مَآبًا} مقدرا دل عليه {لِلْطَّاغِينَ} فيكون كالتضمين في الشعر إذ كانت بقية لما في القرينة الأولى في القرينة الموالية فتكون القرينة طويلة.
ولو شئت أن تجعل للطاغين متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} أو {مَآبًا} فلا مانع من ذلك معنى.
وأقحم {كَانَتْ} دون أن يقال: إن جهنم مرصاد للدلالة على أن جعلها مرصادا أمر مقدر لها كما تقدم في قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. وفيه إيماء إلى سعة علم الله تعالى حيث أعد في أزله عقابا للطاغين.
و {مَآبًا} : مكان الأوب وهو الرجوع، أطلق على المقر والمسكن إطلاقا أصله كناية ثم شاع استعماله فصار اسما للموضع الذي يستقر به المرء.
ونصب {مَآبًا} على الحال من {جَهَنَّمُ} أو على أنه خبر ثان لفعل {كَانَتْ} أو على أنه بدل اشتمال من {مِرْصَاداً} لأن الرصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنم.
و {لِلْطَّاغِينَ} متعلق ب {مَآبًا} قدم عليه لإدخال الروع على المشركين الذين بشركهم طغوا على الله، وهذا أحسن كما علمت آنفا. ولك أن تجعله متعلقا ب {مِرْصَاداً} أو متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} أو متنازعا فيه بين {مِرْصَاداً} و {مَآبًا} كما علمت آنفا.
(30/32)

والطغيان: تجاوز الحد في عدم الاكتراث بحق الغير والكبر، والتعريف فيه للعهد فالمراد به المشركون المخاطبون بقوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18]. فهو إظهار في مقام الإضمار لقصد الإيماء إلى سبب جعل جهنم لهم لأن الشرك أقصى الطغيان إذ المشركون بالله أعرضوا عن عبادته ومتكبرون على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث أنفوا من قبول دعوته وهم المقصود من معظم ما في هذه السورة كما يصرح به قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:27-28]. هذا وأن المسلمين المستخفين بحقوق الله، أو المعتدين على الناس بغير حق، واحتقارا لا لمجرد غلبة الشهوة لهم حظ من هذا الوعيد بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر.
واللابث: المقيم بالمكان. وانتصب {لاَبِثِينَ} على الحال من الطاغين.
وقرأه الجمهور {لاَبِثِينَ} على صيغة جمع لابث. وقرأه حمزة وروح عن يعقوب {لبثين} على صيغة جمع "لبث" من أمثلة المبالغة مثل حذر على خلاف فيه، أو من الصفة المشبهة فتقتضي أن اللبث شأنه كالذي يجثم في مكان لا ينفك عنه.
وأحقاب: جمع حقب بضمتين، وهو زمن طويل نحو الثمانين سنة، وتقدم في قوله: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} في سورة الكهف [60].
وجمعه هنا مراد به الطول العظيم لأن أكثر استعمال الحقب والأحقاب أن يكون في حيث يراد توالي الأزمان ويبين هذا الآيات الأخرى الدالة على خلود المشركين، فجاءت هذه الآية على المعروف الشائع في الكلام كناية به عن الدوام دون انتهاء.
وليس فيه دلالة على أن لهذا اللبث نهاية حتى يحتاج إلى دعوى نسخ ذلك بآيات الخلود وهو وهم لأن الأخبار لا تنسخ، أو يحتاج إلى جعل الآية لعصاة المؤمنين، فإن ذلك ليس من شأن القرآن المكي الأول إذ قد كان المؤمنون أيامئذ صالحين مخلصين مجدين في أعمالهم.
[24-26] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً، إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا، جَزَاءً وِفَاقًا} .
هذه الجملة يجوز أن تكون حالا ثانية من {الْطَّاغِينَ} [النبأ:22] أو حالا أولى من الضمير في {لاَبِثِينَ} [النبأ:23] ، وأن تكون خبرا ثالثا ل {كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21].
(30/33)

وضمير {فيها} على هذه الوجود عائد إلى {جَهَنَّمَ} [النبأ:21].
ويجوز أن تكون صفة ل {أَحْقَابًا} [النبأ:23]، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا. فضمير {فيها} على هذا الوجه عائد إلى الأحقاب.
وحقيقة الذوق: إدراك طعم الطعام والشراب. ويطلق على الإحساس بغير الطعوم مجازيا. وشاع في كلامهم، يقال: ذاق الألم، وعلى وجدان النفس كقوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة:95]. وقد أستعمل هنا في معنييه حيث نصب {بَرْداً} و {شَرَاباً} .
والبرد: ضد الحر، وهو تنفيس للذين عذابهم الحر، أي لا يغاثون بنسيم بارد، والبرد ألذ ما يطلبه المحرور. وعن مجاهد والسدي وأبي عبيدة ونفر قليل تفسير البرد بالنوم وأنشدوا شاهدين غير واضحين، وأيا ما كان فحمل الآية عليه تكلف لا داعي إليه، وعطف {وَلا شَرَاباً} يناكده. والشراب: ما يشرب والمراد به الماء الذي يزيل العطش. والحميم: الماء الشديد الحرارة.
والغساق: قرأه الجمهور بتخفيف السين. وقرأه حمزة والكسائي وحفص بتشديد السين وهما لغتان فيه. ومعناه الصديد الذي يسيل من جروح الحرق وهو المهل، وتقدما في سورة "ص".
واستثناء {حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} من {بَرْداً} أو {شَرَاباً} على طريقة اللف والنشر المرتب، وهو استثناء منقطع لأن الحميم ليس من جنس البرد في شيء إذ هو شديد الحر. ولأن الغساق ليس من جنس الشراب، إذ ليس المهل من جنس الشراب.
والمعنى: يذوقون الحميم إذ يراق على أجسادهم، والغساق إذ يسيل على مواضع الحرق فيزيد ألمهم.
وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده في الصورة.
و {جَزَاءً } منصوب على الحال من ضمير {يَذُوقُونَ} ، أي حالة كون ذلك جزاء، أي مجازي به، فالحال هنا مصدر مؤول بمعنى الوصف وهو أبلغ من الوصف.
و {الوفاق} مصدر وافق وهو مؤول بالوصف، أي موافقا للعمل الذي جوزوا عليه، وهو التكذيب بالبعث وتكذيب القرآن كما دل عليه التعليل بعده بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ
(30/34)

يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:27-28].
فإن ذلك أصل إصرارهم على الكفر، وهما أصلان: أحدهما عدمي وهو إنكار البعث، والآخر وجودي وهو نسبتهم الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن للكذب، فعوقبوا على الأصل العدمي بعقاب عدمي وهو حرمانهم من البرد والشراب، وعلى الأصل الوجودي بجزاء وجودي وهو الحميم يراق على أجسادهم والغساق يمر على جراحهم.
[27-28] {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} .
موقع هذه الجملة موقع التعليل لجملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} إلى قوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:21-26]، ولذلك فصلت.
وضمير {إنهم} عائد إلى {الْطَّاغِينَ} [النبأ:22].
وحرف "أن" للاهتمام بالخبر وليست لرد الإنكار إذ ل ينكر أحد أنهم لا يرجون حسابا وأنهم مكذبون بالقرآن، وشأن "إن" إذا قصد بها مجرد الاهتمام أن تكون قائمة مقام فاء التفريع مفيدة للتعليل، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32] وقوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} في سورة البقرة [70] فالجملة معترضة بين ما قبلها وبين جملة {فَذُوقُوا} [النبأ:30].
وقد علمت مناسبة جزاءهم لجرمهم عند قوله آنفا {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] مما يزيد وجه التعليل وضوحا.
وقوله: {لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا} نفي لرجائهم وقوع الجزاء.
والرجاء أشتهر في ترقب الأمر المحبوب، والحساب ليس خيرا لهم حتى يجعل نفي ترقبه من قبيل نفي الرجاء فكان الظاهر أن يعبر عن ترقبه بمادة التوقع الذي هو ترقب الأمر المكروه، فيظهر أن وجه العدول عن التعبير بمادة التوقع إلى التعبير بمادة الرجاء أن الله لما أخبر عن جزاء الطاغين وعذابهم تلقى المسلمون ذلك بالمسرة وعلموا أنهم ناجون مما سيلقاه الطاغون فكانوا مترقبين يوم الحساب ترقب رجاء، فنفي رجاء يوم الحساب عن المشركين جامع بصريحه معنى عدم إيمانهم بوقوعه، وبكنايته رجاء المؤمنين وقوعه بطريقة الكناية التعريضية تعريضا بالمسلمين وهي أيضا تلويحية لما في لازم مدلول الكلام من الخفاء.
(30/35)

ومن المفسرين من فسر {يَرْجُونَ} بمعنى: يخافون، وهو تفسير بحاصل المعنى، وليس تفسيرا للفظ.
وفعل {كَانُوا} دال على أن انتفاء رجائهم الحساب وصف متمكن من نفوسهم وهم كائنون عليه، وليس المراد بفعل {كَانُوا} أنهم كانوا كذلك فانقضى لأن هذه الجملة إخبار عنهم في حين نزول الآية وهم في الدنيا وليست مما يقال لهم أو عنهم يوم القيامة.
وجيء بفعل {يَرْجُونَ} مضارعا للدلالة على استمرار انتفاء ما عبر عنه بالرجاء، وذلك لأنهم كلما أعيد لهم ذكر يوم الحساب جددوا إنكاره وكرروا شبهاتهم على نفي إمكانه لأنهم قالوا {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
والحساب: العد، أي عد الأعمال والتوقيف على جزائها، أي لا يرجون وقوع حساب على أعمال العباد يوم الحشر.
و {كَذَّبُوا} عطف على {لاَ يَرْجُونَ} ، أي وإنهم كذبوا بآياتنا، أي بآيات القرآن.
والمعنى: كذبوا ما اشتملت عليه الآيات من إثبات الوحدانية ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم ولم يترددوا فيه جيء في جانبه بالفعل الماضي لأنهم قالوا {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5].
وكذاب: بكسر الكاف وتشديد الذال مصدر كذب. والفعال بكسر أوله وتشديد عينه فعل مثل التفعيل، ونظائره: القصار مصدر قصر، والقضاء مصدر قضى، والخراق مصدر خرق المضاعف، والفسار مصدر فسر. وعن الفراء أن أصل هذا المصدر من اللغة اليمنية، يريد: وتكلم به العرب، فقد أنشدوا لبعض بني كلاب:
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حوج قضاؤها من شفائيا
وأوثر هذا المصدر هنا دون التكذيب لمراعاة التماثل في فواصل هذه السورة، فإنها على نحو ألف التأسيس في القوافي، والفواصل كالأسجاع ويحسن في الأسجاع ما يحسن في القوافي.
وفي الكشاف: وفعال فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره.
وأنتصب {كِذَّابًا} على أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله لإفادة شدة تكذيبهم بالآيات.
(30/36)

[29] {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} .
اعتراض بين الجمل التي سيقت مساق التعليل وبين جملة {فَذُوقُوا} [النبأ:30]. وفائدة هذا الاعتراض المبادة بإعلامهم أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمالهم فلا يدع شيئا من سيئاتهم إلا يحاسبهم عليه ما ذكر هنا وما لم يذكر؛ كأنه قيل : إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا، وفعلوا مما عدا ذلك وكل ذلك محصي عندنا.
ونصب {كل} على المفعولية لـ {أَحْصَيْنَاهُ} على طريقة الاشتغال بضميره.
والإحصاء: حساب الأشياء لضبط عددها، فالإحصاء كناية عن الضبط والتحصيل.
وانتصب {كِتَاباً} على المفعولية المطلقة لـ {أَحْصَيْنَاهُ} . والتقدير: إحصاء كتابة، فهو مصدر بمعنى الكتابة، وهو كناية عن شدة الضبط لأن الأمور المكتوبة مصونة عن النسيان والإغفال، فباعتبار كونه كناية عن الضبط جاء مفعولا مطلقا لـ"أحصينا".
[30] {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} .
الفاء للتفريغ والتسبب على جملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] وما أتصل بها، ولما غير أسلوب الخبر إلى الخطاب بعد أن كان جاريا بطريق الغيبة، ولم يكن مضمون الخبر مما يجري في الدنيا فيظن أنه خطاب تهديد للمشركين تعين أن يكون المفرع قولا محذوفا دل عليه فعل {ذوقوا} الذي لا يقال إلا يوم الجزاء، فالتقدير: فيقال لهم ذوقوا إلى آخره، ولهذا فليس في ضمير الخطاب التفات فالمفرع بالفاء هو فعل القول المحذوف.
والأمر في "ذوقوا" مستعمل في التوبيخ والتقريع.
وفرع على {فَذُوقُوا} ما يزيد تنكيدهم وتحسيرهم بإعلامهم بأن الله سيزيدهم عذابا فوق ما هم فيه.
والزيادة: ضم شيء إلى غيره من جنس واحد أو غرض واحد، قال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125] وقال: {وَلاَ تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا} [نوح:28]، أي لا تزدهم على ما هم فيه من المساوي إلا الإهلاك.
فالزيادة المنفية في قوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} يجوز أن تكون زيادة نوع آخر من
(30/37)

عذاب يكون حاصلا لهم كما في قوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].
ويجوز أن تكون زيادة من نوع ما هم فيه من العذاب بتكريره في المستقبل.
والمعنى: فسنزيدكم عذابا زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل، فصيغ التعبير عن هذا المعنى بهذا التركيب الدقيق، إذ أبتدئ بنفي الزيادة بحرف تأبيد النفي وأردف الاستثناء المقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى فصارت دلالة الاستثناء على معنى: سنزيدكم عذابا مؤبدا. وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده وهو أسلوب طريف من التأكيد إذ ليس فيه إعادة لفظ فإن زيادة العذاب تأكيد للعذاب الحاصل.
ولما كان المقصود الوعيد بزيادة العذاب في المستقبل جيء في أسلوب نفيه بحرف نفي المستقبل، وهو"لن" المفيد تأكيد النسبة المنفية وهي ما دل عليه مجموع النفي والاستثناء، فإن قيد تأبيد نفي الزيادة الذي يفيده حرف "لن" في جانب المستثنى منه يسري إلى إثبات زيادة العذاب في جانب المستثنى، فيكون معنى جملة الاستثناء: سنزيدكم عذابا أبدا، وهو معنى الخلود في العذاب. وفي هذا الأسلوب ابتداء مطمع بانتهاء مؤيس وذلك أشد حزنا وغما بما يوهمهم أن ما ألقوا فيه هو منتهى التعذيب حتى إذا ولج ذلك أسماعهم فحزنوا له أتبع بأنهم ينتظرهم عذاب آخر أشد، فكان ذلك حزنا فوق حزن، فهذا منوال هذا النظم وهو مؤذن بشدة الغضب.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي برزة الأسلمي وأبي هريرة: أن هذه الآية أشد ما نزل في أهل النار، وقد أسند هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عن أبي برزة الأسلمي. سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أشد آية في كتاب الله على أهل النار? فقال: "قول الله تعالى {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} " . وفي سنده جسر بن فرقد وهو ضعيف جدا.
وفي ابن عطية: أن أبا هريرة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر أبن عطية سنده، وتعدد طرقه يكسبه قوة.
[31-36] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً، حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً، وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً، وَكَأْساً دِهَاقاً، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً، جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} .
جرى هذا الانتقال على عادة القرآن في تعقيب الإنذار للمنذرين بتبشير من هم أهل للتبشير.
(30/38)

فانتقل من ترهيب الكافرين بما سيلاقونه إلى ترغيب المتقين فيما أعد لهم في الآخرة من كرامة ومن سلامة مما وقع فيه أهل الشرك.
فالجملة متصلة بجملة {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21-22] وهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا مقتضى الانتقال.
وافتتاحها بحرف "إن" للدلالة على الاهتمام بالخبر لئلا يشك فيه أحد.
والمقصود من المتقين المؤمنون الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه لأنهم المقصود من مقابلتهم بالطاغين المشركين.
والمفاز: مكان الفوز وهو الظفر بالخير ونيل المطلوب. ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الفوز، وتنوينه للتعظيم.
وتقديم خبر "إن" على اسمها للاهتمام به تنويها للمتقين.
والمراد بالمفاز: الجنة ونعيمها. وأوثرت كلمة {مَفَازًا} على كلمة: الجنة، لأن اشتقاقه إثارة الندامة في نفوس المخاطبين بقوله: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ:18] وبقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ:30].
وأبدل {حَدَائِقَ} من {مَفَازًا} بدل بعض من كل باعتبار أنه بعض من مكان الفوز، أو بدل اشتمال باعتبار معنى الفوز.
والحدائق: جمع حديقة وهي الجنة من النخيل والأشجار ذوات الساق المحوطة بحائط أو جدار أو حضائر.
والأعناب: جمع عنب وهو اسم يطلق على شجرة الكرم ويطلق على ثمرها.
والكواكب: جمع كاعب، وهي الجارية التي بلغت سن خمس عشرة سنة ونحوها. ووصفت بكاعب لأنها تكعب ثديها، أي صار كالكعب، أي استدار ونتأ، يقال: كعب بتشديد العين. ولما كان كاعب وصفا خاصا بالمرأة لم تلحقه هاء التأنيث وجمع على فواعل.
والأتراب: جمع ترب بكسر فسكون: وهو المساوي غيره في السن، وأكثر ما يطلق على الإناث. قيل هو مشتق من التراب فقيل لأنه حين يولد يقع على التراب مثل الآخر، أو لأن الترب ينشأ مع لدته في سن الصبا يلعب بالتراب.
(30/39)

وقيل مشتق من الترائب تشبيها في التساوي بالترائب وهي ضلوع الصدر فإنها متساوية.
وتقدم الأتراب في قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} في الواقعة [37]، فيجوز أن يكون وصفهم بالأتراب بالنسبة بينهن في تساوي السن لزيادة الحسن، أي لا تفوت واحدة منهن غيرها، أي فلا تكون النفس إلى إحداهن أميل منها إلى الأخرى فتكون بعضهن أقل مسرة في نفس الرجل.
ويجوز أن يكون هذا الوصف بالنسبة بينهن وبين أزواجهن لأن ذلك أحب إلى الرجال في معتاد أهل الدنيا لأنه أوفق بطرح التكلف بين الزوجين وذلك أحلى المعاشرة.
والكأس: إناء معد لشرب الخمر وهو اسم مؤنث تكون من زجاج ومن فضة ومن ذهب، وربما ذكر في كتب اللغة أن الكأس الزجاجة فيها الشراب، ولم أقف على أن لها شكلا معينا يميزها عن القدح وعن الكوب وعن الكوز، ولم أجد في قواميس اللغة التعريف بالكأس بأنها: إناء الخمر وأنها الإناء ما دام فيه الشراب. وهذا يقتضي أنها لا تختص بصنف من الآنية.
وقد يطلقون على الخمر اسم الكأس وأريد بالكأس الجنس إذ المعنى وأكؤسا. وعدل عن صيفة الجمع لأن كأسا بالإفراد أخف من أكؤس وكؤوس ولأن هذا المركب جرى مجرى المثل كما سيأتي.
ودهاق: اسم مصدر دهق من باب جعل، أو اسم مصدر أدهق، ولكونه في الأصل مصدرا لم يقترن بعلامة تأنيث.
والدهق والإدهاق ملء الإناء من كثرة ما صب فيه.
ووصف الكأس بالدهق من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق فإن الكأس مدهقة لا داهقة.
ومركب "كأس دهاق" يجري مجرى المثل قال عكرمة: قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، ولذلك أفرد "كأسا"، ومعناه مملوءة خمرا، أي دون تقتير لأن الخمر كانت عزيزة فلا يكيل الحانوي للشارب إلا بمقدار فإذا كانت الكأس ملأى كان ذلك أسر للشارب.
(30/40)

وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً} يجوز أن يكون الضمير المجرور عائدا إلى الكأس، فتكون "في" للظرفية المجازية بتشبيه تناول الندامى للشراب من الكأس بحلولهم في الكأس على طريق المكنية، وحف "في" تخييل أو تكون "في" للتعليل كما في الحديث "دخلت أمرأة النار في هرة" الحديث، أي من أجل هرة. والمعنى: لا يسمعون لغوا ولا كذابا منها أو عندها، فتكون الجملة صفة ثانية ل"كأسا". والمقصود منها أن خمر الجنة سليمة مما تسببه خمر الدنيا من آثار العربدة من هذيان، وكذب وسباب، واللغو والكذب من العيوب التي تعرض لمن تدب الخمر في رؤوسهم، أي فأهل الجنة ينعمون بلذة السكر المعروفة في الدنيا قبل تحريم الخمر ولا تأتي الخمر على كمالاتهم النفسية كما تأتي عليها خمر الدنيا.
وكان العرب يمدحون من يمسك نفسه عن اللغو ونحوه في شرب الخمر، قال عمارة بن الوليد:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى بينهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الريان ليس بعائم
وكان قيس بن عاصم المنقري ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية وقال:
فإن الخمر تفضح شاربيها ... وتجنيهم بها الأمر العظيما
ويجوز أن يعود ضمير {فيها} إلى {مَفَازًا} باعتبار تأويله بالجنة لوقوعه في مقابلة {جَهَنَّمَ} من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ:21] أو لأنه أبدل {حَدَائِقَ} من {مَفَازًا} . وهذا المعنى نشأ عن أسلوب نظم الكلام حيث قدم {حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً} الخ، وأخر {وَكَأْساً دِهَاقاً} حتى إذا جاء ضمير فيها بعد ذلك جاز إرجاعه إلى الكأس وإلى المفاز كما علمت. وهذا من بديع الإيجاز مع وفرة المعاني مما عددناه من وجوه الإعجاز من جانب الأسلوب في المقدمة العاشرة من هذا التفسير، أي لا يسمعون في الجنة الكلام السافل ولا الكذب. فلما أحاط بأهل جهنم أشد الأذى بجميع حواسهم من جراء حرق النار وسقيهم الحميم والغساق لينال العذاب بواطنهم كما نال ظاهر أجسادهم، كذلك نفى عن أهل الجنة أقل الأذى وهو أذى سماع ما يكرهه الناس فإن ذلك أقل الأذى.
وكني عن انتفاء اللغو والكذاب عن شاربي خمر الجنة بأنهم لا يسمعون اللغو والكذاب فيها لأنه لو كان فيها لغو وكذب لسمعوه وهذا من باب قول امرئ القيس:
(30/41)

على لاحب لا يهتدي بمناره
أي لا منار فيه فيهتدى به، وهو نوع من لطيف الكناية، والذي في الآية أحسن مما وقع في بيت امرئ القيس ونحوه لأن فيه إيماء إلى أن أهل الجنة منزهة أسماعهم عن سقط القول وسفل الكلام كما في قوله في سورة الواقعة [25] {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا} .
واللغو: الكلام الباطل والهذيان وسقط القول الذي لا يورد عن روية ولا تفكير.
والكذاب: تقدم معناه آنفا.
وقرأ الجمهور {كِذَّابًا} هنا مشددا. وقرأه الكسائي هنا بتخفيف الذال. وانتصب {جَزَاءً} على الحال من {مَفَازًا} .
وأصل الجزاء مصدر جزى، ويطلق على المجازي به من إطلاق المصدر على المفعول، فالجزاء هنا المجازى به وهو الحدائق والجنات والكواعب والكأس.
والجزاء: إعطاء شيء عوضا على عمل. ويجوز أن يجعل الجزاء على أصل معناه المصدري وينتصب على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعل مقدر. والتقدير: جزينا المتقين.
وإضافة رب إلى ضمير المخاطب مراد به النبي صلى الله عليه وسلم للإيماء إلى أن جزاء المتقين بذلك يشتمل على إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لأن إسداء هذه النعم إلى المتقين كان لأجل أيمانهم به وعملهم بما هداهم إليه.
و"من" ابتدائية، أي صادرا من لدن الله، وذلك تنويه بكرم هذا الجزاء وعظم شأنه.
ووصف الجزاء بعطاء وهو أسم لما يعطى، أي يتفضل به بدون عوض للإشارة إلى أن ما جوزوا به أوفر مما عملوه، فكان ما ذكر للمتقين من المفاز وما فيه جزاء شكرا لهم وعطاء كرما من الله تعالى وكرامة لهذه الأمة إذ جعل ثوابها أضعافا.
و {حِسَاباً} : اسم مصدر حسب بفتح السين يحسب بضمنها، إذا عد أشياء وجميع ما تصرف من مادة حسب متفرع عن معنى العد وتقدير المقدار، فوقع {حِسَاباً} صفة {جَزَاءً} ، أي هو جزاء كثير مقدر على أعمالهم.
(30/42)

والتنوين فيه للتكثير، والوصف باسم المصدر للمبالغة وهو بمعنى المفعول، أي محسوبا مقدرا بحسب أعمالهم، وهذا مقابل ما وقع في جزاء الطاغين من قوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26].
وهذا الحساب مجمل هنا يبينه قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام:160] وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261].
وليس هذا الحساب للاحتراز عن تجاوز الحد المعين، فلذلك استعمال آخر كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولكل آية مقامها الذي يجري عليه استعمال كلماتها فلا تعارض بين الآيتين.
ويجوز أن يكون {حِسَاباً} اسم مصدر أحسبه، إذا أعطاه ما كفاه، فهو بمعنى إحسابا، فإن الكفاية يطلق عليها حسب بسكون السين فإنه إذا أعطاه ما كفاه قال: حسبي.
[37] {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} .
{رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر برفع {رب} ورفع {الرحمن} ، وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب بخفضهما، وقرأه حمزة والكسائي وخلف بخفض {رب} ورفع {الرحمن} ، فأما قراءة رفع الاسمين ف {رب} خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير يعود على قوله: {مِنْ رَبِّكَ} [النبأ:36] على طريقة حذف المسد إليه حذفا سماه السكاكي حذفا لاتباع الاستعمال الوارد على تركه، أي في المقام الذي يجري استعمال البلغاء فيه على حذف المسند إليه، وذلك إذا جرى في الكلام وصف ونحوه لموصوف ثم ورد ما يصلح أن يكون خبرا عنه أو أن يكون نعتا له فيختار المتكلم أن يجعله خبرا لا نعتا، فيقدر ضمير المنعوت ويأتي بخبر عنه وهو ما يسمى بالنعت المقطوع.
والمعنى: إن ربك هو ربهم لأنه رب السماوات والأرض وما بينهما ولكن المشركين عبدوا غيره جهلا وكفرا لنعمته. و {الرحمن} خبر ثان.
وأما قراءة جر الاسمين فهي جارية على أن {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} نعت لـ {رَبِّكَ} من قوله: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} [النبأ:36] و {الرَّحْمَنِ} نعت ثان.
(30/43)

والرب: المالك المتصرف بالتدبير ورعي الرفق والرحمة، والمراد بالسماوات والأرض وما بينهما مسماها مع ما فيها من الموجودات لأن اسم المكان قد يراد به ساكنه كما في قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} في سورة الحج [45]، فأن الظلم من صفات سكان القرية لا صفة لذاتها، والخواء على عروشها من أحوال ذات القرية لا من أحوال سكانها، فكان إطلاق القرية مرادا به كلا المعنيين.
والمراد بما بين السماوات والأرض: ما على الأرض من كائنات وما في السماوات من الملائكة وما لا يعلمه بالتفصيل إلا الله وما في الجو من المكونات حية وغيرها من أسحبة وأمطار وموجودات سابحة في الهواء.
و {ما} موصولة وهي من صيغ العموم، وقد استفيد من ذلك تعميم ربوبيته على جميع المصنوعات.
وأتبع وصف {رَبِّ السَّمَاوَاتِ} بذكر اسم من أسمائه الحسنى وهو اسم {الرَّحْمَنِ} وخص بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى لأن في معناه إيماء إلى أن ما يفيضه من خير على المتقين في الجنة هو عطاء رحمان بهم.
وفي ذكر هذه الصفة الجليلة تعريض بالمشركين إذ أنكروا اسم الرحمن الوارد في القرآن كما حكى الله عنهم بقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَانُ} [الفرقان:60].
[37] {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من {مَا بَيْنَهُمَا} لأن ما بين السماوات والأرض يشمل ما في ذلك من المخلوقات العاقلة ، أو المزعوم لها العقل مثل الأصنام، فيتوهم أن من تلك المخلوقات من يستطيع خطاب الله ومراجعته.
ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لإبطال مزاعم المشركين أو للاحتراس لدفع توهم أن ما تشعر به صلة رب من الرفق بالمربوبين في تدبير شؤونهم يسيغ إقدامهم على خطاب الرب.
والملك في قوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} معناه القدرة والاستطاعة لأن المالك يتصرف فيما يملكه حسب رغبته لا رغبة غيره فلا يحتاج إلى إذن غيره.
(30/44)

فنفي الملك نفي الاستطاعة.
وقوله: {منه} حال من {خِطَابًا} . وأصله صفة لخطاب فلما تقدم على موصوفه صار حالا.
وحرف "من" اتصالية وهي ضرب من الابتدائية مجازية كقوله تعالى: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة:4]، فـ"من" الأولى اتصالية والثانية لتوكيد النص. ومنه قولهم: لست منك ولست مني وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] ، أي لا يستطيعون خطابا يبلغونه إلى الله.
وضمير {لا يَمْلِكُونَ} عائد إلى {ما} الموصولة في قوله: {مَا بَيْنَهُمَا} لأنها صادقة على جميعهم.
والخطاب: الكلام الموجه لحاضر لدى المتكلم أو كالحاضر المتضمن إخبارا أو طلبا أو إنشاء مدح أو ذم.
وفعل {يَمْلِكُونَ} يعم لوقوعه في سياق النفي كما تعم النكرة المنفية. و {خِطَاباً} عام أيضا وكلاهما من العام المخصوص بمخصص منفصل كقوله عقب هذه الآية {لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ:38] وقوله: {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [هود:105] وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] وقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
والغرض من ذكر هذا إبطال اعتذار المشركين حين استشعروا شناعة عبادتهم الأصنام التي شهر القرآن بها فقالوا {هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
[38] {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا} .
{يوم} متعلق بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} ، أي لا يتكلم أحد يومئذ إلا من أذن له الله.
وجملة {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} مؤكدة لجملة {لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} أعيدت بمعناها لتقرير
(30/45)

المعنى إذ كان المقام حقيقا، فالتقرير لقصد التوصل به إلى الدلالة على إبطال زعم المشركين شفاعة أصنامهم لهم عند الله، وهي دلالة بطريق الفحوى فإنه إذا نفي تكلمهم بدون إذن نفيت شفاعتهم إذ الشفاعة كلام من له وجاهة وقبول عند سامعه.
وليبنى عليها الاستثناء لبعد المستثنى والمستثنى منه بمتعلقات {يَمْلِكُونَ} من مجرور ومفعول به، وظرف، وجملة أضيف لها.
وضمير {يَتَكَلَّمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يَمْلِكُونَ} .
والقول في تخصيص {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} مثل القول في تخصيص {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ:37] وقوله: {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ} [طه:109] استثناء من ضمير {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} وإذ قد كان مؤكدا لضمير {لا يَمْلِكُونَ} فالاستثناء منه يفهم الاستثناء من المؤكد به.
والقيام: الوقوف وهو حالة الاستعداد للعمل الجد وهو من أحوال العبودية الحق التي لا تستحق إلى لله تعالى. وفي الحديث "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" ، أي لأن ذلك من الكبرياء المختصة بالله تعالى.
والروح: اختلف في المراد منه اختلافا أثاره عطف الملائكة عليه فقيل هو جبريل.
وتخصيصه بالذكر قبل ذكر الملائكة المعطوف عليه لتشريف قدره بإبلاغ الشريعة، وقيل المراد: أرواح بني آدم.
واللام لتعريف الجنس: فالمفرد معها والجمع سواء. والمعنى: يوم تحضر الأرواح لتودع في أجسادها، وعليه يكون فعل {يَقُومُ} مستعملا في حقيقته ومجازه.
و {والملائكة} عطف على {الرُّوحُ} ، أي ويقوم الملائكة صفا.
والصف اسم للأشياء الكائنة في مكان بجانب بعضها بعضا كالخط. وقد تقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} في سورة طه [64] وفي قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} في سورة الحج [36]، وهو تسمية بالمصدر من إطلاق المصدر على اسم الفاعل وأصله للمبالغة ثم صار اسما. وإنما يصطف الناس في المقامات التي يكون فيها أمر عظيم فصف الملائكة تعظيم لله وخضوع له.
والإذن: اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل للمأذون، وهو مشتق من: أذن له، إذا استمع إليه قال تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الإنشقاق:2]، أي استمعت وطاعت لإرادة
(30/46)

الله. وأذن: فعل مشتق من اسم الأذن وهي جارحة السمع، فأصل معنى أذن له: أمال أذنه، أي سمعه إليه يقال: أذن يأذن أذنا كفرح، ثم استعمل في لازم السمع وهو الرضى بالمسموع فصار أذن بمعنى رضي بما يطلب منه أو ما شأنه أن يطلب منه، وأباح فعله، ومصدره إذن بكسر الهمزة وسكون الذال فكأن اختلاف صيغة المصدرين لقصد التفرقة بين المعنيين.
ومتعلق {أذن} محذوف دل عليه {لاَ يَتَكَلَّمُونَ} ، أي من أذن له في الكلام.
ومعنى أذن الرحمان: أن من يريد التكلم لا يستطيعه أو تعتريه رهبة فلا يقدم على الكلام حتى يستأذن الله فأذن له، وإنما يستأذنه إذا ألهمه الله للاستئذان فإن الإلهام إذن عند أهل المكاشفات في العامل الأخروي فإذا ألقى الله في النفس أن يستأذن استأذن الله فأذن له كما ورد في حديث الشفاعة من إحجام الأنبياء عن الاستشفاع للناس حتى يأتوا محمد صلى الله عليه وسلم قال في الحديث "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي من محامد وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقول: ارفع رأسك أشفع تشفع" .
وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، أي لمن علموا أن الله ارتضى قبول الشفاعة فيه وهم يعلمون ذلك بإلهام هو من قبيل الوحي لأن الإلهام في ذلك العالم لا يعتريه الخطأ.
وجملة {وَقَالَ صَوَابًا} يجوز أن تكون في موضع الحال من اسم الموصول، أي وقد قال المأذون له في الكلام صوابا، أي بإذن الله له في الكلام إذا علم أنه سيتكلم بما يرضي الله.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ} ، أي وإلا من قال صوابا فعلم أن من لا يقول الصواب لا يؤذن له.
وفعل {وَقَالَ صَوَابًا} مستعمل في معنى المضارع، أي ويقول صوابا، فعبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك، أي في علم الله.
وإطلاق صفة {الرَّحْمَنِ} على مقام الجلالة إيماء إلى أن إذن الله لمن يتكلم في الكلام أثر من آثار رحمته لأنه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار.
(30/47)

[39] {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} .
استئناف ابتدائي كالفذلكة لما تقدم من وعيد ووعد، وإنذار وتبشير، سيق مساق التنويه ب {يَوْمُ الْفَصْلِ} [النبأ:17] الذي ابتدئ الكلام عليه من قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. والمقصود التنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثواب والعقاب وهو نتيجة أعمال الناس من يوم وجود الإنسان في الأرض.
فوصف اليوم بالحق يجوز أن يراد به الثابت الواقع كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] وقوله آنفا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} ، فيكون {الْحَقُّ} بمعنى الثابت مثل ما في قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء:97].
ويجوز أن يراد بالحق ما قابل الباطل، أي العدل وفصل القضاء فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي إذ الحق يقع فيه واليوم ظرف له قال تعالى: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:3].
ويجوز أن يكون الحق بمعنى الحقيق بمسمى اليوم لأنه شاع إطلاق اسم اليوم على اليوم الذي يكون فيه نصر قبيلة على أخرى مثل: يوم حليمة، ويوم بعاث. والمعنى: ذلك اليوم الذي يحق له أن يقال: يوم، وليس كأيام انتصار الناس بعضهم على بعض في الدنيا فيكون كقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، فهو يوم انتقام الله من أعدائه الذين كفروا نعمته وأشركوا به عبيده في الإلهية ويكون وصف الحق بمثل المعنى الذي في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة:121]، أي التلاوة الحقيقية باسم التلاوة وهي التلاوة بفهم معاني المتلو وأغراضه.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى اليوم المتقدم في قوله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ:17]. ومفاد اسم الإشارة في مثل هذا المقام التنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيوصف به بسبب ما سبق من حكاية شؤونه كما في قوله تعالى: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:5] بعد قوله: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:2-4]، فلأجل جميع ما وصف به {يَوْمَ الْفَصْلِ} كان حقيقا بأن يوصف بأنه {الْيَوْمُ الْحَقُّ} وما تفرع عن ذلك من قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} .
وتعريف {الْيَوْمُ} باللام للدلالة على معنى الكمال، أي هو الأعظم من بين ما يعده الناس من أيام النصر للمنتصرين لأنه يوم يجمع فيه الناس كلهم ويعطى كل واحد منهم ما
(30/48)

هو أهله من خير أو شر فكأن ما عداه من الأيام المشهورة في تاريخ البشر غير ثابت الوقوع.
وفرع عليه {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} بفاء الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السابق. والتقدير: فإذا علمتم ذلك كله فمن شاء اتخاذ مآب عند ربه فليتخذه، أي فقد بان لكم ما في ذلك اليوم من خير وشر فليختر صاحب المشيئة ما يليق به للمصير في ذلك اليوم. والتقدير: مآبا فيه، أي في اليوم.
وهذا التفريع من أبدع الموعظة بالترغيب والترهيب عند ما تسنح الفرصة للواعظ من تهيؤ النفوس لقبول الموعظة.
والاتخاذ: مبالغة في الأخذ، أي أخذ أخذا يشبه المطاوعة في التمكن، فالتاء فيه ليست للمطاوعة الحقيقية بل هي مجاز وصارت بمنزلة الأصلية.
والاتخاذ: الاكتساب والجعل، أي ليقتن مكانا بأن يؤمن ويعمل صالحا لينال مكانا عند الله لأن المآب عنده لا يكون إلا خيرا.
فقوله: {إِلَى رَبِّهِ} دل على أنه مآب خير لأن الله لا يرضى إلا بالخير.
والمآب يكون اسم مكان من آب، إذا رجع فيطلق على المسكين لأن المرء يؤوب إلى مسكنه، ويكون مصدرا ميميا وهو الأوب، أي الرجوع كقوله تعالى: {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36]، أي رجوعي، أي فليجعل أوبا مناسبا للقاء ربه، أي أوبا حسنا.
[40] {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} .
{إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} .
اعتراض بين {مَآبًا} [النبأ:39] وبين {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} كيفما كان موقع ذلك الظرف حسبما يأتي.
والمقصود من هذه الجملة الإعذار للمخاطبين بقوارع هذه السورة بحيث لم يبق بينهم وبين العلم بأسباب النجاة وضدها شبهة ولا خفاء.
فالخبر وهو {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} مستعمل في قطع العذر وليس مستعملا في
(30/49)

إفادة الحكم لأن كون ما سبق إنذارا أمر معلوم للمخاطبين. وافتتح الخبر بحرف التأكيد للمبالغة في الإعذار بتنزيلهم منزلة من يتردد في ذلك.
وجعل المسند فعلا مسندا إلى الضمير المنفصل لإفادة تقوي الحكم، مع تمثيل المتكلم في مثل المتبري من تبعة ما عسى أن يلحق المخاطبين من ضر ان لم يأخذوا حذرهم مما أنذرهم به كما يقول النذير عند العرب بعد الإنذار بالعدو "أنا النذير العريان".
والإنذار: الإخبار بحصول ما يسوء في مستقبل قريب.
وعبر عنه بالمضي لأن أعظم الإنذار قد حصل بما تقدم من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} إلى قوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ:21-30].
وقرب العذاب مستعمل مجازا في تحققه وإلا فإنه بحسب العرف بعيد، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 6-7]، أي لتحققه فهو كالقريب على أن العذاب يصدق بعذاب الآخرة وهو ما تقدم الإنذار به، ويصدق بعذاب الدنيا من القتل والأسر في غزوات المسلمين لأهل الشرك. وعن مقاتل: هو قتل قريش ببدر. ويشمل عذاب يوم الفتح ويوم حنين كما ورد لفظ العذاب لذلك في قوله تعالى: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] وقوله: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور:47].
{يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} .
يجوز أن يتعلق بفعل {اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ:39] فيكون {يَوْمَ يَنظُرُ} ظرفا لغوا متعلقا ب {أَنذَرْنَاكُمْ} .
ويجوز أن يكون بدلا من {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا} [النبأ:38] لأن قيام الملائكة صفا حضور لمحاسبة الناس وتنفيذ فصل القضاء عليهم وذلك حين ينظر المرء ما قدمت يداه، أي ما عمله سالفا فهو بدل من الظرف تابع له في موقعه.
وعلى كلا الوجهين فجملة {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} معترضة بين الظرف ومتعلقه أو بينه وبين ما أبدل منه.
والمرء: اسم للرجل إذ هو اسم مؤنثه امرأة.
والاقتصار على المرء جري على غالب استعمال العرب في كلامهم، فالكلام خرج
(30/50)

مخرج الغالب في التخاطب لأن المرأة كانت بمعزل عن المشاركة في شؤون ما كان خارج البيت.
والمراد: ينظر الإنسان من ذكر أو أنثى، ما قدمت يداه. وهذا يعلم من استقراء الشريعة الدال على عموم التكاليف للرجال والنساء إلا ما خص منها بأحد الصنفين لأن الرجل هو المستحضر في أذهان المتخاطبين عند التخاطب.
وتعريف {الْمَرْءُ} للاستغراق مثل {إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 2-3].
وفعل {يَنظُرُ} يجوز أن يكون من نظر العين أي البصر، والمعنى: يوم يرى المرء ما قدمت يداه. ومعنى نظر المرء ما قدمت يداه: حصول جزاء عمله له، فعبر عنه بالنظر لأن الجزاء لا يخلو من أن يكون مرئيا لصاحبه من خير أو شر، فإطلاق النظر هنا على الوجدان على وجه المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق ونظيره قوله تعالى: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، وقد جاءت الحقيقة في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} [آل عمران:30] الآية. و"ما" موصولة صلتها جملة {قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .
ويجوز أن يكون من نظر الفكر، وأصله مجاز شاع حتى لحق بالمعاني الحقيقية كما يقال: هو بخير النظرين، ومنه التنظر: توقع الشيء، أي يوم يترقب ويتأمل ما قدمت يداه، وتكون "ما" على هذا الوجه استفهامية وفعل {يَنظُرُ} معلقا عن العمل بسبب الاستفهام، والمعنى: ينظر المرء جواب من يسأل: ما قدمت يداه? ويجوز أن يكون من الانتظار كقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53].
وتعريف {الْمَرْءُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق.
والتقديم: تسبيق الشيء والابتداء به.
و {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} هو ما أسفله من الأعمال في الدنيا من خير أو شر فلا يختص بما عمله من السيئات فقد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] الآية.
وقوله: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} إما مجاز مرسل بإطلاق اليدين على جميع آلات الأعمال وإما أن يكون بطريقة التمثيل بتشبيه هيئة العامل لأعماله المختلفة بهيئة الصانع للمصنوعات
(30/51)

بيديه كما قالوا في المثل: "يداك أوكتا" ولو كان ذلك على قول بلسانه أو مشي برجليه.
ولا يحسن أن يجعل ذكر اليدين من التغليب لأن خصوصية التغليب دون خصوصية التمثيل.
وشمل {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} الخير والشر.
وخص بالذكر من عموم المرء الإنسان الكافر الذي يقول {يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} لأن السورة أقيمت على إنذار منكري البعث فكان ذلك وجه تخصيصه بالذكر، أي يوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق من الأحياء فضلا عن أصحاب العقول المكلفين بالشرائع، أي يتمنى أن يكون غير مدرك ولا حساس بأن يكون أقل شيء مما لا إدراك له وهو التراب، وذلك تلهف وتندم على ما قدمت يداه من الكفر.
وقد كانوا يقولون {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الإسراء:98] فجعل الله عقابهم بالتحسر وتمني أن يكونوا من جنس التراب.
وذكر وصف الكافر يفهم منه أن المؤمن ليس كذلك لأن المؤمن وإن عمل بعض السيئات وتوقع العقاب على سيئاته فهو يرجو أن تكون عاقبته إلى النعيم وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وقال {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 6-8]، فالمؤمنون يرون ثواب الإيمان وهو أعظم ثواب وثواب حسناتهم على تفاوتهم فيها ويرجون المصير إلى ذلك الثواب وما يرونه من سيئاتهم لا يطغي على ثواب حسناتهم، فهم كلهم يرجون المصير إلى النعيم، وقد ضرب الله لهم أو لمن يقاربهم مثلا بقوله: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] على ما في تفسيرها من وجوه.
وهذه الآية جامعة لما جاء في السورة من أحوال الفريقين وفي آخرها رد العجز على الصدر من ذكر أحوال الكافرين الذين عرفوا بالطاغين وبذلك كان ختام السورة بها براعة مقطع.
(30/52)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعات
سميت في المصاحف وأكثر التفاسير "سورة النازعات" بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو، جعل لفظ "النازعات" علما عليها لأنه لم يذكر في غيرها. وعنونت في كتاب التفسير من "صحيح البخاري" في كثير من كتب المفسرين بسورة "والنازعات" بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها.
وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي: إنها تسمى "سورة الساهرة" لوقوع لفظ "الساهرة" في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور.
وقالا: تسمى سورة الطامة "أي لوقوع لفظ الطامة فيها ولم يقع في غيرها" ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور التي لها أكثر من اسم.
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها "سورة فالمدبرات" وهو غريب، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار.
وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور، وعدها أهل الكوفة ستا وأربعين آية.
أغراضها
اشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه.
وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل.
(30/53)

وإبطال قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد.
وعرض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأن خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق.
وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى.
وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب.
وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار.
[1-9] {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً، يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ، أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} .
ابتدئت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قسما مراد منه تحقيق ما بعده من الخبر وفي هذا القسم تهويل المقسم به.
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة، فهي جماعات، نازعا، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدل عليها الأوصاف الصالحة لها.
فيجوز أن تكون صفات لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميها تلك الصفات.
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصية من
(30/54)

خواص نوع من الموجودات العظيمة قوامه بتلك الصفة.
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة، وأن المعطوفات بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عطفت عليه بالفاء، فهي صفات متعددة متفرع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قسما بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها.
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف. وأحسن الوجوه على الجملة أن كل صفة مما عطف بالواو مرادا بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حال أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم. وسنعتمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعة بصيرة.
وهذا الإجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كل مذهب ممكن، فتكثر خطور المعاني في الأذهان، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقع كل معنى في نفس له فيها أشد وقع وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ.
فالنازعات: وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز.
فيحتمل أن يكون {النَّازِعَاتِ} جماعة من الملائكة وهو الموكلون بقبض الأرواح، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ومنهم قولهم في المحتضر وهو في النزع. وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات:14].
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيرا للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت، ولأنهم شديد تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لما ذكر اليهود {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [البقرة:96] فالمشركين مثل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة.
والقسم على هذا الوجه مناسب للغرض ألأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن
(30/55)

الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال.
وغرقا: اسم مصدر أغرق، وأصله إغراقا، جيء به مجردا عن الهمزة فعومل معاملة المصدر الثلاثي المتعدي مع أنه لا يوجد غرق متعديا ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضا عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدر فعله بعد حذف الزوائد متعديا.
ولو قلنا: إنه سكنت عينه تخفيفا ورعيا للمزاوجة مع نشطا، وسبحا، وسبقا، وأمرا، لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون، وهذا مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات، أي نزعا غرقا، أي مغرقا، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد.
ويجوز أن تكون {النَّازِعَاتِ} صفة للنجوم، أي تنزع من أفق إلى أفق، أي تسير، يقال: ينزع إلى الأمر الفلاني، أي يميل ويشتاق.
وغرقا: تشبيه لغروب النجوم بالغرق في الماء وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غرق وأن تسكين عينه تخفيف.
والقسم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1].
ويحتمل أن تكون {النَّازِعَاتِ} جماعات الرماة بالسهام في الغزو يقال: نزع في القوس، إذا مدها عند وضع السهم فيها. وروي هذا عن عكرمة وعطاء.
والغرق: الإغراق، أي استيفاء مد القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسما بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذ غزوات ولا كانوا يرجونها، فالقسم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضد شوكتهم، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم.
و {النَّاشِطَاتِ} : يجوز أن تكون الموصوفات بالنشاط، وهو قوة الانطلاق للعمل كالسير السريع. ويطلق النشاط على سير الثور الوحشي وسير البعير لقوة ذلك، فيكون الموصوف إما الكواكب السيارة على وجه التشبيه لدوام تنقلها في دوائرها وإما إبل الغزو، وإما الملائكة التي تسرع إلى تنفيذ ما أمر الله به من أمر التكوين وكلاهما على وجه الحقيقة، وأياما كان فعطفها على {النَّازِعَاتِ} عطف نوع على نوع أو عطف صنف على صنف.
(30/56)

و {نَشْطاً} مصدر جاء على مصدر فعل المتعدي من باب نصر فتعين أن {النَّاشِطَاتِ} فاعلات النشط فهو متعد.
وقد يكون مفضيا لإرادة النشاط الحقيقي لا المجازي. ويجوز أن يكون التأكيد لتحقيق الوصف لا لرفع احتمال المجاز.
وعن ابن عباس: {النَّاشِطَاتِ} الملائكة تنشط نفوس المؤمنين، وعنه هي نفوس المؤمنين تنشط للخروج.
و {السَّابِحَاتِ} صفة من السبح المجازي، وأصل السبح العوم وهو تنقل الجسم على وجه الماء مباشرة وهو هنا مستعار لسرعة الانتقال، فيجوز أن يكون المراد الملائكة السائرين في أجواء السماوات وآفاق الأرض، وروي عن علي بن ابي طالب.
ويجوز أن يراد خيل الغزاة حين هجومها على العدو سريعة كسرعة السابح في الماء كالسابحات في قول امريء القيس يصف فرسا:
مسح اذ ما السابحات على الوغى ... أثرن الغبار بالكديد المركل
وقيل: {السَّابِحَاتِ} النجوم، وهو جار على قول من فسر النازعات بالنجوم. {سَبْحاً} مصدر مؤكد لإفادة التحقيق من التوسل إلى تنويه للتعظيم. وعطف {فَالسَّابِقَاتِ} بالفاء يؤذن بأن هذه الصفة متفرعة عن التي قبلها لأنهم يعطفون بالفاء الصفات التي من شأنها أن يتفرع بعضها عن بعض كما تقدم في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 1-3] وقول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابخ فالغائم فالآيب
فلذلك {فَالسَّابِقَاتِ} هي السابقات من السابحات.
والسبق: تجاوز السائر من يسير معه ووصوله إلى المكان المسير إليه قبله. ويطلق السبق على سرعة الوصول من دون وجود سائر مع السابق قال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61].
ويطلق السبق على الغلب والقهر، ومنه قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت:4] وقول مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر ليلة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
(30/57)

فقوله تعالى: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} يصلح للحمل على هذه المعاني على اختلاف محامل وصف السابحات بما يناسب كل احتمال على حياله بأن يراد السائرات سيرا سريعا فيما تعلمه. أو المبادرات. وإذا كان {السَّابِحَاتِ} بمعنى الخيل كان {السَّابِقَاتِ} إن حمل على معنى المسرعات كناية عن عدم مبالاة الفرسان بعدوهم وحرصهم على الوصول إلى أرض العدو، أو على معنى غلبهم أعداءهم.
وأكد بالمصدر المرافد لمعناه وهو {سَبْقاً} للتأكيد ودلالة التنكير على عظم ذلك السبق.
والمدبرات: الموصوفة بالتدبير.
والتدبير: جولان الفكر في عواقب الأشياء وبإجراء الأعمال على ما يليق بما توجد له فإن كانت السابحات جماعات الملائكة، فمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعدتها على أكمل ما أذنت به فعبرت عن ذلك بالتدبير للأمور لأنه يشبه فعل المدبر المتثبت.
وإن كانت السابحات خيل الغزاة فالمراد بالتدبير: تدبير مكائد الحرب من كر، وفر، وغارة، وقتل، وأسير، ولحاق للفارين، أو ثبات بالمكان. وإسناد التدبير إلى السابحات على هذا الوجه مجاز عقلي لأن التدبير للفرسان وإنما الخيل وسائل لتنفيذ التدبير، كما قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]، فأسند الإيتان إلى ضمير {كُلِّ ضَامِرٍ} من الإبل لأن إتيان الحجيج من الفجاح العميقة يكون بسير الإبل.
وفي هذا المجاز إيماء إلى حذق الخيل وسرعة فهمها مقاصد فرسانها حتى كأنها هي المدبرة لما دبره فرسانها.
والأمر: الشأن والغرض المهم وتنوينه للتعظيم، وإفراده لإرادة الجنس أي أمورا.
وينتظم من مجموع صفات {النَّازِعَاتِ} ، و {النَّاشِطَاتِ} ، و {السَّابِحَاتِ} إذا فهم منها جماعات الرماة والجمالة والفرسان أن يكون إشارة إلى أصناف المقاتلين من مشاة وهم الرماة بالقسي، وفرسان على الخيل وكانت الرماة تمشي قدام الفرسان تنضح عنهم بالنبال حتى يبلغوا إلى مكان الملحمة. قال أنيف بن زبان الطائي:
وتحت نحور الخيل حرشف رجله ... تتاح لغرات القلوب نبالها
ولتحمل الآية لهذه الاحتمالات كانت تعريضا بتهديد المشركين بحرب تشن عليهم
(30/58)

وهي غزوة فتح مكة أو غزوة بدر مثل سورة "والعاديات" وأضرابها، وهي من دلائل نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم إذ كانت هذه التهديدات صريحها وتعريضها في مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة والمسلمون في ضعف فحصل من هذا القسم تعريض بعذاب في الدنيا.
وجملة {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} إلى {خَاشِعَةٌ} جواب القسم وصريح الكلام موعظة. والمقصود منه لازمه وهو وقوع البعث لأن القلوب لا تكون إلا في أجسام. وقد علم أن المراد ب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} هو يوم القيامة لأنه قد عرف بمثل هذه الأحوال في آيات كثيرة مما سبق نزوله مثل قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ} فكان في هذا الجواب تهويل ليوم البعث وفي طيه تحقيق وقوعه فحصل إيجاز في الكلام جامع بين الإنذار بوقوعه والتحذير مما يجري فيه.
و {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} ظرف متعلق ب {وَاجِفَةٌ} فآل إلى أن المقسم عليه المراد تحقيقه هو وقوع البعث بأسلوب أوقع في نفوس السامعين المنكرين من أسلوب التصريح بجواب القسم، إذ دل على المقسم عليه بعض أحواله التي هي من أهواله فكان في جواب القسم إنذار.
ولم تقرن جملة الجواب بلام جواب القسم لبعد ما بين الجواب وبين القسم بطول جملة القسم، فيظهر لي من استعمال البلغاء أنه إذا بعد ما بين القسم وبين الجواب لا يأتون بلام القسم في الجواب، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلى {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 1-4]. ومثله كثير في القرآن فلا يؤتى بلام القسم في جوابه إلا إذا كان الجواب مواليا لجملة القسم نحو {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء:57] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:92]، ولأن جواب القسم إذا كان جملة اسمية لم يكثر اقترانه بلام الجواب ولم أر التصريح بجوازه ولا بمنعه، وإن كان صاحب "المغني" استظهر في مبحث لام الجواب في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} [البقرة:103] أن اللام لم جواب القسم محذوف وليست لام جواب "لو" بدليل كون الجملة اسمية، والاسمية قليلة من جواب "لو" فلم ير جملة الجواب إذا كانت اسمية أن تقترن باللام. وجعل صاحب "الكشاف" تبعا للفراء وغيره جواب القسم محذوفا تقديره:لتبعثن.
وقدم الظرف على متعلقه لأن ذلك الظرف هو الأهم في جواب القسم لأنه المقصود إثبات وقوعه، فتقديم الظرف للاهتمام به والعناية به فإنه لما أكد الكلام بالقسم شمل التأكيد متعلقات الخبر التي منها ذلك الظرف، والتأكيد اهتمام، ثم أكد ذلك الظرف في
(30/59)

الأثناء بقوله: {يَوْمَئِذٍ} الذي هو يوم ترجف الراجفة فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر.
والرجف: الاضطراب والاهتزاز وفعله من باب نصر. وظاهر كلام أهل اللغة أنه فعل قاصر ولم أر من قال: إنه يستعمل متعديا، فلذلك يجوز أن يكون إسناد {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} حقيقيا، فالمراد ب {الرَّاجِفَةُ} : الأرض لأنها تضطرب وتهتز بالزلازل التي تحصل عند فناء العالم الدنيوي والمصير إلى العالم الأخروي قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل:14] وقال {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة:4] وتأنيث {الرَّاجِفَةُ} لأنها الأرض، وحينئذ فمعنى {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أن رجفة أخرى تتبع الرجفة السابقة لأن صفة {الرَّاجِفَةُ} تقتضي وقوع رجفة، فالرادفة رجفة ثانية تتبع الرجفة الأولى.
ويجوز أن يكون إسناد {تَرْجُفُ} إلى {الرَّاجِفَةُ} مجازا عقليا، أطلق {الرَّاجِفَةُ} على سبب الرجف.
فالمراد ب {الرَّاجِفَةُ} : الصيحة والزلزلة التي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الراجفة مبالغة كقولهم: عيشة راضية، وهذا هو المناسب لقوله: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} أي تتبع تلك الراجفة، أي مسببة الرجف رادفة، أي واقعة بعدها.
ويجوز أن يكون الرجف مستعارا لشدة الصوت فشبه الصوت الشديد بالرجف وهو التزلزل.
وتأنيث {الرَّاجِفَةُ} على هذا لتأويلها بالواقعة أو الحادثة.
و {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} : التالية، يقال: ردف بمعنى تبع، والرديف: التابع لغيره، قال تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1[الأنفال:9]، أي تتبع الرجفة الأولى ثانية، فالمراد: رادفة من جنسها وهما النفختان اللتان في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68].
وجملة {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} حال من {الرَّاجِفَةُ} .
وتنكير {قُلُوبٌ} للتكثير، أي قلوب كثيرة ولذلك وقع مبتدأ وهو نكرة لإرادة النوعية.
ـــــــ
1 في المطبوعة: "يمددكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة مردفين".
(30/60)

والمراد: قلوب المشركين الذين كانوا يجحدون البعث فإنهم إذا قاموا فعلموا أن ما وعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به حق توقعوا ما كان يحذرهم منه من عقاب إنكار البعث والشرك وغير ذلك من أحوالهم.
فأما قلوب المؤمنين فإن فيها اطمئنانا متفاوتا بحسب تفاوتهم في التقوى.
والخوف يومئذ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أن أشده خوف الذين يوقنون بسوء المصير ويعلمون أنهم كانوا ضالين في الحياة الدنيا.
والواجفة: المضطربة من الخوف، يقال: وجف كضرب وجفا ووجيفا ووجوفا، إذا اضطرب.
و {وَاجِفَةٌ} خبر {قُلُوبٌ} .
وجملة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} خبر ثان عن {قُلُوبٌ} وقد زاد المراد من الوجيف بيانا قوله: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ، أي أبصار أصحاب القلوب.
والخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي من شدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المعاملة قال تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} في سورة اقتربت الساعة [7]. ومثله قوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24].
وإضافة "أبصار" إلى ضمير القلوب لأدنى ملابسة لأن الأبصار لأصحاب القلوب وكلاهما من جوارح الأجساد مثل قوله: {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات:46].
[10-11] {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} .
استئناف إما ابتدائي بعد جملة القسم وجوابه، لإفادة أن هؤلاء هم الذين سيكونون أصحاب القلوب الواجفة والأبصار الخاشعة يوم ترجف الراجفة.
وإما استئناف بياني لأن القسم وما بعده من الوعيد يثير سؤالا في نفس السامع عن الداعي لهذا القسم فأجيب ب {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} ، أي منكرون البعث، ولذلك سلك في حكاية هذا القول أسلوب الغيبة شأن التحدث عن غير حاضر.
وضمير {يَقُولُونَ} عائد إلى معلوم من السياق وهم الذين شهروا بهذه المقالة ولا يخفون على المطلع على أحوالهم ومخاطباتهم وهم المشركون في تكذيبهم بالبعث.
(30/61)

والمساق إليه الكلام كل من يتأتى منه سماعه من المسلمين وغيرهم.
ويجوز أن يكون الكلام مسوقا إلى منكري البعث على طريقة الالتفاف.
وحكي مقالهم بصيغة المضارع لإفادة أنهم مستمرون عليه وأنه متجدد فيهم لا يرعوون عنه.
وللإشعار بما في المضارع من استحضار حالتهم بتكرير هذا القول ليكون ذلك كناية عن التعجيب من قولهم هذا كقوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
وقد علم السامع أنهم ما كرروا هذا القول إلا وقد قالوه فيما مضى.
وهذه المقالة صادرة منهم وهم في الدنيا فليس ضمير {يَقُولُونَ} بعائد إلى {قُلُوبٌ} من قوله تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:8].
وكانت عادتهم أن يلقوا الكلام الذي ينكرون فيه البعث بأسلوب الاستفهام إظهارا لأنفسهم في مظهر المتردد السائل لقصد التهكم والتعجب من الأمر المستفهم عنه. والمقصود: التكذيب لزعمهم أن حجة استحالة البعث ناهضة.
وجعل الاستفهام التعجبي داخلا على جملة اسمية مؤكدة ب"إن" وبلام الابتداء وتلك ثلاثة مؤكدات مقوية للخبر لإفادة أنهم أتوا بما يفيد التعجب من الخبر ومن شدة يقين المسلمين به، فهم يتعجبون من تصديق هذا الخبر فضلا عن تحقيقه والإيقان به.
والمردود: الشيء المرجع إلى صاحبه بعد الانتفاع به مثل العارية ورد ثمن المبيع عند التفاسخ أو التقايل، أي لمرجعون إلى الحياة، أي إنا لمبعوثون من قبورنا.
والمراد ب {الْحَافِرَةِ} : الحالة القديمة، يعني الحياة.
وإطلاقات {الْحَافِرَةِ} كثيرة في كلام العرب لا تتميز الحقيقة منها عن المجاز، والأظهر ما في "الكشاف": يقال: رجع فلان إلى حافرته، أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها، أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفرا أي لأن قدميه جعلتا فيها أثرا مثل الحفر، وأشار إلى أن وصف الطريق بأنها حافرة على معنى ذات حفر، وجوز أن يكون على المجاز العقلي كقولهم: عيشة راضية، أي راض عائشها، ويقولون: رجع إلى الحافرة، تمثيلا لمن كان في حالة ففارقها، ثم رجع إليها فصار: رجع في الحافرة، ورد
(30/62)

إلى الحافرة، جاريا مجرى المثل.
ومنه قول الشاعر وهو عمران بن حطان حسبما ظن ابن السيد البطليوسي في شرح "أدب الكتاب" :
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
ومن الأمثال قولهم: "النقد عند الحافرة" أي إعطاء سبق الرهان للسباق عند وصوله إلى الأمد المعين للرهان. يريد: أرجوعا إلى الحافرة.
وظرف "إذا" في قوله: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً} وهو مناط التعجب وادعاء الاستحالة، أي إذا صرنا عظاما بالية فكيف نرجع أحياء.
و {إذا} متعلق ب {مردودون} .
و {نَخِرَةً} صفة مشتقة من قولهم: نخر العظم، إذا بلي فصار فارغ الوسط كالقصبة.
وتأنيث {نَخِرَةً} لأن موصوفه جمع تكسير، فوصفه يجري على التأنيث في الاستعمال.
هي همزة "إذا". وقرأه بقية العشرة {أإذا} بهمزتين إحداهما مفتوحة همزة الاستفهام والثانية مكسورة هي همزة "إذا".
وهذا الاستفهام إنكاري مؤكد للاستفهام الأول للدلالة على أن هذه الحالة جديرة بزيادة إنكار الإرجاع إلى الحياة بعد الموت، فهما إنكاران لإظهار شدة إحالته.
وقرأ الجمهور {نَخِرَةً} بدون ألف بعد النون. وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ورويس عن يعقوب وخلف {ناخرة} بالألف.
[12] {قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} .
{قالوا} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10].
وأعيد فعل القول لمقاصد منها الدلالة على أن قولهم هذا في غرض آخر غير القول الأول فالقول الأول قصدهم منهم الإنكار والإبطال، والقول الثاني قصدوا منه الاستهزاء والتورك لأنهم لا يؤمنون بتلك الكرة فوصفهم إياها ب {خَاسِرَةٌ} من باب الفرض والتقدير، أي لو حصلت كرة لكانت خاسرة ومنها دفع توهم أن تكون جملة تلك {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ
(30/63)

خَاسِرَةٌ} استئنافا من جانب الله تعالى.
وعبر عن قولهم هذا بصيغة الماضي دون المضارع على عكس {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10] لأن هذه المقالة قالوها استهزاء فليست مما يتكرر منهم بخلاف قولهم {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} فإنه حجة ناهضة في زعمهم، فهذا مما يتكرر منهم في كل مقام. وبذلك لم يكن المقصود التعجب من قولهم هذا لأن التعجب ينقضي الإنكار وكون كرتهم، أي عودتهم إلى الحياة عودة خاسرة أمر محقق لا ينكر لأنهم يعودون إلى الحياة خاسرين لا محالة.
و {تِلْكَ} إشارة إلى الردة المستفادة من {مردودون} والإشارة إليه باسم الإشارة للمؤنث للإخبار عنه ب {كَرَّةٌ} .
و{إذن} جواب للكلام المتقدم، والتقدير: إذن تلك كرة خاسرة، فقدم {تِلْكَ} على حرف الجواب للعناية بالإشارة.
والكرة: الواحدة من الكر، وهو الرجوع بعد الذهاب، أي رجعة.
والخسران: أصله نقص مال التجارة التي هي لطلب الربح، أي بزيادة المال فاستعير هنا لمصادفة المكروه غير المتوقع.
ووصف الكرة بالخاسرة مجاز عقلي للمبالغة لأن الخاسر أصحابها. والمعنى: إنا إذن خاسرون لتكذيبنا وتبين صدق الذي أنذرنا بتلك الرجعة.
[13-14] {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} .
الفاء فصيحة للتفريع على ما يفيده قولهم {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 9-10]} من إحالتهم الحياة بعد البلى والفناء.
فتقدير الكلام: فلا عجب في ذلك فما هي إلا زجرة واحدة فإذا أنتم حاضرون في الحشر.
وضمير "هي" ضمير القصة وهو ضمير الشأن. واختير الضمير المؤنث ليحسن عوده إلى زجره. وهذا من أحسن استعمالات ضمير الشأن. والقصر حقيقي مراد منه تأكيد الخبر بتنزيل السامع منزلة من يعتقد أن زجرة واحدة غير كافية في إحيائهم.
(30/64)

وفاء {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} للتفريع على جملة {إِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} . و"إذا" للمفاجأة، أي الحصول دون تأخير فحصل تأكيد معنى التفريع الذي أفادته الفاء وذلك يفيد عدم الترتب بين الزجرة والحصول في الساهرة.
والزجرة: المرة من الزجر، وهو الكلام الذي فيه أمر أو نهي في حالة غضب. يقال: زجر البعير، إذا صاح له لينهض أو يسير، وعبر بها هنا عن أمر الله بتكوين أجساد الناس الأموات تصويرا لما فيه من معنى التسخير لتعجيل التكون. وفيه مناسبة لإحياء ما كان هامدا كما يبعث البعير البارك بزجرة ينهض بها سريعا خوفا من زاجره، وقد عبر عن ذلك بالصيحة في قوله تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] وهو الذي عبر عنه بالنفخ في الصور.
ووصفت الزجرة بواحدة تأكيدا لما في صيغة المرة من معنى الوحدة لئلا يتوهم أن إفراده للنوعية، وهذه الزجرة هي النفخة الثانية التي في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، فهي ثانية التي قبلها، وهي الرادفة التي تقدم ذكرها آنفا وإنما أريد بكونها واحدة أنها لا تتبع بثانية لها، وقد وصفت بواحدة في سورة الحاقة بهذا الاعتبار.
والساهرة: الأرض المستوية البيضاء التي لا نبات فيها يختار مثلها لاجتماع الجموع ووضع المغانم. وأريد بها أرض يجعلها الله لجمع الناس للحشر.
والإتيان ب"إذا" الفجائية للدلالة على سرعة حضورهم بهذا المكان عقب البعث.
وعطفها بالفاء لتحقيق ذلك المعنى الذي أفادته "إذا" لأن الجمع بين المفاجأة والتفريغ أشد ما يعبر به عن السرعة مع إيجاز اللفظ.
والمعنى: أن الله يأمر بأمر التكوين بخلق أجساد تحل فيها الأرواح التي كانت في الدنيا فتحضر في موقف الحشر للحساب بسرعة.
[15-19] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى، إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} .
هذه الآية اعتراض بين جملة {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} [النازعات:13] وبين جملة {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا} [النازعات:27] الذي هو الحجة على إثبات البعث ثم الإنذار بما بعده
(30/65)

دعت إلى استطراده مناسبة التهديد لمنكري ما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من البعث لتماثل حال المشركين في طغيانهم على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال فرعون وقومه وتماثل حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع قومه بحال موسى عليه السلام مع فرعون ليحصل من ذكر قصة موسى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وموعظة للمشركين وأئمتهم مثل أبي جهل وأمية بن خلف وأضرابهما لقوله في آخرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26].
و {هَلْ أتَاكَ} استفهام صوري يقصد من أمثاله تشويق السامع إلى الخير من غير قصد إلى استعلام المخاطب عن سابق علمه بذلك الخبر، فسواء في ذلك علمه من قبل أو لم يعلمه، ولذلك لا ينتظر المتكلم بهذا الاستفهام جوابا عنه من المسؤول بل يعقب الاستفهام بتفصيل ما أوهم الاستفهام عنه بهذا الاستفهام كناية عن أهمية الخبر بحيث إنه مما يتساءل الناس عن علمه.
ولذلك لا تستعمل العرب في مثله من حروف الاستفهام غير {هل} لأنها تدل على طلب تحقيق المستفهم عنه، فهي في الاستفهام مثل "قد" في الإخبار، والاستفهام معها حاصل بتقدير همزة استفهام، فالمستفهم بها يستفهم عن تحقيق الأمر، ومن قبيله قولهم في الاستفهام: أليس قد علمت كذا فيأتون ب"قد" مع فعل النفي المقترن باستفهام إنكار من غير أن يكون علم المخاطب محققا عند المتكلم.
والخطاب لغير معين فالكلام موعظة ويتبعه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم.
و {أتاك} معناه: بلغك، استعير الإتيان لحصول العلم تشبيها للمعقول بالمحسوس كأن الحصول مجيء إنسان على وجه التصريحية، أو كأن الخبر الحاصل إنسان أثبت له الإتيان على طريقة الاستعارة المكنية، قال النابغة:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
والحديث: الخبر، وأصله فعيل بمعنى فاعل من حدث الأمر إذا طرأ وكان، أي الحادث من أحوال الناس وإنما يطلق على الخبر بتقدير مضاف لا يذكر لكثرة الاستعمال تقديره خبر الحديث، أي خبر الحادث.
و {إذا} اسم زمان، واستعمل هنا في الماضي وهو بدل من {حَدِيثُ مُوسَى} بدل اشتمال لأن حديثه يشتمل على كلام الله إياه وغير ذلك.
وكما جاز أن تكون "إذا" بدلا من المفعول به في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
(30/66)

عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} [آل عمران:103] يجوز أن تكون بدلا من الفاعل وغيره، واقتصار ابن هشام وغيره على أنها تكون مفعولا به أو بدلا من المفعول به اقتصار على أكثر موارد استعمالها إذا خرجت عن الظرفية، فقد جوز في "الكشاف" وقوع "إذ" مبتدأ في قراءة من قرأ {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً} في سورة آل عمران [164].
وأضيف {إذ} إلى جملة {نَادَاهُ رَبُّهُ} . والمعنى: هل أتاك خبر زمان نادى فيه موسى ربه.
والواد: المكان المنخفض بين الجبال.
والمقدس: المطهر. والمراد به التطهير المعنوي وهو التشريف والتبريك لأجل ما نزل فيه من كلام الله دون توسط ملك يبلغ الكلام إلى موسى عليه السلام، وذلك تقديس خاص، ولذلك قال الله له في الآية الأخرى {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ} [طه:12].
وطوى: اسم مكان ولعله هو نوع من الأدوية يشبه البئر المطوية، وقد سمي مكان بظاهر مكة ذا طوى بضم الطاء وبفتحها وكسرها. وتقدم في سورة طه. وهذا واد في جانب جبل الطور في برية سينا في جانبه الغربي.
وقرأ الجمهور {طوى} بلا تنوين على أنه ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة، أو للعدل عن طاو، أو للعجمة. وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف منونا باعتباره اسم واد مذكر اللفظ.
وجملة {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} بيان لجملة {نَادَاهُ رَبُّهُ} .
وجملة {إِنَّهُ طَغَى} تعليل للأمر في قوله: {اذْهَبْ} ، ولذلك افتتحت بحرف "إن" الذي هو للاهتمام ويفيد مفاد التعليل.
والطغيان إفراط التكبر وتقدم عند قوله: {لِلطَّاغِينَ مَآباً} في سورة النبأ [22].
وفرعون: لقب ملك القبط بمصر في القديم، وهو اسم معرب عن اللغة العبرانية ولا يعلم هل هو اسم للملك في لغة القبط ولم يطلقه القرآن إلا على ملك مصر الذي أرسل إليه موسى، وأطلق على الذي في زمن يوسف اسم الملك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف [103].
(30/67)

و {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ} عرض وترغيب قال تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وقوله: {هَلْ لَكَ} تركيب جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا التركيب لأنه قصد به الإيجاز يقال: هل لك إلى كذا? وهل لك في كذا? وهو كلام يقصد منه العرض بقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل? ومنه قول كعب:
ألا بلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
بضم تاء "قلت". وقول بجير أخيه في جوابه عن أبياته:
من مبلغ كعبا فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلا وهي أحزم
و {لك} خبر مبتدأ محذوف تقديره: هل لك رغبة في كذا? فحذف "رغبة" واكتفي بدلالة حرف "في" عليه، وقالوا: هل لك إلى كذا? على تقدير: هل لك ميل? فحذف "ميل" لدلالة "إلى" عليه.
قال الطيبي: قال ابن جني: متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر فكثيرا ما يجرى أحدهما مجرى صاحبه فيعول به في الاستعمال إليه "كذا" ويحتذى به في تصرفه حذو صاحبه وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا? لكنه لما دخله معنى: آخذ بك إلى كذا أو أدعوك إليه، قال {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} . وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة:187] لا يقال: رفث إلى المرأة، إنما يقال: رفثت بها، ومعها، لكن لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عدي ب"إلى" وهذا من أسد مذاهب العربية لأنه موضع يملك فيه المعنى عنان الكلام فيأخذه إليه اه. قيل ليس هذا من باب التضمين بل من باب المجاز والقرينة الجارة.
و {تزكى} قرأه نافع وابن كثير وأبو جعفر ويعقوب بتشديد الزاي على اعتبار أن أصله: تتزكى، بتاءين، فقلبت التاء المجاورة للزاي زايا لتقارب مخرجيهما وأدغمت في الزاي. وقرأه الباقون بتخفيف الزاي على أنه حذفت إحدى التائين اقتصارا للتخفيف.
وفعل {تَزَكَّى} على القراءتين أصله: تتزكى بتاءين مضارع تزكى مطاوع زكاه، أي جعله زكيا.
والزكاة: الزيادة، وتطلق على الزيادة في الخير النفساني قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
(30/68)

زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9-10]، وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة ولذلك لا يحتاج إلى قرينة.
والمعنى: حثه على أن يستعد لتخليص نفسه من العقيدة الضالة التي هي خبث مجازي في النفس فيقبل إرشاد من يرشده إلى ما به زيادة الخير فإن فعل المطاوعة يؤذن بفعل فاعل يعالج نفسه ويروضها إذ كان لم يهتد أن يزكي نفسه بنفسه.
ولذلك أعقبه بعطف {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} أي إن كان فيك إعداد نفسك للتزكية يكن إرشادي إياك فتخشى، فكان ترتيب الجمل في الذكر مراعى فيه ترتبها في الحصول فلذلك لم يحتج إلى عطفه بفاء التفريغ، إذ كثيرا ما يستغنى بالعطف بالواو مع إرادة الترتيب عن العطف بحرف الترتيب لأن الواو تفيد الترتيب بالقرينة، ويستغنى بالعطف عن ذكر حرف التفسير في العطف التفسيري الذي يكون الواو فيه بمعنى "أي" التفسيرية فإن {أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ} في قوة المفرد. والتقدير: هل لك في التزكية وهدايتي إياك فخشيتك الله تعالى.
والهداية: الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا قبلها المهدي.
وتفريع {فَتَخْشَى} على {أَهْدِيَكَ} إشارة إلى أن خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، أي العلماء به، أي يخشاه خشية كاملة لا خطأ فيها ولا تقصير.
قال الطيبي: وعن الواسطي: أوائل العلم الخشية، ثم الإجلال، ثم التعظيم، ثم الهيبة، ثم الفناء.
وفي الاقتصار على ذكر الخشية إيجاز بليغ لأن الخشية ملاك كل خير. وفي جامع الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل" 1.
وذكر له الإله الحق بوصف {ربك} دون أن يذكر اسم الله العلم أو غيره من طرق التعريف إلطافا في الدعوة إلى التوحيد وتجنبا لاستطارة نفسه نفورا، لأنه لا يعرف في لغة فرعون اسم الله تعالى، ولو عرفه له باسمه في لغة إسرائيل لنفر لأن فرعون كان يعبد آلهة باطلة، فكان في قوله: {إِلَى رَبِّكَ} وفرعون يعلم أن له ربا إطماع له أن يرشده
ـــــــ
1 الإدلاج: مخففا: السير في أول الليل، ومشددا السير في آخر الليل، والمراد هنا الأول.
(30/69)

موسى إلى ما لا ينافي عقائده فيصغي إليه سمعه حتى إذا سمع قوله وحجته داخله الإيمان الحق مدرجا، ففي هذا الأسلوب استنزال لطائره.
والخشية: الخوف فإذا أطلقت في لسان الشرع يراد بها خشية الله تعالى ولهذا نزل فعلها هنا منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول لأن المخشي معلوم مثل فعل الإيمان في لسان الشرع يقال: آمن فلان، وفلان مؤمن أي مؤمن بالله ووحدانيته.
[20-24] {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} .
الفاء في قوله: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} فصيحة وتفريع على محذوف يقتضيه قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النازعات:17]. والتقدير: فذهب فدعاه فكذبه فأراه الآية الكبرى، وذلك لأن قوله: {إِنَّهُ طَغَى} [النازعات:17] يؤذن بأنه سيلاقي دعوة موسى بالاحتقار والإنكار لأن الطغيان مظنة ذينك، فعرض موسى عليه إظهار آية تدل على صدق دعوته لعله يوقن كما قال تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِين.، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 30-32] فتلك هي الآية الكبرى المراد هنا.
والآية: حقيقتها العلامة والأمارة، وتطلق على الحجة المثبتة لأنها علامة على ثبوت الحق، وتطلق على معجزة الرسول لأنها دليل على صدق الرسول وهو المراد هنا.
وأعقب فعل {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} بفعل {فَكَذَّبَ} للدلالة على شدة عناده ومكابرته حتى أنه رأى الآية فلم يتردد ولم يتمهل حتى ينظر في الدلالة بل بادر إلى التكذيب والعصيان.
والمراد بعصيانه عصيان أمر الله أن يوحده أو أن يطلق بني إسرائيل من استعبادهم وتسخيرهم للخدمة في بلاده.
وعطف {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} ب {ثم} للدلالة على التراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل، فأفادت {ثم} أن مضمون الجملة المعطوف بها أعلى رتبة في الغرض الذي تضمنته الجملة قبلها، أي أنه ارتقى من التكذيب والعصيان إلى ما هو أشد وهو الإدبار والسعي والدعاء الإلهية لنفسه، أي بعد أن فكر مليا لم يقتنع بالتكذيب والعصيان فخشي أنه إن سكت ربما تروج دعوة موسى بين الناس فأراد الحيطة لدفعها وتحذير الناس منها.
والإدبار والسعي مستعملان في معنييهما المجازيين فإن حقيقة الإدبار هو المشي إلى
(30/70)

الجهة التي هي خلف الماشي بأن يكون متوجها إلى جهة ثم يتوجه إلى جهة تعاكسها. وهو هنا مستعار للإعراض عن دعوة الداعي مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة لما أبى الإيمان "ولئن أدبرت ليعقرنك الله" .
وأما السعي فحقيقته: شدة المشي، وهو هنا مستعار للحرص والاجتهاد في أمره الناس بعدم الإصغاء لكلام موسى، وجمع السحرة لمعارضة معجزته إذ حسبها سحرا كما قال تعالى: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه:60].
والعمل الذي يسعى إليه يبينه قوله تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} فثلاثتها مرتبة على {يَسْعَى} .
فجملة {فَحَشَرَ} عطف على جملة {يَسْعَى} لأن فرعون بذل حرصه ليقنع رعيته بأنه الرب الأعلى خشية شيوع دعوة موسى لعبادة الرب الحق.
ويجوز أن يكون {أَدْبَرَ} على حقيقته، أي ترك ذلك المجمع بأن قام معرضا إعلانا بغضبه على موسى ويكون {يَسْعَى} مستعملا في حقيقته أيضا، أي قام يشتد في مشيه وهي مشية الغاضب المعرض.
والحشر: جمع الناس، وهذا الحشر هو المبين في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ، يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء: 36-37].
وحذف مفعول "حشر" لظهوره لأن الذين يحشرون هم أهل مدينته من كل صنف.
وعطف {فَنَادَى} بالفاء لإفادة أنه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم.
والنداء: حقيقته جهر الصوت بدعوة أحد ليحضر ولذلك كانت حروف النداء نائبة مناب "أدعو" فنصبت الاسم الواقع بعدها. ويطلق النداء على رفع الصوت دون طلب حضور مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم كقول الحريري في "المقامة الثلاثين" فحين جلس كأنه أبن ماء السماء، نادى مناد من قبل الأحماء الخ
وحذف مفعول "نادى" كما حذف مفعول "حشر".
وإسناد الحشر والنداء إلى فرعون مجاز عقلي لأنه لا يباشر بنفسه حشر الناس ولا نداءهم ولكن يأمر أتباعه وجنده، وإنما أسند إليه لأنه الذي أمر به كقولهم: بنى المنصور بغداد.
(30/71)

والقول الذي نادى به هو تذكير قومه بمعتقدهم فيه فإنهم كانوا يعتبرون ملك مصر إلها لأن الكهنة يخبرونهم بأنه أبن "آمون رع" الذي يجعلونه إلها ومظهره الشمس.
وصيغة الحصر في {أَنَا رَبُّكُمُ} لرد دعوة موسى.
وقوله: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} بدل من جملة {فَنَادَى} بدلا مطابقا بإعادة حرف العطف، وهو الفاء لأن البدل قد يقترن بمثل العامل في المبدل منه لقصد التأكيد كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} وتقدم في سورة الأنعام [99].
ويجوز أن تكون جملة {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ} عطفا على جملة {يَسْعَى} على أن يكون فرعون أمر بهذا القول في أنحاء مملكته، وليس قاصرا على إعلانه في الحشر الذين حشرهم حول قصره.
فوصف نفسه بالرب الأعلى لأنه ابن "آمون رع" وهو الرب الأعلى، فأبنه هو القائم بوصفه، أو لأنه كان في عصر اعتقاده: أن فرعون رب الأرباب المتعددة عندهم فصفة {الْأَعْلَى} صفة كاشفة.
[25-26] {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} .
جملة {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} مفرعة عن الجمل التي قبلها، أي كان ما ذكر من تكذيبه وعصيانه وكيده سببا لأن أخذه الله، وهذا هو المقصود من سوق القصة وهو مناط موعظة المشركين وإنذارهم، مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته.
وحقيقة الأخذ: التناول باليد، ويستعار كثيرا للمقدرة والغلبة كما قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] وقال {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة:10]. والمعنى: فلم يفلت من عقاب الله.
والنكال: اسم مصدر نكل به تنكيلا وهو مثل السلام، بمعنى التسليم.
ومعنى النكال: إيقاع أذى شديد على الغير من التشهير بذلك بحيث ينكل أي يرد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكل به، فهو مشتق من النكول وهو النكوص والهروب، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة البقرة [66].
وانتصب {نَكَالَ} على المفعولية المطلقة لفعل "أخذه" مبين نوع الأخذ بنوعين منه لأن الأخذ يقع بأحوال كثيرة.
(30/72)

وإضافة {نَكَالَ} إلى {الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} على معنى "في".
فالنكال في الأولى هو الغرق، والنكال في الآخرة هو عذاب جهنم.
وقد استعمل النكال في حقيقته ومجازه لأن ما حصل لفرعون في الدنيا هو نكال حقيقي وما يصيبه في الآخرة أطلق عليه النكال لأنه يشبه النكال في شدة التعذيب ولا يحصل به نكال يوم القيامة.
وورود فعل {أَخَذَه} بصيغة المضي مع أن عذاب الآخرة مستقبل ليوم الجزاء مراعا فيه أنه لما مات ابتدأ يذوق العذاب حين يرى منزلته التي سيؤول إليها يوم الجزاء كما ورد في الحديث.
وتقديم {الْآخِرَةِ} على {الْأُولَى} في الذكر لأن أمر الآخرة أعظم.
وجاء في آخر القصة بحوصلة وفذلكة لما تقدم فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} فهم من معنى البيان لمضمون جملة {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15] الآيات.
والإشارة بقوله: {فِي ذَلِكَ} إلى {حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات:15].
والعبرة: الحالة التي ينتقل الذهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها. وهي مشتقة من العبر، وهو الانتقال من ضفة واد أو نهر إلى ضفته الأخرى.
والمراد بالعبرة هنا الموعظة.
وتنوين "عبرة" للتعظيم لأن في هذه القصة مواعظ كثيرة من جهات هي مثلات للأعمال وعواقبها، ومراقبة الله وخشيته، وما يترتب على ذلك وعلى ضده من خير وشر في الدنيا والآخرة.
وجعل ذلك عبرة لمن يخشى، أي من تخالط نفسه خشية الله لأن الذين يخشون الله هم أهل المعرفة الذين يفهمون دلالة الأشياء على لوازمها وخفاياها، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]. والخشية تقدمت قريبا في قوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:19].
وفي هذا تعريض بالمشركين بأنهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه.
(30/73)

وفي القصة كلها تعريض بسادة قريش من أهل الكفر مثل أبي جهل بتنظيرهم بفرعون وتنظير الدهماء بالقوم الذين حشرهم فرعون ونادى فيهم بالكفر، وقد علم المسلمون مضرب هذا المثل فكان أبو جهل يوصف عند المسلمين بفرعون هذه الأمة.
وتأكيد الخبر ب {أن} بلام الابتداء لتنزيل السامعين الذين سيقت لهم القصة منزلة من ينكر ما فيها من المواعظ لعدم جريهم على الاعتبار والاتعاظ بما فيها من المواعظ.
[27-29] {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} .
انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10] وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث. وإذ قد فرضوا استحالة عودة الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات:10] جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ} ، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل: آالإنسان أشد خلقا، وما هم إلا من الإنسان، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفا بضمائر الغيبة من قوله: {يَقُولُونَ} إلى قوله: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14]، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب.
فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم ب {يَقُولُونَ أَإِنَّا} إلى آخره، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإيماء إليه عند قوله: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ} [النازعات:10].
والاستفهام تقريري. والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإقرار بأن خلق السماء أعظم من خلقهم، أي من خلق نوعهم وهو نوع الإنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإنسان مرة ثانية، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، ذلك أن نظرهم العقلي غيمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه محالا، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة.
(30/74)

و {أَشَدُّ} : اسم تفضيل، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله: {أَمِ السَّمَاءُ} .
ومعنى {أَشَدُّ} : أصعب، و {خَلْقًا} مصدر منتصب على التمييز لنسبة اسدية إليهم، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء، فالتمييز محول عن المبتدأ.
و {السَّمَاءُ} يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلا للمعقول منزل المحسوس.
ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويبدو فيها ضوء النهار وظلمة الليل، فيكون الاستفهام التقريري مبنيا على ما هو مشاهد لهم. وهذا أنسب بقوله: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} لعد احتياجه إلى التأويل.
وجملة {بَنَاهَا} يجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان شدة خلق السماء، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله: {أَمِ السَّمَاءُ} ، لأنه في تقدير: أم السماء أشد خلقا. وقد جعلت كلمة {بَنَاهَا} فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن {بَنَاهَا} جملة و {أم} المعادلة لا يقع بعدها الا اسم مفرد.
والبناء: جعل بيت أو دار من حجارة، أو آجر أو أدم، أو أثواب من نسيج الشعر، مشدودة شققه بعضها إلى بعض بغرز أو خياطة ومقامة على دعائم، فما كان من ذلك بأدم يسمى قبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء.
وبناء السماء: خلقها، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع.
وجملة {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} مبينة لجملة {بَنَاهَا} أو بدل اشتمال منها. وسلك طريق الإجمال ثم التفصيل لزيادة التصوير.
والسمك: بفتح السين وسكون الميم: الرفع في الفضاء كما اقتصر عليه الراغب سواء اتصل المرفوع بالأرض أو لم يتصل بها وهو مصدر سمك.
والرفع: جعل جسم معتليا وهو مرادف للسمك فتعدية فعل {رَفَعَ} إلى "السمك" للمبالغة في الرفع، أي رفع رفعها أي جعله رفيعا، وهو من قبيل قولهم: ليل اليل، وشعر شاعر، وظل ظليل.
(30/75)

والتسوية: التعديل وعدم التفاوت وهي جعل الأشياء سواء، أي متماثلة وأصلها أن تتعلق بأشياء وقد تتعلق باسم شيء واحد على معنى تعديل جهاته ونواحيه ومنه قوله هنا {فَسَوَّاهَا} ، أي عدل أجزاءها وذلك بأن أتقن صنعها فلا ترى فيها تفاوتا.
والفاء في {فَسَوَّاهَا} للتعقيب.
وتسوية السماء حصلت مع حصول سمكها، فالتعقيب فيه مثل التعقيب في قوله: {فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 23-24].
وجملة {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا} معطوفة على جملة {بَنَاهَا} وليست معطوفة على {رَفَعَ سَمْكَهَا} لأن إغطاش وإخراج الضحى ليس مما يبين به البناء.
والإغطاش: جعله غاطشا، أي ظلاما يقال: غطش الليل من باب ضرب، أي أظلم.
والمعنى: أنه خص الليل بالظلمة وجعله ظلاما، أي جعل ليلها ظلاما، وهو قريب من قوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا} من باب قولهم: ليل أليل.
وإخراج الضحى: إبراز نور الضحى، وأصل الإخراج النقل من مكان حاو، واستعير للإظهار استعارة شائعة.
والضحى: بروز ضوء الشمس بعد طلوعها وبعد احمرار شعاعها، فالضحى هو نور الشمس الخالص وسمي به وقته على تقدير مضاف كما في قوله تعالى: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] يدل لذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، أي نورها الواضح.
وإنما جعل إظهار النور إخراج لأن النور طاريء بعد الظلمة، إذ الظلمة عدم وهو أسبق، والنور محتاج إلى السبب الذي ينيره.
وإضافة "ليل" و"ضحى" إلى ضمير {السَّمَاءُ} إن كان السماء الدنيا فلأنهما يلوحان للناس في جو السماء فيلوح الضحى أشعة منتشرة من السماء صادرة من جهة مطلع الشمس فتقع الأشعة على وجه الأرض ثم إذا انحجبت الشمس بدورة الأرض في اليوم والليلة أخذ الظلام يحل محل ما يتقلص من شعاع الشمس في الأفق إلى أن يصير ليلا حالكا محيطا بقسم من الكرة الأرضية.
(30/76)

وإن كان السماء جنسا للسماوات فإضافة ليل وضحى إلى السماوات لأنهما يلوحان في جهاتها.
[30-32] {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} .
انتقل الكلام من الاستدلال بخلق السماء إلى الاستدلال بخلق الأرض لأن الأرض أقرب إلى مشاهدتهم وما يوجد على الأرض أقرب إلى علمهم بالتفصيل أو الإجمال القريب من التفصيل.
ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه من قدم اسم {الْأَرْضَ} على فعله وفاعله فانتصب على طريقة الاشتغال، والاشتغال يتضمن تأكيدا باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدال عليه الفعل الظاهر المشتغل بضمير الاسم المقدم.
والدحو والدحي يقال: دحوت ودحيت. واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو: البسط والمد بتسوية.
والمعنى: خلقها مدحوة، أي مبسوطة مسواة.
والإشارة من قوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} إلى ما يفهم من {بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27-28]، أي بعد أن خلق السماء خلق الأرض مدحوة.
والبعدية ظاهرها: تأخر زمان حصول الفعل، وهذه الآية أظهر في الدلالة على أن الأرض خلقت بعد السماوات وهو قول قتادة ومقاتل والسدي، وهو الذي تؤيده أدلة علم الهيئة. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في سورة البقرة [29]، وما ورد من الآيات مما ظاهره كظاهر آية سورة البقرة تأويله واضح.
ويجوز أن تكون البعدية مجازا في نزول رتبة ما أضيف إليه {بَعْدَ} عن رتبة ما ذكر قبله كقوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13].
وجملة {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} بدل اشتمال من جملة {دَحَاهَا} لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها.
ولا يصح جعل جملة {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا} إلى آخرها بيانا لجملة {دَحَاهَا}
(30/77)

لاختلاف معنى الفعلين.
والمرعى: مفعل من رعى يرعى، وهوهنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي أخرج منها ما يرعى.
والرعي: حيقيته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل.
فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإنسان أحرى بدلالة فحوى الخطاب، والقرينة على الاكتفاء قوله بعده {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [النازعات:33].
وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتا للناس وللحيوان حتى ما تعالج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض، وحتى الملح فإنه من الماء الذي على الأرض.
ونصب {الْجِبَالَ} يجوز أن يكون على طريقة نصب {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ويجوز أن يكون عطفا على {مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} ويكون المعنى: وأخرج منها جبالها، فتكون "ال" عوضا عن المضاف إليه مثل {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] أي مأوى من خاف مقام ربه فإن الجبال قطع من الأرض ناتئة على وجه الأرض.
وإرساء الجبال: إثباتها في الأرض، ويقال: رست السفينة، إذا شدت إلى الشاطئ فوقفت على الأنجر، ويوصف الجبل بالرسو حقيقة كما في "الأساس"، قال السمؤال أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر جبلهم:
رسا أصله فوق الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا ينال طويل
وإثبات الجبال: هو رسوخها بتغلغل صخورها وعروق أشجارها لأنها خلقت ذات صخور سائخة إلى باطن الأرض ولولا ذلك لزعزعتها الرياح، وخلقت تتخللها الصخور والأشجار ولولا ذلك لتهيلت أتربتها وزادها في ذلك أنها جعلت أحجامها متناسبة بأن خلقت متسعة القواعد ثم تتصاعد متضائقة.
ومن معنى إرسائها: أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة الراسية ولو كانت في داخل البحر ما تمكن من ركوبها إلا بمشقة.
(30/78)

[33] {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} .
"المتاع" يطلق على ما ينتفع به مدة، ففيه معنى التأجيل، وتقدم عند قوله: {وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]، وهو هنا اسم مصدر متع، أي إعطاء للانتفاع زمانا، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأعراف [24].
وانتصب {مَتَاعًا} على النيابة عن الفعل. والتقدير: متعناكم متاعا.
ولام {لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} لام التقوية لأن المصدر فرع في العمل عن الفعل، وهو راجع إلى خلق الأرض والجبال، وذلك في الأرض ظاهر، وأما الجبال فلأنها معتصمهم من عدوهم، وفيها مراعي أنعامهم تكون في الجبال مأمونة من الغارة عليها من غرة. وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال لإثارة شكرهم حق النعمة بأن يعبدوا المنعم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره.
وفي قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] إلى {وَِلأَنْعَامِكُمْ} محسن الجمع ثم التقسيم.
[34-41] {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى، فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
يجوز أن يكون التفريع على الاستدلال الذي تضمنه قوله: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات:27] الآيات، فإن إثبات البعث يقتضي الجزاء إذ هو حكمته. وإذا اقتضى الجزاء كان على العاقل أن يعمل لجزاء الحسنى ويجتنب ما يوقع في الشقاء وأن يهتم بالحياة الدائمة فيؤثرها ولا يكترث بنعيم زائل فيتورط في اتباعه، فلذلك فرع على دليل إثبات البعث تذكير بالجزاءين، وإرشاد إلى النجدين.
وإذا قد قدم قبل الاستدلال تحذير إجمالي بقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات:6] الآية كما يذكر المطلوب قبل القياس في الجدل، جيء عقب الاستدلال بتفصيل ذلك التحذير مع قرنه بالتبشير لمن تحلى بضده فلذلك عبر عن البعث ابتداء بالراجفة لأنها مبدؤه، ثم بالزجرة، وأخيرا بالطامة الكبرى لما في هذين الوصفين من معنى يشمل الراجفة
(30/79)

وما بعدها من الأهوال إلى أن يستقر كل فريق في مقره.
ومن تمام المناسبة للتذكير بيوم الجزاء وقوع عقب التذكير بخلق الأرض، والامتنان بما هيأ منها للإنسان متاعا به، للإشارة إلى أن ذلك ينتهي عندما يحين يوم البعث والجزاء.
ويجوز أن يجعل قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} مفرعا على قوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13-14] فإن الطامة هي الزجرة.
ومناط التفريع هو ما عقبه من التفصيل بقوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} الخ إذ ل يلتئم تفريع الشيء على نفسه.
و"إذا" ظرف للمستقبل فلذلك إذا وقع بعد الفعل الماضي صرف إلى الاستقبال، وإنما يؤتى بعد "إذا" بفعل المضي لزيادة تحقيق ما يفيده "إذا" من تحقق الوقوع.
والمجيء: هنا مجاز في الحصول والوقوع لأن الشيء الموقت المؤجل بأجل يشبه شخصا سائرا إلى غاية، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنه السائر إلى إذا بلغ المكان المقصود.
والطامة: الحادثة، أو الوقعة التي تطم، أي تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالها من نوعها بحيث يقل مثلها في نوعها، مأخوذ من طم الماء، إذا غمر الأشياء وهذا الوصف يؤذن بالشدة والهول إذ لا يقال مثله إلا في الأمور المهولة ثم بولغ في تشخيص هولها بأن وصفت ب {الْكُبْرَى} فكان هذا أصرح الكلمات لتصوير ما يقارن الحادثة من الأهوال.
والمراد بالطامة الكبرى: القيامة وقد وصفت بأوصاف عديدة في القرآن مثل الصاخة والقارعة والراجفة ووصفت بالكبرى.
و {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} بدل من جملة {إِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} بدا اشتمال لأن ما أضيف إليه يوم هو من الأحوال التي يشتمل عليها زمن مجيء الطامة وهو يوم القيامة ويوم الحساب.
وتذكر الإنسان ما سعاه: أن يوقف على أعماله في كتابه لأن التذكر مطاوع ذكره. والتذكر يقتضي سبق النسيان وهو انمحاء المعلوم من الحافظة.
(30/80)

والمعنى: يوم يذكر الإنسان فيتذكر، أي يعرض عليه عمله فيعترف به إذ ليس المقصود من التذكر إلا أثره، وهو الجزاء فكني بالتذكر عن الجزاء قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14].
وتبريز الجحيم: إظهار لأهلها. وجيء بالفعل المضاعف لإفادة إظهار الجحيم لأنه إظهار لأجل الإرهاب.
والجحيم: جهنم. ولذلك قرن فعله بتاء التأنيث لأن جهنم مؤنثة في الاستعمال، أو هو بتأويل النار، والجحيم كل نار عظيمة في حفرة عميقة.
وبني فعل {برزت} للمجهول لعدم الغرض ببيان مبرزها إذ الموعظة في الإعلام بوقوع إبرازها يومئذ.
و {لِمَنْ يَرَى} ، أي لكل راء، ففعل {يرى} منزل منزلة اللازم لأن المقصود لمن له بصر، كقول البحتري:
أن يرى مبصر ويسمع واع
والفاء في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} رابطة الجواب "إذا" لأن جملة {مَنْ طَغَى} إلى آخرها جملة اسمية ليس فيها فعل يتعلق به "إذا" فلم يكن بين "إذا" وبين جوابها ارتباط لفظي فلذلك تجلب الفاء لربط الجواب في ظاهر اللفظ، وأما في المعنى فيعلم أن "إذا" ظرف يتعلق الاستقرار الذي بين المبتدأ والخبر.
و"أما" حرف تفصيل وشرط لأنها في معنى: مهما يكن شيء.
والطغيان تقدم معناه آنفاز والمراد هنا: طغى على أمر الله، كما دل عليه قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} .
وقدم ذكر الطغيان على أيثار الحياة الدنيا لأن الطغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدنيا فلما كان مسببا عنه ذكر عقبه مراعاة للترتب الطبيعي.
والإيثار: تفضيل شيء على شيء في حال لا يتيسر فيها الجمع بين أحوال كل منهما.
ويعدى فعل الإيثار إلى اسم المأثور بتعديه الفعل إلى مفعوله، ويعدى إلى المأثور عليه بحرف "على" قال تعالى حكاية {لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف:91]، وقد يترك ذكر
(30/81)

المأثور يشير إليه كما إذا كان المأثور والمأثور عليه ضدين كما هنا لما هو شائع من المقابلة بين الحياة لدنيا والآخرة.
وقد يترك ذكر المأثور اكتفاء بذكر المأثور عليه إذا كان هو الأهم كقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] لظهور أن المراد يؤثرون الفقراء.
والمراد بالحياة الدنيا حظوظها ومنافعها الخاصة بها، أي التي لا تشاركها فيها حظوظ الآخرة، فالكلام على حذف مضاف، تقديره: نعيم الحياة.
ويفهم من فعل الإيثار أن معه نبذا لنعيم الآخرة. ويرجع إيثار الحياة الدنيا إلى إرضاء هوى النفس، وإنما يعرف كلا الحظين بالتوقيف الإلهي كما عرف الشرك وتكذيب الرسل والاعتداء على الناس والبطر والصلف وما يستتبعه ذلك من الأحوال الذميمة.
وملاك هذا الإيثار هو الطغيان على أمر الله، فإن سادتهم ومسيريهم يعلمون أن ما يدعوهم إليه الرسول هو الحق ولكنهم يكرهون متابعته استكبارا على أن يكونوا تبعا للغير فتضيع سيادتهم.
وقد زاد هذا المفاد بيانا قوله بعده {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} الآية. وبه يظهر أن مناط الذم في يثار الحياة الدنيا هو إيثارها على الآخرة، فأما الأخذ بحظوظ الحياة الدنيا التي لا يفيت الآخذ بها حظوظ الآخرة فذلك غير مذموم، وهو مقام كثير من عباد الله الصالحين حكاه الله تعالى عن صالحي بني إسرائيل من قولهم لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا} [القصص:77].
وقوله: {مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} مقابل قوله: {مَنْ طَغَى} لأن الخوف ضد الطغيان وقوله: {نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} مقابل قوله: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
ونهي الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السيئات وهو ينهاه عن هذه الدعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتجريد، يقولون: قالت له نفسه كذا فعصاها، ويقال: نهى قلبه، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
والمراد ب {الهوى} ما تهواه النفس فهو مصدر بمعنى المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق، فهو ما ترغب فيه قوى النفس الشهوية والغضبية مما يخالف الحق والنفع
(30/82)

الكامل. وشاع الهوى في المرغوب الذميم ولذلك قيل في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] أن {بِغَيْرِ هُدًى} حال فمؤكدة ليست تقييدا إذ لا يكون الهوى إلا بغير هدى.
وتعريف {الهوى} تعريف الجنس.
والتعريف في {المأوى} الأول والثاني تعريف العهد، أي مأوى من طغى، ومأوى من خاف مقام ربه، وهو تعريف معن عن ذكر ما يضاف إليه {مأوى} ومثله شائع في الكلام كما في قوله: غض الطرف1، أي الطرف المعهود من الأمر، أي غض طرفك. وقوله: واملأ السمع، أي سمعك2 وقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]، أي على أعراف الحجاب، ولذلك فتقدير الكلام عند نحاة الصرة المأوى له أو مأواه عند نحاة الكوفة، ويسمي نحاة الكوفة الألف واللام هذه عوضا عن المضاف إليه وهي تسمية حسنة لوضوحها واختصارها، ويأبى ذلك البصريون، وهو خلاف ضئيل، إذ المعنى متفق عليه.
والمأوى: اسم مكان من أوى، إذا رجه، فالمراد به: المقر والمسكن لأن المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثم يرجع إلى مسكنه.
و {مَقَامَ رَبِّهِ} مجاز عن الجلال والمهابة وأصل المقام مكان القيام فكان أصله مكان ما يضاف هو إليه، ثم شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريقة الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه، مثل ألفاظ: جناب، وكنف، وذرى، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] وقال {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} [إبراهيم:14] وذلك من قبيل الكناية المطلوب بها نسبة إلى المكنى عنه فإن خوف مقام الله مراد به خوف الله والمراد بالنسبة ما يشمل التعلق بالمفعول.
وفي قوله: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى} إلى قوله: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} محسن الجمع مع التقسيم.
ـــــــ
1 في قول الفرزدق:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولاكلابا
2 في قول البوصيري:
واملأ السمع من محاسن يم ... ليها عليها الإنشاذ والإملاء
(30/83)

وتعريف {النفس} في قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ} هو مثل التعريف في {المأوى} .
وفي تعريف "أصحاب الجحيم" و"أصحاب الجنة" بطريق الموصول إيماء إلى أن الصلتين علتان في استحقاق ذلك المأوى.
[42-45] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا، فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا، إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا، إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} .
استئناف بياني منشؤه أن المشركين كانوا يسألون عن وقت حلول الساعة التي يتوعدهم بها النبي صلى الله عليه وسلم كما حكاه الله عنهم غير مرة في القرآن كقوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48].
وكان سؤالهم استهزاء واستخفافا لأنهم عقدوا قلوبهم على استحالة وقوع الساعة وربما طلبوا التعجيل بوقوعها وأوهموا أنفسهم وأشياعهم أن تأخر وقوعها دليل على اليأس منها لأنهم يتوهمون أنهم إذا فعلوا ذلك مع الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان صادقا لحمي غضب الله مرسله سبحانه فبادر بإراءتهم العذاب وهم يتوهمون شؤون الخالق كشؤون الناس إذا غضب أحدهم عجل بالانتقام طيشا وحنقا قال تعالى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً} [الكهف:58].
فلا جرم لما قضي حق الاستدلال على إمكان البعث بإقامة الدليل وضرب الأمثال، وعرض بعقاب الذين استخفوا بها في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات:34]، كان ذلك مثارا لسؤالهم أن يقولوا: هل لمجيء هذه الطامة الكبرى وقت معلوم? فكان الحال مقتضيا هذا الاستئناف البياني قضاء لحق المقام وجوابا عن سابق الكلام.
فضمير "يسألون" عائد إلى المشركين أصحاب القلوب الواجفة والذين قالوا {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات:10].
وحكي فعل السؤال بصيغة المضارع للدلالة على تجدد هذا السؤال وتكرره.
والساعة: هي الطامة فذكر الساعة إظهار في مقام الإضمار لقصد استقلال الجملة بمدلولها مع تفنن في التعبير عنها بهذين الاسمين {الطَّامَّةُ} [النازعات:34] و {السَّاعَةِ} .
و {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} جملة مبينة للسؤال.
و {أيان} اسم يستفهم به عن تعيين الوقت.
(30/84)

والاستفهام مستعمل في الاستبعاد كناية وهو أيضا كناية عن الاستحالة، و {مرساها} مصدر ميمي لفعل أرسى، والإرساء: جعل السفينة عند الشاطيء لقصد النزول منها. واستعير الإرساء للوقوع والحصول تشبيها للأمر المغيب حصوله بسفينة ماخرة البحر لا يعرف وصولها إلا إذا رست، وعليه ف {أيان} ترشيح للاستعارة، وتقدم نظير هذه في سورة الأعراف.
وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} واقع موقع الجواب عن سؤالهم عن الساعة باعتبار ما يظهر من حال سؤالهم عن الساعة من إرادة تعيين وقتها وصرف النظر عن إرادتهم به الاستهزاء، فهذا الجواب من تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر، وهو من تلقي السائل بغير ما يتطلب تنبيها له على أن الأولى به أن يهتم بغير ذلك، وهو مضمون قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} . وهذا ما يسمى بالأسلوب الحكيم، ونظيره ما روي في الصحيح أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال له "ماذا أعددت لها?" ، أي كان الأولى لك أن تصرف عنايتك إلى الاستكثار من الحسنات إعدادا ليوم الساعة.
والخطاب وإن كان موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود بلوغه إلى مسامع المشركين فلذلك اعتبر اعتبار جواب عن كلامهم وذلك مقتضى فصل الجملة عن التي قبلها شأن الجواب والسؤال.
و"ما" في قوله: {فيم} اسم استفهام بمعنى: أي شيء? مستعملة في التعجيب من سؤال السائلين عنها ثم توبيخهم. و"في" للظرفية المجازية بجعل المشركين في إحفائهم بالسؤال عن وقت الساعة كأنهم جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم محوطا بذكر وقت الساعة، أي متلبسا به تلبس العالم بالمعلوم فدل على ذلك بحرف الظرفية على طريقة الاستعارة في الحرف.
وحذف ألف "ما" لوقوعها بعد حرف الجر مثل {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1]. و {فيم} خبر مقدم و {أنت} مبتدأ، و {مِنْ ذِكْرَاهَا} إما متعلق بالاستقرار الذي في الخبر أو هو حال من المبتدأ.
و {من} : إما مبينة للإبهام الذي في "ما" الاستفهامية، أي في شيء هو ذكراها، أي في شيء هو أن تذكرها، أي لست متصديا لشيء هو ذكرى الساعة، وإما صفة للمبتدأ فهي اتصالية وهي ضرب من الابتدائية ابتداؤها مجازي، أي لست في شيء يتصل بذكرى الساعة ويحوم حوله، أي ما أنت في شيء هو ذكر وقت الساعة، وعلى الثاني: ما أنت في صلة مع ذكر الساعة، أي لا ملابسة بينك وبين تعيين وقتها.
(30/85)

وتقديم {فيم} على المبتدأ للاهتمام به ليفيد أن مضمون الخبر هو مناط الإنكار بخلاف ما لو قيل: أأنت في شيء من ذكراها?
والذكرى: اسم مصدر الذكر، والمراد به هنا الذكر اللساني.
وجملة {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} في موقع العلة للإنكار الذي اقتضاه قوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} ولذلك فصلت، وفي الكلام تقدير مضاف، والمعنى: إلى ربك علم منتهاها.
وتقديم المجرور على المبتدأ في قوله: {إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} لإفادة القصر، أي لا إليك، وهذا قصر صفة على موصوف.
والمنتهى: أصله مكان انتهاء السير، ثم أطلق على المصير لأن المصير لازم للانتهاء قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42] ثم توسع فيه فأطلق على العلم، أي لا يعلمها إلا الله، فقوله: {مُنتَهَاهَا} هو في المعنى على حذف مضاف، أي علم وقت حصولها كما دل عليه قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .
ويجوز أن يكون {مُنتَهَاهَا} بمعنى بلوغ خبرها كما يقال: أنهيت إلى فلان حادثة كذا، وانتهى إلي نبأ كذا.
وقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} استئناف بياني ناشئ عن جملة {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} وهو أن يسأل السامع عن وجه إكثار النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها وأنها قريبة، فأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم حظه التحذير من بغتتها، وليس حظه الإعلام بتعيين وقتها، على أن المشركين قد اتخذوا إعراض القرآن عن تعيين وقتها حجة لهم على إحالتها لأنهم بجهلهم بالحقائق يحسبون أن من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم الغيب ولذلك تكرر في القرآن تبرئة النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50].
وأفادت {إنما} قصر المخاطب على صفة الإنذار، أي تخصيصه بحال الإنذار وهو قصر موصوف على صفة فهو قصر إضافي، أي بالنسبة إلى ما اعتقدوه فيه بما دل عليه إلحافهم في السؤال من كونه مطلعا على الغيب.
وقوله: {مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} قرأه الجمهور بإضافة {مُنذِرُ} إلى {مَنْ يَخْشَاهَا} . وقرأه أبو جعفر بتنوين {مُنذِرُ} على أن {مَنْ يَخْشَاهَا} مفعوله.
(30/86)

وفي إضافة {مُنذِرُ} إلى {مَنْ يَخْشَاهَا} أو نصبه به أيجاز حذف، تقديره: منذرها فينتذر من يخشاها، وقرينة ذلك حالية للعلم المتواتر من القرآن بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينذر جميع الناس لا يخص قوما دون آخرين فإن آيات الدعوة من القرآن ومقامات دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا عامة، ولا يعرف من يخشى الساعة إلا بعد أن يؤمن المؤمن ولو عرف أحد بعينه أنه لا يؤمن أبدا لما وجهت إليه الدعوة، فتعين أن المراد: أنه لا ينتفع بالإنذار إلا من يخشى الساعة ومن عداه تمر الدعوة بسمعه فلا يأبه بها، فكان ذكر {مَنْ يَخْشَاهَا} تنويها بشأن المؤمنين وإعلانا لمزيتهم وتحقيرا للذين بقوا على الكفر قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 22-23].
وعلى هذا القانون يفهم لماذا وجه هذا الخطاب بالإيمان إلى ناس قد علم الله أنهم لا يؤمنون، وكشف الواقع على أنهم هلكوا ولم يؤمنوا مثل صناديد قريش أصحاب القليب قليب بدر مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة، ولماذا وجه الخطاب بطلب التقوى ممن علم الله أنه لا يتقي مثل دعار العرب الذين أسلموا ولم يتركوا العدوان والفواحش، ومثل أهل الردة الذين لم يكفروا منهم ولكنهم أصروا على منع الزكاة وقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، فمن مات منهم في ذلك فهو ممن لم يتق الله لأن ما في علم الله لا يبلغ الناس إلى علمه ولا تظهر نهايته إلا بعد الموت وهي المسألة المعروفة عند المتكلمين من أصحابنا بمسألة الموافاة.
[46] {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} .
جواب عما تضمنه قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:42] باعتبار ظاهر حال السؤال من طلب المعرفة بوقت حلول الساعة واستبطاء وقوعها الذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي إن طال تأخر حصولها فإنها واقعة وأنهم يوم وقوعها كأنه ما لبثوا في انتظار إلا بعض يوم.
والعشية: معبر بها عن مدة يسيرة من زمان طويل على طريقة التشبيه، وهو مستفاد من {كَأَنَّهُمْ} ، فهو تشبيه حالهم بحالة من لم يلبث إلا عشية، وهذا التشبيه مقصود منه تقريب معنى التشبيه من المتعارف.
وقوله: {أَوْ ضُحَاهَا} تخيير في التشبيه على نحو قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ} في سورة البقرة [19]. وفي هذا العطف زيادة في تقليل المدة لأن حصة الضحى
(30/87)

أقصر من حصة العشية.
وإضافة "ضحى" إلى ضمير "العشية" جرى على استعمال عربي شائع في كلامهم. قال الفراء: أضيف الضحى إلى العشية، وهو اليوم الذي يكون فيه على عادة العرب يقولون:آتيك الغداة أو عشيتها، وآتيك العشية أو غداتها، وأنشدني بعض بني عقيل:
نحن صبحنا عامرا في دارها ... جردا تعادى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها
أراد عشية الهلال أو عشية سرار العشية، فهو أشد من: آتيك الغداة أو عشيتها اه.
ومسوغ الإضافة أن الضحى أسبق من العشية إذ لا تقع عشية إلا بعد مرور ضحى، فصار ضحى ذلك اليوم يعرف بالإضافة إلى عشية اليوم لأن العشية أقرب إلى علم الناس لأنهم يكونون في العشية بعد أن كانوا في الضحى، فالعشية أقرب والضحى أسبق.
وفي هذه الإضافة أيضا رعاية على الفواصل التي هي على حرف الهاء المفتوحة من {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} .
وبانتهاء هاته السورة انتهت سور طوال المفصل التي مبدؤها سورة الحجرات.
(30/88)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس
سميت هذه السورة في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة "سورة عبس".
وفي "أحكام ابن العربي" عنونها سورة ابن أم مكتوم. ولم أر هذا لغيره. وقال الخفاجي: تسمى سورة الصاخة. وقال العيني في "شرح صحيح البخاري" تسمى سورة السفرة ، وتسمى سورة الأعمى ، وكل ذلك تسمية بألفاظ وقعت فيها لم تقع في غيرها من السور أو بصاحب القصة التي كانت سبب نزولها.
ولم يذكرها صاحب "الإتقان" في السور التي لها أكثر من اسم وهو عبس.
وهي مكية بالاتفاق.
وقال في "العارضة": لم يحقق العلماء تعيين النازل بمكة من النازل بالمدينة في الجملة ولا يحقق وقت إسلام ابن أم مكتوم اه. وهو مخالف لاتفاق أهل التفسير على أنها مكية فلا محصل لكلام ابن العربي.
وعدت الرابعة والعشرين في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة والنجم وقبل سورة القدر.
وعدد آيها عند العادين من أهل المدينة وأهل مكة وأهل الكوفة اثنان وأربعون، وعند أهل البصرة إحدى وأربعون وعند أهل الشام أربعون.
وهي أولى السور من أواسط المفصل.
وسبب نزولها يأتي عند قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1].
(30/89)

أغراضها
تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها كي لا يفيت الاهتمام بالمهم منها في بادئ الرأي مهما آخر مساويا في الأهمية أو أرجح. ولذلك يقول علماء أصول الفقه إن على المجتهد أن يبحث عن معارض الدليل الذي لاح له.
والإشارة إلى اختلاف الحال بين المشركين المعرضين عن هدي الإسلام وبين المسلمين المقبلين على تتبع مواقعه.
وقرن ذلك بالتذكير بإكرام المؤمنين وسمو درجتهم عند الله تعالى.
والثناء على القرآن وتعليمه لمن رغب في علمه.
وانتقل من ذلك إلى وصف شدة الكفر من صناديد قريش بمكابرة الدعوة التي شغلت النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى رغبة ابن أم مكتوم.
والاستدلال على إثبات البعث وهو مما كان يدعوهم إليه حين حضور ابن أم مكتوم وذلك كان من أعظم ما عني به القرآن من حيث إن إنكار البعث هو الأصل الأصيل في تصميم المشركين على وجوب الإعراض عن دعوة القرآن توهما منهم بأنه يدعوا إلى المحال، فاستدل عليهم بالخلق الذي خلقه الإنسان، واستدل بعده بإخراج النبات والأشجار من أرض ميتة.
وأعقب الاستدلال بالإنذار بحلول الساعة والتحذير من أهوالها وبما يعقبها من ثواب المتقين وعقاب الجاحدين.
والتذكير بنعمة الله على المنكرين عسى أن يشكروه.
والتنويه بضعفاء المؤمنين وعلو قدرهم ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، وأنهم أعظم عند الله من أصحاب الغنى الذين فقدوا طهارة النفس، وأنهم أحرياء بالتحقير والذم، وأنهم أصحاب الكفر والفجور.
[1-4] {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} .
(30/90)

افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم، فأما الضمائر فيبين إبهاما قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6] وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومن استغنى.
وهذا الحادث سبب نزول هذه الآية من أولها إلى قوله: {بَرَرَةٍ} [عبس:16]. وهو ما رواه مالك في الموطأ مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: أنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} في ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا محمد استدنني، وعند النبي صلى الله عليه وسلم رجال من عظماء المشركين فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه "أي عن ابن أم مكتوم" ويقبل على الآخر، ويقول: "يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأسا" فيقول "لا والدماء ما أرى بما تقول يأسى"، فأنزلت {عَبَسَ وَتَوَلَّى} .
ورواه الترمذي مسندا عن عروة عن عائشة بقريب من هذا، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب.
وروى الطبري عن ابن عباس "أن ابن أم مكتوم جاء يقريء النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن ومثله عن قتادة.
وقال الواحدي وغيره "كان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأبي بن خلف، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبل على الوليد بن المغيرة يعرض عليهم الإسلام.
ولا خلاف في أن المراد ب {الأعمى} هو ابن أم مكتوم. قيل: اسمه عبد الله وقيل اسمه عمرو، وهو الذي اعتمده في "الإصابة"، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي من قريش.
وأمه عاتكة وكنية أم مكتوم لأن ابنها عبد الله ولد أعمى والأعمى يكنى يكنى عنه بمكتوم. ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتا من بيت أبيه لأن بني مخزوم من أهل بيوتات قريش فوق بني عامر بن لؤي. وهذا كما نسب عمرو بن المنذر ملك الحيرة إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار زيادة في تشريفه بوارثة الملك من قبل أبيه وأمه.
ووقع في "الكشاف":أن أم مكتوم هي أم أبيه. وقال الطيبي: إنه وهم، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها، وتوفي بالقادسية في خلافة عمر بعد
(30/91)

سنة أربع عشرة أو خمسة عشرة.
وفيه نزلت هذه السورة وآية {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} من سورة النساء [95].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويكرمه وقد استخلفه على المدينة في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة، وكان مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم هو وبلال بن رباح.
والعبوس بضم العين: تقطيب الوجه وإظهار الغضب. ويقال: رجل عبوس بفتح العين، أي متقطب، قال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10]. وعبس من باب ضرب.
والتولي. أصله تحول الذات من مكانها، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقى إليه أو جلس يحل عنده، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإقبال على الزائر.
وحذف متعلق {تولى} لظهور أنه تول عن الذي مجيئه كان سبب التولي.
وعبر عن ابن أم مكتوم ب {الأَعْمَى} ترقيقا للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضرارة فهو أجدر بالعناية به، لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره.
و {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} مجرور بلام الجر محذوف مع {أن} وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي {عَبَسَ وَتَوَلَّى} على طريقة التنازع.
والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود.
وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر وهو اقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعني من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب وهذا تلطف من الله برسوله صلى الله عليه وسلم ليقع العتاب في نفسه مدرجا وذلك أهون وقعا، ونظير هذا قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
قال عياض: قال عون بن عبد الله والسمرقندي: أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه اه. فكذلك توجيه العتاب إليه مسندا إلى ضمير الغائب ثم جيء
(30/92)

بضمائر الغيبة فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة وأتضح المراد من ضمير الغيبة.
ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات.
ويظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجا من ذلك المجلس أن يسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش أو جميعهم فكان دخول ابن أم مكتوم قطعا لسلك الحديث وجعل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله استدنني، علمني، أرشدني، ويناديه ويكثر النداء والإلحاح فظهرت الكراهية في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون، وفي رواية الطبري أنه أستقرأ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن.
وجملة {وَمَا يُدْرِيكَ} الخ في موضع الحال.
وما يدريك مركبة من "ما" الاستفهامية وفعل الدراية المقترن بهمزة التعدية، أي ما يجعلك داريا أي عالما. ومثله {مَا أَدْرَاكَ} كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3]. ومنه {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة الأنعام [109].
والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} [القارعة:3] ونحو قوله هنا {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .
والمعنى أي شيء يجعلك داريا. وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل.
قال الراغب: ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده اه. قلت: فقد يبينه تفصيل مثل قوله هنا {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2-3] وقد يقه بعده ما فيه تهويل نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة:10]، أي ما يعلمك حقيقتها وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] أي أي شيء أعلمك جواب {ما الحاقة} .
وفعل {يُدْرِيكَ} معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف "لعل" بعده فإن "لعل" من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي في "التذكرة" إلحاقا للترجي بالاستفهام في أنه طلب. فلما علق فعل {يُدْرِيكَ} عن العمل صار غير متعد إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعديا إلى مفعول واحد بهمزة التعددية التي فيها فصار ما بعده جملة مستأنفة.
والتذكر: حصول أثر التذكير، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه إذ هو
(30/93)

مشتق من الذكر بضم الذال.
والمعنى: انظر فقد يكون تزكيه مرجوا، أي إذا أقبلت عليه بالإرشاد زاد الإيمان رسوخا في نفسه وفعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكيه، فالمراد ب {يتزكى} تزكية زائدة على تزكية الإيمان بالتملي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة" إذ الهدى الذي يزداد به المؤمنون رفعة وكمالا في درجات الإيمان هو كاهتداء الكافر إلى الأيمان لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة.
و {يزكى} أصله: يتزكى، قلبت التاء زايا لتقارب مخرجيهما قصدل ليتأنى الإدغام وكذلك فعل في {يذكر} من الإدغام.
والتزكي: مطاوع زكاه، أي يحصل أثر التزكية في نفسه. وتقدم في سورة النازعات.
وجملة {أَوْ يَذَّكَّرُ} عطف على يزكى، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لما كان في غفلة عنه.
والذكرى: اسم مصدر التذكير.
وفي قوله تعالى: {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} اكتفاء عن أن يقول: فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له.
والذكرى: هو القرآن لأنه يذكر الناس بما يغفلون عنه قال تعالى: {وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] فقد كان فيما سأل عنه ابن أم مكتوم آيات من القرآن.
وقرأ الجمهور {فتنفعه} بالرفع عطفا على "يذكر". وقرأه عاصم بالنصب في جواب {لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} .
[5-6] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} .
تقدم الكلام على {أما} في سورة النازعات أنها بمعنى: مهما يكن شيء، فقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} تفسيره مهما يكن الذي استغنى فأنت له تصدى، أي مهما يكن شيء فالذي استغنى تتصدى له، والمقصود: أنت تحرص على التصدي له، فجعل مضمون الجواب وهو التصدي له معلقا على وجود من استغنى وملازما له ملازمة التعليق الشرطي
(30/94)

على طريقة المبالغة.
والاستغناء: عد الشخص نفسه غنيا في أمر يدل عليه السياق قول، أو فعل أو علم، فالسين والتاء للحسبان، أي حسب نفسه غنيا. وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التكبر والاعتزاز بالقوة.
فالمراد ب {مَنِ اسْتَغْنَى} هنا: من عد نفسه غنيا عن هديك بأن أعرض عن قبوله لأنه أجاب قول النبي صلى الله عليه وسلم له "هل ترى بما أقول بأسا" ، بقوله: "لا والدماء..." كناية على أنه لا بأس به يريد ولكني غير محتاج إليه.
وليس المراد ب {مَنِ اسْتَغْنَى} من استغنى بالمال إذ ليس المقام في أيثار صاحب مال على فقير.
وهذا الذي تصدى النبي صلى الله عليه وسلم لدعوته وعرض القرآن عليه هو على أشهر الأقوال المروية عن سلف المفسرين الوليد بن المغيرة المخزومي كما تقدم.
والإتيان بضمير المخاطب مظهرا قبل السند الفعلي دون استتاره في الفعل يجوز أن يكون للتقوي كأنه قيل: تتصدى له تصديا، فمناط العتاب هو التصدي القوي.
ويجوز أن يكون مفيدا للاختصاص، أي فأنت لا غيرك تتصدى له، أي ذلك التصدي لا يليق بك. وهذا قريب من قولهم: مثلك لا يبخل، أي لو تصدى له غيرك لكان هونا، فأما أنت فلا يتصدى مثلك لمثله فمناط العتاب هو أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في جليل قدره.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر بفتح التاء وتشديد الصاد على إدغام إحدى التاءين في الصاد. والباقون بالفتح وتخفيف الصاد على حف إحدى التاءين.
والتصدي: التعرض، أطلق هنا على الإقبال الشديد مجازا.
[7] {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} .
جملة معترضة بين جملة {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] وجملة {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس:8] الآية، والواو اعتراضية.
و {ما} نافية و {عليك} خبر مقدم. والمبتدأ {أَلاَّ يَزَّكَّى} ، والمعنى: عدم تزكيه
(30/95)

ليس محمولا عليك، أي لست مؤاخذا بعدم اهتدائه حتى يزيد من الحرص على ترغيبه في الإيمان ما لم يكلفك الله به. وهذا رفق من الله برسوله صلى الله عليه وسلم.
[8-10] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} .
عطف على جملة {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] اقتضى ذكره قصد المقابلة مع المعطوف عليها مقابلة الضدين إتماما للتقسيم. والمراد: هو ابن أم مكتوم، فحصل بمضمون هذه الجملة تأكيد لمضمون {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس: 1-2].
والسعي: شدة المشي، كني به عن الحرص على اللقاء فهو مقابل لحال من استغنى لأن استغناءه استغناء الممتعض عن التصدي له.
وجملة {وَهُوَ يَخْشَى} في موضع الحال، وحذف مفعول {يَخْشَى} لظهوره لأن الخشية في لسان الشرع تنصرف إلى خشية الله تعالى.
والمعنى: أنه جاء طلبا للتزكية لأن يخشى الله من التقصير في الاسترشاد. واختير الفعل المضارع لإفادته التجدد.
والقول في {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} كالقول في {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6].
والعبرة في هذه الآيات أن الله تعالى زاد نبيه صلى الله عليه وسلم علما عظيما من الحكمة النبوية، ورفع درجة علمه إلى أسمى ما تبلغ إليه عقول الحكماء رعاة الأمم، فنبهه إلى أن في معظم الأحوال أو جميعها نواحي صلاح ونفع قد تخفى لقلة اطرادها، ولا ينبغي ترك استقرائها عند الاشتغال بغيرها ولو ظنه الأهم، وأن ليس الإصلاح بسلوك طريقة واحدة للتدبير بأخذ قواعد كلية منضبطة تشبه قواعد العلوم يطبقها في الحوادث ويغضي عما يعارضها بأن يسرع إلى ترجيح القوي على الضعيف مما فيه صفة الصلاح، بل شأن مقوم الأخلاق أن يكون بمثابة الطبيب بالنسبة إلى الطبائع والأمزجة فلا يجعل لجميع الأمزجة علاجا واحدا بل الأمر يختلف باختلاف الناس. وهذا غور عميق يخاض إليه من ساحل القاعدة الأصولية في باب الاجتهاد القائلة إن المجتهد إذا لاح له دليل يبحث عن المعارض والقاعدة القائلة إن الله تعالى حكما قبل الاجتهاد نصب عليه أمارة وكلف المجتهد بإصابته فإن أصابه فله أجران وإن أخطئه فله أجر واحد.
فإذا كان ذلك مقام المجتهدين من أهل العلم لأن مستطاعهم فإن غوره هو اللائق
(30/96)

بمرتبة أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد له فيه وحي، فبحثه عن الحكم أوسع مدى من مدى أبحاث عموم المجتهدين، وتنقيبه على المعارض أعمق غورا من تناوشهم، لئلا يفوت سيد المجتهدين ما فيه من صلاح ولو ضعيفا، ما لم يكن إعماله يبطل ما في غيره من صلاح أقوى لأن اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع اجتهاده قائم مقام الوحي فيما لم يوح إليه فيه.
فالتزكية الحق هي المحور الذي يدور عليه حال ابن أم مكتوم وحال المشرك من حيث إنها مرغوبة للأول ومزهود فيها من الثاني، وهي مرمى اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحصيلها للثاني والأمن على قرارها للأول بإقباله على الذي يتجافى عن دعوته، وإعراضه عن الذي يعلم من حاله أنه متزك بالإيمان.
وفي حاليهما حالان آخران سرهما من أسرار الحكمة التي لقنها الله نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يخفى في معتاد نظر النظار فأنبأه الله به ليزيل عنه ستار ظاهر حاليهما، فإن ظاهر حاليهما قاض بصرف الاهتمام إلى أحدهما وهو المشرك لدعوته إلى الإيمان حين لاح من لين نفسه لسماع القرآن ما أطمع النبي صلى الله عليه وسلم بأنه قد اقترب من الإيمان فمحض توجيه كلامه إليه لأن هدي الناس إلى الإيمان أعظم غرض بعث النبي صلى الله عليه وسلم لأجله، فالاشتغال به يبدو أهم وأرجح من الاشتغال بمن هو مؤمن خالص، وذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
غير أن وراء ذلك الظاهر حالا آخر كامنا علمه الله تعالى العالم بالخفيات ولم يوحي لرسوله صلى الله عليه وسلم التنقيب عليه وهو حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر تؤذن سوابقه بعناده وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا. وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي صلى الله عليه وسلم بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللين مصانعة أو حياء من المكابرة، فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع الخاص لذاته. وفي ازدياد من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له والرسول راع لآحاد الأمة ولمجموعها، فهو مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد بحيث لا يدحض مصالح الآحاد لأجل مصالح المجموع إلا إذا تعذر الجمع بين الصالح العام والصالح الخاص، بيد أن الكافر صاحب هذه القضية ينبيء دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله، وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها.
(30/97)

وقد حصل في هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، بأن الاهتداء صنوف عديدة وله مراتب سامية، وليس الاهتداء مقتصرا على حصول الإيمان مراتب وميادين لسبق همم النفوس لا يغفل عن تعهدها بالتثبيت والرعي والإثمار، وذلك التعهد إعانة على تحصيل زيادة الإيمان.
وتلك سرائر لا يعلم حقها وفروقها إلا الله تعالى. فعلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو خليفة الله في خلقه أن يتوخاها بقدر المستطاع، فما أوحى الله إليه في شأنه اتبع ما يوحى إليه وما لم ينزل عليه وحي في شأنه فعليه أن يصرف اجتهاده كما أشار إليه قوله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30].
فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة للتنبيه إلى الاكتراث بتتبع تلك المراتب وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها ليخرج منها نبات نافع للخاصة والعامة.
والحاصل أن الله تعالى أعلم رسوله صلى الله عليه وسلم أن ذلك المشرك الذي محضه نصحه لا يرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر يزداد صلاحا تفيد المبادرة به، لأنه في حالة تلهفه على التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد استعدادا منه في حين آخر.
فهذه الحادثة منوال ينسج عليها الاجتهاد النبوي إذا لم يرد له الوحي ليعلم أن من وراء الظواهر خبايا، وأن القرائن قد تستر الحقائق.
وفي ما قررنا ما يعرف به أن مرجع هذه الآية وقضيتها إلى تصرف النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فيما لم يوح إليه فيه. وأنه ما حاد عن رعاية أصول الاجتهاد قيد أنملة. وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي ص9 ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله تعالى، وأن اجتهاده صلى الله عليه وسلم لا يخطيء بحسب ما نصبه الله من الأدلة، ولكنه قد يخالف ما في علم الله، وأن الله لا يقر رسوله صلى الله عليه وسلم على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر.
ونظير هذه القضية قضية أسرى بدر التي حدثت بعد سنين من نزول هذه الآية والموقف فيهما متماثل.
وفي قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] إيماء إلى عذر النبي صلى الله عليه وسلم في
(30/98)

تأخيره إرشاد ابن أم مكتوم لما علمت من أنه يستعمل في التنبيه على أمر مغفول عنه، والمعنى: لعله يزكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ إذ جاء مسترشدا حريصا، وهذه حالة خفية.
وكذلك عذره في الحرص على إرشاد المشرك بقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس:7] إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى تبعة من فوات إيمان المشرك بسبب قطع المحاورة معه والإقبال على استجابة المؤمن المسترشد.
فإن قال قائل: فلماذا لم يعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من وقت حضور ابن أم مكتوم بما تضمنه هذا التعليم الذي ذكرتم.
قلنا: لأن العلم الذي يحصل عن تبين غفلة، أو إشعار بخفاء يكون أرسخ في النفس من العلم المسوق عن غير تعطش ولأن وقوع ذلك بعد حصول سببه أشهر بين المسلمين وليحصل للنبي صلى الله عليه وسلم مزية كلا المقامين: مقام الاجتهاد، ومقام الإفادة.
وحكمة ذلك كله أن يعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا المهيع من علي الاجتهاد لتكون نفسه غير غافلة عن مثله وليتأسى به علماء أمته وحكامها وولاة أمورها.
ونظير هذا ما ضربه الله لموسى عليه السلام من المثل في ملاقاة الخضر، وما جرى من المحاورة بينهما، وقول الخضر لموسى {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:68] ثم قوله له {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82] . وقد سبق مثله في الشرائع السابقة كقوله في قصة نوح {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وقوله لإبراهيم {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
هذا ما لاح لي في تفسير هذه الآيات تأصيلا وتفصيلا، وهو بناء على أساس ما سبق إليه المفسرون من جعلهم مناط العتاب مجموع ما في القصة من الإعراض عن إرشاد ابن أم مكتوم، ومن العبوس له، والتولي عنه، ومن التصدي القوي لدعوة المشرك والإقبال عليه.
والأظهر عندي أن مناط العتاب الذي تؤتيه لهجة الآية والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثبوته من كثرة ما يقول لابن أم مكتوم "مرحبا بمن عاتبني ربي لأجله" إنما هو عتاب على العبوس والتولي، لا على ما حف بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا إذ ما سلك إلا سبيل
(30/99)

الاجتهاد القويم لآن المقام الذي أقيمت فيه هذه الحادثة تقاضاه إرشادان لا محيص من تقديم أحدهما على الآخر، هما: إرشاد كافر إلى الإسلام عساه أن يسلم. وإرشاد مؤمن إلى شعب الإسلام عساه أن يزداد تزكية.
وليس في حال المؤمن ما يفيت إيمانا وليس في تأخير إرشاده على نية التفرغ إليه بعد حين ما يناكد زيادة صلاحه فإن زيادة صلاحه مستمرة على ممر الأيام.
ومن القواعد المستقراة من تصاريف الشريعة والشاهدة بها العقول السليمة تقديم درء المفاسد على جلب المصالح، ونفي الضر الأكبر قبل نفي الضر الأصغر، فلم يسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلا مسلك الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وهو القائل "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون ألي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع. فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار" ، وهو القائل "أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر" وهو حديث صحيح المعنى وإن كان في إسناده تردد. فلا قبل له بعلم المغيبات إلا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مضمر الكفر والعناد وأن الله يعلم أنه لا يؤمن ولا أن لذلك المؤمن في ذلك صفاء نفس وإشراق قلب لا يتهيآن له في كل وقت.
وبذلك يستبين أن ما أوحى الله به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة هو وحي له بأمر كان مغيبا عنه حين أقبل على دعوة المشرك وأرجأ إرشاد المؤمن. وليس في ظاهر حالهما ما يؤذن بباطنه وما أظهر الله فيها غيب علمه إلا لإظهار مزية مؤمن راسخ الإيمان وتسجيل كفر مشرك لا يرجى منه الأيمان، ومع ما في ذلك من تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بما عمله الله من حسن لأدبه مع المؤمنين ورفع شأنهم أمام المشركين. فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم، فما وقع في خلال هذا العتاب من ذكر حال المؤمن والكافر إنما هو إدماج لأن في الحادثة فرصة من التنويه بسمو منزلة المؤمن لانطواء قلبه على أشعة تؤهله لأن يستنير بها ويفيضها على غيره جمعا بين المعاتبة والتعليم، على سنن هدي القرآن في المناسبات.
[11-16] {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ،بِأَيْدِي سَفَرَةٍ،كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .
(30/100)

{كلا}
إبطال وقد تقدم ذكر "كلا" في سورة مريم [79-82]، وتقدم قريبا في سورة النبأ. وهو هنا إبطال لما جرى في الكلام السابق ولو بالمفهوم كما في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3]. ولو بالتعريض أيضا كما في قوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1].
وعلى التفسير الثاني المتقدم ينصرف الإبطال إلى {عَبَسَ وَتَوَلَّى} خاصة.
ويجوز أن يكون تأكيدا لقوله: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس:7] على التفسيرين، أي لا تظن أنك مسؤول عن مكابرته وعناده فقد بلغت ما أمرت بتبليغه.
{إِنَّهَا تَذْكِرَة، فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَه، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} .
استئناف بعد حرف الإبطال، وهو استئناف بياني لأن ما تقدم من العتاب ثم ما عقبه من الإبطال يثير في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم الحيرة في كيف يكون العمل في دعوة صناديد قريش إذا لم يتفرغ لهم لئلا ينفروا عن التدبر في القرآن، أو يثير في نفسه مخافة أن يكون قصر في شيء من واجب التبليغ.
وضمير {أنها} عائدة إلى الدعوة التي تضمنها قوله: {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس:6].
ويجوز أن يكون المعنى: أن هذه الموعظة تذكرة لك وتنبيه لما غفلت عنه وليست ملاما وإنما يعاتب الحبيب حبيبه.
ويجوز عندي أن يكون {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} استئنافا ابتدائيا موجها إلى من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه قبيل نزول السورة فإنه كان يعرض القرآن على الوليد بن المغيرة ومن معه، وكانوا لايستجيبون إلى ما دعاهم ولا يصدقون بالبعث، فتكون "كلا" إبطالا لما نعتوا به القرآن من أنه أساطير الأولين أو نحو ذلك.
فيكون ضمير {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} عائدا إلى الآيات التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك المجلس ثم أعيد عليها الضمير بالتذكير للتنبيه على أن المراد آيات القرآن.
ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى عقبه {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] الآيات حيث ساق لهم أدلة إثبات البعث.
فكان تأنيث الضمير نكتة خصوصية لتحميل الكلام هذه المعاني.
(30/101)

والضمير الظاهر في قوله: {ذَكَرَهُ} يجوز أن يعود إلى {تَذْكِرَةٌ} لأن ما صدقها القرآن الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرضه على صناديد قريش قبيل نزول هذه السورة، أي فمن شاء ذكر القرآن وعمل به.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى فإن إعادة ضمير الغيبة على الله تعالى دون ذكر معاده في الكلام كثير في القرآن لأنه شؤونه تعالى وأحكامه نزل القرآن لأجلها فهو ملحوظ لكل سامع للقرآن، إي فمن شاء ذكر الله وتوخى مرضاته.
والذكر على كلا الوجهين: الذكر بالقلب، وهو توخي الوقوف عند الأمر والنهي. وتعدية فعل "ذكر" إلى ذلك الضمير على الوجهين على حذف مضاف يناسب المقام.
والذي اقتضى الإتيان بالضمير وكونه ضمير مذكر مراعاة الفواصل وهي: {تَذْكِرَةٌ ، مُطَهَّرَةٍ ، سَفَرَةٍ ، بَرَرَةٍ} .
وجملة {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} معترضة بين قوله: {تَذْكِرَةٌ} وقوله: {فِي صُحُفٍ} .
والفاء لتفريع مضمون الجملة على جملة {إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} فإن الجملة المعترضة تقترن بالفاء إذا كان معنى الفاء قائما، فالفاء من جملة الاعتراض، أي هي تذكرة لك بالأصالة وينتفع بها من شاء أن يتذكر على حسب استعداده، أي يتذكر بها كل مسلم كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44].
وفي قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} تعريض بأن موعظة القرآن نافعة لكل أحد تجرد عن العناد والمكابرة، فمن لم يتعظ بها فلأنه لم يشأ أن يتعظ. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [ النازعات:45] وقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48] ونحوه كثير، وقد تقدم قريب منه في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} في سورة الإنسان [29].
والتذكرة: اسم لما يتذكر به الشيء إذا نسي. قال الراغب: وهي أعم من الدلالة والأمارة قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} . وتقدم نظيره في سورة المدثر [49].
وكل من {تَذْكِرَةٌ} و {ذَكَرَهُ} هو من الذكر القلبي الذي مصدره بضم الذال في الغالب، أي فمن شاء عمل به ولا ينسه.
(30/102)

والصحف: جمع صحيفة، وهي قطعة من أديم أو ورق أو خرقة يكتب فيها الكتاب، وقياس جمعها صحائف، وأما جمعها على صحف فمخالف للقياس، وهو الأفصح ولم يرد في القرآن إل صحف، وسيأتي في سورة الأعلى، وتطلق الصحيفة على ما يكتب فيه.
و {مُطَهَّرَةٍ} اسم مفعول من طهره إذا نظفه. والمراد هنا: الطهارة المجازية وهي الشرف، فيجوز أن يحمل الصحف على حقيقته فتكون أوصافها ب {مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ ، مُطَهَّرَةٍ} محمولة على المعاني المجازية وهي معاني الاعتناء بها كما قال تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29]. وتشريفها كما قال تعالى: {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] وقدسية معانيها كما قال تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، وكان المراد بالصحف الأشياء التي كتب فيها القرآن من رقوق وقراطيس، وأكتاف، ولخاف، وجريد.
فقد روي أن كتاب الوحي كانوا يكتبون فيها كما جاء في خبر جمع أبي بكر للمصحف حين أمر بكتابته في رقوق أو قراطيس، ويكون إطلاق الصحف عليها تغليبا ويكون حرف "في" للظرفية الحقيقية ويكون المراد بالسفرة جمع سافر، أي كاتب، وروي عن ابن عباس. قال الزجاج: وإنما قيل للكتاب سفر "بكسر السين" وللكاتب سافر لأن معناه أنه يبين الشيء ويوضحه يقال: أسفر الصبح، إذا أضاء وقاله الفراء.
ويجوز أن يراد بالصحف كتب الرسل الذين قبل محمد صلى الله عليه وسلم مثل التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم عليه السلام. فتكون هذه الأوصاف تأييدا للقرآن بأن الكتب الإلهية السابقة جاءت بما جاء به. ومعنى كون هذه التذكرة في كتب الرسل السابقين: أن أمثال معانيها وأصولها في كتبهم، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19] وكما قال {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] وكما قال {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى:13].
ويجوز أن يراد بالصحف صحف مجازية، أي ذوات موجودة قدسية يتلقى جبريل عليه السلام منها القرآن الذي يؤمر بتبليغه للنبي صلى الله عليه وسلم، ويكون إطلاق الصحف عليها لشبهها بالصحف التي يكتب الناس فيها. ومعنى {مُكَرَّمَةٍ} عناية الله بها، ومعنى {مَرْفُوعَةٍ} أنها من العالم العلوي، ومعنى {مُطَهَّرَةٍ} مقدسة مباركة، أي هذه التذكرة مما تضمنه علم الله وما كتبه للملائكة في صحف قدسية.
(30/103)

وعلى الوجهين المذكورين في المراد بالصحف "فسفرة" يجوز أن يكون جمع سافر، مثل كاتب وكتبة، ويجوز أن يكون اسم جمع سفير، وهو المرسل في أمر مهم، فهو فعيل بمعنى فاعل، وقياس جمعه سفراء وتكون "في" للظرفية المجازية، أي المماثلة في المعاني.
وتاتي وجوه مناسبة في معنى {سَفَرَةٍ} ، فالمناسب للوجه الأول أن يكون السفرة كتاب القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن يكون المراد قراء القرآن، وبه فسر قتادة وقال: هم بالنبطية القراء، وقال غيرهم: الوراقون باللغة العبرانية.
وقد عدت هذه الكلمة في عداد ما ورد في القرآن من المعرب كما في الإتقان عن ابن أبي حاتم، وقد أغفلها السيوطي فيما أستدركه على ابن السبكي وابن حجر في نظميهما في المعرب في القرآن أو قصد عدم ذكرها لوقوع الاختلاف في تعريبها.
والمناسبة للوجه الثاني: أن يكون محمله الرسل.
والمناسب، للوجه الثالث أن يكون محمله الملائكة لأنهم سفراء بين الله ورسله.
والمراد بأيديهم: حفظهم إياه إلى تبليغه، فمثل حال الملائكة بحال السفراء الذين يحملون بأيديهم الألوك والعهود.
وإما أن يراد: الرسل الذين كانت بأيديهم كتبهم مثل موسى وعيسى عليهما السلام.
وإما أن يراد كتاب الوحي مثل عبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر وعثمان وعلي وعامر بن فهيرة.
وكان بعض المسلمين يكتب ما يتلقاه من القرآن ليدرسه مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من عثوره على سورة طه مكتوبة عند أخته أم جميل فاطمة زوج سعيد بن زيد.
وفي وصفهم بالسفرة ثناء عليهم لأنهم يبلغون القرآن للناس وهم حفاظه ووعاته قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فهذا معنى السفرة. وفيه بشارة بأنهم سينشرون الإسلام في الأمم وقد ظهر مما ذكرنا ما لكلمة {سَفَرَةٍ} من الوقع العظيم المعجز في هذا المقام.
ووصف {كرام} مما وصف به الملائكة في آيات أخرى كقوله تعالى: {كِرَامًا
(30/104)

كَاتِبِينَ} [الإنفطار:11].
ووصف البررة ورد صفة للملائكة في الحديث الصحيح قوله: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة" .
والبررة : جمع بر، وهو الموصوف بكثرة البرور. وأصل بر مصدر بر يبر من باب فرح، ومصدره كالفرح، فهذا من باب الوصف بالمصدر مثل عدل وقد اختص البررة بجمع بر ولا يكون جمع بار.
والغالب في اصطلاح القرآن أن البررة الملائكة والأبرار الآدميون. قال الراغب لأن بررت أبلغ من إبرار إذ هو جمع بر، وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل.
وهذا تنويه بشأن القرآن لأن التنويه بالآيات الواردة في أول هذه السورة من حيث إنها بعض القرآن فأثني على القرآن بفضيلة أثره في التذكير والإرشاد، وبرفعة مكانته، وقدس مصدره، وكرم قراره، وطهارته، وفضائل حملته ومبلغيه، فإن تلك المدائح عائدة إلى القرآن بطريق الكناية.
[17-22] {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} .
استئناف ابتدائي نشأ عن ذكر من استغنى فإنه أريد به معين واحد أو أكثر، وذلك يبينه ما وقع من الكلام الذي دار يبن النبي صلى الله عليه وسلم وبين صناديد المشركين في المجلس الذي دخل فيه ابن أم مكتوم.
والمناسبة وصف القرآن بأنه تذكرة لمن شاء أن يتذكر، وإذ قد كان أكبر دواعيهم على التكذيب بالقرآن إنه أخبر عن البعث وطالبهم بالإيمان به كان الاستدلال على وقوع البعث أهم ما يعتنى به في هذا التذكير وذلك من أفنان قوله: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:12].
والذي عرف بقوله: {مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5] يشمله العموم الذي أفاده تعريف {الإِنْسَانُ} من قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} .
وفعل قتل فلانا أصله دعاء عليه بالقتل. والمفسرون الأولون جعلوا {قُتِلَ
(30/105)

الإِنْسَانُ} أنه لعن، رواه الضحاك عن ابن عباس وقوله مجاهد وقتادة وأبو مالك. قال في الكشاف دعاء عليه وهذا من أشنع دعواتهم ، أي فمورده غير مورود قوله تعالى: {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} [التوبة30] وقولهم: قاتل الله فلانا يريدون التعجب من حاله، وهذا أمر مرجعه للاستعمال ولا داعي إلى حمله على التعجيب لأن قوله: {مَا أَكْفَرَهُ} يغني عن ذلك.
والدعاء بالسوء من الله تعالى مستعمل في التحقير والتهديد لظهور أن حقيقة الدعاء لا تناسب الإلهية لأن الله هو الذي يتوجه إليه الناس بالدعاء.
وبناء {قتل} للمجهول متفرع على استعماله في الدعاء، إذ لا غرض في قاتل يقتله، وكثر في القرآن مبنيا للمجهول نحو {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:19].
وتعريف {الإِنْسَانُ} يجوز أن يكون التعريف المسمى تعريف الجنس فيفيد استغراق جميع أفراد الجنس، وهو استغراق حقيقي، وقد يراد به استغراق معظم الأفراد بحسب القرائن فتولد بصيغة الاستغراق إدعاء لعدم الاعتداد بالقليل من الأفراد، ويسمى الاستغراق العرفي في اصطلاح علماء المعاني، ويسمى العام المراد به الخصوص في اصطلاح علماء الأصول والقرينة هنا ما بين به كفر الإنسان من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إلى قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} ، فيكون المراد من قوله: {الإِنْسَانُ} المشركين المنكرين البعث، وعلى ذلك جملة المفسرين، فإن معظم العرب يومئذ كافرون بالبعث.
قال مجاهد: ما كان في القرآن {قُتِلَ الإِنْسَانُ} فإنما عني به الكافر.
والأحكام التي يحكم بها على الأجناس يراد أنها غالبة على الجنس، فالاستغراق الذي يقضيه تعريف لفظ الجنس المحكوم عليه استغراق عرفي معناه ثبوت الحكم للجنس على الجملة، فلا يقتضي اتصاف جميع الأفراد به، بل قد يخلو عنه بعض الأفراد وقد يخلو عنه المتصف به في بعض الأحيان، فقوله: {مَا أَكْفَرَهُ} تعجيب من كفر جنس الإنسان أو شدة كفره وإن كان القليل منه غير كافر.
فآل معنى الإنسان إلى الكفار من هذا الجنس وهم الغالب على نوع الإنسان.
فغالب الناس كفروا بالله من أقدم عصور التاريخ وتفشى الكفر بين أفراد الإنسان وانتصروا له وناضلوا عنه. ولا أعجب من كفر من ألهوا أعجز الموجودات من حجارة وخشب، أو نفوا أن يكون لهم رب خلقهم.
(30/106)

ويجوز أن يكون تعريف {الإِنْسَانُ} تعريف العهد لشخص معين من الإنسان يعينه خبر سبب النزول، فقيل: أريد به أمية بن خلف، وكان ممن حواه المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، وعندي أن الأولى أن يكون أراد به الوليد بن المغيرة.
وعن ابن عباس أن المراد عتبة بن أبي لهب، وذكر في ذلك قصة لا علاقة لها بخبر المجلس الذي غشيه ابن أم مكتوم، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، والمناسبة ظاهرة.
وجملة {مَا أَكْفَرَهُ} تعليل لإنشاء الدعاء عليه دعاء التحقير والتهديد. وهذا تعجيب من شدة كفر هذا الإنسان.
ومعنى شدة الكفر أن كفره شديد كما، وكيفا، ومتى، لأنه كفر بوحدانية الله، وبقدرته على إعادة خلق الأجسام بعد الفناء، وبإرساله الرسول، وبالوحي إليه صلى الله عليه وسلم، وأنه كفر قوي لأنه اعتقاد قوي لا يقبل التزحزح، وأنه مستمر لا يقلع عنه مع تكرر التذكير والإنذار والتهديد.
وهذه الجملة بلغت نهاية الإيجاز وأرفع الجزالة بأسلوب غليظ دال على السخط بالغ حد المذمة، جامع للملامة، ولم يسمع مثلها قبلها، فهي من جوامع الكلم القرآنية.
وحذف المتعلق بلفظ {أكفره} لظهوره من لفظ "أكفر" وتقديره: ما أكفره بالله.
وفي قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} محسن الاتزان فإنه من بحر الرمل من عروضه الأولى المحذوفة.
وجملة {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} بيان لجملة {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، لأن مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إحالتهم البعث وذلك الإنكار من أكبر أصول كفرهم.
وجيء في هذا الاستدلال بصورة سؤال وجواب للتشويق إلى مضمونه، ولذلك قرن الاستفهام بالجواب عنه على الطريقة المتقدمة في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1-2].
والاستفهام الصوري، وجعل المستفهم عنه تعيين الأمر الذي خلق الإنسان لأن المقام هنا ليس لإثبات أن الله خلق الإنسان، بل المقام لإثبات إمكان إعادة الخلق بتنظيره بالخلق الأول على طريقة قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق:15] أي كما كان خلق
(30/107)

الإنسان أول مرة من نطفة يكون خلقه ثاني مرة من كائن ما، ونظيره قوله تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} في سورة الطارق [5-8].
والضمير المستتر في قوله: {خَلَقَهُ} عائد إلى الله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان.
وقدم الجار والمجرور في قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ} محاكاة لتقديم المبين في السؤال الذي اقتضى تقديمه كونه استفهاما يستحق صدر الكلام، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كون أبدع مخلوق معروف من أهون شيء وهو النطفة.
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقديم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع.
فذكر فعل {خَلَقَهُ} الثاني في أسلوب المساواة ليس بإيجاز، وليس بإطناب.
والنطفة: الماء القليل، وهي فعلة بمعنى مفعولة كقولهم: قبضة حب، وغرفة ماء. وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل، فذكرت النطفة لتعين ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء الى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر، على أن المقام هنا للدلالة على خلق عظيم وليس مقام زجر المتكبر.
وفرع على فعل {خَلَقَهُ} فعل {فَقَدَّرَهُ} بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئا للنماء وما يلابسه من العقل والتصريف وتمكينه من النظر بعقله، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرجا مفرعا.
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان من خلال الاستدلال.
وحرف {ثم} من قوله: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} للتراخي الرتبي لأن تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله لأنه أثر العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان وهو أقوى في المنة.
(30/108)

و {السَّبِيلَ} : الطريق، وهو مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيها للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي تشبيه المحسوس بالمعقول.
ويجوز أن يكون مستعارا لمسقط المولود من بطن أمه فقد أطلق على ذلك الممر اسم السبيل في قولهم "السبيلان" فيكون هذا من استعمال اللفظ في مجازيه. وفيه مناسبة لقوله بعده {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} ، ف {أَمَاتَهُ} مقابل {خَلَقَهُ} و {أقبره} مقابل {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} لأن الإقبار إدخال في الأرض وهو ضد خروج المولود إلى الأرض.
والتيسير: التسهيل، و {السَّبِيلَ} منصوب بفعل مضمر على طريق الاشتغال، والضمير عائد إلى {السَّبِيلَ} . والتقدير: يسر السبيل له، كقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17] أي لذكر الناس.
وتقديم {السَّبِيلَ} على فعله للاهتمام بالعبرة بتيسير السبيل بمعنييه المجازيين، وفيه رعاية للفواصل.
وكذلك عطف {ثُمَّ أَمَاتَهُ} على {يسره} بحرف التراخي وهو لتراخي الرتبة فإن انقراض تلك القوى العقلية والحسية بالموت، بعد أن كانت راسخة زمنا ما، انقراض عجيب دون تدريج ولا انتظار زمان يساوي مدة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة.
ومن المعلوم بالضرورة أن الكثير الذي لا يحصى من أفراد النوع الإنساني قد صار أمره إلى الموت وأن من هو حي آيل لا محالة، فالمعنى: ثم أماته ويميته.
فصيغة المضي في قوله: {أَمَاتَهُ} مستعملة في حقيقته وهو موت من مات، ومجازه وهو موت من سيموتون، لأن موتهم في المستقبل محقق. وذكر جملة {ثُمَّ أَمَاتَهُ} توطئة وتمهيد لجملة {فأقبره} .
وإسناد الإماتة إلى الله تعالى حقيقة عقلية بحسب عرف الاستعمال. وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال كما أدمج {فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} فيما سبق.
و {أقبره} جعله ذا قبر، وهو أخص من معنى قبره، أي أن الله سبب له أن يقبر. قال الفراء: أي جعله مقبورا، ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ولا ممن يلقى في النواويس جمع ناووس صندوق من حجر أو خشب يوضع فيه الميت ويجعل في بيت أو نحوه.
(30/109)

والإقبار: تهيئة القبر ويقال: أقبره أيضا، إذا أمر بأن يقبر، ويقال: قبر الميت، إذا دفنه، فالمعنى: أن الله جعل الناس ذوي قبور.
وإسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي لأن الله ألهم الناس الدفن كما في قصة دفن أحد ابني آدم أخاه بإلهام تقليده لفعل غراب حفر لغراب آخر ميت حفرة فواراه فيها، وهي سورة العقود، فأسند الإقبار إلى الله لأنه ألهم الناس إياه. وأكد ذلك بما أمر في شرائعه من وجوب دفن الميت.
والقول في أن صيغة المضي مستعملة في حقيقتها ومجازها نظير القول في صيغة {أَمَاتَهُ} .
وهذه كلها دلائل على عظيم قدرة الله تعالى وهم عدوها قاصرة على الخلق الثاني، وهي تتضمن منن على الناس في خلقهم وتسويتهم وإكمال قواهم أحياء، وإكرامهم أمواتا بالدفن لئلا يكون الإنسان كالشيء اللقي يجتنب بنو جنسه القرب منه ويهينه التقام السباع وتمزيق مخالب الطير والكلاب، فمحل المنة في قوله: {ثُمَّ أَمَاتَهُ} هو فيما فرع عليه بالفاء بقوله: {فَأَقْبَرَهُ} وليست الإماتة وحدها منة.
وفي الآية دليل على أن وجوب دفن أموات الناس بالإقبار دون الحرق بالنار كما يفعل مجوس الهند، ودون الإلقاء لسباع الطير في ساحات في الجبال محوطة بجدران دون سقف كما كان يفعله مجوس الفرس وكما كان يفعله أهل الجاهلية بموتى الحروب والغارات في الفيافي إذ لا يوارونهم بالتراب وكانوا يفتخرون بذلك ويتمنونه قال الشنفري:
لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر
يريد أن تأكله الضبع، وأبطل الإسلام ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفن شهداء المسلمين يوم أحد في قبور مشتركة، ووارى قتلى المشركين ببدر في قليب، قال عمرو بن معد يكرب قبل الإسلام:
آليت لا أدفن قتلاكم ... فدخنوا المرء وسرباله
وجملة {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} رجوع إلى إثبات البعث وهي كالنتيجة عقب الاستدلال. ووقع قوله: {إِذَا شَاءَ} معترضا بين جملة {أَمَاتَهُ} وجملة {أَنْشَرَهُ} لرد توهم المشركين أن عدم التعجيل بالبعث دليل على انتفاء وقوعه في المستقبل و"إذا" ظرف للمستقبل ففعل المضي بعدها مؤول بالمستقبل. والمعنى: ثم حين يشاء ينشره، أي ينشره
(30/110)

حين تتعلق مشيئته بإنشاره.
و {أَنْشَرَهُ} بعثه من الأرض وأصل النشر إخراج الشيء المخبأ يقال: نشر الثوب، إذ أزال طيه، ونشر الصحيفة، إذا فتحها ليقرأها. ومنه الحديث فنشروا التوراة.
وأما الإنشار بالهمزة فهو خاص بإخراج الميت من الأرض حيا وهو البعث، فيجوز أن يقال: نشر الميت، والعرب لم يكونوا يعتقدون إحياء الأموات إلا أن يكونوا قد قالوه في تخيلا تهم التوهمية. فيكون منه قول الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر
ولذلك قال الله تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود:7].
وفي قوله: {إِذَا شَاءَ} رد لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحديا وتهكما ليجعلوا عدم الاستجابة بتعجيله دليلا على أنه لا يكون، فأعلمهم الله أنه يقع عندما يشاء الله وقوعه لا في الوقت الذي يسألونه لأنه موكول إلى حكمة الله واستفادة إبطال قولهم من طريق الكناية.
[23] {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} .
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأولين فيها بعضها جاف المنال، وبعضها جاف عن الاستعمال. ذلك أن المعروف في {كَلاّ} أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يزجر عنه ولا أن يبطل، فتعين المصير إلى تأويل مورد {كَلاّ} .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف {كَلاّ} للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقوف عليها كما يجيزون الابتداء بها، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإنكار إلى ما يوميء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه.
فمنهم من يجعل الردع متوجها إلى ما قبل {كَلاّ} مما يوميء إليه قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22]، أي إذا شاء الله، إذ يوميء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتل بأنه لم ينشر أحد منذ القدم إلى الآن. وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين
(30/111)

كما تقدم.
وموقع {كَلاّ} على هذا التأويل موقع الجواب والإبطال، وموقع جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} موقع العلة للإبطال، أي لو قضى ما أمره الله به لعلم بطلان زعمه أنه لا ينشر.
وتأوله في الكشاف بأنه ردع للإنسان عما هو عليه أي مما ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع، يريد أنه زجر غير مضمون {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
ومنهم من جعل الردع متوجها إلى ما بعد {كَلاّ} مما يوميء إليه قوله تعالى: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} ، أي ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه، ويتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد، وهو أقرب لأن ما بعد {كَلاّ} لما كان نفيا ناسب أن يجعل {كَلاّ} تمهيدا للنفي.
وموقع {كَلاّ} على هذا الوجه أنها جزء من استئناف.
وموقع جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} إلى قوله: {أَنْشَرَهُ} [عبس: 18-22]، أي إنما لا يهتد الكافر إلى دلالة الخلق الأول على إمكان الخلق الثاني، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله.
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في {كَلاّ} وهم الكسائي القائل تكون {كَلاّ} بمعنى حقا، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل تكون {كَلاّ} بمعنى "ألا" الاستفتاحية.
والنضر بن شميل والفراء القائلان: تكون {كَلاّ} حرف جواب بمعنى نعم. فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر.
وعن الفراء {كَلاّ} تكون صلة هي حرفا زائدا للتأكيد كقولك: كلا ورب الكعبة اه. وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية.
فالوجه في موقع {كَلاّ} هنا أنه يجوز أن تكون زجرا عما يفهم من قوله: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:22] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيدا للإبطال الذي في قوله: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:11] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غير باطل فقوله: {إِذَا شَاءَ} مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذ بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه، أي أنا لا نشاء انشارهم الآن وإنما
(30/112)

ننشرهم عندما نشاء مما قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي.
وتكون جملة {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} تعليلا للردع، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن، ويكون المراد بالأمر في قوله: {مَا أَمَرَهُ} أمر التكوين، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36].
ويجوز أن يكون زجرا عما أفاده قوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} وقدمت {كَلاّ} في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر.
وتقدم الكلام على {كَلاّ} في سورة مريم وأحلت هنالك على ما هذا.
و {لَمَّا} حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل "لم" ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مما دعاه إليه.
والقضاء: فعل ما يجب على الإنسان كاملا لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلا تاما، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضا عن الإيمان الذي أمره الله به، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطور أطوارا إلى الموت قال تعالى: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، وما أمره من التدبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشرك عنه. ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر.
والضمير المستتر في {أَمَرَهُ} عائد إلى ما عادت عليه الضمائر المستترة في خلقه، وقدره، وأماته، وأقبره، وأنشره
[24-32] {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} .
إما مفرع على قوله: {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] فيكون مما أمره الله به من النظر، وإما على قوله: {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] فيكون هذا النظر مما يبطل ويزيل شدة كفر
(30/113)

الإنسان. والفاء مع كونها للتفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه. وهذا نظير الفاء في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 4-5]، أي إن أراد الإنسان الخلاص من تبعات ما يكتبه عليه الحافظ فلينظر مم خلق ليهتدي بالنظر فيؤمن فينجو.
وهذا استدلال آخر على تقريب كيفية البعث انتقل إليه في معرض الإرشاد إلى تدارك الإنسان ما أهمله وكان الانتقال من الاستدلال بما في خلق الإنسان من بديع الصنع من دلائل قائمة بنفسه في آية {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] إلى الاستدلال بأحوال موجودة في بعض الكائنات شديدة الملازمة لحياة الإنسان ترسيخا للاستدلال، وتفننا فيه، وتعريضا بالمنة على الإنسان في هذه الدلائل، ومن نعمة النبات الذي به بقاء حياة الإنسان وحياة ما ينفعه من الأنعام.
وتعدية فعل النظر هنا بحرف {إلى} تدل على أنه من نظر العين إشارة إلى أن العبرة تحصل بمجرد النظر في أطواره. والمقصود التدبر فيما يشاهده الإنسان من أحوال طعامه بالاستدلال بها على إيجاد الموجودات من الأرض. وجعل المنظور إليه ذات الطعام مع أن المراد النظر إلى أسباب تكونه وأحوال تطوره إلى حالة انتفاع الإنسان به وانتفاع أنعام الناس به.
وذلك من أسلوب إناطة الأحكام بأسماء الذوات، والمراد أحوالها مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:4] أي أكلها، فأمر الله الإنسان بالتفكير في أطوار تكون الحبوب والثمار التي بها طعامه، وقد وصف له تطور ذلك ليتأمل ما أودع إليه في ذلك من بديع التكوين سواء رأى ذلك ببصره أم لم يره، ولا يخلو أحد عن علم إجمالي بذلك، فيزيده هذا الوصف علما تفصيليا، وفي جميع تلك الأطوار تمثيل لإحياء الأجساد المستقرة في الأرض، فقد يكون هذا التمثيل في مجرد الهيئة الحاصلة بإحياء الأجساد، وقد يكون تمثيلا في جميع تلك الأطوار بأن تخرج الأجساد من الأرض كخروج النبات بأن يكون بذرها في الأرض ويرسل الله لها قوى لا نعلمها تشابه قوة الماء الذي به تحيا بذور النبات، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17-18].
وفي تفسير ابن كثير عند قوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] عن ابن
(30/114)

[أبي]1 حاتم بسنده إلى ابن عباس يسيل واد من أصل العرش فيما بين الصيحتين فينبت منه كل خلق بلي إنسان أو دابة ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم قد نبتوا على وجه الأرض، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد اه. وأمور الآخرة لا تتصورها الأفهام بالكنه وإنما يجزم العقل بأنها من الممكنات وهي مطيعة لتعلق القدرة التنجيزي.
والإنسان المذكور هنا هو الإنسان المذكور في قوله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وإنما جيء باسمه الظاهر دون الضمير كما في قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18]، لأن ذلك قريب من معاده وما هنا ابتداء كلام فعبر فيه بالاسم الظاهر للإيضاح.
وأدمج في ذلك منه عليه بالإمداد بالغذاء الذي به غخلاف ما يضمحل من قوته بسبب جهود العقل والتفكير الطبيعية التي لا يشعر بحصولها في داخل المزاج، وبسبب كد الأعمال البدنية والإفرازات، وتلك أسباب لتبخر القوى البدنية فيحتاج المزاج إلى تعويضها وإخلافها وذلك بالطعام والشراب.
وإنما تعلق النظر بالنظر مع أن الاستدلال هو بأحوال تكوين الطعام، إجراء للكلام على الإيجاز ويبينه ما في الجمل بعده من قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} إلى آخرها.
فالتقدير: فلينظر الإنسان إلى خلق طعامه وتهيئة الما لإنمائه وشق الأرض وإنباته وإلى انتفاعه به وانتفاع مواشيه في بقاء حياتهم.
وقرأ الجمهور {أَنَّا صَبَبْنَا} بكسر همزة "إنا" على أن الجملة بيان لجملة {فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} لتفصيل ما اجمل هنالك على وجه الإيجاز. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ورويس عن يعقوب بفتح الهمزة على أنه اسم بدل اشتمال من {طَعَامِهِ} أو البدل الذي يسميه بعض النحويين بدل مفصل من مجمل.
والصب: إلقاء صبرة متجمعة من أجزاء مائعة أو كالمائعة في وعاء غير الذي كانت فيه، يقال: صب الماء في الجرة، وصب القمح في الهري، وصب الدراهم في الكيس. وأصله: صب الماء، مثل نزول المطر وإفراغ الدلو.
والشق: الإبعاد بين ما كان متصلا، والمراد هنا شق سطح الأرض بخرق الماء فيه أو بآلة كالمحراث والمسحاة، أو بقوة حر الشمس في زمن الصيف لتتهيأ لقبول الأمطار في فصل الخريف والشتاء.
ـــــــ
1 زيادة من "تفسير ابن كثير" عند شرح الآية، والنقل منه بتصرف.
(30/115)

وإسناد الصب والشق والإنبات إلى ضمير الجلالة لأن الله مقدر نظام الأسباب المؤثرة في ذلك، ومحكم نواميسها وملهم الناس استعمالها.
فالإسناد مجاز عقلي في الأفعال الثلاثة. وقد شاع في {صَبَبْنَا} و {أَنْبَتْنَا} حتى ساوى الحقيقة العقلية.
وانتصب {صَبًّا} و {شقا} على المفعول المطلق ل {صَبَبْنَا} و {شَقَقْنَا} مؤكدا لعامله ليتأتى تنوينه لما في التنكير من الدلالة على التعظيم وتعظيم كل شيء بما يناسبه وهو تعظيم تعجب.
والفاء في قوله: {فَأَنْبَتْنَا} للتفريع والتعقيب وهو في كل شيء بحسبه.
والحب أريد منه المقتات منه للإنسان، وقد تقدم في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} في سورة البقرة [261].
والعنب: ثمر الكرم، ويتخذ منه الخمر والخل، ويؤكل رطبا، ويتخذ منه الزبيب.
والقضب: الفصفصة الرطبة، سميت قضبا لأنها تعلف للدواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى ولا تزال تخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القت.
والزيتون: الثمر الذي يعصر منه الزيت المعروف.
والنخل: الشجر الذي ثمرته التمر وأطواره.
والحدائق: جمع حديقة وهي الجنة من نخل وكرم وشجر وفواكه، وعطفها على النخل من عطف الأعم على الأخص، ولأن في ذكر الحدائق إدماجا للامتنان بها لأنها مواضع تنزههم واخترافهم.
وإنما ذكر النخل دون ثمرته، وهو التمر، خلافا لما قرن به من الثمار والفواكه والكلأ، لأن منافع شجر النخيل كثيرة لا تقتصر على ثمره، فهم يقتاتون ثمرته من تمر ورطب وبسر، ويأكلون جماره، ويشربون ماء عود النخلة إذا شق عنه، ويتخذون من نوى التمر علفا لإبلهم، وكل ذلك من الطعام، فضلا عن اتخاذهم البيوت والأواني من خشبه، والحصر من سعفه، والحبال من ليفه، فذكر اسم الشجرة الجامعة لهذه المنافع أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال وإدماج الامتنان بوفرة النعم، وقد تقدم قريبا في سورة النبأ.
والغلب: جمع غلباء، وهي مؤنث الأغلب، وهو غليظ الرقبة، يقال غلب كفرح،
(30/116)

يوصف به الإنسان والبعير، وهو هنا مستعار لغلظ أصول الشجر فوصف الحدائق به، إما على تشبيه الحديقة في تكاثف أوراق شجرها والتفافها بشخص غليظ الأوداج والأعصاب فتكون استعارة، وإما على تقدير محذوف، أي غلب شجرها، فيكون نعتا سببيا وتكون الاستعارة في تشبيه كل شجرة بامرأة غليظة الرقبة، وذلك من محاسن الحدائق لأنها تكون قد استكملت قوة الأشجار كما في قوله: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16].
وخصت الحدائق بالذكر لأنها مواضع التنزه والاختراف، ولأنها تجمع أصنافا من الأشجار.
والفاكهة: الثمار التي تؤكل للتفكه لا للاقتيات، مثل الرطب والعنب الرطب والرمان واللوز.
والأب: بفتح الهمزة وتشديد الباء: الكلأ الذي ترعاه الأنعام، روي أن أبا بكر الصديق سئل عن الأب: ما هو? فقال "أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به" وروي أن عمر بن الخطاب قرأ يوما على المنبر {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} إلى {وَأَبًّا} فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب? ثم رفع عصا كانت في يده وقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك ياابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وفي "صحيح البخاري" عن عمر بعض هذا مختصرا.
والذي يظهر لي في انتفاء علم الصديق والفاروق بمدلول الأب وهما من خلص العرب لأحد سببين:
إما لأن هذا اللفظ كان قد تنوسي من استعمالهم فأحياه القرآن لرعاية الفاصلة فإن الكلمة قد تشتهر في بعض القبائل أو في بعض الأزمان وتنسى في بعضها مثل اسم السكين عند الأوس والخزرج، فقد قال أنس بن مالك ما كنا نقول إلا المدية حتى سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان عليه السلام قال "ائيتوني بالسكين اقسم الطفل بينهما نصفين".
وإما أن كلمة الأب تطلق على أشياء كثيرة منها النبت الذي ترعاه الأنعام، ومنها التبن، ومنها يابس الفاكهة، فكان إمساك أبي بكر وعمر عن بيان معناه لعدم الجزم بما أراد الله منه على التعيين، وهل الأب مما يرجع إلى قوله: {مَتَاعًا لَكُمْ} أو إلى قوله:
(30/117)

{وَِلأَنْعَامِكُمْ} في جمع ما قسم قبله.
وذكر في الكشاف وجها آخر خاصا بكلام عمر فقال إن القوم كانت أكبر همتهم علكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم، فأراد عمر أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان. وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له ولأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله على ما تبين لك مما عدد من نعمه ولا تتشاغل عنه بطلب الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن اه. ولم يأت كلام "الكشاف" بأزيد من تقرير الإشكال.
وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ} حال من المذكورات يعود إلى جميعها على قاعدة ورود الحال بعد مفردات متعاطفة، وهذا نوع من التنازغ.
وقوله: {وَِلأَنْعَامِكُمْ} عطف قوله: {لكم} .
والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم ينقطع، وفيه لف ونشر مشوش، والسامع يرجع كل شيء من المذكورات إلى ما يصلح له لظهوره. وهذه الحال واقعة موقع الإدماج أدمجت الموعظة والمنة في خلال الاستدلال.
[33-42] {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
الفاء للتفريع على اللوم والتوبيخ في قوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] وما تبعه من الاستدلال على المشركين من قوله: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] إلى قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس:25]، ففرع على ذلك إنذار بيوم الجزاء، مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التعريض والتصريح بالامتنان في قوله: {إِلَى طَعَامِهِ} [عبس:24] وقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] على نحو ما تقدم في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} من سورة النازعات [34].
والصاخة: صيحة شديدة من صيحات الإنسان تصخ الأسماع، أي تصمها
(30/118)

يقال: صخ يصخ قاصرا ومتعديا، ومضارعه يصخ بضم عينه في الحالين. وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافا لا جدوى له، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي، فالصاخة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم، وتحصل صيحات منها أصوات تزلزل الأرض واصطدام بعض الكواكب بالأرض مثلا، ونفخة الصور التي تبعث عندها الناس. و"إذا" ظرف وهو متعلق ب {جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} وجوابه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الآيات.
والمجيء مستعمل في الحصول مجازا، شبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر.
و {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} بدل من {إِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} بدلا مطابقا.
والفرار: الهروب للتخلص من مخيف.
وحرف "من" هنا يجوز أن يكون بمعنى التعليل الذي يعدى به فعل الفرار إلى سبب الفرار حين يقال: فر من الأسد، وفر من العدو، وفر من الموت، ويجوز أن يكون بمعنى المجاوزة مثل "عن".
وكون أقرب الناس للإنسان يفر منهم يقتضي هول ذلك اليوم بحيث إذا رأى ما يحل من العذاب بأقرب الناس إليه توهم أن الفرار منه ينجيه من الوقوع في مثله، إذ قد علم أنه كان مماثلا لهم فيما ارتكبوه من الأعمال فذكرت هنا أصناف من القرابة، فإن القرابة آصرة تكون لها في النفس معزة وحرص على سلامة صاحبها وكرامته. والألف يحدث في النفس حرصا على الملازمة والمقارنة، وكلا هذين الوجدانين يصد صاحبه عن المفارقة فما قولك في هول يغشى على هذين الوجدانين فلا يترك لهما مجالا في النفس.
ورتبت أصناف القرابة في الآية حسب الصعود من الصنف إلى من هو أقوى منه تدرجا في تهويل ذلك اليوم.
فابتدىء بالأخ لشدة اتصاله بأخيه من زمن الصبا فينشأ بذلك إلف بينهما يستمر طول الحياة، ثم ارتقي من الأخ إلى الأبوين وهما أشد قربا لأبنيهما، وقدمت الأم في الذكر لأن إلف ابنها بها أقوى منه بأبيه وللرعي على الفاصلة، وانتقل إلى الزوجة والبنين وهما مجتمع عائلة الإنسان وأشد الناس قربا به وملازمة.
(30/119)

وأطنب بتعداد هؤلاء الأقرباء دون أن يقال: يوم يفر المرء من أقرب قرابته مثلا لإحضار صورة الهول في نفس السامع.
وكل من هؤلاء القرابة إذا قدرته هو الفار كان من ذكر معه مفرورا منه إلا قوله: {وَصَاحِبَتِهِ} لظهور أن معناه والمرأة من صاحبها، ففيه اكتفاء، وإنما ذكرت بوصف الصاحبة الدال على القرب والملازمة دون وصف الزوج لأن المرأة قد تكون غير حسنة العشرة لزوجها فلا يكون فراره منها كناية عن شدة الهول فذكر بوصف الصاحبة.
والأقرب أن هذا فرار المؤمن من قرابته المشركين خشية أن يؤاخذ بتبعتهم إذ بقوا على الكفر.
وتعليق جار الأقرباء بفعل {يَفِرُّ الْمَرْءُ} يقتضي أنهم قد وقعوا في عذاب يخشون تعديه إلى من يتصل بهم.
وقد اجتمع في قوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} إلى آخره أبلغ ما يفيد هول ذلك اليوم بحيث لا يترك هوله للمرء بقية من رشده فإن نفس الفرار للخائف مسبة فيما تعارفوه لدلالته على جبن صاحبه وهم يتعيرون بالجبن وكونه يترك أعز الأعزة عليه مسبة عظمى.
وجملة {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لزيادة تهويل اليوم، وتنوين {شأن} للتعظيم.
وحيث كان فرار المرء من الأقرباء الخمسة يقتضي فرار كل قريب من ألئك من مثله كان الاستئناف جامعا للجميع تصريحا بذلك المقتضى، فقال {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} أي عن الاشتغال بغيره من المذكورات بله الاشتغال عمن هو دون أولئك من القرابة والصحبة.
والشأن: الحال المهم.
وتقديم الخبر في قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ} على المبتدأ ليتأتى تنكير {شَأْنٌ} الدال على التعظيم لأن العرب لا يبتدئون بالنكرة في جملتها إلا بمسوغ من مسوغات عدها النحاة بضعة عشر مسوغا، ومنها تقديم الخبر على المبتدأ.
والإغناء: جعل الغير غنيا، أي غير محتاج لشيء في عرضه. وأصل الإغناء والغني: حصول النافع المحتاج إليه، قال تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:67]
(30/120)

وقال {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ} [الحاقة:28]. وقد استعمل هنا في معنى الإشغال والإشغال أعم.
فاستعمل الإغناء الذي هو نفع في معنى الإشغال الأعم على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة إيماء إلى أن المؤمنين يشغلهم عن قرابتهم المشركين فرط النعيم ورفع الدرجات كما دل عليه قوله عقبه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} إلى آخر السورة.
وجملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} جواب "إذا" أي إذا جاءت الصاخة كان الناس صنفين صنف وجوههم مسفرة وصنف وجوههم مغبرة.
وقدم هنا ذكر وجوه أهل النعيم على وجوه أهل الجحيم خلاف قوله في سورة النازعات [37] {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} ثم قوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] إلى آخره لأن هذه السورة أقيمت على عماد التنويه بشأن رجل من أفاضل المؤمنين والتحقير لشأن عظيم من صناديد المشركين فكان حظ الفريقين مقصودا مسوقا إليه الكلام وكان حظ المؤمنين هو الملتفت إليه ابتداء، وذلك في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] إلى لآخره، ثم قوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 5-6].
وأما سورة النازعات فقد بنيت على تهديد المنكرين للبعث ابتداء من قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6-8] فكان السياق للتهديد والوعيد وتهويل ما يلقونه يوم الحشر، وأما ذكر حظ المؤمنين يومئذ فقد دعا إلى ذكره الاستطراد على عادة القرآن من تعقيب الترهيب بالترغيب.
وتنكير {وجوه} الأول والثاني للتنويع، وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.
وإعادة {يومئذ} لتأكيد الربط بين الشرط وجوابه ولطول الفصل بينهما والتقدير: وجوه مسفرة يوم يفر المرء من أخيه إلى آخره.
وقد أغنت إعادة {يومئذ} عن ربط الجواب بالفاء.
والمسفرة ذات الإسفار، والإسفار النور والضياء، يقال: أسفر الصبح، إذا ظهر ضوء الشمس في أفق الفجر، أي وجوه متهللة فرحا وعليها أثر النعيم.
و {ضاحكة} أي كناية عن السرور.
و {مستبشرة} معناه فرحة، والسين والتاء فيه للمبالغة مثل: استجاب، ويقال: بشر،
(30/121)

أي فرح وسر، قال تعالى: {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ} [يوسف:19] أي يا فرحتي.
وإسناد الضحك والاستبشار إلى الوجوه مجاز عقلي لأن الوجوه محل ظهور الضحك والاستبشار، فهو من إسناد الفعل إلى مكانه، ولك أن تجعل الوجوه كناية عن الذوات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27].
وهذه وجوه أهل الجنة المطمئنين بالا المكرمين عرضا وحضورا.
والغبرة بفتحتين الغبار كله، والمراد هنا إنها معفرة بالغبار إهانة من أثر الكبوات.
و {ترهقها} تغلب عليها وتعلوها.
والقترة: بفتحتين شبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم، كذا قال الراغب، وهو غير الغبرة كما تقتضيه الآية لئلا يكون من الإعادة، وهي خلاف الأصل ولا داعي إليها. وسوى بينهما الجوهري وتبعه ابن منظور وصاحب القاموس.
وهذه وجوه أهل الكفر، يعلم ذلك من سياق هذا التنويع، وقد صرح بذلك بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين.
وجيء باسم الإشارة لزيادة الإيضاح تشهيرا بالحالة التي سببت لهم ذلك.
وضمير الفصل هنا الإفادة التقوى.
وأتبع وصف {الكفرة} بوصف {الفجرة} مع أن وصف الكفر أعظم من وصف الفجور لما في معنى الفجور من خساسة العمل فذكر وصفاهم الدالان عن مجموع فساد الاعتقاد وفساد العمل.
وذكر وصف {الفجرة} بدون عاطف يفيد أنهم جمعوا بين الكفر والفجور.
(30/122)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكوير
لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها تسمية صريحة. وفي حديث الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . وليس هذا صريحا في التسمية لأن صفة يوم القيامة في جميع هذه السورة بل هو في الآيات الأول منها، فتعين أن المعنى: فليقرأ هذه الآيات، وعنونت في "صحيح البخاري" وفي "جامع الترمذي" "سورة إذا الشمس كورت"، وكذلك عنونها الطبري.
وأكثر التفاسير يسمونها "سورة التكوير" وكذلك تسميتها في المصاحف وهو اختصار لمدلول "كورت".
وتسمى "سورة كورت" تسمية بحكاية لفظ وقع فيها. ولم يعدها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة في عداد نزول سور القرآن، نزلت بعد سورة الفاتحة وقبل سورة الأعلى.
وعدد آيها تسع وعشرون.
أغراضها
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحا.
وعلى إثبات البعث وابتدىء بوصف الأهوال التي تتقدمه وأنتقل إلى وصف أهوال
(30/123)

تقع عقبه.
وعلى التنويه بشأن القرآن الذي كذبوا به لأنه أوعدهم بالبعث زيادة لتحقيق وقوع البحث إذ رموا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والقرآن بأنه يأتيه به شيطان.
[1-14] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ، وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
الافتتاح ب {إِذَا} افتتاح متشوق لأن {إِذَا} ظرف يستدعي متعلقا، ولأنه أيضا شرط يؤذن بذكر جواب بعده، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده فعند ما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكن، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة {إِذَا} .
وتعدد الجمل التي أضيف إليها اثنتي عشرة مرة، فإعادة كلمة {إِذَا} بعد واو العطف في هذه الجمل المتعاطفة إطناب، وهذا الإطناب اقتضاه قصد التهويل، والتهويل من مقتضيات الإطناب والتكرير، كما في قصيدة الحارث بن عباد البكري:
قربا مربط النعامة مني الخ
وفي إعادة {إِذَا} إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط فإن زمن سؤال الموءودة ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث.
وقد ذكر في هذه الآيات اثنا عشر حدثا فستة منها تحصل في آخر الحياة الدنيوية، وستة منها تحصل في الآخرة.
وكانت الجمل التي جعلت شروطا ل {إِذَا} في هذه الآية مفتتحة بالمسند إليه المخبر عنه بمسند فعلي دون كونها جملا فعلية ودون تقدير أفعال محذوفة تفسرها الأفعال المذكورة وذلك يؤيد نحاة الكوفة بجواز وقوع شرط {إِذَا} جملة غير فعلية وهو الراجع لأن {إِذَا} غير عريقة في الشرط. وهذا الأسلوب لقصد الاهتمام بذكر ما أسندت إليه الأفعال التي يغلب أن تكون شروط ل {إِذَا} لأن الابتداء بها أدخل في التهويل
(30/124)

والتشويق وليفيد ذلك التقديم على المسند الفعلي تقوي الحكم وتأكيده في جميع تلك الجمل ردا على إنكار منكريه فلذلك قيل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ولم يقل: إذا كورت الشمس، وهكذا نظائره.
وجواب الشروط الاثني عشر هو قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} وتتعلق به الظروف المشربة معنى الشرط.
وصيغة الماضي في الجمل الثنتي عشرة الواردة شروطا ل {إذا} مستعملة في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوع الشرط.
وتكوير الشمس: فساد جرمها لتداخل ظاهرها في باطنها بحيث يختل تركيبها فيختل لاختلاله نظام سيرها، ومن قولهم: كور العمامة، إذا أدخل بعضها في بعض ولفها، وقريب من هذا الإطلاق إطلاق الطي في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء:104].
وفسر {كُوِّرَتْ} بمعنى غورت. رواه الطبري عن ابن جبير وقال: هي كلمة معربة عن الفارسية وأن أصلها بالفارسية كور بكر بضم الكاف الأولى وسكون الراء الأخيرة وعلى ذلك عدت هذه الكلمة مما وقع في القرآن من المعرب. وقد عدها ابن السبكي في نظمه الكلمات المعربة في القرآن.
وإذا زال ضوء الشمس انكدرت النجوم لأن معظمها يستنير من انعكاس نور الشمس عليها.
والانكدار: مطاوع كدره المضاعف على غير قياس، أي حصل للنجوم انكدار من تكدير الشمس لها حين زال عنها انعكاس نورها، فلذلك ذكر مطاوع كدر دون ذكر فاعل التكدير.
والكدرة: ضد الصفاء كتغير لون الماء ونحوه.
وفسر الانكدار بالتساقط والانقضاض، وأنشد قول العجاج يصف بازيا:
ابصر خربان فضاء فانكدر
ومعنى تساقطها تساقط بعضها على بعض واصطدامها بسبب اختلال نظام الجاذبية الذي جعل الله لإمساكها إلى أمد معلوم.
(30/125)

وتسيير الجبال انتقالها من أماكنها بارتجاج الأرض وزلزالها. وتقدم في سورة النبأ.
والعشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل إذ بلغت عشرة أشهر لحملها فقاربت أن تضع حملها لأن النوق تحمل عاما كاملا، والعشار أنفس مكاسب العرب ومعنى {عطلت} تركت لا ينتفع بها.
والكلام كناية عن ترك الناس أعمالهم لشدة الهول.
وعلى هذا الوجه يكون ذلك من أشراط الساعة في الأرض فيناسب {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} .
ويجوز أن تكون العشار مستعارة للأسحبة المحملة بالمطر، شبهت بالناقة العشراء. وهذا غير بعيد من الاستعمال، فهم يطلقون مثل هذه الاستعارة للسحاب. كما أطلقوا على السحابة اسم بكر في قول عنترة:
جادت عليه كل بمكر حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
فأطلق على السحابة الكثيرة الماء اسم البكر الحرة، أي الأصيلة من النوق وهي في حملها الأول.
ومعنى تعطيل الأسحبة أن يعرض لها ما يحبس مطرها عن النزول، أو معناه أن الأسحبة الثقال لا تتجمع ولا تحمل ماء، فمعنى تعطيلها تكونها، فيتوالى القحط على الأرض فيهلك الناس والأنعام. وعلى هذا الوجه فذلك من أشراط الساعة العلوية فيناسب تكوير الشمس وانكدار النجوم.
و { الْوُحُوشُ} : جمع وحش وهو الحيوان البري غير المتأنس بالناس.
وحشرها: جمعها في مكان واحد، أي مكان من الأرض عند اقتراب فناء العالم فقد يكون سبب حشرها طوفانا يغمر الأرض من فيضان البحار فكلما غمر جزءا من الأرض فرت وحوشه حتى تجتمع في مكان واحد طالبة النجاة من الهلاك، ويشعر بهذا عطف {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} عليه.
وذكر هذا بالنسبة إلى الوحوش إيماء إلى شدة الهول فالوحوش التي من طبعها نفرة بعضها عن بعض تتجمع في مكان واحد لا يعدو شيء منها على الآخر من شدة الرعب، فهي ذاهلة عما في طبعها من الاعتداء والافتراس، وليس هذا الحشر الذي يحشر الناس به
(30/126)

للحساب بل هذا حشر في الدنيا وهو المناسب لما عد معه من الأشراط، وروي معناه عن أبي بن كعب.
وتسجير البحار: فيضانها قال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} في سورة الطور [6]. والمراد تجاوز مياهها معدل سطوحها واختلاط بعضها ببعض وذلك من آثار اختلال قوة كرة الهواء التي كانت ضاغطة عليها، وقد وقع في آية سورة الانفطار [3] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} وإذا حدث ذلك اختلط ماؤها برملها فتغير لونه.
يقال: سجر مضاعفا وسجر مخففا. وقرىء بهما فقرأه الجمهور مشددا. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مخففا.
وقوله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} شروع في ذكر الأحوال الحاصلة في الآخرة يوم القيامة وقد أنتقل إلى ذكرها لأنها تحصل عقب الستة التي قبلها وابتدىء بأولها وهو تزويج النفوس، والتزويج: جعل الشيء زوجا لغيره بعد أن كان كلاهما فردا، والتزويج أيضا: جعل الأشياء أنواعا متماثلة قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [الرعد:3] لأن الزوج يطلق على النوع والصنف من الأشياء والنفوس: جمع نفس، والنفس يطلق على الروح، قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 27-28] وقال {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ} [الأنعام:93].
وتطلق النفس على ذات الإنسان قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وقال {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقال {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] أي فليسلم الداخل على أمثاله من الناس.
فيجوز أن يكون معنى النفوس هنا الأرواح، أي تزوج الأرواح بالأجساد المخصصة لها فيصير الروح زوجا مع الجسد بعد أن كان فردا لا جسم له في برزخ الأرواح، وكانت الأجساد بدون أرواح حين يعاد خلقها، أي وإذا أعطيت الأرواح للأجساد. وهذا هو البعث وهو المعنى المتبادر أولا، وروي عن عكرمة.
ويجوز أن يكون المعنى وإذا الأشخاص نوعت وصنفت فجعلت أصنافا: المؤمنون، والصالحون، والكفار، والفجار، قال تعالى: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ} [الواقعة:7-10] الآية.
(30/127)

ولعل قصد إفادة هذا التركيب لهذين المعنيين هو مقتضى العدول عن ذكر ما زوجت النفوس به. وأول منازل البعث اقتران الأرواح بأجسادها، ثم تقسيم الناس إلى مراتبهم للحشر، كما قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] ثم قال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} [الزمر:71] ثم قال {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} [الزمر:73] الآية.
وقد ذكروا معاني أخرى لتزويج النفوس في هذه الآية غير مناسبة للسياق.
وبمناسبة ذكر تزويج النفوس بالأجساد خص سؤال الموءودة بالذكر دون غيره مما يسأل عنه المجرمون يوم الحساب. ذلك لأن إعادة الأرواح إلى الأجساد كان بعد مفارقتها بالموت، والموت إما بعارض جسدي من انحلال أو مرض وإما باعتداء عدواني من قتل أو قتال، وكان من أفظع الأعتداء على إزهاق الأرواح من أجسادها اعتداء الآباء على نفوس أطفالهم بالوأد، فإن الله جعل في الفطرة حرص الآباء على استحياء أبناءهم وجعل الأبوين سبب إيجاد الأبناء، فالوأد أفظع أعمال أهل الشرك. وسؤال الموءودة سؤال تعريضي مراد منه تهديد وائدها ورعبه بالعذاب.
وظاهر الآية أن سؤال الموءودة وعقوبة من وأدها أول ما يقضى فيه يوم القيامة كما يقتضي ذلك جعل هذا السؤال وقتا تعلم عنده كل نفس ما أحضرت فهو من أول ما يعلم به حين الجزاء.
والوأد: دفن الطفلة وهي حية: قيل هو مقلوب آداه، إذا أثقله لأنه إثقال الدفينة بالتراب. قال في "الكشاف" كان الرجل إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها البسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية، وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية يقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة وإن ولدي ابنا حبسته اه.
وكانوا يفعلون ذلك خشية من إغارة العدو عليهم فيسبي نساءهم ولخشية الإملاق في سني الجدب لأن الذكر يحتال للكسب بالغارة وغيرها والأنثى عالة على أهلها، قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} [الإسراء:31] وقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى
(30/128)

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58-59].
وإذ قد فشى فيهم كراهية ولادة الأنثى فقد نما في نفوسهم بغضها فتحركت فيها الخواطر الإجرامية فالرجل يكره أن تولد له أنثى لذلك، وامرأته تكره أن تولد لها أنثى خشية من فراق زوجها إياها وقد يهجر الرجل امرأته إذا ولدت أنثى.
وقد توارثت هذا الجهل أكثر الأمم على تفاوت بينهم فيه، ومن كلام بعضهم وقد ماتت ابنته نعم الصهر القبر.
ومن آثار هذا الشعور حرمان البنات من أموال آباءهن بأنواع من الحيل مثل وقف أموالهم على الذكور دون الإناث وقد قال مالك: إن ذلك من سنة الجاهلية، ورأى ذلك الحبس باطلا، وكان كثير من أقرباء الميت يلجئون بناته إلى إسقاط حقهن في ميراث أيهن لأخوتهن في فور الأسف على موت أبيهن فلا يمتنعن من ذلك ويرين الامتناع من ذلك عارا عليهن فإن لم يفعلن قطعهن أقرباؤهن.
وتعرف هذه المسألة في الفقه بهبة بنات القبائل. وبعضهم يعدها من الإكراه.
ولم يكن الوأد معمولا به عند جميع القبائل، قيل: أول من وأد البنات من القبائل ربيعة، وكانت كندة تئد البنات، وكان بنو تميم يفعلون ذلك، ووأد قيس أبن عاصم المنقري من بني تميم ثمان بنات له قبل إسلامه.
ولم يكن الوأد في قريش البتة. وكان صعصعة بن ناجية جد الفرزدق من بني تميم يفتدي من يعلم أنه يريد وأد بنته من قومه بناقتين عشراوين وجمل فقيل: إنه افتدى ثلاثمائة وستين موءودة، وقيل وسبعين وفي "الأغاني": وقيل أربعمائة.
وفي "تفسير القرطبي": فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ومثل هذا في كتاب الشعراء لأبن قتيبة وبين العددين بون بعيد فلعل في أحدهما تحريفا.
وفي توجيه السؤال إلى الموءودة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} في ذلك الحشر إدخال الروع على من وأدها، وجعل سؤالها عن تعيين ذنب أوجب قتلها للتعريض بالتوبيخ والتخطئة للذي وأدها وليكون جوابها شهادة على من وأدها فيكون استحقاقه العقاب أشد وأظهر.
(30/129)

وجملة {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} بيان لجملة {سُئِلَتْ} .
و"أي" اسم استفهام يطلب به تميز شيء من بين أشياء تشترك معه في حال.
والاستفهام في {بِأَيِّ ذَنْبٍ} تقريري، وإنما سئلت عن تعيين الذنب الموجب قتلها دون أن تسأل عن قاتلها لزيادة التهديد لأن السؤال عن تعيين الذنب مع تحقق الوائد الذي يسمع ذلك السؤال أن لا ذنب لها إشعار للوائد بأنه غير معذور فيما صنع بها.
وينتزع من قوله تعالى: {سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} الوارد في سياق نفي ذنب عن الموءودة يوجب قتلها استدلال على أن من ماتوا من أطفال المشركين لا يعتبرون مشركين مثل آباءهم، وأول من رأيته تعرض لهذا الاستدلال الزمخشري في "الكشاف" . وذكر أن ابن عباس استدل على هذا المعنى قال في "الكشاف" وفيه دليل على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإذ أبكت الله الكافر ببراءة الموءودة من الذنب فما أقبح به وهو الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يكر على هذا التبكيت فيفعل بها ما تنسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي. وعن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية اه. فأشار إلى ثلاثة أدلة:
أحدها: دلالة الإشارة، أي لأن قوله تعالى: {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} يشير إلى أنها لا ذنب لها، وهذا استدلال ضعيف لأن الذنب المنفي وجوده بطريقة الاستفهام المشوب بإنكار إنما هو الذنب الذي يخول لأبيها وأدها لا إثبات حرمتها وعصبة دمها فتلك قضية أخرى على تفصيل فيها.
الثاني: قاعدة إحالة فعل القبيح على الله تعالى على قاعدة التحسين والتقبيح عند المعتزلة وإحالتهم الظلم على الله إذا عذب أحدا بدون فعله، وهو أصل مختلف فيه بين الأشاعرة والمعتزلة. فعندنا أن تصرف الله في عبيده لا يوصف بالظلم خلافا لهم على أن هذا الدليل مبني على أساس الدليل الأول وقد علمت أنه غير سالم من النقض.
الثالث: ما نسبه إلى ابن عباس وهو يشير إلى ما أخرجه ابن أبي حاتم بسنده إلى عكرمة أنه قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب بقول الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} . وقد أجيب عن القول المروي عن ابن عباس بأنه لم يبلغ مبلغ الصحة. وهذه مسألة من أصول الدين لا يكتفى فيها إلا بالدليل القاطع.
(30/130)

واعلم أن الأحاديث الصحيحة في حكم أطفال المشركين متعارضة، فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد أو ذراري المشركين. فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" ، وهذا الجواب يحتمل الوقت عن الجواب، أي الله أعلم بحالهم كقول موسى عليه السلام {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} [طه:52] جوابا لقول فرعون {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]. ويحتمل أن المعنى الله أعلم بحال كل واحد منهم لو كبر ماذا يكون عاملا من كفر أو إيمان، أي فيعامله بما علم من حاله.
وأخرج البخاري ومسلم ببعض اختلاف في اللفظ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" الحديث. زاد في رواية مسلم ثم يقول أي أبو هريرة إقرأوا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30] فيقتضي أنهم يولدون على فطرة الإسلام حتى يدخل عليه من أبويه أو قريبه أو قرينه ما يغيره عن ذلك وهذا أظهر ما يستدل به في هذه المسألة.
قال المازري في "المعلم" : فاضطرب العلماء فيهم. والأحاديث وردت ظواهرها مختلفة واختلاف هذه الظواهر سبب اضطراب العلماء في ذلك والقطع ههنا يبعد اه.
وقول أبي هريرة: وأقرأوا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الخ مصباح ينير وجه الجمع بين هذه الأخبار: وقد ورد في حديث الرؤيا عن سمرة بن جندب ما هو صريح في ذلك إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأما الرجل الذي في الروضة فأنه إبراهيم عليه السلام وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة" . قال سمرة فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأولاد المشركين" . واختلفت أقوال العلماء في أولاد المشركين فقال ابن المبارك وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه والشافعي هم في مشيئة الله. والصحيح الذي عليه المحققون والجمهور أنهم في الجنة وهو ظاهر قول أبي هريرة. وذهب الأزارقة إلى أن أولاد المشركين تبع لآبائهم، وقال أبو عبيد سألت محمد بن الحسن عن حديث "كل مولود يولد على الفطرة" فقال كان ذلك أول الإسلام قبل أن تنزل الفرائض وقبل أن يفرض الجهاد. قال أبو عبيد: كأنه يعني أنه لو ولد على الفطرة لم يرثاه لأنه مسلم وهما كافران فلما فرضت الفرائض على خلاف ذلك جاز أن يسمى كافرا وعلم أنه يولد على دينهما.
وهنالك أقوال أخرى كثيرة غيرة معزوة إلى معين ولا مستندة لأثر صحيح.
(30/131)

وذكر المازري: أن أطفال الأنبياء في الجنة بإجماع وأن جمهور العلماء على أن أطفال بقية المؤمنين في الجنة وبعض العلماء وقف فيهم، وقال النووي: أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة.
وقرأ الجمهور "قتلت" بتخفيف المثناة الأولى، وقرأه أبو جعفر بتشديدها، وهي تفيد معنى أنه قتل شديد فظيع.
ونشر الصحف حقيقته: فتح طيات الصحيفة، أو إطلاق التفافها لتقرأ كتابتها وتقدم في قوله: {أَنْ يُؤْتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً} في سورة المدثر [52]، وعند قوله: {كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} في سورة الإسراء [13].
والمراد: صحف الأعمال، وهي إما صحف حقيقية مخالفة للصحف المألوفة، وإما مجازية أطلقت على أشياء فيها إحصاء أعمال الناس، وقد تقدم غير مرة.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب {نُشِرَتْ} بتخفيف الشين. وقرأه الجمهور بتشديد الشين للتكثير لكثرة الصحف المنشورة.
والكشط: إزالة الإهاب عن الحيوان الميت وهو أعم من السلخ لأن السلخ لا يقال إلا في إزالة أهاب البقر والغنم دون إزالة إهاب الإبل فإنه كشط ولا يقال سلخ، والظاهر أن المراد إزالة تقع في يوم القيانة لأنها ذكرت في أثناء أحداث يوم القيامة بعد قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} وقوله: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} .
فالظاهر أن السماء تبقى منشقة منفطرة تعرج الملائكة بينها وبين أرض المحشر حتى يتم الحساب فإذا قضي الحساب أزيلت السماء من مكانها فالسماء مكشوطة والمكشوط عنه هو عالم الخلود، ويكون {كشطت} إستعارة للإزالة.
ويجوز أن يكون هذا من الأحداث التي جعلت أشراطا للساعة وأخر ذكره لمناسبة ذكر نشر الصحف لأن الصحف تنشرها الملائكة وهم من أهل السماء فيكون هذا الكشط من قبيل الانشقاق في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] والانفطار في قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} إلى قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 1-5] فيكون الكشط لبعض جزاء السماء والمكشوط عنه بعض آخر، فيكون من قبيل قوله تعالى: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] ومن قبيل الطي في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا
(30/132)

بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] لأن ظاهره اتصال طي السماء بإعادة الخلق، وتصير الأشراط التي تحصل قبل البعث سبعة والأحداث التي تقع بعد البعث خمسة.
والجحيم أصله: النار ذات الطبقات من الوقود من حطب ونحوه بعضها فوق بعض، وصار علما بالغلبة على جهنم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن. وتسعيرها أو إسعارها: إيقادها، أي هيأت لعذاب من حق عليهم العذاب.
وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {سُعِّرَتْ} بتشديد العين مبالغ في الإسعار. وقرأه الباقون بالتخفيف.
وقوبلت بالجنة دار النعيم واسم الجنة علم بالغلبة على دار النعيم، و {أُزْلِفَتْ} قربت، والزلفى: القرب، أي قربت الجنة من أهلها، أي جعلت بالقرب من محشرهم بحيث لا تعب عليهم في الوصول إليها وذلك كرامة لهم.
وأعلم أن تقديم المسند إليه في الجمل الثنتى عشرة المفتتحات بكلمة {إذا} من قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى هنا، والإخبار عنه بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال: إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النجوم، وهكذا كما قال {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] إن ذلك التقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلا بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه.
وإن إطالة ذكر تلك الجمل تشويق للجواب الواقع بعدها بقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} .
وجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} يتنازع التعلق به كلمات {إذا} المتكررة.
وعن عمر بن الخطاب إنه قرأ أول هذه السورة فلما بلغ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} قال: لهذا أجريت القصة أي هو جواب القسم ومعنى {عَلِمَتْ} إنها تعلم بما أحضرت فتعلمه.
وقوله: {نَفْسٌ} نكرة في سياق الشرط مراد بها العموم، أي علمت كل نفس ما أحضرت، واستفادة العموم من النكرة في سياق الإثبات تحصل من القرينة الدالة على عدم القصد إلى واحد من الجنس، والقرينة هنا وقوع لفظ نفس في جواب هذه الشروط التي لا يخطر بالبال أن تكون شروطا لشخص واحد، وقد قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30].
(30/133)

والإحضار: جعل الشيء حاضرا.
ومعنى {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} حصول اليقين بما لم يكن لها من علم من حقائق الأعمال التي كان علمها بها أشتاتا: بعضه معلوم على غير وجهه، وبعضه معلوم صورته مجهولة عواقبه، وبعضه مغفول عنه. فنزل العلم الذي كان حاصلا للناس في الحياة الدنيا منزلة عدم العلم، وأثبت العلم لهم في ذلك اليوم علم أعمالهم من خير أو شر فيعلم ما لم يكن له به علم مما يحقره من أعماله ويتذكر ما كان قد علمه من قبل، وتذكر المنسي والمغفول عنه نوع من العلم.
وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال. ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشببه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل {أَحْضَرَتْ} استعارة. ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبي صلى الله عليه وسلم للذي سأله متى الساعة "ماذا أعددت لها" .
وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سبب فعله، فحصل هنا مجازان: مجاز لغوي، ومجاز عقلي، وحقيقتهما في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} .
وجعلت معرفة النفوس لجزاء أعمالها حاصلة عند حصول مجموع الشروط التي ذكرت في الجمل الثنتي عشرة لأن بعض الأحوال التي تضمنتها الشروط مقارن لحصول علم النفوس بأعمالها وهي الأحوال الستة المذكورة أخيرا، وبعض الأحوال حاصل من قبل بقليل وهي الأحوال الستة المذكورة أولا. فنزل القريب منزلة المقارن، فلذلك جعل الجميع شروطا ل {إذا} .
[15-21] {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} .
الفاء لتفريع القسم وجوابه على الكلام السابق للإشارة إلى ما تقدم من الكلام هو بمنزلة التمهيد لما بعد الفاء فإن الكلام السابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء وهم قد أنكروه وكذبوا القرآن الذي أنذرهم به، فلما قضي حق الإنذار به وذكر أشراطه فرع عنه
(30/134)

تصديق القرآن الذي أنذرهم بهوإنه موحى به من عند الله.
فالتفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذكر معا، وقد جاء تفريع القسم لمجرد تفريع ذكر كلام على كلام آخر كقول زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
عقب نسيب معلقته الذي لا يتفرع عن معانيه ما بعد القسم وإنما قصد به إن ما تقدم من الكلام إنما هو للإقبال على ما بعد الفاء، وبذلك يظهر تفوق التفريع الذي في هذه الآية على تفريع بيت زهير.
ومعنى "لا أقسم": إيقاع القسم، وقد عدت "لا" زائدة، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة الواقعة [75].
والقسم مراد به تأكيد الخبر وتحقيقه، وأدمج فيف أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى.
و"الخنس": جمع خانسة، وهي التي تخنس، أي تختفي، يقال: خنست البقرة والظبية، إذا اختفت في الكناس.
و"الجواري": جمع جارية، وهي التي تجري، أي تسير سيرا حثيثا.
و {الْكُنَّسِ} : جمع كانسة، يقال: كنس الظبي، إذا دخل كناسه بكسر الكاف وهو البيت الذي يتخذه للمبيت.
وهذه الصفات أريد بها صفات مجازية لأن الجمهور على أن المراد بموصوفاتها الكواكب، وصفن بذلك لأنها تكون في النهار مختفية عن الأنظار فشبهت بالوحشية المختفية في شجر ونحوه، فقيل: الخنس وهو من بديع التشبيه، لأن الخنوس اختفاء الوحش عن أنظار الصيادين ونحوهم دون السكون في كناس. وكذلك الكواكب لأنها لا ترى في النهار لغلبة شعاع الشمس على أفقها وهي مع ذلك موجودة في مطالعها.
وشبه ما يبدو للأنظار من تنقلهافي سمت الناظرين للأفق باعتبار اختلاف ما يسامتها من جزء من الكرة الأرضية بخروج الوحش، فشبهت حالة بدوها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحش تجري بعد خنوسها تشبيه التمثيل. وهو يقتضي أنها صارت مرئية فلذلك عقب بعد ذلك بوصفها بالكنس، أي عند غروبها تشبيها لغروبها بدخول الظبي أو
(30/135)

البقرة الوحشية كناسها بعد الانتشار والجري.
فشبه طلوع الكوكب بخروج الوحشية من كناسها، وشبه تنقل مرآها للناظر بجري الوحشية عند خروجها من كناسها صباحا، قال لبيد:
حتى إذا انحسر الظلام وأسفرت ... بكرت تزل عن الثرى أزلامها
وشبه غروبها بعد سيرها بكنوس الوحشية في كناسها وهو تشبيه بديع فكان قوله: {بِالْخُنَّسِ} استعارة وكان {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ترشيحين للاستعارة.
وقد حصل من مجموع الأوصاف الثلاث ما يشبه اللغز يحسب به أن الموصوفات ظباء أو وحوش لأن تلك الصفات حقائقها من أحوال الوحوش، والألغاز طريقة مستملحة عند بلغاء العرب وهي عزيزة في كلامهم، قال بعض شعرائهم وهو من شواهد العربية:
فقلت أعيراني القدوم لعلني ... أخط بها قبرا لأبيض ماجد
أراد أنه يصنع بها غمدا لسيف صقيل مهند.
وعن ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن عباس: حمل هذه الأوصاف على حقائقها المشهورة، وإن الله أقسم بالظباء وبقر الوحش.
والمعروف في أقسام القرآن أن تكون بالأشياء العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى أو الأشياء المباركة.
ثم عطف القسم ب {الليل} على القسم ب"الكواكب" لمناسبة جريان الكواكب في الليل، ولأن تعاقب الليل والنهار من أجل مظاهر الحكمة الإلهية في هذا العالم.
وعسعس الليل عسعاسا وعسة، قال مجاهد عن ابن عباس: أقبل بظلامه، وقال مجاهد أيضا عن ابن عباس معناه: أدبر ظلامه، وقال زيد بن أسلم وجزم به الفراء وحكى عليه الإجماع. وقال المبرد والخليل هو من الأضداد يقال: عسعس، إذ أقبل ظلامه، وعسعس، إذا أدبر ظلامه. قال ابن عطية: قال المبرد: أقسم الله بإقبال الليل وإدباره معا اه.
وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادته كلا حالين صالحين للقسم به فيهما لأنهما من مظاهر القدرة إذ يعقب الظلام الضياء ثم يعقب الضياء الظلام، وهذا إيجاز.
وعطف عليه القسم بالصبح حين تنفسه، أي انشقاق ضوئه لمناسبة ذكر الليل، ولأن
(30/136)

تنفس الصبح من مظاهر بديع النظام الذي جعله الله في هذا العالم.
والتنفس: حقيقته خروج النفس من الحيوان، أستعير لظهور الضياء مع بقايا الظلام على تشبيه خروج الضياء بخروج النفس على طريقة الاستعارة المصرحة، أو لأنه إذا بدا الصباح أقبل معه نسيم فجعل ذلك كالتنفس له على طريقة المكنية بتشبيه الصبح بذي نفس مع تشبيه النسيم بالأنفاس.
وضمير {إنه} عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر ولكنه معلوم من المقام في سياق الإخبار بوقوع البعث فإنه مما أخبرهم به القرآن وكذبوا بالقرآن لأجل ذلك.
والرسول الكريم يجوز أن يراد به جبريل عليه السلام، وصف جبريل برسول لأنه مرسل من الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
وإضافة "قول" إلى {رَسُولٍ} إما لأدنى ملابسة بأن جبريل يبلغ ألفاظ القرآن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحكيها كم أمره الله تعالى فهو قائلها، أي صادرة منه ألفاظها.
وفي التعبير عن جبريل بوصف {رَسُولٍ} إيماء إلى أن القول الذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي.
قال ابن عطية: وقال آخرون الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم في الآية كلها اه. ولم يعين اسم أحد ممن قالوا هذا من المفسرين.
وأستطرد في خلال الثناء على القرآن الثناء على الملك المرسل به تنويها بالقرآن فإجراء أوصاف الثناء على {رَسُولٍ} للتنويه به أيضا، وللكناية على أن ما نزل به صدق لأن كمال القائل يدل على صدق القول.
ووصف {رَسُولٍ} بخمسة أوصاف:
الأول: {كَرِيمٍ} وهو النفيس في نوعه.
والوصفان الثاني والثالث: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} . فالقوة حقيقتها مقدرة الذات على الأعمال العظيمة التي لا يقدر عليها غالبا. ومن أوصافه تعالى "القوي"، ومنها مقدرة الذات من إنسان أو حيوان على كثير من الأعمال التي لا يقدر عليها أبناء نوعه.
وضدها الضعف قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ
(30/137)

قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54].
وتطلق القوة مجازا على ثبات النفس على مرادها والإقدام ورباطة الجأش. قال تعالى: {يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] وقال {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63]، فوصف جبريل ب {ذِي قُوَّةٍ} يجوز أن يكون شدة المقدرة كما وصف بذلك في قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} [النجم:6]، ويجوز أن يكون من القوة المجازية وهي الثبات في إيداء ما أرسل به كقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] لأن المناسب للتعليم هو قوة النفس، وأما إذا كان المراد محمد صلى الله عليه وسلم فوصفه ب {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} يراد بها المعنى المجازي وهو الكرامة والاستجابة له.
والمكين: فعيل، صفة مشبهة من مكن بضم الكاف مكانة إذا علت رتبته عند غيره، قال تعالى في قصة يوسف مع الملك {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
وتوسيط قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} بين {ذِي قُوَّةٍ} و {مَكِينٍ} ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز، أي هو ذو قوة عند الله، أي جعل الله مقدرة جبريل تخوله أن يقوم بعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوة التدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى.
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على نحو ما تقدم.
والعندية عندية تعظيم وعناية، ف"عند" للمكان المجازي الذي هو بمعنى الاختصاص والزلفى.
وعدل على اسم الجلالة إلى {ذِي الْعَرْشِ} بالنسبة إلى جبريل لتمثيل حال جبريل ومكانته عند الله بحالة الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك وهو بمحل الكرامة لديه.
وأما بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فللإشارة إلى عظيم شأنه إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأنا.
الوصف الرابع: {مُطَاعٍ} أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم، أو النبي صلى الله عليه وسلم مطاع: أي مأمور الناس بطاعة ما يأمرهم به.
و {ثم} بفتح التاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي
(30/138)

دل عليه قوله: {عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} فيجوز تعلق الظرف ب {مُطَاعٍ} وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم مطاع في العالم العلوي، أي مقرر عند الله أن يطاع فيما يأمر به.
ويجوز أن يتعلق ب {أَمِينٌ} ، وتقديمه على متعلقه للاهتمام بذلك المكان، فوصف جبريل به ظاهر أيضا، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم به بأنه مقررة أمانته في الملأ الأعلى.
والأمين: الذي يحفظ ما عهد له به حتى يؤديه دون نقص ولا تغيير، وهو فعيل أما بمعنى مفعول، أي مأمون من أمنه على كذا. وعلى هذا يقال: امرأة أمين، ولا يقال: أمينة، وأما صفة مشبهة من: آمن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته، وعلى هذا الوجه يقال: امرأة أمينة، ومنه قول الفقهاء في المرأة المشتكية أضرار زوجها: يجعلان عند أمينة وأمين.
[22] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} .
عطف على جملة {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] فهو داخل في خبر القسم جوابا ثانيا عن القسم، والمعنى: وما هو أي القرآن بقول مجنون كما تزعمون. فبعد أن أثنى الله على القرآن بأنه قول رسول مرسل من الله وكان قد تضمن ذلك ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صادق فيما بلغه عن الله تعالى، أعقبه بإبطال بهتان المشركين فيما اختلقوه على النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم {مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان:14] وقولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8]، فأبطل قولهم إبطالا مؤكدا ومؤيدا، فتأكيده بالقسم وبزيادة الباء بعد النفي، وتأييده بما أومأ إليه وصفة بأن الذي بلغه وصاحبهم، فإن وصف صاحب كناية عن كونهم يعلمون خلقه وعقله ويعلمون أنه ليس بمجنون، إذ شأن الصاحب أن لا تخفى دقائق حواله على أصحابه.
والمعنى: نفي أن يكون القرآن من وساوس المجانين، فسلامة مبلغه من الجنون تقتضي سلامة قوله عن أن يكون وسوسة.
ويجري على ما تقدم من القول بأن المراد ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19] النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون قوله: {صَاحِبُكُمْ} هنا إظهارا في مقام الإضمار للتعريض بأنه معروف عندهم بصحة العقل وأصالة الرأي.
والصاحب حقيقته: ذو الصحبة، وهي الملازمة في أحوال التجمع والانفراد
(30/139)

للمؤانسة والموافقة، ومنه قيل للزوج: صاحبة وللمسافر مع غيره صاحب، قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وقال تعالى حكاية عن يوسف {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39]، وقال الحريري في المقامة الحادية والعشرين ولا لكم مني إلا صحبة السفينة.
وقد يتوسعون في إطلاقه على المخالط في أحوال كثيرة ولو في الشر، كقول الحجاج يخاطب الخوارج ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر، واستبطنتم الكفر. وقول الفضل اللهيبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
والمعنى: أن الذي تخاصمونه وتكذبونه وتصفونه بالجنون ليس بمجنون وأنكم مخالطوه وملازموه وتعلمون حقيقته فما قولكم عليه إنه مجنون إلا لقصد البهتان وإساءة السمعة.
فهذا موقع هذه الجملة مع ما قبلها وما بعدها، والقصد من ذلك إثبات صدق محمد صلى الله عليه وسلم ولا يخطر بالبال أنها مسوقة في معرض الموازنة والمفاضلة بين جبريل ومحمد عليهما السلام والشهادة لهما بمزاياهما حتى يشم من وفرة الصفات المجراة على جبريل أنه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا أن المبالغة في أوصاف جبريل مع الاقتصاد في أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم تؤذن بتفضيل أولهما على الثاني.
ومن أسمج الكلام وأضعف الاستدلال قول صاحب الكشاف وناهيك بهذا دليلا على جلالة مكانة جبريل عليه السلام ومباينة منزلته لمنزلة أفضل الإنس محمد صلى الله عليه وسلم إذا وازنت بين الذكرين وقايست بين قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19-20]، وبين قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} اه.
وكيف انصرف نظره عن سياق الآية في الرد على أقوال المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا في جبريل شيئا لأن الزمخشري رام أن ينتزع من الآية دليلا لمذهب أصحاب الاعتزال من تفضيل الملائكة على الأنبياء، وهي مسألة لها مجال آخر، على أنك قد علمت إن الصفات التي أجريت على {رَسُولٍ} في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}
(30/140)

إلى قوله: {أَمِينٍ} [التكوير:19-21]، غير متعين انصرافها إلى جبريل فإنها محتملة الانصراف إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقد يطغى عليه حب الاستدلال لعقائد أهل الاعتزال طغيانا يرمي بفهمه في مهاوي الضآلة، وهل يسمح بال ذي مسكن من علم بمجاري كلام العقلاء أن يتصدى متصد لبيان فضل أحد بأن ينفي عنه إنه مجنون، وهذا كله مبني على تفسير {رَسُولٍ كَرِيمٍ} بجبريل فأما إن أريد به محمد صلى الله عليه وسلم أو هو وجبريل عليهما السلام فهذا مقتلع من جذره.
ولا يخفى إن العدول عن اسم النبي العلم إلى {صَاحِبُكُمْ} لما يؤذن به {صَاحِبُكُمْ} من كونهم على علم بأحواله، وأما العدول عن ضميره إن كان المراد ب {رَسُولٍ} خصوص النبي صلى الله عليه وسلم فمن الإظهار في مقام الإضمار للوجه المذكور وإذا أريد ب {رَسُولٍ} كلاهما فذكر {صَاحِبُكُمْ} لتخصيص الكلام به.
[23] {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} .
عطف على جملة {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22].
والمناسبة بين الجملتين إن المشركين كانوا إذا بلغهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أنه نزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعده استهزأوا وقالوا: إن ذلك الذي يتراءى له هو جني، فكذبهم الله بنفي الجنون عنه ثم بتحقيق أنه إنما رأى جبريل القوي الأمين. فضمير الرفع عائد إلى صاحب من قوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ} وضمير النصب عائد إلى {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وسياق الكرم يبين معاد الرائي والمرئي.
و"الأفق": الفضاء الذي يبدو للعين من الكرة الهوائية بين طرفي مطلع الشمس ومغربها من حيث يلوح ضوء الفجر ويبدو شفق الغروب وهو يلوح كأنه قبة زرقاء والمعنى رآه ما بين السماء والأرض.
و {الْمُبِينِ} : وصف الأفق، أي للأفق الواضح البين.
والمقصود من هذا الوصف نعت الأفق الذي تراءى منه جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام بأنه أفق واضح بين لا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال، وجعلت تلك الصفة علامة على ان المرئي ملك وليس بخيال لأن الأخيلة التي يتخيلها المجانينإنما يتخيلونها على الأرض تابعة لهم على ما تعودوه من وقت الصحة، وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الملك الذي رآه عند نزول سورة المدثر بأنه على كرسي جالس بين السماء والأرض،
(30/141)

ولهذا تكرر ذكر ظهور الملك بالأفق في سورة النجم [5-9] في قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى، وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} إلى أن قال {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:12-15] الآيات، قيل رأى النبي جبريل عليهما السلام بمكة من جهة جبل أجياد من شرقيه.
[24] {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
الضمير عائد إلى {صَاحِبُكُمْ} [التكوير:22] كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدعوا أن جبريل ضنين على الغيب، وإنما ادعوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما وزورا، ولقرب المعاد.
و {الْغَيْبِ} : ما غاب عن عيان الناس، أو عن علمهم وهو تسمية للمصدر. والمراد ما أستأثر الله بعلمه إلا أن يطلع عليه بعض أنبياءه، ومنه وحي الشرائع، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه، ومشاهدة ملك الوحي، وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة [3].
وكتبت كلمة {بِضَنِينٍ} في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء.
وحكي عن أبي عبيد، قال الطبري: هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به.
وفي "الكشاف" هو في مصحف أبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء وقد اختصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه الضاد إذ قال:
الضاد في {بِضَنِينٍ} تجمع البشرا
وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام.
وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا، وذكر في "الكشاف" أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه، لأن القراءتين ما كانتا متواترتين إلا وقد رويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(30/142)

والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالبا إلا نحو حضض بضادين ساقطتين وحظظ بظاءين مشالين وحضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء. فقد قالوا: إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صمغ يقال له: خولان.
ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواترا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر.
وما ذكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم ترو متواترة كما بينا في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير.
وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة، بأن قال ليس هذا بخلاف الكتاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانى اه.
يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتاب المصاحف للقراءات المتواترة، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس.
ولا أرى للاعتذار لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين.
وإذا تواترت قراءة {بِضَنِينٍ} بالضاد الساقطة و {بظنين} بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين.
فأما معنى "ضنين" بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتق من الضن بالضاد مصدر ضن، وإذا بخل، ومضارعه بالفتح والكسر.
(30/143)

فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلبا للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بعوض تعطونه، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهنا أو عرافا يتلقى الأخبار عن الجن إذا كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضا عما يخبرهم به وإن الكاهن يأخذ ما يخبر به ما يسمونه حلوانا، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] ونحو ذلك.
ويجوز أن يكون "ضنين" مجازا مرسلا في الكتمان بعلاقة اللزوم لآن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم، أي ما هو بكاتم الغيب، أي ما يوحى إليه، وذلك أنهم كانوا يقولون {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] وقالوا {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء:93].
ويتعلق {عَلَى الْغَيْبِ} بقوله: {بِضَنِينٍ} .
وحرف "على" على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:105] أي حقيق بي، أو لتضمين "ضنين" معنى حريص، والحرص: شدة البخل وما محمد بكاتم شيئا من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه. وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير. والمعنى: وما صاحبكم بكاتم شيئا من الغيب، أي ما أخبركم به فهو الحق.
وأما معنى "ظنين" بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة، أي مظنون. ويراد إنه مظنون به سوء، أي أن يكون كاذبا فيما يخبر به عن الغيب، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فعدي إلى مفعول واحد. وأصل ذلك أنهم يقولون: ظن به سوءا، فيتعدى إلى متعلقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولا فقالوا ظنه: بمعنى: اتهمه، يقال: سرق لي كذا وظننت فلانا.
وحرف {على} في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه:10]، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون
(30/144)

كما بلغه، أي أن ما بلغه هو الغيب لا ريب فيه، وعكسه قولهم: ائتمنه على كذا.
[25] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} .
عطف على {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير:19]، وهذا رجوع ما أقسم عليه من أن القرآن قول رسول كريم، بعد أن استطرد بينهما بتلك المستطردات الدالة على زيادة كمال هذا القول بقدسية مصدره ومكانة حامله عند الله وصدق متلقيه منه عن رؤيا محقة لا تخيل فيها، فكان التخلص إلى العود لتنزيه القرآن بمناسبة ذكر الغيب في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24].
فإن القرآن من أمر الغيب الذي أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه كثير من الأخبار عن أمور الغيب الجنة والنار ونحو ذلك.
وقد علم أن الضمير عائد إلى القرآن لأنه اخبر عن الضمير بالقول الذي هو من جنس الكلام إذ قال {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] فكان المخبر عنه من قبيل الأقوال لا محالة، فلا يتوهم أن الضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} .
وهذا إبطال لقول المشركين فيه: إنه كاهن، فإنهم كانوا يزعمون إن الكهان تأتيهم الشياطين بأخبار الغيب، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:41-42] وقال {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210-211] وقال {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221-222] وهم كانوا يزعمون أن الكاهن كان يتلقى عن شيطانه ويسمون شيطانه رئيا.
وفي حديث فترة الوحي ونزول سورة والضحى: إن حمالة الحطب امرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أرى شيطانك قد قلاك.
و {رَجِيمٍ} فعيل بمعنى مفعول، أي مرجوم. والمرجوم: المبعد الذي يتباعد الناس من شره فإذا أقبل عليهم رجموه فهو وصف كاشف للشيطان لأنه لا يكون إلا متبرأ منه.
[26] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} .
جملة {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} معترضة بين جملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27].
(30/145)

والفاء لتفريغ التوبيخ والتعجيز على الحجج المتقدمة المثبتة أن القرآن لا يجوز أن يكون كلام كاهن وأنه وحي من الله بواسطة الملك.
وهذا من اقتران الجملة المعترضة بالفاء كما تقدم في قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} في سورة عبس [12].
و"أين" اسم استفهام عن المكان. وهو استفهام إنكاري عن مكان ذهابهم، أي طريق ضلالهم، تمثيلا لحالهم في سلوك طرق الباطل بحال من ظل الطريق الجادة فيسأله السائل منكرا عليه سلوكه، أي أعدل عن هذا الطريق فإنه مضلة.
ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجيز عن طلب طريق يسلكونه إلى مقصدهم من الطعن في القرآن.
والمعنى: أنه قد سدت عليكم طرق بهتانكم إذ اتضح بالحجة الدامغة بطلان ادعاءكم أن القرآن كلام مجنون أو كلام كاهن، فماذا تدعون بعد ذلك.
واعلم أن جملة "أين تذهبون" قد أرسلت مثلا، ولعله من مبتكرات القرآن وكنت رأيت في كلام بعضهم: أين يذهب بك، لمن كان في خطأ وعماية.
[27-28] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} .
بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، وهذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير:25] ولذلك جردت على العاطف، ذلك أن القصر المستفاد من النفي والاستثناء في قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} يفيد قصر القرآن على صفة الذكر، أي لا غير ذلك وهو قصر إضافي قصد منه إبطال أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن، أو قول مجنون، فمن جملة ما أفاده القصر نفي أن يكون قول شيطان رجيم، وبذلك كان فيه تأكيد لجملة {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} .
والذكر اسم يجمع معاني الدعاء والوعظ بحسن الأعمال والزجر عن الباطل وعن الضلال، أي ما القرآن إلا تذكير لجميع الناس ينتفعون به في صلاح اعتقادهم، وطاعة الله ربهم، وتهذيب أخلاقهم، وآداب بعضهم مع بعض، والمحافظة على حقوقهم، ودوام انتظام جماعتهم، وكيف يعاملون غيرهم من الأمم الذين لم يتبعوه.
(30/146)

ف"العالمين" يعم كل البشر لأنهم مدعوون للاهتداء به ومستفيدون مما جاء فيه.
فإن قلت: القرآن يشتمل على أحاديث الأنبياء والأمم وهو أيضا معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم فكيف قصر على كونه ذكرا.
قلت: القصر الإضافي لا يقصد منه إلا تخصيص الصفة بالموصوف بالنسبة إلى صفة أخرى خاصة، على أنك لك أن تجعل القصر حقيقيا مفيدا قصر القرآن على الذكر دون غير ذلك من الصفات، فإن ما اشتمل عليه من القصص والأخبار مقصود به الموعظة والعبرة كما بينت ذلك في المقدمة السابعة.
وأما إعجازه فله مدخل عظيم في التذكير لأن إعجازه دليل على أنه ليس بكلام من صنع البشر، وإذا علم ذلك وقع اليقين بأنه حق.
وأبدل من {لِلْعَالَمِينَ} قوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} بدل بعض من كل، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى: {وَمِنْ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} [الأنعام:99] وقوله: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف:75]، وتقدم في سورة الأنعام. والخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} للذين خوطبوا بقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] وإذا كان القرآن ذكرا لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} من بقية العالمين أيضا بحكم قياس المساواة، ففي الكلام كناية عن ذلك.
وفائدة هذا الإبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاؤوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم، وهو ثناء عليهم.
وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حل بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاؤوا أن يستقيموا، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج، أي سوء العمل والاعتقاد، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت:5] وإما للإعراض عن تلقيه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني، وهو الاعتقاد، والظاهري هو الأفعال والأقوال تشبيها للعمل بخط مستقيم تشبيه معقول بمحسوس. ثم إن الذين لم يشاؤوا أن
(30/147)

يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط بالاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فرط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة.
وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإسلامية ويستخلصون من استقرائها أحكاما كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإسلامية.
وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإنسان العاقل فيما يأتي ويدع، وأنه لا عذر له إذا قال: هذا أمر قدر، وهذا مكتوب عند الله، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها، وبذلك يبطل قول الجبرية، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير.
[29] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
يجوز أن تكون تذييلا أو اعتراضا في آخر الكلام.
ويجوز أن تكون حالا. والمقصود التكميل والاحتراس في معنى لمن شاء منكم أن يستقسم، أي ولمن شاء له ذلك من العالمين، وتقدم في آخر سورة الإنسان قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 29-30].
والفرق بينهما أن في هذه الآية وصف الله تعالى ب {رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهو مفيد التعليل لارتباط مشيئة من شاء الاستقامة من العالمين لمشيئة الله ذلك لأنه رب العالمين فهو الخالق فيهم دواعي المشيئة وأسباب حصولها المتسلسلة وهو الذي أرشدهم للاستقامة على الحق، وبهذا الوصف ظهر مزيد الاتصال بين مشيئة الناس الاستقامة بالقرآن وبين كون القرآن ذكرا للعالمين.
وأما آية سورة الإنسان فقد ذيلت {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30] أي فهو بعلمه وحكمته ينوط مشيئته لهم الاستقامة بمواضع صلاحيتهم لها فيفيد أن من لم يشأ أن يتخذ إلى ربه سبيلا قد حرمه الله تعالى من مشيئته الخير بعلمه وحكمته كناية عن شقائهم.
و {ما} نافية، والاستثناء من مصادر محذوفة دل عليها قوله: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
(30/148)

وتقدم بيان ذلك في سورة الإنسان.
وفي هذه الآية وآية سورة الإنسان إفصاح عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية بمعنى عظيم تحير أهل العلم في الكشف عنها، فمنهم من تطوح به إلى الجبر ومنهم من ارتمى في وهدة القدر، ومنهم من اعتدل فجزم بقوة للعباد حادثة يكون بها اختيارهم لسلوك الخير أو الشر فسماها بعض هؤلاء قدرة حادثة وبعضهم سماها كسبا. وحملوا ما خالف ذلك من ظواهر الآيات والأخبار على مقام تعليم الله عباده التأدب مع جلاله.
وهذا أقصى ما بلغت إلية الأفهام القويمة في مجامل متعارض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن ورائه سلك دقيق يشده قد تقصر عنه الأفهام.
(30/149)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطار
سميت هذه السورة "سورة الانفطار" في المصاحف ومعظم التفاسير.
وفي حديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت" . قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقد عرفت ما فيه من الاحتمال في أول سورة التكوير.
وسميت في بعض التفاسير "سورة إذا السماء انفطرت" وبهذا الاسم عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه". ولم يعدها صاحب "الإتقان" مع السور ذات أكثر من اسم وهو الانفطار.
ووجه التسمية وقوع جملة {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] في أولها فعرفت بها.
وسميت في قليل من التفاسير "سورة انفطرت"، وقيل تسمى "سورة المنفطرة" أي السماء المنفطرة.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة الثانية والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة النازعات وقبل سورة الانشقاق.
وعدد آيها تسع عشرة آية.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على: إثبات البعث، وذكر أهوال تتقدمه.
(30/150)

وإيقاظ المشركين للنظر في الأمور التي صرفتهم عن الاعتراف بتوحيد الله تعالى وعن النظر في دلائل وقوع البعث والجزاء.
والأعلام بأن الأعمال محصاة. وبيان جزاء الأعمال خيرها وشرها.
وإنذار الناس بأن لا يحسبوا شيئا ينجيهم من جزاء الله إياهم على سيء أعمالهم.
[1-5] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} .
الافتتاح ب {إذا} افتتاح مشوق لما يرد بعدها من متعلقها الذي هو جواب ما في "إذا" من معنى الشرط كما تقدم في أول سورة إذا الشمس كورت، سوى أن الجمل المتعاطفة المضاف إليها هي هنا أقل من اللآتي في سورة التكوير لأن المقام لم يقتض تطويل الإنطاب كما اقتضاه المقام في سورة التكوير وإن كان في كلتيهما مقتض الإنطاب لكنه متفاوت لأن سورة التكوير من أول السور نزولا كما علمت آنفا.
وأما سورة الانفطار فبينها وبين سورة التكوير أربع وسبعون سورة تكرر في بعضها إثبات البعث والجزاء والإنذار وتقرر عند المخاطبين فأغنى تطويل الإطناب والتهويل.
و {إذا} ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط.
والمعربون يقولون: خافض لشرطه منصوب بجوابه، وهي عبارة عن حسنة جامعة.
والقول في الجمل التي أضيف إليها {إذا} من كونها جملا مفتتحة بمسند إليه مخبر عنه بمسند فعلي دون أن يؤتى بالجملة الفعلية ودون تقدير أفعال محذوفة قبل الأسماء، لقصد الاهتمام بالمسند إليه وتقوية الخبر.
وكذلك القول في تكرير كلمة "إذا" بعد حروف العطف كالقول في جمل {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير:1].
و {انفَطَرَتْ} : مطاوع فطر، إذا جعل الشيء مفطورا، أي مشقوقا ذا فطور، وتقدم في سورة الملك.
وهذا الانفطار: انفراج يقع فيما يسمى بالسماء وهو ما يشبه القبة في نظر الرائي يراه تسير فيه الكواكب في أسمات مضبوطة تسمى بالأفلاك تشاهد بالليل، ويعرف سمتها في
(30/151)

النهار، ومشاهدتها في صورة متماثلة مع تعاقب القرون تدل على تجانس ما هي مصورة منه فإذا اختل ذلك وتخللته أجسام أو عناصر غريبة من أصل نظامه تفككت تلك الطباق ولاح فيها تشقق فكان علامة على انحلال النظام المتعلق بها كله.
والظاهر أن هذا الانفطار هو المعبر عنه بالانشقاق أيضا في سورة الانشقاق وهو حدث يكون قبل يوم البعث وأنه من أشراط الساعة لأنه يحصل عند إفساد النظام الذي أقام الله عليه حركات الكواكب وحركة الأرض وذلك يقتضيه قرنه بانتثار الكواكب وتفجر البحار وتبعثر القبور.
وأما الكشط الذي تقدم في سورة التكوير [11] في قوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} فذلك عرض آخر يعرض للسماوات يوم الحشر فهو من قبيل الله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25].
والانتثار: مطاوع النثر ضد الجمع وضد الضم، فالنثر هو رمي أشياء على الأرض بتفرق.
وأما التفرق في الهواء فإطلاق النثر عليه مجاز كما في قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]. فانتثار الكواكب مستعار لتفرق هيئات اجتماعها المعروفة في مواقعها، أو مستعار لخروجها من دوائر أفلاكها وسموتها فتبدو مضطربة في الفضاء بعد أن كانت تلوح كأنها قارة، فانتثارها تبددها وتفرق مجتمعها، وذلك من آثار اختلال قوة الجاذبية التي أقيم عليها نظام العالم الشمسي.
وتفجير البحار انطلاق مائها من مستواه وفيضانه على ما حولها من الأرضين كما يتفجر ماء العين حين حفرها لفساد كرة الهواء التي هي ضاغطة على مياه البحار وبذلك التفجير يعم الماء على الأرض فيهلك ما عليها ويختل سطحها.
ومعنى {بُعْثِرَتْ} : انقلب باطنها ظاهرها، والبعثرة: الانقلاب، ويقال: بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض. قال في "الكشاف" بعثر مركب من البعث من راء ضمت إليه. وقال البيضاوي قيل: إن بعثر مركب من بعث وراء الإثارة كبسمل اه. ونقل مثله عن السهيلي. وأن بعثر منحوت من بعث وإثارة مثل بسمل، وحوقل، فيكون في بعثر معنى فعلين بعث وأثار، أي أخرج وقلب، فكأنه قلب لأجل إخراج ما في المقلوب.
والذي اقتصر عليه أيمة اللغة أن معنى بعثر: قلب بعض شيء على بعضه.
(30/152)

وبعثرت القبور: حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذكر من بين حالات الأرض لما فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر من جثث كاملة ورفات، فإن كان البعث عن عدم كما مال إليه بعض العلماء أو عن تفريق كما رآه بعض آخر، فإن بعث الأجساد الكاملة يجوز أن يختص بالبعث عن تفريق ويختص بعث الأجساد البالية والرمم بالكون عن عدم.
وجملة {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} جواب لما في {إذا} من معنى الشرط، ويتنازع التعلق به جميع ما ذكر من كلمات {إذا} الأربع. وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النفوس وأخرت.
وعلم النفوس بما قدمت وأخرت يحصل بعد حصول ما تضمنته جمل الشرط ب {إذا} إذ لا يلزم في ربط المشروط بشرطه أن يكون حصوله مقارنا لحصول شرطه لأن الشروط اللغوية أسباب وأمارات وليست عللا، وقد تقدم بيان ذلك في سورة التكوير.
وصيغة الماضي في قوله: {انفَطَرَتْ} وما عطف عليه مستعمله في المستقبل تشبيها لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشيء في الماضي.
وإثبات العلم للناس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الذي كان في الحياة الدنيا، فنزل منزلة عدم العلم كما تقدم بيانه في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} في سورة التكوير [14].
و {نَفْسٌ} مراد به العموم على نحو ما تقدم في {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} في سورة التكوير [14].
و {مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} : هو العمل الذي قدمته النفس، أي عملته مقدما وهو ما عملته في أول العمر، والعمل الذي أخرته، أي عملته مؤخرا أي في آخر مدة الحياة، أو المراد بالتقديم بالمبادرة بالعمل، والمراد بالتأخير مقابله وهو ترك العمل.
والمقصود من هذين تعميم التوفيق على جميع ما عملته ومثله قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} في سورة لا أقسم بيوم القيامة [13].
والعلم يتحقق بإدراك ما لم يكن معلوما من قبل وبتذكر ما نسي لطول المدة عليه كما تقدم في نظيره في سورة التكوير. وهذا وعيد بالحساب على جميع أعمال المشركين، وهم المقصود بالسورة كما يشير إليه قوله بعد هذا {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9]، ووعد
(30/153)

للمتقين، ومختلط لما عملوا عملا صالحا وآخر سيئا.
[6-8] {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .
استئناف ابتدائي لأن ما قبله بمنزلة المقدمة له لتهيئة السامع لتلقي هذه الموعظة لأن ما سبقه من التهويل والإنذار يهيء النفس لقبول الموعظة إذ الموعظة تكون أشد تغلغلا في القلب حينئد لما يشعر به السامع من انكسار نفسه ورقة قلبه فيزول عنه طغيان المكابرة والعناد فخطر في النفوس ترقب شيء بعد ذلك.
النداء للتنبيه تنبيها يشعر بالاهتمام بالكلام لسماعه فليس النداء مستعملا في حقيقته إذ ليس مرادا به طلب إقبال ولا هو موجها لكل من يسمعه بقصد أو بغير قصد.
فالتعريف في {الإنسان} تعريف الجنس، وعلى ذلك حمله جمهور المفسرين، أي ليس المراد إنسانا معينا، وقرينة ذلك سياق الكلام مع قوله عقبه {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الإنفطار:9-10] الآية.
وهذا العموم مراد به الذين أنكروا البعث بدلالة وقوعه عقب الإنذار بحصول البعث ويدل على ذلك قوله بعده، {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9] فالمعنى: يا أيها الإنسان الذي أنكر البعث ولا يكون منكر البعث إلا مشركا لأن إنكار البعث والشرك متلازمان يومئذ فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة أو من الاستغراق العرفي لأن جمهور المخاطبين في إبداء الدعوة الإسلامية هم المشركون.
و {ما} في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ} استفهامية عن الشيء الذي غر المشرك فحمله على الإشراك بربه وعلى إنكار البعث.
وعن ابن عباس وعطاء: الإنسان هنا الوليد بن المغيرة، وعن عكرمة المراد أبي بن خلف، وعن ابن عباس أيضا: المراد أبو الأشد بن كلدة الجمحي، وعن الكلبي ومقاتل: نزلت في الأسود بن شريق.
والاستفهام مجاز في الإنكار والتعجيب من الإشراك بالله، أي لا موجب للشرك وإنكار البعث إلا أن يكون ذلك غرورا غره عنا كناية عن كون الشرك لا يخطر ببال العاقل
(30/154)

إلا أن يغره به غاره، فيحتمل أن يكون الغرور موجودا ومحتمل أن لا يكون غرور.
والغرور: الإطماع بما يتوهمه المغرور نفعا وهو ضر. وفعله قد ينسد إلى اسم ذات المطمع حقيقة مثل {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] أو مجازا نحو {وَغَرَّتْكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية:35] فإن الحياة زمان الغرور، وقد يسند إلى اسم معنى من المعاني حقيقة نحو {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ} [آل عمران:196]. وقول امرىء القيس:
أغرك مني إن حبك قاتلي
أو مجازا نحو قوله تعالى: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
ويتعدى فعله إلى مفعول واحد، وقد يذكر مع مفعوله اسم ما يتعلق الغرور بشؤونه فيعدى إليه بالباء، ومعنى الباء فيه الملابسة كما في قوله: {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33]، أي لا يغرنكم غرورا متلبسا بشأن الله، أي مصاحبا لشؤون الله مصاحبة مجازية وليست هي باء السببية كما يقال: غره ببذل المال،أو غره بالقول. وإذا كانت الملابسة لا تتصور ماهيتها مع الذوات فقد تعين في باء الملابسة إذا دخلت على اسم ذات أن يكون معها تقدير شأن من شؤون الذات يفهم من المقام، فالمعنى هنا: ما غرك بالإشراك بربك كما يدل عليه قوله: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} الآية فإن منكر البعث يومئذ لا يكون إلا مشركا.
وإيثار تعريف الله بوصف {ربك} دون ذكر اسم الجلالة لما في معنى الرب من الملك والإنشاء والرفق، ففيه تذكير للإنسان بموجبات استحقاق الرب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ.
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة.
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة {فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} جامع لكثير ما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره.
وذكر عن صالح بن مسمار قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال "غره جهله" ، ولم يذكر سندا.
(30/155)

وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] ولكن قصد إظهار مراتب النعمة. وهذا من الإطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عليها بخصوصها، ومن مقتضيات الإطناب مقام التوبيخ.
والخلق: الإيجاد على مقدار مقصود.
والتسوية: جعل الشيء سويا، أي قويما سليما، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم.
والتعديل: التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين ، وصورة الوجه فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها. وجعله مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب والأخرى في الظهر لاختل عملهما، ولجعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك موضع الأعضاء الباطنة من الحلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين. وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع.
وخلق الله جسد الإنسان مقسمة أعضاؤه وجواره على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين.
وفرع فعل "سواك" على {خَلَقَكَ} وفعل "عدلك" على "سواك" تفريعا في الذكر نظرا إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعا حاصلا في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقت كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2-3].
وقرأ الجمهور {فَعَدَلَكَ} بتشديد الدال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع.
وقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ} اعلم أن أصل {أي} أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} في سورة عبس [18].
(30/156)

وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185].
والاستفهام بها كثيرا ما يراد بها الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه {أي} لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغا قويا يتساءل عنه ويستفهم عن شأنه، ومن هنا نشأ معنى دلالة {أي} على الكمال، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم، وإنما هي الاستفهامية، و {أي} هذه تقع في المعنى وصفا لنكرة إما نعتا نحو: هو رجل أي رجل، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية، فيجوز أن يتعلق قوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ} بأفعال خلقك، فسواك، فعدلك فيكون الوقف على {فِي أَيِّ صُورَةٍ} .
ويجوز أن يتعلق بقوله: {رَكَّبَكَ} فيكون الوقف على قوله: {فَعَدَلَكَ} ويكون قوله: {مَا شَاءَ} معترضا بين {فِي أَيِّ صُورَةٍ} وبين {رَكَّبَكَ} .
والمعنى على الوجهين: في صورة أي صورة، أي في صورة كاملة بديعة.
وجملة {مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} بيان لجملة {عدلك} باعتبار كون جملة {عدلك} مفرعة عن جملة {فَسَوَّاكَ} المفرعة عن جملة {خَلَقَكَ} فبيانها بيان لهما.
و {في} للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي خلقك فسواك فعدلك ملابسا صورة عجيبة فمحل {فِي أَيِّ صُورَةٍ} محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال {عدلك} ، أو {رَكَّبَكَ} ، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصور بها للدلالة على تمكنها من موصوفها.
و {ما} يجوز أن تكون موصولة ما صدقها تركيب، وهي موضع نصب على المفعولية المطلقة و {شَاءَ} صلة {ما} والعائد محذوف تقديره: شاءه. والمعنى: ركبك التركيب الذي شاءه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6].
وعدل عن التصريح بمصدر {رَكَّبَكَ} إلى إبهامه بـ {ما} الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها.
ويجوز أن تكون جملة {شَاءَ} صفة لـ {صُورَةٍ} ، والرابط محذوف و {ما} مزيدة للتأكيد، والتقدير: في سورة عظيمة شاءها مشيئة معينة أي عن تدبير وتقدير.
(30/157)

[9] {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} .
{كَلَّا} ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ} [الإنفطار:6] من حصول ما يغر الإنسان بالشرك ومن إعراضه عن نعم الله تعالى بالكفر، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإنكار المستفاد من قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} .
والمعنى: إشراكك بخالقك باطل وهو غرور، أو كالغرور.
ويكون قوله بعده {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} إضرابا انتقاليا من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وزجر لأن {بل} لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم. ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون: إنها تتبع في اللفظ لا في الحكم، أي هو اتباع مناسبة في الغرض لا في اتباع في النسبة.
ويجوز أن يكون {كلا} إبطالا لوجود ما يغر الإنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإنسان في الإشراك بالله إذ لا يوجد ما يغره به.
ويكون قوله: {بَلْ تُكَذِّبُونَ} إضرابا إبطاليا، وما بعد {بل} بيانا لما جرأهم على الإشراك وإنه ليس غرورا إذ لا شبهة لهم في الإشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإشراك لأنهم حبسوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صراح فهم يكذبون بالجزاء فلذلك سبب تصميم جميعهم على الشك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضها بطلان كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا.
وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جماع الإجرام، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ، بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} في سورة الانشقاق [20-22].
وقرأ الجمهور {تُكَذِّبُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات.
وفي صيغة المضارع من قوله: {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا
(30/158)

يقلعون عنه، وهو سبب استمرار كفرهم.
وفي المضارع أيضا استحضار حالة هذا التكذيب استحضارا يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء.
والدين: الجزاء.
[10-12] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
عطف على جملة {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9] تأكيدا لثبوت الجزاء على الأعمال.
وأكد الكلام بحرف {إن} ولام الابتداء لأنهم ينكرون ذلك إنكارا قويا.
و {لَحَافِظِينَ} صفة لمحذوف تقديره: لملائكة حافظين، أي محصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم.
وجميع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس: وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18]، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله" وهذا بصريح معناه يفيد أيضا كفاية عن وقوع الجزاء إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثا.
وأجري على الملائكة الموكلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف هي: الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس.
وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإحصاء وفيها تنويه بشأن الملائكة الحافظين.
فأما الحفظ: فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر، وهو"على" لتضمنه معنى المراقبة. والحفيظ: الرقيب، قال تعالى: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى:6].
وهذا الاستعمال هو عير استعمال الحفظ المعدى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله :{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]. فالحفظ بها الإطلاق يجمع
(30/159)

معنى الرعاية والقيام على ما يكون إلى الحفيظ، والأمانة على ما يوكل إليه.
وحرف "على" فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة.
وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتاب فمراد بها ضبط ما وكلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب.
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم.
و {مَا تَفْعَلُونَ} يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكلين بذلك.
ودخل في {مَا تَفْعَلُونَ} : الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشفع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية.
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل ما يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا علية وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط.
فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاة الفطرة، أي طهارة النفس.
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوبا، أو كالمكتوب مضبوطا لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل يعد القائم به، أو في مغيبة أن يعرف ماذا أجري فيه من الإعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشهود، والخطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح.
ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع
(30/160)

أحد من المخالطين أن يموه عليه شيئا، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط، والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلا، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصا على حفظ مصالح الأمة، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإتقان أعمالها وأشد اضطلاعا بممارستها.
[13-16] {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} .
فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جواب عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الإنفطار: 9-10]. الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإحصاء الأعمال ما هي، فبين ذلك بقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الآية.
وأيضا تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار:12] وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها.
وجيء بالكلام مؤكدا ب {إن} ولام الابتداء ليساوي البيان مبينه في التحقيق ودفع الإنكار.
وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته.
و {الأَبْرَارَ} : جمع بر بفتح الباء وهو التقي. وهو فعل بمعنى فاعل مشتق من بر يبر، ولفعل بر اسم مصدر هو بر بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسي بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبر وهو التقي. وإنما سمي التقي برا لأنه بر ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له الأمر بالتقوى.
و {الْفُجَّارَ} : جمع فاجر، وصيغة فعال تطرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام.
(30/161)

والفاجر: المتصف بالفجور وهو ضد البرور.
والمراد ب {الْفُجَّارَ} هنا: المشركون، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر. فأما عصاة المؤنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإيمان.
والنعيم: اسم ما ينعم به الإنسان.
والظرفية من قوله "في نعيم" مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفا حقيقة، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه.
وأما ظرفية قوله: {لَفِي جَحِيمٍ} فهي حقيقية.
والجحيم صار علما بالغلبة على جهنم، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات.
وجملة {يَصْلَوْنَهَا} صفة ل {جَحِيمٍ} ، أو حال من {الْفُجَّارَ} ، أو حال من الجحيم، وصلي النار: مس حرها للجسم، يقال: صلي النار، إذا أحس بحرها، وحقيقته: الإحساس بحر النار المؤلم، فإذا أريد التدفي قيل: اصطلى.
و {يَوْمُ الدِّينِ} ظرف ل {يَصْلَوْنَهَا} وذكر لبيان: أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة.
وجملة {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} عطف على جملة {يَصْلَوْنَهَا} ، أي يصلون حرها ولا يفارقونها، أي وهم خالدون فيها.
وجيء بقوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} جملة اسمية دون أن يقال: وما يغيبون عنها، أو ما يفارقونها، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي، فالثبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} في سورة البقرة [167].
وزيادة الباء لتأكيد النفي.
وتقديم {عنها} على متعلقه للاهتمام بالمجرور، وللرعاية على الفاصلة.
[17] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
(30/162)

يجوز أن تكون حالية، والواو واو الحال، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار:19] بدلا من {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب على الظرفية كما سيأتي.
و {مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} : تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل الدراية المعدى بالهمزة فصار فاعله مفعولا زائدا على مفعولي درى، وهو من قبيل: أعلم وأرى، فالكاف مفعوله الأول، وقد علق على المفعولين الآخرين ب {ما} الاستفهامية الثانية.
والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يسأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دار.
والاستفهام الثاني حقيقي، أي سؤال سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول: علمت هل زيد قائم، أي علمت جواب هذا السؤال.
ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3].
[18] {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
تكرير للتهويل تكريرا يؤذن بزيادته، أي تجاوز حد الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي، وقرن هذا بحرف {ثم} الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل، فالتراخي فيها هو الزيادة.
[19] {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} .
في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17-18] إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهول لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين.
وقرأه الجمهور بفتح {يوم} فيجوز أن يجعل بدلا مطابقا، أو عطف بيان من {يَوْمُ الدِّينِ} المرفوع ب {مَا أَدْرَاكَ} وتجعل فتحته فتحة بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى
(30/163)

جملة فعلية وكان فعلها معربا جاز في اسم الزمان أن يبني على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل.
ويجوز أيضا أن يكون بدلا مطابقا من {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب على الظرفية في قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15]، ولا يفوت بيان الإبهام الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17] لأن {يَوْمُ الدِّينِ} المرفوع المذكور ثانيا هو عين {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب أولا، فإذا وقع بيان للمذكور أولا حصل بيان المذكور ثانيا إذ مدلولهما يوم متحد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعة، فيتعين أن يكون بدلا أو بيانا من {يَوْمُ الدِّينِ} الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
ومعنى {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} : لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى، أي لنفعها، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفع بالفعل عكس "على"، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الممتحنة [4].
وعموم {نَفْسٌ} الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس.
و {شَيْئًا} اسم يدل على جنس الموجود، وهو متوغل في الإبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما، أو من السياق، ويبينه هنا ما دل عليه فعل {لاَ تَمْلِكُ} ولام العلة، أي شيئا يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة يوسف [67]، فانتصب {شَيْئًا} على المفعول به لفعل {لاَ تَمْلِكُ} ، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفس أخرى.
وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94].
{وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
وجملة {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} تذييل، والتعريف في {الأَمْرُ} للاستغراق. والأمر هنا للمعنى: التصرف والأذن وهو واحد الأوامر، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفا للشيء فتغيير التعبير للتفنن.
والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإرادة الاستغراق، فيعم كل
(30/164)

الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلا.
وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله.
(30/165)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المطففين
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير "سورة ويل للمطففين"، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه"، والترمذي في "جامعه".
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف "سورة المطففين" اختصارا.
ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها "سورة المطففين" وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه: أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه: أنها مدنية، قال: وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الإنفطار:19] إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية: احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]. والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
(30/166)

فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون
(30/167)

يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي.
[1-3] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .
افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد بلفظ {ويل} من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]. وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
والتطفيف: النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطفافة. والطفاف بضم الطاء وتخفيف الفاء ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام، ويقال: الطف بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به وإنما يكون شيئا قليلا زائدا على ما ملأ الإناء، فمن ثم سميت طفافة، أي قليل زيادة.
ولا نعرف له فعلا مجردا إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفعله: طفف، كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال، ويقابله الوفاء.
و {ويل} كلمة دعاء بسوء الحال، وهي في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل: اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجارا، وكان في يثرب تجار أيضا وفيهم اليهود مثل أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجري أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب، وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل.
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشيا في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يسبب ذلك.
(30/168)

واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلا فقال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك. رواه ابن ماجة عن ابن عباس.
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر.
فجملة {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} إدماج، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين.
والاكتيال: افتعال من الكيل، وهو يستعمل في تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال: ابتاع، وارتهن، واشترى، في معنى أخذ المبيع، وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف:63] أي نأخذ طعاما مكيلا، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة.
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل، فيقال: اكتال فلان طعاما مثل ابتاع، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل {من} الابتدائية فيقال: اكتال طعاما من فلان، وإنما عدي في الآية بحرف {على} لتضمين {اكْتَالُوا} معنى التحامل، أي إلقاء المشقة على الغير وظلمه، ذلك أن شأن التاجر وخلقه أن يتطلب توفير الربح وإنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة، وعن الفراء "من" و"على" يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك.
فمعنى {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} اشتروا من الناس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل {اكْتَالُوا} أي اكتالوا مكيلا، ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلا فحذف المفعول لأنه معلوم.
فالواوان من {كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس.
(30/169)

وتعدية "كالوا"، و"وزنوا" إلى الضميرين على حذف لام الجر. وأصله: كالوا لهم ووزنوا لهم، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة [233] {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} أي تسترضعوا لأولادكم، وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي الحريص يصيد لك. وهو حذف كثير مثل قولهم: نصحتك وشكرتك، أصلهما نصحت لك وشكرت لك، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال: كال له طعاما ووزن له فضة، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا: كاله ووزنه طعاما على الحذف والإيصال.
قال الفراء: هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون: يكيلنا، يعني ويقولون أيضا: كال له ووزن له. وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون: كال له ووزن له، ولا يقولون إلا: كاله ووزنه، فيكون فعل كال عندهم مثل باع.
والاقتصار على قوله: {إِذَا اكْتَالُوا} دون أن يقول: وإذا اتزنوا كما قال {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنبا لفعل اتزنوا لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل. ولكنته أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عينا بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غير مسكوكين، فلذلك اقتصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظرا إلى الغالب، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلا ويقبضون الأثمان وزنا. وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم.
و {يَسْتَوْفُونَ} جواب {إذا} والاستيفاء أخذ الشيء وافيا، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل: استجاب.
ومعنى {يُخْسِرُونَ} يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة، والخسارة النقص من المال في التبايع.
وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشيا في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة.
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلما واختلاسا ولؤما، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرقة ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفنا.
(30/170)

[4-6] {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
استئناف ناشيء عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين.
والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يسأل السائل عن علمهم بالبعث، وهذا يرجع أن الخطاب في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] موجه إلى المسلمين. ويرجع الإنكار والتعجب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف. فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين.
والظن: مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع شيء اعتقادا راجحا على طريقة قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
وفي العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة في قوله: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ} لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم، ولأن الإشارة إليهم بعد وصفهم ب"المطففين" تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإنكار.
واللام في قوله: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} لام التوقيت مثل {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78].
وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبعثت أموات القرون الغابرة، فأومأ قوله: {لِيَوْمٍ} أن للبعث وقتا معينا يقع عنده لا قبله.
ووصف يوم ب {عَظِيمٍ} باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال، فهو وصف مجازي عقلي.
و {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بدل من "يوم عظيم" بدلا مطابقا وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} في سورة الانفطار [19] على قراءة الجمهور ذلك بالفتح.
ومعنى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} أنهم يكونون قياما، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة.
واللام في {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} للأجل، أي لأجل ربوبية وتلقي حكمه.
(30/171)

والتعبير عن الله تعالى بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات.
واللام في {الْعَالَمِينَ} للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة.
قال في "الكشاف" وفي هذا الإنكار، والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته ب {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية اه.
ولما كان الحامل على التطفيف احتقارهم أهل الجلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة، كان التطفيف لذلك منبئا عن إثم احتقار الحقوق، وذلك قد صار خلقا لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9] وقوله حكاية عن شعيب {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 182-183].
[7-9] {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} .
{كلا}
إبطال وردع لما تضمنته جملة {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4] من التعجيب من فعلهم التطفيف، والمعنى: كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم.
{إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} .
استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة. وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجبا كتبه في كتاب الفجار.
و {الْفُجَّارَ} غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبسا بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية.
(30/172)

والتعريف في {الْفُجَّارَ} للجنس مراد به الاستغراق، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].
وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يعنى به أن المطففين منهم والمقصود الأول من هذا العموم، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجه إليهم.
و"الكتاب" المكتوب، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئا تحصى فيه والأعمال، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها، وكذلك يجري على الوجهين قوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} وتقدمت نظائره غير مرة.
و {سِجِّينٍ} حروف مادته من حروف العربية، وصيغته من الصيغ العربية، فهو لفظ عربي، ومن زعم أنه معرب فقد أغرب. روى عن الأصمعي: أن العرب استعملوا سجين عوضا عن سلتين، وسلتين كلمة غير عربية.
ونون {سِجِّينٍ} أصلية وليست مبدلة عن اللام، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه علم لواد في جهنم، صيغ بزنة فعيل من مادة السجن للمبالغة مثل: الملك الضليل، ورجل سكير، وطعام حريف شديد الحرافة وهي لذع اللسان سمي ذلك المكان سجينا لأنه أشد الحبس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكنه مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعا نوعيا. وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته.
ومحمل قوله: {لَفِي سِجِّينٍ} إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه {سِجِّينٍ} أو وصفه {سِجِّينٍ} وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين، وروى الطبري بسنده حديثا مرفوعا يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل.
وإن حملت الظرفية في قوله: {لَفِي سِجِّينٍ} على غير ظاهرها، فجعل كتاب الفجار مظروفا في {سِجِّينٍ} مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجين، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجين.
(30/173)

وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} معترضة بين جملة {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} وجملة {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} وهو تهويل لأمر السجين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم {مَا أَدْرَاكَ} في سورة الانفطار [17].
وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} خبر عن ضمير محذوف يعود إلى {كِتَابَ الفُجَّارِ} . والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، هذا من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخير جديد.
والمرقوم: المكتوب كتابة بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج.
وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ {كِتَابَ} سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازا.
[10-13] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يجوز أن تكون مبينة لمضمون جملة {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} فإن قوله: {يَوْمَئِذٍ} يفيد تنوينه جملة محذوفة جعل التنوين عوضا عنها تقديرها: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين.
ويجوز أن تكون ابتدائية وبين المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين، فتكون هذه الجملة إدماجا لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين.
وقد ذكر المكذبون مجملا في قوله: {لِلْمُكَذِّبِينَ} ثم أعيد مفصلا ببيان متعلق التكذيب، وهو {بِيَوْمِ الدِّينِ} لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه.
ومعنى التكذيب ب"يوم الدين" التكذيب بوقوعه.
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي أن
(30/174)

تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الله وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم. فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد. ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة. كل عل حسب عمله: فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، ولم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116].
وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي: معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين.
والاعتداء: الظلم، والمعتدي: المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعلموا بها.
والأثيم: مبالغة في الآثم، أي كثير الإثم.
وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين.
فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط.
فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطير الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه، أو يؤول إليه، لأن من لم يعرض عليه القرآن منهم لو عرض عليه القرآن لكذب به تكذيبا يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله.
ولك أن تجعل القصر ادعائيا ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن.
(30/175)

ومعنى الادعاء أن من لم يؤثر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كلا تكذيب مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين.
وجملة {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} صفة لمعتد أو حال منه.
والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنها التي تتلى وتقرأ.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون ينظرون قصص القرآن بقصة رستم، وإسفنديار، عند الفرس، ولعل الكلمة معربة عن الرومية، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة الأنعام [25].
والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقته أجيال، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لما سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار، فحسبوها من قصص الأسمار. واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة. بهتانا منهم.
وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحيرة فكان يحدث بها في مكة ويقول: أنا أحسن حديثا من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين.
وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة {كُلُّ مُعْتَدٍ} ظاهر في عدم التخصيص.
[14-17] {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَلاَّ} .
اعتراض بالردع وبيان له، لأن {كَلاَّ} ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل. وحرف {بل} للإبطال تأكيدا لمضمون {كَلاَّ} وبيانا وكشفا لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرهم من الرين.
والرين: الصدأ الذي يعلو حديد السيف والمرآة، ويقال في مصدر الرين الران مثل العيب والعاب، والذيم والذام.
(30/176)

وأصله فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الرين، فيقال: ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الرين، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا: ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هو من باب ران الرين على السيف، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون: رين على قلب فلان وفلان مرين على قلبه.
والمعنى: غطت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهم القرآن والبون الشاسع بينه وبين أساطير الأولين.
وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها.
وقرأه عاصم بالوقف على لام "بل" والابتداء بكلمة ران تجنبا للإدغام.
وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام {بل} ليبين أنها لام. قال في اللسان: إظهار اللام لغة لأهل الحجاز. قال سيبويه: هما حسنان، وقال الزجاج: الإدغام أرجح.
والقلوب العقول ومحال الإدراك. وهذا كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماء فاشمأزت منه لبرده برديه تجديه سخينا أي بل رديه وذلك من الملح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخينا.
و {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ما عملوه سالفا من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خلقا متأصلا فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها.
روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
ومجيء {يَكْسِبُونَ} بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي.
(30/177)

وفي ذكر فعل {كانوا} دون أن يقال: ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد: ما يكسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يكونوا مناط تكليف أيامئذ. فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.
و {كلا} الثانية تأكيد ل {كلا} الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخا.
{إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.
فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم قال الشاعر الذي لم يسم وهو من شواهد الكشاف:
إذا اعتروا باب ذي عبيه رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحجوب
وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] وكذلك أيضا لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وليكون الكلام مفيدا للمعنيين قيل "عن ربهم لمحجوبون" دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران [77] {ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وأما العذاب فهو ما في قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} .
وقد عطفت جملة بحرف {ثم} الدالة في عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو
(30/178)

ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة.
و"صالوا" جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار.
والمعنى: أنهم سيصلون عذاب الجحيم.
وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فعطف الجملة بحرف {ثم} اقتضر تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بعد درجته في الغرض المسوق له الكلام.
واقتضى اسم الإشارة أنهم صاروا إلى العذاب. والإخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهو يكذبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.
أو يكون قوله: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77-78] فطوى سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماد على قرينة عطف جملة هذا المقال ب {ثم} الدالة على التراخي.
وبني فعل {يقال} للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول.
وجيء با سم الموصول ليذكروا تكذبهم به في الدنيا تنديما لهم وتحزينا.
وتقديم {به} على {تُكَذِّبُونَ} للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل {تُكَذِّبُونَ} إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذب فيعدى بالباء، ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين: هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا.
[18-21] {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} .
{كَلاّ} .
(30/179)

ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فيجوز أن تكون كلمة {كَلاّ} مما قيل لهم مع جملة {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ردعا لهم فهي من المحكى بالقول.
ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن ابطالا لتكذيبهم المذكور.
{إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} .
يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله: {ثم يقال} الخ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] الخ أسلوبا ومقابلة. فالوجه أن يكون مضمونها قسيما لمضمون شبيهها فتحصل مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرض لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار.
ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحدا وجه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون، وأعقبه بتوجيه بكلام للأبرار الذين هم بضد ذلك، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه.
ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} على وجه التوبيخ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديما للذين أنكروه وتحسيرا لهم على ما أفاتوه من الخبر.
والأبرار: جمع بر بفتح الباء، وهو الذي يعمل البر، وتقدم في السورة التي قبل هذه.
والقول في الكتاب ومظروفيته في عليين، كالقول في {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7].
وعليون: جمع علي، وعلي على وزن فعيل من العلو، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس.
(30/180)

وعن الفراء أن {عِلِّيِّينَ} لا واحد له. يريد: أن عليين ليس جمع "علي" ولكنه علم على مكان الأبرار في الجنة إذ لم يسمع عن العرب "علي" وإنما قالوا: علية للغرفة، وعليون علم بالغلبة لمحلة الأبرار.
واشتق هذا الاسم من العلو، وهو علو اعتباري، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم، فأستكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماما لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير.
والقول في {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} كالقول في {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 8-9] المتقدم.
و {يَشْهَدُهُ} يطلعون عليه، أي يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يعلن بأسماء النابغين في التعليم، وأسماء الأبطال في الكتائب.
[22-28] {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} .
مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] إلى آخرها. ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحا وتوصيفا وفصلا، وهي مبينة لجملة {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فيكون قول ذلك لهم، تحسيرا وتنديما على تفريطهم في الإيمان.
وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قرر للجملة من الخصوصيات.
وذكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم. خلافا لما جاء في جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] تنويها بوصف الأبرار.
وقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ} خبر ثان عن الأبرار، أي هم على الأرائك، أي متكئون عليها.
(30/181)

والأرائك: جمع أريكة بوزن سفينة، والأريكة: اسم لمجموع سرير وودادته وحجلة منصوبة عليهما، فلا يقال: أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة، وقيل: إنها حبشية وتقدم عند قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} في سورة الإنسان .
و {يَنظُرُونَ} في موضع الحال من الأبرار. وحذف مفعول {يَنظُرُونَ} إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] والتقدير: ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقاعد الوعد والتكريم.
وقرأ الجمهور {تَعْرِفُ} بصيغة الخطاب {نَضْرَةَ} وهو خطاب لغير معين. أي تعرف يا من يراهم. وقرأه أبو جعفر ويعقوب "تعرف" بصيغة البناء للمجهول ورفع "نضرة".
ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله. وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به.
والخطاب بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة، وهذه الجملة خبر ثالث عن {الأَبْرَارَ} أو حال ثانية له.
والنضرة: البهجة والحسن، وإضافة {نَضْرَةَ} إلى {النَّعِيمِ} من إضافة المسبب إلى السبب، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ نبدو على وجهه ملامح السرور.
وجملة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه. وعبر ب {يُسْقَوْنَ} دون: يشربون، للدلالة على أنهم مخدومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة. وذلك من تمام الترفة ولذة الراحة.
والرحيق: اسم للخمر الصافية الطيبة.
والمختوم: المسدود إناؤه، أي باطيته، وهو اسم مفعول من ختمه إذا شد بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها على ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه، تطبع فيه وهو رطب فإذا يبس تعذر فسخها، ويسمى ما تطبع به خاتما بفتح الفوقية، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد
(30/182)

الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم، قال جرير:
إن الخليفة أن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
والختام بوزن كتاب: اسم للطين الذي يختم به كانوا يجهلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادة صفائها وحفظ رائحتها. وجعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضا عن طين الختم.
والمسك مادة حيوانية ذات عرف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة، وهذه المادة تتكون في غدة مملوءة دما تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها. وهي جلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون: فأرة المسك.
وفسر {خِتَامُهُ مِسْكٌ} بأن المعنى ختام شربه، أي آخر شربه مسك، أي طعم المسك بمعنى نكهته، وأنشد أبن عطية قول ابن مقبل:
مما يعتق في الحانوت قاطفها ... بالفلفل الجون والرمان مختوم
أي ينتهي بلذع الفلفل وطعم الرمان.
وجملة {خِتَامُهُ مِسْكٌ} نعت ل {رَحِيقٍ} . أو بدل مفصل من مجمل، أو استئناف بياني ناشيء عن وصف الرحيق بأنه {مَخْتُومٍ} أن يسأل سائل عن ختامها أي شيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد.
وجملة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} معترضة بين جملة {خِتَامُهُ مِسْكٌ} . وجملة {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} .
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله: {وَفِي ذَلِكَ} هو مبدأ الجملة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحيق فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال. ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها. والفاء إما أن تكون فصيحة، والتقدير: إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون، أو التقدير: وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين، والمصرح به تنافس جميع
(30/183)

المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيرا ما يعامل معاملة الشرط، كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم "كما تكونوا يول عليكم" بجزم "تكونوا" و "يول"، فالتقدير: إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون. وإما أن تكون الفاء تفريعا على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير، والتقدير: وتنافسوا صيغة أمر في ذلك، فليتنافس المتنافسون فيه، ويكون الكلام مؤذنا بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور.
وجملة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} معترضة بين جملة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} الخ وجملة {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} .
والتنافس: تفاعل من نفس عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلا له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النفيس، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله. وقد قيل: إن الأصل في هذه المادة هو النفس. فالتنافس حصول النفاسة بين متعددة.
ولام الأمر في {فَلْيَتَنَافَسِ} مستعملة في التحريض والحث.
ومزاجه: ما يمزج به. وأصله مصدر مازج بمعنى مزج، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سورتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغته غتا فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تشر ممزوجة بالماء. قال كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محقبة ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
وقال حسان:
يسقون من ورد البريضة عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم، كقول لبيد:
أغلي سباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها
و {تَسْنِيمٍ} علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنم الشيء إذا جعله كهيئة السنام. ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصب على جنانهم من علو فكأنها سنام. وهذا العلم عربي المادة والصيغة ولكنه لم يكن معروفا عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال
(30/184)

ابن عباس لما سئل عنه: هذا مما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به. ولغرابة ذلك أحتيج إلى تبيينه بقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، أي حال كون التسنيم عينا يشرب بها المقربون.
والمقربون: هم الأبرار، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون.
وباء {يَشْرَبُ بِهَا} إما سببية، وعدي فعل {يَشْرَبُ} إلى ضمير العين بتضمين {يَشْرَبُ} معنى: يمزج، لقوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} أي يمزجون الرحيق بالتسنيم. وإما باء الملابسة وفعل {يَشْرَبُ} معدى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق أي يشربون الرحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسين حولها. أو الباء بمعنى "من" التبعيضية قد عد الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء، وينسب إلى الكوفيين. واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببين فإن الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون "من"، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
[29-35] {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} .
هذا من جملة القول الذي قال يوم القيامة للفجار المحكي بقوله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] لأنه مرتبط بقوله في آخره {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} حكاية كلام يصدر يوم القيامة، إذ تعريف "اليوم" باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقت به الفعل المتعلق هو به، ومعلوم أن اليوم الذي يضحك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله: {كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} ظاهر في أنه حكاية كون مضى، وكذلك معطوفاته من قوله "وإذا مروا ، وإذا انقلبوا، وإذا رأوهم" فدل السياق على أن هذا الكلام
(30/185)

حكاية قول ينادي به يوم القيامة من حضرة القدس على رؤوس الأشهاد.
فإذا جريت على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جمل {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] الآيات، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] إلى هنا فهذه متصلة بها. والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم: إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضا، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:16] واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة {إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:16] باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} فالتعبير بالذين أجرموا إذا جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات.
وقد اتضح بما قررناه نظم هذه الآيات من قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] إلى هنا مزيد اتضاح، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه، سوى ن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول {فَالْيَوْمَ} على حكاية ما يقال اه.
و {إذا} في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92] وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83].
والمقصود في ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حدة، وذكر حال المسلمين على حدة، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معا.
وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} إلى آخر السورة.
والافتتاح ب {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإشعار بأنه خبر مهم، والمراد ب {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم.
(30/186)

وهم: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود ابن عبد يغوث، والعاص بن هشام، والنضر بن الحارث، كانوا يضحكون من عمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وبلال، وصهيب، ويستهزئون بهم.
وعبر بالموصل وهذه الصلة {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام، وليظهر موقع قوله، {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36].
والإجرام: ارتكاب الجرم وهو الإثم العظيم، وأعظم بالإجرام الكفر ويوذن تركيب "كانوا يضحكون" بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي، وصوغ {يَضْحَكُونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم.
وتعدية فعل {يَضْحَكُونَ} إلى الباعث على الضحك بحرف {من} هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن "من" ابتدائية تشبه الحالة التي تبعث على الضحك بمكان يصدر عنه الضحك، ومثله أفعال: سخر منه، وعجب منه.
ومعنى يضحكون منهم: يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزأون بالمؤمنين ومعظمهم ضعفاء أهل مكة فيضحكون منهم، والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} .
واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم ذلك الحال نحو {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] وإذا كان مجموع هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]. وقول عبد يغوث الحارث:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
والتغامز: تفاعل من الغمز ويطلق على جس الشيء باليد جسا مكينا، ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالة كعوبها. وفي حديث عائشة "لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما".
ويطلق الغمز على تحريك الطرف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه.
وضمير {مَرُّوا} يجوز أن يعود إلى {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} فيكون ضمير {بهم} عائدا إلى
(30/187)

{الَّذِينَ آمَنُوا} ، ويجوز العكس، وأما ضمير {يَتَغَامَزُونَ} فمتمخض للعود إلى {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} .
والمعنى: وإذا مر المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أو وإذا مر الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم. وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنون عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيرا بمكة حين نزول هذه السورة، فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يقرعون به يوم القيامة.
والانقلاب: الرجوع إلى الموضع الذي جيء منه. يقال: انقلب المسافر إلى أهله وفي دعاء السفر "أعوذ بك من كآبة المنقلب" وأصله مستعار من قلب الثوب، إذا صرفه من وجهه إلى وجه آخر، يقال: قلب الشيء إذا أرجعه.
وأهل الرجل: زوجه وأبنائه، وذكر الأهل هنا لأنهم ينبسط إليهم بالحديث فلذلك قيل {إِلَى أَهْلِهِمُ} دون: إلى بيوتهم.
والمعنى: وإذا رجع الذين أجرما إلى بيوتهم وخلصوا مع أهلهم تحدثوا أحاديث الفكاهة معهم بذكر المؤمنين وذمهم.
وتكرير فعل {انقَلَبُوا} بقوله: {انقَلَبُوا فَكِهِينَ} من النسج الجزل في الكلام كان يكفي أن يقول: وإذا انقلبوا إلى أهلهم فكهوا، أو وإذا انقلبوا إلى أهلهم كانوا فاكهين. وذلك لما في إعادة الفعل من زيادة تقرير معناه في ذهن السامع لأنه مما ينبغي الاعتناء به، ولزيادة تقرير ما في الفعل من إفادة التجدد حتى يكون فيه استحضار الحالة. قال ابن جني في كتاب التنبيه على إعراب الحماسة عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول، أي فلا يستقيم جعل الثاني جوابا للأول. وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة ومثله قول الله تعالى: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] ولو قال: هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا لأنه كقولك الذي ضربته ضربته والتي أكرمتها أكرمتها ولكن لما اتصل
(30/188)

بـ {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثانية قوله: {كَمَا غَوَيْنَا} أفاد الكلام كالذي ضربته ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك أه.
وقد مضى ذلك في سورة القصص وفي سورة الفرقان.
و {فَكِهِينَ} اسم فاعل فاكه وهو من فكه من باب فرح إذا مزح وتحدث فأضحك، والمعنى: فاكهين في التحدث عن المؤمنين فحذف متعلق {فَكِهِينَ} للعلم بأنه من قبيل متعلقات الأفعال المذكورة معه.
وقرأ الجمهور {فاكهين} بصيغة الفاعل. وقرأ حفص عن عاصم وأبو جعفر {فَكِهِينَ} بدون ألف بعد الفاء على أنه جمع فكه. وهو صفة مشبهة وهما بمعنى واحد مثل فارح فرح. وقال الفراء: هما لغتان.
وجملة {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} حكت ما يقوله الذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم أي يجمعون بين الأذى بالإشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلانا به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإسلام إلى الكفر، أم كان قولا يقوله بعضهم لبعض إذا رأوا المؤمنين كما يفكهون بالحديث عن المؤمنين في خلواتهم، وبذلك أيضا فارق مضمون الجمل التي قبلها مع ما في هذه الجملة من عموم أحوال رؤيتهم سواء كانت في حال المرور بهم أو مشاهدة في مقرهم.
ومرادهم بالضلال: فساد الرأي. لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي، أي هؤلاء سيئوا الرأي إذ اتبعوا الإسلام وانسلخوا عن قومهم، وفرطوا في نعيم الحياة طمعا في نعيم بعد الموت وأقبلوا على الصلاة والتخلق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاما وعنتا لأنهم بمعزل عن مقدرة قدر الكمال النفساني وما همهم إلا التلذذ الجثماني.
وكلمة {إذا} في جملة من الجمل الثلاث ظرف متعلق بالفعل الموالي له في كل جملة.
ولم يعرج أحد من المفسرين على بيان مفاد جملة {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} مع ما قبلها. وقال المهايمي في تبصرة الرحمان وإذا رأوهم يؤثرون الكمالات الحقيقية على الحسية فقدر مفعولا محذوفا لفعل {رَأَوْهُمْ} لإبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجمل التي قبلها وقد علمت عدم الاحتياج إليه ولقد أحسن
(30/189)

في التنبيه عليه.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد تحقيق الخبر.
وجملة {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} في موضع الحال أي يلمزوهم بالضلال في حال أنهم لم يرسلهم مرسل ليكونوا موكلين بأعمالهم فدل على أن حالهم كحال المرسل ولذلك نفي أن يكونوا أرسلوا حافظين عليهم فإن شدة الحرص على أن يقولوا: إن هؤلاء لضالون، كلما رأوهم يشبه حال المرسل ليتتبع أحوال أحد ومن شأن الرسول الحرص على التبليغ.
والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين، أي لم يكونوا مقيضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم.
فمعنى الحفظ هنا الرقابة ولذلك عدي بحرف "على" ليتسلط النفي على الإرسال والحفظ وعنى الاستعلاء المجازي الذي أفاده حرف "على" فينتفي حالهم الممثل.
وتقديم المجرور على معلقه للاهتمام بمفاد حرف الاستعلاء وبمجروره مع الرعاية على الفاصلة.
وأفادت فاء السببية في قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} ، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سبب في جزاءهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقا.
وتقديم "اليوم" على {يَضْحَكُونَ} للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} في اتصال نظمه بما قبله غموض. وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية. ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفا منصوبا يقتضي أن اليوم مراد به يوم حاضر في وقت نزول الآية نظير وقت كلام المتكلم إذا قال: اليوم يكون كذا، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر، فليس ضحك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجزاء، ولا يستقيم تفسير قوله: {فَالْيَوْمَ} بمعنى: فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون. وابن عطية استشعر إشكالها فقال ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول {فَالْيَوْمَ} على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون اهـ.
(30/190)

وهو انقداح زناد يحتاج في تنوره إلى أعواد.
فإما أن نجعل ما قبله متصلا بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] إلى هنا كما تقدم.
وإما أن يجعل قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . والتقدير: ويقال لهم اليوم الذين آمنوا يضحكون منكم.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} دون أن يقال: فاليوم يضحك الذين آمنوا، لإفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله: {كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليوم المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس.
وتقديم {مِنْ الْكُفَّارِ} على متعلقه وهو {يَضْحَكُونَ} للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلا لإساءتهم عند سماع هذا التقريع.
وقوله: {مِنْ الْكُفَّارِ} إظهار في مقام الإضمار، عدل عن أن يقال: منهم يضحكون، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار.
ومفعول {يَنظُرُونَ} محذوف دل عليه قوله: {مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} تقديره: ينظرون، أي يشاهدون المشركين في العذاب والإهانة.
[36] {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
فذلكه لما حكي من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة، فالمعنى فقد جوزي الكفار بما كانوا يفعلون وهذا من تمام النداء الذي يعلق به يوم القيامة.
والاستفهام ب {هل} تقريري وتعجب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور.
والاستفهام من قبيل الطلب فهو من أنواع الخطاب.
والخطاب بهذا الاستفهام موجه إلى غير معين بل إلى كل من يسمع ذلك النداء يوم القيامة. وهذا من مقول القول المحذوف.
(30/191)

و {ثُوِّبَ} أعطي الثواب، يقال: ثوبه كما يقال: أثابه، إذ أعطاه ثوابا.
والثواب: هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في الصحاح، وهو ظاهر الأساس ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية. وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال: إنه يستعمل في جزاء الخير والشر. أراد إنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله: {الْكُفَّارِ} وما كانوا يفعلون كقول عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
ومن قبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الإنشقاق:24].
و {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} موصول وهو مفعول ثان لفعل {ثُوِّبَ} إذ هو من باب أعطى. وليس الجزاء هو ما كانوا يفعلونه بل عبر عنه بهذه الصلة لمعادلته شدة جرمهم على طريقة التشبيه البليغ، أو على حذف مضاف تقديره: مثل، ويجوز أن يكون على نزع الخافض وهو باء السببية، أي بما كانوا يفعلون.
وفي هذه الجملة محسن براعة المقطع لأنها جامع لما اشتملت عليه السورة.
(30/192)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانشقاق
سميت في زمن الصحابة "سورة إذا السماء انشقت". ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. فضمير "فيها" عائد إلى {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في "الإتقان".
سماها المفسرون وكتاب المصاحف "سورة الانشقاق" باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة "سورة التطفيف" و "سورة انشقت" اختصارا.
وذكرها الجعبري في "نظمه" في تعداد المكي والمدني بلفظ "كدح" فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.
وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.
أغراضها
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء.
(30/193)

[1-6] {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} .
قدم الظرف {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} على عامله وهو {كَادِحٌ} للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار: يا أيها الإنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ.
ولكن ما تعلق {إذا} بجزء من جملة {إِنَّكَ كَادِحٌ} وكانت {إذا} ظرفا متضمنا معنى الشرط صار: يأيها الإنسان إنك كادح جوابا لشرط {إذا} ولذلك يقولون {إذا} ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوبا بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار.
و {إذا} ظرف للزمان المستقبل، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه {إذا} مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضي للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل {إذا} القطع بوقوع الشرط.
وانشقت مطاوع شقها، أي حين يشق السماء شاق فتنشق، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} .
والانشقاق: هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] وهو انشقاق يلوح للناس في جو السماء من جراء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} دون أن يقال: إذا انشقت السماء لإفادة تقوي الحكم وهو التعليق الشرطي، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه {إذا} في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف "إن".
و {أَذِنَتْ} ، أي استمعت، وفعل أذن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأذن بضم الهمزة آلة السمع في الإنسان يقال أذن له كما يقال: استمع له، أي أصغى إليه أذنه.
وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق. وليس هو باستعارة
(30/194)

تبعية1 ولا تمثيلية2.
والتعبير ب"ربها" دون ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه، لما يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير.
وجملة {وَحُقَّتْ} معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليها.
والمعنى: وهي محقوقة بأن تأذن لربها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتد خلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها، فهو الذي إذا شاء أزالها.
فمتعلق {حُقَّتْ} محذوف دل عليه فعل {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} ، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال: حق فلان بكذا، أي توجه عليه حق. ولما كان فاعل توجيه الحق غير واضح تعيينه غالبا، كان فعل حق بكذا، مبنيا للمجهول في الاستعمال، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول، فيقال: حقيق عليه كذا، كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:105] وهو محقوق بكذا، قال الأعشى:
لمحقوقه أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
والقول في جملة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} مثل القول في جملة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي.
ومد الأرض: بسطها، وظاهر هذا أنها يزال ما عليها من جبال كما يمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا} [طه:105-107].
ومن معاني المد أن يكون ناشئا عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلزال وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها.
ومن معاني المد أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير. وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوال هذا العالم.
ـــــــ
1 رد على الخفاجي.
2 رد على الطيبي وسعدي
(30/195)

وقوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مد الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثل البراكين واندفاع الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان.
و {تَخَلَّتْ} أي أخرجت ما في باطنها فلم يبق منه شيء لأن فعل تخلى يدل على قوة الخلو عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإكرام.
والمعنى: إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2].
وتقدم الكلام على نظير قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} آنفا.
وجملة {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} إلى آخره جواب {إذا} باعتبار ما فرع عليه من قوله: {فَمُلاَقِيهِ} ونسب هذا إلى المبرد، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه.
فالمعنى: إذا السماء انشقت وإذا الأرض مدت لاقيت ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله: {إِنَّكَ كَادِحٌ} إدماجا بمنزلة الاعتراض أمام المقصود.
وجوز المبرد أن يكون جواب {إذا} محذوفا دل عليه قوله: {فَمُلاَقِيه} والتقدير: إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيت أيها الإنسان ربك.
وجوز الفراء أن يكون جواب {إذا} قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} وإن الواو زائدة في الجواب. ورده ابن الانباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت {إذا} بعد "حتى" كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] أو بعد "لما" كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:103-104] الآية.
وقيل الجواب {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق:7]، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس.
والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله: {الإنسان} لتعريف الجنس وهو للاستغراق
(30/196)

كما دل عليه التفصيل في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلى قوله: {كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الإنشقاق:15].
والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث. فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير. وقيل: أريد إنسان معين فقيل هو الأسود بن عبد الأسد بالسين المهملة في "الاستيعاب" و "الإصابة" ووقع في "الكشاف" بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في "جامع الأصول" بالمهملة ، وقيل أبي بن خلف، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء.
والكدح: يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في الأساس فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي. وظاهر كلام الراغب أن حقيقته: إتعاب النفس في العمل والكد. وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف "إلى" تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن {كَادِحٌ} معنى ساع لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملا لغد وهكذا، وكذلك يتقضى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جعل كدحه إلى ربه. فكأمه قيل: إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف "إن"، ويجوز أن يضمن {كَادِحٌ} معنى ماش فيكون المجرور ظرفا لغوا.
و {كَدْحًا} منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد {كَادِحٌ} المضمن معنى ياع إلى ربك، أي ساغ إليه لا محالة ولا مفر.
وضمير النصب في "ملاقيه" عائد إلى الرب، أي فملاق ربك، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن.
[7-15] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} .
هذا تفصيل الإجمال الذي في قوله: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6] أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ
(30/197)

ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} ، وبين منتهاهما مراتب، وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين.
والكتاب: صحيفة الأعمال، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعارا للسعادة لما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سموا البركة والسعادة يمنا، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان، وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} في سورة الصافات [28]، وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]. وقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} في سورة الواقعة [41]، وقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} في سورة الواقعة [8-9].
والباء في قوله: {بِيَمِينِهِ} للملابسة أو المصاحبة، أو هي بمعنى "في"، وهي متعلقة ب {أوتي} .
وحرف "سوف" أصله لحصول الفعل في المستقبل، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف [98]، وهو هنا مفيد للتحقيق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرار وهو ينقلب إلى أهله مسرورا وهو المقصود من هذا الوعد. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} في سورة النساء [30].
والحساب اليسير: هو عرض أعماله عليه دون مناقشة فلا يطول زمنه فيعجل به إلى الجنة، وذلك إذا كانت أعماله صالحة، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة.
و {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} هو الكافر. والمعنى: أنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وذلك أيضا في سورة الحاقة قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ} ، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيرا له ويناول له من وراء ظهره إظهارا للغضب عليه بحيث لا ينظر مناوله كتابه إلى وجهه.
(30/198)

وظرف {وَرَاءَ ظَهْرِهِ} في موضع الحال من {كِتَابَهُ} .
و {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} أي يرجع. والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي جيء منه، وقد تقدم قريبا في سورة المطففين.
والأهل: العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة.
وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسب حسابا يسيرا في المسرة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالما رابحا لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة فذلك وجه الشبه بين الهيأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية.
وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب، ولأنه قد لا يكون له أهل. وهو أيضا كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان.
والمراد بالدعاء في قوله: {يَدْعُو ثُبُورًا} النداء، أي ينادي الثبور بأن يقول: يا ثبوري، أو يا ثبورا، كما يقال: يا ويلي ويا ويلتنا.
والثبور: الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس.
والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء.
{وَيَصْلَى} قرأه نافع وبن كثير وبن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاه إذا أحرقه. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف {وَيَصْلَى} بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صلي اللازم إذا مسته النار كقوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15].
وانتصب {سَعِيراً} على نزع الخافض بتقدير يصلى بسعير، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوبا بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في سورة النساء [10] فأنظره.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت
(30/199)

من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله: {أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] وقوله: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دعوا بالثبور.
وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان إنك عليه لجريء أي على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الجملة معترضة.
وموقع جملة {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} موقع التعليل لمضمون جملة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} إلى آخرها.
وحرف "أن" فيها مغن عن فاء التعليل، فالمعنى: يصلى سعيرا لأنه ظن أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، أي لأنه يكذب بالبعث، يقال: حار يحور، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه، ثم أطلق إلى الرجوع إلى حالة كان فيها بعد أن فارقها، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع في إطلاق الرجوع عليه في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس:23] وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] وسمي يوم البعث يوم المعاد.
وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه.
وحرف {بلى} يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ويقع بعد غير الاستفهام أيضا نحو قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7].
وموقع {بلى} الاستفهام كأحرف الجواب.
وجملة {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} مبينة للإبطال الذي أفاده حرف {بلى} على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث.
والمعنى: إن ربه عليم بمآله. وتأكيد ذلك بحرف {إن} لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى: أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
(30/200)

وتعدية {بَصِيرًا} بالباء لأنه من بصر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإلصاق.
وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحقه بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح، فجعل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدم صاحبها في حياته الأولى.
وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء.
وعلق وصف "بصير" بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور، والمراد: العلم بأحواله لا بذاته.
وتقديم المجرور على متعلقة للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل.
[16-19] {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} .
الفاء لتفريع القسم وجوابه، على التفصيل الذي في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق:7] إلى هنا: فإنه اقتضى أن ثمة حسابا وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضا جمعا إجماليا لما يعترض في ذلك من الأهوال.
وتقدم أن "لا أقسم" يراد منه أقسم، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال ومخلوقات عند قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} في سورة التكوير [15].
ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسم عليه لأن الشفق والليل والقمر تخالط أحوالا بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} من تفاوت الأحوال التي يتخبط فيها الناس يوم القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير في خلال أحوال شر أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي.
ولعل ذكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مثل حالة
(30/201)

الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين.
والشفق: اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس اثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقا.
و {وَمَا وَسَقَ} "ما" فيه مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب.
والوسق: جمع الأشياء بعضها على بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73]، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقسم به قسما أدمجت فيه منة. وقيل: ما وسقه الليل: النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسق أشياء متفرقة. وهذا أنسب بعطف القمر عليه.
واتساق القمر: اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوسق بمعنى الجمع كما تقدم آنفا وذلك في ليلة البدر، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه.
وأصل فعل اتسق: اوتسق قلبت الواو تاء فوقية طلبا لإدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد.
وجملة {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} نسج نظمها نسجا مجملا لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها.
فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبق من حقيقي مجازي، متسع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعل لإيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإعجاز القرآني.
فأما فعل {لَتَرْكَبُنَّ} فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في
(30/202)

الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدة، منها الغلب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة.
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال: ركب أمرا صعبا وارتكب خطأ.
وأما كلمة {طَبَقٍ} فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئا آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام "الأساس" و"الصحاح" أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشيء لمساويه فهو حقيقة في الغطاء فيكون في الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيد كالخوان والكأس، وظاهر الكشاف أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قيد الاعتلاء عارضا بغلبة الاستعمال، يقال: طابق النعل النعل.
وأياما كان فهو اسم على وزن فعل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عوامل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق، وإما أن يكون أصله اسم الطبق هو الغطاء لوحظ في التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة.
ويطلق اسما مفردا للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل وافق شن طبقة أي غطاءه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساو لما يغطيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طبق عليه.
ويطلق اسما مفردا أيضا على شيء متخذ من أدم أو عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقا لأن أصله يستعمل غطاء الآنية فتوضع فيه أشياء.
ويطلق اسم جمع لطبقة. وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثله في المقدار إلا أنه مرتفع عليه، وهذا من المجاز يقال: أتانا طبق من الناس، أي جماعة.
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى {عن} من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفة كلمة "بعد" وهو معنى مجازي.
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقا بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تقصر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الإنشقاق:6] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاه فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معان كثيرة صالحة لتأويل الآية.
(30/203)

فقيل المعنى: لتركبن حالا بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهر أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين "طبق" في الموضعين للتعظيم والتهويل و {عن} بمعنى "بعد" والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لتلاقن هولا اعظم من هول، كقوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها.
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبدالله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء، وحشر، وسعادة أو شقاوة، ونعيم أو جحيم، كما يكتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث منكر وفي إسناده ضعفاء، أو حالا بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال.
وقيل {لَتَرْكَبُنَّ} منزلة بعد منزلة على أن طبقا اسم منزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوما كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيها للتنويع.
وقيل من كان على صلاح دعا إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجر إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضا بالموعظة وتكون {عن} على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم.
ويحتمل أن يكون الركوب مجازا في السير بعلاقة الإطلاق، أي لتحضرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] وهذا تهديد لمنكريه، أي يكون الركوب مستعملا في المتابعة، أي لتتبعن. وحذف مفعول {تركبن} بتقدير: ليتبعن بعضكم بعضا، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ويكون {طَبَقًا} مفعولا به وانتصاب {طَبَقًا} إما على الحال من ضمير {تركبن} . وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية.
وموقع {عَنْ طَبَقٍ} موقع النعت ل {طَبَقًا} .
ومعنى {عن} إما مجازية، وإما مرادفة معنى "بعد" وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة، ولذلك ضمن النابغة معنى قولهم "ورثوا المجد كابرا عن كابر" غير حرف
(30/204)

"عن" إلى كلمة "بعد" فقال:
لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {لَتَرْكَبُنَّ} بضم الموحدة على خطاب الناس. وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الإنشقاق:6]. وحمل أيضا على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوا متعاقبة من الانشقاق والطي وكونها مرة كالدهان ومرة كالمهل. وقيل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية: قيل هي عدة بالنصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلا بعد قبيل وفتحا بعد فتح كما وجد بعد ذلك أي بعد نزول الآية حين قوي جانب المسلمين فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الإنشقاق:14] وجملة {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإنشقاق:20]. وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين.
[20-21] {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} .
يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال من أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب"من" الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول "من" وهو الجماعة. والمعنى: فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا.
ويجوز أن يكون مفرعا على قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6]، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه. وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإنكار والتعجب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإنسان في قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات.
ويجوز أن يكون تفريعا على قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19] فيكون مخصوصا بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ. والضمير أيضا التفات.
ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القسم بها أنها دلا ئل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالألهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية. والالتفات هو هو.
(30/205)

وتركيب "ما لهم لا يؤمنون" يشمل على "ما" الاستفهامية مخبر عنها بالجار والمجرور، والجملة بعد {لهم} حال من "ما" الاستفهامية.
وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكر أن يسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص.
وجملة {لاَ يُؤْمِنُونَ} في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسم لكان منصوبا كما في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة البقرة [246].
ومتعلق {يُؤْمِنُونَ} محذوف يدل عليه السياق، أي بالبعث والجزاء.
ويجوز تنزيل فعل {يُؤْمِنُونَ} منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور دلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإشراك به.
والمعنى: التعجيب والإنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دعوا إليه وأنذروا به.
و {لاَ يَسْجُدُونَ} عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ} ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن.
وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءة تبليغ ودعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفرادا وقد قال له عبد الله بن أبي بن سلول لا تغشنا به في مجالسنا وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس.
والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48]، أي إذا قريء عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيقته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22].
(30/206)

وليس في هذه الآية ما يقتضي أن عند هذه الآية سجدة من سجود القرآن والأصح من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافا لأبن وهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة. وقال الشافعي: هي سنة. وقال أبو حنيفة: واجبة. والأرجح أن عزائم السجود المنسوبة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصحابة. وإن ثلاث آيات غير الإحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي: إما قد ترك سجودها، وإما لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} . وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك اه.
قلت: وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإحدى عشرة، وقد قال مالك في الموطأ بعد أن روى حديث أبو هريرة "الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء" وقال أبو حنيفة والشافعي: سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق. وقال أحمد: هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحج ففيها سجدتان عنده.
[22] {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} .
يجوز أنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم، وإنكار عليهم إلى الإخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإنكار.
فالإخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
ويجوز أن يكون {بل} إضرابا إبطاليا، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون، أي يستمرون على التكذيب عنادا وكبرياء ويوميء إلى ذلك قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الإنشقاق:23].
وهذان المعنيان نظير الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار [9-10] {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} .
(30/207)

وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده، أي بل هم مستمرون على التكذيب عنادا وليس ذلك اعتقادا فكما نفي عنهم تجدد الإيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أثبت لهم تجدد التكذيب.
وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهارا في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: بل هم يكذبون، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن بها الصلة من ذمهم بالكفر للإيماء إلى علة الخبر، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به.
[23] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} .
اعتراض بين جملة {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22]. وجملة {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الإنشقاق:24] وهو كناية عن الإنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم.
ومعنى {بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأن ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولا عند أتباعهم وبين مجاوريهم.
وأصل معنى الإيعاء: جعل الشيء وعاء والوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يجمع فيه، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت وصارا مشعرا بالتقتير، ومنه قوله تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18] وفي الحديث "لا توعي فيوعي الله عليك" واستعمل في هذه الآية في الإخفاء لأن الإيعاء يلتزم الإخفاء فهو هنا مجاز مرسل.
[24] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
تفريع على جملة {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22].
وفعل "بشرهم" مستعار للإنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير: الإخبار بما يسر وينفع. فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنار على علم، وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
[25] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
(30/208)

يجوز أن يكون الاستثناء متصلا: إما على إنه استثناء من الضمير في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19] جريا على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد.
وإما على أنه استثناء من ضمير الجمع في {فَبَشِّرْهُمْ} [الإنشقاق:24] والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] وقوله في سورة البروج [10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} الآية وفعل {آمَنُوا} على هذا الوجه مراد به المستقبل، وعبر عنه بالماضي للتنبيه على معنى: من تحقق إيمانهم، وما بينهما من قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإنشقاق:20] إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خص به الأهم ممن شملهم عموم {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19].
وقيل هو استثناء منقطع من ضمير {فَبَشِّرْهُمْ} فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم. فحرف {إلا} بمنزلة "لكن" والاستدراك به لمجرد المضادة لا لدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه، فهو تعريف تقريبي.
وجملة {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} استئناف بياني كأن سائلا سأل: كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم?
والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبه مع كرامة بحيث لا يعرض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببه، والمعنى: أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المن ينغص الإنعام قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] وقال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري: طعم الآلاء أحلى من المن. وهو أمر من الآلاء مع المن.
ويجوز أن يكون {غَيْرُ مَمْنُونٍ} بمعنى غير مقطوع يقال: مننت الحبل، إذا قطعه، قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:32-33].
(30/209)

سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبد الله بن عباس عن قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} فقال: غير مقطوع فقال: هل تعرف العرب ذلك? قال: نعم قد عرفه أخو يشكر يعني الحارث بن حلزة حيث يقول:
فترى خلفهن من سرعة الرج ... ع منينا كأنه أهباء
المنين: الغبار لأنها تقطعه وراءها.
(30/210)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج
روى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج" . وهذا ظاهر في أنها تسمى "سورة السماء ذات البروج" لأنه لم يحك لفظ القرآن، إذ لم يذكر الواو.
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات" ، أي السماء ذات البروج والسماء والطارق فمجمعهما جمع سماء وهذا يدل على أن اسم السورتين: سورة السماء ذات البروج، سورة السماء والطارق.
وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير "سورة البروج".
وهي مكية باتفاق.
ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة "والشمس وضحاها" وسورة "التين".
وآيها اثنتان وعشرون آية.
من أغراض هذه السورة
ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثل قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبيتا للمسلمين وتصبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثله ولم يصدهم ذلك عن دينهم.
وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى
(30/211)

المسلمون النعيم الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثل بقوم فرعون وبثمود وكيف كانت عاقبة أمرهم ما كذب الرسل فحصلت العبرة للمشركين في فتنهم المسلمين وفي تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم والتنويه بشأن القرآن.
[1-9] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
في افتتاح السورة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده وإشعار بأهمية المقسم عليه، وهو مع ذلك يلفت ألباب السامعين إلى الأمور المقسم بها، لأن بعضها من دلائل عظيم القدرة الإلهية المقتضية تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطال الشريك، وبعضها مذكر بيوم البعث الموعود، ورمز إلى تحقيق وقوعه، إذ القسم لا يكون إلا بشيء ثابت الوقوع وبعضها بما فيه من الإبهام يوجه أنفس السامعين إلى تطلب بيانه.
ومناسبة القسم لما أقسم عليه أن المقسم عليه تضمن العبرة بقصة أصحاب الأخدود ولما كانت الأخاديد خطوطا مجعولة في الأرض مستعرة بالنار أقسم على ما تضمنها، بالسماء بقيد صفة من صفاتها التي يلوح بها للناظرين في نجومها ما أسماه العرب بروجا وهي تشبه دارات متلألئة بأنوار النجوم اللامعة الشبيهة بتلهب النار.
والقسم بالسماء بوصف ذات البروج يتضمن قسما بالأمرين معا لتلتفت أفكار المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات وهذه الأحوال من دلالة على عظيم القدرة وسعة العلم الإلهي إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها الناس في مواقيت الأشهر والفصل. كما قال تعالى في نحو هذا {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97].
وأما مناسبة القسم باليوم الموعود فلأنه يوم القيامة باتفاق أهل التأويل لأن الله وعد بوقوعه قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] مع ما في القسم به من
(30/212)

إدماج الإيماء إلى وعيد أصحاب القصة المقسم على مضمونها، ووعيد أمثالهم المعرض بهم.
ومناسبة القسم ب {شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} على اختلاف تأويلاته، ستذكر عند ذكر التأويلات وهي قريبة من مناسبة القسم باليوم الموعود، ويقابله في المقسم عليه قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .
والبروج: تطلق على علامات من قبة الجو يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية، فالبروج: اسم منقول من اسم البرج بمعنى القصر لأن الشمس تنزله أو منقول من البرج بمعنى الحصن.
والبرج السماوي يتألف من مجموعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبدا. وغنما سمي برجا لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تحل فيه مدة فهو كالبرج، أي القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يخال منها شكل لو أحيط بإطار لخط مفروض لأشبه محيطها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات، ميزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريبا فقالوا: برج الثور، برج الدلو، برج السنبلة مثلا.
وهذه البروج هي في التحقيق: سموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهارا في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في سورة الفرقان [61].
و {شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} مراد بهما النوع. فالشاهد: الرائي، أو المخبر بحق الإلزام منكره. والمشهود: المرئي أو المشهود عليه بحق. وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضر ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].
ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أو الرسل والملائكة.
والمشهود: الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها: هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطلعون
(30/213)

على ما يجري في المجمع، وإن المشهود: الذي يطلع الناس على ما يجري عليه.
ويجوز أن يكون الشاهد: الشاهدين من الملائكة، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال، والمشهود: أصحاب الأعمال. وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حيث يقول الكفار: ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وبين ما في المقسم عليه من قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} ، وقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي حضور.
وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة" . أي فالتقدير: ويوم شاهد ويوم مشهود. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه اه.
ووصف "يوم" بأنه {شَاهِدٍ} مجاز عقلي، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف {شَاهِدٍ} ووصف {مَشْهُودٍ} فهو من حمل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة.
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل تقديره: أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال: أو لتبعثن.
وقيل الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج هو {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي والكلام بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد الحقيق الذي أفاد القسم بتحقيق ذكر النظير. وقال الفراء: الجواب {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} أي فيكون قتل خبرا لا دعاء ولا شتما ولا يلزم ذكر قد في الجواب مع كون الجواب ما ضيا لآن قد تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطا بالضرورة.
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملا في لازم معناه من الإنذار للذين يفتنون المؤمنين بأن يحل بهم ما حل بفاتني أصحاب الأخدود، وإلا فإن الخبر عن
(30/214)

أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب.
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} إلى قوله: {وَمَا نَقَمُوا} يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود واضعيه لتعذيب المؤمنين.
وقيل الجواب هو جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضا وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج.
وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يقتلوا ففعل قتل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10]. وقولهم قاتله الله، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله.
وقيل هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] والقتل مستعار لأشد العذاب كما يقال: أهلكه الله، أي أوقعه في أشد العناء، وأيا ما كان فجملة {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا على معترضة بين القسم وما بعده.
ومن جعل {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} جواب القسم جعل الكلام خبرا وقدره لقد قتل أصحاب الأخدود، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين ألقوا فيه وعذبوا فيه ويكون لفظ أصحاب مستعملا في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] ولقد علمت آنفا تعين تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه.
ولفظ {أَصْحَابُ} يعم الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لحفره وتسعيره، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه.
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية.
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين وأصحها ما رواه مسلم والترمذي عن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قص هذه القصة على أصحابه. وليس فيما روي
(30/215)

تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيرا لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج.
وعم مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد في نجران، وبالشام، وبفارس أما الذين بالشام ف انطانيوس الرومي وأما الذي بفارق فهو بختنصر والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وإنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر. وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السلام ويقرأ الأنجيل اسمه فيميون بفاء، فتحتية، فميم. فتحتية وضبط في الطبعة الأوربية من "سيرة ابن إسحاق"-التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح، بفتح فسكون فكسر فضم قال السهيلي: ووقع للطبري للقاف عوض الفاء. وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة أصله من غسان من الشام ثم ساح فاستقر بنجران، وكان منعزلا عن الناس مختفيا في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات. وكانت كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية، فكثر المنتصرون في نجران وبلغ ذلك الملك ذا نؤاس وكان يهوديا وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلام وقتل الراهب وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت، وعرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار.
فكان أصحاب الأخدود ممن عذب في أهل دين المسيحية في بلاد العرب. وقصص الأخاديد كثيرة في التاريخ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة، ومنها: نار إبراهيم عليه السلام. وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بني تميم وتلقيبه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود. وقال ابن عطية: رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم مائة.
و {الأخدود} : بوزن أفعول وهو صيغة قليلة الدوران غير مقيسة، ومنها قولهم: أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه، وقولهم أسلوب اسم لطريقة، ولسطر النحل، وأقنوم اسم لأصل الشيء. وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة، وأعجوبة، وأطروحة، وأضحوكة.
وقوله: {النَّارِ} بدل من الأخدود بدل اشتمال أو بعض من كل لأن المراد
(30/216)

بالأخدود الحفير بما فيه.
والوقود: بفتح الواو اسم ما توقد به النار من حطب ونفط ونحوه.
ومعنى {ذَاتِ الْوَقُودِ} : أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقودا يلقى فيها كلما خبت.
ويتعلق {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} بفعل قتل، أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود.
وضمير {هم} عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه، أو أريد بها المأمورون من الملك. فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها، و"على" للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها. وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق
ومثله قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]، أي عنده.
وعلى احتمال أن يكون المراد ب {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} المؤمنين المعذبين فيه، فالقعود حقيقة و"على" للاستعلاء الحقيقي، أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيبا وتمثيلا، أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيبا.
وأعيد ضمير {هم} في قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} ليتعين أن يكون عائدا إلى بعض أصحاب الأخدود.
وضمير {يَفْعَلُونَ} يجوز أن يعود إلى {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ، فمعنى كونهم شهودا على ما يفعلونه: أن بعضهم يشهد لبعض عند الملك بأن أحدا لم يفرط فيما وكل به من تحريق المؤمنين، فضمائر الجميع وصيغته موزعة.
ويجوز أن يعود الضمير إلى ما تقتضيه دلالة الاقتضاء من تقسيم أصحاب الأخدود إلى أمراء ومأمورين شأن الأعمال العظيمة فلما أخبر عن أصحاب الأخدود بأنهم قعود على النار علم أنهم الموكلون بمراقبة العمال. فعلم أن لهم أتباعا من سعارين ووزع فهم معاد ضمير يفعلون.
(30/217)

وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون شهود جمع شاهد بمعنى مخبر بحق، وأن يكون بمعنى حاضر ومراقب لظهور أن أحدا لا يشهد على فعل نفسه.
وجملة {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} في موضع الحال من ضمير {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} كأنه قيل: قعود شاهدين على فعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدمين في معاد ضمير {مَا يَفْعَلُونَ} ، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيم جرمه إذ كانوا يشاهدون تعذيب المؤمنين لا يرأفون في ذلك ولا يشمئزون، وبذلك فارق مضمون هذه الجملة مضمون جملة {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} باعتبار تعلق قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .
وفي الإتيان بالموصول في قوله: {مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} من الإبهام ما يفيد أن لموقدي النار من الوزعة والعمل ومن يباشرون إلقاء المؤمنين فيها غلظة وقسوة في تعذيب المؤمنين وإهانتهم والتمثيل بهم، وذلك زائد على الإحراق.
وجملة {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها.
والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم في شأنه أن ينقم من فاعله فإن كان الذين خددوا الأخدود يهودا كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيء ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم. ومحل التعجيب أن الملك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذبون قوما آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة:59] وإن كان الذين خددوا الأخدود مشركين فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأن شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركا.
وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يمدحوا به لأنهم آمنوا برب حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذ ما عداه لأنه ينصر مواليه ويثيبهم ولأنه يملكهم، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا
(30/218)

يملك منهم شيئا فيقوى التعجيب منهم بهذا.
وجملة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل بوعيد للذين أتخذوا الأخدود وبوعد الذين عذبوا في جنب الله، ووعيد لأمثال أولئك من كفار قريش وغيرهم من كل من تصدوا لأذى المؤمنين ووعد المسلمين الذين عذبهم المشركون مثل بلال وعمار وصهيب وسمية.
[10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} .
إن كان هذا جوابا للقسم على بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاما معترضا يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعد به نظيرهم، وإن كان الجواب في قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] كان قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسم عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش.
وتأكيد الخبر ب {إن} للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعة من فتن المؤمنين.
والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر {إن} من قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} كما سيأتي.
وقد عد من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأس الفتنة ومسعرها، وأمية بن خلف وصفوان بن أمية، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، وأم أنمار، ورجل من بني تيم.
والمفتنون: عد منهم بلال بن رباح كان عبدا لأمية بن خلف فكان يعذبه، وأبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية، وخباب بن الأرت كان عبد لأم أنمار، وعمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأخوه عبد الله كانوا عبيدا لأبي حذيفة بن المغيرة فوكل بهم أبا جهل، وعامر بن فهيرة كان عبدا لرجل من بني تيم.
والمؤمنات المفتونات منهن: حمامة أم بلال أمة أمية بن خلف. وزنيرة، وأم عنيس
(30/219)

كانت أمة للأسود بن عبد يغوث، والنهدية وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفة، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها، وسمية أم عمار بن ياسر كانت لعم أبي جهل.
وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن المنبه بن الحجاج.
وعطف {الْمُؤْمِنَاتِ} للتنويه بشأنهن لئلا يظن أن هذه المزية خاصة بالرجال، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساء والشأن أن لا يعترض لهن بالغلظة.
وجملة {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} معترضة. و {ثم} فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين.
وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلموا من عذاب جهنم.
والفتن: المعامة بالشدة والإيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصا إلا بعناء أو ضر أخف أو حيلة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191].
ودخول الفاء في خبر "أن" من قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} لأن اسم "إن" وقع موصولا والموصول يضمن معنى الشرط في الاستعمال كثيرا. فتقدير: إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم، لأن عطف قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط.
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} عطف في معنى التوكيد اللفظي في جملة {لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} . واقترانها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يوجد أعظم من الوعيد الأول. مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدول وإن كان مآل المدلولين واحدا. وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد.
على أن الزج بهم في جهنم عذاب قبل أن يذوقوا عذاب حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين.
(30/220)

ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].
ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث "القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة" رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر.
[11] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .
يجوز أن يكون استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} المقتضى أنهم إن تابوا لم يكن لهم عذاب جهنم فيتشوف السامع إلى معرفة حالهم أمقصورة على السلامة من عذاب جهنم أو هي فوق ذلك فأخبر بأن لهم جنات فإن التوبة الإيمان، فلذلك جيء بصلة {آمَنُوا} دون: تابوا، ليدل على أن الإيمان والعمل الصالح هو التوبة من الشرك الباعث على فتن المؤمنين، وهذا الاستئناف وقع معترضا.
ويجوز أن يكون اعتراضا بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] وجملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] اعتراضا بالبشارة في خلال الإنذار لترغيب المنذرين في الإيمان، ولتثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من أذى المشركين على عادة القرآن في إرداف الإرهاب بالترغيب.
والتأكيد ب {إن} للاهتمام بالخبر.
والإشارة في {ذلك} إلى المذكور من اختصاصهم بالجنات والأنهار.
و {الْكَبِيرُ} : مستعار للشديد في بابه، والفوز: مصدر.
[12] {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
جملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} علة لمضمون قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [البروج:10]، أي لأن بطش الله شديد على الذين فتنوا الذين آمنوا به. فموقع {إن} في التعليل يغني عن فاء التسبب.
وبطش اله يشمل تعذيبه إياهم في جهنم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع
(30/221)

في الدنيا قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] ووجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأن بطش الله بالذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له.
[13] {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} .
تصلح لأن تكون استئنافا ابتدائيا انتقل به من وعيدهم بعذاب الآخرة إلى توعدهم بعذاب في الدنيا يكون من بطش الله، أردف به وعيد عذاب الآخرة لأنه أوقع في قلوب المشركين إذ هم يحسبون أنهم في أمن من العقاب إذ هم لا يصدقون بالبعث فحسبوا أنهم فازوا بطيب الحياة الدنيا.
والمعنى: أن الله يبطش بهم في البدء والعود، أي في الدنيا والآخرة.
وتصلح لأن تكون تعليلا لجملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] لأن الذي يبدئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإبداء، وفي الآخرة إعادة البطش.
وتصلح لأن تكون إدماجا للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده فيكون كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].
والبطش: الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا.
ويبدئ: مرادف يبدأ، يقال: بدأ وأبدأ. فليست همزة أبدأ للتعدية.
وحذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداء، ويعاد بعد ذلك فشمل بدأ الخلق وإعادته وهو البعث، وشمل البطش الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وإخلافها بعد هلاك أوائلها. وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة.
وضمير الفصل في قوله: {هُوَ يُبْدِئُ} للتقوي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا. إذ ليس في المقام رد على من يدعي أن غير الله يبدئ ويعيد. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة [5] أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع على قول المازني، وهو التحقيق. ودليله قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} وقد تقدم في سورة فاطر [10].
(30/222)

[14-16] {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
جملة معطوفة على جملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، ومضمونها قسيم لمضمون {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . لأنه لما أفيد تعليل مضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] إلى آخره، ناسب أن يقابل بتعليل مضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [البروج:11] إلى آخره، فعلل بقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} ، فهو يغفر للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ما فرط منهم وهو يحب التوابين ويودهم.
و {الْوَدُودُ} : فعول بمعنى فاعل مشتق من الود وهو المحبة فمعنى الودود: المحب وهو من أسمائه تعالى، أي إنه يحب مخلوقاته ما لم يحيدوا عن وصايته. والمحبة التي يوصف الله بها مستعملة في لازم المحبة في اللغة تقريبا للمعنى المتعالي عن الكيف وهو من معنى الرحمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} في آخر سورة هود [90].
ولما ذكر الله من صفاته ما تعلقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلونه من جزاء أعقب ذلك بصفاته الذاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} تنبيها للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله.
و {الْعَرْشِ} :اسم لعالم يحيط بجميع السماوات، سمي عرشا لأنه دال على عظمة الله تعالى كما يدل العرش على أن صاحبه من الملوك.
و {الْمَجِيدُ} : العظيم القوي في نوعه، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وهما شجران يكثر قدح النار من زندهما.
وقرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر رابع عن ضمير الجلالة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالجر نعتا للعرش فوصف العرش بالمجد كناية عن مجد صاحب العرش.
ثم ذيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذاتية وعظمة نعمه بقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي إذا تعلقت إرادته بفعل، فعله على أكمل ما تعلقت به إرادته لا ينقصه شيء ولا يبطيء به ما أراد تعجيله. فصيغة المبالغة في قوله: {فَعَّالٌ} للدلالة على الكثرة في الكمية والكيفية.
(30/223)

والإرادة هنا هي المعرفة عندنا بأنها صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه وهي غير الإرادة بمعنى المحبة مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} [البقرة:185].
[17-18] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} .
متصل بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم للاستدلال على كون بطشه تعالى شديدا ببطشين بطشهما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] فذلك تعليل، وهذا تمثيل ودليل.
والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل حديث الجنود بأن يسأل عن عمله. وفيه تعريض للمشركين بأن قد يحل بهم ما حل بأولئك {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم: 50-55].
والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد، كحال من لا يعلم خبرهم فيسأل هل بلغه خبرهم أو لا، أو خطابا لغير معين تعجيبا من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملا في التعجيب.
والإتيان: مستعار لبلوغ الخبر، والحديث: الخبر. وتقدم في سورة النازعات.
و {الْجُنُودِ} : جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال. وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ} [ص:11] واستعير الجند للملأ بقوله: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص:6] ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب.
وأبدل فرعون وثمود من الجنود بدلا مطابقا لأنه أريد العبرة بهؤلاء.
و {فرعون} : اسم لملك مصر من القبط وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف [103].
والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه. فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الابدال من الجنود.
وضرب المثل بفرعون لأبي جهل وقان يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة،
(30/224)

وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم.
وتخصيص ثمود بالذكر من بقية الأمم التي كذبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبع، ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب. لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثاره.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} في سورة الأعراف [73]. وهو اسم عربي ولكن يطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا.
[19-20] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} .
إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماس المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف.
وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكا لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق.
وحذف متعلق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير: أنهم في تكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالوحي المنزل إليه وبالبعث.
وجملة {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} عطف على جملة {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} ، أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقابا لا يفلتون منه. فقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدو من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإفلات وجد العدو محيطا به، وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جدوى.
وقد قوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقا فقوله: {وَاللَّهُ
(30/225)

مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} خبر مستعمل في الوعيد والتهديد.
[21-22] {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .
إضراب إبطال لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بينة فاستمرارهم على التكذيب ناشيء عن سوء اعتقادهم صدق القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم: أساطير الأولين، إفك مفترى، قول كاهن، قول شاعر، فكان التنويه به جامعا لإبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإيجاز.
و {قُرْآنٌ} : مصدر قرأ على وزن فعلان الدال على كثرة الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان. وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه سواء كان مكتوبا في صحيفة أم كان ملقنا لتاليه بحيث لا يخالف أصله كلام تاليه ولذلك لا يقال لنقل كلام أنه قراءة إلا إذا كان كلاما مكتوبا أو محفوظا.
وكلمة جاء {قُرْآنٌ} منكرا فهو مصدر وأما اسم كتاب الإسلام فهو بالتعريف باللام لأنه علم بالغلبة.
فالإخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون: أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك.
ووصف {قُرْآنٌ} صفة أخرى بأنه مودع في لوح.
واللوح: قطعة من خشب مستوية تتخذ ليكتب فيها.
وسوق وصف {فيِ لَوْحٍ} مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعين أن اللوح كائن قدسي من كائنات العالم العلوي المغيبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوبا في لوح علوي كما جعل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] وقال {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:150] وقال {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} [الأعراف:154]، وأما لوح القرآن فجعله محفوظا في العالم العلوي.
وبعض علماء الكلام فسروا اللوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا
(30/226)

ظهورها في الوجود بالقدر، وعلى ذلك درج الأصفهاني في شرحه على الطوالع حسبما نقله المنجور في شرح نظم ابن زكري مسوقا في قسم العقائد السمعية وفيه نظر. وورد في آثار مختلفة القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش. واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه.
وجاء في آية سورة الواقعة {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء واحد.
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهي في الوقوع، فالمحفوظ: المصون من كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له. والمكنون الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عزوها.
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي: حسن غريب، وفيه عن ابن عباس اه.
وخلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره.
والمجيد: العظيم في نوعه كما تقدم في قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهديا ووعظا، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته.
ووقع في التعريفات للسيد الجرجاني: أن الألواح أربعة.
أولها: لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول.
الثاني: لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ.
الثالث: لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا.
الرابع: لوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اه.
وهو إصطلاح مخلوط بين التصرف والفلسفة. ولعله مما استقراه السيد من كلام
(30/227)

عدة علماء.
وقرأ الجمهور {مَحْفُوظٍ} بالجر على أنه صفة {لَوْحٍ} . وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن.
وقرأه نافع وحده برفع {مَحْفُوظٍ} على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله: {فيِ لَوْحٍ} ب {مَحْفُوظٍ} . وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضا، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن واللوح. فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه. أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 78-79].
(30/228)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطارق
روى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والطارق" اه. فسماها أبو هريرة: السماء والطارق لأن الأظهر أن الواو من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} واو العطف، ولذلك لم يذكر لفظ الآية الأولى منها بل أخذ لها اسما من لفظ الآية كما قال في {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1].
وسميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف "سورة الطارق" لوقوع هذا اللفظ في أولها. وفي "تفسير الطبري" و "أحكام ابن العربي" ترجمت {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} .
وهي سبع عشرة آية.
وهي مكية بالاتفاق نزلت قبل سنة عشر من البعثة. أخرج أحمد بن حنبل عن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] حتى ختمها قال: "فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام" الحديث.
وعددها في ترتيب نزول السور السادسة والثلاثين. نزلت بعد سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وقبل سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
أغراضها
إثبات إحصاء الأعمال والجزاء على الأعمال.
وإثبات إمكان البعث بنقض ما أحاله المشركون ببيان إمكان إعادة الأجسام.
(30/229)

وأدمج في ذلك التذكير بدقيق صنع الله وحكمته في خلق الإنسان.
والتنويه بشأن القرآن.
وصدق ما ذكر فيه من البعث لأن إخبار القرآن به لما استبعدوه وموهوا على الناس بأن ما فيه غير صدق. وتهديد المشركين الذين ناووا المسلمين.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ووعده بأن الله منتصر له غير بعيد.
[1-4] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، ِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} .
افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق إليه كما تقدم في سوابقها. ووقع القسم بمخلوقين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما: السماء، والنجوم، أو نجم منها عظيم منها معروف، أو ما يبدو انقضاضه من الشهب كما سيأتي.
{وَالطَّارِقِ} : وصف مشتق من الطروق، وهو المجيء ليلا لأن عادة العرب أن النازل بالحي ليلا يطرق شيئا من حجر أو وتد إشعار لرب البيت أن نزيلا نزل به لأن نزوله يقضي بأن يضيفوه، فأطلق الطروق على النزول ليلا مجازا مرسلا فغلب الطروق على القدوم ليلا.
وأبهم الموصوف بالطارق ابتداء، ثم زيد إبهاما مشوبا بتعظيم أمره بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثم بين بأنه {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ليحصل من ذلك مزيد تقرر للمراد بالمقسم به وهو أنه من جنس النجوم شبه طلوع النجم ليلا بطروق المسافر الطارق بيتا بجامع كونه ظهورا في الليل.
و {مَا أَدْرَاكَ} استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [في الشورى: 17]، وعند قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] وتقدم الفرق بين: ما يدريك، وما أدراك.
وقوله: {النَّجْمُ} خبر عن ضمير محذوف تقديره: هو، أي الطارق النجم الثاقب.
والثقب: خرق شيء ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النور في خلال ظلمة الليل. شبه النجم بمسار أو نحوه، وظهور ضوئه بظهور ما يبدو من المسار من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لوح أو ثوب.
(30/230)

وأحسب أن استعارة الثقب لبروز شعاع النجم في ظلمة الليل من مبتكرات القرآن ولم يرد في كلام العرب قبل القرآن. وقد سبق قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [في سورة الصافات: 10]، ووقع في تفسير القرطبي: والعرب تقول اثقب نارك، أي أضئها، وساق بيتا شاهدا على ذلك ولم يعزه إلى قائل.
والتعريف في {النَّجْمُ} يجوز أن يكون تعريف الجنس كقول النابغة:
أقول والنجم قد مالت أواخره... البيت
فيستغرق جميع النجوم استغراقا حقيقيا وكلها ثاقب فكأنه قيل، والنجوم، إلا أن صيغة الإفراد في قوله: {الثَّاقِبُ} ظاهر في إرادة فرد معين من النجوم، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إشارة إلى نجم معروف يطلق عليه اسم النجم غالبا، أي والنجم الذي هو طارق.
ويناسب أن يكون نجما يطلع في أوائل ظلمة الليل وهي الوقت المعهود لطروق الطارقين من السائرين. ولعل الطارق هو النجم الذي يسمى الشاهد، وهو نجم يظهر عقب غروب الشمس، وبه سميت صلاة المغرب صلاة الشاهد.
روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة أي صلاة العصر فرضت على من كان قبلكم فضيعوها إلى قوله ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد" .
وقيل أريد ب {الطَّارِقُ} نوع الشهب روي عن جابر بن زيد: أن النجم الطارق هو كوكب زحل لأنه مبرز على الكواكب بقوة شعاعه. وعنه: أنه الثريا لأن العرب تطلق عليها النجم علما بالغلبة ، وعن ابن عباس: أنه نجوم برج الجدي، ولعل ذلك النجم كان معهودا عند العرب واشتهر في ذلك في نجم الثريا.
وقيل: أريد بالطارق نوع الشهب أي لأن الشهاب ينقض فيلوح كأنه يجري في السماء كما يسير السائر الذي أدركه الليل. فالتعريف في لفظ {النَّجْمُ} للاستغراق، وخص عمومه بوقوعه خبرا عن ضمير {الطَّارِقُ} أي أن الشهاب عند انقضاضه يرى سائرا بسرعة ثم يغيب عن النظر فيلوح كأنه استقر فأشبه إسراع السائر ليلا ليبلغ إلى أحياء المعمورة فإذا بلغها وقف سيره.
وجواب القسم هو قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جعل كناية تلويحية رمزية عن المقصود. وهو إثبات البعث فهو كالدليل على إثباته، فإن إقامة الحافظ تستلزم شيئا
(30/231)

يحفظه وهو الأعمال خيرها وشرها، وذلك يستلزم إرادة المحاسبة عليها والجزاء بما تقتضيه جزاء مؤخرا بعد الحياة الدنيا لئلا تذهب أعمال العاملين سدا وذلك يستلزم أن الجزاء مؤخر إلى ما بعد هذه الحياة إذ المشاهد تخلف الجزاء في هذه الحياة بكثرة، فلو أهمل الجزاء لكان إهماله منافيا لحكمة الإله الحكيم مبدع هذا الكون كما قال {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] وهذا الجزاء المؤخر يستلزم إعادة حياة للذوات الصادرة منها الأعمال.
فهذه لوازم أربعة بها كانت الكناية تلويحية رمزية.
وقد حصل مع هذا الاستدلال إفادة أن على الأنفس حفظة فهو إدماج.
والحافظ: هو الذي يحفظ أمرا ولا يهمله ليترتب عليه غرض مقصود.
وقرأ الجمهور {لما} بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو جعفر وخلف بتشديد الميم.
فعلى قراءة تخفيف الميم تكون {إن} مخففة من الثقيلة و {لما} مركبة من اللام الفارقة بين {إن} النافية و {إن} المخففة من الثقيلة ومعها {ما} الزائدة بعد اللام للتأكيد وأصل الكلام: إن كل نفس لعليها حافظ.
وعلى قراءة تشديد الميم تكون {إن} نافية و {لما} حرف بمعنى {إلا} فإن {لما} ترد بمعنى {إلا} في النفي وفي القسم، تقول: سألتك لما فعلت كذا أي إلا فعلت، على تقدير: ما أسألك إلا فعل كذا فآلت إلى النفي وكل من {إن} المخففة و {إن} النافية يتلقى بها القسم.
وقد تضمن هذا الجواب زيادة على إفادته تحقيق الجزاء إنذارا للمشركين بأن الله يعلم اعتقادهم وأفعالهم وأنه سيجازيهم على ذلك.
[5-7] {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} .
الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفا، فالتقدير: فإن رأيتم البعث محالا فلينظر الإنسان
(30/232)

مم خلق ليعلم أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول.
فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة.
والنظر: نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4].
و {من} من قوله: {مِمَّ خُلِقَ} ابتدائية متعلقة ب {خُلِقَ} . والمعنى: فليتفكر الإنسان في جواب: ما شيء خلق منه? فقدم المعلق على عامله تبعا لتقديم ما اتصلت به من {من} اسم الاستفهام.
و {ما} استفهامية علقت فعل النظر العقلي عن العمل.
والاستفهام مستعمل في الإيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب.
وحذف ألف {ما} الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة.
ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1، 2].
و {الإنسان} مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفا من مقتضى التفريع في قوله: {فلينظر} الخ.
ومعنى {دَافِقٍ} خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل.
وصيغة {دَافِقٍ} اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين. وقال الجمهور: لا يستعمل دفق قاصرا. وجعلوا دافقا بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر.
وعن الفراء: أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا، إذا كان في طريقة النعت. وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم: لابن وتامر، ففسر دافق: بذي دفق.
والأحسن أن يكون اسم فاعل ويكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جبر بمعنى انجبر في قوله:
(30/233)

قد جبر الدين الإله فجبر
وأنه سماعي.
وأطنب في وصف هذا الماء الدافق لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علما ويقينا.
ووصف أنه يخرج من {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لأن الناس لا يتفطنون لذلك.
والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب.
والصلب: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات.
والترائب: جمع تريبة، ويقال: تريب. ومحرر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقوتين والثديين ووسمه بأنه موضع القلادة من المرأة.
والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.
وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} الضمير عائد إلى {مَاءٍ دَافِقٍ} وهو المتبادر فتكون جملة يخرج حالا من {مَاءٍ دَافِقٍ} أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه. وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكون ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين.
فجعل الإنسان مخلوقا من ماء الرجل لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكون منه الجنين ويطرح ما عداه.
وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.
ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه
(30/234)

أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة ومقرها الانثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة.
ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة وهما بمنزلة الانثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين. وخروج البيضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرت فخرجت البيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النمو وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها.
وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي مؤلف من شرايين وأوردة وأعصاب وينتهي إلى الانثيين وهما الغدتان اللتان تفرزان المني فيتكون هنالك بكيفية دهنية وتبقى منتشرة في الانثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولذع القضيب المتصل بالانثيين فيندفق في رحم المرأة.
وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقات اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب لأن فيه الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل. والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطهر. والرحم يأتيها عصب من الدماغ.
وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال: "تغتسل إذا أبصرت الماء" فقيل له: "أترى المرأة ذلك" فقال "وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه" .
(30/235)

[8-10] {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} .
استئناف بياني ناشيء عن قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] لأن السامع يتساءل عن المقصد من هذا الأمر بالنظر في أصل الخلقة. وإذ قد كان ذلك النظر نظر استدلال فهذا الاستئناف البياني له يتنزل منزلة نتيجة الدليل، فصار المعنى: إن الذي خلق الإنسان من ماء دافق قادر على إعادة خلقه بأسباب أخرى وبذلك يتقرر إمكان إعادة الخلق ويزول ما زعمه المشركون من استحالة تلك الإعادة.
وضمير {إنه} عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر لمعاد ولكن بناء الفعل للمجهول في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6]، يؤذن بأن الخالق معروف لا يحتاج إلى ذكر اسمه، وأسند الرجع إلى ضمير دون سلوك طريقة البناء للمجهول كما في قوله: {خُلِقَ} لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك.
وضمير {رَجْعِهِ} عائد إلى {الْأِنْسَانُ} [الطارق:5].
والرجع: مصدر رجعه المتعدي. ولا يقال في مصدر رجع القاصر إلا الرجوع.
و {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} متعلق ب {رَجْعِهِ} أي يرجعه يوم القيامة.
والسرائر: جمع سريرة وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وعقائده.
وبلو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلو الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر.
ولما كان بلو السرائر مؤذنا بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} مشعرا بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} ، فالضمير عائد إلى {الْأِنْسَانُ} [الطارق:5]. والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه.
[11-14] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} .
(30/236)

بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالا لما موه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية.
فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة.
وافتتح الكلام بالقسم تحقيقا لصدق القرآن في الإخبار بالبعث في غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى. وذلك أعيد القسم ب {السَّمَاءِ} كما أقسم بها في أول السورة، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه، وهو الغيث الذي به صلاح الناس، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر. وفي الحديث "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا" الحديث.
وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة.
وعطف {الْأَرْضِ} في القسم لأن بذكر الأرض إتمام المناسبة بين المقسم والمقسم عليه كما علمت من المثل الذي في الحديث.
والصدع: الشق، وهو المصدر بمعنى المفعول، أي المصدوع عنه، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} [عبس 25-29].
ولأن في هذين الحالين إيماء إلى دليل آخر من دلائل إحياء الناس للبعث فكان في هذا القسم دليلان.
والضمير الواقع إسما ل {إن} عائد إلى القرآن وهو معلوم من المقام.
والفصل مصدر بمعنى التفرقة، والمراد أنه يفصل بين الحق والباطل، أي يبين الحق ويبطل الباطل، والإخبار بالمصدر للمبالغة، أي إنه لقول فاصل.
وعطف {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بعد الثناء على القرآن بأنه {قَوْلٌ فَصْلٌ} يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته، والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن ردا على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحيون، يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك
(30/237)

المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، فالهزل على هذا الوجه هو ضد الجد أعني المزح واللعب، ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيرا في المدح لا سيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة.
ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي بالهذيان.
[15-16] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً} .
استئناف بياني ينبيء عن سؤال سائل يعجب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعجب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم: هو هزل أو هذيان أو سحر، فبين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود. فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهو إنما يصرفهم عن الإيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعللات الملفقة.
والتأكيد ب {إن} لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه.
ويجوز أن يكون قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن. أي إنما يدعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذبا على نحو قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
والضمير الواقع اسما ل {إن} عائد إلى ما فهم من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14] من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك، أي أن المشركين المكذبين يكيدون.
وجملة {وَأَكِيدُ كَيْداً} تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر.
و {كَيْداً} في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم.
والكيد: إخفاء قصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته. وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه
(30/238)

الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية، شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسنها محسن المشاكلة.
[17] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
الفاء لتفريع الأمر بالإمهال على مجموع الكلام السابق من قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]، بما فيه من صريح وتعريض وتبيين ووعد بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع به لا محالة.
والتمهيل: مصدر مهل بمعنى أمهل، وهو الإنظار إلى وقت معين أو غير معين، فالجمع بين "مهل" و {أَمْهِلْهُمْ} تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير.
والمراد ب {الْكَافِرِينَ} ما عاد عليه ضمير {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق: 15]، فهو إظهار في مقام الإظمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون.
و {رُوَيْداً} تصغير رود بضم الراء بعدها واو، ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رود بفتح الراء وسكون الواو، وهو المهل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل {أَمْهِلْهُمْ} فقد أكد قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} مرتين.
والمعنى: انتظر ما سيحل بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتياد فيكون {رُوَيْداً} كناية عن تحقق ما يحل بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به.
وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مهلة غير طويلة.
ويجوز أن يكون {رُوَيْداً} هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم: رويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شرطا، ويكون الوقف على قوله: {الْكَافِرِينَ} و {رُوَيْداً} كلاما مستقلا، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر ولا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة.
(30/239)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى
هذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: "أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى" اهـ.
وفي "صحيح البخاري" عن البراء بن عازب قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" .
وسمتها عائشة "سَبِّحِ". روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث. فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير. لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة "سَبِّحِ" بصيغة الأمر.
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف "سورة الأعلى" لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15]، نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني.
(30/240)

وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية.
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6].
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل. وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا: أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم ن~، ثم المزمل، ثم تبت، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك. وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده الثامنة، فهي من أوائل السور وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ينادي على ذلك.
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على تلقي الوحي.
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين.
[1-5] {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسم ربه بالقول، يؤذن بأنه سيلقي إليه عقبه بشارة وخيرا له وذلك قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله، وكذلك
(30/241)

أسماء المصدر منه نحو: سبحان الله. وهو من المعاني الدينية، فأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} في [سورة البقرة: 30].
وإذ عدي فعل الأمر بالتسبيح هنا إلى اسم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني، ولما كان أقوالا كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها، وذلك آيل إلى تنزيه المسمى بتلك الأسماء. ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير.
فتسبيح اسم الله النطق بتنزيهه في الخويصة وبين الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد. ويشمل ذلك استحضار الناطق بألفاظ التسبيح معاني تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه. وبتظاهر النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم الله تعالى.
وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمى اسمه ولا يسمى تسبيح اسم الله، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحا لاسمه.
وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} ، وبين تعلقه بدون اسم نحو {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26] ونحو {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: 206] فإذا قلنا {اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص: 1] أو قلنا {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر: 23] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحا لاسمه تعالى وإذا نفينا الإلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] كان ذلك تسبيحا لذات الله لا لأسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف.
فهذا مناط الفرق بين استعمال {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} واستعمال {وَسَبِّحْهُ} ومآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإطلاقين مراد به الإرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائض.
(30/242)

واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجود قرينة في الكلام تقتضيه مثل التوقيت بالوقت في قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولا مثله.
وتعريف {اسم} بطريقة الإضافة إلى {رَبِّكَ} دون تعريفه بالإضافة إلى علم الجلالة نحو: سبح اسم الله، لما يشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر. وأما إضافة (رب) إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح.
ثم أجري على لفظ {رَبِّكَ} صفة {الأَعْلَى} وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم، وهدايتهم، ورزقهم، وزرق أنعامهم، للإيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقا لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقا يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه.
فلفظ {الأَعْلَى} اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع. والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينسب العلو بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا. ولهذا حكي عن فرعون أنه قال {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
والعلو المشتق منه وصفه تعالى {الأَعْلَى} علو مجازي، وهو الكمال التام الدائم.
ولم يعد وصفه تعالى {الأَعْلَى} في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه {العلي} لأن أسماء الله توقيفية فلا من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاق الأسماء، وهو أوغل من الصفات، قال الغزالي: والعلو في الرتبة العقلية مثل العلو في التدريجات الحسية، ومثال الدرجة العقلية، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اهـ.
وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه
(30/243)

وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلو الإلهي إذ هو كلامه.
وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات.
وقد جعل من قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي.
وجملة {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} اشتملت على وصفين وصف الخلق ووصف تسوية الخلق، وحذف مفعول {خَلَقَ} فيجوز أن يقدر عاما، وهو ما قدره جمهور المفسرين، وروي عن عطاء، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
ويجوز أن يقدر خاصا، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك، أي بقرينة قرن فعل {خَلَقَ} بفعل {سوى} قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] الآية.
وعطف جملة {فَسَوَّى} بالفاء دون الواو للإشارة إلى مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب
لأن التلهف يحق إذا صحبهم فغنم أموالهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه.
فالفاء من قوله: {فَسَوَّى} للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم من اعتبار المعتبر على التسوية، وإن كان حصول التسوية مقارنا لحصول الخلق.
والتسوية: تسوية ما خلقه فإن حمل على العموم فالتسوية أن جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادلا، أي مناسبا للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زباني العقرب من تسوية خلقها لتدفع عن نفسها به بسهولة.
ولكونه مقارنا للخلقة عطف على فعل {خَلَقَ} بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتب
(30/244)

على الخلق تسويته.
والتقدير: وضع المقدار وإيجاده في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال: قدر بالتضعيف وقدر بالتخفيف بمعنى.
وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف.
والمقدار: أصله كمية الشيء التي تضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العد، واطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القوى العقلية كالحس والاستطاعة وحيل الصناعة.
وإعادة اسم الموصول في قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ} وقوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.
وعطف قوله: {فَهَدَى} مثل عطف {فَسَوَّى} ، فإن حمل {خَلَقَ} و {قَدَّرَ} على عموم المفعول كانت الهداية عامة. والقول في وجه عطف {فَهَدَى} بالفاء مثل القول في عطف {فَسَوَّى}
وعطف {فَهَدَى} على {قَدَّرَ} عطف المسبب على السبب أي فهدى كل مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإدراك والإرادة هي هداية الإلهام إلى كيفية استعمال ما قدر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه.
والمعنى: قدر الأشياء كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدر لها، فالله لما قدر للإنسان أن يكون قابلا للنطق والعلم والصناعة بما وهبه من العقل وآلات الجسد هداه لاستعمال فكره لما يحصل من خلق له، ولما قدر البقرة للدر ألهمها الرعي ورثمان ولدها لتدر بذلك للحالب، ولما قدر النحل لإنتاج العسل ألهمها أن ترعى النور والثمار وألهمها بناء الجبح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل.
ومن أجل مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع. فمفعول {هدى} محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهدي فهو مخصوص بذوات الإدراك والإرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدر نظامها ولم
(30/245)

يقدر لها الإدراك مثل تقدير الأثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإنبات، فذلك غير مراد من قوله: {فَهَدَى} لأنها مخلوقة ومقدرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول {خَلَقَ} خاصا وهو الإنسان كان مفعول {قَدَّرَ} على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإدراك والعقل.
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن لهذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] وقال {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
وقوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره. واقتصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها.
والمراد: إخراجه من الأرض وهو لإنباته.
والمرعى: النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله: إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المرعي من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويرعى إطلاقا مجازيا بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه.
والقرينة جعله مفعولا ل {أَخْرَجَ} ، وإيثار كلمة {الْمَرْعَى} دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة...
والغثاء: بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة وهو اليابس من النبت.
والأحوى: الموصوف بالحوة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان: سمرة تقرب من السواد. وهو صفة {غُثَاءً} لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حوة.
وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغير لونه بعد أن كان أخضر يانعا وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء. وفي وصف إخراج الله المرعى وجعله غثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام وإيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث
(30/246)

الذي ينبت به المرعى فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعى ويبلغ نضجه حين يصير غثاء أحوى، على طريقة تمثيلية مكنية رمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى. وقد جاء بيان هذا الإيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيه قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا" الحديث.
ويجوز أن يكون المقصود من جملة {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله فيه المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، للإشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف {َجَعَلَهُ غُثَاءً} الحرف الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24].
[6-7] {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} .
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] بشارة إجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه فيبلغه كما أوحى إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن البشارة تنشيء في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقبا لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرع على قوله: {سَنُقْرِئُكَ} من قوله: {فَلا تَنْسَى} .
وإذا قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولا. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدة إذا نزل جبريل، وكان مما يحرك شفتيه ولسانه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17]، إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]. يقول: إذا أنزل عليك فاستمع، قال: فكان إذا أتاه
(30/247)

جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله وسورة القيامة التي منها {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه.
وإنما ابتدىء بقوله: {سَنُقْرِئُكَ} تمهيدا للمقصود الذي هو {فَلا تَنْسَى} وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.
والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصة إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذا قد كان قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} إقراء، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد.
والالتفات بضمير المتكلم المعظم لأن التكلم أنسب بالإقبال على المبشر.
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرانه.
فقوله: {فَلا تَنْسَى} خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.
والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زمانا طويلا.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} مفرغ من فعل {تَنْسَى} ، و"ما" موصولة هي المستثنى. والتقدير: إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا على غالب استعماله في كلام العرب. وانظر ما تقدم في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} في [البقرة: 20].
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم إذا شاء الله أن ينساه. وذلك نوعان:
أحدهما: وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشخة إذا زنيا فارجموهما قال عمر: لقد قرأناها، وأنه كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم. وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} في قراءة من
(30/248)

قرأ {نُنْسِهَا} في [سورة البقرة:106].
النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبي صلى الله عليه وسلم نسيانا مؤقتا كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به. ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد فقال: "يرحمه الله فقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا" ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبي بن كعب أنسخت? فقال: "نسيتها" .
وليس قوله: {فَلا تَنْسَى} من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أما إنه ليست "لا" فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.
وجملة {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} معترضة وهي تعليل لجملة {فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض.
ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن وهو من قبيل الخفي فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به.
[8] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} .
عطف على {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6]. وجملة {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7]، معترضة كما علمت. وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايرا لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له.
والتيسير: جعل العمل يسيرا على عامله.
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيء المجعول الفعل يسيرا لأجله مجرورا باللام كقوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26].
واليسرى: مئنث الأيسر، وصيفة فعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفعل.
(30/249)

والموصوف محذوف، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمه مؤنثا بأن يكون مفردا فيه علامة تأنيث أو يكون جمعا إذ المجموع تعامل معاملة المؤنث. فكان الوصف المؤنث مناديا على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه، وسياق الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدر معنى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعى فيه وصفه العنواني وهو أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة.
وقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون، فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به، أي نهيئك للأمور اليسرى في أمر الدين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلت بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة. وهذه الاستعارة تحسنها المشاكلة.
ومعنى اللام في قوله: {لِلْيُسْرَى} العلة، أي لأجل اليسرى، أي لقبولها، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل ميسر لما خلق له" وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} في [سورة الليل:10].
ويجوز أن يجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل: ونيسر لك اليسرى، أي نجعلها سهلة لك فلا تشق عليك فيبقى فعل {نُيَسِّرُكَ} على حقيقته، وإنما خولف عمله في مفعوله والمجرور المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرور المتعلق به.
وفي وصفها ب {اليسرى} إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جعلت يسرى، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى.
فاشتمل الكلام على تيسيرين: تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم، أي جعله يسيرا مع وفائه بالمقصود منه، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به.
ويوجه العدول على مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه، بأن فيه تنزيل الشيء الميسر منزلة الشيء الميسر له والعكس للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول كقول العرب عرضت الناقة على الحوض ، وقول العجاج:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
(30/250)

وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]، ومنه القلب التشبيه المقلوب.
والمعنى: وعد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطمينا له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقا أن لا يفي بواجباتها. أي أن الله جعله قابلا لتلقي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها.
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها" ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "إنما بعثتم ميسرين لا معسرين" .
[9-13] {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} .
بعد أن ثبت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فرقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضعف عن أدائه الرسالة على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مرادا لله تعالى. ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عده بالرسالة إذ كانت هذه السورة ثامنة السور لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام. أعقب ذلك بأن أمره بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه، إرهافا لعزمه، وشحذا لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور، فجمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر.
فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريع النتيجة على المقدمات.
والأمر: مستعمل في طلب الدوام.
والتذكير: تبليغ الذكر وهو القرآن.
والذكرى: اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس.
ومفعول {فَذَكِّرْ} محذوف لقصد التعميم، أي فذكر الناس ودل عليه قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الآيتين.
وجملة {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} معترضة بين الجملتين المعللة وعلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول {فَذَكِّرْ} ، أي فدم على تذكير
(30/251)

الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الآية. فالشرط في قوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} جملة معترضة وليس متعلقة بالجملة ولا تقييدا لمضمونها إذ ليس المعنى: فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكر إذا لم تنفع الذكرى، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى، ولذلك كان قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45]، مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد فذكر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب "إن" أن يكون غير مقطوع بوقوعه، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه، فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخص بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم. والواقع يكشف المقدور.
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف "إن" المقتضى عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، ولذلك جاء بعده بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} فهو استئناف بياني ناشيء عن قوله: {فَذَكِّرْ} وما لحقه من الاعتراض بقوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين.
وهذا معنى قول ابن عباس: تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى "إن"، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس: إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.
ويذكر: مطاوع ذكره. وأصله: يتذكر، فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليأتي إدغامها في الذال الأخرى.
و {مَنْ يَخْشَى} : جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يخشون. والضمير المستتر في {يَخْشَى} مراعى فيه لفظ "من" فإنه لفظ مفرد.
وقد نزل فعل {يَخْشَى} منزلة اللازم فلم يقدر له المفعول، أي يتذكر من الخشية فذكرته وجبلته، أي من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل
(30/252)

لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به.
والخشية: الخوف، وتقدم في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]،. والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون.
والتجنب: التباعد، وأصله تفعل لتكلف الكينونة بجانب من شيء.
والجانب: المكان الذي هو طرف لغيره، وتكلف الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه، أي يتباعد عن الذكرى الأشقى.
والتعريف في {الأَشْقَى} تعريف الجنس، أي الأشقون.
والأشقى هو شديد الشقوة والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب، وعندنا أن من علم إلى موته مؤمنا فليس بشقي.
فالأشقى: هو الكافر لأنه أشد الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار.
وتعريف {الأَشْقَى} تعريف الجنس، فيشمل جميع المشركين. ومن المفسرين من حمله على العهد فقال: أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة.
ووصف {الأَشْقَى} ب {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} لأن إطلاق {الأَشْقَى} في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبينه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية.
ومقابلة {مَنْ يَخْشَى} ب {الشقى} تؤذن بأن {الأَشْقَى} من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصا من شقائه.
ووصف النار ب {الْكُبْرَى} للتهويل والإنذار والمراد بها جهنم.
وجملة {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} عطف على جملة {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} فهي صلة ثانية.
و"ثم" للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حاله بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشد مما أفاده أنه في عذاب الاحتراق. ظرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة.
(30/253)

فمعنى {لا يَمُوتُ} : لا يزول عنه الإحساس، فإن الموت فقدان الإحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل.
وتعقيبه بقوله: {وَلا يَحْيَى} احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يهلك المحرق، فإذا قيل {لا يَمُوتُ} توهم المنذرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإهلاك فيبقى المحرق حيا فيظن أنه إحراق هين فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه {وَلا يَحْيَى} ، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله: {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا} .
وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالة وسط بين حالتيهما مثل {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]. وقول إحدى نساء أم زرع لا حر ولا قر لأن ذلك لا طائل تحته.
ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك.
وفي الآية محسن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين {لا يَمُوتُ} و {لا يَحْيَى} .
[14-15] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} .
استئناف بياني لأن ذكر {مَنْ يَخْشَى} وذكر {الْأَشْقَى} يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف {الْأَشْقَى} بأنه {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12]، وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديما للأهم في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر. فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب. فالمراد ب {مَنْ تَزَكَّى} هنا عين المراد ب "مَنْ يَخْشَى، ويذكر" فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول ص9 في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ} [الأعلى: 9].
وقد جمعت أنواع الخير في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير، وتقدم في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في [البقرة: 5].
(30/254)

والإتيان بفعل المضي في قوله: {أَفْلَحَ} للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف {قد} لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، لأن الكلام موجه إلى الأشقين الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا.
ومعنى تزكى: عالج أن يكون زكيا، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10].
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التوحيد والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجئ بها، فيشمل زكاة الأموال.
أخرج البزاز عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قال: "من شهد أن لا اله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال: هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها" ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة.
وقدم التزكي على ذكر الله والصلاة لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعلمت منافعها وأكثرت من الإقبال عليها فالتزكية: الارتياض على قبول الخير والمراد تزكى بالإيمان.
وفعل {ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} يجوز أن يكون من الذكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة {اسْمَ رَبِّهِ} مرادا بها ذكر أسماء الله بالتعظيم مثل قول لا إله إلا الله، وقول الله أكبر، وسبحان الله ونحو ذلك على ما تقدم في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1].
ويجوز أن يكون من الذكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة {اسم} مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال.
وتفريع {فَصَلَّى} على {ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء.
وقد رتبت هذه الخصال الثلاث في الآية على ترتيب تولدها. فاصلها: إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهي المشار إليه بقوله: {تَزَكَّى} ، ثم استحضار معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار
(30/255)

بقوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} ثم الإقبال على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله: {فَصَلَّى} والصلاة تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
[16-17] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
قرأ الجمهور {تُؤْثِرُونَ} بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات، وقرأه أبو عمرو وحده بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائدا إلى {الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:11-12].
وحرف {بل} معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد {بل} ؛ فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالا للمعطوف عليه: لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم. وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، فهو انصراف في الحكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 62-63]. فتكون {بل} بمنزلة قولهم دع هذا فهذا انصراف قولي. ويعرف أحد الاضرابين بالقرائن والسياق.
و {بل} هنا عاطفة جملة عطفا صوريا فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشقون بأن السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة.
ويجوز أن يكون الاضراب إبطالا لما تضمنه قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، من التعريض للذين شقوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح.
والمعنى: أنهم بعداء عن أن يضن بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة
(30/256)

الدنيا، فالمعنى: بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصا يضن أنه لا ينتصح لقد نصحتك وما أظنك تفعل.
ويجئ فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين.
والإيثار: اختيار شيء من بين متعدد.
والمعنى: يؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم.
ولم يذكر المؤثر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه، أي لا تتأملون فيما عدا حياتكم هذه ولا تتأملون في حياة ثانية، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ.
واعلم أن للمؤمنين حظا من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرط فيه أحدكم مما ينجيه في الآخرة إيثارا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك ميدان للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
وجملة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاء التوبيخ توجيها وتأييدا بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى.
{وَأَبْقَى} : اسم تفضيل، أي أطول بقاء وفي حديث النهي عن جر الإزار وليكن إلى الكعبين فإنه أتقى وأبقى.
[18-19] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام، قصد به الإبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى، ولذلك أكد هذا الخبر ب {إن} ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين.
والإشارة بكلمة {هذا} إلى مجموع قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} إلى قوله: {وَأَبْقَى} [الأعلى: 14-17]، فإن ما قبل ذلك من أول السورة إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، ليس مما ثبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
(30/257)

روى ابن مردويه والآجري عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى? قال: " نعم {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 14-17]. لم أقف على مرتبة هذا الحديث.
ومعنى الظرفية في قوله: {لَفِي الصُّحُفِ} أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [صّ: 16]، أي ما في قطنا وهو صك الأعمال.
والصحف: جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا: سفن في جمع سفينة، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كان له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة.
وجاء نظم الكلام على أسلوب الإجمال والتفصيل ليكون هذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} بدل من {الصُّحُفِ الْأُولَى} .
و {الْأُولَى} : وصف لصحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث، و {الْأُولَى} صيغة تفضيل. واختلف في الحروف الأصلية للفظ أول فقيل حروفه الأصول همزة فواو "مكررة" فلام ذكره في اللسان فيكون وزن أول: أأول، فقلبت الهمزة الثانية واو وأدغمت في الواو. وقيل أصوله: واوان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول: أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر.
وقيل حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فاصل أول أو أل بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واوا وأدغما.
و {الْأُولَى} : مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول: أصلها أولى سكنت الواو سكونا ميتا لوقوعها إثر ضمة، أو أصلها: وولى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضا أو أصلها: وألى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب، فقيل: أولى فوزنها على هذا عفلى.
والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليهم صحف. فهو كوصف {عاد}
(30/258)

ب {الْأُولَى} في قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم:50]، وقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56]، وفي حديث البخاري "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" .
وأخرج عبد بن حميد وبن مردويه وبن عساكر وأبو بكر الآجري عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف.
(30/259)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
سميت في المصاحف والتفاسير "سورة الغاشية". وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه"، لوقوع لفظ {الْغَاشِيَةِ} في أولها.
وثبت في السنة تسميتها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، ففي "الموطأ" أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وربما سميت "سورة هل أتاك" بدون كلمة {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وبذلك عنونها ابن عطية في "تفسيره" وهو اختصار.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف.
وآياتها ست وعشرون.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب.
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات
(30/260)

من خلق الله وهي نصب أعينهم، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم.
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم.
[1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة.
وكون الاستفهام ب {هل} المفيدة معنى (قد)، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلغ السامع، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ: 21]. وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} في [سورة النازعات:15].
وتقدم هنالك إطلاق فعل الإتيان على فشو الحديث.
وتعريف ما أضيف إليه {حَدِيثُ} بوصفه {الْغَاشِيَةِ} الذي يقتضي موصوفا لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكن.
والحديث: الخبر المتحدث به وهو فعيل بمعنى مفعول أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال. وتقدم في سورة النازعات.
و {الْغَاشِيَةِ} : مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مفرا من أهوالها فكأنها غاش يغشى على عقولهم. ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يكون وصف الغاشية مشتقا منه. ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الاسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة.
والغاشية هنا: علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه {وُجُوهٌ
(30/261)

يَوْمَئِذٍ} أي يوم الغاشية.
[2-7] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} .
{وُجُوهٌ} مبتدأ و {خَاشِعَةٌ} خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله: {يَوْمَئِذٍ} فإن ما صدقه هو يوم الغاشية. ويكون تنكير {وُجُوهٌ} مبتدأ قصد منه النوع.
و"خاشعة، عاملة، ناصبة" أخبار ثلاثة عن {وُجُوهٌ} ، والمعنى: أناس خاشعون الخ.
فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وقرينة ذلك هنا قوله بعده {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء.
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به.
وتقدم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الآية في [سورة عبس: 38].
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصب إلى {وُجُوهٌ} من قبيل المجاز العقلي، أي أصحاب وجوه.
ويتعلق {يَوْمَئِذٍ} ب {خَاشِعَةٌ} قدم على متعلقة للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت "إذ" من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها "إذ" محذوفة عوض عنها التنوين، ويدل عليها ما في اسم {الْغَاشِيَةِ} من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية.
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة: يوم إذ تحدث أو تقع.
و {خَاشِعَةٌ} : ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]، وقال {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44].
والعاملة: المكلفة العمل من المشاق يومئذ. وناصبة: من النصب وهو التعب.
(30/262)

وأوثر وصف {خَاشِعَةٌ} و {عَامِلَةٌ} و {نَاصِبَةٌ} تعريضا بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته، فجزائهم خشوع ومذلة، وعمل مشقة، ونصب إرهاق.
وجملة {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} خبر رابع عن {وُجُوهٌ} . ويجوز أن تكون حالا، يقال: صلي يصلى، إذ أصابه حر النار، وعليه فذكر {نَارًا} بعد {تَصْلَى} لزيادة التهويل والإرهاب وليجرى على {نَارًا} وصف {حَامِيَةً} .
وقرأ الجمهور {تَصْلَى} بفتح التاء أي يصيبها صلي النار. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {تَصْلَى} بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرها.
ووصف النار ب {حَامِيَةً} لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت ب {حَامِيَةً} كان دالا على شدة الحمى قال تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6].
وأخبر عن {وُجُوهٌ} خبرا خامسا بجملة {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أو هو حال من ضمير {تَصْلَى} لأن ذكر الاحتراق بالنار يحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجعل شرابهم من عين آنية.
يقال: أنى إذا بلغ شدة الحرارة، ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} في [سورة الرحمن:44].
وذكر السقي يخطر في الذهن تطلب معرفة ما يطعمونه فجيء به خبرا سادسا أو حالا من ضمير {تُسْقَى} بجملة {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألما.
وجملة {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ} الخ خبر سادس عن {وُجُوهٌ} .
وضمير {لهم} عائد إلى {وُجُوهٌ} باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جيء به ضمير جماعة المذكر. والتذكير تغليب للذكور على الإناث.
والضريع: يابس الشبرق بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء وهو نبت ذو شوك إذا كان رطبا فإذا يبس سمي ضريعا وحينئذ يصير مسموما وهو مرعى للإبل ولحمر الوحش إذا كان رطبا، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه
(30/263)

وسوء مغبته.
وقيل: الضريع اسم سمى القرآن به شجرا في جهنم مأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغسلين الوارد في قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35، 36]، وعليه فحرف {مِنْ} للابتداء، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين
ووصف ضريع بأنه لا يسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع.
والسمن، بكسر السين وفتح الميم: وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال: أسمنه الطعام، إذا عاد عليه بالسمن.
والإغناء: الإكفاء ودفع الحاجة. و {مِنْ جُوعٍ} متعلق ب {يغني} وحرف {من} لمعنى البدلية، أي غناء بدلا عن الجوع.
والقصر المستفاد من قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} مع قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين.
[8-10] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} .
يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:40] على جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} في [سورة عبس: 38]. فيتجه أن يسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها، ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] الإعلام بحال المعرض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما حصل ذلك الإعلام بجملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] إلى آخرها تم المقصود، فجاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع: هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول? أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين.
(30/264)

ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم، لإظهار الفرق بين حالي الفريقين ولتعقيب النذارة بالبشارة فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض ولا تنافي بين الاستئناف والاعتراض وذلك موجب لفصلها عما قبلها. وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب.
فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معا بالظرف وهو {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُْ} [عبس:33].
وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به.
والقول في تنكير {وُجُوهٌ} ، والمراد بها، والإخبار عنها بما بعدها، كالقول في الآيات التي سبقتها.
و {ناعمة} : خبر عن {وُجُوهٌ} . يجوز أن يكون مشتقا من نعم بضم العين ينعم بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وسحن المنظر.
ويجوز أن يكون مشتقا من نعم بكسر العين ينعم مثل حذر، إذا كان ذا نعمة، أي حسن العيش والترف.
ويتعلق {لسعيها} بقوله: {راضية} ، و {راضية} خبر ثان عن {وُجُوهٌ} .
والمراد بالسعي:العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه. وعبر به هنا مقابل قوله في ضده {عَامِلَةٌ} [الغاشية: 3].
والرضى: ضد السخط، أي هي حامدة ما سعته في الدنيا من العمل الذي هو امتثال ما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمجرور في قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} خبر ثالث عن {وُجُوهٌ} .
والجنه أريد به مجموع دار الثواب الصادق بجنات كثيرة أو أريد به الجنس مثل {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14].
ووصف {الجنة} ب {عَالِيَةٍ} لزيادة الحسن لأن أحسن الجنات ما كان في المرتفعات، قال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]، فذلك يزيد حسن باطلها بحسن ما يشاهده الكائن فيها من مناظر، وهذا وصف شامل لحسن موقع الجنة.
(30/265)

[11] {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} .
اللاغية: مصدر بمعنى اللغو مثل الكاذبة للكذب. والخائنة والعافية، أي لا يسمع فيها لغو، أو هو وصف لموصوف مقدر التأنيث، أي كلمة لاغية لما دل عليه {لاغِيَةً} من أنها كلمات، ووصف الكلمة بذلك مجاز عقلي لأن اللاغي صاحبها.
ونفي سماع {لاغِيَةً} مكنى به عن انتفاء اللغو في الجنة من باب:
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا ضب بها إذ الضب لا يخلو من الإنجحار.
واللغو: الكلام الذي لا فائدة له، وهذا تنبيه على أن الجنة دار جد وحقيقة فلا كلام فيها إلا لفائدة لأن النفوس فيها تخلصت من النقائص كلها فلا يلذ لها إلا الحقائق والسمو العقلي والخلقي، ولا ينطقون إلا ما يزيد النفوس تزكية.
وجملة {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} صفة ثانية ل {جَنَّةٍ} [الغاشية: 10]، ترك عطفها على الصفة التي قبلها لأن النعوت المتعددة يجوز أن تعطف ويجوز أن تفصل دون عطف قال في التسهيل: ويجوز عطف بعض النعوت على بعض وقال المرادي في شرحه نحو قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 2-4]. وقال: ولا يعطف إلا بالواو ما لم يكن ترتيب: فبالفاء كقوله:
يا لهف زيابة للحارب ال ... صابح فالغانم فالآيب
قال السهيلي: والعطف ب(ثم) جوازه بعيد. اهـ. قال الدماميني: وكذا في الجمل مررت برجل يحفظ القرآن ويعرف الفقه ويتقي إلى الله، قال: ونص الواحدي في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118]. أن لا يألونكم وما بعده من الجمل أي الثلاث لا يكون صفات، لعدم العاطف لكن ظاهر سكوت الجمهور عن وجوب العطف يشعر بجوازه فيها أي الجمل كالمفردات اهـ.
ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية. وثني بصفة تنزيهها عما يعد من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على {عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22]، مراعاة لعدم التناسب بين المفردات
(30/266)

والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل.
وهذا وصف للجنة بحسن سكانها.
وقرأ نافع {لاَ تَسْمَعُ} بمثابة فوقية مضمومة و {لاغِيَةً} نائب فاعل، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بمثناة تحتية مضمومة وبرفع {لاغِيَةً} أيضا فأجري الفعل على التذكير لأن {لاغِيَةً} ليس حقيقي التأنيث وحسنه وقوع الفصل بين الفعل وبين المسند إليه، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بفتح المثناة الفوقية وبنصب {لاغِيَةً} ، والتاء لخطاب غير المعين.
[12] {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} .
صفة ثالثة ل {جَنَّةٍ} [الغاشية: 10]. فالمراد جنس العيون كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]، أي علمت النفوس، وهذا وصف للجنة باستكمالها محاسن الجنات قال تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً} [الاسراء:91].
وإنما لم تعطف على لجملة التي قبلها لاختلافهما بالفعلية في الأولى والاسمية في الثانية، وذلك الاختلاف من محسنات الفصل ولأن جملة {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} ، مقصود منها التنزه عن النقائص وجملة {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} مقصود منها إثبات بعض محاسنها.
[13-16] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} .
صفة رابعة لجنة.
وأعيد قوله: {فِيهَا} دون أن يعطف {سُرُرٌ} على {عَيْنٌ} عطف المفردات لأن عطف السرر على {عَيْنٌ} يبدو نابيا عن الذوق لعد الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لولا أن جمعها الكون في الجنة فلذلك كرر ظرف {فِيهَا} تصريحا بأن تلك الظرفية هي الجامع، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتا ولذلك عطف و {أَكْوَابٌ} ، و {نَمَارِقُ} ، {وَزَرَابِيُّ} ، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة.
وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها فضمير فيها عائد للجنة باعتبار
(30/267)

أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة.
و { سرر} : جمع سرير، وهو ما يجلس عليه ويضطجع فيسع الإنسان المضطجع. ويتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفع عن الأرض. ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذا في مفهوم السرر كان وصفها ب {مَرْفُوعَةٌ} لتصوير حسنها.
و {الأكواب} : جمع كوب بضم الكاف، وهو إناء للخمر له ساق ولا عروة له.
و { موضوعة} ، أي لا ترفع من بين أيديهم كما ترفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطالة من تناول الخمر، كني ب {مَوْضُوعَةٌ} عن عدم انقطاع لذة الشراب طعما ونشوة، أي موضوعة بما فيها من أشربة.
وبين {مَرْفُوعَةٌ} ، و {مَوْضُوعَةٌ} ، إيهام الطباق لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع، ولا تضاد بين مجاز الأزل وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد.
والنمارق: جمع نمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع.
و {مصفوفة} : أي جعل بعضها قريبا من بعض صفا، أي أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها.
و { زرابي} : جمع زربية بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء، وهي البساط أو الطنفسة "بضم الطاء" المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار.
والزريبة نسبة إلى "أذربيجان" بلد من بلاد فارس وبخارى، فأصل زربية أذربية، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به، وذالها مبدلة عن الزاي في كلام العرب لأن اسم البلد في لسان الفرس ازربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال، وبلد "أذربيجان" مشهور بنعومة صوف أغنامه. واشتهر أيضا بدقة صنع البسط والطنافس ورقة خملها.
والمبثوثة: المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة.
وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات {خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2]، {عَامِلَةٌ} ، {نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، بصفات {نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٍ} ،
(30/268)

[الغاشية: 8-9]، وقوبل قوله: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] بقوله في {جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22]. وقوبل {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]، بقوله: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12]، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6-7]، بمقاعد أهل الجنة المشعرة بترف العيش من شراب ومتاع.
وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإجمال في قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فتكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يزادون من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[17-20] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن إن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله، فرع على ذلك إنكار عليهم إعراضهم عن النظر في دلائل الوحدانية، فالفاء في قوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ} تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء، لا يستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإنسان بعد فنائه عن عدم، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام، فكان إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع وبين المفرع عنه من جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] كان في موقع الاعتراض كما علمت.
فضمير {يَنْظُرُونَ} عائد إلى معلوم من سياق الكلام.
والهمزة للاستفهام الإنكاري إنكارا عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته.
(30/269)

والنظر: نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف "إلى" تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في "إلى" من معنى الانتهاء حتى كأن النظر انتهى عند المجرور ب"إلى" انتهاء تمكن واستقرار كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأحزاب: 19]، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23].
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإهمال قيد فعل {يَنْظُرُونَ} بالكيفيات المعدودة في قوله: {كَيْفَ خُلِقَتْ} ، {كَيْفَ رُفِعَتْ} ، {كَيْفَ نُصِبَتْ} ، {كَيْفَ سُطِحَتْ} أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خلقها.
وجملة {كَيْفَ خُلِقَتْ} بدل اشتمال من الإبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل {يَنْظُرُونَ} لا حرف الجر، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكل على ما يقتضيه معناه وموقعه، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه.
والمعنى والتقدير: أفلا ينظرون إلى الإبل هيئة خلقها.
وقد عدت أشياء أربعة هي من الناظرين، عن كثب لا تغيب عن أنظارهم، وعطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرآهم جهة جامعة بينها بالنسبة إليهم، فإنهم المقصودون بهذا الإنكار والتوبيخ، فالذي حسن اقتران الإبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع.
فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقا عجيبا بقوة قوائمها ويسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجعل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تخزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طوالها عن وصف الرواحل ومزاياها. وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير.
(30/270)

و {الإبل} : اسم جمع للبعران لا واحد له من لفظة، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} في [سورة الأنعام: 146].
وعن المبرد أنه فسر الإبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه، أي هو على نحو قول عنترة:
جادت عليه كل بكرة حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
ونقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء قال زيادة الحارثي على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله بنو ماء السماء :
ونحن بنوا ماء السماء فلا نرى ... لأنفسنا من دون مملكة قصر
وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هاجر فقال أبو هريرة في آخرها إنها لأمكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير.
وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جبلي أجإ وسلمى لطي. وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة.
والنصب: الرفع أي كيف رفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل.
وثم نزل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وقد سطحها الله، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والإضطجاع.ومعنى سطحت: يقال سطح الشيء إذا سواه ومنه سطح الدار.
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية.
وبنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك.
[21-24] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} .
الفاء فصيحة تفريع على محصل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على
(30/271)

تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يبعث ملجئا لهم على الإيمان.
فالأمر مستعمل في طلب الاستمرار والدوام.
ومفعول {ذكر} محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} .
وجملة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن {إنما} مركبة من (أن) و (ما) وشأن (أن) إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غناء فاء التسبب، واتصال (ما) الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها.
والقصر المستفاد ب {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلا على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم. وهذا تطمين لنفسه الزكية.
وجملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر.
والمصيطر: المجبر المكره.
يقال: صيطر بصاد في أوله، ويقال: سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد. وتقدم في سورة الطور [37]: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي.
ونفي كونه مصيطرا عليهم خبر مستعمل في غير الإخبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإيمان، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم.
ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم.
ومن الجهلة من يضع قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين. وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين. فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب
(30/272)

ثلاثا فإن لم يتب قتل، وإن لم يقدر عليه فعلى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب. وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل المقول ويأبى الانكفاف.
وتقديم عليهم على متعلقه وهو مسيطر للرعاية على الفاصلة.
وقوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} معترض بين جملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وجملة {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر.
فحرف {إلا} للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك.
والمعنى: لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد.
ودخلت الفاء في الخبر وهو {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} إذ كان الكلام استدراكا وكان المبتدأ موصولا فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]. والأكبر: مستعار للقوى المتجاوز حد أنواعه.
[25-26] {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} .
تعليل لجملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، أي لست مكلفا بجبرهم عل التذكر والإيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء. وقد جاء حرف {إن} على استعماله المشهور، إذا جيء به لمجرد الاهتمام دون رد إنكار، فإنه يفيد مع ذلك تعليلا وتسببا كما يقدم غير مرة، وتقدم عند قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة: 32].
والإياب: بتخفيف الياء الأوب، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه. أطلق على الحضور في حضرة القدس يوم الحشر تشبيها له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه ملاحظة أن الله خالق الناس خلقهم الأول، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر 27-28].
وتقديم خبر {إن} على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقا لهذا الرجوع لأنهم
(30/273)

ينكرونه، وتنبيها على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة.
ونقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} [الغاشية: 24]، إلى أسلوب التكلم بقوله: {إلينا} على طريقة الالتفات.
وقرأ أبو جعفر {إيابهم} بتشديد الياء. فعن ابن جني هو مصدر على وزن فعال مصدر: أيب بوزن فيعل من الأوب مثل حوقل. فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل: إياب.
وعطفت جملة {إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} بحرف {ثم} لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي.
ومعنى {على} من قوله: {عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه.
وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإدماج لإثبات البعث. وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبوه انفلاتا من العقاب.
(30/274)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
لم يختلف في تسمية هذه السورة "سورة الفجر" بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة.
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية.
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله: {وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] منتهى آية، وقوله: {رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، منتهى آيه. ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا {بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، منتهى آية. وأهل الكوفة عدوا {فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، منتهى آية.
أغراضها
حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.
وإنذارهم بعذاب الآخرة.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على
(30/275)

أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة.
[1-4] {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} .
القسم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعة قدرته فيما أوجد من نظام يظاهر بعضه بعضا من ذلك وقت الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار، ووقت الليل الذي تمخضت فيه الظلمة. وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادة الله وحده، مثل الليالي العشر، والليالي الشفع، والليالي الوتر.
والمقصود من هذا القسم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المقسم ربه على ما تضمنه كلامه.
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين.
والمقصد من تطويل القسم بأشياء، التشويق إلى المقسم عليه.
و {الْفَجْرِ} : اسم لوقت ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإظلام عن أول خط يلوح للناظر من الخطوط الفرضية المعروفة في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع.
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت، ويأخذ الناس في
(30/276)

ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم.
فالتعريف في {الْفَجْرِ} تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} .
ويجوز أن يراد فجر معين: فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة. وقيل فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة، فيكون تعريف {الْفَجْرِ} تعريف العهد.
وقوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} : هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بنها عشر واستغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجة التي هي وقت مناسك الحج، ففيها يكون الإحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر. فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر. وهو قول ابن عباس وابن الزبير وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير "المكي" عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العشر عشر الأضحى" وقال ابن العربي ولم يصح وقال ابن عساكر رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة اه.
وماسبة عطف {لَيَالٍ عَشْرٍ} على {الْفَجْرِ} أن الفجر وقت انتهاء الليل، فبينه وبين الليل جامع المضادة، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} خصت قبل ذكره بالذكر ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل.
وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السنة القمرية من النسي فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام ولا يعرف متى بدأ ذلك الاضطراب، ولا مقادير ما أدخل عليها من النسي، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى، ولكننا نوقن بوجودها من خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة وعام حجة الوداع، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنة في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع "إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .
(30/277)

وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة.
فأوقات العبادات تعيين لإيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاق اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرف بالحكم ولا يريدون به نفس الحكمة. وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني، ولكن إذا اختلفت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها.
فقسم الله تعالى بالليالي العشر في هذه الآية وهي مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه.
والشفع: ما يكون ثانيا لغيره، والوتر: الشيء المفرد، وهما صفتان لمحذوف فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفا، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام، بعد شمول الليالي العشر لهما.
وفي جامع الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر" . قال الترمذي: وهو حديث غريب وفي العارضة أن في سنده مجهولا، قال ابن كثير وعندي أن وقفه على عمران ابن حصين أشبه.
وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين.
وقيل: الشفع يومان بعد يوم منى، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غير الليالي العشر.
وتنكير {ليال} وتعريف {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام، وتعريف {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر.
وفي تفسير {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} أقوال ثمانية عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي، وأكثرها لا يحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر.
وقرأ الجمهور {وَالْوَتْرِ} بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز. وقرأه حمزة
(30/278)

والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبكر بن سعد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية، فهما لغتان في الوتر. بمعنى الفرد.
و {اللَّيْلِ} عطف على {لَيَالٍ عَشْرٍ} عطف الأعم على الأخص أو عطف {الفجر} بجامع التضاد. وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته.
ومعنى يسري: يمضي سائرا في الظلام، أي إذا انقضى منه جزء كثير، شبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السرى كما شبه في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:33]، وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2]، أي تمكن ظلامه واشتد.
وتقييد {اللَّيْلِ} بظرف {إِذَا يَسْرِ} لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]، وقال {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26].
وقرأ أبو نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {إِذَا يَسْري} بيان بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل: الفجر، عشر، والوتر، حجر ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاع تعامل معاملة القوافي، قال أبو علي: وليس إثبات الياء في الوقف بأحسن من الحذف وجميع ما لا يحذف وما يختار فيه أن لا يحذف نحو القاض بالألف اللام يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء. وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل.
وقرأ الباقون بدون الياء وصلا ووقفا. وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقوف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سنة أو اعتداد بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف.
وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يوهن رسم المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومراعاة الوقف تكثر في كيفيات الرسم.
[5] {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} .
جملة معترضة بين القسم وبين ما بعده من جوابه أو دليل جوابه، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76].
(30/279)

والاستفهام تقريري، وكونه بحرف {هل} لأن أصل {هل} أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى (قد).
واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به، أي هل بالقسم في ذلك قسم.
وتنكير {قسم} للتعظيم أي قسم كاف ومقنع للمقسم له، إذا كان عاقلا أن يتدبر بعقله.
فالمعنى: هل في ذلك تحقيق لما أقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حجر.
والحجر: العقل لأن يحجر صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التهافت كما يعقل العقال البعير عن الضلال.
واللام في قوله: {لِذِي حِجْرٍ} لام التعليل، أي قسم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القسم صادق فيما أقسم عليه.
[6-14] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
لا يصلح هذا أن يكون جوابا للقسم ولكنه: إما دليل الجواب إذ يدل على أن المقسم عليه من جنس ما فعل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون.
وإما تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم.
والمعنى: أن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [ابراهيم: 42].
فالاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتا له ووعدا بالنصر، وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله فإن ما فعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله. لأن التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع،
(30/280)

لأن بعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناس، وإذا نسي استبعد الناس وقوعه، فالتذكير يزيل الاستبعاد.
فهذه العبر جزئيات من مضمون جواب القسم، فإن كان محذوفا فذكرها دليله، وإن كان الجواب قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه، وإيذانا بجنس الجواب من قبل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرره في الأذهان.
والرؤية في {أَلَمْ تَرَ} يجوز أن تكون رؤية علمية تشبيها للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المثل فكأنها مشاهدة. فتكون {كَيْفَ} استفهاما معلقا فعل الرؤية عن العمل في مفعولين.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى: ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد، وتكون {كَيْفَ} اسما مجردا عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية.
وعدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله: {فَعَلَ رَبُّكَ} لما في وصف رب من الإشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه.
وقد أبتدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذكر بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدثون العرب عنها.
وأريد ب {عاد} الأمة لا محالة قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59]، فوجه صرف أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثل هند ونوح وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرم بن سام بن نوح وهو جد عاد لأن عادا هو ابن عوص بن إرم، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة، فهو عطف بيان ل {عاد} للإشارة إلى أن المراد ب {عاد} القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم، وهو عاد الموصوفة ب {الأولى} في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم:50]، لئلا يتوهم أن المتحدث عنهم قبيلة أخرى تسمى عادا أيضا. كانت تنزل مكة مع العماليق يقال: إنهم بقية من عاد الأولى وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى.
ووصفت عاد ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، و {ذات} وصف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة.
والعماد: عود غليظ طويل يقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دعامة، وهو هنا مستعار للقوة تشبيها للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد.
(30/281)

وإطلاق العماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم:
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاض نمنع من يلينا
ويجوز أن يكون المراد ب {الْعِمَادِ} الأعلام التي بنوها في طرقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورة في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128].
ووصفت عاد ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} لقوتها وشدتها، أي قد أهلك الله قوما هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]، وقال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر82].
و {التي} : صادق على {عاد} بتأويل القبيلة كما وصفت ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} والعرب يقولون: تغلب ابنة وائل، بتأويل تغلب بالقبيلة.
والبلاد: جمع بلد، وبلدة وهي مساحة واسعة من الأرض معينة بحدود أو سكان.
والتعريف في {البلاد} للجنس والمعنى: التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض. وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد روي أنهم كانوا طوالا شدادا أقوياء، وكانوا أهل عقل وتدبير، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة.
والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العرفي، أي في بلدان العرب وقبائلهم.
وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} قصة مكذوبة فزعموا أن {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مركب جعل اسما لمدينة باليمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقولوا أن أعرابيا يقال له: عبد الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاه في ابتغاء إبل له فاطلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجدوا فيه المدينة فلم يجدوا شيئا. وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمها أرم ويتبع بذات العماد بفتح {إرم} وكسر {ذات} فلو كان الاسم مركبا مزجيا لكان بناء جزئيه على الفتح، وإن كان الاسم مفردا و {ذات} صفة له فلا وجه لكسر {ذات} ، على أن موقع هذا الإسلام عقب قوله تعالى: {بعاد} يناكد ذلك كله.
ومنع {ثمود} من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة، ووصف باسم الموصول لجمع المذكر في قوله: {الَّذِينَ جَابُوا} دون أن يقول التي جابت الصخرة بتأويل القوم
(30/282)

فلما وصف عدل عن تأنيثه تفننا في الأسلوب.
ومعنى {جَابُوا} : قطعوا، أي نحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتا كما قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [الشعراء: 149]، وقد قيل: إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام
و { الصخر} : الحجارة العظيمة.
والواد: اسم لأرض كائنة بين جبلين منخفضة، ومنه سمي مجرى الماء الكثير وادا وفيه لغتان: أن يكون آخره دالا، وأن يكون آخره ياء ساكنة بعد الدال.
وقرأ الجمهور بدون ياء. وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفا، وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل ثم ما تقدم في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] وهو مرسوم في المصحف يدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسوه.
والواد: علم بالغلبة على منازل ثمود، ويقال له: وادي القرى، بإضافته إلى القرى التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضا الحجر بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال لها حجر ثمود وهو واد بين خيبر وتيماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلاد العرب، ونزله من بلاد العرب قضاعة وجهينة، وغذرة وبلي.
وكان غزاه النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصولحت اليهود على جزية.
والباء في قوله: {بالواد} للظرفية.
والمراد ب {فرعون} هو وقومه.
ووصف {ذِي الْأَوْتَادِ} لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعارا للتمكن والثبات، أي ذي قوة على نحو قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [صّ:12].
وقوله: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} يجوز أن يكون شاملا لجميع المذكورين عاد وثمود
(30/283)

وفرعون. ويجوز أن يكون نعتا لفرعون الأول المراد هو وقومه.
والطغيان شدة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طغوا في بلدهم، ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل بفساد الجميع بسن سنن السوء، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} لأن الطغيان يجرئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملائه، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه، وذلك فساد عظيم، لأن به اختلال الشرائع الإلاهية والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطغي عليه من الرعية فيضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكونون رجال الدولة متوجسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحذرونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوضا عن تتحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم، فلا جرم كان الطغيان سببا لكثرة الفساد.
ويجوز أن يكون التعريف في {البلاد} تعريف العهد، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع، أي طغت كل أمة في بلادها.
والفساد: سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205]. وضد الفساد الصلاح قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، وكان ما أكثروه من الفساد سببا في غضب الله عليهم، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب.
والصب حقيقته: إفراغ ما في الظرف، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتسل أو يصب المطر على الأرض، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارة الإفراغ في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة: 250]، ونظير الصب قولهم: شن عليهم الغارة.
وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذابا مفاجئا قاضيا.
فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير.
(30/284)

وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة.
وأما فرعون فحسبوا البحر منحسرا فما راعهم إلا وقد أحاط بهم.
والسوط: آلة ضرب تتخذ من جلود مظفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحملها على المزيد من الجري.
وعن الفراء أن كلمة {سَوْطَ عَذَابٍ} يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط أي يقع السوط ، يريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك.
وإضافة {سَوْطَ} إلى {عَذَابٍ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صب عليهم عذابا سوطا، أي كالسوط في سرعة الإصابة فهو تشبيه بليغ.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تذييل وتعليل لإصابتهم بسوط عذاب إذا قدر جواب القسم محذوفا. ويجوز أن تكون جواب القسم كما تقدم آنفا.
فعلى كون الجملة تذييلا تكون تعليلا لجملة {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحا للمعاندين بما عرض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأوليين، أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد.
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدو ونحوه، وهو المقسم عليه ومن قبله اعتراضا تفننا في نظم الكلام إذ قدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الخ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذ يجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلة إذا كان الكلام صالحا للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدم والمبادرة به.
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى {ربك} في قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} إيماء إلى أن فاعل ذلك ربه الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مؤمل بأن يعذب الذين كذبوه انتصارا له انتصار المولى لوليه.
والمرصاد: المكان الذي يترقب فيه الرصد، أي الجماعة المراقبون شيئا، وصيغة مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة، فمعنى الآلة هنا غير محتمل، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب.
(30/285)

وتعريف "المرصاد" تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلق، أي بالمرصاد لكل فاعل، فهو تمثيل لعموم علم الله بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم، بحال اطلاع الرصد على تحركات العدو والمغيرين وهذا المثل كناية عن مجازاة كل عامل بما عمله ويعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاء على العدوان، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به.
والباء في قوله: {بالمرصاد} للظرفية.
[15_20] {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} .
{فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا} .
دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة.
ودلت {أما} على معنى: مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبل الفاء المتصلة بها، فلاح ذلك برقا فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبل الفاء المتصلة بها، فلاح ذلك برقا وامضا، وانجلى بلمعه ما كان غامضا، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفيا، فلنبينه بيانا جليا، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع فيه الأمم الممثل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رسل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي لهو عنها، بطرون بالنعمة، معجبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك ترفا وطغيانا وبطرا، وتنبيههم على خطاهم إذ كان لهم من حال الترف والنعمة شبهة توهموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أن فعل الله بهم أدل على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا
(30/286)

الوهم مسولا لهم التكذيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة،فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقتر الرزق. وقد تكرر في القرآن التعرض لإبطال ذلك كقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56].
وقد تضمن هذا الوهم أصولا انبنى عليها، إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال.
ففاء التفريع مرتبطة بجملة {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلا.
والمعنى: هذا شأن ربك الجري على وفق علمه وحكمته.
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسعة في الدنيا تكريما من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانة أهانه الله بها.
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50].
فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالبا على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله: {كلا} . فمناط الردع والإبطال كلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالة كما ستعرفه عند قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} .
(30/287)

واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلل والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هرم فيهم وفي ذويهم قال النابغة:
تغشى متالف لا ينظرنك الهرما
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نظم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابن عطية.
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنون كرام سادة لمسود
وجعلوا هذا الغرور مقياسا لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمار، وبلال، وخباب، وسالم، مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد، وصهيب، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. وقالوا لأبي طالب: لو أن ابن أخيك طرد هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأدلى لاتباعنا إياه. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية كما تقدم في [سورة الأنعام: 52].
فنبه الله على خطأ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثله مما اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجبا صب العذاب عليهم، وأعلمهم أن أحوال الدنيا لاتتخذ أصلا في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة.
والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عرفي مراد به الناس المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]، {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4-5] ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] الآية.
وقيل: أريد إنسان معين، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن المغيرة عن ابن عباس،
(30/288)

وقيل: أمية بن خلف عن مقاتل والكلبي، وقيل: أبي بن خلف عن الكلبي أيضا. وإنما هؤلاء المسمون أعلام التضليل. قال ابن عطية: ومن حيث كان هذا غالبا على الكفار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع كذا بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اه.
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات باسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفته منافع ذلك، تحكيا للشاهية ومحبة النفس ورجما بالغيب وافتياتا على الله، وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلب له ضرا تخيله بأوهامه انتقاما من الله قصده به، تشاؤما منهم.
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراما من الله لهم ليسوا أهلا لكرامة الله.
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الرزق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما فيه من نعمة.
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرف أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنة من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد ابن الراوندي1 عن تزلزل فهمهم وقلة علمه بقوله:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما ينيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه، وعلم الله واسع وتصرفاته شتى وكلها صادرة عن حكمة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى. وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سمة خرق العادة. فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ للأمارات
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحيى أبو الحسين ابن الرواندي بواو مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى رواند قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان. كان من المعتزلة ثم صار ملحداً توفي سنة خمسين ومائتين، وقيل خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وتسعين.
(30/289)

قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94-95] وقال {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعدها جار على ما قدره من نظام العالم وكل قد قضاه وقدره وسبق علمه به وربط مسبباته بأسبابه مباشرة أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهمه ولم تنهض دلائله، ويفوض ما أشكل عليه إلى علم الله. وليس مثل هذا المحكي عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية. وقد نجد في بعض العوام ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية.
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وقد يعجل العقاب لمن يغضب عليه من عباده. وقد حكى عن نوح قوله لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 10-12]، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16]. ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء على الأمم العظيمة القاهرة. وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه.
وحرف أما يفيد تفصيلا في الغالب، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذوات وأحوال. ولذلك قد تكرر في الكلام، فليس التفصيل المستفاد منها بمعنى تبيين مجمل قبلها، بل هو تفصيل وتقابل وتوازن، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له أما، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على أما، وإنما تعلقه بما قبله تعلق المفرع بمنشأه لا تفصيل بيان على مجمل.
فالمفصل هنا أحوال الإنسان الجاهل فصلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبر عنهما بالظرفين في قوله: {إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ} الخ وفي قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} الخ. وهذا التفصيل ليس من
(30/290)

قبيل تبيين المجمل ولكنه تمييز وفصل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط.
وقد تقدم ذكر {أما} عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية في سورة البقرة [26].
والابتلاء: الاختبار ويكون بالخير وبالضر لأن في كليهما اختبارا لثبات النفس وخلق الأناة والصبر قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء:35]، وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضا. قال تعالى: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، وقال {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء:35]، والأشهر أنه الاختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين.
والمعني: إذا جعل ربه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهرا لحاله في الشكر والكفر، وفي الصبر والجزع، توهم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا.
والإكرام: قال الراغب: أن يوصل إلى الإنسان كرامة، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة، وأن يجعل ما يوصل إليه شيئا كريما، أي شريفا قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26]، أي جعلهم كراما اه يريد أن الإكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريما في صنفه فيصدق قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ} بأن يصيب الإنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه، أو بأن جعل كريما سيدا شريفا. وقوله: {فَأَكْرَمَهُ} من المعنى الأول للإكرام وقوله: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله: {ونعمه} صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظا لهم ومعاملة بالرحمة، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر منعم عليه في الدنيا، وهو قول الماتريدي والباقلاني. وهذا مما أختلف فيه الأشعري والماتريدي والخلف لفظي.
ومعنى {نعمه} جعله في نعمة، أي في طيب عيش.
ومعنى {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أعطاه بقدر محدود، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضا عن الدال، وكل ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27].
والهاء في {رزقه} يجوز أن تعود إلى {الإنسان} من إضافة المصدر إلى المفعول،
(30/291)

ويجوز أن تعود إلى {ربه} من إضافة المصدر إلى فاعله.
والإهانة: المعاملة بالهون وهو الذل.
وإسناد {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} و {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت إلى الإنسان أو انساق له قدر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعض الحوادث بعضا، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فرصها ومناسباتها.
والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم، وإنما يتكلم الإنسان عن اعتقاد. فالمعنى: فيقول ربي أكرمني، معتقدا ذلك، ويقول: ربي أهانني، معتقدا ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة، أو يتذمروا من الضيق والحاجة، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم.
وتقديم {ربي} على فعل {أكرمني} وفعل {أهانني} ، دون أن يقول: أكرمني ربي أو أهانني ربي، لقصد تقوي الحكم، أي يقول ذلك جازما به غير متردد.
وجملتا {فيقول} في الموضعين جوابان ل إما الأولى والثانية، أي يطرد قول الإنسان هذه المقالة كلما حصلت له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق.
وأوثر الفعل المضارع في الجوابين لإفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين.
وحرف {كلا} زجر عن قول الإنسان {رَبِّي أَكْرَمَنِ} عند حصول النعمة. وقوله: {رَبِّي أَهَانَنِ} عندما يناله تقتير، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كلا القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلا على منزلته عند الله تعالى. وإنما يعرف مراد الله بالطرق التي ارشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} إلى قوله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} في [سورة الكهف: 104-105]، في سورة الكهف. فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير
(30/292)

علامة على إرادة الإهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة لأن الله أهان الكافر بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق.
وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإنسان بقوله: {فَأَكْرَمَهُ} وبين إبطال ذلك بقوله: {كلا} لأن الإبطال وارد على ما قصده الإنسان بقوله: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} أن ما ناله من النعمة علامة على رضى الله عنه.
فالمعنى أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسرارا وعللا لا يحاط بها، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقيسة وهمية. والاستناد لمألوفات عادية، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله. وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها. وان يستنتجوا الفروع من غير أصولها.
وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر {ربي} في الموضعين بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها.
وقرأ الجمهور {فَقَدَرَ عَلَيْهِ} بتخفيف الدال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال.
وقرأ نافع {أكرمن، وأهانن} بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف. وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف. وهو مرسون في المصحف بدون ياء بعد النونين ولا منافاة بين الرواية ورسم المصحف. و {كلا} ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسببا على إرادة الله تكريم الإنسان ولا على إرادته أهانته. وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] بعد قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13].
[17-20] {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} .
(30/293)

{بل} إضراب انتقالي. والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقل إليه مناسبة المقابلة لمضمون {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} من جهة ما توهموه أن نعمة مالهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يكرموا عبيده شحا بالنعمة إذ حرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحتاجون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل.
فجملة {لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} استئناف كما يقتضيه الإضراب، فهو إما استئناف ابتداء كلام، وإما اعتراض بين {كلا} وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم: سد خلته وحسن معاملته لأنه مظنة الحاجة لفقد عائله، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباء لأبنائهم الصغار. وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات.
والبر لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يدل هو عليه.
واليتيم: الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء، وتعريفه للجنس، أي لا تكرمون اليتامى، وكذلك تعريف {المسكين} .
ونفي الحض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى، وهي دلالة فحوى الخطاب، أي لقلة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفع وساطة، بله أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم.
و {طعام} يجوز أن يكون اسما بمعنى المطعوم، بالتقدير: ولا يحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم. والمعنى: ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكين فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله.
و {المسكين} : الفقير وتقدم في سورة براءة.
وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نفي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضوا على طعام المسكين، علم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم.
ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغبا في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله، ومنه قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما.
(30/294)

وقرأ الجمهور "لا تكرمون، ولا تحضون، وتأكلون، وتحبون" بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة. وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بذلك فضحا لدخائلهم على نحو قوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:6-7].
وقرأ الجمهور {وَلا تَحَاضُّونَ} بضم الحاء مضارع حض، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {تَحَاضُّونَ} بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاض بعضهم بعضا، وأصله تتحاضون فحذفت إحدى التاءين اختصارا للتخفيف أي تتمالؤون على ترك الحض على الإطعام.
والتراث: المال الموروث، أي الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله: وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدقاق، والحطام، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه، وتخمة، وتهمة، وتقاة وأشباهها.
والأكل: مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا. وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه. أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم.
وأشعر قوله: {تأكلون} بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون إن يقال: وتأكلون المال لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة.
واللم: الجمع، ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة، أي أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
والجم: الكثير، يقال: جم الماء في الحوض، إذا كثر، وبئر جموم بفتح الجيم: كثيرة الماء، أي حبا كثيرا، ووصف الحب بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس.
فالجم مستعار لمعنى القوي الشديد، أي حبا مفرطا، وذلك محل ذم حب المال، لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق. كالغصب والاختلاس
(30/295)

والسرقة وأكل الأمانات.
[21-26] {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} .
{كَلَّا} .
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين، وأكلهم التراث الذي هو مال غير آكله، وعن حب المال حبا جما.
{إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} .
استئناف ابتدائي انتقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6]، الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة. فإن استخفوا بما حل بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذابا لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكرون قسرا فلا ينفعهم التذكر، ويندمون ولات ساعة مندم.
فحاصل الكلام السابق أن الإنسان الكافر مغرور ينوط الحوادث بغير أسبابها، ويتوهمها على غير ما بها ولا يصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طول حياته في عماية، وقد زجروا عن ذلك زجرا مؤكدا.
وأتبع زجرهم إنذارا بأنهم يحين لهم يوم يفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإفاقة.
والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} وقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، وأما ما سبق من قوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} إلى قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ، فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عرف بإضافة جملة {دُكَّتِ الْأَرْضُ} وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب.
والدك: الحطم والكسر.
والمراد بالأرض الكرة التي عليها الناس، ودكها حطمها وتفرق أجزائها الناشى عن
(30/296)

فساد الكون الكائنة عليه الآن، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] الآية.
و {دَكّاً دَكّاً} يجوز أن يمون أولهما منصوبا علي المفعول المطلق المؤكد لفعله. ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دك الجبال، وإذ قد كان أمرا خارقا للعادة كان المقام مقتضيا تحقيق وقوعه حقيقة دون مجاز ولا مبالغة، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله: {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} في [سورة الحاقة: 14] ف {دكا} الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن {دُكَّتَا} الدك أي هو دك حقيقي، و {دكا} الثاني منصوبا على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى اثباته زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي.
وعلى هذا درج الرضي قال: ويستثنى من منع تأكيد النكرات "أي تأكيدا لفظيا" شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكما لا محكوما عليه كقوله صلى الله عليه وسلم "فنكاحها باطل باطل باطل" . ومثله قوله تعالى: {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} فهو مثل: ضرب ضرب زيد اه.
وهذا يلائم ما في وصف دك الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14]، ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة.
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع. وتأويله. أنه دك يعقب بعضه بعضا كما تقول: قرأت الكتاب بابا بابا وبهذا المعنى فسر صاحب "الكشاف" وجمهور المفسرين من بعده، وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي قال ابن الحاجب: لعله قاله في "أماليه على المقدمة الكافية" وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في "إيضاح المفصل" بينت له حسابه بابا بابا، أي مفصلا. والعرب تكرر الشيء مرتين فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه لفظ المكرر، فإذا قلت: بينت له الكتاب بابا بابا فمعناه بينته له مفصلا باعتبار أبوابه اه.
قلت: هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول.
وفي "تفسير الفخر": وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا ترى فيها أمتا
(30/297)

وتبعه البيضاوي يعني: أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء.
ولك أن تجعل صفه واحدة مجازا في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم: هو وحيد قومه، ووحيد دهره، فلا يعارض قوله: {دَكّاً دَكّاً} بهذا التفسير. وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغة فاعل فلم يسمع: هو واحد قومه.
وأما قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} فـ {صفا} الأول حال من {الملك} .
و {صفا} الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف، أي صفا بعد صف، أو صنفا من الملائكة دون صنف، قيل: ملائكة كل سماء يكونون صفا حول الأرض على حدة.
قال الرضي وأما تكرير المنكر من قولك، قرأت الكتاب سورة سورة، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} فليس في الحقيقة تأكيدا إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى. والمعنى: جميع السور وصفا مختلفة اهـ. وشذ من المفسرين من سكت عنه. ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد.
وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء.
وأما إسناده إلى الملك فإما حقيقة، أو على معنى الحضور وأيا ما كان فاستعمال جاء من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته، أو في مجازيه.
والملك: اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق، أي والملائكة.
والصف: مصدر صف الأشياء إذا جعل الواحد حذو الآخر، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف: 4]، وقوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} في [سورة طه: 64].
واستعمال {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} كاستعمال مجيء الملك، أي أحضرت جهنم وفتحت أبوابها فكأنها جاء بها جاء والمعنى: أظهرت لهم جهنم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا
(30/298)

جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقال {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36] وورد في حديث مسلم عن ابن مسعود يرفعه "أن لجهنم سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" وهو تفسير لمعنى {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وأمور الآخرة من خوارق العادات.
وإنما اقتصر على ذكر جهنم لأن المقصود في هذه السورة وعيد الذين لم يتذكروا وإلا فإن الجنة أيضا محضرة يومئذ قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:90-91].
و {يَوْمَئِذٍ} الأول متعلق بفعل {جيء} . والتقدير: وجيء يوم تدك الأرض دكا دكا إلى آخره.
و {يَوْمَئِذٍ} الثاني بدل من {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} والمعنى: يوم تدك الأرض دكا إلى آخره يتذكر الإنسان. والعامل في البدل والمبدل منه معا فعل {يتذكر} . وتقديمه للاهتمام مع ما في الإطناب من التشويق ليحصل الإجمال ثم التفصيل مع حسن إعادة ما هو بمعنى {إذا} لزيادة الربط لطول الفصل بالجمل التي أضيف إليها {إذا} .
و {الإنسان} : هو الإنسان الكافر، وهو الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15] الآية فهو إظهار في مقام الإضمار لبعد معاد الضمير.
وجملة {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} معترضة بين جملة {يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} وجملة {يقول} الخ.
و {أنى} اسم استفهام بمعنى: أين له الذكرى ، وهو استفهام مستعمل في الإنكار والنفي، والكلام على حذف مضاف، والتقدير: وأين له نفع الذكرى.
وجمله {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} الخ يجوز أن يكون قولا باللسان تحسرا وتندما فتكون الجملة حالا من {الإنسان} أو بدل اشتمال من جملة {يتذكر} فإن تذكره مشتمل على تحسر وندامة. ويجوز أن يكون قوله في نفسه فتكون الجملة بيانا لجملة {يتذكر} .
ومفعول {قدمت} محذوف للإيجاز.
واللام في قوله: {لحياتي} تحتمل معنى التوقيت، أي قدمت عند أزمان حياتي فيكون المراد الحياة الأولى التي قبل الموت. وتحتمل أن يكون اللام للعلة، أي قدمت
(30/299)

الأعمال الصالحة لأجل أن أحيا في هذه الدار. والمراد: الحياة الكاملة السالمة من العذاب لأن حياتهم في العذاب حياة غشاوة وغياب قال تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:13].
وحرف النداء في قوله: {يَا لَيْتَنِي} للتنبيه اهتماما بهذا التمني في يوم وقوع.
والفاء في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} رابطة لجملة {لا يُعَذِّبُ} الخ بجملة {دُكَّتِ الْأَرْضُ} لما في {إذا} من معنى الشرط.
والعذاب: اسم مصدر عذب.
والوثاق: اسم مصدر أوثق.
وقرأ الجمهور {يُعَذِّبُ} بكسر الذال {يُوثِقُ} بكسر الثاء على أن {أَحَدٌ} في الموضعين فاعل {يُعَذِّبُ ، و يُوثِقُ} . وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير {عَذَابَهُ} عائد إلى الإنسان في قوله: {يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} وهو مفعول مطلق مبين للنوع على معنى التشبيه البليغ، أي عذابا مثل عذابه، وانتفاء المماثلة في الشدة، أي يعذب عذابا هو أشد عذاب يعذبه العصاة، أي عذابا لا نظير له في أصناف عذاب المعذبين على معنى قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. والمراد في شدته.
وهذا بالنسبة لبني الإنسان وأما عذاب الشياطين فهو أشد لأنهم أشد كفرا و {أحد} يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحد في سياق النفي يعم كل أحد قال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] فانحصر الأحد المعذب بكسر الذال في فرد وهو الله تعالى.
وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال {يُعَذِّبُ} وفتح ثاء {يُوثِقُ} مبنيين للنائب. وعن أبي قلابة قال حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {يُعَذِّبُ ، و يُوثِقُ} بفتح الذال وفتح الثاء. قال الطبري: وإسناده واه وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواتر القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواترة.
والمعنى: لا يعذب أحد مثل عذاب ما يعذب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ، ولا يوثق أحد مثل وثاقه. ف {أحد} هنا بمنزلة {أَحَداً} في قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
(30/300)

والوثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربط ويجعل للأسير والمقود إلى القتل. فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} [غافر:71-72] الآية.
وانتصاب {وثاقه} كانتصاب {عذابه} على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه.
[27-30] {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتبعوا هديه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر.
واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد. وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة. فيجوز أن يقال يوم الجزاء فهو مقول قول محذوف هو جواب "إذا" {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ} [الفجر:21] الآية وما بينهما مستطرد واعتراض.
فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القدس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة: فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله: {إِلَى رَبِّكِ} إظهارا في مقام الإضمار بقرينة تفريع {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} عليه. ونكتة هذا الإظهار ما في وصف {رب} من الولاء والاختصاص، وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطبة من التشريف لها.
وإن كان من قول الملائكة فلفظ {ربك} جرى على مقتضى الظاهر، وعطف {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} عطف تلقين بصدر من كلام الله تعالى تحقيقا لقول الملائكة {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} .
والرجوع: إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] بحيث شبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها: ارجعي إليه، وهذا الرجوع خاص غير مطلق الحلول في الآخرة.
(30/301)

ويجوز أن تكون الآية استئنافا ابتدائيا جرى على مناسبة ذكر عذاب الإنسان المشرك فتكون خطابا من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة.
والأمر في {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضا، والإضمار في قوله: {فِي عِبَادِي} وقوله: {جَنَّتِي} التفات من الغيبة إلى التكلم.
وقال بعض أهل التأويل: نزلت في معين. فعن الضحاك: أنها نزلت في عثمان ابن عفان لما تصدق ببئر رومة. وعن بريدة: أنها نزلت في حمزة حين قتل. وقيل: نزلت في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة. وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية، والاتفاق على أن السورة مكية إلا ما رواه الداني عن بعض العلماء أنها مدنية، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة.
وعن ابن عباس وزيد بن حارثة وأبي بن كعب وابن مسعود: أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد، وعلى هذا فهي متصلة بقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ} [الفجر:21] الخ كالوجه الذي قبل هذا، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد.
وعن زيد بن حارثة وأبي صالح يقال: هذا للنفس عند الموت. وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال: قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} فقال أبو بكر: ما أحسن هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إن الملك سيقولها عند الموت" . وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة.
والنفس: تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53].
وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى.
و {الْمُطْمَئِنَّةُ} : اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئا غير مضطرب ولا منزعج، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب بال فيكون
(30/302)

ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة.
وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن أفعلل. والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما ينطق به وهذا قول أبي عمرو. وقال سيبويه: أصل الفعل: طأمن فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مطأمنه ومصدره اطئمنان وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260] وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة النساء [103].
ووصف {النَّفْسُ} ب {الْمُطْمَئِنَّةُ} ليس وصفا للتعريف ولا للتخصيص، أي لتمييز المخاطبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يعرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإذن لهم بدخول الجنة، فالوصف مراد به الثناء والإيماء إلى وجه بناء الخبر. وتبشير من وجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون. ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاما في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون.
والاطمئنان: مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء.
وقد فسر الاطمئنان: بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالاخلاص في العمل، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة، وفسر بتبشيرهم بالجنة، أي قبل ندائهم ثم نودوا بأن يدخلوا الجنة.
والرجوع يحتمل الحقيقية والمجاز كما عملت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية.
والراضية: التي رضت بما أعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه.
والمرضية: اسم مفعول وأصله: مرضيا عنها، فوقع فيه الحذف والإيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفضاء الإنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما
(30/303)

رضي به هو.
وفرع على هذه البشرى الإجمالية تفصيل ذلك بقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} فهو تفصيل بعد الإجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها.
والمعنى: ادخلي في زمرة عبادي. والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإضافة مع قرنه بقوله: {جنتي} . ومعنى هذا كقوله تعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9].
فالظرفية حقيقة وتؤول إلى معنى المعية كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وإضافة "جنة" إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
وهذه الإضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلم حسنا بعد طريقة الغيبة بقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} .
وتكرير فعل {وَادْخُلِي} فلم يقل: فادخلي جنتي في عبادي للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقا للمسرة لهم.
(30/304)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلد
سميت هذه السورة في ترجمتها عن "صحيح البخاري" "سورة لا أقسم" وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة البلد". وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة.
وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم: أنها مدنية. ولعل هذا قول من فسر قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على معنى: وأنت الآن حل، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس. وقد أشار في "الكشاف" إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق، وفي رده بذلك مصادرة، فالوجه أن يورد بأن في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} إلى قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:5-11] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وإلا لخلت الضمائر عن معاد. وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.
وعدد آيها عشرون آية.
أغراضها
حوت من الأغراض التنويه بمكة. وبمقام النبي صلى الله عليه وسلم بها. وبركته فيها وعلى أهلها.
والتنويه بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم
(30/305)

وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي.
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك. وإنكارهم البعث. وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس، ونعمة النطق، ونعمة الفكر، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.
ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين.
[1-4] {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} .
ابتدئت بالقسم تشويقا لما يرد بعد وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق.
و {لا أُقْسِمُ} معناه: أقسم. وقد تقدم ذلك غير مره منها ما في سورة الحاقة.
وتقدم القول في هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به.
والإشارة ب"هذا" مع بيانه بالبلد، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة، ومثله ما في قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]. وفائدة الإتيان باسم الإشارة تمييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنويه به.
والبلد: جانب من متسع من أرض عامرة كانت كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج:
بل بلد ملء الفجاج قتمه
وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كناية عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله.
وجملة {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية. والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى {وَأَنْتَ حِلٌّ} فيجوز
(30/306)

أني يكون {حِلٌّ} اسم مصدر أحل، أي أباح ، فالمعنى وقد جعلك أهل مكة حلالا بهذا البلد الذي يحرم أذى صيده وعضد شجره، وهم مع ذلك يحلون قتلك وإخراجك قال هذا شرحبيل بن سعد1 فيكون المقصود من هذا الاعتراض التعجب من مضمون الجملة وعليه فالإخبار عن ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف {حِلٌّ} يقدر فيه مضاف يعينه ما يصلح للمقام، أي وأنت حلال منك ما حرم من حق ساكن هذا البلد من الحرمة والأمن. والمعنى التعريض بالمشركين في عدواهم وظلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد لا يظلمون فيه أحدا. وبالمناسبة ابتداء القسم بمكة هو أشعار بحرمتها المقتضية حرمة من يحل بها، أي فهم يحرمون أن يتعرضوا بأذى للدواب ويعتدون على رسول جاءهم برسالة من الله.
ويجوز أن يكون {حِلٌّ} اسما مشتقا من الحل وهو ضد المنع، أي الذي لا تبعة عليه فيما يفعله. قال مجاهد والسدي، أي ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل أو أنت في حل ممن قاتلك أن تقاتله. وقريبا منه عن ابن عباس، أي مهما تمكنت من ذلك. فيصدق باحال والاستقبال. وقال في "الكشاف" يعني وأنت حل به في المستقبل ونظيره في الاستقبال قوله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، تقول لمن تعده بالإكرام والحباء أنت مكرم محبوا اه.
فهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم قدمت له قبل ذكر إعراض المشركين عن الإسلام، ووعد بأنه سيمكنه منهم.
وعلى كلا الوجهين في محمل صفة حل هو خصوصيته للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم بيوم الفتح فقال "وإنما أحلت لي ساعة من نهار" الحديث، وفي الموطأ قال مالك: ولم يكن رسول اله صلى الله عليه وسلم يومئذ أي يوم الفتح محرما.
ويثار من هذه الآية على اختلاف المحامل النظر في جواز دخول مكة بغير إحرام لغير مريد الحج أو العمرة. قال الباجي في "المنتقى" وابن العربي في "الأحكام": الداخل مكة غير مريد النسك لحاجة تتكرر كالحطابين وأصحاب الفواكه والمعاشي هؤلاء يجوز دخولهم غير محرمين لأنهم لو كلفوا الإحرام لحقتهم مشقة. وان كان دخولها لحاجة لا تتكرر فالمشهور عن مالك: إنه لابد من الإحرام وروي عنه تركه والصحيح وجوبه، فان تركه قال الباجي: فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه وقد أساء ولم يفصل أهل
ـــــــ
1 أبو معاوية تابعي توفي سنة 123 ه.
(30/307)

المذهب بين من كان من أهل داخل الميقات أو من خارجه.
والخلاف في ذلك أيضا بين فقهاء الأمصار فذهب أبو حنيفة أن من كان من أهل داخل المواقيت يجوز له دخول مكة بغير مكة من دون إحرام إن لم يرد نسكا من حج أو عمرة وأما من كان من أهل خارج المواقيت فالواجب عليه الإحرام لدخول مكة دون تفصيل بين الاحتياج إلى تكرر الدخول أو عدم الاحتياج. وذهب الشافعي إلى سقوط الإحرام عن غير قاصد النسك ومذهب أحمد موافق مذهب مالك.
وحكى ابن عطية عن بعض المتأولين: أن معنى {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} أنه حال، أي ساكن بهذا البلد اهـ. وجعله ابن العربي قولا ولم يعزه إلى قائل، وحكاه القرطبي والبيضاوي كذلك وهو يقتضي أن تكون جملة {وَأَنْتَ حِلٌّ} في موضع الحال من ضمير {أقسم} فيكون القسم بالبلد مقيدا باعتبار بلد محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تأويل جميل لو ساعد عليه ثبوت استعمال {حل} بمعنى: حال، أي مقيم في مكان فإن هذا لم يرد في كتب اللغة: "الصحاح" و"اللسان" و"القاموس" و"مفردات الراغب". ولم يعرج عليه صاحب "الكشاف"، ولا أحسب إعراضه عنه إلا لعدم ثقته بصحة استعماله وقال الخفاجي: والحل: صفة أو مصدر بمعنى الحال هنا على هذا الوجه ولا عبرة لمن أنكره لعدم ثبوته في كتب اللغة اه وكيف يقال: لا عبرة بعدم ثبوته في كتب اللغة، وهل المرجع في إثبات اللغة إلا كتب أيمتها.
وتكرير لفظ {بِهَذَا الْبَلَدِ} إظهار في مقام الإضمار لقصد تجديد التعجيب. ولقصد تأكيد فتح ذلك البلد العزيز عليه والشديد على المشركين أن يخرج عن حوزتهم.
و {والد} وقع منكر فهو تنكير تعظيم إذ لا يحتمل غير ذلك في سياق القسم. فتعين أن يكون المراد والدا عظيما، والراجح عمل والد على المعنى الحقيقي بقرينة قوله: {وَمَا وَلَدَ} .
والذي يناسب القسم بهذا البلد أن يكون المراد ب {والد} إبراهيم عليه السلام فإنه الذي اتخذ ذلك البلد لإقامة ولده إسماعيل وزوجه هاجر قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] ثم قال {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37]. وإبراهيم والد سكان ذلك البلد الأصليين قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، ولأنه والد محمد صلى الله عليه وسلم.
(30/308)

و {مَا وَلَدَ} موصول وصلة والضمير المستتر في {ولد} عائد إلى {والد} . والمقصود: وما ولده إبراهيم نم الأبناء والذرية. وذلك مخصوص بالذين اقتفوا هديه فيشمل محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا تعريض للتنبيه بالمشركين من ذرية إبراهيم بأنهم حادوا عن طريقة أبيهم من التوحيد والصلاح والدعوة إلى الحق وعمارة المسجد الحرام قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68].
وجيء باسم الموصول {ما} في قوله: {وَمَا وَلَدَ} دون "من" مع أن "من" أكثر استعمالا في إرادة العاقل وهو مراد هنا، فعدل عن "من" لأن {ما} أشد إبهاما، فأريد تفخيم أصحاب هذه الصلة فجيء لهم بالموصول الشديد الإبهام لإرادة التفخيم، ونظيره قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني مولودا عجيب الشأن. ويوضح هذا أن {ما} تستعمل نكرة تامة باتفاق، و"من" لا تستعمل نكرة تامة إلا عند الفارسي.
ولأن قوة الإبهام في {ما} أنسب بإرادة الجماعة دون واحد معين، ألا ترى إلى قول الحكم الأصم الفزاري:
اللؤم أكرم من وبر ووالده ... واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
يريد ومن أولاده لا ولدا معينا.
وجملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} جواب القسم وهو الغرض من السورة.
والإنسان يجوز أن يراد به الجنس وهو الأظهر وقول جمهور المفسرين، فالتعريف فيه تعريف الجنس، ويكون المراد به خصوص أهل الشرك لأن قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] إلى آخر الآيات لا يليق إلا بأحوال غير المؤمنين، فالعموم عموم عرفي، أي الإنسان في عرف الناس يومئذ، ولم يكن المسلمون إلا نفرا قليلا ولذلك كثر في القرآن إطلاق الإنسان مرادا به الكافرون من الناس.
ويجوز أن يراد به إنسان معين، فالتعريف تعريف العهد، فعن الكلبي أنه أبو الأشد ويقال: أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة الجمحي كان معروفا بالقوة والشدة يجعل الأديم العكاظي تحت قدميه فيقول من أزالني فله كذا. فيجذبه عشرة رجال حتى يمزق الأديم ولا تزول قدماه، وكان شديد الكفر والعداوة للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل فيه {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] وقيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل هو أبو جهل. وعن مقاتل:
(30/309)

نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، زعم أنه أنفق مالا على إفساد أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو عمرو بن عبد ود الذي اقتحم الخندق في يوم الأحزاب ليدخل المدينة فقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق.
وليس لهذه الأقوال شاهد من النقل الصحيح ولا يلائمها القسم ولا السياق.
والخلق: إيجاد ما لم يكن موجودا، ويطلق على إيجاد حالة لها أثر قوي في الذات كقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:6] وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [المائدة:110]. فهو جعل يغير ذات الشيء.
والكبد بفتحتين: التعب والشدة، وقد تعددت أقال المفسرين في تقرير المراد بالكبد، ولم يعرج واحد منهم على ربط المناسبة بين ما يفسر به الكبد وبين السياق المسوق له الكلام وافتتاحه بالقسم المشعر بالتأكيد وتوقع الإنكار، حتى كأنهم بصدد تفسير كلمة مفردة ليست واقعة في كلام يجب التئامه، ويحق وءامه.
وقد غضوا النظر عن موقع فعل {خَلَقْنَا} على تفسيرهم الكبد إذ يكون فعل {خَلَقْنَا} كمعذرة للإنسان الكافر في ملازمة الكبد له إذ هو مخلوق فيه. وذلك يحط من شدة التوبيخ والذم، فالذي يلتئم مع السياق ويناسب القسم أن الكبد التعب الذي يلازم أصحاب الشرك من اعتقادهم تعدد الآلهة. واضطراب رأيهم في الجميع بين ادعاء الشركاء لله تعالى وبين توجههم إلى الله بطلب الرزق وبطلب النجاة إذا أصابهم ضر. ومن إحالتهم البعث بعد الموت مع اعترافهم بالخلق الأول فقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} دليل مقصودا وحده بل هو توطئة لقوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5]. والمقصود إثبات إعادة خلق الإنسان بعد الموت للبعث والجزاء الذي أنكروه وابتدأهم القرآن بإثباته في سور كثيرة من السور الأولى.
فوزان هذا التمهيد وزان التمهيد بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} . [التين:4-5] بعد القسم بقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1] الخ.
فمعنى {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ} [البلد:5]: أيحسب أن لن نقدر عليه بعد اضمحلال جسده فنعيده خلقا آخر، فهو في طريقة القسم والمقسم عليه بقوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] إلى قوله: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ، بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:1-4]. أي كما خلقناه أول مرة في نصب من أطوار الحياة كذلك
(30/310)

نخلقه خلقا ثانيا في كبد من العذاب في الآخرة لكفره.
وبذلك يظهر موقع إدماج قوله: {فِي كَبَدٍ} لأن المقصود التنظير بين الخلقين الأول والثاني في أنهما من مقدور الله تعالى.
والظرفية من قوله: {فِي كَبَدٍ} مستعملة مجازا في الملازمة فكأنه مظروف في الكبد، ونظيره قوله: {بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ، أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [سبأ: 8-9] الآية، فالمراد: عذاب الدنيا، وهو مشقة اضطراب البال في التكذيب واختلاق المعاذير والحيرة من الأمر على أحد التفسيرين لتلك الآية.
فمعنى أن الكبد ملازم للمشرك من حين اتصافه بالإشراك وهو حين تقوم العقل وكمال الإدراك.
ومن الجائز أن يجعل قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} من قبيل القلب المقبول لتضمنه اعتبارا لطيفا وهو شدة تلبس الكبد بالإنسان المشرك حتى كأنه خلق في الكبد.
والمعنى: لقد خلقنا الكبد في الإنسان الكافر.
وللمفسرين تأويلات أخرى في معنى الآية لا يساعد عليها السياق.
[5] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4].
والاستفهام مستعمل في التوبيخ والتخطئة.
وضمير {أَيَحْسَبُ} راجع إلى الإنسان لا محالة، ومن آثار الحيرة في معنى {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]. أن بعض المفسرين جعل ضمير {أَيَحْسَبُ} راجعا إلى بعض مما يعمه لفظ الإنسان مثل أبي الأشد الجمحي، وهو ضعث على إبالة.
[6-7] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} .
أعقبت مساوي نفسه بمذام أقواله، وهو التفخر الكاذب والتمدح بإتلاف المال في غير صلاح. وقد كان أهل الجاهلية يتبجحون بإتلاف المال ويعدونه منقبة لايذانه بقلة اكتراث صاحبه به قال عنترة:
وإذا سكرت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم
(30/311)

وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمائلي وتكرمي
وجملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً} في موضع الحال من {الإِنسَانَ} [البلد:4]. وذلك من الكبد.
وجملة {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً} لأن قوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} يصدر منه وهو يحسب أنه راج كذبه على جميع الناس وهو لا يخلوا من ناس يطلعون على كذبه قال زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
والاستفهام إنكار وتوبيخ وهو كناية عن علم الله تعالى بدخيلته وأن افتخاره بالكرم باطل.
و {لُبَداً} بضم اللام وفتح الموحدة في قراءة الجمهور وهو جمع لبدة بضم اللام وهي ما تلبد من صوف أو شعر، أي تجمع والتصق بعضه ببعض وقرأه أبو جعفر {لُبَداً} بضم اللام وتشديد الباء على أنه جمع لابد بمعنى مجتمع بعضه إلى بعض مثل: صيم وقيم، أو على أنه اسم على زنة فعل مثل زمل للجبان وجبإ للضعيف.
[8-10] {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} .
تعليل للإنكار والتوبيخ في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5] أو قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7] أي هو غافل عن قدرة الله تعالى وعن علمه المحيط بجميع الكائنات الدال عليهما أنه خلق مشاعر الإدراك التي منها العيان، وخلق آلات الإبانة وهي اللسان والشفتان، فكيف يكون مفيض العلم على الناس غير قادر وغير عالم بأحوالهم قال تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
والاستفهام يجوز أن يكون تقريريا وأن يكون إنكاريا.
والاقتصار على العينين لأنهما أنفع المشاعر ولأن المعلل إنكار ضنه إن لم يره أحد. وذكر الشفتين مع اللسان لأن الإبانة تحصل بهما معا فلا ينطق اللسان بدون الشفتين ولا تنطق الشفتان بدون اللسان.
ومن دقائق القرآن أنه لم يقتصر على اللسان ولا على الشفتين خلاف عادة كلام العرب أن يقتصروا عليه يقولون: ينطق بلسان فصيح، ويقولون: لم ينطق ببنت شفة، أو لم ينبس ببنت شفة، لأن المقام مقام استدلال فجيء فيه بما له مزيد تصوير لخلق آلة
(30/312)

النطق.
وأعقب ما به اكتساب العلم وما به الإبانة عن المعلومات، بما يرشد الفكر إلى النظر والبحث وذلك قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10].
فاستكمل الكلام أصول التعلم والتعليم فإن الإنسان خلق محبا للمعرفة محبا للتعريف بمشاعر الإدراك يكتسب المشاهدات وهي أصول المعلومات اليقينية، وبالنطق يفيد ما يعلمه لغيره، وبالهدي إلى الخير والشر يميز بين معلوماته ويمحصها.
والشفتان هما الجلدتان اللتان تستران الفم وأسنانه وبهما يمتص الماء، ومن انفتاحهما وانغلاقهما تتكيف أصوات الحروف التي بها النطق وهو المقصود هنا.
وأصل شفة شفو نقص منه الواو وعوض عنه هاء فيجمع على شفوات، وقيل أصله شفه بهاء هي لام الكلمة فعوض عنها هاء التأنيث فيجمع على شفهات وشفاه. والذي يظهر أن الأصل شفه بهاء أصلية ثم عوملت الهاء معاملة هاء التأنيث تخفيفا في حالة الوصل فقالوا: شفة، وتنوسي بكثرة الاستعمال فعومل معاملة هاء التأنيث كما في الآية وهو الذي تقضيه تثنيته على شفتين دون أن يقولوا: شفويين، فإنهم اتفقوا على أن التثنية ترد الاسم إلى أصله.
والهداية: الدلالة على الطريق المبلغة إلى المكان المقصود السير إليه.
والنجد: الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان والطريق قد يكون منجدا مصعدا، وقد يكون غورا منخفضا.
وقد استعيرت الهداية هنا للإلهام الذي جعله الله في الإنسان يدرك به الضار والنافع وهو أصل التمدن الإنساني وأصل العلوم والهداية بدين الإسلام إلى ما فيه الفوز.
واستعير النجدان للخير والشر، وجعلا نجدين لصعوبة اتباع أحدهما وهو الخير فغلب على الطريقين، أو لأن كل واحد صعب باعتبار فطريق الخير صعوبته في سلوكه، وطريق الشر صعوبته في عواقبه، ولذلك عبر عنه بعد هذا ب {الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
ويتضمن ذلك تشبيه إعمال الفكر لنوال المطلوب بالسير في الطريق الموصل إلى المكان المرغوب كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وتشبيه الإقبال على تلقي دعوة الإسلام إذ شقت على نفوسهم كذلك.
(30/313)

وأدمج في هذا الاستدلال امتنان على الإنسان بما وهبه من وسائل العيش المستقيم.
ويجوز أن تكون الهداية هداية العقل للتفكير في دلائل وجود الله ووحدانيته بحيث لو تأمل لعرف وحدانية الله تعالى فيكون هذا دليلا على سبب مؤاخذة أهل الشرك والتعطيل بكفرهم في أزمان الخلو عن إرسال الرسل على أحد القولين في ذلك بين الأشاعرة من جهة، وبين الماتريدية والمعتزلة من جهة أخرى.
[11-17] {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} .
يجوز أن يكون {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} تفريع إدماج بمناسبة قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي هديناه الطريقين فلم يسلك النجد الموصل إلى الخير.
ويجوز أن يكون تفريعا على جملة {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا} [البلد:6] وما بينهما اعتراضا، وتكون "لا اقتحم العقبة" استفهاما حذف منه أداته. وهو استفهام إنكار، والمعنى: أنه يدعي إهلاك مال كثير في الفساد من ميسر وخمر ونحو ذلك أفلا أهلكه في القرب والفضائل بفك الرقاب وإطعام المساكين في زمن المجاعة فإن الإنفاق في ذلك لا يخفي على الناس خلافا لما يدعيه من إنفاق.
وعلى هذا الوجه لا يعرض الإشكال بعدم تكرر "لا" فان شأن "لا" النافية إذا دخلت على فعل المضي ولم تكرر أن تكون للدعاء آلا إذا تكررت معها مثلها معطوفة عليها نحو قوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى} [القيامة:31] أو كانت "لا" معطوفة على نفي نحو: ما خرجت ولا ركبت. فهو في حكم تكرير "لا". وقد جاءت هنا نافية في غير دعاء، ولم تكرر استغناء عن تكريرها بكون ما بعدها وهو {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} يتضمن شيئين جاء بيانهما في قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} فكأنه قال: فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. ويجوز أن يكون عدم تكرير "لا" هنا استغناء رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا. ويجوز أن يكون عدم تكرير "لا" هنا استغناء بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} فكأنه قيل: فلا اقتحم العقبة ولا أمن. ويظهر أن كل ما يصرف عن التباس الكلام كاف عن تكرير "لا" كالإستثناء في قول الحريري في المقام الثلاثين لا عقد هذا العقد المبجل في هذا اليوم الاغر المحجل إلا الذي جال وجاب الخ وأطلق {الْعَقَبَةُ} على العمل الموصل للخير لأن عقبة النجد أعلى موضع فيه. ولكل نجد عقبة ينتهي بها. وفي العقبات تظهر
(30/314)

مقدرة السابرة.
والاقتحام: الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين يقال: اقتحم الصف، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35].
والاقتحام ترشيح لاستعارة العقبة لطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع كما قال:
والمورد العذب كثير الزحام
وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثارا للعاجل على الآجل ولو عزم وصبر لاقتحم العقبة. وقد تتابعت الاستعارات الثلاث: النجدين، والعقبة، والاقتحام، وبني بعضها على بعض وذلك من احسن الاستعارة وهي مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس.
والكلام مسوق مساق التوبيخ على عدم اهتداء هؤلاء للأعمال الصالحة مع قيام أسباب الاهتداء من الإدراك والنطق.
وقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} حال من العقبة في قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} للتنويه بها وأنها لأهميتها يسأل عنها المخاطب هل اعلمه معلم ما هي، أي لم يقحم العقبة في حال جدارتها بأن تقتحم. وهذا التنويه يفيد التسويق إلى معرفة المراد من العقبة.
و {ما} الأولى استفهام. و {ما} الثانية مثلها. والتقدير: أي شيء أعلمك ما هي العقبة، أي أعلمك جواب هذا الاستفهام، كناية عن كونه أمرا عزيزا يحتاج إلى من يعلمك به.
والخطاب في {مَا أَدْرَاكَ} لغير معين لأن هذا بمنزلة المثل.
وفعل {أَدْرَاكَ} معلق عن العمل في المفعولين لوقوع الاستفهام بعده وقد تقدم نظيره في سورة الحاقة.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف، {فَكُّ رَقَبَةٍ} برفع {فَكُّ} وإضافته إلى {رَقَبَةٍ} ورفع {إِطْعَامٌ} عطفا على {فَكُّ} .
وجملة {فَكُّ رَقَبَةٍ} بيان للعقبة والتقدير: هي فك رقبة، فحذف المسند إليه حذفا لمتابعة الاستعمال. وتبيين العقبة بأنها: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} مبنى على استعارة العقبة
(30/315)

للإعمال الصالحة الشاقة على النفس. وقد علمت أن ذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس، فلا وجه لتقدير من قدر مضافا فقال: أي وما أدراك ما اقتحام العقبة.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي {فَكُّ} بفتح الكاف على صيغة فعل المضي، وبنصب {رَقَبَةٍ} على المفعول ل {فَكُّ} أو"أطعم" بدون ألف بعد عين {إِطْعَامٌ} على أنه فعل مضي عطفا على {فَكُّ} ، فتكون جملة {فَكُّ رَقَبَةٍ} بيانا لجملة {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} وما بينهما اعتراضا، أو تكون بدلا من جملة {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة أو أطعم. وما بينهما اعتراض كما تقرر آنفا.
والفك: أخذ الشيء من يد من احتاز به.
والرقبة مراد بها الإنسان، من إطلاق اسم الجزء على كله مثل إطلاق رأس وعين ووجه، وإيثار لفظ هنا لأن المراد ذات الأسير أو العبد وأول ما يخطر بذهن الناظر لواحد من هؤلاء. هو رقبته لأنه في الغالب يوثق من رقبته.
وأطلق الفك على تخليص المأخوذ في أسر أو ملك، لمشابهة تخليص الأمر العسير بالنزع من يد القابض الممتنع.
وهذه الآية أصل من أصول التشريع الإسلامي وهو تشوف الشارع إلى الحرية وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب أصول النظام الاجتماعي في الإسلام.
والمسغبة: الجوع وهي مصدر على وزن المفعلة مثل المحمدة والمرحمة من شغب كفرح سغبا إذا جاع.
والمراد به {يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} زمان لا النهار المعروف.
وإضافة {ذي} إلى {مَسْغَبَةٍ} تفيد اختصاص ذلك اليوم بالمسغبة، أي يوم مجاعة. وذلك زمن البرد وزمن القحط.
ووجه تخصيص اليوم ذي مسغبة بالإطعام فيه أن الناس في زمن المجاعة يشتد شحهم بالمال خشية امتداد زمن المجاعة والاحتياج إلى الأقوات. فالإطعام في ذلك الزمن أفضل، وهو العقبة ودون العقبة مصاعد متفاوتة.
وانتصب {يتيما} على المفعول به ل {إِطْعَامٌ} الذي هو مصدر عامل عمل فعله وإعمال المصدر غير المضاف ولا المعرف باللام أقيس وإن كان إعمال المضاف أكثر،
(30/316)

ومنع الكوفيون إعمال المصدر غير المضاف. وما ورد بعده مرفوع أو منصوب حملوه على إضمار فعل من لفظ المصدر، فيقدر في مثل هذه الآية عندهم "يطعم يتيما".
واليتيم: الشخص الذي ليس له أب، وهو دون البلوغ ووجه تخصيصه بالإطعام أنه مظنة قلة الشبع لصغر سنه وضعف عمله وفقد من يعوله ولحيائه من التعرض لطلب ما يحتاجه. فلذلك رغب في إطعامه وإن لم يصل حد المسكنة والفقر ووصف بكونه {ذَا مَقْرَبَةٍ} أي مقربة من المطعم لأن هذا الوصف يؤكد إطعامه لأن في كونه يتيما إغاثة له بالإطعام، وفي كونه ذا مقربة صلة للرحم.
والمقربة: قرابة النسب وهو مصدر بوزن مفعلة مثل ما تقدم في {مسغبة} .
والمسكين: الفقير، وتقدم في سورة البقرة [184] عند قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} و {ذَا مَتْرَبَةٍ} صفة لمسكين جعلت المتربة علامة على الاحتياج بحسب العرف.
والمتربة مصدر بوزن مفعلة أيضا وفعله ترب يقال: ترب، إذا نام على التراب أي لم يكن له ما يفترشه على الأرض، وهو في الأصل كناية عن العرو من الثياب التي تحول بين الجسد والأرض عند الجلوس والاضطجاع وقريب منهم قولهم في الدعاء تربت يمينك: وتربت يداك.
و {أو} للتقسيم وهو معنى من معاني "أو" جاء من إفادة التخيير.
واعلم أنه إن كان المراد بالإنسان الجنس المخصوص، أي المشركين كان نفي فك الرقاب والإطعام كناية عن انتفاء تحليهم بشرائع الإسلام لأن فك الرقاب وإطعام الجياع من القربات التي جاء بها الإسلام من إطعام الجياع والمحاويج وفيه تعريض بتعيير المشركين بأنهم إنما يحبون التفاخر والسمعة وإرضاء أنفسهم بذلك، أو لمؤانسة الإخلاء وذلك غالب أحوالهم، أي لم يطعموا يتيما ولا مسكينا في يوم مسغبة، أي هو الطعام الذي يرضاه الله لأن فيه نفع المحتاجين من عباده. وليس مثل إطعامكم في المآدب والولائم والمنادمة التي لا تعود بالنفع على المطعمين لأن تلك المطاعم كانوا يدعون لها أمثالهم من أهل الجدة دون حاجة إلى الطعام وإنما يريدون المؤانسة أو المفاخرة.
وفي حديث مسلم "شر الطعام طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها" وروى الطبراني: "شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الشبعان ويحبس عنه الجائع" .
(30/317)

وإن كان المراد من الإنسان واحدا معينا جاز أن يكون المعنى على نحو ما تقدم، وجاز أن يكون ذما له باللؤم والتفاخر الكاذب، وفضحا له بأنه لم يسبق منه عمل نافع لقومه قبل الإسلام فلم يغرم غرامة في فكاك أسير أو مأخوذ بدم أو من بحرية على عبد.
وأيا ما كان فليس في الآية دلالة على أن الله كلف المشركين بهذه القرب ولا أنه عاقبهم على تركهم هذه القربات، حتى تفرض فيه مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة وهي مسألة قليلة الجدوى وفرضها هنا أقل إجداء.
وجملة {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} عطف على جملة {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} .
و {ثم} للتراخي الرتبي فتدل على أن مضمون الجملة المعطوفة بها أرقى رتبة في الغرض المسوق له الكلام من مضمون الكلام المعطوف عليه، فيصير تقدير الكلام: فلا اقتحم العقبة بفك رقبة أو إطعام بعد كونه مؤمنا. وفي فعل {كان} أشعار بأن إيمانه سابق على اقتحام العقبة المطلوبة فيه بطريقة التوبيخ على انتفائها عنه.
فعطف {ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} على الجمل المسوقة للتوبيخ والذم يفيد أن هذا الصنف من الناس أو هذا الإنسان المعين لم يكن من المؤمنين، وأنه ملوم على ما فرط فيه لانتفاء إيمانه، وأنه لو فعل شيئا من هذه الأعمال الحسنة ولم يكن من الذين آمنوا ما نفعه عمله شيئا لأنه قد انتفى عنه الحظ الأعظم من الصالحات كما دلت عليه {ثم} من التراخي الرتبي فهو مؤذن بأنه شرط في الاعتداد بالأعمال.
وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن أبن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم الطعام ويفك العاني ويعتق الرقاب ويحمل على إبله لله أي يريد التقرب فهل ينفعه ذلك شيئا قال "لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" . ويفهم من الآية بمفهوم صفة الذين آمنوا أنه لو عمل هذه القرب في الجاهلية وآمن بالله حين جاء الإسلام لكان عمله ذلك محمودا.
ومن يجعل {ثم} مفيدة للتراخي في الزمان يجعل المعنى: لا اقتحم العقبة واتبعها بالإيمان. أي اقتحم العقبة في الجاهلية وأسلم لما جاء الإسلام.
وقد جاء ذلك صريحا في حديث حكيم بن حزام في الصحيح قال قلت: يا رسول الله أرأيت أشياء كنت اتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة وصلة رحم فهل فيها من أجر فقال لي النبي: "أسلمت على ما سلف من خير" والتحنث: التعبد يعني
(30/318)

أن دخوله في الإسلام أفاد إعطاء ثواب على أعماله كأنه عملها في الإسلام.
وقال {مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا} دون أن يقول: ثم كان مؤمنا، لأن كونه من الذين آمنوا أدل على ثبوت الإيمان من الوصف بمؤمن لأن صفة الجماعة أقوى من أجل كثرة الموصوفين بها فإن كثرة الخير خير، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة [67]، ثم في هذه الآية تقوية أخرى للوصف، وهو جعله بالموصول المشعر بأنهم عرفوا بالإيمان بين الفرق.
وحذف متعلق {آمَنُوا} للعلم به أي آمنوا بالله وحده وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام. فجعل الفعل كالمستغني عن المتعلق.
وأيضا ليتأتى من ذكر الذين آمنوا تخلص إلى الثناء عليهم بقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} ولبشارتهم بأنهم أصحاب الميمنة.
وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإيمان، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشهوة النفسانية وذلك من الصبر.
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة، وهو أيضا كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عرف قدرها وفضلها، فهو يفعلها قبل أن يوصي بها كما تقدم في قوله تعالى: {وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18].
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة، وقد صرح في ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إلى قوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 33-35] وقوله: {بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17-18].
[18-20] {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} .
لما نوه بالذين آمنوا أعقب التنويه بالثناء عليهم وبشارتهم مفتتحا باسم الإشارة لتميزهم أكمل تمييز لإحضارهم بصفاتهم في ذهن السامع، مع ما في اسم الإشارة من
(30/319)

إرادة التنويه والتعظيم.
و {الميمنة} جهة اليمين، فهي مفعلة للمكان مأخوذة من فعل يمنه "فعلا ماضيا" إذا كان على يمينه، أي على جهة يده اليمنى، أو مأخوذة من يمنه الله يمنا، إذا باركه، وإحدى المادتين مأخوذة من الأخرى، قيل سميت اليد اليمنى يمينا ويمني لأنها أعود نفعا على صاحبها في يسر أعماله، ولذلك سمي بلاد اليمن يمنا لأنها عن جهة يمين الواقف مستقبلا الكعبة من بابها لأن باب الكعبة شرقي، فالجهة التي على يمين الداخل إلى الكعبة هي الجنوب وهي جهة بلاد اليمن وكانت بلاد اليمن. مشهورة بالخيرات فهي ميمونة وكان جغرافيو اليونان يصفونها بالعربية السعيدة، وتفرع على ذلك اعتبارهم ما جاء عن اليمين من الوحش والطير مبشرا بالخير في عقيدة أهل الزجر والعيافة فالأيامن الميمونة قال المرقش يفند ذلك:
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
ونشأ على اعتبار عكس ذلك تسمية بلاد الشام شأما بالهمز مشتقة من الشؤم لأن بلاد الشام من جهة شمال الداخل إلى الكعبة وقد أبطل الإسلام ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بارك لنا في شأمنا وفي يمننا" وما تسميتهم ضد اليد اليمنى يسارا إلا لإبطال ما يتوهم من الشؤم فيها.
ولما كانت جهة اليمين جهة مكرمة تعارفوا الجلوس على اليمين في المجامع كرامة للجالس، وجعلوا ضدهم بعكس ذلك. وقد أبطله الإسلام فكان الناس يجلسون حين انتهى بهم المجلس.
وسمي أهل الجنة {أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} و {أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] وسمي أهل النار {أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} و {أَصْحَابُ الشِّمَالِ} في سورة الواقعة [41]، فقوله: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي أصحاب الكرامة عند الله.
وقوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي هم محقرون. وذلك كناية مبنية على عرف العرب يومئذ في مجالسهم. ولا ميمنة ولا مشأمة على الحقيقة لأن حقيقة الميمنة والمشأمة تقتضيان حيزا لمن تنسب إليه الجهة.
وجملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تتميم لما سيق من ذم الإنسان المذكور آنفا إذ لم يعقب ذمه هنالك بوعيده بعناية بالأهم وهو ذكر حالة أضداده ووعدهم،
(30/320)

فلما قضي حق ذلك ثني العنان إلى ذلك الإنسان فحصل من هذا النظم البديع محسن رد العجز على الصدر. ومحسن الطباق بين الميمنة والمشأمة.
وقد عرفت آنفا أن المشأمة منزلة الإهانة والغضب، ولذلك أتبع بقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} .
وضمير الفصل في قوله: {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} لتقوية الحكم وليس للقصر، إذ قد استفيد القصر من ذكر الجملة المضادة للتي قبلها وهي {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} .
و {مُوصَدَةٌ} اسم مفعول من أوصد الباب بالواو. ويقال:أأصد بالهمز وهما لغتان، قيل الهمز لغة قريش وقيل معناه جعله وصيدة. والوصيدة: بيت يتخذ من الحجارة في الجبال لحفظ الإبل. فقرأ الجمهور {مُوصَدَةٌ} بواو ساكنة بعد الميم من أوصد بالواو، وقرأه أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزة ساكنة بعد الميم من ءاصد الباب، بهمزتين بمعنى وصده.
وجملة {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُوصَدَةٌ} بدل اشتمال من جملة {هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أو استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم أصحاب المشأمة.
و {عليهم} متعلق ب {مُوصَدَةٌ} ،وقدم على عامله للإهتمام بتعلق الغلق عليهم تعجيلا للترهيب.
وقد استتب بهذا التقديم رعاية الفواصل بالهاء ابتداء من قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
وإسناد الموصدية إلى النار مجاز عقلي، والموصد هو موضوع النار، أي جهنم.
(30/321)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
سميت هذه السورة في المصاحف وفي معظم كتب التفسير "سورة الشمس" بدون واو وكذلك عنونها الترمذي في جامعه بدون واو في نسخ صحيحة من "جامع الترمذي" ومن "عارضة الأحوذي" لابن العربي.
وعنونها البخاري سورة "والشمس وضحاها" بحكاية لفظ الآية، وكذلك سميت في بعض التفاسير وهو أولى أسمائها لئلا تلتبس على القارئ بسورة إذا الشمس كورت المسماة سورة التكوير.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور التي لها أكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وعدت السادسة والعشرين في عدد نزول السور نزلت بعد سورة القدر، وقبل سورة البروج.
وآياتها خمس عشرة آية في عدد جمهور الأمصار، وعدها أهل مكة ست عشرة آية.
أغراضها
تهديد المشركين بأنهم يوشك أن يصيبهم عذاب بإشراكهم وتكذيبهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كما أصاب ثمودا بإشراكهم وعتوهم على رسول الله إليهم الذي دعاهم إلى التوحيد.
وقدم لذلك تأكيد الخبر بالقسم بأشياء معظمة وذكر من أحوالها ما هو على بديع صنع الله تعالى الذي لا يشاركه فيه غيره فهو دليل على أنه المنفرد بالإلهية والذي لا يستحق غيره الإلهية وخاصة أحوال النفوس ومراتبها في مسالك الهدى والضلال والسعادة
(30/322)

والشقاء.
[1-8] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا، وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا، وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} .
القسم لتأكيد الخبر، والمقصود بالتأكيد هو ما في سوق الخبر من التعريض بالتهديد والوعيد بالاستئصال.
والواوات الواقعة بعد الفواصل واوات قسم.
وكل من الشمس، والقمر والسماء والأرض، ونفس الإنسان، من أعظم مخلوقات الله ذاتا ومعنى الدالة على بديع حكمته وقوي قدرته.
وكذلك كل من الضحى، وتلو القمر الشمس والنهار، والليل من أدق النظام التي جعلها الله تعالى.
والضحى: وقت ارتفاع الشمس عن أفق مشرقها وظهور شعاعها وهو الوقت الذي ترتفع فيه الشمس متجاوزة مشرقها بمقدار ما يخيل للناظر أنه طول رمح.
ومهد لذلك بالتنبيه على أن تزكية النفس سبب الفلاح. وأن التقصير في إصلاحها سبب الفجور والخسران.
والتلو: التبع وأريد به خلف ضوئه في الليل ضوء الشمس أي إذا ظهر بعد مغيبها فكأنه يتبعها في مكانها، وهذا تلو مجازي. والقمر يتبع الشمس في أحوال كثيرة منها استهلاله، فالهلال يظهر للناظرين عقب غروب الشمس ثم يبقى كذلك ثلاث ليالي، وهو أيضا يتلو الشمس حين يقارب الابتدار وحين يصير بدرا فإذا صار بدرا صار تلوه الشمس حقيقة لأنه يظهر عندما تغرب الشمس، وقريبا من غروبها قبله أو بعده، وهو أيضا يضيء في أكثر ليالي الشهر جعله الله عوضا عن الشمس في عدة ليال في الإنارة، ولذلك قيد القسم بحين تلوه لأن تلوه للشمس حينئذ تظهر منه مظاهر التلو للناظرين، فهذا الزمان مثل زمان الضحى في القسم به، فكان بمنزلة قسم بوقت تلوه الشمس، فحصل القسم بذات القمر وبتلوه الشمس.
وفي الآية إشارة إلى أن نور القمر مستفاد من نور الشمس، أي من توجه أشعة
(30/323)

الشمس إلى ما يقابل الأرض من القمر، وليس نيرا بذاته، وهذا إعجاز علمي من إعجاز القرآن وهو مما أشرت إليه في المقدمة العشرة.
وابتدئ بالشمس لمناسبة المقام إيماء للتنويه بالإسلام لأن هديه كنور الشمس لا يترك للضلال مسلكا، وفيه إشارة إلى الوعد بانتشاره في العالم كانتشار نور الشمس في الأفق، واتبع بالقمر لأنه ينير في الظلام كما أنار الإسلام في ابتداء ظهوره في ظلمة الشرك، ثم ذكر النهار والليل معه لأنهما مثل لوضوح الإسلام بعد ضلالة الشرك وذلك عكس ما في سورة الليل لما يأتي.
ومناسبة استحضار السماء عقب ذكر الشمس والقمر، واستحضار الأرض عقب ذكر النهار والليل، واضحة، ثم ذكرت النفس الإنسانية لأنها مظهر الهدى والضلال وهو المقصود.
والضمير المؤنث في قوله: {جَلاَّهَا} ظاهره أنه عائد إلى الشمس فمعنى تجلية النهار الشمس وقت ظهور الشمس.
فإسناد التجلية إلى النهار مجاز عقلي والقسم إنما هو بالنهار لأنه حالة دالة على دقيق نظام العالم الأرضي. وقيل الضمير عائد إلى الأرض،أي أضاء الأرض فتجلت للناظرين لظهور المقصود كما يقال عند نزول المطر أرسلت يعنون أرسلت السماء ماءها.
وقيد القسم بالنهار بقيد وقت التجلية إدماجا للمنة في القسم.
وابتدئ القسم بالشمس وأضوائها الثلاثة الأصلية والمنعكسة لأن الشمس أعظم النيرات التي يصل نور شديد منها للأرض، ولما في حالها وحال أضوائها من الإيماء إلى أنها مثل لظهور الإيمان بعد الكفر وبث التقوى بعد الفجور فإن الكفر والمعاصي تمثل بالظلمة والإيمان والطاعات تمثل بالضياء قال تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16].
وأعقب القسم بالنهار بالقسم بالليل لأن الليل مقابل وقت النهار فهو وقت الإظلام.
والغشي:التغطية وليس الليل بمغط للشمس على الحقيقة ولكنه مسبب عن غشي نصف الكرة الأرضية لقرص الشمس ابتداء من وقت الغروب وهو زمن لذلك الغشي. فإسناد الغشي إلى الليل مجاز عقلي من إسناد الفعل إلى زمنه أو إلى مسببه "بفتح الباء".
(30/324)

والغاشي في الحقيقة هو تكوير الأرض ودورانها تجاه مظهر الشمس وهي الدورة اليومية، وقيل ضمير المؤنث في {يَغْشَاهَا} عائد إلى الأرض على نحو ما قيل في {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} .
و {إذا} في قوله: {إِذَا تَلاَهَا} وقوله: {إِذَا جَلاَّهَا} وقوله: {إِذَا يَغْشَاهَا} ، في محل نصب على الظرفية متعلقة بكون هو حال من القمر ومن النهار ومن الليل فهو ظرف مستقر، أي مقسما بكل واحد من هذه الثلاثة في الحالة الدالة على أعظم أحواله وأشدها دلالة على عظيم صنع الله تعالى.
وبناء السماء تشبيه لرفعها فوق الأرض بالبناء. والسماء آفاق الكواكب قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} وتقييد القسم بالليل بوقت تغشيته تذكيرا بالعبرة بحدوث حالة الظلمة بعد حالة النور.
وطحو الأرض: بسطها وتوطئتها للسير والجلوس والاضطجاع، يقال: طحا يطحو ويطحي طحوا وطحيا وهو مرادف "دحا" في سورة النازعات [30].
و"النفس": ذات الإنسان كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27 وتنكير "نفس" للنوعية أي جنس النفس فيعم كل نفس عموما بالقرينة على نحو قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار:5].
وتسوية النفس: خلقها سواء، أي غير متفاوتة الخلق، وتقدم في سورة الانفطار [7] عند قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ} .
و {ما} في المواضع الثلاثة من قوله: {وَمَا بَنَاهَا} ، أو {مَا طَحَاهَا} ، {وَمَا سَوَّاهَا} ، إما مصدرية يؤول الفعل بعدها بمصدر فالقسم بأمور من آثار قدرة الله تعالى وهي صفات الفعل الإلهية وهي رفعة السماء وطحوه الأرض وتسويته الإنسان.
وعطف {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على {سَوَّاهَا} ، فهو مقسم به، وفعل "ألهمها" في تأويل مصدر لأنه معطوف على صلة {ما} المصدرية، وعطف بالفاء لأن الإلهام ناشئ عن التسوية، فضمير الرفع في "ألهمها" عائد إلى التسوية وهي المصدر المأخوذ من {سَوَّاهَا} ويجوز أن تكون {ما} موصولة صادقة على فعل الله تعالى، وجملة {بَنَاهَا} صلة الموصول، أي والبناء الذي بنى السماء، والطحو الذي طحا الأرض والتسوية التي سوت النفس.
(30/325)

فالتسوية حاصلة من وقت تمام خلقة الجنين من أول أطوار الصبا إذ التسوية تعديل الخلقة وإيجاد القوى الجسدية والعقلية ثم تزداد كيفية القوى فيحصل الإلهام.
والإلهام: مصدر ألهم، وهو فعل متعد بالهمزة ولكن المجرد منه ممات الإلهام اسم قليل الورود في كلام العرب ولم يذكر أهل اللغة شاهدا له من كلام العرب.
ويطلق الإلهام إطلاقا خاصا على حدوث علم في النفس بدون تعليم ولا تجربة ولا تفكير فهو علم يحصل من غير دليل سواء ما كان منه وجدانيا كالانسياق إلى المعلومات الضرورية والوجدانية، وما كان منه عن دليل كالتجريبيات والأمور الفكرية النظرية.
وإيثار الفعل هنا ليشمل جميع علوم الإنسان، قال الراغب: الإلهام: إيقاع الشيء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى اه. ولذلك فهذا اللفظ إن لم يكن من مبتكرات القرآن يكن مما أحياه القرآن لأنه اسم دقيق الدلالة على المعاني النفسية وقليل رواج أمثال ذلك في اللغة قبل الإسلام لقلة خطور مثل تلك المعاني في مخاطبات عامة العرب، وهو مشتق من اللهم وهو البلع دفعة، يقال: لهم كفرح، وأما إطلاق الإلهام على علم يحصل للنفس بدون مستند فهو إطلاق اصطلاحي للصوفية.
والمعنى هنا: أن من آثار تسوية النفس إدراك العلوم الأولية والإدراك الضروري المدرج ابتداء من الانسياق الجبلي نحو الأمور النافعة كطلب الرضيع الثدي أول مرة، ومنه اتقاء الضار كالفرار مما يكره، إلى أن يبلغ ذلك إلى أول مراتب الاكتساب بالنظر العقلي، وكل ذلك إلهام.
وتعدية الإلهام إلى الفجور والتقوى في هذه الآية مع أن الله أعلم الناس بما هو فجور وما هو تقوى بواسطة الرسل باعتبار أنه لولا ما أودع الله في النفوس من إدراك المعلومات على اختلاف مراتبها لما فهموا ما تدعوهم إليه الشرائع الإلهية، فلولا العقول لما تيسر إفهام الإنسان الفجور والتقوى، والعقاب والثواب.
وتقديم الفجور على التقوى مراعى فيه أحوال المخاطبين بهذه السورة وهم المشركون، وأكثر أعمالهم فجور ولا تقوى لهم، والتقوى صفة أعمال المسلمين وهم قليل يومئذ.
ومجيء فعل "ألهمها" بصيغة الإسناد إلى ضمير مذكر باعتبار أن تأنيث مصدر
(30/326)

التسوية تأنيث غير حقيقي أو لمراعاة لفظ {ما} إن جعلتها موصولة.
[9-10] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} .
يجوز أن تكون الجملة جواب القسم، وأن المعنى تحقيق فلاح المؤمنين وخيبة المشركين كما جعل في سورة الليل [4-5] جواب القسم قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الخ.
ويجوز أن تكون جملة معترضة بين القسم والجواب لمناسبة ذكر إلهام الفجور والتقوى، أي أفلح من زكى نفسه واتبع ما ألهمه الله من التقوى، وخاب من اختار الفجور بعد أن ألهم التمييز بين الأمرين بالإدراك والإرشاد الإلهي.
وهذه الجملة توطئة لجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11]. فإن ما أصاب ثمودا كان من خيبتهم لأنهم دسوا أنفسهم بالطغوى.
وقدم الفلاح على الخيبة لمناسبته للتقوى، وأردف بخيبة من دسى نفسه لتهيئة الانتقال إلى الموعظة بما حصل لثمود من عقاب على ما هو أثر التدسية.
و {من} صادقة على الإنسان، أي الذي زكى نفسه بأن اختار لها ما به كمالها ودفع الرذائل عنها، فالإنسان والنفس شيء واحد، ونزلا منزلة شيئين باختلاف الإرادة والاكتساب.
والتزكية: الزيادة من الخير.
ومعنى {دَسَّاهَا} حال بينهما وبين فعل الخير. وأصل فعل دسى: دس، إذا أدخل شيئا تحت شيء فأخفاه، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلبا للتخفيف كما قالوا: تقضى البازي أي تقضض، وقالوا: تظنيت، أي من الظن.
وإن كانت جملة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} جواب القسم فجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس:11] في موقع الدليل لمضمون جملة {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي خاب كخيبة ثمود.
والفلاح: النجاح بحصول المطلوب، والخيبة ضده، أي أن يحرم الطالب مما طلبه.
فالإنسان يرغب في الملائم النافع، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال
(30/327)

الدائمان، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح، والثاني يحصل نفعا عارضا زائلا وكمالا موقتا ينقلب انحطاطا فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة.
والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها.
وفي هذه الآيات محسن الطباق غير مرة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما، ومثل النهار والليل، والتجلية والغشي، والسماء والأرض، والبناء والطحو، والفجور والتقوى، والفلاح والخيبة، والتزكية والتدسية.
[11-15] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا، وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} .
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} .
إن كانت جملة {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] الخ معترضة كانت هذه جوابا للقسم باعتبار ما فرع عليها بقوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ} أي حقا لقد كان ذلك لذلك، ولام الجواب محذوف تخفيفا لاستطالة القسم، وقد مثلوا لحذف اللام بهذه الآية وهو نظير قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} إلى قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:1-4].
والمقصود: التعريض بتهديد المشركين الذين كذبوا الرسول طغيانا هم يعلمونه من أنفسهم كما كذبت ثمود رسولهم طغيانا، وذلك هو المحتاج إلى التأكيد بالقسم لأن المشركين لم يهتدوا إلى أن ما حل بثمود من الاستئصال كان لأجل تكذيبهم رسول الله إليهم، فنبههم الله بهذا ليتدبروا أو لتنزيل علم من علم ذلك منهم منزلة الإنكار لعدم جري أمرهم على موجب العلم، فكأنه قيل: أقسم ليصيبكم عذاب كما أصاب ثمود، ولقد أصاب المشركين عذاب السيف بأيدي الذين عادوهم وآذوهم وأخرجوهم، وذلك أقسى عليهم وأنكى.
(30/328)

فمفعول {كَذَّبَتْ} محذوف لدلالة قوله بعده {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} والتقدير: كذبوا رسول الله.
وتقدم ذكر ثمود ورسولهم صالح عليه السلام في سورة الأعراف.
وباء {بِطَغْوَاهَا} للسببية، أي كانت طغواها سبب تكذيبهم رسول الله إليهم.
والطغوى: اسم مصدر يقال: طغا طغوا وطغيانا، والطغيان: فرط الكبر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]، وفيه تعريض بتنظير مشركي قريش في تكذيبهم بثمود في أن سبب تكذيبهم هو الطغيان والتكبر عن اتباع من لا يرون له فضلا عليهم {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
و {إذ} ظرف للزمن الماضي يتعلق ب {طَغْوَاهَا} لأن وقت انبعاث أشقاها لعقر الناقة هو الوقت الذي بدت فيه شدة طغواها فبعثوا أشقاهم لعقر الناقة التي جعلت لهم آية وذلك منتهى الجرأة.
وانبعث: مطاوع بعث، فالمعنى: إذ بعثوا أشقاهم فانبعث وانتدب لذلك. و {إذ} مضاف إلى جملة {انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} .
وقد ذكر هذا الظرف عن موقعه بعد قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} لأن انبعاث أشقاها لعقر الناقة جزئي من جزئيات طغواهم فهو أشد تعلقا بالتكذيب المسبب عن الطغوى ففي تقديمه قضاء لحق هذا الاتصال، ولإفادة أن انبعاث أشقاهم لعقر الناقة كان عن إغراء منهم إياه، ولا يفوت مع ذلك أنه وقع بعد أن قال لهم رسول الله ناقة الله، ويستفاد أيضا من قوله: {فَعَقَرُوهَا} .
وأشقاها: أشدها شقوة، وعني به رجل منهم سماه المفسرون قدار بضم القاف وتخفيف الدال المهملة بن سالف، وزيادته عليهم في الشقاوة بأنه الذي باشر الجريمة وإن كان عن ملإ منهم وإغراء.
والفاء من قوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} عاطفة على {كَذَّبَتْ} فتفيد الترتيب والتعقيب كما هو الغالب فيها. ويكون معنى الكلام: كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحداهم بآية الناقة وحذرهم من التعرض لها بسوء ومن منعها شربها في نوبتها من السقيا، وعطف على {فَكَذَّبُوهُ} ، أي فيما أنذرهم به فعقروها بالتكذيب المذكور أول مرة غير التكذيب المذكور
(30/329)

ثانيا. وهذا يقتضي أن آية الناقة أرسلت لهم بعد أن كذبوا وهو الشأن في آيات الرسل، وهو ظاهر ما جاء في سورة هود.
ويجوز أن تكون الفاء للترتيب الذكري المجرد وهي تفيد عطف مفصل على مجمل مثل قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة:36] فإن إزلا لهما إبعادهما وهو يحصل بعد الإخراج لا قبله. وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} [الأعراف:4]، فيكون المعنى: كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها. ثم فصل ذلك بقوله: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {فَعَقَرُوهَا} ، والعقر عند انبعاث أشقاها، وعليه فلا ضرورة إلى اعتبار الظرف هو {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} مقدما من تأخير.
وأعيدت عليهم ضمائر الجمع باعتبار أنهم جمع وإن كانت الضمائر قبله مراعى فيها أن ثمود اسم قبيلة.
وانتصب {نَاقَةَ اللَّهِ} على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله. والمراد: التحذير من أن يؤذوها، فالكلام من تعليق الحكم بالذوات، والمراد: أحوالها.
وإضافة {ناقة} إلى اسم الجلالة لأنها آية جعلها الله على صدق رسالة صالح عليه السلام ولأن خروجها لهم كان خارقا للعادة.
والسقيا: اسم مصدر سقى، وهو معطوف على التحذير، أي احذروا سقيها، أي احذروا غضب سقيها، فالكلام على حذف مضاف، أو أطلق السقيا على الماء الذي تسقى منه إطلاقا للمصدر على المفعول فيرجع إلى إضافة الحكم إلى الذات. والمراد: حالة تعرف من المقام، فإن مادة سقيا تؤذن بأن المراد التحذير من أن يسقوا إبلهم من الماء الذي في يوم نوبتها.
والتكذيب المعقب به تحذيره إياهم بقوله: {نَاقَةَ اللَّهِ} ، تكذيب ثان وهو تكذيبهم بما اقتضاه التحذير من الوعيد. والإنذار بالعذاب إن لم يحذروا الاعتداء على تلك الناقة، وهو المصرح به في آية سورة الأعراف [73] في قوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وبهذا الاعتبار استقام التعبير عن مقابلة التحذير بالتكذيب مع أن التحذير إنشاء، فالتكذيب إنما يتوجه إلى ما في التحذير من الإنذار بالعذاب.
والعقر: جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فينحر في لبته، فالعقر
(30/330)

كناية مشهورة عن النحر لتلازمهما.
{فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} .
أي صاح عليهم ربهم صيحة غضب. والمراد بهذه الدمدمة صوت الصاعقة والرجفة التي أهلكوا بها قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} [الحجر:73]، وإسناد ذلك إلى الله مجاز عقلي لأن الله هو خالق الصيحة وكيفياتها. فوزن دمدم فعلل، وقال أكثر المفسرين: دمدم عليهم أطبق عليهم الأرض، يقال: دمم عليه القبر، إذا أطبقه ودمدم مكرر دمم للمبالغة مثل كبكب، وعليه فوزن دمدم فعلل.
وفرع على "دمدم عليهم" {فَسَوَّاهَا} أي فاستتووا في إصابتها لهم فضمير النصب عائد إلى الدمدمة المأخوذة من "دمدم عليهم".
ومن فسروا "دمدم" بمعنى: أطبق عليهم الأرض قالوا معنى "سواها": جعل الأرض مستوية عليهم لا تظهر فيها أجسادهم ولا بلادهم، وجعلوا ضمير المؤنث عائدا إلى الأرض المفهومة من فعل "دمدم" فيكون كقوله تعالى: {لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} [النساء:42].
وبين {فَسَوَّاهَا} هنا وقوله: {وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] قبله محسن الجناس التام.
والعقبى: ما يحصل عقب فعل من الأفعال من تبعة لفاعله أو مثوبة، ولما كان الذكور عقابا وغلبة وكان العرف أن المغلوب يكنى في نفسه الأخذ بالثأر من غالبه فلا يهدأ له بال حتى يثأر لنفسه، ولذلك يقولون: الثار المنيم، أي الذي يزيل النوم عن صاحبه، فكان الذي يغلب غيره يتقي حذرا من أن يتمكن مغلوبه من الثأر، أخبر الله أنه الغالب الذي لا يقدر مغلوبه على أخذ الثأر منه، وهذا كناية عن تمكن الله من عقاب المشركين وأن تأخير العذاب عنهم إمهال لهم وليس عن عجز فجملة {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} تذييل للكلام وإيذان بالختام.
ويجوز أن يكون قوله: {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} تمثيلا لحالهم في الاستئصال بحال من لم يترك من يثأر له فيكون المثل كناية عن هلاكهم عن بكرة أبيهم لم يبق منهم أحد.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} بفاء العطف تفريعا على {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} . وهو مكتوب بالفاء في مصاحف المدينة ومصحف الشام... ومعنى التفريع بالفاء على هذه القراءة تفريع العلم بانتفاء خوف الله منهم مع قوتهم ليرتدع بهذا
(30/331)

العلم أمثالهم من المشركين.
وقرأ الباقون من العشرة {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} بواو العطف أو الحال، وهي كذلك في مصاحف أهل مكة وأهل البصرة والكوفة، وهي رواية قرائها. وقال ابن القاسم وابن وهب: أخرج لنا مالك مصحفا لجده وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان حين كتب المصاحف وفيه {وَلاَ يَخَافُ} بالواو، وهذا يقتضي أن بعض مصاحف المدينة بالواو ولكنهم لم يقرأوا بذلك لمخالفته روايتهم.
(30/332)

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليل
سميت هذه السورة في معظم المصاحف وبعض كتب التفسير سورة الليل بدون واو، وسميت في معظم كتب التفسير سورة والليل بإثبات الواو، وعنونها البخاري والترمذي سورة "والليل إذا يغشى".
وهي مكية في قول الجمهور، واقتصر عليه كثير من المفسرين، وحكى ابن عطية عن المهدوي أنه قيل: إنها مدنية، وقيل بعضها مدني، وكذلك ذكر الأقوال في الإتقان، وأشار إلى أن ذلك لما روي من سبب نزول قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل:5] إذ روي أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري في نخلة كان يأكل أيتام من ثمرها وكانت لرجل من المنافقين فمنعهم من ثمرها فاشتراها أبو الدحداح بنخيل فجعلها لهم وسيأتي.
وعدت التاسعة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة الأعلى وقبل سورة الفجر.
وعدد آيها عشرون.
أغراضها
احتوت على بيان شرف المؤمنين وفضائل أعمالهم ومذمة المشركين ومساويهم وجزاء كل.
وأن الله يهدي الناس إلى الخير فهو يجزي المهتدين بخير الحياتين والضالين بعكس ذلك.
وأنه أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للتذكير بالله وما عنده فينتفع من يخشى فيفلح ويصدف عن الذكرى من كان شقيا فيكون جزاؤه النار الكبرى وأولئك هم الذين صدهم عن التذكر إيثار
(30/333)

حب ما هم فيه في هذه الحياة.
وأدمج في ذلك الإشارة إلى دلائل قدرة الله تعالى وبديع صنعه.
[1-4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} .
افتتاح الكلام بالقسم جار على أسلوب السورتين قبل هذه، وغرض ذلك ما تقدم آنفا.
ومناسبة المقسم به للمقسم عليه أن سعي الناس منه خير ومنه شر وهما مماثلان النور والظلمة وأن سعي الناس ينبثق عن نتائج منها النافع ومنها الضار كما ينتج الذكر ذرية صالحة وغير صالحة.
وفي القسم بالليل والنهار التنبيه على الاعتبار بهما في الاستدلال على حكمة نظام الله في هذا الكون وبديع قدرته، وخص بالذكر ما في الليل من الدلالة من حالة غشيانيه الجانب الذي يغشاه من الأرض. ويغشى فيه من الموجودات فتعمها ظلمته فلا تبدو للناظرين، لأن ذلك أقوى أحواله، وخص بالذكر من أحوال النهار حالة تجليته عن الموجودات وظهور على الأرض كذلك.
وقد تقدم بيان الغشيان والتجلي في تفسير قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} في سورة الشمس [3-4].
واختير القسم بالليل والنهار لمناسبته للمقام لأن غرض السورة بيان البون بين حال المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة.
وابتدئ في هذه السورة بذكر الليل ثم ذكر النهار عكس ما في سورة الشمس لأن هذه السورة نزلت قبل سورة الشمس بمدة وهي سادسة السور وأيامئذ كان الكفر مخيما على الناس إلا نفرا قليلا، وكان الإسلام قد أخذ في التجلي فناسب تلك الحالة بإشارة إلى تمثيلها بحالة الليل حين يعقبه ظهور النهار، ويتضح هذا في جواب القسم بقوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إلى قوله: {إِذَا تَرَدَّى} [الليل:4-11].
وفي قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} إجمال يفيد التشويق إلى تفصيله بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} [الليل:5] الآية ليتمكن تفصيله في الذهن.
(30/334)

وحذف مفعول {يَغْشَى} لتنزيل الفعل منزلة اللازم لأن العبرة بغشاية كل ما تغشاه ظلمته.
وأسند إلى النهار التجلي مدحا له بالاستنارة التي يراها كل أحد ويحس بها حتى البصراء.
والتجلي: الوضوح، وتجلي النهار: وضوح ضيائه، فهو بمعنى قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] وقوله: {وَالضُّحَى} [الضحى:1].
وأشير إلى أن ظلمة الليل كانت غالبة لضوء النهار وأن النهار يعقبها والظلمة هي أصل أحال أهل الأرض وجميع العوالم المرتبطة بالنظام الشمسي وإنما أضاءت بعد أن خلق الله الشمس ولذلك اعتبر التاريخ في البدء بالليالي ثم طرأ عليه التاريخ بالأيام.
والقول في تقييد الليل بالظرف وتقييد النهار بمثله كالقول في قوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} في السورة السابقة [الشمس:3-4].
و {ما} في قوله: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} مصدرية أقسم الله بأثر من آثار قدرته وهو خلق الزوجين وما يقتضيه من التناسل.
والذكر والأنثى: صنفا أنواع الحيوان. والمراد: خصوص خلق الإنسان وتكونه من ذكر وأنثى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات:13] لأنه هو المخلوق الأرفع في عالم الماديات وهو الذي يدرك المخاطبون أكثر دقائقه لتكرره على أنفسهم ذكورهم وإناثهم بخلاف تكون نسل الحيوان فإن الإنسان يدرك بعض أحواله ولا يحصي كثيرا منها.
والمعنى: وذلك الخلق العجيب من اختلاف حالي الذكورة والأنوثة مع خروجهما من أصل واحد، وتوقف التناسل على تزاوجهما، فألقسم بتعلق من تعلق صفات الأفعال الإلهية وهي قسم من الصفات لا يختلف في ثبوته وإنما اختلف علماء أصول الدين في عد صفات الأفعال من الصفات فهي موصوفة بالقدم عند الماتريدي، أو جعلها من تعلق صفة القدرة فهي حادثة عند الأشعري، وهو آيل إلى الخلاف اللفظي.
وقد كان القسم في سورة الشمس بتسوية النفس، أي خلق العقل والمعرفة في الإنسان، وأما القسم هنا فبخلق جسد الإنسان واختلاف صنفيه، وجملة {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} جواب القسم. والمقصود من التأكيد بالقسم قوله: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}
(30/335)

[الليل:11]. والسعي حقيقته: المشي القوي الحثيث، وهو مستعار هنا للعمل والكد.
وشتى: جمع شتيت على وزن فعلى مثل قتيل وقتلى، مشتق من الشت وهو التفرق الشديد يقال: شت جمعهم، إذا تفرقوا، وأريد به هنا التنوع والاختلاف في الأحوال كما في قول تأبط شرا:
قليل التشكي للملم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
وهو استعارة أو عن الأعمال المتخالفة لأن التفرق يلزمه الاختلاف.
والخطاب في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ} لجميع الناس من مؤمن وكافر.
واعلم أنه قد روي في الصحيحين عن علقمة قال: دخلت في نفر من أصحاب عبد الله يعني ابن مسعود الشام فسمع بنا أبو الدرداء فأتانا فقال: أيكم يقرأ على قراءة عبد الله? فقلت: أنا. قال: كيف سمعته يقرأ? {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} قال سمعته يقرأ "والليل إذا يغشى والنهار إذ تجلى والذكر والأنثى" قال: أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هكذا. وسماها في "الكشاف" : قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، أي ثبت أنه قرأ بها، وتأويل ذلك: أنه أقرأها أبا الدرداء أيام كان القرآن مرخصا أن يقرأ على بعض اختلاف، ثم نسخ ذلك الترخيص بما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته وهو الذي اتفق عليه قراء القرآن. وكتب في المصحف في زمن أبي بكر رضي الله عنه، وقد بينت في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير معنى قولهم:قراءة النبي صلى الله عليه وسلم.
[5-11] {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} .
{فأما} تفريع وتفصيل للإجمال في قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4] فحرف "أما" يفيد الشرط والتفصيل وهو يتضمن أداة شرط وفعل شرط لأنه بمعنى:مهما يكن من شيء، والتفصيل: التفكيك بين متعدد اشتركت آحاده في حالة وانفرد بعضها عن بعض بحالة هي التي يعتنى بتمييزها. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ} في سورة الفجر [15].
والمحتاج للتفصيل هنا هو السعي المذكور، ولكن جعل التفصيل بيان الساعين
(30/336)

بقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} لأن المهم هو اختلاف أحوال الساعين ويلازمهم السعي فإيقاعهم في التفصيل بحسب مساعيهم يساوي إيقاع المساعي في التفصيل، وهذا تفنن من أفانين الكلام الفصيح يحصل منه معنيان كقول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل.
ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الخ في سورة البقرة [177].
وقوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:19] الآية، أي كإيمان من آمن بالله.
وانحسر تفسير"شتى" في فريقين: فريق ميسر لليسرى وفريق ميسر للعسرى، لأن الحالين هما المهم في مقام الحث على الخير، والتحذير من الشر، ويندرج فيهما مختلف الأعمال كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} في سورة الزلزلة [6-8]. ويجوز أن يجعل تفصيل "شتى" هم من أعطى واتقى وصدق بالحسنى، ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى وذلك عدد يصح أن يكون بيانا لشتى.
و {من} في قوله: {مَنْ أَعْطَى} الخ وقوله: {مَنْ بَخِلَ} الخ يعم كل من يفعل الإعطاء ويتقي ويصدق بالحسنى. وروي أن هذا نزل بسبب أن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف وأعتقه لينجيه من تعذيب أمية بن خلف، ومن المفسرين من يذكر أبا سفيان بن حرب عوض أمية بن خلف، وهو وهم.
وقيل: نزلت في قضية أبي الدحداح مع رجل منافق ستأتي. وهذا الأخير متقض أن السورة مدنية وسبب النزول لا يخص العموم.
وحذف مفعول {أَعْطَى} لأن فعل الإعطاء إذا أريد به إعطاء المال بدون عوض، ينزل منزلة اللازم لاشتهار استعماله في إعطاء المال ولذلك يسمى المال الموهوب عطاء ، والمقصود إعطاء الزكاة.
وكذلك حذف مفعول {اتقى} لأنه يعلم أن المقدر اتقى الله.
وهذه الخلال الثلاث من خلال الإيمان، فأما من كان من المؤمنين كما
(30/337)

في قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43-44]، أي لم نك من أهل الإيمان.
وكذلك فعل {بخل} لم يذكر متعلقة لأنه أريد به البخل بالمال.
و {اسْتَغْنَى} جعل مقابلا ل {اتقى} فالمراد به الاستغناء عن امتثال أمر الله ودعوته لأن المصر على الكفر المعرض عن الدعوة يعد نفسه غنيا عن الله مكتفيا بولاية الأصنام وقومه، فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل سين استجاب بمعنى أجاب. وقد يراد به زيادة طلب الغنى بالبخل بالمال، فتكون السين والتاء للطلب، وهذه الخلال كناية عن كونه من المشركين.
والحسنى: تأنيث الأحسن فهي بالأصالة صفة لموصوف مقدر، وتأنيثها مشعر بأن موصوفها المقدر يعتبر مؤنث الفظ ويحتمل أمورا كثيرة مثل المثوبة أو النصر أو العدة أو العاقبة.
وقد يصير هذا الوصف علما بالغلبة فقيل: الحسنى الجنة، وقيل: كلمة الشهادة، وقيل: الصلاة، وقيل الزكاة. وعلى الوجوه كلها فالتصديق بها الاعتراف بوقوعها ويكنى به عن الرغبة في تحصيلها.
وحاصل الاحتمالات يحوم حول التصديق بوعد الله بما هو حسن من مثوبة أو نصر أو إخلاف ما تلف فيرجع هذا التصديق إلى الإيمان.
ويتضمن أنه يعمل الأعمال التي يحصل بها الفوز بالحسنى.
ولذلك قوبل في الشق الآخر بقوله: {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} .
والتيسير: جعل شيء يسير الحصول، ومفعول فعل التيسير هو الشيء الصعب لأجله وهو الذي ينتفع بسهولة الأمر، كما في قوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26] وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17].
واليسرى في قوله: {لِلْيُسْرَى} هي ما لا مشتقة فيه. وتأنيثها: إما بتأويل الحالة، أي الحالة التي لا تشق عليه في الآخرة، وهي حالة النعيم، أو على تأويلها بالمكانة. وقد فسرت اليسرى بالجنة عن زيد بن أسلم ومجاهد. ويحتمل اللفظ معاني كثيرة تندرج في
(30/338)

معاني النافع الذي لا يشق على صاحبه، أي الملائم.
والعسرى: إما الحالة وهي حالة العسر والشدة، وإما مكانته وهي جهنم، لأنها مكان العسر والشدائد على أهلها قال تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر:9-10] فمعنى "نيسره" ندرجه في عملي السعادة والشقاوة وبه فسر ابن عطية، فالأعمال اليسرى هي الصالحة، وصفت باليسرى باعتبار عاقبتها لصاحبها، وتكون العسرى الأعمال السيئة باعتبار عاقبتها على صاحبها فتأنيثهما باعتبار أن كلتيهما صفة طائفة من الأعمال.
وحرف التنفيس على هذا التفسير يكون مرادا منه الاستمرار من الآن إلى آخر الحياة كقوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} [يوسف: 98].
وحرف "ال" في "اليسرى" وفي "العسرى" لتعريف الجنس أو للعهد على اختلاف المعاني.
وإذا قد جاء ترتيب النظم في هذه الآية على عكس المتبادر غذ جعل ضمير الغيبة في "نيسره لليسرى" العائد إلى {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} وهو الميسر، وجعل ضمير الغيبة في "نيسره للعسرى" العائد إلى {مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} وهو الميسر، أي الذي صار الفعل صعب الحصول حاصلا له، وإذ وقع المجروران باللازم "اليسرى" و"العسرى"، وهما لا ينتفعان بسهولة من أعلى أو من بخل، تعين تأويل نظم الآية بإحدى طريقتين:
الأولى: إبقاء في فعل "نيسر" على حقيقته وجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بطريق القلب بأن يكون أصل الكلام: فسنيسر اليسرى له وسنيسر العسرى له ولا بد من مقتض للقلب، فيصار إلى أن المقتضي إفادة المبالغة في هذا التيسير حتى جعل الميسر ميسرا له والميسر له ميسرا على نحو ما وجهوا به قول العرب: عرضت الناقة على الحوض.
والثانية: أن يكون التيسير مستعملا مجازا مرسلا في التهيئة والإعداد بعلاقة اللزوم بين إعداد الشيء للشيء وتيسره له، وتكون اللام من قوله: {لِلْيُسْرَى} و {لِلْعُسْرَى} لام التعليل، أي نيسره لأجل اليسرى أو جل العسرى، فالمراد باليسرى الجنة وبالعسرى جهنم، على أن يكون الوصفان صارا علما بالغلبة على الجنة وعلى النار، والتهيئة لا تكون لذات الجنة وذات النار فتعين تقدير مضاف بعد اللام يناسب التيسير فيقدر لدخول اليسرى
(30/339)