الكتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى : 1393هـ)
الناشر : مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان
الطبعة : الأولى، 1420هـ/2000م
مصدر الكتاب : موقع مكتبة المدينة الرقمية
http://www.raqamiya.org
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي ]
الذال اسما للمصدر، فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار.
فصار معنى {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أن القرآن سهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير، فجعلت سرعة ترتيب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يسرت له وسائل تحصيلية، وقربت له أباعدها. ففي قوله {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} استعارة مكنية ولفظ {يَسَّرْنَا} تخييل. ويؤول المعنى إلى: يسرنا القرآن للمتذكرين.
وفرع على هذا المعنى قوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا، إلا أن بين الادكارين فرقا دقيقا، فالادكار السالف ادكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة، والادكار هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به.
[18 -20] {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [18] نَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [19] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} .
موقع هذه الجملة كموقع جملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر:9] فكان مقتضى الظاهر أن تعطف عليها، وإنما فصلت عنها ليكون في الكلام تكرير التوبيخ والتهديد والنعي عليهم عقب قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَر حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:4،5]. ومقام التوبيخ والنعي يقتضي التكرير.
والحكم على عاد بالتكذيب عموم عرفي بناء على أن معظمهم كذبوه وما آمن به إلا نفر قليل قال تعالى {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 58].
وفرع على التذكير بتكذيب عاد قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} قبل أن يذكر في الكلام ما يشعر بأن الله عذبهم فضلا عن وصف عذابهم.
فالاستفهام مستعمل في التشويق للخبر الوارد بعده وهو مجاز مرسل لأن الاستفهام يستلزم طلب الجواب والجواب يتوقف على صفة العذاب وهي لما تذكر فيحصل الشوق إلى معرفتها وهو أيضا مكنى به عن تهويل ذلك العذاب.
وفي هذا الاستفهام إجمال لحال العذاب وهو إجمال يزيد التشويق إلى ما يبينه بعده
(27/183)
من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الآية، ونظيره قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ثم قوله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] الآية.
وعطف {وَنُذُرِ} على {عَذَابِي} بتقدير مضاف دل عليه المقام، والتقدير: وعاقبة نذري، أي إنذاراتي لهم، أي كيف كان تحقيق الوعيد الذي أنذرهم.
ونذر: جمع نذير بالمعنى المصدري كما تقدم في أوائل السورة وقد علمت بما ذكرنا أن جملة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} هذه ليست تكرير لنظيرها السابق في خبر قوم نوح، ولا اللاحق في آخر قصة عاد للاختلاف الذي علمته بين مفادها ومفاد مماثلها وأن اتحدت ألفاظهما.
والبليغ يتفطن للتغاير بينهما فيصرفه عن توهم أن تكون هذه تكريرا فإنه لما لم يسبق وصف عذاب عاد لم يستقم أن يكون قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تعجيبا من حالة عذابهم.
وقوله: {وَنُذُرِ} موعظة من تحقق وعيد الله إياهم، وقد أشار الفخر إلى هذا وقفينا عليه ببسط وتوجيه. وأصل السؤال عن تكرير هذه الجملة أثناء قصة عاد هنا أورده في كتاب درة التنزيل وغرة التأويل المنسوب إلى الفخر وإلى الراغب إلا أن كلام الفخر بالتفسير أجدر بالتعويل مما في درة التنزيل.
وجملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الخ بيان للإجمال الذي في قوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . وهو في صورة جواب الاستفهام الصوري. وكلتا الجملتين يفيد تعريضا بتهديد المشركين بعذاب على تكذيبهم.
وجملة البيان إنما اتصف حال العذاب دون حال الإنذار، أو حال رسولهم وهو اكتفاء لأن التكذيب يتضمن مجيء نذير إليهم وفي مفعول {كُذِّبَتْ} المحذوف إشعار برسولهم الذي كذبوه وبعث الرسول وتكذيبهم إياه بتضمن الإنذار لأنهم لما كذبوه حق عليهم إنذارهم.
وتعدية إرسال الريح إلى ضميرهم هي كإسناد التكذيب إليهم بناء على الغالب وقد أنجى الله هودا والذين معه كما علمت آنفا أو هو عائد إلى المكذبين بقرينة قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ} .
والصرصر: الشديدة القوية يكون لها صوت، وتقدم في سورة فصلت.
(27/184)
وأريد ب {يَوْمِ نَحْسٍ} أول أيام الريح التي أرسلت على عاد إذ كانت سبعة أيام إلا يوما كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] في سورة فصلت وقوله {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} في سورة الحاقة [7].
والنحس: سوء الحال.
وإضافة {يَوْمِ} إلى {نَحْسٍ} من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه كقولهم يوم تحلاق اللمم، ويوم فتح مكة. وإنما يضاف اليوم إلى النحس باعتبار المنحوس، فهو يوم نحس للمعذبين ويوم نصر للمؤمنين ومصائب قوم عند قوم فوائد.. وليس في الأيام يوم يوصف بنحس أو بسعد لأن كل يوم تحدث فيه نحوس لقوم وسعود لآخرين، وما يروى من أخبار في تعيين بعض أيام السنة للنحس هو من أغلاط القصاصين فلا يلقي المسلم الحق إليها سمعه.
واشتهر بين كثير من المسلمين التشاؤم يوم الأربعاء. وأصل ذلك أنجز لهم من عقائد مجوس الفرس، ويسمون الأربعاء التي في آخر الشهر الأربعاء التي لا تدور ، أي لا تعود، أرادوا بهذا الوصف ضبط معنى كونها آخر الشهر لئلا يظن أنه جميع النصف الأخير منه وإلا فأية مناسبة بين عدم الدوران وبين الشؤم، وما من يوم من الأيام إلا وهو يقع في الأسبوع الأخير من الشهر ولا يدور في ذلك الشهر.
ومن شعر بعض المولدين من الخراسانيين:
لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور
وانظر ما تقدم في سورة فصلت.
و {مُسْتَمِرٌّ} : صفة {نَحْسٍ} ، أي نحس دائم عليهم فعلم من الاستمرار أنه أبادهم إذ لو نجوا لما كان النحس مستمرا. وليس {مُسْتَمِرٌّ} صفة ل {يَوْمِ} إذ لا معنى لوصفه بالاستمرار.
والكلام في اشتقاق مستمر تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2].
ويجوز أن يكون مشتقا من مر الشيء قاصرا، إذا كان مرا، والمرارة مستعارة للكراهية والنفرة فهو وصف كاشف لأن النحس مكروه.
(27/185)
والنزع: الإزالة بعنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلا به، ومنه نزع الثياب.
والأعجاز: جمع عجز: وهو أسفل الشيء، وشاع إطلاق العجز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض.
وأطلق الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض.
وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحات ورقها فلا يبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازا.
و {مُنْقَعِرٍ} : اسم فاعل انقعر مطاوع قعره، أي بلغ قعره بالحفر يقال: قعر البئر إذا انتهى إلى عمقها، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعود النخل إذا طال مكثه مطروحا.
ومنقعر: وصف النخل روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافا لما في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقوله: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [الرحمن: 11].
قال القرطبي: قال أبو بكر ابن الأنباري سأل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي1 عن ألف مسألة من جملتها، قيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَة} [الأنبياء:81] و {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس:12] وقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ؟ فقال كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شأت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا اه.
وجملة {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} في موضع الحال من {الناس} ووجه الوصف ب {مُنْقَعِرٍ} الإشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعا تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم
ـــــــ
1 إسماعيل بن حماد البصري فقيه المالكية بالعراق، وقاضي الجماعة ببغداد، توفي سنة 282هـ له أحكام القرآن.
(27/186)
وأفئدتهم فصاروا جثثا فرغى. وهذا تفضيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم.
[21] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} .
تكرير لنظيره السابق عقب قصة قوم نوح لأن مقام التهويل والتهديد يقتضي تكرير ما يفيدهما. و {كيف} هنا استفهام على حالة العذاب، وهي الحالة الموصوفة في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} إلى {مُنْقَعِرٍ} [القمر:19،20]، والاستفهام مستعمل في التعجيب.
[22] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير لنظيره السابق في خبر قوم نوح.
[23 -25] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [23] فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [24] أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25].
القول في موقع جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} كالقول في موقع جملة {كَذَّبَتْ عَادٌ} [القمر: 18]. وكذلك القول في إسناد حكم التكذيب إلى ثمود وهو اسم القبيلة معتبر في الغالب الكثير. فإن صالحا قد آمن به نفر قليل كما حكاه الله عنهم في سورة الأعراف.
وثمود: ممنوع من الصرف باعتبار العلمية والتأنيث المعنوي، أي على تأويل الاسم بالقبيلة.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر، أي كذبوا بالإنذارات التي أنذرهم الله بها على لسان رسوله. وليس النذر هنا بصالح لحمله على جمع النذير بمعنى المنذر لأن فعل التكذيب إذا تعدى إلى الشخص المنسوب إلى الكذب تعدى إلى اسمه بدون حرف قال تعالى: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} [سبأ: 45] وقال: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وقال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} [الحج: 42]، وإذا تعدى إلى الكلام المكذب تعدى إليه بالباء قال: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] وقال: {وَكَذَّبَ بِه قَوْمُكَ} [الأنعام:66] وقال {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:40] وقال: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [آل عمران: 11]. وهذا بخلاف قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141].
والمعنى: أنهم كذبوا إنذارات رسولهم، أي جحدوها ثم كذبوا رسولهم، فلذلك
(27/187)
فرع على جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} قوله: {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} إلى قوله: {بلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} ولو كان المراد بالنذر جمع النذير وأطلق على نذيرهم لكان وجه النظم أن تقع جملة {فَقَالُوا أَبَشَراً} إلى آخرها غير معطوفة بالفاء لأنها تكون حينئذ بيانا لجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} .
والمعنى: أن صالحا جاءهم بالإنذارات فجحدوا بها وكانت شبهتهم في التكذيب ما أعرب عنه قولهم {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} إلى آخره، فهذا القول يقتضي كونه جوابا عن دعوة وإنذار، وإنما فصل تكذيب ثمود وأجمل تكذيب عاد لقصد بيان المشابهة بين تكذيبهم ثمود وتكذيب قريش إذ تشابهت أقوالهم.
والقول في انتظام الجملة {فَقَالُوا أَبَشَراً} الخ بعد جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} كالقول في جملة {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] بعد جملة {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ} . [القمر:9].
به صالحا وهذا قول قالوه لرسولهم لما أنذرهم بالنذر لأن قوله {كُذِّبَتْ} يومئذ بمخبر إذ التكذيب يقتضي وجود مخبر. وهو كلام شافهوا وهو الذي عنوه بقولهم {أَبَشَراً مِنَّا} الخ. وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة.
وانتصب {أَبَشَراً} على المفعولية ل {نَتَّبِعُهُ} على طريقة الاشتغال، وقد لاتصاله بهمزة الاستفهام لأن حقها التصدير واتصلت به دون أن تدخل على نتبع، لأن محل الاستفهام الإنكاري هو كون البشر متبوعا لا اتباعه له ومثله {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وهذا من دقائق مواقع أدوات الاستفهام كما بين في علم المعاني.
والاستفهام هنا الإنكاري، أنكروا أن يرسل الله إلى الناس بشرا مثلهم، أي لو شاء الله لأرسل ملائكة.
ووصف {بَشَراً} ب {وَاحِدَةً} : إما بمعنى أنه منفرد في دعوته لا أتباع له ولا نصراء، أي ليس ممن يخشى، أي بعكس قول أهل مدين {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
وأما بمعنى أنه أن من جملة آحاد الناس، أي ليس من أفضلنا.
وإما بمعنى أنه منفرد في ادعاء الرسالة لا سلف له فيها كقول أبي محجن الثقفي:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... سكن المدينة من مزارع فوم
يريد لا يناظرني في ذلك أحد.
وجملة {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} تعليل لإنكار أن يتبعوا بشرا منهم تقديره: أنتبعك
(27/188)
وأنت بشر واحد منا.
و"إذن" حرف جواب هي رابطة الجملة بالتي قبلها. والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق، أرادوا: إنا إذن مخطئون في أمرنا.
وَ {السُعُرٍ} : الجنون، يقال بضم العين وسكونها.
وفسر أبن عباس السعر بالعذاب على أنه جمع سعير. وجملة {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} تعليل للاستفهام الإنكاري.
و {أُلْقِيَ} حقيقته: رمي من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإنزال الذكر من السماء قال تعالى {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
و"في" للظرفية المجازية، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف.
و {مِنْ بَيْنِنَا} حال من ضمير {عَلَيْهِ} ، أي كيف يلقي عليه الذكر دونا، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحي إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمر بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق.
وحرف {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولا من بيننا كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
و {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} إضراب عن ما أنكروه بقولهم {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب فيما ادعاه، بطر متكبر.
و {الْأَشِرُ} بكسر الشين وتخفيف الراء: أسم فاعل أشر، إذ فرح وبطر، والمعنى: هو معجب بنفسه مدع ما ليس فيه.
[26] {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} .
مقول قول محذوف دل عليه السياق تقديره: قلنا لنذيرهم الذي دل عليه قوله {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] فإن النذر تقتضي نذيرا بها وهو المناسب لقوله بعده {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:27] وذلك مبني على أن قوله آنفا {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر: 25] كلام أجابوا به نذارة صالح إياهم المقدرة من قوله تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ
(27/189)
بِالنُّذُرِ} [القمر:23]، وبذلك أنتظم الكلام أتم انتظام.
وقرأ الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بياء الغيبة. وقرأ ابن عامر وحمزة {سَيَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب وهي تحتمل أن يكون هذا حكاية كلام من الله لصالح على تقدير: قلنا له: قل لهم، ففيه حذف قول. ويحتمل أن يكون خطابا من الله لهم بتقدير: قلنا لهم ستعلمون. ويحتمل أن يكون خطابا للمشركين على جعل الجملة معترضة.
والمراد من قوله {غَداً} الزمن المستقبل القريب كقولهم في المثل: إن مع اليوم غدا، أي إن مع الزمن الحاضر زمنا مستقبلا. يقال في تسلية النفس من ظلم ظالم ونحوه، وقال الطرماح:
وقبل غد يا ويح قلبي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
يريد يوم موته. والمراد به في الآية يوم نزول عذابهم المستقرب.
وتبيينه في قوله :{إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} [القمر: 27] الخ، أي حين يرون المعجزة وتلوح لهم بوارق العذاب يعلمون أنهم الكذابون الأشرون لا صالح. وعلى الوجه الثاني في ضمير {سَيَعْلَمُونَ} يكون الغد مرادا به: يوم انتصار المسلمين في بدر ويوم فت مكة، أي سيعلمون من الكذاب المماثل للكذاب في قصة ثمود.
[27،29] {إنا مرسلوا ِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [27] وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [28] فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} .
هذه الجملة بيان لجملة {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر:26] باعتبار ما تضمنه الجملة المبينة بفتح الياء من الوعيد وتقريب زمانه وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه.
وضمير {لَهُمْ} جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بياء الغائبة، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة {سَيَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب فضمير {لَهُمْ} التفات.
وإرسال الناقة إشارة إلى قصة معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تلك المعجزة مقدمة الأسباب التي عجل لهم العذاب لأجلها، فذكر هذه القصة في جملة
(27/190)
البيان توطئة وتمهيد.
والإرسال مستعار لجعلها آيه لصالح. وقد عرف خلق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإرسال في القرآن كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله. وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزة وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح {فأت بآية إ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} [الشعراء:154،155] الخ.
و {فِتْنَةً لَهُمْ} حال مقدر، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم، وتقدير معنى الكلام: إنا مرسلوا الناقة آية لك وفتنة لهم.
وضمير {لَهُمْ} عائد إلى المكذبين منهم بقرينه إسناد التكذيب كما تقدم. واسم الفاعل من قوله {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينه قوله {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} ، مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينة قوله: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} فعدل على أن يقال: سنرسل، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقية في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال.
والارتقاب: الانتظار، ارتقب مثل: رقب، وهو أبلغ دلالة من رقب، لزيادة المبني فيه.
وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالا تحصل لهم. وهذه طريقة إسناد أو تعليق المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصارا في الكلام اعتمادا على ظهور المعنى. وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات إلى الذوات في قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المائدة:3]. والمعنى: فأرتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة.
والاصطبار: الصبر القوي، وهو كالارتقاب أيضا أقوى دلالة من الصبر، أي أصبر صبرا لا يعتريه ملل ولا ضجر، أي أصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم، وحذف متعلق {أصطبر} ليعم كل حال تستدعي الضجر. والتقدير: وأصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من أنتظار النصر.
وجملة {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} معطوفة على جملة {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} باعتبار إن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلاما محذوفا، تقديره: فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم إن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
(27/191)
اضْرِ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَق} [الشعراء:63] وإن كان حرف العطف مختلفا، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن.
والتعريف في {الْمَاءُ} للعهد، أي ماء القرية الذي يستقون منه، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماءا لسقياهم وقال تعالى {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:23].
وأخبر عن الماء بأنه {قِسْمَةٌ} . والمراد مقسوم فهو من الإخبار للمصدر للتأكيد والمبالغة.
وضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى المعلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي من أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم، ولما ذكرت الناقة علم أنها لا تستغني عن الشرب فغلب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة وإن لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء. وقد جاء في آية سورة الشعراء [155] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وهذا مبدأ الفتنة، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحوا بذلك وأضمروا حلدها عن الماء فأبلغهم صالح أن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء.
والمحتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة. والمعنى: محتضر عنده فحذف المتعلق لحضوره. وهذا من جملة ما أمر رسولهم بأن ينبئهم به، أي لا يحضر القوم في يوم شرب الناقة، وهي بإلهام الله لا تحضر في أيام شرب القوم. والشرب بكسر الشين: نوبة الاستقاء من الماء. فنادوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو قدار بضم القاف وتخفيف الدال بن سالف. ويعرف عند العرب بأحمر، قال زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد أحمر ثمود لأن ثمودا إخوة عاد ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه . وفي الحديث "بعثت إلى الأحمر والأسود" ، وكان قدار من سادتهم وأهل العزة منهم، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي زمعة يعني الأسود بن المطلب بن أسد في قوله فانتداب لها رجل ذو منعة في قومه كأبي زمعة أي فأجاب نداءهم فرماها بنبل فقتلها.
وعبر بصاحبهم للإشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون.
وداؤهم إياه نداء الإغراء بالناقة وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإقدام وقلة المبالاة بعزته.
و {تَعَاطَى} مطاوع عاطاه وهو مشتق من: عطا يعطو، إذا تناول. وصيغة تفاعل
(27/192)
تقتضي تعداد الفاعل، شبه تخوف القوم من تلتها لما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وترددهم في الإقدام على قتلها بالمعاطاة فكل واحد حين يحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قدار.
وعطف {فَعَقَرَ} بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله.
والعقل: أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثيا فيتمكن الناحر من نحره، قال أبو طالب:
ضروب بنصل السيف سوق سمائها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر
وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عقرها بل قتلها بنبله.
[30] {كَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} .
القول فيه كالقول في نظيره الواقع في قصة قوم نوح فليس هو تكريرا ولكنه خاص بهذه القصة.
[31 ]{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} .
جواب قوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرَِ} [القمر:30] فهو مثل موقع قوله :{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] في قصة عاد كما تقدم.
والصيحة: الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة، وفي سورة الأعراف بالرجفة، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم، ولذلك وصفت ب {واحِدَةً} للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحجر.
و {كَانُوا} بمعنى: صاروا، وتجيء "كَانَ" بمعنى "صار" حين يراد بها كون متحدد لم يكن من قبل.
والهشيم : ما يبس وجف من الكلأ ومن الشجر، وهو مشتق من الهشم وهو الكسر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار. والمراد هنا شي خاص منه وهو ما جف من أغصان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المحتضر. وهو بكسر الظاء المعجمة: الذي يعمل الحظيرة ويبنيها، وذلك أضيف الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجا
(27/193)
لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يسيج ولذلك قال {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ولم يقل: كهشيم الحظيرة، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة.
والمحتظر: مفتعل من الحظيرة، أي متكلف عمل الحظيرة.
والقول في تعدية {أَرْسَلْنَا} إلى ضمير {ثَمُود} كالقول في {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} . [القمر:19].
[32 ]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير ثان بعد نظيرته السافلين في قصة قوم نوح وقصة عاد تذييلا لهذه القصة كما ذيلت بنظيريه القصتان السالفتان اقتضى التكرير مقام الامتنان والحث على التدبر بالقرآن لأن التدبر فيه يأتي بتجنب الضلال ويرشد إلى مسالك الاهتداء. فهذا أهم من تكرير {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:30] فلذلك أوثر.
[33،35] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [33] أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [34] نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} .
القول في مفرداته كالقول في نظائره، وقصة قوم لوط تقدمت في سورة الأعراف وغيرها.
وعرف قوم لوط بالإضافة إليه إذ لم يكن لتلك الأمة اسم يعرفون به عند العرب.
ولم يحك هنا ما تلقى به قوم لوط كما حكي في القصص الثلاث قبل هذه، وقد حكي ذلك في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الحجر لأن سورة القمر بنيت على تهديد المشركين عن إعراضهم عن الاتعاظ بآيات الله التي شاهدوها وآثار آياته على الأمم الماضية التي علموا أخبارها وشهدوا آثارها، فلم يكن ثمة مقتض لتفصيل أقوال تلك الأمم إلا ما كان منها مشابها لأقوال المشركين في تفضيله ولم تكن أقوال قوم لوط بتلك المثابة، فلذلك أقتصر فيها على حكاية ما هو مشترك بينهم وبين المشركين وهو تكذيب رسولهم وإعراضهم عن نذره. والنذر تقدم.
وجملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عن قوم لوط بأنهم كذبوا بالنذر.
(27/194)
وكذلك جملة {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} . وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} .
والحاصب: الريح التي تحصب، أي ترمي بالحصباء ترفعها من الأرض لقوتها، وتقدم في قوله تعالى {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} في سورة العنكبوت.[40].
والاستثناء حقيقي لأن آل لوط من جملة قومه.
وآل لوط: قرابته وهم بناته، ولوط داخل بدلالة الفحوى. وقد ذكر في آيات أخرى أن زوجة لوط لم ينجها الله ولم يذكر ذلك هنا اكتفاء بمواقع ذكره وتنبيها على أن من لا يؤمن بالرسول لا يعد من آله، كما قال {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
وذكر {بِسِحْرٍ} ، أي في وقت السحر للإشارة إلى إنجائهم قبيل حلول العذاب بقومهم لقوله بعده {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} .
وانتصب {نِعْمَةَ} على الحال من ضمير المتكلم، أي إنعاما منا.
وجملة {ذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} معترضة، وهي استئناف بياني عن جملة {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} باعتبار ما معها من الحال، أي إنعاما لأجل أنه شكر، ففيه إيماء بأن إهلاك غيرهم لأنهم كفروا، وهذا تعريض بإنذار المشركين وبشارة للمؤمنين.
وفي قوله {مِنْ عِنْدِنَا} تنويه بشأن هذه النعمة لأن ظرف {عنْدَ} يدل على الادخار والاستئثار مثل {لَدُنْ} في قوله {منْ لَدُنَّا} . فذلك أبلغ من أن يقال: نعمة منا أو أنعمنا.
[36 ]{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} .
عطف على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} . [القمر:34].
وتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق يقصد منه تأكيد الغرض الذي سيقت القصة جله وهو موعظة قريش الذين أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماروا بالنذر.
والبطشة: المرة من البطش، وهو أخذ بعنف لعقاب ونحوه، وتقدم في قوله :{أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في آخر الأعراف[195] وهي هنا تمثيل للإهلاك السريع مثل قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} في سورة الدخان.[16].
والتماري: تفاعل من المراء وهو الشك. وصيغة المفاعلة للمبالغة. وضمن
(27/195)
{َتَمَارَى} معنى: كذبوا فعدي بالباء، وتقدم عند قوله تعالى {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} في سورة النجم.[55].
[37 ] { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} .
إجمال لما ذكر في غير هذه السورة في قصة قوم لوط أنه نزل به ضيف فرام قومه الفاحشة بهم وعجز لوط عن دفع قومه إذ اقتحموا بيته وأن الله أعمى أعينهم فلم يروا كيف يدخلون.
والمراودة: محاولة رضى الكاره شيئا بقبول ما كرهه، وهي مفاعلة من راد يرود رودا، إذا ذهب ورجع في أمر، مثلت هيئة من يكرر المراجعة والمحاولة بهيئة المنصرف ثم الراجع. وضمن {رَاوَدُوهُ} معنى دفعوه وصرفوه فعدي ب {عَنْ} .
وأسند المراودة إلى ضمير قوم لوط وإن كان المراودون نفرا منهم لأن ما راودوا عليه هو راد جميع القوم بقطع النظر عن تعيين من يفعله.
ويتعلق قوله {عن ضيفه} بفعل {رَاوَدُوهُ} بفلعل بتقدير مضاف، أي عن تمكينهم من ضيوفه.
وقوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} مقول قول محذوف دل عليه سياق الكلام للنفر الذين طمسنا أعينهم {ذُوقُوا عَذَابِي} وهو العمى، أي ألقى الله في نفوسهم أن ذلك عقاب لهم.
واستعمل الذوق في الإحساس بالعذاب مجازا مرسلا بعلاقة التقييد في الإحساس.
وعطف النذر على العذاب باعتبار أن العذاب تصديق للنذر، أي ذوقوا مصداق نذري، وتعدية فعل {ذوقوا} إلى {نذْرٍ} بتقدير مضاف، أي وآثار نذري.
والقول في تأكيده بلام القسم تقدم، وحذفت ياء المتكلم من قوله {وَنَذَرَ} تخفيفا.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [38] القول في تأكيده بلام القسم تقدم آنفا في نظيره.
والبكرة: أول النهار وهو وقت الصبح، وقد جاء في الآية الأخرى قوله {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، فذكر {كْرَةً} للدلالة على تعجيل العذاب لهم.
(27/196)
والتصبيح: الكون في زمن الصباح وهو أول النهار.
والمستقر: الثابت الدائم الذي يجري على قوة واحدة لا يقلع حتى استأصلهم.
والعذاب: هو الخسف ومطر الحجارة وهو مذكور في سورة الأعراف وسورة هود.
[39 ] {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} .
تفريع قول محذوف خوطبوا به مراد به التوبيخ؛ إما بأن ألقي في روعهم عند حلول العذاب، بأن ألقى الله في أسماعهم صوتا.
والخطاب لجميع الذين أصابهم العذاب المستقر، وبذلك لم تكن هذه الجملة تكريرا. وحذفت ياء المتكلم من قوله {ونَذْرٍ} تخفيفا.
والقول في استعمال الذوق هنا كالذوق في سابقه.
وفائدة الإعلام بما قيل لهم من قوله: {وفذقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} في الموضعين أن يتجدد عند استماع كل نبإ من ذلك إدكار لهم واتعاظ وإيقاظ استيفاء لحق التذكير القرآني.
[40] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير ثالث تنويها بشأن القرآن للخصوصية التي تقدمت في المواضع التي كرر فيها نظيره وما يقاربه وخاصة في نظيره الموالي هو له. ولم يذكر هنا {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:30] اكتفاء بحكاية التنكيل لقوم لوط في التعريض بتهديد المشركين.
[41،42] .
لما كانت عدوة موسى عليه السلام غير موجهة إلى أمة القبط، وغير مراد منها التشريع لهم. ولكنها موجهة إلى فرعون وأهل دولته الذين بأيديهم تسير أمور المملكة الفرعونية، ليسمحوا بإطلاق بني إسرائيل من الاستعباد، ويمكنوهم من الخروج مع موسى خص بالنذر هنا آل فرعون، أي فرعون وآله لأنه يصدر عن رأيهم، ألا ترى أن فرعون لم يستأثر برد دعوة موسى بل قال لمن حوله :{أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] وقال {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:35] وقالوا: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء:36] الآية، ولذلك لم يكن أسلوب الإخبار عن فرعون ومن معه مماثلا لأسلوب الإخبار عن قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط
(27/197)
إذ صدر الإخبار عن أولئك بجملة {كذِّبَتْ} وخولف في الإخبار عن فرعون فصدر بجملة {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} وإن كان مآل هذه الأخبار الخمسة متماثلا.
والآل: القرابة، ويطلق مجازا على من له شدة اتصال بالشخص كما في قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وكان الملوك الأقدمون ينوطون وزارتهم ومشاورتهم بقرابتهم لأنهم يأمنون كيدهم.
والنذر: جمع نذير: اسم مصدر بمعنى الإنذار. ووجه جمعه أن موسى كرر إنذارهم.
والقول في تأكيد الخبر بالقسم كالقول في نظائره المتقدمة.
وإسناد التكذيب إليهم بناء على ظاهر حالهم وإلا فقد آمن منهم رجل واحد كما في سورة غافر.
وجملة {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} بدل اشتمال من جملة {جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} لأن مجيء النذر إليهم ملابس للآيات، وظهور الآيات مقارن لتكذيبهم بها فمجيء النذر مشتمل على التكذيب لأنه مقارن مقارنه.
وقوله {بِآيَاتِنَا} إشارة إلى آيات موسى المذكورة في قوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} وهي تسع آيات منها الخمس المذكورة في آية الأعراف والأربع الأخر، هي: انقلاب العصا حية، وظهور يده بيضاء، وسنو القحط، وانفلاق البحر بمرأى من فرعون وآله، ولم ينجع ذلك في تصميمهم على اللحاق ببني إسرائيل.
وتأكيد {يَاتِنَا} ب {كُلَّهَا} إشارة إلى كثرتها وأنهم لم يؤمنوا بشيء منها. وتكذيبهم بآية انفلاق البحر تكذيب فعلي لأن موسى لم يتحدهم بتلك الآية وقوم فرعون لما رأوا تلك الآية عدوها سحرا وتوهموا البحر أرضا فلم يهتدوا بتلك الآية.
والأخذ: مستعار للانتقام، وقد تقدم عند قوله تعالى {أوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة النحل. [47،46].
وهذا الأخذ: هو إغراق فرعون ورجال دولته وجنده الذين خرجوا لنصرته كما تقدم في الأعراف.
وانتصب {أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} على المفعولية المطلقة مبينا لنوع الأخذ بأفضع ما هو
(27/198)
معروف للمخاطبين من أخذ الملوك والجبابرة.
والعزيز: الذي لا يغلب. والمقتدر: الذي لا يعجز.
وأريد بذلك أنه أخذ لم يبق على العدو أي إبقاء بحيث قطع دابر فرعون وآله.
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} .
هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فصلت ولم تعطف.
وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجها للرسول صلى الله عليه وسلم إلى توجيهه للمشركين لينتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإنذار والإبلاغ.
والاستفهام في قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} يجوز أن يكون على حقيقته، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي سوق المعلوم مساق غيره وسماه أهل الأدب من قبله ب تجاهل العارف. وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
الشاهد في قولها: كأنك لم تجزع الخ.
والتوبيخ على تخطئتهم في عدم العذاب الذي حل بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفارهم خيرا من الكفار الماضين المتحدث عن قصصهم، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لحق الكفار الماضين. والمعنى: أنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثلما أصابهم.
و {أَمْ} للإضراب الانتقالي. وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإنكار. والتقدير: بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب.
وضمير {كُفَّارُكُمْ} لأهل مكة وهم أنفسهم الكفار، فإضافة لفظ كفار إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير {مِنْ} .
(27/199)
البيانية. والمعنى: الكفار منكم خير من الكفار السالفين. أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار.
والمراد بالأخيرية انتفاء الكفر، أي خير عند الله الانتقام الإلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك.
والبراءة: الخلاص والسلامة مما يضر أو يشق أو يكلف كلفة. والمراد هنا: الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة.
{وَالزُّبُرِ} : جمع زبور، وهو الكتاب، وزبور بمعنى مزبور، أي براءة كتبت في كتب الله السالفة.
والمعنى: ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السابقة.
و {فِي لزُّبُرِ} صفة {بَرَاءَةٌ} ، أي كائنة في الزبر، أي مكتوبة في صحائف الكتب.
وأفاد هذا الكتاب ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين: إما الاتصاف بالخير الإلهي المشار إليه بقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
والمعنى انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مأمن لهم من حلول العذاب بهم كما حل بأمثالهم.
والآية تؤذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] كما تقدم، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16].
[44، 45] {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [44] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
{أَمْ} منقطعة لإضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} مستعمل في التوبيخ، فإن كانوا قد صرحوا بذلك فظاهر، وإن كانوا لم يصرحوا به فهو إنباء بأنهم سيقولونه.
(27/200)
وعن ابن عباس: أنهم قالوا ذلك يوم بدر. ومعناه: أن هذا نزل قبل يوم بدر لأن قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} إنذار بهزيمتهم، يوم بدر هو مستقبل بالنسبة لوقت نزول الآية لوجود علامة الاستقبال.
وغير أسلوب الكلام من الخطاب الموجه إلى المشركين بقوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ} [القمر: 43] الخ إلى أسلوب الغيبة رجوعا إلى الأسلوب الجاري من أول السورة في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} [القمر: 2] بعد أن قضي حق الإنذار بتوجيه الخطاب إلى المشركين في قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43].
والكلام بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بالنذارة للمشركين مبني على أنهم تحدثهم نفوسهم بذلك وأنهم لا يحسبون حالهم وحال الأمم التي سيقت إليهم قصصها متساوية، أي نحن منتصرون على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ليس رسول الله فلا يؤيده الله.
و {جَمِيعٌ} اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، وليس هو بمعنى الإحاطة، ونظيره ما وقع في خير عمر وعلي وعباس رضي الله عنهم في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك. قال لهما ثم جئتماني وأمركما جميع وكلمتكما واحدة، وقول لبيد:
عريت وكان بها الجميع فأكبروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
والمعنى: بل أيدعون أنهم يغالبون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأنهم غالبون لأنهم جميع لا يغلبون.
ومنتصر: وصف {جَمِيعٌ} جاء بالإفراد مراعاة للفظ {جَمِيعٌ} وإن كان معناه متعددا.
وتغيير أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة مشعر بأن هذا هو ظنهم واغترارهم، وقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه. فإذا صح ذلك كانت الآية من الإعجاز المتعلق بالإخبار بالغيب.
ولعل الله تعالى ألقى في نفوس المشركين هذا الغرور بأنفسهم وهذا الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ليشغلهم عن مقاومته باليد ويقصرهم على تطاولهم عليه بالألسنة حتى تكثر أتباعه وحتى يتمكن من الهجرة والانتصار بأنصار الله.
فقوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جواب عن قولهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فلذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها. وهذا بشارة لرسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وهو يعلم أن الله
(27/201)
منجز وعده ولا يزيد ذلك الكافرين إلا غرورا فلا يعيروه جانب اهتمامهم وأخذ العدة لمقاومته كما قال تعالى في نحو ذلك {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [لأنفال: 44].
والتعريف في {الْجَمْعِ} أي الجمع المعهود من قوله {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} والمعنى: سيهزم جمعهم. وهذا معنى قول النحاة: اللام عوض عن المضاف إليه.
والهزم: الغلب، والسين لتقريب المستقبل، كقوله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12]. وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون.
و {يُوَلُّونَ} : يجعلون غيرهم يلي، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولونكم الأدبار.
و {الدبر} : الظهر، وهو ما أدبر، أي كان وراء، وعكسه القبل.
والآية إخبار بالغيب، فإن المشركين هزموا يوم بدر، وولوا الأدبار يومئذ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففر بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا.
وأفرد الدبر، والمراد الجمع لأنه جنس يصدق بالمتعدد، أي يولي كل أحد منهم دبره، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تول واحدة، وهذا الهزم وقع يوم بدر.
روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جعلت أقول: أي جمع يهزم? فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} اه، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيهزم ويولي الدبر فإنه لم يكن يومئذ قتال ولا كان يخطر لهم ببال.
[46] {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .
{بَلِ} للإضراب الانتقالي، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم إلى الوعيد بعذاب الآخرة. قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
(27/202)
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وقال في الآية الأخرى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] وفي الآية الأخرى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16].
والساعة: علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء.
والموعد: يوم الوعد، وهو هنا وعد سوء، أي وعيد. والإضافة على معنى اللام أي موعد لهم. وهذا إجمال بالوعيد، ثم عطف عليه ما يفصله وهو {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } . ووجه العطف أنه أريد جعله خبرا مستقلا.
و {أَدْهَى} : اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
وأمر: أي أشد مرارة. واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف.
وأعيد اسم {وَالسَّاعَةُ} في قوله {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ُ} دون أن يؤتى بضميرها لقصد التهويل، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير المثل.
[47، 48] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [47] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
هذا الكلام بيان لقوله {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]. واقتران الكلام بحرف {إِن} لفائدتين: إحداهما الاهتمام بصريحه الإخباري، وثانيهما تأكيد ما تضمنه من التعريض بالمشركين، لأن الكلام وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يشك في ذلك فإن المشركين يبلغهم ويشيع بينهم وهم لا يؤمنون بعذاب الآخرة فكانوا جديرين بتأكيد الخبر في جانب التعريض فتكون {إِن} مستعملة في غرضيها من التوكيد والاهتمام.
والتعبير عنهم ب {الْمُجْرِمِينَ} إظهار في مقام الإظمار لإلصاق وصف الإجرام بهم.
والضلال: يطلق على ضد الهدى ويطلق على الخسران، وأكثر المفسرين على أن المراد به هنا المعنى الثاني. فعن ابن عباس: المراد الخسران في الآخرة، لأن الظاهر أن {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ} طرف للكون في ضلال وسعر على نحو قوله تعالى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6، 8] وقوله {وَيَوْمَ
(27/203)
الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] فلا يناسب أن يكون الضلال ضد الهدى.
ويجوز أن يكون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} ظرفا للكون الذي في خبر {إِن} ، أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار، فالمعنى: أنهم في ضلال وسعر يوم القيامة وَ {سُعُرٍ} جمع سعير، وهو النار، وجمع السعير لأنه قوي شديد.
والسحب: الجر، وهو في النار أشد من ملازمة المكان لأن به يتجدد مماسة نار أخرى فهو أشد تعذيبا.
وجعل السحب على الوجوه إهانة لهم.
و {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} مقول قول محذوف، والجملة مستأنفة. والذوق مستعار للإحساس.
وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة والمجازاة.
والمس مستعمل في الإصابة على طريقة المجال المرسل.
و سقر: علم على جهنم، وهو مشتق من السقر بسكون القاف وهو التهاب في النار، ف {سَقَرَ} وضع علما لجهنم، ولذلك فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، لأن جهنم اسم مؤنث معنى اعتبروا فيه أن مسماه نار والنار مؤنثة.
والآية تتحمل معنى آخر، وهو أن يراد بالضلال ضد الهدى وأن الإخبار عن المجرمين بأنهم ليسوا على هدى، وأن ما هم فيه باطل وضلال، وذلك في الدنيا، وأن يراد بالسعر نيران جهنم وذلك في الآخرة فيكون الكلام على التقسيم.
أو يكون السعر بمعنى الجنون، يقال: سعر بضمتين وسعر بسكون العين، أي جنون، من قول العرب ناقة مسعورة، أي شديدة السرعة كأن بها جنونا كما تقدم عند قوله تعالى {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} في هذه السورة [24].
وروي عن ابن عباس وفسر به أبو على الفارسي قائلا: لأنهم أن كانوا في السعير لم يكونوا في ضلال لأن الأمر قد كشف لهم وإنما وصف حالهم في الدنيا، وعليه فالضلال والسعر حاصلان لهم في الدنيا.
[49] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
(27/204)
استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد والإنذار والاعتبار بما حل بالمكذبين، وهو أيضا توطئة لقوله {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] الخ.
والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كل ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلاتها وسلطناهم على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة.
واقتران الخبر بحرف {إن} يقال فيه ما قلناه في قوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47].
والخلق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17].
فإطلاقه في قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
و {شَيْءٍ} معناه موجود من الجواهر والأعراض، أي خلقنا كل الموجودات جوارها وأعراضها بقدر.
والقدر: بتحريك الدال مرادف القدر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها.
والمراد: أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد [8] {وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ومما يشمله عموم بكل شيء خلق جهنم للعذاب.
وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:86،86] وقوله { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:38-40] فترى هذه الآيات وأشباهها تعقب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} بعد قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر:43] وسيقول {وَلَقَدْ
(27/205)
أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} . [البقرة:51].
فالباء في {بِقَدَرٍ} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خَلَقْنَاهُ} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإعلام به بله تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد[8] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} .
ومما يستلزمه معنى القدر أن كل شيء مخلوق هو جار على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعل القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولداتها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإيمان "وتؤمن بالقدر خيره وشره" .
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يوَم يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48، 49]. ولم يذكر راوي الحديث معنى القدر الذي خاصم فيه كفار قريش فبقي مجملا ويظهر أنهم خاصموا جدلا ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا : {ولَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، أي جدلا للنبي صلى الله عليه وسلم بموجب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلا منهم بمعاني القدر.
قال عياض في الإكمال ظاهره أن المراد بالقدر هنا مراد الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية اه. وقال الباجي في المنتقى: يحتمل من جهة اللغة معاني: أحدها: أن يكون القدر ههنا بمعنى مقدر لا يزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى {جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3].
والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4].
والثالث: بقدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدر له وقتا نخلقه فيه اه.
قلت: وإذا كان لفظ {قُدِرَ} جنسا، ووقع معلقا بفعل متعلق بضمير {كُلِّ شَيْءٍ} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاما للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فخلقه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقع هذا التذييل، على أن السلف كانوا يطلقون
(27/206)
سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عدوه من السبب.
واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جاريا على حكمته، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقا له من أفعال العبادة مثلا عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة والقائلين بكسب العبد كالأشعرية، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإخبار هو مضمون {خَلَقْنَاهُ} أو مضمون {بِقَدَرٍ} ، ولاحتمال عموم {كُلِّ شَيْءٍ} للتخصيص، ولاحتمال المراد بالشيء ما هو، وليس نفي حجية هذه الآية على إثبات القدر الذي هو محل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدر من أدلة أخرى.
وحقيقة القدر الاصطلاحي خفية فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علم الإنسان إلى كشف غوامضة ومعرفة ما مكن الله الإنسان من تنفيذ لما قدره الله، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن العمال الصالحة والأعمال السيئة سواء في التأثر لإرادة الله تعالى وتعلق قدرته إذا تعلقت بشيء، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدبا مع الخالق لقنه الله عبيده، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأن للخير إلها وللشر إلها، وذلك باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وتؤمنوا بالقدر خيره وشره" ، وقوله "القدرية مجوس هذه الأمة" رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعا.
وانتصب {كُلِّ شَيْءٍ} على المفعولية ل {خَلَقْنَاهُ} على طريقة الاشتغال، وتقديمه على {خَلَقْنَاهُ} ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء، وذكر ضميره ثانيا، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بتحقيق حرف {إِنَّ} المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله {بقدر} بالعامل فيه وهو {خَلَقْنَاهُ} ، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فيظن أن المراد: أنا خلقنا كل شيء مقدر فيبقى السامع منتظرا لخبر {إِنَّ} .
[50] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
عطف على قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فهو داخل في التذييل، أي خلقناه كل شيء بعلم، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه
(27/207)
حصل دفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظر ولا بداء. وسياتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية.
والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة.
وعطف هذا عقب {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] مشعر بترتيب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جار في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة: الفراء وثعلب والربعي وقطرب وهشام وأبو عمرو الزاهد: إن العطف بالواو يفيد الترتيب، وقال ابن مالك: الأكثر إفادته الترتيب.
والأمر في قوله {وَمَا أَمْرُنَا} يجوز أن يكون بمعنى الشأن، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام، وهو شأن الخلق والتكوين، أي وما شأن خلقنا الأشياء.
ويجوز أن يكون بمعنى الإذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة {كُنْ} والمآل واحد.
وعلى الاحتمالين فصفة {وَاحِدَةً} وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام وهو خبر عن أمرنا. والتقدير: إلا كلمة واحدة، وهي كلمة {كُنْ} كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة. وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها، فلكل مكون منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [قّ:38] ونحوه، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يحصر عددها كما قال تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوله.
وصح الإخبار عن "أمر" وهو مذكر ب {وَاحِدَةً} وهو مؤنث باعتبار أن ما صدق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة، أي كلمة "كُنْ".
(27/208)
وقوله: {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} في موضع الحال من {أَمْرِنَا} باعتبار الإخبار عنه بأنه كلمة واحدة، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر، وهو تشبيه في سرعة الحصول، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلقة هي به كسرعة لمح البصر.
وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقد جاء في سورة النحل[77] {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فزيد هنالك {أوْ هُوَ أَقْرَبُ} لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يترددالسامع في التصديق به.
وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجاد الموجودات بحكمة، وصدورها عن إرادة وقدرة.
واللمح: النظر السريع واخلاس النظر، يقال: لمح البصر، ويقال: لمح البرق كما يقال: لمع البرق. ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى: {لَمْحٍ بِالْبَصَرِ} كما قال في سورة النحل [77] {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} .
[51] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
التفت من طريق الغيبة إلى الخطاب ومرجع الخطاب هم المشركون لظهور أنهم المقصود بالتهديد، وهو تصريح بما تضمنه قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر:43] فهو بمنزلة النتيجة لقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلى كلمة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} . [القمر:49، 50].
وهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإهلاك وبأنه يفاجئهم قياسا على إهلاك الأمم السابقة، وهذا المقصد هو الذي لأجله أكد الخبر بلام القسم وحرف "قد" أما إهلاك من قبلهم فهو معلوم لا يحتاج إلى تأكيد. ولك أن تجعل مناط التأكيد إثبات أن إهلاكهم كان لأجل شركهم وتكذيبهم الرسل.
وتفريع {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قرينة على إرادة المعنيين فإن قوم نوح بقوا أزمانا فما أقلعوا عن إشراكهم حتى أخذهم الطوفان بغتة. وكذلك عاد وثمود كانوا غير مصدقين بحلول العذاب
(27/209)
بهم فلما حل بهم العذاب بغتة، وقوم فرعون خرجوا مقتفين موسى وبنى إسرائيل واثقين بأنهم مدركوهم واقتربوا منهم وظنوا أنهم تمكنوا منهم فما راعهم إلا أن أنجى الله بني إسرائيل وانطبق البحر على الآخرين.
والمعنى : فكما أهلكنا أشياعكم نهلككم، وكذلك، كان فإن المشركين لما حلوا ببدر وهم أوفر عددا وعددا كانوا واثقين بأنهم منقذون غيرهم وهازموهم المسلمين فقال أبو جهل وقد ضرب فرسه وتقدم إلى الصف اليوم ننتصر من محمد وأصحابه فلم تجل الخيل جولة حتى شاهدوا صناديدهم صرعى ببدر : أبا جهل وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية ين خلف وغيرهم في سبعين رجلا ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة.
والأشياع : جمع شيعة. والشيعة : الجماعة الذين يؤيدون من يضافون إليه وتقدم في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} في آخر سورة الأنعام [159].
وأطلق الأشياع هنا على الأمثال والأشياء في الكفر على طريق الاستعارة بتشبيههم وهم منقرضون بأشياع موجودين.
وفرع على هذا الإنذار قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وتقدم نظيره في هذه السورة.
[52] {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} .
يجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله {فعلوه} عائدا إلى {أَشْيَاعَكُمْ} [القمر:51] والمعنى : أهلكناهم بعذاب الدنيا وهيأنا لهم عذاب الآخرة فكتب في صحائف الأعمال كل ما فعلوه من الكفر وفروعه فالكتابة في الزبر وقعت هنا كناية عن لازمها وهو المحاسبة به فيما بعد وعن لازم لازمها وهو العقاب بعد المحاسبة.
وهذا الخبر مستعمل في التعريض بالمخاطبين بأنهم إذا تعرضوا لما يوقع عليهم الهلاك في الدنيا فليس ذلك قصارى عذابهم فإن بعده حسابا عليه في الآخرة يعذبون به وهذا كقوله تعالى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47].
ويجوز عندي أن يكون الضمير عائدا إلى الجمع من قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] إلى {المجرمين} في قوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُر} [القمر: 47] الخ، والمعنى كل شيء فعله المشركون من شرك وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معدود عليهم مهيأ عقابهم عليه لأن الإخبار عن إحصاء أعمال الأمم الماضية قد أغنى عنه الإخبار عن
(27/210)
إهلاكهم، فالأجدر تحذير الحاضرين من سوء أعمالهم.
و {الزبر} : جمع زبور وهو الكتاب مشتق من الزبر، وهو الكتابة، وجمعت الزبر لأن لكل واحد كتاب أعماله، قال تعالى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء: 13،14] الآية.
وعموم {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} مراد به خصوص ما كان من الأفعال عليه مؤاخذة في الآخرة.
[53] {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .
هذا كالتذييل لقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] فكل صغير وكبير أعم من كل شيء فعلوه، والمعنى: كل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي مكتوب مسطور، أي في علم الله تعالى، أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه، فمستطر: اسم مفعول من سطر إذا كتب سطورا قال تعالى {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2].
وهذا كقوله تعالى { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام: 59] وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
فالصغير: مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة. والكبير: مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح وما له شأن من الفساد وما هو دون ذلك، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة، وكذلك كبائر الإثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر.
والمستطر: كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعا للتبشير والإنذار.
[54،55] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [54] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطر على إرادة أنه معلوم ومجازا عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من
(27/211)
تعقيب النذارة بالبشارة والعكس.
وافتتاح هذا الخبر بحرف {إن} للاهتمام به.
و {في} من قوله {فِي جَنَّاتِ} للظرفية المجازية التي هي بمعنى التلبس القوي كتلبس المظروف بالظرف، والمراد في نعيم جنات ونهر فإن للجنات والأنهار لذات متعارفة من اللهو والأنس والمحادثة، واجتناء الفواكه، ورؤية الجداول وخرير الماء، وأصوات الطيور، وألوان السوابح.
وبهذا الاعتبار عطف نهر على {جنات} إذ ليس المراد الإخبار بأنهم ساكنون جنات فإن ذلك يغني عن قوله بعد {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ، ولا أنهم منغمسون في أنهار إذ لم يكن ذلك مما يقصده السامعون.
ونهر: بفتحتين لغة في نهر بفتح فسكون. والمراد به اسم الجنس الصادق المتعدد لقوله تعالى {مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، وقوله {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} إما في محل الحال من المتقين وإما في محل الخبر الثاني {إن} .
والمقعد: مكان القعود. والقعود هنا بمعنى الإقامة المطمئنة كما في قوله تعالى {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
والصدق: أصله مطابقة الخبر للواقع ثم شاعت له استعمالات نشأت عن مجاز أو استعارة ترجع إلى معنى مصادفة أحد الشيء على ما يناسب كمال أحوال جنسه، فيقال: هو رجل صدق، أي تمام رجلة، وقال تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
أي ابن العم حقا، أي موف بحق القرابة.
وقال تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93] وقال في دعاء لإبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] ويسمى الحبيب الثابت المحبة صديقا وصديقا.
فمقعد صدق، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال، وإضافة {مقعد} إلى {صدق} من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه.
(27/212)
والمعنى: هم في مقعد يشمل كل ما يحمده القاعد فيه.
والمليك: فعيل بمعنى المالك مبالغة وهو أبلغ من ملك، ومقتدر:أبلغ من قادر وتنكيره وتنكير مقتدر للتعظيم.
والعندية عندية تشريف وكرامة، والظرف خبر بعد خبر.
(27/213)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
وردت تسميتها بسورة الرحمن بأحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ سورة الرحمن الحديث.
وفي تفسير القرطبي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم اتل علي ما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن، فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: إن له لحلاوة الخ.
وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف.
وذكر في الإتقان : أنها تسمى عروس القرآن لما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن" . وهذا لا يعدوا أن يكون ثناء على هذه السورة وليس هو من التسمية في شيء كما روي أن سورة البقرة فسطاطا القرآن1.
ووجه تسميه هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه تعالى {الرحمن} [الرحمن:1].
ـــــــ
1 الطاهر أن معنى : لكل شيء عروس ، أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزيد تقول العرب : عرائس الإبل لكرائمها فإن العروس تكون مكرمة مزينة مرعية من جمع الأهل بالخدمة والكرامة. ووصف سورة الرحمن بالعروس تشبيه ما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة والبذخ ، تشبه معقول بمحسوس ومن أمثال العرب : لا عطر بعد عروس على أحد تفسيرين للمثل أو تشبيه ما كثر فيها من تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.
(27/214)
وقد قيل: إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] في سورة الفرقان، فتكون تسميتها باعتبار إضافة سورة إلى الرحمن على معنى إثبات وصف الرحمن.
وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى جماعة عن ابن عباس أنها مدنية نزلت في صلح القضية عندما أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
ونسب إلى ابن مسعود أيضا أنها مدنية. وعن ابن عباس: أنها مكية سوى آية منها هي قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] والأصح أنها مكية كلها وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل. وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين {وما الرحمن} تكون نزلت بعد سورة الفرقان.
وقيل سبب نزولها قول المشركين {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} المحكي في سورة النحل [103]. فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.
وهي من أول السور نزولا فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر. وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن. وعدها الجعبري ثامنة وتسعين بناء على قول بأنها مدنية وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان.
وإذ كان الأصح إنها مكية وأنها نزلت قبل سورة الحج وقبل سورة النحل وبعد سورة الفرقان، فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وسبعين، وأهل الشام والكوفة ثمانا وسبعين لأنهم عدوا الرحمن آية، وأهل البصرة ستا وسبعين.
أغراض هذه السورة
ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في الكشاف : أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، وأخر ذكر
(27/215)
خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان اه.
وتبع ذلك من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله هو الذي علمه القرآن ردا على مزاعم المشركين الذين ويقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، وردا على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين أو أنه سحر أو كلام كاهن أو شعر.
ثم التذكير بدلائل قدرة الله تعالى في ما أتقن صنعه مدمجا في ذلك التذكير بما في ذلك كله من نعم الله على الناس.
وخلق الجن وإثبات جزائهم.
والموعظة بالفناء وتخلص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء. وختمت بتعظيم الله والثناء عليه.
وتخلل ذلك إدماج التنويه بشأن العدل، والأمر بتوفية أصحاب الحقوق حقوقهم، وحاجة الناس إلى رحمة الله فيما خلق لهم، ومن أهمها نعمة العلم ونعمة البيان، وما أعد من الجزاء للمجرمين ومن الثواب والكرامة للمتقين ووصف نعيم المتقين.
ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه {الرحمن} وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره.
ومنه التعداد في مقام الامتنان والتعظيم بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه.
[2،1] {الرَّحْمَنِ} [1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} .
هذه آية واحدة عند جمهور العادين. ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامة آية عقب كلمة {الرحمن} ، إذ عدها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانا وسبعين. فإذا جعل اسم {الرحمن} آية تعين أن يكون اسم الرحمن : إما خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام.
ويجوز أن يكون واقعا موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} كما تقدم في سورة الفرقان [60]، فيكون موقعه شبيها بموقع الحروف المقطعة التي يتهجى بها في أوائل بعض السور على
(27/216)
أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطأوا في إنكارهم الحقائق.
وافتتح باسم {الرحمن} فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته.
على أنه قد قيل: إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أقوى من الاهتمام في التعليم.
وأوثر استحضار الجلالة باسم {الرحمن} دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم {الرحمن} براعة استهلال.
وقد أخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] كما سيأتي، ففضل جملتي {خلق ُ الإنسان} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] عن جملة {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} خلاف مقتضى الظاهر. لنكتة التعديد للتبكيت.
وعطف عليها أربعة أخر بحرف عطف من قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} إلى قوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 6، 10 ] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد.
وجيء بالمسند فعلا مؤخرا عن المسند إليه لإفادة التخصيص، أي علم القرآن لا بشر علمه وحذف المفعول الأول لفعل {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لظهوره، والتقدير: علم محمدا صلى الله عليه وسلم لأنهم ادعوا أنه معلم وإنما أنكروا أن يكون معلمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول.
وانتصب {الْقُرْآنِ} على أنه مفعول ثان لفعل {علم} ، وهذا الفعل هنا معدى إلى مفعولين فقط لأنه ورد على أصل ما يفيده التضعيف من زيادة مفعول آخر مع فاعل فعله
(27/217)
المجرد، وهذا المفعول هنا يصلح أن يتعلق به التعليم إذ هو اسم لشيء متعلق به التعليم وهو القرآن، فهو كقول معن بن أوس:
أعلمه الرماية كل يوم
وقوله تعالى {عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} سورة العقود [110] في سورة العقود وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} في سورة يس [69] ولا يقال: علمته زيدا صديقا، وإنما يقال: أعلمته زيدا صديقا، ففعل علم إذا ضعف كان بمعنى تحصيل التعليم بخلافه إذ عدي بالهمزة فإنه يكون لتحصيل الإخبار والأنباء.
وقد عدد الله في هذه السورة نعما عظيمة على الناس كلهم في الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة وقدم أعظمها وهو نعمة الدين لأن به صلاح الناس في الدنيا، وباتباعهم إياه يحصل لهم الفوز في الآخرة. ولما كان دين الإسلام أفضل الأديان، وكان هو المنزل للناس في هذا الإبان، وكان متلقى من أفضل الوحي والكتب الإلهية وهو القرآن، قدمه في الأعلام وجعله مؤذنا بما يتضمنه من الدين ومشيرا إلى النعم الحاصلة بما بين يديه من الأديان كما قال : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92].
ومناسبة اسم {الرحمن} لهذه الاعتبارات منتزعة من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . [الأنبياء: 108]
{والقرآن} : اسم غلب على الوحي اللفظي الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه وتعبد ألفاظه.
[3] {خلق وَخُلِقَ الإنسان} .
خبر ثان، والمراد ب الإنسان جنس الإنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . [ الرحمن:4]
وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجبها وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يعد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته، وهذا تبكيت ثان.
ففي خلق الإنسان دلالتان: أولاهما: الدلالة على تفرد الله تعالى بالإلهية،
(27/218)
وثانيتهما الدلالة على نعمة الله على الإنسان.
والخلق: نعمة عظيمة لأن فيها تشريفا للمخلوق بإخراجه من غياهب ألعدم إلى مبرز الوجود في الأعيان، وقدم خلق الإنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفا من مناسبة إردافه بتعليم القرآن.
ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه يفيد تقوي الحكم. ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.
[4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو.
والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
وأما البيان من غير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضا من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعم ذلك وأهمله وضع اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} في سورة البقرة [31].
وفي الإشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان، فعد نعمة التكاليف الدينية وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان وهي خصائص اللغة وآدابها.
ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه لإفادة تقوي الحكم.
وفيه من التبكيت ما علمته آنفا، ووجه أنهم لم يشكروه على نعمة البيان إذ صرفوا جزءا كبيرا من بيانهم فيما يلهيهم عن إفراد الله بالعبادة وفيما ينازعون الله به من يدعوهم إلى الهدى.
[5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} .
جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلا كان ذكره هنا بدونه مناسبة فينقلب اعتراضا. ورابط الجملة بالمبتدأ تقديره: بحسبانه، أي حسبان الرحمان وضبطه.
(27/219)
وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجوائهم وأرزاقهم. ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم، وفي كون هذا الخبر جاريا على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفا من التبكيت، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق. واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسندا إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين: أحدهما يدل على الاستدلال، والآخر يدل على الامتنان، كما وقع في قوله: {خَلَقَ الإنسان} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4].
والحسبان: مصدر حسب بمعنى عد مثل الغفران.
والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر، والتقدير: كائنان بحسبان، أي بملابسة حسبان أي لحساب الناس مواقع سيرهما.
وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول: أنت بعناية مني، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسة اعتبارية، وقوله تعالى {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقد تقدم في قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]. والحسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاما مطردا لا يختل حساب الناس له والتوقيت به.
واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواع، والحر والبرد، مثل الجوزاء، والشعرى، ومنزلة الأسد، والثريا، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى.
ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم لناس فالشمس: كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله
(27/220)
وداخله في النظام الشمسي. والقمر: كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء والأرض، والمشرق، والمغرب، والبحرين.
[6 ] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} .
عطف على جملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] عطف الخبر على الخبر للوجه الذي تقدم لأن سجود الشمس والقمر لله تعالى وهو انتقال من الامتنان بما في السماء من المنافع إلى الامتنان بما في الأرض، وجعل لفظ {النجم} واسطة الانتقال لصلاحيته لأنه يراد منه نجوم السماء وما يسمى نجما من نبات الأرض كما يأتي.
وعطفت جملة {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين، فالإخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بعد ذكر الشمس والقمر كان ذلك مقتضيا سلوك طريقة لوصل بالعطف بجامع التضاد.
وجعلت الجملة مفتتحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت عليها. وأتي بالمسند فعلا مضارعا للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15].
و{النجم} يطلق: اسم جمع على نجوم السماء قال تعالى :{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [لنجم:1] ويطلق مفردا فيجمع على نجوم، قال تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]. وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء.
ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سوق له فهو متصل بالتراب. وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له. والشجر: النبات الذي له ساق وارتفاع عن وجه الأرض. وهذان ينتفع بهما الإنسان والحيوان.
فحصل من قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} بعد قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة.
(27/221)
والسجود: يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم، ويطلق الوقوع على الأرض مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، أو استعارة ومنه قولهم نخلة ساجدة إذا أمالها حملها، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنو أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه، ففعل {يسجدان} مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بان شبه ارتسام ظلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15] في سورة الرعد [15]، وكما قال امرؤ القيس:
يكب على الأذ ... قان وح الكنهبل
فقال: على الأذقان، ليكون الانكباب مشبها بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية، وذكر الأذقان تخيل، وعليه يكون فعل {يسجدان} هنا مستعملا في مجازه، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عدة على أن الله موجدها ومسخرها، ففي جميعها دلالات عقلية، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال.
[9 -7] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [7] أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [8] وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} .
اطرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يشبه الضدين بعد مقابلة ذكر الشمس والقمر بذكر النجم والشجر، فجيء بذكر خلق السماء وخلق الأرض.
وعاد الكلام إلى طريقة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله: {الرَّحْمَنِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1، 2]، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه.
رفع السماء يقتضي خلقها.وذكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها: خلقها مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط: وسع جيب القميص، أي خطه واسعا على أن في مجرد الرفع إيذانا بسمو المنزلة وشرفها لأن فيها منشأ أحكام الله ومصدر قضائه، ولأنها مكان الملائمة، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادة في الاهتمام بالاعتبار بخلقها.
(27/222)
و {الميزان} : أصله اسم آلة وزن، والوزن تقدير تعادل الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مفعال من الوزن، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، في سورة الأعراف، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل علة وجه تشبيه المعقول بالمحسوس.
والميزان هنا مراد به العدل، مثل الذي في قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:25] لأنه الذي وضعه الله أي عينه لإقامة نظام لخلق، فالوضع هنا مستعار بالجعل فهو كالإنزال في قوله {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} . ومنه قول أبي طلحة الأنصاري وإن أحب أموالي إلي بئر حاء وأنها صدقة لله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله أي أجعلها وعينها لما يدلك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية، وإيهام طباق مع قوله {رفعها} ففيه محسنان بديعيان.
وقرن ذلك مع رفع السماء تنويها بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذكر العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] في سورة يونس، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] في سورة الحجر، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة [الدخان: 38،39]. وهذا يصدق القول المأثور: بالعدل قامت السماوات والأرض. وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم قرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان.
و {أن} في قوله {ألا تطغوا} يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل. وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيره بحرف {أن} التفسيرية. فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيرا لذلك. فتكو {لا} ناهية.
ويجوز أن تكون {أن} مصدرية بتقدير لام الجر محذوفة قبلها. والتقدير: لئلا تطغوا في الميزان، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة. وتكون {لا} نافية، وفعل {تطغوا} منصوبا ب {أن} .
(27/223)
المصدرية ولفظ {الميزان} يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل {وضع} وفعلي {لا تطغوا} و {أقيموا} وحرف الباء في قوله {بالقسط} وحرف {في} من قوله {في الميزان} ولفظ {القسط} ، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن.
والطغيان: دحض الحق عمدا وأحتقارا لأصحابه، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم. ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه.
و {في} من قوله: {في الميزان} ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، أي ارزقوهم من بعضها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
سبرة بن عمرو الفقعسي ... ونشرب في أثمانها ونقامر
إذ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} عطف على جملة {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} على احتمال قول المعطوف عليها تفسيرية.
وعلى جملة {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} على احتمال قول المعطوف عليها تعليلا.
والإقامة: جعل الشيء قائما، وهو تمثيل للإتيان به على أكمل ما يريد له وقد تقدم عند قوله {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3].
والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس.
والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: وتقدم في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في سورة الأنبياء[47].
(27/224)
والباء للمصاحبة.والمعنى: اجعلوا العدل ملازما لما تقومونه من أموركم كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وكما قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، فيكون قوله {بالقسط} ظرفا مستقرا في موضع الحال أو الباء للسببية، أي رعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل فيكون قوله {بالقسط} ظرفا لغوا متعلقا، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1،3]. فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} فإن حمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيها على شدة عناية الله بالعدل، وإن حمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين [3 ] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .
والإخسار: جعل الغير خاسرا والخسارة النقص.
فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإخسار جعل صاحب الحق خاسرا مغبونا؛ ويكون {الميزان} منصوبا على نزع الخافض، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإخسار بمعنى النقص، أي لا تجعلوا الميزان ناقصا كما قال تعالى: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84]، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل.
[10-12] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [10] فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ [11] وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ والريحان} .
عطف على {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن:7] وهو مقابله في المزاوجة والوضع يقابل الرفع، فحصل محسن الطباق مرتين، ومعنى {وضعها} خفضها لهم، أي جعلها تحت أقدامهم وجنوبهم لتمكينهم من الانتفاع بها بجميع ما لهم فيها من منافع ومعالجات.
واللام في {للأنام} للأجل. والأنام: اختلفت أقوال أهل اللغة والتفسير فيه، فلم يذكره الجوهري ولا الراغب في مفردات القرآن ولا ابن الأثير في النهاية ولا أبو البقاء الكفوي في الكليات. وفسره الزمخشري بقوله الخلق وهو كل ما ظهر على وجه
(27/225)
الأرض من دابة فيها روح. وهذا مروي عن ابن عباس وجمع من التابعين. وعن ابن عباس أيضا: أنه الإنسان فقط. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وسياق الآية يرجح أن المراد به الإنسان، لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29].
والظاهر أنه اسم غير مشتق وفيه لغات: أنام كسحاب، وأنام كساباط، وأنيم كأمير.
وجملة {فِيهَا فَاكِهَةٌ} إلى آخرها مبنية لجملة {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} وتقديم {فيها} على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض.
ولما كان قوله: {وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} يتضمن وضعا وعلة لذلك الوضع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان.
والفاكهة: اسم لما يؤكل تفكها لا قوت مشتقة من فكه كفرح، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك، قال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:65] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط.
والفاكهة: مثل الثمار والنقول من لوز وجوز وفستق.
وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم، وهو يثمر أصنافا من الفاكهة من رطب وبسر ومن تمر وهو فاكهة وقوت.
ووصف النخل {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} وصف للتحسين فهو اعتبار بأطوار ثمر النخل، وامتنان بجماله وحسنه كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فامتن بمنافعها وبحسن منظرها.
و {الأكمام} : جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء ثمر النخلة ويقال له: الكفرى، فليست الأكمام مما ينتفع به فتعين ن ذكرها مع النخل للتحسين.
و {الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} : هو الحب الذي لنباته سنابل ولها ورق وقصب فيصير تبنا، وذلك الورق والقصب هو العصف، أي الذي تعصفه الرياح وهذا وصف لحب الشعير والحنطة وبهما قوام حياة معظم الناس وكذلك ما أشبههما من نحو السلت والأرز.
وسمي العصف عصفا لأن الرياح تعصفه, أي تحركه ووصف الحب بأنه {ذُو
(27/226)
الْعَصْفِ} للتحسين وللتذكير بمنة جمال الزرع حين ظهوره في سنبله في حقوله نظير وصف النخل بذات الأكمام ولأن الموصوف ووصفه أقوات البشر وحيوانهم.
وقرأ الجمهور {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} برفع {الحب} ورفع {الريحان} ورفع {ذو} , وقرأه حمزة والكسائي وخلف برفع {الحب} و {ذو} وبجر {الريحان} عطفا على {العصف} . وقرأه ابن عامر بنصب الأسماء الثلاثة وعلامة نصب {ذُو الْعَصْفِ} الألف. وكذلك كتب في مصحف الشام عطفا على {الأرض} أو هو على الاختصاص.
{والريحان} : ما له رائحة ذكية من الأزهار والحشائش وهو فعلان من الرائحة, وإنما سمي به ما له رائحة طيبة. وهذا اعتبار وامتنان بالنبات المودعة فيه الأطياب مثل الورد والياسمين وما يسمى بالريحان الأخضر.
[13] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة من دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية وحي القرآن, ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يأتي لهم إنكارها, وهو تذييل لما قبله.
و"أي" استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضد ما يقربه مثل قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وقد بينته عند قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في سورة الأنعام[130], أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله.
والآلاء: النعم جمع: إلي بكسر الهمزة وسكون اللام, وألي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال ألو بواو عوض الياء وهو النعمة.
وضمير المثنى في {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن. والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإنسان المذكور في قوله {وَخُلِقَ الإنسان} الرحمن3] وهم المخاطبون بقوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:8] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره, أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بله المؤمن, وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله.
(27/227)
والمقصود الأصلي: التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعم غير المنعم, والشهادة عليهم بتوحيد المؤمنين, والتكذيب مستعمل في الجحود والإنكار.
وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] ذكر ذلك الطبري والنسفي.
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل: لبيك وسعديك, ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان.
وقال جمهور المفسرين: هو خطاب للإنس والجن, وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن, فلا يتعرض القرآن لخطابهم, وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم, وقد يكلف الله أصنافا بما هم أهل له دون غيرهم, كما كلف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك, فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة.
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمان وهم ساكتون فقال لهم "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم, كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". قال الترمذي: هو حديث الغريب. وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد ابن حنبل.
وهذا الحديث لو صح فليس تفسيرا لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله, وقلي الخطاب للذكور والإناث وهو بعيد.
والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإنكار مجازا لتشنيع هذا الجحد.
وتكذيب الآلاء كناية عن الإشراك بالله في الإلهية. والمعنى: فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون إنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بله إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواما.
(27/228)
[14، 15] {خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [14] وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}
هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإنسان وخلقه الجن.
والقول في مجيء المسند كالقول في قوله : {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2].
والمراد ب الإنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله: {من صلصال} تقدم نضيره في سورة الحجر[2].
والصلصال: الطين اليابس.
والفخار: الطين المطبوخ بالنار ويسمى الخزف. وظاهر كلام المفسرين أن قوله: {كالفخار} صفة ل {صلصال} . وصرح بذلك الكواشي في تلخيص التبصرة ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف. والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالا من {الإنسان} , أي خلقه من صلصال فصار الإنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة.
ومعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به, وقد عبر عنه بالحمأ المسنون, والطين اللازب, والتراب.
{والجان} : الجن والمراد به إبليس وما خرج عنه من الشياطين, وقد حكى الله عنه قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
والمارج: هو المختلط وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق, وعيشة راضية, أي خلق الجان من خليط من نار, أي مختلط بعناصر أخرى إلا أن النار أغلب عليه كما كان التراب أغلب على تكوين الإنسان مع ما فيه من عنصر النار وهو الحرارة الغريزية والمقصود هنا هو خلق الإنسان بقرينة تذييله بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن:16] وإنما قرن بخلق الجان إظهارا لكمال النعمة في خلق الإنسان من مادة لينة قابلة للتهذيب والكمال وصدور الرفق بالموجودات التي معه على وجه الأرض.
وهو أيضا تذكير وموعظة بمظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في خلق نوع الإنسان وجنس الجان.
وفيه إيماء إلى ما سبق في القرآن النازل قبل هذه السورة من تفضيل الإنسان على الجان إذ أمر الله الجان بالسجود للإنسان, وما ينطوي من ذلك من وفرة مصالح الإنسان
(27/229)
على مصالح الجان, ومن تأهله لعمران العالم لكونه مخلوقا من طينته إذ الفضيلة تحصل من مجموع أوصاف لا من خصوصيات مفردة.
[16] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
هذا توبيخ على عدم الاعتراف بنعم الله تعالى, جيء فيه بمثل ما جيء به في نظيره الذي سبقه ليكون التوبيخ بكلام مثل سابقه, وذلك تكرير من أسلوب التوبيخ ونحوه أن يكون بمثل الكلام السابق, فحق هذا أن يسمى بالتعداد لا بالتكرار, لأنه ليس تكرارا لمجرد التأكيد, فالفاء في قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا} هنا تفريع على قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] لأن ربوبيته تقتضي الاعتراف له بنعمة الإيجاد والإمداد وتحصل من تماثل الجمل المكررة فائدة التأكيد والتقرير أيضا فيكون للتكرير غرضان كما قدمناه في الكلام على أول السورة.
وفائدة التكرير توكيد التقرير بما لله تعالى من نعم على المخاطبين وتعريض توبيخهم على الإشراك بالله أصناما لا نعمة لها على حد, وكلها دلائل على تفرد الإلهية. وعن ابن قتيبة أن الله عدد في هذه السورة نعماء, وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وصفها, ونعمة وضعها بهذه, وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها اه. وقال الحسين بن الفضل1: التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة.
وقال الشريف المرتضى في مجالسه وآماله المسمى الدرر والغرر: وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم, قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
وذكر المصراع الأول ثمان مرات في أوائل أبيات متتابعة. وقال الحارث بن عياد:
قربا مربط النعامة مني ... لحقت حرب وائل عن حبال
ثم كرر قوله: قربا مربط النعامة مني, في أبيات كثيرة من القصيد.
وهكذا القول في نظائر قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} المذكور هنا إلى ما في آخر السورة.
ـــــــ
1 الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي النيسابوري توفي سنة 282هـ وعمره مائة وأبع سنين له "تفسير القرآن" .
(27/230)
[17] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} .
استئناف ابتدائي فيه بيان لجملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] وعطف {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} لأجل ما ذكرته آنفا من مراعاة المزاوجة.
وحذف المسند إليه على الطريقة التي سماها السكاكي بإتباع الاستعمال الوارد على تركه أو ترك نظائره وتقدم غير مرة.
والمشرق: جهة شروق الشمس، والمغرب: جهة غروبها وتثنية المشرقين والمغربين باعتبار أن الشمس تطلع في فصلي الشتاء والربيع من سمت وفي فصلي الصيف والخريف من سمت آخر وبمراعاة وقت الطول ووقت القصر وكذلك غروبها وهي فيما بين هذين المشرقين والمغربين ينتقل طلوعها وغروبها في درجات متقاربة فقد يعتبر ذلك فيقال: المشارق والمغارب كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} في سورة المعارج[40].
ومن زعم أن تثنية المشرقين لمراعاة مشرق الشمس والقمر وكذلك تثنية المغربين لم يغص على معنى كبير.
وعلى ما فسر به الجمهور {المشرقين} و {المغربين} بمشرقي الشمس ومغربيها فالمراد ب {المشرقين} النصف الشرقي من الأرض، وب {المغربين} النصف الغربي منها.
وربوبية الله تعالى بالمشرقين والمغربين بمعنى الخلق والتصرف.
[18] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
تكرير كما علمت آنفا.
[19،20] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [19] بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} .
خبر آخر عن {الرحمن} قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار، وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته.
ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما وبالامتنان بما أودعها من منافع الناس.
(27/231)
والمرج: له معان كثيرة، وأولها في هذا الكلام أنه الإرسال من قولهم مرج الدابة إذ أرسلها ترعى في المرج، وهو الأرض الواسعة ذات الكلأ الذي لا مال له، أي: تركها تكذب حيث تشاء.
والمعنى: أرسل البحرين لا يحبس ماءهما عن الجري حاجز. وهذا تهيئة لقوله بعد {يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} .
والمراد: أنه خلقهما ومرجهما، لأنه ما مرجهما إلا عقب أن خلقها.
ويلتقيان: يتصلان بحيث يصب أحدهما في الآخر.
والبحر: الماء الغامر جزءا عظيما من الأرض يطلق على الماء المالح والعذب.
والمراد تثنية نوعي البحر وهما البحر الملح والبحر العذب. كما في قوله تعالى :{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12]. والتعريف تعريف العهد الجنسي.
فالمقصود ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي. في شاطىء البصرة، والبلاد التي على الشاطىء العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.
والمراد بالبرزخ الذي بينهما: الفاصل بين الماءين الحلو والملح بحيث لا يتغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره. وذلك بما في كل ماء منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به. وهذا من مسائل الثقل النوعي.وذكر البرزخ تشبيه بليغ، أي بينهما مثل البرزخ وهو معنى {لا يبغيان} ، أي لا يبغي أحدهما على الآخر، أي لا يغلب عليه فيفسد طعمه فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي الذي حقيقته الاعتداء والتظلم.
ويجوز أن تكون التثنية تثنية بحرين ملحين معينين، والتعريف حينئذ تعريف العهد الحضوري، فالمراد: بحران معروفان للعرب. فالأظهر أن المراد:البحر الأحمر الذي عليه شطوط تهامة مثل: جدة وينبع النخل، وبحر عمان وهو بحر العرب الذي عليه حضرموت وعدن من بلاد اليمن: والبرزخ: الحاجز الفاصل، والبرزخ الذي بين هذين البحرين هو مضيق باب المندب
(27/232)
حيث يقع مرسى عدن ومرسى زيلع.
ولما كان في خلق البحرين نعم على الناس عظيمة منها معروفة عند جميعهم فإنهم يسيرون فيهما كما قال تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] وقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] واستخراج سمكه والتطهر بمائه. ومنها معروفة عند العلماء وهي ما لأملاح البحر من تأثير في تنقية هواء الأرض واستجلاب الأمطار وتلقي الأجرام التي تنزل من الشهب وغير ذلك.
وجملة {يلتقيان} وجملة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حالان من {البحرين} .
وجملة {لا يبغيان} مبينة لجملة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} .
[12] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
تكرير كما علمته مما تقدم، ووقع هنا اعتراضا بين أحوال البحرين.
[22 ] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} .
حال ثالثة. ثم إن كان المراد بالبحرين: بحرين معروفين من البحار الملحة تكون {من} في قوله {منهما} ابتدائية لأن الؤلؤ والمرجان يكونان في البحر الملح.
وإن كان المراد بالبحرين: البحر الملح، والبحر العذاب كانت "من" في قوله {منهما} للسببية كما في قوله تعالى: ٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} {النساء: 79]، في سورة النساء، أي يخرج اللؤلؤ والمرجان بسببهما، أي بسبب مجموعهما، أما اللؤلؤ فأجوده ما كان في مصب الفرات على خليج فارس، قال الرماني: لما كان الماء العذب كاللقاح للماء الملح في إخراج اللؤلؤ، قيل: يخرج منهما كما يقال: يتخلق الولد من الذكر والأنثى، وقد تقدم بيان تكون اللؤلؤ في البحار في سورة الحج.
وقال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما وهو كقوله تعالى {ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:15، 16]، والقمر في السماء الدنيا. وقال أبو علي الفارسي: هو من باب حذف المضاف، أي من أحدهما كقوله تعالى {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي من أحدهما.
(27/233)
و {المرجان} : حيوان بحري ذو أصابع دقيقا ينشأ لينا ثم يتحجر ويتلون بلون الحمرة ويتصلب كلما طال مكثه في البحر فيستخرج منه كالعروق تتخذ منه حلية ويسمى بالفارسية بسذ. وقد تتفاوت البحار في الجيد من مرجانها. ويوجد ببحر طبرقة على البحر المتوسط في شمال البلاد التونسية.
و {المرجان} : لا يخرج من ملتقى البحرين الملح والعذب بل من البحر الملح.
وقيل: المرجان أصغر لصغار الدر، واللؤلؤ كباره فلا إشكال في قوله منهما.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {يخرج} بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول. وقرأ الباقون {يخرج} بفتح الياء وضم الراء لأنهما إذا أخرجهما الغواصون فقد خرجا.
وبين قوله {مرج} وقوله {والمرجان} الجناس المذيل.
[23 ] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تكرير لنظيره المتقدم أولا.
[24] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}
الجملة عطف على جملة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] لأن هذا من أحوال البحرين وقد أغنت إعادة لفظ البحر عن ذكر ضمير البحرين الرابط لجملة الحال بصاحبها.
واللام للملك وهو ملك تسخير السير فيها قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:32،34]. فالمعنى: أن الجواري في البحر في تصرفه تعالى، قال تعالى :{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65].
والإخبار عن الجواري بأنها له للتنبيه على أن إنشاء البحر للسفن لا يخرجها عن ملك الله.
والجواري صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه وهو قوله {في البحر} والتقدير: السفن الجواري إذ لا يجري في البحر غير السفن.
وكتب في المصحف الإمام {الجوار} براء في آخره دون ياء وقياس رسمه أن يكون
(27/234)
سورة الواقعة
...
والكلام: إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة.
والمعنى: وصفه تعالى بكمال البركة، والبركة: الخير العظيم والنفع، وقد تطلق البركة على علو الشأن، وقد تقدم ذلك في أول سورة الفرقان.
والاسم ما دل على ذات سواء كان علما مثل لفظ الله أو كان صفة مثل الصفات العلى وهي الأسماء الحسنى، فأي اسم قدرت من أسماء الله فهو دال على ذات الله تعالى.
واسند {تبارك} إلى {اسم} وهو ما يعرف به المسمى دون أن يقول: تبارك ربك، كما قال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1] وكما قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] قصد المبالغة في قوله تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى، وهذا على طريقة قوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] فإنه إذا كان التنزيه متعلقا باسمه فتعلق التنزيه بذاته أولى ومنه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4] على التأويل الشامل، وقول عنترة:
فشككت في الرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أراد فشككته بالرمح.
وأما قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96] فهو يحتمل أن يكون من قبيل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] على أن المراد أن يقول كلاما فيه تنزيه لله فيكون من قبيل قوله {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [الفاتحة:1] ويحتمل زيادة الباء فيكون مساويا لقوله :{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1].
وهذه الكناية من دقائق الكلام كقولهم: لا يتعلق الشك بأطرافه وقول...:
يبيت بنجاة من اللؤم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت
ونظير هذا في التنزيه أن القرآن يقرأ ألفاظه من ليس بمتوضئ ولا يمسك المصحف إلا المتوضئ عند جمهور الفقهاء.
فذكر {اسم} في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} مراعى فيه أن ما عدد من شؤون الله
(27/256)
سورة الحديد
...
ففي قوله {سبح} تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند.
واللام في قوله {لله} لام التبيين. وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعد بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف، قال تعالى {فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [ الإنسان:26]، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم: شكرت لك، ونصحت لك، وقوله تعالى {نُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، وقولهم سقيا لك ورعيا لك، وأصله: سقيك ورعيك.
و {ماَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعم الموجودات كلها فإن {ما} اسم موصول يعم العقلاء وغيرهم، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبئ به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير، فإن جعل عموم و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مخصوصا بمن يتأنى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة.
وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل {سبح} بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملا في حقيقته وجازه.
والعزيز: الذي لا يغلب، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإلهية.
و {الحكيم} الموصوف بالحكمة، وهي وضع الأفعال حيث يليق بها، وهي أيضا العلم الذي لا يخطئ ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل، وتقدما في سورة البقرة. وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خلقت لأجله، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع.
[2] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
استئناف ابتدائي بذكر صفة عظيمة من صفات الله التي متعلقها أحوال الكائنات في السماوات والأرض وخاصة أهل الإدراك منهم.
ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله تعالى لأن من له ملك العوالم العليا والعالم الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله.
وأفاد تعريف المسند قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداء
(27/234)
المجلد الثامن والعشرون
سورة المجادلة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة سورة المجادلة بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى سورة قد سمع وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أبي بن كعب سورة الظهار.
ووجه تسميتها سورة المجادلة لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها.
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في "حاشية البيضاوي" عن "الكشف" أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي. فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله: {الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل {تجادلك} كما عبر عنها بالتحاور في قوله {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع. وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى: {مَا
(28/5)
يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية نزلت بمكة.
وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم.
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4]، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله: {ما جعل} يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة. وإنما أبطل بآية سورة المجادلة. وقال السخاوي: نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات.
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون.
أغراض هذه السورة
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب. وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين. وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون.
[1 ] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويها بالمرأة التي وجهت شكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصر في طلب العدل في حقها وفي بنيها. ولم ترض بعنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصر ولا روية، وتعليما لنساء الأمة الإسلامية، ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
(28/6)
تلك هي قضية المرأة خولة أو خويلة مصغرا أو جميلة بنت مالك بنت ثعلبة أو بنت دليج مصغرا العوفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج. من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها: أنت علي كظهر أمي.
قال ابن عباس وكان هذا في الجاهلية تحريما للمرأة مؤبدا أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقر مشروعا فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال لها: "حرمت عليه"، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال "ما عندي في أمرك شيء"، فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا. وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال: "حرمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.
وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملا بسند صحيح. وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادلة هي خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أوس بن الصامت.
وروى الترمذي وأبو داود حديثا في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سلمة بن صخر البياضي تشبه قصة خولة أنه ظاهر من امرأته ظهارا موقنا برمضان ثم غلبته نفسه فوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة، إلا أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك.
وإنما نسب ابن عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره. وأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل.
و {قد} أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.
(28/7)
فتعين أن حرف {قد} هنا مستعمل في التوقع، أي الإشعار بحصول ما يتوقعه السامع. قال في الكشاف لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كان يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها اهـ.
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف {قد} في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يتوقع حصوله أمر لشدة استشرافه له منزلة المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على مختلف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب"إن" في قوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] إنه جعل غير السائل كالسائل حيث قدم إليه ما يلوح أليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد. ولهذا جزم الرضي في شرح الكافية بأن {قد} لا بد فيها من معنى التحقيق. ثم يضاف إليه بعض المواضع معان أخرى.
والسماع في قول: {سمع} معناه الاستجابة للمطلوب وقبوله بقرينة دخول {قد} التوقعية عليه فإن المتوقع هو استجابة شكواها.
وقد استحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويها بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، وتقدمت في قوله: {يجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} في سورة الأنفال. [6].
والاشتكاء مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه، يقال: شكى وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة: اشتكى والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضر الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلة خلاص.
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74 ]،وقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [المؤمنون: 27] وهو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان في نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3].
والتحاور تفاعل من حار، إذا أجاب فالتحاور حصول الجواب من جانبين فاقتضت مراجعة بين شخصين.
(28/8)
والسماع في قوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالما بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإخبار به إفادة الحكم، فتعين صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه وحي، وترقب المرأة الرحمة، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.
وجملة {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} في موضع الحال من ضمير {تجادلك} . وجيء بصيغة المضارع لاستحضار مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور.
وجملة {اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تذييل لجملة {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئي. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم. وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.
[ 2] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
تتنزل جملة {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وما يتم أحكامها منزلة البيان لجملة {قدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1 ] و الآية لأن فيها مخرجا مما بحق بالمجادلة من ضر بظهار زوجها، وإبطالا له، ولها أيضا موقع الاستئناف البياني لجملة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} يثير سؤالا في النفس أن تقول: فماذا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يظهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله: يتظهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {يظاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والألف بعدها على أن أصله: يتظاهرون، فأدغمت التاء كما تقدم، وقرأ عاصم {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظاهر.
ولم يأت مصدره إلا على وزن الفعال ووزن المفاعلة. يقال: صدر منه ظهار
(28/9)
ومظاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظهر فقرأ نافع قد استغنى فيها عن مصدره بمصدر مرادفه.
ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنت علي كظهر أمي. وكان هذا قولا يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحا وبت عصمته. وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد ذلك أنه حرمها على نفسه. كما أن أمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حين يقربها زوجها بالراحلة، وإثبات الظهر لها تخيل للاستعارة، ثم تشبيه ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف. وجعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أخص أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: قربانك كقربان ظهر أمي، أي اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حدث ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي "أنت علي كظهر أمي" إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من النحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
قال المفسرون وأهل اللغة كان الظهار طلاقا في الجاهلية يقتضي تأييد التحريم.
وأحسب أنه كان طلاقا عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنه كان معروفا عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم. وحسب أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب.
والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم، فإنهم كانوا قبل الإسلام ممتزجين باليهود متخلقين بعوائلهم وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأته من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} في سورة البقرة [223] الصيغة تغليظا من التحريم وهي أنها كأمه، بل كظهر أمه. فجاءت صيغة شنيعة فظايعة.
وخذوا من صيغة أنت علي كظهر أمي أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ ظهر فاشتقوا منه الفعل بزناة متعددة، يقول: ظاهر من امرأته، وظهر مثل ضاعف وضعف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة. فيقولون: تظاهر منها وتظهر، وليس هذا من
(28/10)
قبيل النحت نحو: بسمل، وهلل، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها.
والخطاب في قوله: {منكم} يجوز أن يكون للمسلمين، فيكون ذكر هذا الوصف لتعميم بيانا لمدلول الصلة من قوله: {الَّذِينَ يَظْهَرُونَ} لئلا يتوهم إرادة معين بالصلة.
و {من} بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر. وليس خصوصية لخولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاد.
وأما {من} في قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} فابتدائية متعلقة بـ {يظهرون} بتضمنه معنى البعد إذ هو كان طلاقا والطلاق يبعد أحد الزوجين عن الآخر، فاجتلب له حرف الابتداء. كما يقال: خرج من البلد.
وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاثة من دون الربط من أفعال وحروف نحو: أنت علي كظهر أمي، وأنت مني مثل ظهر أمي أو كوني لي كظهر أمي، أو نحو ذلك.
فأما إذا فقد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها. نحو: وجهك علي كظهر أمي. أو كجنب أمي، أو كظهر جدتي، أو ابنتي، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة، أو إلحاقها بإحدى النساء من محارمه بقصد تحريم قربانها، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقوال أصحابه وجمهور الفقهاء، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدم المؤاخذة.
ولم يشر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجردا واضحا.
والصور عديدة وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير.
وجملة {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} . خبر عن {الذين} ، أي ليس أزواجهم أمهات لهم كقول أحدهم: أنت علي كظهر أمي، أي لا تصير الوزج لذلك أما لقائل تلك المقالة.
(28/11)
وهذا تمهيد لإبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومة حقيقية ثابتة لا تصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء، كما قال تعالى في سورة الأحزاب {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ولذلك أعقب هنا بقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أي فليست الزوجات المظاهر منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنت علي كظهر أمي، فلا يحرمن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثر إيجاده.
وجملة {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} الخ واقعة موقع التعليل لجملة {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} ، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام. أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل.
وزيد صنيعهم ذما كقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} توبيخا لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر، أي فبيح لما فيه من تعريض حرمة الأم بتخيلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عندما يسمع قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي. وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: "كظهر أمي".
وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أول من نطق بها كان مليئا بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم: امصص بظر أمك في المشاتمة، وهو أيضا قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله. وقد قال تعالى في سورة الأحزاب [4]: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} .
وتأكيد الخبر بـ {إن} واللام، للاهتمام بأيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنزلوا منزلة من يتردد في كونه منكرا أو زورا، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعا في شرع قديم ولا في شريعة الإسلام، وأنه شيء وضعه أهل الجاهلية كما نبه عليه عدة مع تكذيب أكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ} . وقد تقدم في سورة الأحزاب [4].
وبعد هذا التوبيخ عطف عليه جملة {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} كناية عن عدم مؤاخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في اللبلاب لقوله بعده {وَتِلْكَ
(28/12)
حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] إن إيقاع الظهار معصيته، ولكونه معصية فسر ابن عطية قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} . وبذلك فسر القرطبي قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . وقال ابن الفرس: هو حرام لا يحل إيقاعه. ودل على تحريمه ثلاثة أشياء:
أحدها: تكذيب الله تعالى من فعل ذلك.
الثاني: أنه سماه منكرا وزورا، والزور الكذب وهو محرم بإجماع.
الثالث: إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عمه ويغفر ولا يعفى ويغفر لا على المذنبين.
وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة. ولا حجة في وصفه في الآية بزور، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة.
وعد السبكي في "جمع الجوامع" الظهار من جملة الكبائر وسلمه المحلي. والكاتبون قالوا بأن الله سماه زورا والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية، وفيه نظر فإنهم يعدوا الكذب على الإطلاق كبيرة. وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة.
وأعقب {لعفو} بقوله: {غفور} فقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} في معنى: إن الله عفا عنها وغفر لهم لأنه عفو غفور، يغفر هذا وما هو أشد.
والعفو: الكثير العفو، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم: الذي هو منكر وزور.
والغفور: الكثير الغفران والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه، فذكر وصف {غفور} بعد وصف "عفو" تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما {منكرا} و {زورا} ، بشيئين هما "عفو غفور".
وتأكيد الخبر في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} .
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك.
وقد أومأ قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إلى أن مراد الله في هذا الحكم
(28/13)
التوسعة عل الناس، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون. ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سد الذريعة، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
وقد قال مالك في "المدونة" : لا يقبل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعر وقال الباجي في "المنتقى" : فمن أصابنا من حمل ذلك على التحريم ومنهم من حمله على الكراهية لئلا يدعوه إلى الجماع. وبه قال الشافعي وعبد الملك.
قلت: وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع. وقال ما لك لو تظاهر على أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولا واحدا. وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما.
والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرأة التي يظاهر منها زوجها. وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرما على المظاهر زوجه التي ظاهر منها.
وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجرا ليكف الناس عن هذا القول.
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق" أي من جرى ذلك عن لسانه بعد أن حرم الله الميسر.
[3] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
عطف على جملة {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة، فيكون عطفا على جملة الخبر من قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} {المجادلة:2].
و {ثم} عاطفة جملة {يعودون} على جملة {يظهرون} ، وهي للتراخي الرتبي تعريضا بالتخطئة لهم بأن عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعد أن انقطع ذلك بالإسلام. وذلك عقل بفعل {يعودون} ما يدل على قولهم لفظ الظهار.
والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله: الرجوع إلى المكان الذي
(28/14)
غادره، وهو هنا عود مجازي.
ومعنى {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهر لا يكون مظاهرا إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أولى. وبهذا فسر الفراء. وروي عن علي بن طلحة عن أبن عباس بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفوا عنه. غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأوس بن الصامت: "أعتق رقبة" كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التفكير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار.
ويتحمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم، أي لا يحبون الفراق ويرمون العود إلى المعاشرة. وهذا تأويل أتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبكير بن الأشج وأبا العالية. وفي الموطأ قال مالك في قول الله عز وجل و {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال سمعت: أن تفسير ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه.
وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليث تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به.
وعليه فقد استعمل فعل {يعودون} في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عودا بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسيس معنى، فانتظم من هذا معنى: ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أي إذا أرتم القيام، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" .
وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه و رسول الله يجادلني ويقول: "اتقي الله. فإنه أبن عمك"? فما برحت حتى نزل القرآن. فقال:"يعتق رقبة". قالت: لا يجد. قال:"فيصوم شهرين
(28/15)
متتابعين". قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينا". قالت: ما عنده شيء يتصدق به. فأتى ساعتئذ بعرق من تمر قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: "قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى أبن عمك". قال أبو داود في هذا: إنها كفرت عنه من غير أن تستأمر
والمراد {بِمَا قَالُوا} ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنت علي كظهر أمي، لأن:أنت علي في معنى: قربانك ونحوه علي كمثله من ظهر أمي ومنه قوله تعالى: : {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80] أي مالا وولدا في قوله تعالى: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]، وقوله1: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ففعل القول في هذا وأمثاله ناصب لمفرد لوقعه في خلال جملة مقولة، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحريم له. فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به. فالمعنى ثم يرمون أن يرجعوا للاستمتاع لأزواجهم بعد أن حرموا على أنفسهم.
وفهم من قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أن من لم يرد العود إلى امرأته لا يخلوا حاله: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع عليها طلاقا آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقا، وإما أن لا يريد طلاقا ولا عودا. فهذا قد صار ممتنعا من معاشرة زوجه مضرا بها فله حكم الإيلاء الذي في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] الآية. وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بنت صخر البياضي. ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي بتحية في أوله مضمونة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله: "بي" زائدة للتأكيد حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان. الحديث.
واللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} بمعنى "إلى" كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] ونظيره قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. وأحسب أن أصل اللام هو التعليل، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5]، وما يقع فح حرف "إلى" من ذلك مجاز بتنزيل من يفعل الفعل لأجله
(28/16)
منزلة من يجيء الجائي إليه، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العود فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجز أو تضمين يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} [الرعد: 2] أي جريه المستمر لقصده أجلا يبلغه. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية.
وفي "الكشاف" في قوله تعالى: {كل ٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة الزمر[5] أنه ليس مثل قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة لقمان[29] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا ضيق العطن، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله: {إلى أجل} معناه يبلغه، وقوله: {لأجل} يريد لإدراك أجل تجعل الجري مختصا بالإدراك اهـ.
فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم، فيصير متعلق فعل {يعودون} مقدرا يدل عليه الكلام، أي يعودون لما تركوه من العصمة، ويصير الفعل في معنى: يندمون على الفراق.
وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلة ما قصده من التحريم، وتأديبا له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع.
وبهذا يكون محمل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} على أنه من قبل أن يمس زوجه مس استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]
ولذلك جعلت الكفارة عتق رقبة لأنه يفتدي بتلك الرقبة رقبة زوجه.
وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} . واسم الإشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرض الكفارة تنبيه لكم لتتفادوا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمر على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسماها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في جامع الترمذي وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه أبن العربي في "الأحكام" .
(28/17)
فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التذكير لأنه سبب واحد فلا يضر تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجرا ولذلك لم يكن وطأ المظاهر امرأته قبل الكفارة زنى. وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة، وهو قول جمهور العلماء. وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين.
وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تدييل لجملة {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} ، أي والله عليم بجميع ما تعلمونه من هذا التفكير وغيره.
[4] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} .
رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكها عن فك عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة.
وأعيد قيد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} للدلالة على أنه لا يكون المس إلا بعد انقضاء الصيام فلا يضن أن مجرد شروعه في الصيام كاف في العود إلى الاستمتاع.
{فمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} ، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا عوضا عن الصيام فالإطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكينا ألم الجوع عوضا عما كان التزامه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذاته، وإنما حددت بستين مسكينا إلحاقا لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمدا بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيبا مناسبا.
(28/18)
وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعاما في حمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعرف في فعل طعم. فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين. وعن مالك رحمه الله في ذلك روايتان إحداهما أنه مد واحد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم والثانية أنه مدان أو ما يقرب من المدين وهو مد بمد هشام بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة وقدره مدان إلا ثلث مد قال: أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم? قال: نعم الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة. وقوله هذا يقتضي أن يكون الإطعام في المدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدرا بمدين أو بمد وثلثين، وقال: لو أطعم مدا ونصف مد أجزأه، فتعين أن تضعيف المقدار في الإطعام مراعى فيه معنى العقوبة على ما صنع، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس. قال أبو الحسن القابسي إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة.
وقدر أبو حنيفة الشبع بمدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فلعله راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة، وقدره الشافعي بمد واحد لكل مسكين قياسا على ما ثبت في السنة في كفارة الإفطار وكفارة اليمين.
ولم يذكر مع الإطعام قيد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزأ لمثل أيام الصيام. هذا قول جمهور الفقهاء.
وعن أبي حنيفة أن الإطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسا.
ثم أن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر، وهذا ما بينه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفر. وهذا قول جمهور الفقهاء، وقال مجاهد عليه كفارتان.
وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته.
ولا يمس امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثم ووجب
(28/19)
عليه إعادة الشهرين. وقال الشافعي: إذا كان الوطء ليلا لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلا للصوم، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر.
وأما كونه آثما بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعد فلا بد من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء اهـ.
والمسكين: الشديد الفقر، وتقدم في سورة براءة.
والظاهر إن كان قادرا على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفر انقلب ظهاره إيلاء. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزا عن خصال الكفارة كلها كان العاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحق على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه، وأنه يعود إلى مسيس امرأته، وتبقى الكفارة ذنبا عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار.
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
الإشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكور لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيمانا كاملا بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإيمان بأعمال أهل الجاهلية، وهذا زيادة في تشنيع الظهار. وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصة في عدم الاعتداد به وفي الإخلاص منه بالكفارة، لتيسير الإيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإشارة، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه هو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا عوضا عن تحرير رقبة كان ما علل به تحرير رقبة منسحبا على الصيام والإطعام، وما علل به الصيام والإطعام منسحبا على تحرير رقبة، فأفاد أن كلا من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكينا مشتمل على كلتا العلتين وهما الموعظة والإيمان بالله ورسوله.
(28/20)
والإشارة في {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى ما أشير إليه ب {ذلك} ، وجيء له باسم الإشارة التأنيث نظرا للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} في سورة البقرة[229].
وجملة {و َلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تتميم لجملة {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو ستة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية.
[5] {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتزاز منهم.
والمحادة: المشاقة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقة من الحد لأن كل واحد من المعتادين كأنه في حد مخالف لحد الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة عدوة الوادي لأن كلا من المعتاديين يشبه من هو من الآخر في عدوة أخرى.
وقيل: اشتقت المشاقة من الشقة لأن كلا من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر.
والمراد بهم الذين يحادون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسل بدين الله فمحادته محادة لله.
والكبت: الخزي والإذلال وفعل {كتبوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبتون، فعبر عنه بالمضي تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في خبره مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] ولأنه مؤيد بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر بـ {أن} لأن الكلام لو كان إخبارا عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحا قوله: {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني الذين حادوا الله في
(28/21)
غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {مِنْ قَبْلِهِمْ} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم.
{وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}
معترضة بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وجملة {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي لا عذر لهم في محادة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بينه على صدقه.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
عطف على جملة {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة.
وتعريف {الكافرين} تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين.
ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإهانة.
[6] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
يجوز أن يكون {يوم} ظرفا متعلقا بالكون المقدر في خبر المبتدأ من {لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]
ويجوز أن يكون متعلقا ب{مهين}، ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل تقديره: اذكر تنويها بذلك اليوم وتهويلا عليهم وهذا كثير في أسماء الزمان التي وقعت في القرآن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة. [30]
وضمير الجمع عائد إلى {الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]. ولذلك أتي بلفظ المشمول وهو {جميعا} حالا من الضمير.
وقوله: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} تهديد بفضح نفاقهم يوم البعث. وفيه كناية عن الجزاء على أعمالهم.
وجملة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} في موضع الحال من {ما عملوا} .
والمقصود من الحال هو ما عطف عليه من قوله: {ونسوه} لأن ذلك محل العبرة.
(28/22)
وبه تكون الحالة مؤسسة لا مؤكدة لعاملها، وهو{ينبئهم}، أي علمه الله علما مفصلا من الآن. وهم نسوه، وذلك تسجيا عليهم بأنهم متهاونون بعظيم الأمر وذلك من الغرور، أي نسو في الدنيا بله الآخرة فإذا أنبئوا به عجبوا قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] .
وجملة {و َاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل. والشهيد: العالم بالأمور المشاهدة.
[7 ] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعض ليري للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة، وهم وإن كانوا يظهرون الإسلام يحبون أن بدرت من أحدهم بادرة تنم بنفاقه، فلا يقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه.وكانوا إذا مر بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارون لعل حدثا حدث من مصيبة، وكان المسلمون يومئذ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهمون أن من مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدو أو عن هزيمة للمسلمين في السريا التي يخرجون فيها، فنزلت هذه الآيات لإشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون، وأنه مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخيلتهم ليكفوا عن الكيد للمسلمين.
فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] الآية.
و {ألم تر} من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يرى وسد المصدر مسد المفعول. والتقدير: ألم تر الله عالما.
و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعم المبصرات والمسموعات فهو أعلم من قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة وهو علم المسموعات.
(28/23)
وجملة {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} إلا آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} . وقوله: {إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {إ ِلَّا هُوَ معهُمْ} ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجي معهم.
و {ما} نافية. و {يكون} مضارع "كان" التامة، و {من} زائدة في النفي لقصد العموم، و {نجوى} في معنى فاعل {يكون} .
وقرأ الجمهور {يكون} بياء الغائب لأن تأنيث {نجوى} غير تحقيقي، فيجوز فيه جرى فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف {من} الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعيا لصورة تأنيث لفظه.
والنجوى: أسم مصدر ناجاه، إذا ساره. و{ثلاثة} مضاف إليه {نجوى} . أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم، ولا خمسة إلا كسادس لهم، ولا أدنى ولا أكثر إلا هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى {ثلاثة} وإلى {خمسة} وإلى {ذلك} و {أكثر} .
والمقصود من هذا الخبر والإنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذين نزلت الآية بسببهم كانوا حلفا بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود.
وفي الكشاف عن ابن عباس نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو بن عمير من ثقيف وصفوان بن أمية السلمي حليف بني أسد كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول? فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله. اهـ. ولم أر هذا في غير الكشاف ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدوا في الصحابة وكأن هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} في سورة فصلت[22]. كما في صحيح البخاري وبين هذه الآية. وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى فإنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس.
والاستثناء في {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} {إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} مفرع من
(28/24)
أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى: {ما يكون} والجمل التي بعد حرف استثناء في مواضع أحوال. والتقدير: ما يكون في نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم.
وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء.
وقرأ الجمهور {ولا أكثر} بنصب {أكثر} عطفا على لفظ {نجوى} . وقرأه يعقوب بالرفع عطفا على محل {نجوى} لأنه مجرور بحرف جر زائد.
و {أينما} مركب من {أين} التي هي ظرف مكان {وما} الزائدة. ???وأضيف {أين} إلى جملة {كانوا} ، أي في أي مكان كانوا فيه، ونظيره قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} في سورة الحديد: [4]
و {ثم} للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة.
وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم.
وجملة {نَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لجملة {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} فأغنت {إن} غناء فاء السببية كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
وتأكيد الجملة بـ {إن} للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدل على أن النهي عن التناجي كان سابقا على نزول هذه الآية والآيات بعدها.
[8] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
(28/25)
الرَّسُولِ}
إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى: {نهُوا عَنِ النَّجْوَى} مؤذنا بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا، فنزلت فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفا.
وإذا كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة: 7]كما تقدم، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فالمراد بـ {الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} هم الذين عنوا بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]الآية.
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنه أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثما لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها فقد زادوا به تمردا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقة للمسلمين.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.
والاستفهام في قوله: {ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} تعجيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه.
والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف {إلى} .
والتعريف في النجوى تعريف العهد لأن سياق الكلام من نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:
10 ].
ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعم كل نجوى بمرأى من الناس سدا للذريعة، قال الباجي في المنتقى: روي عن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بدء الإسلام فلما فشا الإسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه.
(28/26)
قال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية [114] الآية في سورة النساء. إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدعما الإخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه، والثاني النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعد هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويخص به بعضهم بعضا فرخص ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين إهـ.
وفي الموطأ حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى إثنان دون واحد". زاد في رواية مسلم "إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه" .
واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة وجمهور المالكية على أنه للتحريم قال ابن العربي في القبس فإن كان قوله مخافة أن يحزنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد انحسم التأويل، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره. وقال ابن قاسم: سمعت مالكا يقول: لا يتناجى أربعة دون واحد. وأما تناجي جماعة دون جماعة فإنه أيضا مكروه أو محرم اهـ. وحكى النووي الإجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التين بحديث ابن مسعود قال قأتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ فساررته. وحديث عائشة قصة فاطمة دال على الجواز.
وقال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجين في حال تناجيهما.
وألحق بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما.
والقول في استعمال {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3].
وكذلك القول في موقع {ثم} عاطفة الجملة.
وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا.
و"وما نهو عنه" هو النجوى، فعدل عن الإتيان بضمير النجوى، فعدل عن الإتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} على ما في الصلة من التسجيل على سفههم.
(28/27)
وقرأ الجمهور {يتناجون} بصيغة التفاعل من ناجي المزيد. وقرأه حمزة ورويس ويعقوب و {ينتجون} بصيغة الافتعال من نجا الثلاثي المجرد أي سار غيره، والافتعال يرد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا.
والإثم: المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام لكفر وذم المسلمين.
و {العدوان} بضم العين: الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين.
ومعصية الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها.
والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإثم والعدوان ملابسة المتناجي في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} وقوله: {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين.
[7] {وإذَا جاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يخفتون لفظ السلام عليكم لأنه شعار الإسلام ولما فيه من معنى جمع السلامة يعدلون عن ذلك ويقولون: أنعم صباحا، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبوا أن يتركوا عوائد الجاهلية. نقله ابن عطية عن ابن عباس.
فمعنى {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} ، بغير لفظ السلام، فإن الله حياه بذلك بخصوصه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. وحياه به في عموم الأنبياء بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وتحية الله هي التحية الكاملة.
(28/28)
وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله "وعليكم". فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفا ولو حمل ضمير {جاءوك} على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر.
أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {رَاعِنَا} [ البقرة:104] تعلموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] ولم يرد منه نهي اليهود.
ومعنى {يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12]، أي ظن بعضهم ببعض خيرا، أي يقول بعضهم لبعض.
ويجوز أن يكون المراد بـ {أنفسهم} مجامعهم كقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، أي قل لهم خاليا بهم سترا عليهم من الافتضاح. وتقدم في سورة النساء [63]و {لولا} للتحضيض، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، أي يقولون ما معناه لو كان محمدا نبيا لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمة {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} فإن {لولا} للتحضيض مستعملة كناية عن جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، أي لو كان نبيا لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له.
وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة. وفي الحديث "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له ندا وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا". وهذا من الغرور قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ولذلك قال تعالى ردا على كلامهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب.
وأصل {يصلونها} يصلون بها، فضمن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن.
(28/29)
وقوله: {فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تفريع على الوعيد بشأن ذم جهنم.
[9 ]{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
خطاب للمنافقين الذين يظهرون الإيمان فعاملهم الله بما أظهروه وناداهم بوصف الذين آمنوا كما قال: {مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ َلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُم} [المائدة: 41] ومنه ما حكاه الله عن المشركين {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] أي يا أيها الذي نزل عليه الذكر بزعمه، ونبههم إلى تدارك حالهم بالإقلاع عن آثار النفاق على عادة القرآن من تعقيب التخويف بالترغيب. فالجملة استئناف ابتدائي.
ذلك أن المنافقين كانوا يعملون بعمل أهل الإيمان إذا لقوا الذين آمنوا فإذا رجعوا إلى قومهم غلب عليهم الكفر فكانوا في بعض أحوالهم مقاربين الإيمان بسبب مخالطتهم للمؤمنين. ولذلك ضرب الله لهم مثلا بالنور في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] ثم قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20]. وهذا هو المناسب لقوله تعالى: {فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} ، ويكون قوله: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا} تنبيها على ما يجب عليهم إن كانوا متناجين لا محالة.
ويجوز أن تكون خطابا للمؤمنين الخلص بأن وجه الله الخطاب إليهم تعليما لهم بما يحسن من التناجي وما يقبح منه بمناسبة ذم تناجي المنافقين فلذلك ابتدئ بالنهي عن مثل تناجي المنافقين وإن كان لا يصدر مثله من المؤمنين تعريضا بالمنافقين، مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] ويكون المقصود من الكلام هو قوله: {تَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} تعليما للمؤمنين.
والتقييد بـ {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} يشير إلى أنه لا ينبغي التناجي مطلقا ولكنهم لما اعتادوا التناجي حذروا من غوائله، وإلا فإن التقييد مستغنى عنه بقوله: لا تتناجوا بالإثم والعدوان وهذا مثل ما وقع حديث النهي عن الجلوس في الطرقات من قوله صلى الله عليه سلم: "فإن كنتم فاعلين لا محالة فاحفظوا حق الطرقات" وقرأ الجمهور {فلا تَتَنَاجَوْا} بصيغة التفاعل. وقرأه رويس عن يعقوب وحده {فَلا
(28/30)
تَتَنتجَوْا} بوزن تنتهوا.
والمر من قوله: {وتناجوا بالبر} مستعمل في الإباحة كما اقتضاه قوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} .
والإثم والعدوان ومعصية الرسول تقدمت. وأما البر فهو ضد الإثم والعدوان وهو يعم أفعال الخير المأمور بها في الدين.
{والتقوى} : الامتثال، وتقدمت في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} في سورة البقرة [2.]
وفي قوله: {الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تذكير بيوم الجزاء. فالمعنى: الذي إليه تحشرون فيجازيكم.
[10] {إنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
تسلية للمؤمنين وتأنيس لنفوسهم يزال به ما يلحقهم من الحزن لمشاهدة نجوى المنافقين لاختلاف مذاهب نفوسهم إذا رأوا المتناجين في عديد الظنون والتخوفات كما تقدم. فالجملة استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة النهي عن النجوى، على أنها قد تكون تعليلا لتأكيد النهي عن النجوى.
والتعريف في {النجوى} تعريف العهد لا محالة. أي نجوى المنافقين الذين يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة و {من} ابتدائية، أي قصر النجوى على الكون من الشيطان، أي جائية لأن الأغراض التي يتناجون فيها من أكبر ما يوسوس الشيطان من أهل الضلالة بأن يفعلوه ليحزن الذين آمنوا بما يتطرقهم من خواطر الشر بالنجوى، وهذه العلة ليست قيدا في الحصر فإن للشيطان عللا أخرى مثل إلقاء المتناجين في الضلالة، والاستعانة بهم على إلقاء الفتنة، وغير ذلك من الأغراض الشيطانية.
وقد خصت هذه العلة بالذكر لأن المقصود تسلية المؤمنين وتصبرهم على أذى المنافقين ولذلك عقب بقوله: {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً} ليطمئن المؤمنون بحفظ الله إياهم من ضر الشيطان. وهذا نحو قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [ الحجر: 42].
(28/31)
وقرأ نافع وحده {ليحزن} بضم الياء وكسر الزاي فيكون {الَّذِينَ آمَنُوا} مفعولا. وقرأه الباقون بفتح الياء وضم الزاي مضارع حزن فيكون {الَّذِينَ آمَنُوا} فاعلا وهما لغتان.
وجملة {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ} الخ معترضة.
وضمير الرفع المستتر في قوله: {بضارهم} عائد إلى {الشيطان}.
والمعنى: أن الشيطان لا يضر المؤمنين بالنجوى أكثر من أن يحزنهم. فهذا كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111] أو عائد إلى النجوى بتاويله بالتناجي، أي ليس التناجي بضار المؤمنين لأن أكثره ناشئ عن إيهام حصول ما يتقونه في الغزوات.
وعلى كلا التقديرين فالاستثناء بقوله: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} استثناء من أحوال. والباء للسببية، أي إلا في حال أن يكون الله قدر شيئا من المضرة من هزيمة أو قتل. والمراد بالإذن أمر التكوين.
وانتصب {شيئا} على المفعول المطلق، أي شيئا من الضر.
ووقوع {شيئا} وهو ذكره في سياق النفي يفيد عموم نفي كل ضر من الشيطان، أي انتفى كل شيء من ضر الشيطان عن المؤمنين، فيشمل ضر النجوى وضر غيرها، والاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} من عموم {شيئا} الواقع في سياق النفي، أي لا ضرا ملابسا لإذن الله في أن يسلط عليهم الشيطان ضره فيه، أي ضر وسوسته.
وأستعير الإذن لما جعله الله في أصل الخلقة من تأثر النفوس بما يسول إليها. وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42] فإذا خلى الله بين الوسوسة وبين العبد يكون اقتراب العبد م المعاصي الظاهرة والباطنة في كل حالة يبتعد فيها المؤمن عن مراقبة الأمر والنهي الشرعيين. وهذا الضر هو المعبر عنه بالسلطان في قوله تعالى: في شأن الشيطان {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي فلك عليه سلطان. وهذه التصاريف الإلهية جارية على وفق حكمة الله تعالى وما يعلمه من أقوال عباده وسرائرهم وهو يعلم السر وأخفى.
ولهذا ذيل بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} لأنهم إذا توكلوا على الله توكلا حقا بأن استفرغوا وسعهم في التحرز من كيد الشيطان واستعانوا بالله على تيسير ذلك لهم فإن الله يحفظهم من كيد الشيطان قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
(28/32)
ويجوز أن يكون عموم {شيئا} مرادا به الخصوص، أي ليس بضارهم شيئا مما يوهمه تناجي المنافقين من هزيمة أو قتل إلا بتقدير الله حصول هزيمة أو قتل.
والمعنى: أن التناجي يوهم الذين آمنوا ما ليس واقعا فأعلمهم الله أن لا يحزنوا بالنجوى لأن الأمور تجري على ما قدره الله بنفس الآمر حتى تأتيهم الأخبار الصادقة.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} للاهتمام بمدلول هذا المتعلق.
[11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
فصل بين آيات الأحكام المتعلقة بالنجوى بهذه الآية مراعاة لاتحاد الموضوع بين مضمون هذه الآية ومضمون التي بعدها في أنهما يجمعهما غرض التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، تلك المراعاة أولى من مراعاة اتحاد سياق الأحكام.
ففي هذه الآية أدب في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، والآية التي بعدها تتعلق بالأدب في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخر تلك عن آيات النجوى العامة إيذانا بفضلها دون النجوى التي تضمنتها الآيات السابقة، فاتحاد الجنس في نجوى هو ومسوغ الانتقال من النوع الأول إلى النوع الثاني، والإيماء إلى تميزها بالفضل هو الذي اقتضى الفصل بين النوعين بآية أدب المجلس النبوي.
وأيا قد كان للمنافقين نية مكر في قضية المجلس كما كان لهم نية مكر في النجوى، وهذا مما أنشأ مناسبة الانتقال من الكلام على النجوى إلى ذكر التفسح في المجلس النبوي الشريف.
روي عن مقاتل أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة، وكان في المكان ضيق في يوم الجمعة فجاء ناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس قد سبقوا في المجلس فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر فقال لمن حوله: هم يا فلان بعدد الواقفين من أهل بدر فشق ذلك على الذين أقيموا، وغمز المنافقون وقالوا: ما أنصف هؤلاء، وقد أحبوا القرب من نبييهم فسبقوا إلى مجلسه فانزل
(28/33)
الله هذه الآية تطييبا لخاطر الذين أقيموا، وتعليما للأمة بواجب رعي فضيلة أصحاب الفضيلة منها، وواجب الاعتراف بمزينة أهل المزايا، قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32]، وقال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
والخطاب بـ {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب لجميع المؤمنين يعم من حضروا المجلس الذي وقعت فيه حادثة سبب النزول وغيرهم ممن عسى أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وابتدئت الآية بالأمر بالتفسح لأن إقامة الذين أقيموا إنما كانت لطلب التفسيح فإناطة الحكم إيماء إلى علة الحكم.
والتفسح: التوسع وهو تفعل من فسح له بفتح السين مخففة إذ أو جاء له فسحة في مكان وفسح المكان من باب كرم إذ صار فصيحا. ومادة التفعل هنا للتكلف، أي يكلف أن يجعل فسحة في المكان وذلك بمضايقة من الجلاس.
وتعريف {المجلس} يجوز أن يكون تعريف المهد، وهو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، أي إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم لكم ذلك لأن أمره لا يكون إلا لمراعاة حق راجح إلى غيره والمجلس مكان الجلوس. وكان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم بمسجده لأكثر أن يكون جلوسه المكان المسمى بالروضة وهو ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته.
ويجوز أن يكون تعريف {المجلس} تعريف الجنس. وقوله: {فْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} مجزوم في جواب قوله: {فافسحوا} ، وهو وعد بالجزاء على الامتثال لأمر التفسح من جنس الفعل إذ جعلت توسعة الله على الممتثل جزاء على امتثاله الذي هو إفساحه لغيره، فضمير {لكم} عائد على {الَّذِينَ آمَنُوا} باعتبار أن الذين يفسحون هم من جملة المؤمنين لأن الحكم مشاع بين جميع الأمة وإنما الجزاء للذين تعاق بهم الأمر تعلقا إلزاميا.
وحذف متعلق {يفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} ليعلم كل ما يتطلب الناس الإفساح فيه بحقيقته ومجازه في الدنيا والآخرة من مكان أو رزق أو جنة عرضها السماوات والأرض على حسب النيات، وتقديره الجزاء موكول إلى إرادة الله تعالى.
وحذف فاعل القول لظهوره، أي إذ قال لكم الرسول: تفسحوا فافسحوا، فإن الله يثيبكم على ذلك.
(28/34)
فالآية لا تدل إلا على الأمر بالتفسح إذ أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يستفاد منها أن تفسح المؤمنين بعضهم لبعض في المجالس محمود مأمور به وجوبا أو ندبا لأنه من المكارمة والإرفاق.فهو من مكملات واجب التحاب بين المسلمين وإن كان فيه كلفة على صاحب البقعة يضايقه فيها غيره. فهي كلفة غير معتبرة إذا قوبلت بمصلحة التحاب وفوائده، وذلك ما لم يفض إلى شدة مضايقة أو ومضرة أو إلى تفويت مصلحة من سماع أو نحوه مثل مجالس العلم و الحديث وصفوف الصلاة. وذلك قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في أنه مجلس خير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أحبكم إلي ألينكم مناكب في الصلاة" . قال مالك ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر. يريد أن هذا الحكم وإن نزل في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فهو شامل لمجالس المسلمين من مجالس الخير لأن هذا أدب ومؤاساة، فليس فيه قرينة الخصوصية بالمجالس النبوية، وأراد مالك ب" نحوها" كل مجلس فيه أمر مهم في شؤون الدين فمن حق المسلمين أن يحصروا على إعانة بعضهم بعضا على حضوره. وهذا قياس على مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وعلته هي التعاون على المصالح.
وأفهم لفظ التفسح أنه تجنب للمضايقة والمراصة بحيث يفوت المقصود من حضور ذلك المجلس أو يحصل ألم للجالسين.
وقد أرخص مالك في التخلف عن دعوة الوليمة إذ كثر الزحام فيها.
وقرأ الجمهور {في المجلس} وقرأه عاصم بصيغة الجمع {فِي الْمَجَالِسِ} وعلى كلتا القراءتين يجوز كون اللام للعهد وكونها للجنس وأن يكون مجالس النبي صلى الله عليه وسلم كلما تكررت وأما يشمل جميع مجالس المسلمين وعلى كلتا القراءتين يصح الأمر في قوله تعالى: {فافسحوا} للوجوب أو للندب.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} الآية عطف على {ذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ}.
و {انشزوا} أمر من نشز إذا نهض من مكانه يقال: نشز ينشز من باب قعد وضرب إذا ارتفع لأن النهوض ارتفاع من المكان الذي استقر فيه ونشوز المرأة من زوجها مجازا عن بعدها عن مضجعها. والنشوز: أخص من التفسيح من وجه فهو من عطف الأخص: من وجه أعم منه على الأعم منه للاهتمام بالمعطوف لأن القيام من المجلس أقوى من التفسيح من قعود. فذكر النشوز لئلا يتوهم وأن التفسيح المأمور به تفسيح من قعود لا
(28/35)
سيما وقد كان سبب النزول بنشوز، وهو المقصود من نزول الآية على ذلك القول. ومن المفسرين من فسر النشوز بمطلق القيام من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم سواء كان لأجل التفسيح أو لغير ذلك مما يؤمر بالقيام لأجله. روي عن ابن عباس وقتادة والحسن إذا قيل انشزوا إلى الخير وإلى الصلاة فانشزوا.
وقال ابن زيد: إذا قيل انشزوا عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعوا فإن للنبي صلى الله عليه وسلم حوائج، وكانوا إذا كانوا في بيته أحب كل واحد منهم أن يكون آخر عهده ب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب النزول لا يخصص العام ولا يقيد المطلق.
وهذا الحكم إذا عسر التفسيح واشتد الزحام والتراص فإن لأصحاب المقاعد الحق المستقر في أن يستمروا قاعدين لا يقام أحد لغيره وذلك إذا كان المقوم لأجله أولى بالمكان من الذي أقيم له بسبب من أسباب الأولية كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة نفر لإعطاء مقاعدهم للبدريين. ومنه أولوية طلبة العلم بمجالس الدرس، وأولوية الناس في مقاعد المساجد بالسبق، ونحو ذلك، فإن لم يكن أحد أولى من غيره فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه.
وللرجل أن يرسل إلى المسجد ببساطه أو طنفسته أو سجادته لتبسط له في مكان من المسجد حتى يأتي فيجلس عليها فإن ذلك حوز لذلك المكان في ذلك الوقت. وكان ابن سيرين يرسل غلامه إلى المسجد يوم الجمعة فيجلس له فيه فإذا جاء ابن سيرين قام الغلام له منه.
وفي الموطأ عن مالك بن أبي عامر قال كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تطرح إلى جدار المسجد الغربي فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى الجمعة. فالطنفسة ونحوها حوز المكان لصاحب البساط.
فيجوز لأحد أن يأمر أحدا يبكر إلى المسجد فيأخذ مكانا يقعد فيه حتى إذا جاء الذي أرسل ترك له البقعة لأن ذلك من قبيل النيابة في حوز الحق.
وقرأ ابن نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {انْشُزُوا فَانْشُزُوا} بضم الشين فيهما. وقرأه الباقون بكسر الشين. وهما لغتان في مضارع نشز.
وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} جواب الأمر لقوله: {فانشزوا} فقد أجمع القراء على جزم فعل {يرفع} فهو جواب الأمر بهذا. وعد
(28/36)
بالجزاء على الامتثال للأمر الشرعي فيما فيه أمر أو لما يقتضي الأمر من علة يقاس بها على المأمور به أمثاله مما فيه علة الحكم كما تقدم في قوله تعالى: {فافسحوا} .
ولما كان النشوز ارتفاعا عن المكان الذي كان به كان جزاؤه من جنسه.
وتنكير {درجات} للإشارة إلى أنواعها من درجات الدنيا ودرجات الآخرة.
وضمير {منكم} خطاب للذين نودوا بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} .
و"من" تبعيضية، أي يرفع الله درجات الذين امتثلوا. وقرينة هذا التقدير هي جعل الفعل جزاء للأمر فإن الجزا مسبب عما رتب عليه بقوله: {منكم} صفة للذين آمنوا. أي الذين آمنوا من المؤمنين والتغاير بين معنى الوصف ومعنى الموصوف بتغاير المقدر وإن كان لفظ الوصف والموصوف مترادفين في الظاهر. فآل الكلام إلى تقدير: يرفع الله الذين استجابوا للأمر بالنشوز إذا كانوا من المؤمنين، أي دون من يضمه المجلس من المنافقين. فكان مقتضى الظاهر أن يقال: يرفع الله الناشزين منكم فاستحضروا بالموصول بصلة الإيمان لما تؤذن به الصلة من الإيماء إلى علة رفع الدرجات لأجل امتثالهم أمر القائل {انشزوا} وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان لإيمانهم وأن ذلك الامتثال من إيمانهم ليس لنفاق أو لصاحبه امتعاض.
وعطف الذين أوتوا العلم منهم عطف الخاص على العام لأن غشيان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو لطلب العلم من مواعظه وتعليمه، أي والذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون، لأن الذين أوتوا العلم قد يكون الأمر لأحد بالقيام من المجلس لأجلهم، أي لأجل إجلاسهم، أي لأجل إجلاسهم، وذلك رفع لدرجاتهم في الدنيا، ولأنهم إذا تمكنوا من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم كان تمكنهم أجمع للفهم وأنفى للملل، وذلك أدعى لإطالتهم الجلوس وازديادهم التلقي وتوفير مستنبطات أفهامهم فيما يلقى إليهم من العلم، فإقامة الجالسين في المجلس لأجل إجلاس الذين أوتوا العلم من رفع درجاتهم في الدنيا.
ولعل البدريين الذين نزلت الآية بسبب قصتهم كانوا من الصحابة الذين أوتوا العلم.
ويجوز أن بعضا من الذين أمروا بالقيام كان من أهل العلم فأقيم لأجل رجحان فضيلة البدريين عليه، فيكون في الوعد للذي أقيم من مكانه برفع الدرجات استئناس له بأن الله رافع درجته.
هذا تأويل نظم الآية الذي اقتضاه قوة إيجازه. وقد ذهب المفسرون في الإفصاح عن
(28/37)
استفادة المعنى من هذا النظم البديع مذاهب كثيرة وما سلكناه أوضح منها.
وانتصب {درجات} على أنه ظرف مكان يتعلق ب {يرفع} أي يرفع الله الذين آمنوا رفعا كائنا في درجات.
ويجوز أن يكون نائبا عن المفعول المطلق ل {يرفع} لأنها درجات من الرفع، أي مرافع.
والدرجات مستعارة للكرامة فإن لكان الرفع في الآية رفعا مجازيا، وهو التفضيل والكرامة وجيء للاستراحة بترشيحها بكون الرفع درجات. وهذا الترشيح هو أيضا استعارة مثل الترشيح في قوله تعالى: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [الرعد: 25] وهذا أحسن الترشيح. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: في سورة الأنعام ِ[83] {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} .
وقال عبد الله بن مسعود وجماعة من أهل التفسير: إن قوله: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} كلام مستأنف وتم الكلام عند قوله: {منكم} قال ابن عطية: ونصب بفعل مضمر ولعله يعني: نصب {درجات} بفعل هو الخبر عن المبتدأ، والتقدير: جعلهم.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تذييل، أي الله عليم بأعمالكم ومختلف نياتكم من الامتثال كقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله" الحديث.
[12] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
استئناف ابتدائي عاد به إلى ذكر بعض أحوال النجوى وهو من أحوالها المحمودة. والمناسبة هي قوله تعالى: {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المجادلة:9.] فهذه الصدقة شرعها الله تعالى وجعل سببها مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكرت عقب آي النجوى لاستيفاء أنواع النجوى من محمود ومذموم. وقد اختلف المتقدمون في سبب نزول هذه الآية، وحكمة مشروعية صدقة المناجاة. فنقلت عن أبن عباس وقتادة وجابر بن زيد وزيد بن أسلم ومقاتل أقوال في سبب نزولها متخالفة، ولا أحسبهم يريدون منها إلا حكاية أحوال للنجوى كانت شائعة، فلما نزل حكم صدقة النجوى أقل الناس من النجوى. وكانت عبارات الأقدمين
(28/38)
تجري على التسامح فيطلقون على أمثاله الأحكام وجزئيات الكليات اسم أسباب النزول، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير، وأمسك مجاهد فلم يذكره لهذه الآية سببا واقتصر على قوله: نهو عن مناجاة الرسول حتى يتصدقوا.
والذي يظهر لي: أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به. وجعل سببها ووقتها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع اله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعا يوميا، وكان الفقراء أيامئذ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصفة ومعظم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوما فيوما لأن الزكاة تدفع في رؤوس السنين وفي معين الفصول فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.
وعن أبن عباس: أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة، وظاهر قوله في الآية التي بعدها {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] أن الزكاة حينئذ شرع مفرد معلوم، ولعل ما نقل عن أبن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمنا قليلا، قيل: إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال: كان ساعة من نهار، أي أنها لم يدم العمل بها طويلا إن كان الأمر مرادا به الوجوب وإلا فإن ندب لك ذلك لم ينقطع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قد نسخه قوله: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] الآية. وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب. وفي تفسير القرطبي وأحكام أبن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا قد ألحفوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سندا ومعنى، ومنافاتها مقصد الشريعة. وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة. ما في جامع الترمذي عن على بن عقلمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال:
(28/39)
لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً صدقة} قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "ما ترى دينارا?" قلت: لا يطيقونه، قال "فنصف دينار"? قلت: لا يطيقونه. قال: "فكم"? قلت: شعيرة قال الترمذي: أي وزن شعيرة من ذهب. قال: "إنك لزهيد" فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة: 13] الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه اهـ.
قلت: علي بن علقمة الأنماري قال البخاري: في حديثه نظر، ووثقه ابن حبان. وقال ابن الفرس: صححوا عن علي قال: ما عمل بها أحد غيري. وساق حديثا.
ومحمل قول علي فبي خفف الله عن هذه الأمة، أنه أراد التخفيف في مقدار الصدقة من دينار إلى زنة شعيرة من ذهب وهي جزء من اثنين وسبعين جزءا من الدينار.
وفعل {ناجيتم} مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} المائدة: 6] الآية. وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]
والقرينة قوله: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ}.
والجمهور على أن الأمر في قوله: {فقدموا} للوجوب، واختاره الفخر ورجحه بأنه الأصل في صيغة الأمر، وبقوله: {إِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن ذلك لا يقال إلا فيما بفقده يزول الوجوب. ويناسب أن يكون هذا هو قول من قال: إن هذه الصدقة نسخت بفرض الزكاة، وهو عن ابن عباس. وقال فريق: الأمر للندب وهو يناسب قول من قال: إن فرض الزكاة كان سابقا على نزول هذه الآية فإن شرع الزكاة أبطل كل حق كان واجبا في المال.
و {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} معناه: قبل نجواكم بقليل، وهي استعارة تمثيلية جرت مجرى المثل للقرب من الشيء قبيل الوصول إليه. شبهت هيئة قرب الشيء من آخر بهيئة وصول الشخص بين يدي من يرد هو عليه تشبيه معقول بمحسوس.
ويستعمل في قرب الزمان بتشبيه الزمان بالمكان كما هنا وهو كقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:]. وقد تقدم في سورة البقرة.[ 255]
والإشارة ب {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} إلى التقديم المفهوم من "قدمو" على طريقة قوله:
(28/40)
{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8}.
وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} تعريف بحكمة الأمر بالصدقة قبل نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ليرغب فيها الراغبون.
و {خير} يجوز أن يكون اسم تفضيل، أصله: أخير وهو المزاوج لقوله: {وأطهر} أي ذلك أشد خيرية لكم من أن تناجوا الرسول صلى الله عليه وسلم بدون تقديم صدقة، وإن كان في كل خير. كقوله: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].
ويجوز أن يكون اسما على وزن فعل وهو مقابل الشر، أي تقديم الصدقة قبل النجوى فيه خير لكم وهو تحصيل رضى الله تعالى في حين إقبالهم على رسوله صلى الله عليه وسلم فيحصل من الانتفاع بالمناجاة ما لا يحصل مثله بدون تقديم الصدقة.
وأما {أطهر} فهو اسم تفضيل لا محالة، أي أطهر لكم بمعنى: أشد طهرا، والطهر هنا معنوي، وهو طهر النفس وزكاؤها لأن المتصدق تتوجه إليه أنوار ربانية من رضى الله عنه فتكون نفسه زكية كما قال تعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. ومنه سميت الصدقة زكاة.
وصفة هذه الصدقة أنها كانت تعطى للفقير حين يعمد المسلم إلى الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليناجيه.
وعذر الله العاجزين عن تقديم الصدقة بقوله: {فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به قبل النجوى غفر الله لكم المغفرة التي كانت تحصل لكم لو تصدقتم لأن من نوى أن يفعل الخير لو قدر عليه كان له أجر على نيته.
وأما استفادة أن غير الواجد لا حرج عليه في النجوى بدون صدقة فحاصلة بدلالة الفحوى لأنه لا يترك مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن إرادة مناجاته الرسول صلى الله عليه وسلم ليست عبثا بل لتحصيل علم من أمور الدين.
وأما قوله: {رحيم} فهو في مقابلة ما فات غير الواجد ما يتصدق به من تزكية النفس إشعارا بأن رحمة الله تنفعه.
واتفق العلماء على أن حكم هذه الآية منسوخ.
[13] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
(28/41)
نزلت هذه الآية عقب التي قبلها: والمشهور عند جمع من سلف المفسرين أنها نزلت بعد عشرة أيام من التي قبلها. وذلك أن بعض المسلمين القادرين على تقديم الصدقة قبل النجوى شق عليهم ذلك فأمسكوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط الله وجوب هذه الصدقة، وقد قيل لم يعمل بهذه الآية غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولعل غيره لم يحتج إلى مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم واقتصد مما كان يناجيه لأدنى موجب.
فالخطاب لطائفة من المؤمنين قادرين على تقديم الصدقة قبل المناجاة وشق عليهم ذلك أو ثقل عليهم.
والإشفاق توقع حصول ما لا يبتغيه ومفعول {أآشفقتم} هو {أَنْ تُقَدِّمُوا} أي من أن تقدموا، أي أأشفقتم عاقبة ذلك وهو الفقر.
قال المفسرون على أن هذه الآية ناسخة للتي قبلها فسقط وجوب تقديم الصدقة لمن يريد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وروي ذلك عن ابن عباس واستبعده ابن عطية.
والاستفهام مستعمل في اللوم على تجهم تلك الصدقة مع ما فيها من فوائد لنفع الفقراء.
ثم تجاوز الله عنهم رحمة بهم بقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} الآية. وقد علم من الاستفهام التوبيخي أي بعضا لم يفعل ذلك.
و {إذا} ظرفية مفيدة للتعليل، أي فحين لم تفعلوا فأقيموا الصلاة.
وفاء {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} لتفريع ما بعدها على الاستفهام التوبيخي.
وجملة {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} معترضة، والواو اعتراضية. وما تتعلق به {إذ} محذوف دل عليه قوله: {وتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} تقديره: خففنا عنكم وأعفيناكم من أن تقدموا صدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وفاء {فأَقِيمُوا الصَّلاةَ} عاطفة على الكلام المقدر وحافظوا على التكاليف الأخرى وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله. أي فذلك لا تسامح فيه قيل لهم ذلك لئلا يحسبوا أنهم كلما ثقل عليهم فعل ما كلفوا به يعفون منه.
وإذ قد كانت الزكاة المفروضة سابقة على الأمر بصدقة النجوى على الأصح كان فعل {آتوا} مستعملا في طلب الدوام مثل فعل {فأقيموا} .
واعلم أنه يكثر وقوع الفاء بعد "إذ" ومتعلقها كقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ
(28/42)
فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} في سورة الأحقاف[11] {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} في سورة الكهف[16].
وجملة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تذييل لجملة {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وهو كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله.
[14، 15] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
هذه حالة أخرى من أحوال أهل النفاق هي توليهم اليهود مع أنهم ليسوا من أهل ملتهم لأن المنافقين من أهل الشرك.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لأنها عود إلى الغرض الذي سبقت فيه آيات {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] بعد أن فصل بمستطردات كثيرة بعده.
والقوم الذين غضب الله عليهم هم اليهود وقد عرفوا بما يرادف هذا الوصف في القرآن في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7].
والاستفهام تعجبي مثل قوله: {أتَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8].
ووجه التعجيب من حالهم أنهم تولوا قوما من غير جنسهم وليسوا في دينهم ما حملهم على توليهم إلا اشتراك الفريقين في عداوة الإسلام والمسلمين.
وضمير {ما هم} يحتمل أن يعود إلى {الَّذِينَ تَوَلَّوْا} وهم المنافقون فيكون جملة {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ} حالا من {الَّذِينَ تَوَلَّوْا} ، أي ما هم مسلمين ولا يهود.ويجوز أن يعود الضمير إلى {قوما} ، قوما ليسوا مسلمين ولا مشركين بل هم يهود.
وكذلك ضمير {وَلا مِنْهُمْ} يحتمل الأمرين على التعاكس وكلا الاحتمالين واقع، ومراد على طريقة الكلام الموجه تكثيرا للمعاني مع الإيجاز فيفيد التعجب من حال المنافقين أن يتولوا قوما أجانب عنهم على قوم هم أيضا أجانب عنهم، على أنهم إن كان يفرق بينهم وبين اليهود اختلاف الدين واختلاف النسب لأن المنافقين من أهل يثرب عرب ويفيد بالاحتمال الآخر الإخبار عن
(28/43)
المنافقين بأن إسلامهم ليس صادقا، أي ما هم منكم أيها المسلمون، وهو المقصود، ويكون قوله: {ولا منهم} على هذا الاحتمال احتراسا وتتميما لحكاية حالهم، وعلى هذا الاحتمال يكون ذم المنافقين أشد لأنه يدل على حماقتهم إذ جعلوا لهم أولياء من ليسوا على دينهم فهم لا يوثق بولايتهم وأضمروا بغض المسلمين فلم يصادفوا الدين الحق.
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} عطف على {تولوا} وجيء به مضارعا للدلالة على تجدده ولاستحضار الحالة العجيبة في حين حلفهم على الكذب للتنصل مما فعلوه، والكذب الخبر المخالف للواقع وهي الأخبار التي يخبرون بها عن أنفسهم في نفي ما يصدر منهم في جانب المسلمين.
{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة في موضع الحال، وذلك أدخل في التعجيب لأنه أشنع من الحلم على الكذب لعدم التثبت في المحلوف عليه.
وأشار هذا إلى ما كان يحلفه المنافقون والنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إذا كشف لهم بعض مكائدهم، ومن ذلك قول الله تعالى فيهم {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56]، وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة: 62 ] وقوله: {يحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 74 ].
قال السدي ومقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي وعبد الله بن نبتل بنون فباء موحدة فمثناة فوقية كان أحدهما وهو عبد الله بن نبتل يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ويرفع أخباره إلى اليهود ويسب النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغ خبره أو اطلعه الله عليه جاء فاعتذر وأقسم إنه ما فعل.
وجملة {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تعليل لإعداد العذاب لهم، أي أنهم عملوا فيما مضى أعمالا سيئة متطاولة متكررة كما يؤذن بها المضارع من قوله: {يعملون} .
وبين {يعملون} ، و {يعلمون} الجناس المقلوب قلب بعض.
[16] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة:14] لأن ذلك يثير سؤال سائل أن يقول ما ألجأهم إلى الحلف على الكذب، فأجيب بأن ذلك لقضاء مآربهم وزيادة مكرهم. ويجوز أن تجعل الجملة خبرا ثانيا لأن في
(28/44)
قوله: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} [المجادلة:15] وتكون داخلة في التعليل.
والجنة: الوقاية والسترة، من جن، إذا أستتر، أي وقاية من شعور المسلمين بهم ليتمكنوا من صد كثير ممن يريد الدخول في الإسلام عن الدخول فيه لأنهم يختلقون أكذوبات ينسبونها إلى الإسلام وذلك معنى التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله} .
و"صدوا" يجوز أن يكون متعديا، وحذف مفعوله لظهوره، أي فصدوا الناس عن سبيل الله،أي الإسلام بالتنبيط وإلصاق التهم والنقائص بالدين. ويجوز أن يكون الفعل قاصرا، أي فصدوا هم عن سبيل الله ومجيء فعل "صدوا عن سبيل الله" ماضيا مفرعا على {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} مع أن إيمانهم حصلت بعد أن صدوا عن سبيل الله على كلا المعنيين مراعى فيه التفريغ الثاني وهو {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
وفرع عليه {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ليعلم إنما اتخذوا من إيمانهم جنة سبب من أسباب العذاب يقتضي مضاعفة العذاب. وقد وصف العذاب أول مرة بشديد وهو الذي يجازون به على توليهم قوما غضب الله عليهم وحلفهم على الكذب.
ووصف عذابهم ثانيا ب {مهين} لأنه جزاء على صدهم الناس عن سبيل الله. وهذا معنى شديد العذاب لأجل عظيم الجرم كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} . [النمل:88].
فكان العذاب مناسبا للمقصدين في كفرهم وهو عذاب واحد فيه الوصفان. وكرر ذكره إبلاغا في الإنذار والوعيد فإنه مقام تكرير مع تحسينه باختلاف الوصفين.
[17] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
مناسب لقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] فكما لم تقهم أيمانهم العذاب لم تغن عنهم أموالهم ولا أنصارهم شيئا يوم القيامة.
وكان المنافقون من أهل الثراء بالمدينة، وكان ثراؤهم من أسباب إعراضهم عن قبول الأسباب إعراضهم عن قبول الإسلام لأنهم كانوا أهل سيادة فلم يرضوا أن يصيروا في طبقة عموم الناس. وكان عبد الله بن أبي بن سلول مهيأ لأن يملكوه على المدينة قبيل إسلام الأنصار، فكانوا يفخرون
(28/45)
على المسلمين بوفرة الأموال وكثرة العشائر وذلك في السنة الأولى من الهجرة، ومن ذلك قول عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يريد بالأعز فريقه وبالأذل فريق المسلمين فآذنهم الله بأن أموالهم وأولادهم لا تغنى عنهم مما توعهم الله به من المذلة في الدنيا والعذاب في الآخرة قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب:60، 61]. وإذ لم تغن عنهم من الله في الدنيا فإنها أجدر بأن لا تغني عنهم من عذاب الآخرة شيئا، أي شيئا قليلا من الإغناء.
وعن مقاتل: أنهم قالوا: إن محمد يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد شقيقنا إذن. فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت هذه الآية.
وإقحام حرف النفي في المعطوف على المنفي لتوكيد انتفاء الإغناء.
ومعنى {من الله} من بأس الله أو من عذابه. وحذف مثل هذا كبير في الكلام. وتقديره ظاهر. ويلقب هذا الاستعمال عند علماء أصول الفقه بإضافة الحكم إلى الأعيان على إرادة أشهر أحوالها نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، أي أكلها.
وجملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ} الخ خبر ثالث أو ثان عن {إن} في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المجادلة:15].
وجملة {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} في موضع العلة لجملة {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، أي لأنهم أصحاب النار، أي حق عليهم أنهم أصاحب النار. وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه. إذ قد تقرر في قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} [المجادلة: 15] ومن قوله: { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16] أنهم لا محيص لهم عن النار، فكيف تغنى عنهم أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب النار. وهذا كقوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر:19] أي ما أنت تنقذه من النار. فإن اسم الإشارة في مثل هذا الموقع ينبه على أن المشار ليه صار جديرا بما يرد بعد اسم الإشارة من جل الأخبار التي أخبر بها عنه قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [5]
[18 ] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ
(28/46)
هُمُ الْكَاذِبُونَ}.
هذا متصل بقوله: {يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 14، 16] وتقدم الكلام على نظير قوله: {َوْيوَم يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [المجادلة: 6]. كما سبق آنفا في هذه السورة، أي اذكر يوم يبعثهم الله.
وحلفهم لله في الآخرة إشارة إلى ما حكاه الله عنهم في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23].
والتشبيه في قوله: {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} كما في صفة الحلف، وهي قولهم: إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفا على الكذب، وهم يعلمون، ولذلك سماه تعالى فتنة في آية الأنعام[23]. قوله تعالى: {لمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} .
ومعنى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} يضنون يومئذ أن حلفهم يفيدهم تصديقهم عند الله فيحسبون أنهم حصلوا شيئا عظيما، أي نافعا.
و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوه كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة[5].
وحذفت صفة {شيء} لظهور معناها من المقام، أي على شيء نافع كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [المائدة: 68]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "ليسوا بشيء" .
وهذا يقتضي توغلهم في النفاق ومرونتهم عليه وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلقة به، بين النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية اكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية ويزيده الله زكاه وارتياضا يوم البعث. وإن غمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويها لحالها. لتكون مهزلة لأهل المحشر. وقد تبقى في النفوس الزكية خلائق لا تنافي الفضيلة ولا تناقض عالم الحقيقة مثل الشهوات المباحة ولقاء الأحبة قال تعالى [67، 70 ]{الأخلاء الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يا عبادي لا خوف عليكم يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} . وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن رجلا
(28/47)
من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع، فيقول الله: أو لست فيما شئت قال: بلا ولكن أحب أزرع، فأسرع وبذر فيبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده وتكويره أمثال الجبال". وكان رجل من أهل البادية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لا نجد هذا إلا قرشيا أو أنصاريا فإنهم أصحاب زرع فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما فهمه الأعرابي.
وفي حديث جابر بن عبد الله عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يبعث كل عبد على ما مات عليه". قال عياض في الإكمال هو عام في كل حالة مات عليها المرء. قال السيوطي: يبعث الزمار بمزماره. وشارب الخمر بقدحه اهـ. قلت: ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه إذ تصير العلوم على الحقيقة.
وختم هذا الكلام بقوله تعالى: {ألا أنهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ} [المجادلة: 14]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيدا لمفاد الحصر الادعائي، هو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استماله السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.
[19 ] {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذه الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية.
والاستحواذ: الاستيلاء والغلب، وهو استفعال من حاذ حوذا، إذا حاط شيئا وصرفه كيف يريد يقال: حاذ العير إذا جمعها وساقها غالبا لها. فاشتقوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة، ولذلك لا يقال استحواذ إلا في استيلاء العاقل لأنه يتطلب وسائل استيلاء. ومثله استولى. والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في: استجاب.
والأحوذي: القاهر للأمور الصعبة. وقالت عائشة: كان عمر أحوذيا نسيج وحده.
(28/48)
وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفا لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فرارا من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكنا سكونا ميتا إثر حركة فيقلب مدة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يقوم ويبين وأقام، فحق استحوذ أن يقال فيه: استحاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي، وله نظائر قليلة منها استنوق الجمل، وأعول، إذا رفع صوته. وأغيمت السماء واستغيل الصبي، إذا شرب الغيل وهو لبن الحامل. وقال أبو زيد التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله. وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} . وقال الجوهري: تصحيح هذا الباب كله مطرد. وقال في التسهيل : يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل استنوق الجمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس.
وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى: {قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة النساء[141] فضم هذا إلى ذاك.
والنسيان مراد منه لازمه وهو الإضاعة وترك المنسي، لقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126].
والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل. وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته، مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة. والذي لا يتذكر شيئا لا يتوجه إلى واجباته.
وجملة {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} نتيجة وفذلكة لقول: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان.
وجملة {ألا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، فلذلك عدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيها على أهمية مضمونها وأنه
(28/49)
مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفا. وزيد هذا التحذير اهتماما بتأكيد الخبر بحرف {إن} وبصيغة القصر، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة.
وإظهار كلمة {حِزْبُ الشَّيْطَانِ} دون ضميرهم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل بها مستقلة بدلالتها.
وضمير الفصل أفاد القصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنهم لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم.
وحزب المرء: أنصاره وجنده ومن يواليه.
[20، 21] {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } .
موقع هذه الآية بعد ما ذكر من أحوال المنافقين يشبه موقع آية {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5] المتقدم ذكرهم المشركون المعلنون بالمحادة. وأما المحادن المذكورون في هذه الآية فهم المسرون للمحادة المتظاهرون بالموالاة، وهم المنافقون، فالجملة استئناف بياني بينت شيئا من الخسران الذي قضى به على حزب الشيطان الذين هم في مقدمته. وبهذا تكتسب هذه الجملة معنى بدل البعض من مضمون جملة {أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]، لأن الخسران يكون في الدنيا والآخرة، وخسران الدنيا أنواع أشدها على الناس المذلة والهزيمة، والمعنى: أن حزب الشيطان في الأذلين المغلوبين.
واستحضارهم بصلة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إظهار في مقام الإضمار فمقتضى الظاهر أن يقال: إنهم في الأذلين فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر إلى الموصولية لإفادة مدلول الصلة أنهم أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإفادة الموصول تعليل الحكم الوارد بعده وهو كونهم أذلين لأنهم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعداء الله القادر على كل شيء فعدوه لا يكون عزيزا.
(28/50)
ومفاد حرف الظرفية أنهم كائنون في زمرة القوم الموصوفين بأنهم أذلوا، أي شديدو المذلة ليتصورهم السامع في كل جماعة يرى أنهم أذلون، فيكون هذا النظم أبلغ من أن يقال أولئك هم الأذلون.
واسم الإشارة تنبيه على أن الإشارة إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من الحكم بسبب الوصف الذي قبل اسم الإشارة مثل {أولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وتقدم الكلام على {يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أوائل هذه السورة [ 5].
وجملة {كتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} علة لجملة {أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} أي لأن الله أراد أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم غالبا لأعدائه وذلك من آثار قدرة الله التي لا يغليها شيء وقد كتب لجميع رسله الغلبة على أعدائهم، فغلبتهم من غلبة الله إذ قدرة الله تتعلق بالأشياء على وفق إرادة الله لا يغيرها شيء، والإرادة تجري على وفق العلم ومجموع توارد العلم والإرادة والقدرة على الموجود هو المسمى بالقضاء. وهو المعبر عنه هنا بـ {كَتَبَ اللَّهُ} لأن الكتابة استعيرت لمعنى: قضى الله ذلك وأراد وقوعه في الوقت الذي علمه وأراده فهو محقق الوقوع لا يتخلف مثل الأمر الذي يراد ضبطه وعدم الإخلال به فإنه يكتب لكي لا ينسى ولا ينقص منه شيء ولا يجحد التراضي عليه.
فثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم الغلبة لشمول ما كتبه الله لرسله إياه وهذا إثبات لغلبة رسوله أقوى من يحادونه بطريق برهاني.
فجملة {لأغلبن} مصوغة صيغة القول ترشيحا لاستعارة {كتب} إلى معنى قضى وقدر. والمعنى: قضى مدلول هذه الجملة، أي قضى بالغلبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكأن هذه الجملة هي المكتوبة من الله. والمراد: الغلبة بالقوة لأن الكلام مسوق مساق التهديد. وأما الغلبة بالحجة فأمر معلوم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} تعليل لجملة {لأغلبن} لأن الذي يغالب الغالب مغلوب. قال حسان:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها
وليغلبن مغالب الغلاب
[22 ] {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
(28/51)
الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}.
كان للمنافقين قرابة بكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نفاقهم لا يخفى على بعضهم، فحذر الله المؤمنين الخالصين من موادة من يعادي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ورويت ثمانية أقوال متفاوتة قوة أسانيد أقصاها القرطبي في نزول هذه الآية وليس يلزم أن يكون للآية سبب نزول فإن ظاهرها أنها متصلة المعنى بما قبلها وما بعدها من ذم المنافقين وموالاتهم اليهود، فما ذكر فيها من قصص لسبب نزولها فإنما هو أمثلة لمقتضى حكمها.
وافتتاح الكلام ب {لا تَجِدُ قَوْماً} يثير تشويقا إلى معرفة حال هؤلاء القوم وما سيساق في شأنهم من حكم.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أمره بإبلاغ المسلمين أن موادة من يعلم أنه محاد الله ورسوله هي مما ينافي الإيمان ليكف عنها من عسى أن يكون متلبسا بها. فالكلام من قبل الكناية عن السعي في نفي وجدان قوم هذه صفتهم، من قبيل قولهم: لا أرينك ها هنا، أي لا تحضر هنا.
ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [يونس: 18] أراد بما لا يكون، لأن ما لا يعلمه الله لا يجوز أن يكون موجودا، وكانت هذه عادة المؤمنين قبل الهجرة أيام كانوا بمكة. وقد نقلت أخبار من شواهد ذلك متفاوتة القوة ولكن كان الكفر أيامئذ مكشوفا والعداوة بين المؤمنين والمشركين واضحة. فلما انتقل المسلمون إلى المدينة كان الكفر مستورا في المنافقين فكان التحرز من موادتهم أجدر وأحذر.
والموادة أصلها: حصول المودة في جانبين. والنهي هنا إنما هو عن مودة المؤمن الكافرين لا عن مقابلة الكافر المؤمنين بالمودة، وإنما جيء بصيغة المفاعلة هنا اعتبارا بأن شأن الود أن يجلب ودا من المودود للواد.
(28/52)
وإما أن تكون المفاعلة كناية عن كون الود صادقا لأن الواد الصادق يقابله المودود بمثله. ويعرف ذلك بشواهد المعاملة، وقرينة الكناية توجيه نفي وجدان الموصوف بذلك إلى القوم الذين يؤمنون بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم يقل الله هنا {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، لأن المودة من أحوال القلب فلا تتصور معها التقية، بخلاف قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ} إلى آخره مبالغة في نهاية الأحوال التي قد تقدم فيها المرء على الترخص فيما نهي عنه بعلة قرب القرابة.
ثم أن الذي يحاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان متجاهرا بذلك معلنا به، أو متجاهرا بسوء معاملة المسلمين لأجل إسلامهم لا لموجب عداوة دنيوية، فالواجب على المسلمين إظهار عداوته، قال تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:9] ولم يرخص في معاملتهم بالحسنى إلا لاتقاء شرهم إن كان لهم بأس قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
وأما م عدا هذا الصنف فهو الكافر الممسك شره عن المسلمين، قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
ومن هذا الصنف أهل الذمة وقد بين شهاب الدين القرافي في الفرق التاسع عشر بعد المائة مسائل الفرق بين البر والمودة وبهذا تعلم أن هذه الآية ليست منسوخة بآية {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} .[الممتحنة:8] وأن لكل منهما حالتها.
فـ {لو} وصلية وتقدم بيان معنى {لو} الوصلية عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91] ورتبت أصناف القرابة في هذه الآية على طريقة التدلي من الأقوى إلى من دونه لئلا يتوهم أن النهي خاص بمن تقوى فيه ظنة النصيحة له والائتمار بأمره.
وعشيرة الرجل قبيلته الذين يجتمع معهم في جد غير بعيد وقد أخذ العلماء من هذه
(28/53)
الآية أن أهل الإيمان الكامل لا يوادون من فيه معنى من محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بخرق سياج شريعته عمدا. والاستخفاف بحرمات الإسلام، وهؤلاء مثل أهل الظلم والعدوان في الأعمال من كل ما يؤذن بقلة اكتراث مرتكبه بالدين وينبيء عن ضعف احترامه للدين مثل المتجاهرين بالكبائر والفواحش الساخرين من الزواجر والمواعظ، ومثل أهل الزيغ والضلال في الاعتقاد ممن يؤذن حالهم بالإعراض عن أدلة الاعتقاد الحق، وإيثار الهوى النفسي والعصبية على أدلة الاعتقاد الإسلامي الحق. فعن الثوري أنه قال: كانوا يرون تنزيل هذه الآية على من يصحب سلاطين الجور. وعن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله لقوله تعالى: : {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
وقال فقهاؤنا: يجوز أو يجب هجران ذو البدعة الضالة أو الانغماس في الكبائر إذا لم يقبل الموعظة.
وهذا كله من إعطاء بعض أحكام المعنى الذي فيه حكم شرعي أو وعيد لمعنى آخر فيه وصف من نوع المعنى ذي الحكم الثابت. وهذا يرجع إلى أنواع من الشبه في مسالك العلة للقياس فإن الأشياء متفاوتة في الشبه.
وقد استدل أئمة الأصول على حجية الإجماع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء:115] مع أن مهيع الآية المحتج بها إنما هو الخروج عن الإسلام ولكنهم رأوا الخروج مراتب متفاوتة فمخالفة إجماع المسلمين كلهم فيه شبه اتباع غير سبيل المؤمنين.
{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
الإشارة إلى القوم الموصوفين بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأوصاف السابقة ووقوعها عقب ما وصف به المنافقون من محادة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سابقا وآنفا، وما توعدهم الله به أنه أعد لهم عذابا شديدا ولهم عذاب مهين، وأنهم حزب الشيطان، وأنهم الخاسرون، مما يستشرف بعده
(28/54)
السامع إلى ما سيخبر به عن المتصفين بضد ذلك. وهم المؤمنون الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكتابة الإيمان في القلوب نظير قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]. وهي التقدير الثابت الذي لا تتخلف آثاره، أي هم المؤمنون حقا الذين زين الله الإيمان في قلوبهم فاتبعوا كماله وسلكوا شعبه.
والتأكيد: التقوية والنصر. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة [87]، أي أن تأييد الله إياهم قد حصل وتقرر بالإتيان بفعل المضي للدلالة على الحصول وعلى التحقق والدوام فهو مستعمل في معنييه.
والروح هنا: ما به كمال نوع الشيء من عمل أو غيره وروح من الله: عنايته ولطفه. ومعاني الروح في قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} في سورة الإسراء[85]، ووعدهم بأنه يدخلهم في المستقبل الجنات خالدين فيها.
ورضي الله عنهم حاصل من الماضي ومحقق الدوام فهو مثل الماضي في قوله: {وأيدهم} ، ورضاهم عن ربهم كذلك حاصل في الدنيا بثباتهم على الدين ومعاداة أعدائه، وحاصل في المستقبل بنوال رضا الله عنهم ونوال نعيم الخلود.
وأما تحويل التعبير إلى المضارع في قوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} فلأنه الأصل في الاستقبال. وقد استغني عن إفادة التحقيق بما تقدمه من قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} .
وقوله: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ} إلى آخره كالقول في {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 19]. وحرف التنبيه يحصل منه تنبيه المسلمين إلى فضلهم. وتنبيه من يسمع ذلك من المنافقين إلى ما حبا الله به المسلمين من خير الدنيا والآخرة لعل المنافقون يغبطونهم فيخلصون الإسلام.
وشتان بين الحزبين. فالخسران لحزب الشيطان، والفلاح لحزب الله تعالى.
(28/55)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
اشتهرت تسمية هذه السورة سورة الحشر. وبهذا الاسم دعاها النبي صلى الله عليه وسلم.
روي الترمذي عن معقل بن يسار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قال حين يصبح ثلاث مراد أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر" الحديث، أي الآيات التي أولها {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] إلى آخر السورة.
وفي صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر قال قل بني النضير، أي سورة بني النضير فابن جبير سماها باسمها المشهور. وأبن عباس يسميها سورة بني النضير. ولعله لم يبلغه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياها سورة الحشر لأن ظاهر كلامه أنه يرى تسميتها سورة بني النضير لقوله أن جبير قل بني النضير.
وتأول أبن حجر كلام أبن عباس على أنه كره تسميتها ب{الحشر} لئلا يظن أن المراد بالحشر يوم القيامة. وهذا تأويل بعيد. وأحسن من هذا أن أبن عباس أراد أن لها اسمين، وأن الأمر في قوله: قل، للتخيير.
فأما وجه تسميتها الحشر فلوقوع لفظ {الحشر} [الحشر:2] فيها. ولكونها ذكر فيها حشر بني النضير من ديارهم أي من قريتهم المسماة الزهرة قريبا من المدينة. فخرجوا إلى بلاد الشام إلى أريحا وأذرعات، وبعض بيوتهم خرجوا إلى خيبر، وبعض بيوتهم خرجوا إلى الحيرة.
وأما وجه تسميتها سورة بني النضير فلأن قصة بني النضير ذكرت فيها.
وهي مدينة بالاتفاق. وهي الثامنة والتسعون في عداد نزول السور عند جابر بن زيد.
(28/56)
نزلت بعد سورة البينة وقبل سورة النصر.
وكان نزولها عقب إخراج بني النضير من بلادهم سنة أربع من الهجرة. وعدد آيها أربع وعشرون باتفاق العادين.
أغراض هذه السورة
وفق الاتفاق على أنها نزلت في شأن بني النضير ولم يعينوا ما هو الغرض الذي نزلت فيه. ويظهر أن المقصد منها حكم أموال بني النضير بعد الانتصار عليهم، كما سنبينه في تفسير الآية الأولى منها.
وقد اشتملت إلى أن ما في السماوات وما في الأرض دال على تنزيه الله، وكون في السماوات والأرض ملكه، وأنه الغالب المدبر.
وعلى ذكر نعمة الله على ما يسر من إجلاء بني النضير مع ما كانوا عليه من المنعة والحصون والعدة. وتلك آية من آيات تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلبته على أعدائه.
وذكر ما أجراه المسلمون من إتلاف أموال بني النضير وأحكام ذلك في أموالهم وتعيين مستحقيه من المسلمين.
وتعظيم شأن المهاجرين والأنصار والذين يجيئون بعدهم من المؤمنين.
وكشف دخائل المنافقين ومواعيدهم لبني النضير أن ينصروهم وكيف كذبوا وعدهم.
وأنحى على بني النضير والمنافقين بالجبن وتفرق الكلمة وتنظير حال تغرير المنافقين لليهود بتغرير الشيطان للذين يكفرون بالله، وتنصله من ذلك يوم القيامة فكان عاقبة الجميع الخلود في النار.
ثم خطاب المؤمنين بالأمر بالتقوى والحذر من أحوال أصحاب النار والتذكير بتفاوت حال الفريقين.
وبيان عظمة القرآن وجلالته واقتضائه خشوع أهله.
وتخلل ذلك إيماء إلى حكمة شرائع انتقال الأموال بين المسلمين بالوجوه التي نظمها الإسلام بحيث لا تشق على أصحاب الأموال.
والآمر باتباع ما يشرعه الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
(28/57)
وختمت بصفات عظيمة من الصفات الإلهية وأنه {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحشر: 24] تزكيه لحال المؤمنين وتعريضا بالكافرين.
[1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح ما في السماوات والأرض لله تعالى تذكير للمؤمنين بتسبيحهم لله تسبيح شكر ما أنالهم من فتح بلاد بني النضير فكأنه قالوا سبحوا لله كما سبح له ما في السماوات والأرض.
وتعريض بأولئك الذين نزلت السورة فيهم بأنهم أصابهم ما أصابه لتكبرهم عن تسبيح الله حق تسبيحه بتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم إذ أعرضوا عن النظر في دلائل رسالته أو كابروا في معرفتها. والقول في لفظ هذه الآية كالقول في نظيرها في أول سورة الحديد[1]، إلا أن التي في أول سورة الحديد فيها {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وها هنا قال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأن فاتحة سورة الحديد تضمنت الاستدلال على عظمة الله تعالى وصفاته وانفراده بخلق السماوات والأرض فكان دليل ذلك هو مجموع ما احتوت عليه السماوات والأرض من أصناف الموجودات فجمع ذلك كله في اسم واحد هو {ما} الموصولة التي صلتها قوله: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . وأما فاتحة سورة الحشر فقد سيقت للتذكير بمن الله تعالى على المسلمين في حادثة أرضية وهي خذلان بني النضير فناسب فيها أن يخص أهل الأرض باسم موصول خاص بهم، وهي {ما} الموصولة الثانية التي صلتها {في الأرض} ، وعلى هذا المنوال جاءت فواتح سور الصف والجمعة والتغابن كما سيأتي في مواضعها. وأوثر الأخبار عن {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} بفعل المضي لأن المخبر عنه تسبيح شكر عن نعمة مضت قبل نزول السورة وهي نعمة إخراج أهل النضير.
[2] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} .
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا}
(28/58)
يجوز أن تجعل جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى آخرها استئنافا ابتدائيا لقصد إجراء هذا التمجيد على اسم الجلالة لما يتضمنه من باهر تقديره، ولما يؤذن به ذلك من التعريض بوجوب شكره على ذلك الإخراج العجيب.
يجوز أن تجعل علة لما تضمنه الخبر عن تسبيح ما في السماوات وما في والأرض من التذكير للمؤمنين والتعريض بأهل الكتاب والمنافقين الذين هم فريقان مما في الأرض فإن القصة التي تضمنها فاتحة السورة من أهم أحوالهما.
ويجوز أن تفعل مبينة لجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 1] لأن هذا التسخير العظيم من آثار عزه وحكمته.
وعلى كل الوجوه فهو تذكير بنعمة الله على المسلمين وإيماء إلى أن يشكروا الله على ذلك وتمهيد المقصود من السورة وهو قسمة أموال أبن النضير.
وتعريف جزأي الجملة بالضمير والموصول يفيد قصر صفة إخراج الذين كفروا من ديارهم عليه تعالى وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بسعي المؤمنين في ذلك الإخراج ومعالجتهم بعض أسبابه كتخريب ديار بني النضير.
ولذلك فجملة {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} تتنزل منزلة التعليل لجملة القصر.
وجملة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} عطف على العلة، أي وهم ظنوا أهل المسلمين لا يغلبونهم. وإنما لم يقل: وظنوا أن لا يخرجوا. مع أن الكلام على خروجهم، من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فعدل عنه إلى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} أي مانعتهم من إخراجهم استغناء عن ذكر المظنون بذكر علة الظن. والتقدير: وظنوا أن لا يخرجوا لأنهم تمنعهم حصونهم، أي ظنوا ظنا قويا معتمدين على حصونهم.
والمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بنو النضير بوزن أمير وهم قبيلة من اليهود استوطنوا بلاد العرب هم وبنو عمهم قريظة، ويهود خيبر، وكلهم من ذرية هارون عليه السلام وكان يقال لبني النضير وبني قريظة: الكاهنان لأن كل فريق منها من ذرية هارون وهو كائن الملة الإسرائيلية. والكهانة: حفظ أمور الديانة بيده ويد أعقابه.
وقصة استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين للشام وأرض العرب فقصروا في قتالهم وتوفي موسى قريبا من
(28/59)
ذلك. فلما عملوا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار إسرائيل في أريحا لهم قومهم: أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قرى حول يثرب المدينة وبنوا لأنفسهم حصونا وقرية سموها الزهرة. وكانت حصونهم خمسة سيأتي ذكر أسمائهما في آخر تفسير الآية، وصاروا أهل زرع وأموال. وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عاديا، وكعب بن الأشرف، وأبن أبي الحقيق، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج حلف ومعاملة، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر.
ووسموا بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم تسجيلا عليهم بهذا الوصف الذميم وقد وصفوا ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} {البقرة:89} إلى قوله: {عَذَابٌ مُهِينٌ} في سورة البقرة [90].
وعليه فحرف {من} في قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} بيانية لأن المراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود أي الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وهم أهل الكتاب وأراد بهم اليهود، فوصفوا بـ {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} لئلا يظن أن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} المشركون بمكة أو بقية المشركين بالمدينة فيظن أن الكلام وعيد.
وتفصيل القصة التي أشارت إليها الآية على ما ذكر جمهور أهل التفسير. أن بني النضير لما هاجر المسلمون إلى المدينة جاءوا فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له، ويقال: أن مصالحتهم كانت عقب وقعة بدر لما غلب المسلمون المشركين لأنهم توسموا أن لا تهزم لهم راية، فلما غلب المسلمون يوم أحد نكثوا عهدهم وراموا مصالحة المشركين بمكة، إذ كانوا قد قعدوا عن نصرتهم يوم بدر كدأب اليهود في موالاة القوي فخرج كعب بن الأشرف وهو سيد بني النضير في أربعين راكبا فحالفوا المشركين عند الكعبة على أن يكونوا عونا لهم على مقاتلة المسلمين، فلما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أمر محمد بن مسلمة أن يقتل كعب بن الأشرف فقتله غيلة في حصنه في قصة مذكورة في كتب السنة والسير.
وذكر ابن إسحاق سببا آخر وهو أنه لما انقضت وقعة بئر معونة في صفر سنة أربع كان عمرو بن أمية الضمري أسيرا عند المشركين فأطلقه عامر بن الطفيل. فلما كان راجعا إلى المدينة أقبل رجلان من بني عامر وكان لقومهما عقد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلا مع
(28/60)
عمرو بن أمية، فلما ناما عدا عليهما فقتلهما وهو يحسب أنه يثأر بهما من بني عامر الذين قتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببئر معونة، ولما قدم عمرو ابن أمية أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فعل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد قتلت قتيلين ولآدينهما"، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين إذ كان بين بني النضير وبين بني عامر حلف، وأضمر بنو النضير الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلعه الله عليه فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتهيؤ لحربهم.
ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالسير إليهم في ربيع الأول في سنة أربع من الهجرة فسار إليهم هو والمسلمون وأمرهم بأن يخرجوا من قريتهم فامتنعوا وتنادوا إلى الحرب ودس إليهم عبد الله بن أبي بن سلول أن لا يخرجوا من قريتهم وقال: إن قاتلكم المسلمون فنحن معكم لننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة "أي سدوا منافذ بعضها لبعض ليكون كل درب منها صالحا للمدافعة" وحصنوها، ووعدهم أن معه ألفين من قومه وغيرهم، وإن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وانتظروا عبد الله بن أبي بن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم قذف الله في قلوبهم الرعب فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح فأبى إلا الجلاء عن ديارهم وتشارطوا على أن يخرجوا ويحمل كل ثلاثة أبيات منهم حمل بعير مما شاؤوا من متاعهم، فجعلوا يخربون بيوتهم ليحملوا معهم ما ينتفعون به من الخشب والأبواب.
فخرجوا فمنهم من لحق بخيبر، وقليل منهم لحقوا ببلاد الشام في مدن "أريحا" وأذرعات من أرض الشام وخرج قليل منهم إلى الحيرة.
واللام في قوله: {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} لام التوقيت وهي التي تدخل على أول الزمان المجعول ظرفا لعمل مثل قوله تعالى: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] أي من وقت حياتي. وقولهم: كتب ليوم كذا. وهي بمعنى "عند". فالمعنى أنه أخرجهم عند مبدإ الحشر المقدر لهم، وهذا إيماء إلى أن الله قدر أن يخرجوا من جميع ديارهم في بلاد العرب. وهذا التقدير أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي. فالتعريف في {الحشر} تعريف العهد.
والحشر: جمع ناس في مكان قال تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِين يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} [الشعراء:36، 37].
(28/61)
والمراد به هنا: حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها، أي جمعهم للخروج، وهو بهذا المعنى يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من متفرق ديار البلاد.
وليس المراد به: حشر يوم القيامة إذ لا مناسبة له هنا ولا يلائم ذكر لفظ {أول} لأن أول كل شيء إنما يكون متحد النوع مع ما أضيف هو إليه.
وعن الحسن: أنه حمل الآية على حشر القيامة وركبوا على ذلك أوهاما في أن حشر القيامة يكون بأرض الشام وقد سبق أن ابن عباس احترز من هذا حين سمى هذه السورة سورة بني النضير وفي جعل هذا الإخراج وقتا لأول الحشر إيذان بأن حشرهم يتعاقب حتى يكمل إخراج جميع اليهود وذلك ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته إذ قال "لا يبقى دينان في جزيرة العرب". وقد أنفذه عمر بن الخطاب حين أجلى اليهود من جميع بلاد العرب. وقيل: وصف الحشر بالأول لأنه أول جلاء أصاب بني النضير، فإن اليهود أجلوا من فلسطين مرتين مرة في زمن بختنصر ومرة في زمن طيطس سلطان الروم وسلم بنو النضير ومن معهم من الجلاء لأنهم كانوا في بلاد العرب. فكان أول جلاء أصابهم جلاء بني النضير.
{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ}.
أي كان ظن المسلمين وظن أهل الكتاب متواردين على تعذر إخراج بني النضير من قريتهم بسبب حصانة حصونهم.
وكان اليهود يتخذون حصونا يأوون إليها عندما يغزوهم العدو مثل حصون خيبر.
وكان لبني النضير ستة حصون أسماؤها: الكتيبة بضم الكاف وفتح المثناة الفوقية والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء والسلالم بضم السين والنطاة بفتح النون وفتح الطاء بعدها ألف وبها تأنيث آخره والوخدة بفتح الواو وسكون الخاء المعجمة ودال مهملة وشق بفتح الشين المعجمة وتشديد القاف.
ونظم جملة {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} على هذا النظم دون أن يقال: وظنوا أن حصونهم مانعتهم ليكون الابتداء بضميرهم لأنه سيعقبه إسناد {مانعتهم} إليه فيكون الابتداء بضميرهم مشيرا إلى اغترارهم بأنفسهم أنهم في عزة ومنعة، وأن منعة حصونهم هي من شؤون عزتهم.
(28/62)
وفي تقديم {مانعتهم} وهو وصف على {حصونهم} هو اسم والاسم بحسب الظاهر أولى بأن يجعل بمرتبة المبتدأ ويجعل الوصف خبرا عنه، فعدل عن ذلك إشارة إلى أهمية منعة الحصون عند ظنهم فهي بمحل التقديم في استحضار ظنهم، ولا عبرة بجواز جعل حصونهم فاعلا باسم الفاعل وهو{مانعتهم} بناء على أنه معتمد على مسند إليه لأن محامل الكلام البليغ تجري على وجوه التصرف في دقائق المعاني فيصير الجائز مرجوحا. قال المرزوقي في شرح "باب النسب" قول الشاعر وهو منسوب إلى ذي الرمة في غير ديوان الحماسة:
فإن لم يكن إلا معرج ساعة ... قليلا فإني نافع لي قليلها
يجوز أن يكون قليلها مبتدأ و نافع خبر مقدم عليه أي لقصد الاهتمام. والجملة في موضع خبر "إن" والتقدير: إني قليلها نافع لي.
[2] {فأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَر} .
تفريع على مجموع جملتي {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} اللتين هما تعليل للقصر في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} .
وتركيب أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا تمثيل، مثل شأن الله حين يسر أسباب استسلامهم بعد أن صمموا على الدفاع وكانوا أهل عدة وعدة ولم يطل حصارهم بحال من أخذ حذره من عدوه وأحكم حراسته من جهاته فأتاه عدوه من جهة لم يكن قد أقام حراسة فيها. وهذا يشبه التمثيل الذي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور: 39].
والاحتساب: مبالغة في الحسبان، أي الظن أي من مكان لم يظنوه لأنهم قصروا استعدادهم على التحصن والمنعة ولم يعلموا أن قوة الله فوق قوتهم.
والقذف: الرمي باليد بقوة. واستعير للحصول على العاجل، أي حصل الرعب في قلوبهم دفعة دون سابق تأمل ولا حصول سبب للرعب ولذلك لم يؤت بفعل القذف في آية آل عمران [151] {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}.
والمعنى: وجعل الله الرعب في قلوبهم فأسرعوا بالاستسلام. وقذف الرعب في
(28/63)
قلوبهم هو حال من إتيان الله إياهم من حيث لم يحتسبوا فتخصيصه بالذكر للتعجيب من صنع الله، وعطفه على أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا عطف خاص على عام للاهتمام.
و {الرعب} : شدة الخوف والفزع. وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: نصرت بالرعب، أي برعب أعداء الدين.
وجملة {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} حال من الضمير المضاف إليه {قلوبهم} لأن المضاف جزء من المضاف إليه فلا يمنع مجيء الحال منه.
والمقصود التعجيب من اختلال أمورهم فإنهم وإن خربوا بيوتهم باحتيارهم لكن داعي التخريب قهري.
والإخراب والتخريب: إسقاط البناء ونقضه.
والخراب: تهدم البناء.
وقرأ الجمهور {يخربون} بسكون الخاء وتخفيف الراء المكسورة مضارع: أخرب. وقرأه أبو عمرو وحده بفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة مضارع: خرب. وهما بمعنى واحد. قال سيبويه: إن أفعلت وفعلت يتعاقبان نحو أخربته وخربته، وأفرحته وفرحته. يريد في أصل المعنى. وقد تقدم ما ذكر من الفرق بين: أنزل ونزل في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير.
وأشارت الآية إلى ما كان من تخريب بني النضير بيوتهم ليأخذوا منها ما يصلح من أخشاب وأبواب مما يحملونه معهم ليبنوا به منازلهم في مهاجرهم، وما كان من تخريب المؤمنين بقية تلك البيوت كلما حلوا بقعة تركها بنو النضير.
وقوله: {بأيديهم} هو تخريبهم البيوت بأيديهم، حقيقة في الفعل وما في تعلق به، وأما تخريبهم بيوتهم بأيدي المؤمنين فهو مجاز عقلي في إسناد التخريب الذي خربه المؤمنون إلى بني النضير باعتبار أنهم سببوا تخريب المؤمنين لما تركه بنو النضير.
فعطف {أَيْدِيَ الْمُؤْمِنِينَ} على {بأيديهم} بحيث يصير متعلقا بفعل {يخربون} استعمال دقيق لأن تخريب المؤمنين ديار بني النضير لما وجدوها خاوية تخريب حقيقي يتعلق المجرور به حقيقة.
فالمعنى: ويسببون خراب بيوتهم بأيدي المؤمنين فوقع إسناد فعل {يخربون} على
(28/64)
الحقيقة ووقع تعلق وتعليق {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} به على اعتبار المجاز العقلي، فالمجاز في التعليق الثاني.
وأما معنى التخريب فهو حقيقي بالنسبة لكلا المتعلقين فإن المعنى الحقيقي فيهما هو العبرة التي نبه عليها قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} ، أي اعتبروا بأن كان تخريب بيوتهم بفعل وكانت آلات التخريب من آلاتهم وآلات عدوهم.
والاعتبار: النظر في دلالة الأشياء على لوازمها وعواقبها وأسبابها. وهو افتعال من العبرة، وهي الموعظة. وقول القاموس: هي العجب قصور.
وتقدم في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] في سورة يوسف.
والخطاب في قوله: {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} موجه إلى غير معين. ونودي أولوا الأبصار بهذه الصلة ليشير إلى أن العبرة بحال بني النضير واضحة مكشوفة لكل ذي بصر ممن شاهد ذلك، ولكل ذي بصر يرى مواقع ديارهم بعدهم، فتكون له عبرة قدرة الله تعالى على إخراجهم وتسليط المسلمين عليهم من غير قتال. وفي انتصار الحق على الباطل وانتصار أهل اليقين على المذبذبين.
وقد احتج بهذه الآية بعض علماء الأصول لإثبات حجية القياس بناء على أنه من الاعتبار.
[3] {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} .
{وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا}.
جملة معترضة ناشئة عن جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:2]. فالواو اعتراضية، أي أخرجهم الله من قريتهم عقابا لهم على كفرهم وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر:4] ولو لم يعاقبهم الله بالجلاء لعاقبهم بالقتل والأسر لأنهم استحقوا العقاب. فلو لم يقذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا لعاقبهم بجوع الحصار وفتح ديارهم عنوة فعذبوا قتلا وأسرا.
والمراد بالتعذيب: الألم المحسوس بالأبدان بالقتل والجرح والأسر والإهانة وإلا
(28/65)
فإن الإخراج من الديار نكبة ومصيبة لكنها لا تدرك بالحس وإنما تدرك بالوجدان.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، تفيد امتناع جوابها لآجل وجود شرطها، أي وجود تقدير الله جلاءهم سبب لانتفاء تعذيب الله إياهم في الدنيا بعذاب آخر.
وإنما قدر الله لهم الجلاء دون التعذيب في الدنيا لمصلحة اقتضتها حكمته، وهي أن يأخذ المسلمون أرضهم وديارهم وحوائطهم دون إتلاف من نفوس المسلمين مما لا يخلو منه القتال لأن الله أراد استبقاء قوة المسلمين لما يستقبل من الفتوح، فليس تقدير الجلاء لهم القصد اللطف بهم وكرامتهم وإن كانوا قد آثروه على الحرب.
ومعنى {كتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ} قدر لهم تقديرا كالكتابة في تحقيق مضمونه وكان مظهر هذا التقدير الإلهي ما تلاحق بهم من النكبات من جلاء النضير ثم فتح قريظة ثم فتح خيبر.
والجلاء: الخروج من الوطن بنية عدم العود، قال زهير:
فإن الحق مقطعة ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
واعلم أن {أن} الواقعة بعد {لولا} هنا مصدرية لأن {أن} الساكنة النون إذا لم تقع بعد فعل علم يقين أو ظن ولا بعد ما فيه معنى القول، فهي مصدرية وليست مخففة من الثقيلة.
{وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّار} .
عطف على جملة {لولا َوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ} الآية، أو على جملة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحشر: 2] الآيات، وليس عطفا على جواب {لولا} فإن عذاب النار حاق عليهم وليس منتفيا. والمقصود الاحتراس من توهم أن الجلاء بدل من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة.
[4] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
الإشارة إلى جميع ما ذكر من إخراج الذين كفروا من ديارهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وتخريب بيوتهم، وإعداد العذاب لهم في الآخرة.
والباء للسببية وهي جارة للمصدر المنسبك من "أن" وجملتها.
(28/66)
والمشاقة: المخاصمة والعداوة قال تعالىْ: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] وقد تقدم نظيره في أول الأنفال.
والمشاقة كالمحادة مشتقة من الاسم. وهو الشق، كما اشتقت المحادة من الحد، كما تقدم في أول سورة المجادلة. وتقدم في سورة النساء[35] {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} .
وقد كان بنو النضير ناصبوا المسلمين العداء بعد أن سكنوا المدينة وأضروا المنافقين وعاهدوا مشركي أهل مكة كما علمت آنفا.
وجملة {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تذييل، أي شديد العقاب لكل من يشاققه من هؤلاء وغيرهم.
وعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم على اسم الجلالة في الجملة الأولى لقصر تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن طاعته طاعة لله لأنه إنما يدعو إلى ما أمره الله بتبليغه ولم يعطف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية استغناء بما علم من الجملة الأولى.
وأدغم القافان في {يشاق} لأن الإدغام والإظهار من مثله جائزان في العربية. وقرئ بهما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} في سورة العقود[217]. والفك لغة الحجاز. والإدغام لغة بقية العرب.
وجملة {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} دليل جواب {من} الشرطية إذ التقدير: ومن يشاقق الله فالله معاقبهم إنه شديد العقاب.
[5] {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}.
استئناف ابتدائي أفضى به إلى المقصد عن السورة عن أحكام أموال بني النضير وإشارة الآية إلى ما حدث في حصار بني النضير وذلك أنهم قبل أن يستسلموا اعتصموا بحصونهم فحاصرهم المسلمون وكانت حوائطهم خارج قريتهم وكانت الحوائط تسمى البويرة بضم الباء الموحدة وفتح الواو وهي تصغير بؤر بهمزة مضمومة بعد الباء فخففت واوا عمد بعض المسلمين إلى قطع بعض نخيل النضير قيل بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم وقيل بدون أمره ولكنه لم يغيره عليهم. فقيل كان ذلك ليوسعوا مكانا لمعسكرهم، وقيل لتخويف بني
(28/67)
النضير ونكايتهم، وأمسك بعض الجيش عن قطع النخيل وقالوا: لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقد ذكر أن النخلات التي قطعت ست نخلات أو نخلتان. فقالت اليهود: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر، وهل وجدت فيما أنزل عليك إباحة الفساد في الأرض فأنزل الله هذه الآية.
والمعنى: أن ما قطعوا من النخل أريد به مصلحة إلجاء العدو إلى الاستسلام وإلقاء الرعب في قلوبهم وإذلالهم بأن يروا أكرم أموالهم عرضة للإتلاف بأيدي المسلمين، وأن ما أبقي لم يقطع في بقائه مصلحة لأنه آيل إلى المسلمين فيما أفاء الله عليهم فكان في كلا القطع والإبقاء مصلحة فتعارض المصلحتان فكان حكم الله تخيير المسلمين. والتصرف في وجوه المصالح يكون تابعا لاختلاف الأحوال، فجعل الله القطع والإبقاء كليهما بإذنه، أي مرضيا عنده، فأطلق الإذن على الرضى على سبيل الكناية، أو أطلق إذن الله على إذن رسوله صلى الله عليه وسلم إن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن بذلك ابتداء، ثم أمر بالكف عنه.
وكلام الأئمة غير واضح في إذن النبي صلى الله عليه وسلم فيه ابتداء وأظهر أقوالهم قول مجاهد: إن القطع والامتناع منه كان اختلافا بين المسلمين، وأن الآية نزلت بتصديق من نهي عن قطعه، وتحليل من قطعه من الإثم. وفي ذلك قال حسان ابن ثابت يتورك على المشركين بمكة إذ غلب المسلمون بني النضير أحلافهم ويتورك على بني النضير إذ لم ينصرهم أحلافهم المشركون من قريش:
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
يريد سراة أهل مكة وكلهم من بني لؤي بن غالب بن فهر، وفهر هو قريش أي لم ينقذوا أحلافهم لهوانهم عليهم.
وأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومئذ مشرك:
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها السعير
ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تضير
يريد أن التحريق وقع بنواحي مدينتكم فلا يضير إلا أرضكم ولا يضير أرضنا، فقوله: أدام الله ذلك من صنيع، تهكم.
ومن هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أن تحريق دار العدو وتخريبها وقطع
(28/68)
ثمارها جائز إذا دعت إليه المصلحة المتعينة وهو قول مالك. وإتلاف بعض المال لإنقاذ باقيه مصلحة وقوله: {مِنْ لِينَةٍ} بيان لما في قوله: {مَا قَطَعْتُمْ} .
واللينة: النخلة ذات الثمر الطيب تطلق اسم اللينة على كل نخلة غير العجوة والبرمني في قول الجمهور أهل المدينة وأئمة اللغة. وتمر اللينة يسمى اللون.
وإيثار {لينة} على نخلة لأنه أخف ولذلك لم يرد لفظ نخلة مفردا في القرآن، وإنما ورد النخل اسم جمع.
قال أهل اللغة ياء لينة أصلها واو انقلبت ياء لوقوعها إثر كسرة ولم يذكروا سبب كسر أوله ويقال: لونة وهو ظاهر.
وفي كتب السيرة يذكر أن بعض نخل بني النضير أحرقه المسلمون وقد تضمن ذلك شعر حسان ولم يذكر القرآن الحرق فلعل خبر الحرق مما أرجف به فتناقله بعض الرواة، وجرى عليه شعر حسان وشعر أبي سفيان بن الحارث، أو أن النخلات التي قطعت أحرقها الجيش للطبخ أو للدفء.
وجيء بالحال في قوله: {قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} لتصوير هيئتها وحسنها. وفيه إيماء إلى أن ترك القطع أولى. وضمير {أصولها} عائد إلى {ما} الموصولة في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ} . } لأن مدلول {ما} هنا جمع وليس عائد إلى {لينة} لأن اللينة ليس لها عدة أصول بل لكل لينة أصل واحد.
وتعلق {عَلَى أُصُولِهَا} بـ {قائمة} . والمقصود: زيادة تصوير حسنها. والأصول: القواعد. والمراد هنا: سوق النخل قال تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم: 24]. ووصفها بأنها {قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} هو بتقدير: قائمة فروعها على أصولها لظهور أن أصل النخلة بعضها.
والفاء من قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} مزيدة في خبر المبتدأ لأنه اسم موصول، واسم الموصول يعامل معاملة الشرط كثيرا إذا ضمن معنى التسبب، وقد قرئ بالفاء وبدونها قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} في سورة الشورى. [30]
وعطف {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} من عطف العلة على السبب وهو {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} لأن السبب في معنى العلة، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية في آل عمران[166].
(28/69)
والمعنى: فقطع ما قطعتم من النخل وترك ما تركتم لأن الله أذن للمسلمين به لصلاح لهم فيه، {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ، أي ليهين بني النضير فيروا كرائم أموالهم بعضها مخضود وبعضها بأيدي أعدائهم. فذلك عزة للمؤمنين وخزي للكافرين والمراد ب {الفاسقين} هنا: يهود النضير.
وعدل عن الإتيان بضميرهم كما أتي بضمائرهم من قبل ومن بعد إلى التعبير عنهم بوصف {الفاسقين} لأن الوصف المشتق يؤذن بسبب ما اشتق منه في ثبوت الحكم، أي ليجزيهم لأجل الفسق.
والفسق: الكفر.
[6] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يشاء والله على كل شيء قدير} .
يجوز أن يكون عطفا على جملة {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5 ] الآية فتكون امتنانا وتكملة لمصارف أموال بني النضير.
ويجوز أن تكون عطفا على مجموع ما تقدم عطف القصة على القصة والغرض على الغرض للانتقال إلى التعريف بمصير موال بني النضير لئلا يختلف رجال المسلمين في قسمته. ولبيان أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة أموال بني النضير هو عدل إن كانت الآية نزلت بعد القسمة وما صدق {مَا أَفَاءَ اللَّهُ} هو ما تركوه من الأرض والنخل والنقض والحطب.
والفيء معروف في اصطلاح الغزاة ففعل أفاء أعطى الفيء، فالفيء في الحروب والغارات ما يظفر به الجيش من متاع عدوهم وهو أعم من الغنيمة ولم يتحقق أئمة اللغة في أصل اشتقاقه فيكون الفيء بقتال ويكون بدون قتال وأما الغنيمة فهي ما أخذ بقتال.
وضمير {منهم} عائد إلى {الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] الواقع في أول السورة وهم بنو النضير. وقيل: أريد به الكفار، وأنه نزل في فيء فدك فهذا بعيد ومخالف للآثار.
وقوله: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} خبر عن "ما" الموصولة قرن بالفاء لأن الموصول كالشرط لتضمنه معنى التسبب كما تقدم آنفا في قوله: {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5].
(28/70)
وهو بصريحه امتنان على المسلمين بأن الله ساق لهم أموال بني النضير دون قتال، مثل قوله تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]، ويفيد مع ذلك كناية بأن يقصد بالإخبار عنه بأنهم لم يوجفوا عليه لازم الخبر وهو أنه ليس لهم سبب حق فيه. والمعنى: فما هو من حقكم، أو لا تسألوا قسمته لأنكم لم تنالوه بقتالكم ولكن الله أعطاه رسوله صلى الله عليه وسلم نعمة منه بلا مشقة ولا نصب.
والإيجاف: نوع من سير الخيل. وهو سير سريع بإيقاع وأريد به الركض للإغارة لأنه يكون سريعا.
والركاب: اسم جمع للإبل التي تركب. والمعنى: ما أغرتم عليه بخيل ولا إبل.
وحرف {على} في قوله تعالى: ف {فمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} للتعليل، وليس لتعدية {أوجفتم} لأن معنى الإيجاف لا يتعدى إلى الفيء بحرف الجر، أو متعلق بمحذوف وهو مصدر {أوجفتم}، أي إيجافا لأجله.
و {من} في قوله: {من خيل} زائدة داخلة على النكرة في سياق النفي ومدخول {من} في معنى المفعول به ل {أوجفتم} أي ما سقتم خيلا ولا ركابا.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} استدراك على النفي الذي في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} لرفع توهم أنه لا حق فيه لأحد. والمراد: أن الله سلط عليه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالرسول أحق به. وهذا التركيب يفيد قصرا معنويا كأنه قيل: فما سلطكم الله عليهم ولكن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} إيجاز حذف لأن التقدير: ولكن الله سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم. والله يسلط رسله على من يشاء وكان هذا بمنزلة التذييل لعمومه وهو دال على المقدر.
وعموم {مَنْ يَشَاءُ} لشمول أنه يسلط رسله على مقاتلين ويسلطهم على غير المقاتلين.
والمعنى: وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو بتسليط الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلقاء الرعب في قلوبهم والله يسلط رسله على من يشاء. فأغنى التذييل عن المحذوف، أي فلا حق لكم فيه فيكون من مال الله يتصرف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور من بعده.
(28/71)
فتكون الآية تبيينا لما وقع في قسمة فيء بني النضير. ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقسمه على جميع الغزاة ولكن قسمه على المهاجرين سواء كانوا ممن غزوا معه أم لم يغزوا إذ لم يكن للمهاجرين أموال. فأراد أن يكفيهم ويكفي الأنصار ما منحوه المهاجرين من النخيل. ولم يعط منه الأنصار إلا ثلاثة لشدة حاجتهم وهم أبو دجانة سماك ابن خزينة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وأعطى سعد بن معاذ سيف أبي الحقيق، وكل ذلك تصرف باجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الله جعل تلك الأموال له.
فإن كانت الآية نزلت بعد أن قسمت أموال النضير كانت بيانا بأن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم حق، أمره الله به، أو جعله إليه، وإن كانت نزلت قبل القسمة، إذ روي أن سبب نزولها أن الجيش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تخميس أموال بني النضير مثل غنائم بدر فنزلت هذه الآية، وكانت الآية تشريعا لاستحقاق هذه الأموال.
قال أبو بكر بن العربي لا خلاف بين العلماء أن الآية الأولى خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه الآية الأولى من الآيتين المذكورتين في هذه السورة خاصة بأموال بني النضير، وعلى أنها خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء. وبذلك قال عمر بن الخطاب بمحضر عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد، وهو قول مالك فيما روى عنه ابن القاسم وابن وهب. قال: كانت أموال بني النضير صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفقوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمسها. واختلف في القياس عليها كل مال لم يوجف عليه،قال ابن عطية: قال بعض العلماء وكذلك كل ما فتح الله على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة اهـ. وسيأتي تفسير ذلك في الآية بعدها.
[7] {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}.
جمهور العلماء جعلوا هذه الآية ابتداء كلام، أي على الاستئناف الابتدائي، وأنها قصد منها حكم غير الحكم الذي تضمنته الآية التي قبلها. ومن هؤلاء مالك وهو قول الحنفية فجعلوا مضمون الآية التي قبلها أموال بني النضير خاصة، وجعلوا الآية الثانية هذه إخبارا عن حكم الأفياء التي حصلت عند فتح قرى أخرى بعد غزوة بني النضير. مثل
(28/72)
قريضة سنة خمس وفدك سنة سبع، ونحوهما فعينته هذه الآية للأصناف المذكورة فيها، ولا حق في ذلك لأهل الجيش أيضا وهذا الذي يجري على وفاق كلام عمر بن الخطاب في قضائه بين العباس وعلي فيما بأيديهما من أموال بني النضير على احتمال فيه، وهو الذي يقتضيه تغيير أسلوب التعبير بقوله هنا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} بعد أن قال التي في قبلها {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} [الحشر: 6] فإن ضمير {منهم} راجع ل {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: من 2] وهم بنو النضير لا محالة. وعلى هذا القول يجوز أن تكون هذه الآية نزلت بعد مدة فإن فتح القرى وقع بعد فتح النضير بنحو سنتين.
ومن العلماء من جعل هذه الآية كلمة وبيانا للآية التي قبلها، أي بيانا للإجماع الواقع في قوله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآية [الحشر:6] لأن الآية التي قبلها اقتصرت على الإعلام بأن أهل الجيش لا حق لهم فيه، ولم تبين مستحقه وأشعر قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [الحشر: 6] أنه مال لله تعالى يضعه حيث يشاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم فقد بين الله له مستحقيه من غير أهل الجيش. فموقع هذه الآية من التي قبلها موقع عطف البيان. ولذلك فصلت.
وممن قال بهذا الشافعي وعليه جرى تفسير صاحب الكشاف. ومقتضى هذا أن تكون أموال بني النضير مما يخمس ولم يرو أحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسها بل ثبت ضده، وعلى هذا يكون حكم أموال بني النضير حكما خاصا، أو تكون هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها إن كانت نزلت بعدها بمدة.
قال ابن الفرس: آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} . وهذه الآية من المشكلات إذا نظرت مع الآية التي قبلها ومع آية الغنيمة من سورة الأنفال. ولا خلاف في أن قوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} الآية [الحشر: 6] إنما نزلت فيما صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال الكفار بغير إيجاف، وبذلك فسرها عمر ولم يخالفه أحد.
وأما آية الأنفال فلا خلاف أنها نزلت فيما صار من أموال الكفار بإيجاف، وأما الآية الثانية من الحشر فاختلف أهل العلم فيها فمنهم من أضافها إلى التي قبلها، ومنهم من أضافها إلى آية الأنفال وأنهما نزلتا بحكمين مختلفين في الغنيمة الموجف عليها، وأن آية الأنفال، نسخت آية الحشر.
ومنهم من قال: إنها نزلت في معنى ثالث غير المعنيين المذكورين في الآيتين:
(28/73)
واختلف الذاهبون إلى هذا: فقيل نزلت في خراج الأرض والجزية دون بقية الأموال وقيل نزلت في حكم الأرض خاصة دون سائر أموال الكفار فتكون تخصيصا لآية الأنفال وإلى هذا ذهب مالك. والآية عند أهل هذه المقالة غير منسوخة. ومنهم من ذهب إلى تخيير الإمام اهـ.
والتعريف في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} تعريف العهد وهي قرى معروفة عدت منها قريظة، وفدك، وقرى عرينة، والينبع، ووادي القرى، والصفراء، فتحت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واختلف الناس في فتحها أكان عنوة أو صلحا أو فيئا. والأكثر على أن فدك كانت مثل النضير.
ولا يختص جعله للرسول بخصوص ذات الرسول صلى الله عليه وسلم بل مثله فيه أئمة المسلمين.
وتقييد الفيء بفيء القرى جرى على الغالب لأن الغالب أن لا تفتح إلا القرى لأن أهلها يحاصرون فيستسلمون ويعطون بأيديهم إذا اشتد عليهم الحصار، فأما النازلون بالبوادي فلا يغلبون إلا بعد إيجاف وقتال فليس لقيد {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} مفهوم عندنا، وقد اختلف الفقهاء في حكم الفيء الذي يحصل للمسلمين بدون إيجاف. فمذهب مالك أنه لا يخمس وإنما تخمس الغنائم وهي ما غنمه المسلمون بإيجاف وقتال.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين. فأما غير الأرضين فهو مخمس، وأما الأرضون فالخيار فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسهما وخمس أهلها فهم أرقاء، وإن شاء تركها على ملك أهلها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.
وذهب الشافعي: إلى أن جميع أموال الحرب مخمسة وحمل حكم هاته الآية على حكم آية سورة الأنفال بالتخصيص أو بالنسخ.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل بين الأموال غير الأرضين وبين الأرضين فأما غير الأرضين فهو مخمس وأما الأرضون فالتفويض فيها للإمام بما يراه أصلح إن شاء قسمها وخمس أهلها فهم أرقاء وإن شاء أقر أهلها بها وجعل خراجا عليها وعلى أنفسهم.
وهذه الآية اقتضت أن صنفا مما أفاء الله على المسلمين لم يجعل الله فيه نصيبا للغزاة وبذلك تحصل معارضة بين مقتضاها وبين قصر آية الأنفال التي لم تجعل لمن ذكروا في هذه الآية إلا الخمس فقال جمع من العلماء: إن آية الأنفال نسخت حكم هذه الآية.
(28/74)
وقال جمع: هذه الآية نسخت آية الأنفال. وقال قتادة: كانت الغنائم في صدر الإسلام لهؤلاء الأصناف الخمسة ثم نسخ ذلك بآية الأنفال، بذلك قال زيد بن رومان: قال القرطبي ونحوه عن مالك اهـ. على أن سورة الأنفال سابقة في النزول على سورة الحشر لأن الأنفال نزلت في غنائم بدر وسورة الحشر نزلت بعدها بسنتين.
إلا أن يقول قائل: إن آية الأنفال نزلت بعد آية الحشر تجديدا لما شرعه الله من التخميس في غنائم بدر، أي فتكون آية الحشر ناسخة لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة مغانم بدر،ثم نسخت آية الأنفال آية الحشر فيكون إلحاقها بسورة الأنفال بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم. وقال القرطبي: قيل إن سورة الحشر نزلت بعد الأنفال، واتفقوا على أن تخميس الغنائم هو الذي استقر عليه العمل، أي بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبالإجماع.
وليس يبعد عندي أن تكون القرى التي عنتها آية الحشر فتحت بحالة مترددة بين مجرد الفيء وبين الغنيمة، فشرع لها حكم خاص بها، وإذ قد كانت حالتها غير منضبطة تعذر أن نقيس عليها ونسخ حكمها واستقر الأمر على انحصار الفتوح في حالتين: حالة الفيء المجرد وما ليس مجرد فيء. وسقط حكم آية الحشر بالنسخ أو بالإجماع. والإجماع على مخالفة حكم النص يعتبر ناسخا لأنه يتضمن ناسخا. وعن معمر أنه قال: بلغني أن هذه الآية أي آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} نزلت في أرض الخراج والجزية.
ومن العلماء من حملها على أرض الكفار إذا أخذت عنوة مثل سواد العراق دون ما كان من أموالهم غير أرض. كل ذلك من الحيرة في الجمع بين هذه الآية وآية سورة الأنفال مع أمها متقدمة على هذه مع ما روي عن عمر في قضية حكمه بين العباس وعلي، ومع ما فعله عمر في سواد العراق، وقد عرفت موقع الكل. وستعرف وجه ما فعله عمر في سواد العراق عند الكلام على قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10].
ومن العلماء من جعل محمل هذه الآية على الغنائم كلها بناء على تفسيرهم الفيء بما يرادف الغنيمة. وزعموا أنها منسوخة بآية النفال. وتقدم ما هو المراد من ذكر اسم الله تعالى في عداد من لهم المغانم والفيء والأصناف المذكورة في هذه الآية تقدم بيانا في سورة الأنفال.
و {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} الخ تعليل لما اقتضاه لام التمليك من جعله ملكا لأصناف كثيرة الأفراد، أي جعلناه مقسوما على هؤلاء لأجل أن لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء
(28/75)
من المسلمين، ي لئلا يتداوله الأغنياء ولا ينال أهل الحاجة نصيب منه.
والمقصود من ذلك. إبطال ما كان معتادا بين العرب قبل الإسلام من استئثار قائد الجيش بأمور من المغانم وهي: المرباع، والصفايا، وما صالح عليه عدوه دون قتال، والنشيطة والفضول.
قال عبد الله بن غنمة الضبي يخاطب بسطام بن قيس سيد بني شيبان وقائدهم في أيامهم:
لك المرباع منه والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
فالمرباع: ربع المغانم كان يستأثر به قائد الجيش.
والصفايا: النفيس من المغانم الذي لا نظير له فتعذر قسمته، كان يستأثر به قائد الجيش، وأما حكمه فهو ما أعطاه العدو من المال إذا نزلوا على حكم أمير الجيش.
والنشيطة: ما يصيبه الجيش في طريقه من مال عدوهم قبل أن يصلوا إلى موضع القتال.
والفضول: ما يبقى بعد قسمة المغانم مما لا يقبل القسمة على رؤوس الغزاة مثل بعير وفرس.
وقد أبطل الإسلام ذلك كله فجعل الفيء مصروفا إلى ستة مصارف راجعة فوائدها إلى عموم المسلمين لسد حاجاتهم العامة والخاصة، فإن ما هو لله وللرسول صلى الله عليه وسلم إنما يجعله الله لما يأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل الخمس من المغانم كذلك لتلك المصارف.
وقد بدأ من هذا التعليل أن من مقاصد الشريعة أن يكون المال دولة بين الأمة الإسلامية على نظام محكم في انتقاله من كل مال لم يسبق عليه ملك لأحد مثل الموات، والفيء، واللقطات، والركاز، أو كان جزءا معينا مثل: الزكاة، والكفارات، وتخميس المغانم، والخراج، والمواريث، وعقود المعاملات التي بين جانبي مال وعمل مثل: القراض، والمغارسة، والمساقاة، وفي الأموال التي يظفر بها الظافر بدون عمل وسعي مثل: الفيء والركائز، وما ألقاه البحر، وقد بينت ذلك في الكتاب الذي سميته "مقاصد الشريعة الإسلامية" .
والدولة بضم الدال: ما يتداوله المتداولون. والتداول: التعاقب في التصرف في
(28/76)
شيء. وخصها الاستعمال بتداول الأموال.
والدولة بفتح الدال: النوبة في الغلبة والملك. ولذلك أجمع القراء المشهورون على قراءتها في هذه الآية بضم الدال.
وقرأ الجمهور {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} بنصب {دولة} على أنه خبر {يكون} . واسم {يكون} ضمير عائد إلى ما أفاء الله وقرأه هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر برفع {دولة} على أن {يكون} تامة و {دولة} فاعله.
وقرأ الجمهور {يكون} بتحتية في أوله. وقرأه أبو جعفر {تكون} بمثناة فوقية جريا على تأنيث فاعله. واختلف الرواة عن هشام فبعضهم روى عنه موافقة أبي جعفر في تاء {تكون} وبعضهم روى عنه موافقة الجمهور في الياء.
والخطاب في قوله تعالى: {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} للمسلمين لأنهم الذين خوطبوا في ابتداء السورة بقوله: {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] ثم قوله: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} وما بعده. وجعله ابن عطية خطاب للأنصار لأن المهاجرين لم يكن لهم في ذلك الوقت غنى.
والمراد بـ {الأغنياء} الذين هم مظنة الغنى، وهم الغزاة لأنهم أغنياء بالمغانم والأنفال.
[7] {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
اعتراض ذيل به حكم فيء بني النضير إذ هو أمر بالأخذ بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومما جاءت به هذه الآيات في شأن فيء النضير،والواو اعتراضية، والقصد من هذا التذييل إزالة ما في نفوس بعض الجيش من حزازة حرمانهم مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أرض النضير.
والأيتاء مستعار لتبليغ الأمر إليهم جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كما قال تعالى {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63 ،93] واستعير الأخذ أيضا لقبول الأمر والرضى به والعمل.
وقرينة ذلك مقابلته بقوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وهو تتميم لنوعي التشريع. وهذه الآية جامعة للأمر باتباع ما يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم من قول وفعل فيندرج فيها جميع أدلة السنة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن الله الواشمات والمستوشمات". .. الحديث. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم
(28/77)
يعقوب فجاءته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال لها: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله? فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
وعطف على هذا الأمر تحذير من المخالفة فأمرهم بتقوى الله فيما أمر به على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطف الأمر بالتقوى على الأمر بالأخذ بالأوامر وترك المنهيات يدل على أن التقوى هي امتثال الأمر واجتناب النهي.
والمعنى: واتقوا عقاب الله لأن الله شديد العقاب، أي لمن خالف أمره واقتحم نهيه.
[8] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
بدل مما يصلح أن يكون بدر منه من أسماء الأصناف المتقدمة التي دخلت عليها اللام مباشرة وعطفا قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] بدل بعض من كل.
وأول فائدة في هذا البدل التنبيه على أن ما أفاء الله على المسلمين من أهل القرى المعنية في الآية لا يجري قسمه على ما جرى عليه قسم أموال بني النضير التي اقتصر في قسمها على المهاجرين وثلاثة من الأنصار ورابع منهم، فكأنه قيل: ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل للفقراء منهم لا مطلقا يدخل في ذلك المهاجرون والأنصار والذين آمنوا بعدهم.
وأعيد اللام مع البدل لربطه بالمبدل منه لانفصال ما بينهما بطول الكلام من تعليل وتذييل وتحذير. ولإفادة التأكيد.
وكثير ما يقترن البدل العامل في المبدل منه على وجه التأكيد اللفظي، وتقدم في قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} في سورة العقود[114]. فبقى احتمال أن يكون قيدا {لِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7]، فيتعين أن يكون قوله {للفقراء} إلى آخره مسوقا لتقييد استحقاق هؤلاء الأصناف وشأن القيود الواردة بعد مفردات أن ترجع إلى جميع ما قبلها، فيقتضي هذا أن يشترط الفقر في كل صنف من هذه
(28/78)
الأصناف الأربعة، لأن مطلقها قد قيد بقيد عقب إطلاق، والكلام بأواخره فليس يجري الاختلاف في حمل المطلق على المقيد، ولا تجري الصور الأربعة في حمل المطلق على المفيد من اتحاد حكمهما وجنسهما. ولذلك قال مالك وأبو حنيفة: لا يعطي ذوو القربى إلا إذا كانوا فقراء لأنه عوض لهم عما حرموه من الزكاة. وقال الشافعي وكثير من الفقهاء: يشترط الفقر فيما عدا ذوي القربى لأنه حق لهم لأجل القرابة للنبي صلى الله عليه وسلم. قال إمام الحرمين: أغلظ الشافعي الرد على مذهب أبي حنيفة بأن الله علق الاستحقاق بالقرابة ولم يشترط الحاجة، فاشتراطها وعدم اعتبار القرابة يضاره ويحاده.
قلت: هذا محل النزاع فإن الله ذكر وصف اليتامى ووصف ابن السبيل ولم يشترط الحاجة.
واعتذر إمام الحرمين للحنفية بأن الصدقات لما حرمت على ذوي القربى كانت فائدة وذكرهم في خمس الفيء والمغانم أنه لا يمنع صرفه إليهم امتناع صرف الصدقات، ثم قال: لا تغتر بالاعتذار فإن الآية نص على ثبوت الاستحقاق تشريفا اهم فمن علله بالحاجاة فوت هذا المعنى اهـ.
وعند التأمل تجد أن هذا الرد مدخول، والبحث فيه يطول. ومحله مسائل الفقه والأصول.
ومن العلماء والمفسرين من جعل جملة {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} ابتدائية على حذف المبتدأ. والتقدير ما أفاء الله على رسوله للمهاجرين الفقراء إلى آخر ما عطف عليه فتكون هذه مصارف أخرى للفيء، ومنهم من جعلها بحذف حرف العطف على طريقة التعداد كأنه قيل: فلله وللرسول، إلى آخره، ثم قيل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} . فعلى هذين القولين ينتفي كونها قيد للجملة التي قبلها، وتنفتح طرائف أخرى في حمل المطلق على المقيد، والاختلاف في شروطها الحمل، وهي طرائف واضحة للمتأمل، وعلى الوجه الأول يكون المعول.
ووصف المهاجرين بالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم تنبيها على أن إعطاءهم مراعى جبر ما نكبوا به من ضياع الأموال والديار، ومراعى فيه إخلاصهم الإيمان وأنهم مكررون نصر دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فذيل بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} .
واسم الإشارة لتعظيم شأنهم وللتنبيه على أن استحقاقهم وصف الصادقين لأجل ما
(28/79)
سبق اسم الإشارة من الصفات وهي أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم وابتغاؤهم فضلا من الله ورضوانا ونصرهم الله ورسوله فإن الأعمال الخالصة فيما عملت لأجله يشهد للإخلاص فيها ما يلحق عاملها من مشاق وأذى وإضرار، فيستطيع أن يخلص منها لو ترك ما عمله لأجلها أو قصر فيه.
وجملة {هُمُ الصَّادِقُونَ} مفيدة القصر لأجل ضمير الفصل وهو قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بالصدق الكامل كأن صدق غيرهم ليس صدقا في جانب صدقهم.
وموقع قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} كموقع قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة[5].
[9] {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
الأظهر أن {الذين} عطف على {المهاجرين} أي والذين تبؤوا الدار هم الأنصار.
والدر تطلق على البلاد، وأصلها موضع القبيلة من الأرض. وأطلقت على القرية قال تعالى في ذكر ثمود {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [االأعراف: 78]، أي في مدينتهم وهي حجر ثمود.
والتعريف هنا للعهد لأن امراد بالدار: يثرب والمعنى الذين هم أصحاب الدار. هذا توطئة لقوله: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} .
والتبوء: اتخاذ المباءة وهي البقعة التي يبوء إليها صاحبها، أي يرجع إليها بعد انتشاره في أعماله. وفي موقع قوله {والإيمان} غموض إذ لا يصح أن يكون مفعول لفعل تبؤوا، فتأوله المفسرون على وجهين: أحدهما أن يجعل الكلام استعارة مكنية بتشبيه الإيمان بالمنزل وجعل إثبات التبؤ تخييلا فيكون فعل تبوأوا مستعملا في حقيقته ومجازه.
وجمهور المفسرين جعلوا المعطوف عاملا مقدرا يدل عليه الكلام، وتقديره: واخلصوا الإيمان على نحو قول الراجز الذي لا يعرف:
(28/80)
علفتها تبنا وماء باردا1
وقول عبد الله بن الزبعرى:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا
أي وممسكا رمحا وهو الذي درج عليه الكشاف. وقيل الواو للمعية. و{الإيمان} مفعول معه.
وعندي أن هذا أحسن الوجوه، وإن قل قائلوه. والجمهور يجعلون النصب على المفعول معه سماعيا فهو عندهم قليل الاستعمال فتجنبوا تخرج آيات القران عليه حتى ادعى ابن هشام في مغني اللبيب أنه غير واقع في القرآن بيقين. وتأويل قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71]، ذلك لأن البصرين يشترطون أن يكون العامل في المفعول معه هو العامل في الاسم الذي صاحبه ولا يرون واو المعية ناصبة المفعول معه خلافا للكوفيين والأخفش فإن الواو عندهم بمعنى "مع". وقال عبد القاهر: منصوب بالواو.
والحق عدم التزام أن يكون المفعول معه معمولا للفعل، ألا ترى صحة قول القائل: استوى الماء والخشبة. وقولهم: سرت والنيل، وهو يفيد الثناء عليهم بأن دار الهجرة دارهم آووا إليها المهاجرين لأنها دار مؤمنين لا يماثلها يومئذ غيرها.
وبذلك يتضح أن متعلق {مِنْ قَبْلِهِمْ} فعل {تبوءوا} بمفرده، وأن المجرور المتعلق به قيد فيه دون ما ذكر بعد الواو لأن الواو ليست واو عطف فلذلك لا تكون قائمة مقام الفعل السابق لأن واو في معنى ظرف فلا يعلق بها مجرور.
وفي ذكر الدار وهي المدينة مع ذكر الإيمان إيماء إلى فضيلة المدينة بحيث جعل تبؤهم المدينة قرين الثناء عليهم بالإيمان ولعل هذا هو الذي عناه مالك رحمة الله فيما رواه عنه ابن وهب قال: سمعت مالكا يذكر فضل المدينة على غيرها من لآفاق. فقال:
ـــــــ
1 هو من شواهد النحو. والمشهور أن تمامه:
حتى شتت همالة عيناها.
وفي خزانة الأدب عن حاشية الشييرازي واليمني للكشاف أنه عجز رجز وأن صدره:
لما حططت الرجل عنها وأراد .
قال: ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من صحاح الجوهري أنه لذي المرمة ولم أجده في ديوانه.
(28/81)
إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية.
وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} حال من الذين تبوءوا، وهذا ثناء عليهم بما تقرر في نفوسهم من أخوة الإسلام إذ أحبوا المهاجرين، وشأن القبائل أن يتحرجوا من الذين يهاجرون إلى ديارهم لمضايقتهم.
ومن آثار هذه المحبة ما ثبت في الصحيح من خبر سعد بن الربيع مع عبد الرحمان بن عوف إذ عرض سعد عليه أن يقاسمه ماله وأن ينزل له عن إحدى زوجتيه، وقد أسكنوا المهاجرين معهم في بيوتهم ومنحوهم من نحيلهم، وحسبك الأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار.
وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أريد بالوجدان الإدراك العقلي، وكنى بانتفاء وجدان الحاجة من انتفاء وجودها لأنها لو كانت موجودة لأدركوها في نفوسهم وهذا من باب قول الشاعر:
ولا ترى الضب بها ينجحر
والحاجة في الأصل: اسم مصدر الحوج وهو الاحتياج، أي الافتقار إلى شيء، وتطلق على الأمر المحتاج إليه من إطلاق المصدر على اسم المفعول، وهي هنا مجاز في المأرب والمراد، وإطلاق الحاجة إلى المأرب مجاز مشهور ساوى الحقيقة كقوله تعالى: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]، أي لتبلغوا في السفر عليها المأرب الذي تسافرون لأجله، وكقوله تعالى: {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} [يوسف: 68] أي مأربا مهما وقول النابغة:
أيام تخبرني نعم وأخبرها
ما أكتم الناس من حاجي وإسراري
وعليه فتكون "من" في قوله: {مِمَّا أُوتُوا} ابتدائية، أي مأربا أو رغبة ناشئة من فيء أعطيه المهاجرون. والصدور مراد بها النفوس جمع الصدر وهو الباطن الذي فيه االحواس الباطنة وذلك كإطلاق القلب على ذلك.
"وما أوتوا" هو فيء بني النضير.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {لَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} وضمير {أوتوا} عائد إلى {مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} ، لأن من هاجر جماعة من المهاجرين فروعي في ضمير معنى "من"
(28/82)
بدون لفظها. وهذان الضميران وإن كانا ضميري غيبة وكانا مقتربين فالسامع يرد كل ضمير إلى معاده بحسب السياق مثل "ما" في قوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} في سورة الروم. وقول عباس بن مرداس يذكر انتصار المسلمين مع قومه بني سليم على هوازن:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسليمن وأحرزوا ما جمعوا
أي أحرز جيش هوازن ما جمعه جيش المسلمين.
والمعنى: أنهم لا يخامر نفوسهم تشوف إلى أخذ شيء مما أوتيه المهاجرون من فيء بني النضير.
ويجوز وجه آخر بان يحمل لفظ حاجة على استعماله الحقيقي اسم مصدر الاحتياج فإن الحاجة بهذا المعنى يصح وقوعها في الصدور لأنها من الوجدانيات والانفعالات. ومعنى نفي وجدان الاحتياج في صدورهم أنهم لفرط حبهم للمهاجرين صاروا لا يخامر نفوسهم أنهم مفتقرون إلى شيء ما يؤتاه المهاجرون، أي فهم أغنياء عما يؤتاه المهاجرون فلا تستشرف نفوسهم إلى شيء مما يؤتاه المهاجرون بله أن يتطلبوه.
وتكون "من" في قوله تعالى: {مِمَّا أُوتُوا} للتعليل، أي حاجة لأجل ما أوتيه المهاجرون، أو ابتدائية، أي حاجة ناشئة عما أوتيه المهاجرون فيفيد انتفاء وجدان الحاجة في نفوسهم وانتفاء أسباب ذلك الوجدان ومناشئه المعتادة في الناس تبعا للمنافسة والغبطة، وقد دل انتفاء أسباب الحاجة على متعلق حاجة المحذوف إذ التقدير: ولا يجدون في نفوسهم حاجة لشيء أوتيه المهاجرون.
والايثار: ترجيح شيء على غيره بمكرمة أو منفعة.
والمعنى: يؤثرون على أنفسهم في ذلك اختيارا منهم وهذا أعلى درجة مما أفاده قوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} فلذلك عقب به ولم يذكر مفعول {يؤثرون} لدلالة قوله: {مِمَّا أُوتُوا} عليه.
ومن إيثارهم المهاجرين ما روي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار ليقطع لهم قطائع بنخل البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها.
وإما إيثار الواحد منهم على غيره منهم فما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل في نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال التبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يضيف هذا الليلة" رحمه الله فقام رجل من الأنصار هو
(28/83)
أبو طلحة فقال: أنا يا رسول الله فذهب إلى أهله فقال لامرأته: هذا ضيف رسول الله لا تدخريه شيئا، فقالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالى فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. فإذا دخل الضيف فإذا أهوى ليأكل فقومي إلى السراج تري أنك تصلحينه فأطفئيه وأريه أنا نأكل. فقعدوا وأكل الضيف.
وذكرت قصص من هذا القبيل في التفاسير، قيل نزلت هذه الآية في قصة أبي طلحة وقيل غير ذلك.
وجملة {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} في موضع الحال.
و {لو} وصلية وهي التي تدل على مجرد تعليق جوابها بشرط يفيد حالة لا يظن حصول الجواب عند حصولها. والتقدير: لو كان بهم خصاصة لآثروا على أنفسهم فيعلم أن إيثارهم في الأحوال التي دون ذلك بالأحرى دون إفادة الامتناع. وقد بينا ذلك عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
والخصاصة: شدة الاحتياج.
وتذكير فعل {كان} لأجل كون تأنيث الخصاصة ليس حقيقيا، ولأنه فصل بين {كان} واسمها بالمجرور. والباء للملابسة.
وجملة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تذييل، والواو اعتراضية، فإن التذييل من قبيل الاعتراض في آخر الكلام على الرأي الصحيح. وتذييل الكلام بذكر فضل من يوقون شح أنفسهم بعد قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يشير إلأ أن إيثارهم على أنفسهم حتى في حالة الخصاصة هو سلامة من شح الأنفس فكانه قيل لسلامتهم من شح الأنفس {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
والشح بضم الشين وكسرها: غريزة في النفس بمتع ما هو لها، وهو قريب من معنى البخل. وقال الطيبي: الفرق بين الشح والبخل عسير جدا وقد أشار في الكشاف إلى الفرق بينهما بما يقتضي أن البخل أثر الشح وهو أن يمنع أحد ما يراد منه بدله وقد قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128] أي جعل الشح حاضرا معها لا يفارقها، وأضيف في هذه الآية إلى النفس لذلك فهو غريزة لا تسلم منها نفس.
وفي الحديث في بيان أفضل الصدقة "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر
(28/84)
وتأمل الغنى". ولكن النفوس تتفاوت في هذا المقدار فإذا غلب عليها بمنع المعروف والخير فذلك مذموم ويتفاوت ذمه بتفاوت ما يمنعه. قال وقد أحسن وصفه من قال، لم أقف على قايله:
يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له مهلا
فمن وقي شح نفسه، أي وقي من أن يكون الشح المذموم خلقا له، لأنه إذا وقي هذا الخلق سلم من كل مواقع ذمه. فإن وقي من بعضه كان له من الفلاح بمقدار ما وقيه.
واسم الإشارة لتعظيم هذا الصنف من الناس.
وصيغة القصر المؤداة بضمير الفصل للمبالغة لكثرة الفلاح الذي يترتب على وقاية شح النفس حتى كان جنس المفلح مقصور على ذلك الموقى.
ومن المفسرين من جعل {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} ابتداء كلام للثناء على الأنصار بمناسبة الثناء على المهاجرين وهؤلاء لم يجعلوا للأنصار حظا في ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى وقصروا قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] على قرى خاصة هي: قريظة. وفدك، وخيبر. والنفع، وعرينة، ووادي القرى، ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أفاء الله عليه فيئها قال للأنصار: "إن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه"? فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت آية {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الآية [الحشر: 7].
ومنهم من قصر هذه الآية على فيء بني النضير وكل ذلك خروج عن مهيع انتظام آي هذه السورة بعضها مع بعض وتفكيك لنظم الكلام وتناسبه مع وهن الأخبار التي رووها في ذلك فلا ينبغي التعويل عليه. وعلى هذا التفسير يكون عطف {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} عطف جملة على جملة، واسم الموصول مبتدأ وجملة {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} خبرا عن المبتدأ.
[10] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
عطف على {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر:9] على التفسيرين المتقدمين؛ فأما على
(28/85)
رأي من جعلوا {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر:9] معطوفا على {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] جعلوا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} فريقا من أهل القرى، وهو غير المهاجرين والأنصار بل هو من جاء إلى الإسلام بعد المهاجرين والأنصار، فضمير {مِنْ بَعْدِهِمْ} عائد إلى مجموع الفريقين.
والمجيء مستعمل للطرو والمصير إلى حالة تماثل حالهم، وهي حالة الإسلام، فكانهم أتوا إلأى مكان لإقامتهم، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى: بعد ذكر المهاجرين والأنصار {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] أي اتبعوهم في الإيمان.
وإنما صيغ {جاءوا} بصيغة الماضي تغليبا لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غفارة، ومزينة، وأسلم ومثل عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، فكأنه قيل: الذين جاؤوا ويجيئون، بدلالة لحن الخطاب. والمقصود من هذا: زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيء بني النضير.
وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه. زوي البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها أي الفاتحين كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وذكر القرطبي: أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي فلما غدو عليه قال: قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:7، 8]. قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ثم قال: ما بقى من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك اهـ.
وهذا ظاهر في الفيء، وأما ما فتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سواد العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر، وهو ليس غرضنا. ومحله كتب الفقه والحديث.
والقريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى: : {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} [الحشر:9]، كلاما مستأنفا، وجعل {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9] خبرا عن اسم الموصول، جعلوا قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} كذلك مستأنفا.
(28/86)
ومن الذين جعلوا قوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ} [الحشر: 9] معطوفا على {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:9] من جعل قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} مستأنفا. ونسبه ابن الفرس في أحكام القرآن إلى الشافعي. ورأى أن الفيء إذا كان أرضا فهو إلى تخيير الإمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير.
وجملة {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} على التفسير المختار في موضع الحال من {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} .
والغل بكسر الغين: الحسد والبغض، أي سألوا الله أن يطهر نفوسهم من الغل والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فضل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة، فبين الله للذين جاؤوا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم.
والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه.
وقد دلت الآية على أن حقا على المسلمين أن يذكروا سلفهم بخير، وأن حقا عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعطيمهم، قال مالك: من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية.
فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} الآية، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم.
وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعلي حين تحاكما إلى عمر، فقال العباس: اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر. ومثل إقامة عمر حد القذف على أبي بكرة.
وأما ما جرى بين عائشة وعلي من النزاع والقتال وبين علي ومعاوية من القتال فإنما كان انتصارا للحق في كلا رأيي الجانبين وليس ذلك لغل أو تنقص، فهو كضرب القاضي
(28/87)
أحدا تأدييا له فوجب إمساك غيرهم من التحزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادهم لتكافئ درجاتهم أو تقاربها. والظن بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير، وإنما هي مسحة من حمية الجاهلية نخرت عضد الأمة المحمدية.
[11] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
أعقب ذكر ما حل بيني النضير وما اتصل به من بيان أسبابه، ثم بيان مصارف فيئهم وفيء ما يفتح من القرى بعد ذلك، بذكر أحوال المنافقين مع بني النضير وتغريرهم بالوعود الكاذبة ليعلم المسلمون أن النفاق سجية في أولئك لا يتخلون عنه ولو في جانب قوم هم الذين يودون أن يظهروا على المسلمين.
والجملة استئناف ابتدائي والاستفهام مستعمل في التعجيب من حال المنافقين فبني على نفي العلم بحالهم كناية عن التحريض على ايقاع هذا العلم كأنه يقول تأمل الذين نافقوا في حال مقالتهم لإخوانهم ولا تترك النظر في ذلك فإنه حال عجيب، وقد تقدم تفصيل معنى: {أَلَمْ تَرَ} إلى كذا عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} في سورة البقرة [243].
وجملة {يقولون} في موضع المفعول الثاني. والتقدير: ألم ترهم قائلين. وجيء بالفعل المضارع لقصد تكرر ذلك منهم، أي يقولون ذلك مؤكدينه ومكررينه لا على سبيل البداء أو الخاطر المعدول عنه.
و {الَّذِينَ نَافَقُوا} المخبر عنهم هنا هم فريق من بني عوف من الخزرج من المنافقين سمى منهم عبد الله بن أبي بن سلول، وعبد الله بن نبتل، ورفاعة بن زيد، ورافعة بن تابوت، وأوس بن قيضي، ووديعة بن أبي قوتل، أو ابن قوقل، وسويد لم ينسب وداعس لم ينسب، بعثوا إلى بني النضير حين حاصر جيش المسلمين بني النضير يقلون لهم: أثبتوا في معاقلكم فإنا معكم.
والمراد بإخوانهم بنو النضير وإنما وصفهم بالإخوة لهم لأنهم كانوا متحدين في الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وليست هذه أخوة النسب فإن بني النضير من اليهود، والمنافقين
(28/88)
الذين بعثوا إليهم من بني عوف من عرب المدينة وأصلهم من الأزد.
وفي وصف إخوانهم بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} إيماء إلى أن جانب الأخوة بينهم هو الكفر إلا أن كفر المنافقين كفر الشرك وكفر إخوانهم كفر أهل الكتاب وهو الكفر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولام {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} موطئة للقسم، أي قالوا لهم كلاما مؤكدا بالقسم.
وإنما وعدوهم بالخروج معهم ليطمئنوا لنصرتهم فهو كناية عن النصر وإلا فإنهم لا يرضون أن يفارقوا بلادهم.
وجملة {وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً} معطوفة على جملة {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} فهي من المقول لا من المقسم عليه، وقد أعربت عن المؤكد لأن بني النضير يعلمون أن المنافقين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين فكان المنافقون في غنية عن تحقيق هذا الخبر.
ومعنى {فيكم} في شأنكم، ويعرف هذا بقرينة المقام، أي في ضركم إذ لا يخطر بالبال أنهم لا يطيعون من يدعوهم إلى موالاة إخوانهم، ويقدر المضاف في مثل هذا بما يناسب المقام. ونظيره قوله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52]، أي في الموالاة لهم. ومعنى {لننصرنكم} لنعيننكم في القتال. والنصر يطلق على الإعانة على المعادي. وقد أعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك بعد ما اعلمه بما اقسموا عليه تطمينا لخاطره لأن الآية نزلت بعد إجلاء بني النضير وقبل غزو قريضة لئلا يتوجي الرسول صلى الله عليه وسلم خيفة من بأس المنافقين، وسمى الله الخبر شهادة لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر في شأنها.
[12] {لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ}.
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ}
بيان لجملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11].
واللام موطئة للقسم وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنهم لن يضروه شيئا لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.
(28/89)
وضمير {أخرجوا} و {قوتلوا} عائدان إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] أي الذين لم يخرجوا ولما يقاتلوا وهم قريظة وخيبر، أما بنو النضير فقد أخرجوا قبل نزول هذه السورة فهم غير معنيين بهذا الخبر المستقبل. والمعنى: لئن أخرج بقية اليهود في المستقبل لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا في المستقبل لا ينصرونهم. وقد سلك في هذا البيان طريق الإطناب. فإن قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11] جمع ما في هاتين الجملتين فجاء بيانه بطريقة الإطناب لزيادة تقرير كذبهم.
{وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} .
ارتقاء في تكذيبهم على ما وعدوا به إخوانهم، والواو واو الحال وليست واو العطف.
وفعل نصروهم إرادة وقوع الفعل بقرينة قوله: {لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} . فيكون إطلاق الفعل على إرادته مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [المائدة:6] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98].
وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226]، أي يريدون العود إلى ما امتنعوا منه بالإيلاء. والمعنى: أنه لو فرض أنهم أرادوا نصرهم فإن أمثالهم لا يترقب منهم الثبات في الوغى فلو أرادوا نصرهم وتجهزوا معهم لفروا عند الكريهة وهذا كقوله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47].
ويجوز أن يكون أطلق النصر على الإعانة بالرجال والعتاد وهو من معنى النصر.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل فإن انتفاء النصر أعظم رتبة في تأسيس أهل الكتاب من الانتفاع بغعانة المنافقين فهو أقوى من انهزام المنافقين إذا جاؤوا لإعانة أهل الكتاب في القتال.
والنصر هنا بمعنى: الغلب.
وضمير {لا ينصرون} عائد إلى الذين كفروا من أهل الكتاب إذ الكلام جار على وعد المنافقين بنصر أهل الكتاب.
والمقصود تثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وتأمينهم من بأس أعدائهم.
[13] {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} .
(28/90)
لما كان المقصود من ذكر وهن المنافقين في القتال تشديد نفس النبي صلى الله عليه وسلم وأنفس المؤمنين حتى لا يرهبوهم ولا يخشوا مساندتهم لأهل حرب المسلمين أحلاف المنافقين قريظة وخيبر أعقب ذلك بإعلام المؤمنين بأن المنافقين وأحلافهم يخشون المسلمين خشية شديدة وصفت شدتها بأنها أشد من خشيتهم الله تعالى، فإن خشية جميع الخلق من الله أعظم خشية فإذا بلغت الخشية في قلب أحد أن تكون أعظم من خشية الله فذلك منتهى الخشية.
والمقصود تشديد نفوس المسلمين ليعلموا أن عدوهم مرهب منهم، وذلك مما يريد المسلمين إقداما في محاربتهم إذ ليس سياق الكلام للتسجيل على المنافقين واليهود قلة رهبتهم لله بل إعلام المسلمين بأنهم أرهب لهم من كل أعظم الرهبات.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين.
والصدور مراد بها: النفوس والضمائر لأن محل أجهزتها في الصدور.
والرهبة: مصدر رهب، أي خاف.
وقوله: {فِي صُدُورِهِمْ} لـ {رهبة} فهي رهبة أولئك.
وضمير {صدورهم} عائد إلى {الَّذِينَ نَافَقُوا} و {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] إذ ليس اسم أحد الفريقين أولى بعود الضمير إليه مع صلاحية الضمير لكليهما، ولأن المقصودين بالقتال هم يهود قريظة وخيبر وأما المنافقون فكانوا أعوانا لهم.
وإسناد {أشد} إلى ضمير المسلمين المخاطبين إسناد سببي كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبة فيها. فالرهبة في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله، وكل مصدر لفعل متعد يحتمل أن يضاف إلى فاعله أو إلى مفعوله، ولذلك فسره الزمخشري بأشد مرهوبية.
و {مِنَ اللَّهِ} هو المفضل عليه، وهو على حذف مضاف، أي من رهبة الله، أي من رهبتهم الله كما قال النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي على مخافة وعل.
وهذا تركيب غريب النسج بديعه. والمألوف في أداء مثل هذا المعنى أن يقال:
(28/91)
لرهبتهم منكم في صدورهم أشد من رهبتهم من الله، فحول عن هذا النسج إلى النسج الذي حبك عليه في الآية، ليتأتى الابتداء بضمير المسلمين اهتماما به وليكون متعلق الرهبة ذوات المسلمين لتوقع بطشهم وليأتي التمييز المحول عن الفاعل لما فيه من خصوصية الإجمال مع التفصيل كما تقرر في خصوصية قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم:4] دون: واشتعل شيب رأسي. وليتأتى حذف المضاف في تركيب {مِنَ اللَّهِ} ، إذ التقدير: من رهبة الله لأن حذفه لا يحسن إلا إذا كان موقعه متصلا بلفظ {رهبة} ، إذ لا يحسن أن يقال: لرهبتهم أشد من الله. وانظر ما تقدم عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} في سورة النساء [77].
فاليهود والمنافقون من شأنهم أن يخشوا الله. أما اليهود فلأنهم أهل دين فهم يخافون الله ويحذرون عقاب الدنيا وعقاب الآخرة. وأما المنافقون فهم مشركون وهم يعترفون بأن الله تعالى هو الإله الأعظم، وأنه أولى الموجودات بأن يخشى لأنه رب الجميع وهم لا يثبتون البعث والجزاء فخشيتهم الله قاصرة على خشية عذاب الدنيا من خسف وقحط واستئصال ونحو ذلك وليس وراء ذلك خشية. وهذا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الله أوقع الرعب منهم في نفوس عدوهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب مسيرة شهر".
ووجه وصف الرهبة بأنها في صدورهم الإشارة إلى أنها رهبة جد خفية، أي أنهم يتظاهرون بالاستعداد لحرب المسلمين ويتطاولون بالشجاعة ليرهبهم المسلمون وما هم بتلك المثابة فأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على دخيلتهم فليس قوله: {فِي صُدُورِهِمْ} وصفا كاشفا.
وإذ قد حصلت البشارة من الخبر عن الرعب الذي في قلوبهم ثني عنان الكلام إلى مذمة هؤلاء الأعداء من جراء كونهم أخوف للناس منهم لله تعالى بأن ذلك من قلة فقه نفوسهم، ولو فقهوا لكانوا أخوف لله منهم للناس فنظروا فيما يخلصهم من عقاب التفريط في النظر في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلموا صدقه فنجوا من عواقب كفرهم به في الدنيا والآخرة فكانت رهبتهم من المسلمين هذه الرهبة مصيبة عليهم وفائدة للمسلمين.
فالجملة معترضة بين البيان ومبينه.
والإشارة بذلك إلى المذكور من قوله: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} واجتلاب اسم الإشارة ليتميز الأمر المحكوم عليه أتم تمييز لغرابته.
(28/92)
والباء للسببية والمجرور خبر عن اسم الإشارة، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.
وإقحام لفظ {قوم} لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعا وصار من مقومات قوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: : {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
والفقه: فهم المعاني الخفية، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء[78]، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} في سورة الأنعام[65]، ذلك أنهم تبعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب غن أبصارهم، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيات.
[14] {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
{لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ}.
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصن لقتالهم إياهم، أي لا يقدرون على قتالكم إلا في هاته الاحوال والضمير المرفوع في {يقاتلونكم} عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11].
وقوله: {جميعا} يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى: : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} [المائدة:48] فيكون للشمول، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصنة الخ.
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين، أي لا يقاتلونكم جيوشا كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقبعون في قراهم فيكون النفي منصبا إلى هذا القيد، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم.
واستثناء {إِلَّا فِي قُرىً} على الوجه الأول في {جميعا} استثناء حقيقي من عموم الأحوال، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصنة
(28/93)
الخ. وهو على الوجه الثاني في {جميعا} استثناء منقطع لأن القتال في القرى ووراء الجدر ليس من أحوال قتال الجيوش المتساندين.
وعلى كلا الاحتمالين فالكرم يفيد أنهم لا يقاتلون إلا متفرقين كل فريق في قريتهم، وإلا خائفين متترسين.
والمعنى: لا يهاجمونكم، وإن هاجمتموهم لا يبرزون إليكم ولكنهم يدافعونكم في قرى محصنة أو يقاتلونكم من وراء جدر، أي في الحصون والمعاقل ومن وراء الأسوار، وهذا كناية عن مصيرهم إلى الهزيمة إذ ما حورب قوم في عقر دارهم إلا ذلوا كما قال علي رضي الله عنه: وهذا إطلاع لهم على تطمين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ودخائل الأعداء.
و "الجدر" بضمتين في قراءة الجمهور جمع جدار. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {جدار} على الإفراد، والمراد الجنس تساوي الجمع.
و {محصنة} ممنوعة ممن يريد أخذها بأسوار أو خنادق.
و {قرى} بالقصر جمع قرية، ووزنه وقصره على غير قياس لأن ما كان على زنة فعلة معتل اللام مثل قرية يجمع على فعال بكسر الفاء ممدودا مثل: رطوة وركاء، وشكوة وشكاء. ولم يسمع القصر إلا في كوة بفتح الكاف لغة وكوى، وقرية وقرى ولذلك قال الفراء: قرى شاذ، يريد خارج عن القياس.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
استئناف بياني لأن الإخبار عن أهل الكتاب وأنصارهم بأنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة المفيد أنهم لا يتفقون على جيش واحد متساندين فيه مما يثير في نفس السامع أن يسأل عن موجب ذلك مع أنهم متفقون على عداوة المسلمين. فيجاب بأن بينهم بأسا شديدا وتدابرا، فهم لا يتفقون.
وافتتحت الجملة ب {بأسهم} للاهتمام بالأخبار عنه بأنه {بينهم} ، أي متسلط من بعضهم على بعض وليس بأسهم على المسلمين، وفي تهكم.
ومعنى {بينهم} أن مجال البأس في محيطهم فما في بأسهم من إضرار فهو منعكس إليهم، وهذا التركيب نظير قوله تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وجملة {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} إلى آخرها استئناف عن جملة {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} .
(28/94)
لأنه قد يسأل السائل: كيف ذلك ونحن نراهم متفقين? فأجيب بأن ظاهر حالهم حال اجتماع واتحاد وهم في بواطنهم مختلفون فآراؤهم غير متفقة لا إلفة بينهم لأن بينهم إحنا وعداوات فلا يتعاضدون.
والخطاب لغير معين لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب ذلك. وهذا تشجيع للمسلمين على قتالهم والاستخفاف بجماعتهم. وفي الآية تربية للمسلمين ليحذروا من التخالف والتدابر ويعلموا أن الأمة لا تكون ذات بأس على أعدائها إلا إذا كانت متفقة الضمائر يرون رأيا متماثلا في أصول مصالحهما المشتركة، وإن اختلفت في خصوصياتها التي لا تنقض أصول مصالحها، ولا تفرق جامعتها، وأنه لا يكفي في الاتحاد توافق الأقوال ولا التوافق على الأغراض إلا أن تكون الضمائر خالصة من الإحن والعداوات.
والقلوب: العقول والأفكار، وإطلاق القلب على العقل كثير في اللغة.
وشتى: جمع شتيت بمعنى مفارق بوزن فعلى مثل قتيل وقتلى، شبهت العقول المختلفة مقاصدها بالجماعات المتفرقين في جهات في أنها لا تتلاقى في مكان واحد، والمعنى: أنهم لا يتفقون على حرب المسلمين.
وقوله: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من أن بأسهم بينهم ومن تشتت قلوبهم أي ذلك مسبب على عدم عقلهم إذ انساقوا إلأى إرضاء خواطر الأحقاد والتشفي بين أفرادهم وأهملوا النظر في عواقب الأمور واتباع المصالح فأضاعوا مصالح قومهم.
ولذلك أقحم لفظ القوم في قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} إيماء إلى أن ذلك من آثار ضعف عقولهم حتى صارت عقولهم كالمعدومة فالمراد: أنهم لا يعقلون المعقل الصحيح.
وأوثر هنا {لا يَعْقِلُونَ} . وفي الآية التي قبلها {لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] لأن معرفة مآل التشتت في الرأي وصرف البأس إلى المشارك في المصلحة من الوهن والفت في ساعد الأمة معرفة مشهورة بين العقلاء قال أحد بني نبهان يخاطب قومه إذ أزمعوا على حرب بعضهم:
وأن الحزامة أن تصرفوا ... لحي سوانا صدور الأسل
فإهمالهم سلوك ذلك جعلهم سواء مع من لا عقول لهم فكانت هذه الحالة شقوة لهم حصلت منها سعادة للمسلمين.
وقد تقدم غير مرة أن إسناد الحكم إلى عنوان قوم يؤذن بأن ذلك الحكم كالجبلة
(28/95)
المقومة للقومية وقد ذكرته آنفا.
[15] {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
خبر مبتدأ محذوف دل عليه هذا الخبر، فالتقدير: مثلهم كمثل الذين من قبلهم قريبا، أي حال أهل الكتاب الموعود بنصر المنافقين كحال الذين من قبلهم قريبا.
والمراد: أن حالهم المركبة من التظاهر بالبأس مع إضمار الخوف من المسلمين، ومن التفرق بينهم وبين إخوانهم من أهل الكتاب، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون المسلمين إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر، كجال الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب وهم بنو النضير فإنهم أظهروا الاستعداد للحرب وأبوا الجلاء، فلم يحاربوا إلا في قريتهم إذ حصنوها وقبعوا فيها حتى أعياهم الحصار فاضطروا إلى الجلاء ولم ينفعهم المنافقون ولا إخوانهم من أهل الكتاب.
وعن مجاهد أن {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المشركون يوم بدر.
و {من} زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
وانتصب {قريبا} على الظرفية متعلقا بالكون المضمر في قوله: {كمثل} ، أي كحال كائن قريب، أو انتصب على الحال من {الذين} أي القوم القريب منهم، كقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
والوبال أصله: وخامة المرعى المستلذ به للماشية يقال: كلأ وبيل، إذا كان مرعى خضرا {حلوا} تهش إليه الإبل فيحبطها ويمرضها أو يقتلها، فشبهوا في إقدامهم على حرب المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبيل فهلكت وأثبت الذوق على طريقة المكنية وتخييلها، فكان ذكر {ذاقوا} مع {وبال} إشارة إلى هذه الاستعارة.
و {أمرهم} شأنهم وما دبروه وحسبوا له حسابه وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم في الجلاء وترك الديار وما فيها، أي ذاقوا سوء أعمالهم في الدنيا.
وضمير {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عائد إلى {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي زيادة على ما ذاقوه من عذاب الدنيا بالجلاء وما فيه من مشقة على الانفس والأجساد لهم عذاب أليم في الآخرة على الكفر.
(28/96)
[16، 17] {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
هذا مثل آخر لممثل آخر، وليس مثلا منضما إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفا عليه بالواو، أو ب "أو" كقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19].
والوجه: أن هذا المثل متصل بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر:15]كما يفصح عنه قوله في آخره {فكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} الآية، أي مقلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويترأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معا في النار.
فجملة {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} حال من ضمير {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15] أي في الآخرة.
والتعريف في {الشيطان} تعريف الجنس وكذلك تعريف الإنسان. والمراد به الإنسان الكافر.
ولم ترد في الآخرة حادثة معينة من وسوسة الشيطان لإنسان معين في الدنيا، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول : {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} ، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله: {قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} أنه يقوله للإنسان، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد. فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} في سورة إبراهيم [22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية. ذكرها ابن جرير والقرطبي وضعف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالا لما يقع من الشيطان للإنسان كما مال إليه ابن كثير.
فالمعنى: إذ قال للإنسان في الدنيا اكفر فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال
(28/97)
الشيطان يوم القيامة: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} ، أي قال كل شيطان لقرينه من الإنس إني بريء منك طمعا في أن يكون ذلك منجيه من العذاب.
ففي الآية إيجاز حذف حذف فيها معطوفات مقدرة بعد شرط "لمأ" هي داخلة في الشرط إذ التقدير: فلما كفر واستمر على الكفر وجاء يوم الحشر واعتذر بأن الشيطان أضله قال الشيطان: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} الخ. وهذه المقدرات مأخوذة من آيات أخرى مثل آية سورة إبراهيم وآية سورة ق[27]. {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} الآية. وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
وقول: {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} من تمام المثل. أي كان عاقبة المثل بهما خسرانهما معا. وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان فيما دبرا وكادا للمسلمين.
وجملة {وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} تذييل، والإشارة الى ما يدل عليه {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ} من معنى، فكانت عاقبتهما سوأى والعلقبة السوأى جزاء جميع الظالمين المعتدين على الله والمسلمين، فكما كانت عاقبة الكافر وشيطانه عاقبة سوء كذلك لكون عاقبة الممثلين بهما وقد اشتركا في ظلم أهل الخير والهدى.
[18] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . انتقال من الامتنان على المسلمين بما يسر من فتح قرية بني النضير بدون قتال، وما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم منهم، ووصف ما جرى من خيبتهم وخيبة أملهم في نصرة المنافقين، ومن الإيذان بأن عاقبة أهل القرى الباقية كعاقبة أسلافهم. وكذلك موقف أنصارهم معهم الى الأمر بتقوى الله شكرا له على ما منح وما وعد من صادق الوعد فإن الشكر جزاء العبد عن نعمة ربه إذ لا يستطيع جزاء غير ذلك فأقبل على خطاب الذين آمنوا بالأمر بتقوى الله.
ولما كان ما تضمنته السورة من تأييد الله إياهم وفيض نعمه عليهم كان من منافع الدنيا، أعقبه بتذكيرهم بالإعداد للآخرة بقوله: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} أي لتتأمل كل نفس فيما قدمته للآخرة.
(28/98)
وجملة {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} عطف أمر على أمر آخر. وهي معترضة بين جملة {اتَّقُوا اللَّهَ} وجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وذكر {نفس} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر: وانظروا ما قدمتم، فعدل عن الإظهار لقصد العموم أي لتنظروا وتنظر كل نفس.
وتنكير {نفس} بفيد العموم في سياق الأمر، أي لتنظر كل نفس، فإن الأمر والدعاء ونحوهما كالشرط تكون النكرة في سياقها مثل ما هي في سياق النفي كقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] وكقول الحريري:
يا أهل ذا المغنى وقيتم ضرا
(أي كل ضر)
وإنما لما يعرف بلام التعريف على العموم لئلا يتوهم نفس معهودة.
واطلق غد على الزمن المستقبل مجازا لتقريب الزمن المتقبل من البعيد لملازمة اقتراب الزمن لمفهوم الغد، لأن الغد هو اليوم الموالي لليوم الذي فيه المتكلم فهو أقرب أزمنة المستقبل كما قال قراد بن أجدع:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى ... فإن غدا لناظره قريب
وهذا المجاز شائع في كلام العرب في لفظ غد وأخواته قال زهير:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
ولكنني عن علم ما في غد عم
يريد باليوم بالزمن الحاضر، وبالأمس الزمن الماضي، وبالغد الزمن المستقبل.
وتنكير غد للتعظيم والتهويل، أي لغد لا يعرف كنهه.
واللام في قوله: {لغد} لام العلة، أي ما قدمته لأجل يوم القيامة، أي لأجل الانتفاع به.
والتقديم: مستعار للعمل الذي يعمل لتحصيل فائدته في زمن آت شبه قصد الانتفاع به في المستقبل بتقديم من يحل في المنزل قبل ورود السائرين اليه من جيش أو سفر ليهيء لهم ما يصلح أمرهم، ومنه مقدمة الجيش وتقديم الرائد قبل القافلة. قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:110] ويقال في ضده: أخر، إذا ترك عمل شيء قال تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5].
(28/99)
وإعادة {وَاتَّقُوا اللَّهَ} ليبني عليه {إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فيحصل الربط بين التعليل والمعلل إذ وقع بينهما فصل {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} وإنما أعيد بطريق العطف لزيادة التأكيد فإن التوكيد اللفظي يؤتى به تارة معطوفا كقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34، 35] وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3، 4]. وقول عدي بن زيد. وألفى قولها ومينا.
وذلك أن في العطف إيهام أن يكون التوكيد يجعل كالتأسيس لزيادة الاهتمام بالمؤكد.
فجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تعليل للجث على تقوى الله وموقع {إن} فيها موقع التعليل.
ويجوز أن يكون {اتَّقُوا اللَّهَ} المذكور أولا مراد به التقوى بمعنى الخوف من الله وهي الباعثة على العمل ولذلك أردف بقوله{وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ويكون {اتَّقُوا اللَّهَ} المذكور ثانيا مراد به الدوام على التقوى الأولى، أي ودوموا على التقوى على حد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . [النساء:136] ولذلك أردف بقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بمقدار اجتهادكم في التقوى، وأردف بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أي أهملوا التقوى بعد أن تقلدوها كما سيأتي أنهم المنافقون فإنهم تقلدوا الإسلام وأضاعوه قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]. وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار، فتكون الجملة مستقلة بدلالتها أتم استقلال مجرى الأمثال ولتربية المهابة في نفس المخاطبين.
[19] {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله وإعداد العدة للآخرة أعقبه بهذا النهي تحذيرا عن الإعراض عن الدين والتغافل عن التقوى، وذلك يفضي الى الفسوق. وجيء في النهي بنهيهم عن حالة قوم تحققت فيهم هذه الصلة ليكون النهي عن إضاعة التقوى مصورا في صورة محسوسة قوم تحققت فيهم تلك الصلة وهم الذين أعرضوا عن التقوى.
وهذا الإعراض مراتب قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود وإلى النفاق الذي
(28/100)
تلبس به فريق ممن أظهروا الإسلام في أول سني الهجرة، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة فيحتمل أن يراد بـ" الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ" المنافقين لأنهم كانوا مشركين ولم يهتدوا للتوحيد بهدى الإسلام فعبر عن النفاق بنسيان الله لانه جهل بصفات الله من التوحيد والكمال. وعبر عنهم بالفاسقين قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في سورة براءة [67] فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.
ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود لأنهم أضاعوا دينهم ولم يقبلوا رسالة عيسى عليه السلام وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال تعالى: {وأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [البقر:40 ،41].
وقد أطلق نسيانهم على الترك والإعراض عن عمد أي فنسوا دلائل توحيد الله ودلائل صفاته ودلائل صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم كتابه فالكلام بتقدير حذف مضاف أو مضافين.
ومعنى {أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُم} أن الله لم يخلق في مداركهم التفطن لفهم الهدي الإسلامي فيعلموا بما ينجيهم من عذاب الآخرة ولما فيه صلاحهم قي الدنيا، إذ خذلهم بذبذبة آرائهم فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يخرجونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.
وأشعر فاء التسبب بأن إنساء الله إياهم أنفسهم مسبب على نسيانهم دين الله، أي لما أعرضوا عن الهدى بكسبهم وارادتهم عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} دون أن يقال: نسوه لاستفظاع هذا النسيان فعلق باسم الله الذين خلقهم وأرشدهم.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قصر ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق حتى كأن فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.
واسم الإشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.
والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء فهو صفة ذم غالبا لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء، ومنه قيل: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فالفاسقون هم الآتون
(28/101)
بفواحش السيئات ومساوي الأعمال وأعظمها الإشراك.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان الإبهام الذي أفاده قوله: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} كأن السامع سأل: ماذا كان إثر إنساء الله إياهم أنفسهم? فأجيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة حتى حق عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم.
[20] {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
تذييل لجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] الخ. لأنه جامع لخلاصة عاقبة الحالين: حال التقوى والاستعداد للآخرة، وحال نسيان ذلك وإهماله، ولكلا الفريقين عاقبة عمله. ويشمل الفريقين وأمثالهم.
والجملة أيضا فذلكة لما قبلها من حال المتقين والذين نسوا الله ونسوا أنفسهم لأن ذكر مثل هذا الكلام بعد ذكر أحوال المتحدث عنه يكون في الغالب للتعريض بذلك المتحدث عنه كقولك عندما ترى أحدا يؤذي الناس المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، فمعنى الآية كناية عن كون المؤمنين هم أصحاب الجنة، وكون الذين نسوا الله هم أهل النار فتضمنت الآية وعدا للمتقين ووعيدا للفاسقين.
والمراد من نفي الاستواء في مثل هذا الكناية عن البون بين الشيئين.
وتعيين المفضل من الشيئين موكول إلى فهم السامع من قرينة المقام كما في قول السموأل:
فليس سواء عالم وجهول
وقول أبي حزام غالب بن الحارث العكلي:
وأعلم أن تسليما وتركا ... للا متشابهان ولا سواء
ومنه قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} بعد قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [آل عمران:110] الآية. وقيل قوله: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران:113]. وقد يردف بما يدل على جهة التفضيل كما في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]. وقوله هنا
(28/102)
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} ، وتقدم في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية[95] في سورة النساء.
وأما من ذهب من علماء الأصول إلى تعميم نحو {لا يستوون} من قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18] فاستدلوا به على أن الفاسق لا يلي ولاية النكاح، وهو استدلال الشافعية فليس ذلك بمرضي، وقد أباه الحنفية ووافقهم تاج الدين السبكي في غير جمع الجوامع.
والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} فصر ادعائي لأن فوزهم أبدي فوز غيرهم ببعض أمور الدنيا كالعدم.
[21] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
ما حذر المسلمين من الوقوع في مهواة نسيان الله التي وقع فيها الفاسقون وتوعد الذين نسوا الله بالنار، وبين حالهم بأن الشيطان سول لهم الكفر. وكان القرآن دالا على مسالك الخير ومحذرا من مسالك الشر، وما وقع الفاسقون في الهلكة إلا من جراء إهمالهم التدير فيه، وذلك من نسيانهم الله تعالى انتقل الكلام إلى التنويه بالقرآن وهديه البين الذي لا يصرف الناس عنه إلا أهواءهم ومكابرتهم، وكان إعراضهم عنه أصل استمرار ضلالهم وشركهم، ضرب لهم هذا المثل تعجيبا من تصلبهم في الضلال.
وفي هذا الانتقال إيذان بانتهاء السورة لأنه انتقال بعد طول الكلام في غرض فتح قرى اليهود وما ينال المنافقين من جرائه من خسران في الدنيا والآخرة.
و {هَذَا الْقُرْآنُ} إشارة إلى المقدار الذي نزل منه، وهو ما عرفوه وتلوه وسمعوا تلاوته.
وفائدة الإتيان باسم إشارة القريب التعريض لهم بأن القرآن غير بعيد عنهم. وأنه في متناولهم ولا كلفة عليهم في تدبره ولكنهم قصدوا الإعراض عنه.
وهذا مثل ساقه الله تعالى كما دل عليه قوله: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ} الخ. وقد ضرب هذا مثلا لقسوة الذين نسوا الله وانتفاء تأثرهم بقوارع القرآن.
والمراد بالجبل: حقيقته، لأن الكلام فرض وتقدير كما هو مقتضى {لو} أن تجيء
(28/103)
في الشروط المفروضة.
فالجبل: مثال لأشد الأشياء صلابة وقلة تأثر بما يقرعه. وإنزل القرآن مستعار للخطاب به. عبر عنه بالإنزال على طريقة التبعية تشبيها لشرف الشيء بعلو المكان، ولإبلاغه للغير بإنزال الشيء من علو.
والمعنى: لو كان المخاطب بالقرآن جبلا، وكان الجبل يفهم الخطاب لتأثر بخطاب القرآن تأثرا ناشئا من خشية لله خشية تؤثرها فيه معاني القرآن.
والمعنى: لو كان الجبل في موضع هؤلاء الذين نسوا الله وأعرضوا عن فهم القرآن ولم يتعظوا بمواعظه لاتعظ الجبل وتصدع صخره وتربه من شدة تأثره بخشية الله.
وضرب التصدع مثلا لشدة الانفعال والتأثر لأن منتهى تأثر الأجسام الصلبة أن تنشق وتتصدع إذ لا يحصل ذلك لها بسهولة.
والخشوع: التطأطؤ والركوع، أي لرأيته ينزل أعلاه إلى الأرض.
والتصدع: التشقق، أي لتزلزل وتشقق من خوفه الله تعالى.
والخطاب في {لرأيته} لغير معين فيعم كل من يسمع هذا الكلام والرؤية بصرية، وهي منفية لوقوعها جوابا لحرف {لو} الامتناعية.
والمعنى: لو كان كذلك لرأيت الجبل في حالة الخشوع والتصدع.
وجملة {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} تذييل لأن ما قبلها سيق مساق المثل فذيل بأن الأمثال التي يضربها الله في كلامه مثل المثل أراد منها أن يتفكروا فإن لم يتفكروا بها فقد سحل عليهم عنادهم ومكابرتهم، فالإشارة بتلك إلى مجموع ما مر على أسماعهم من الأمثال الكثيرة، وتقدير الكلام: ضربنا هذا مثلا، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .
وضرب المثل سوقه، أطلق عليه الضرب بمعنى الوضع كما يقال: ضرب بيتا، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة [26].
[22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} .
(28/104)
لما تكرر في هذه السورة ذكر اسم الله وضمائره وصفاته أربعين مرة منها أربع وعشرون بذكر اسم الجلالة وست عشرة مرة بذكر ضميره الظاهر، أو صفاته العلية. وكان ما تضمنته السورة دلائل على عظيم قدرة الله وبديع تصرفه وحكمته.
وكان ما حوته السورة الاعتبار بعظيم قدرة الله إذ أيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ونصرهم على بني النضير ذلك النصر الخارق للعادة، وذكر ما حل بالمنافقين أنصارهم وأن ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله وذلك بالثناء على المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذين نصروا الدين، ثم الأمر بطاعة الله والاستعداد ليمو الجزاء، والتحذير من الذين أعرضوا عن كتاب الله ومن سوء عاقبتهم، وختم ذلك بالتذكير بالقرآن الدال على الخير، والمعرف بعظمة الله المقتضية شدة خشيته عقب ذلك بذكر طائفة من عظيم صفات الله ذات الآثار العديدة في تصرفاته المناسبة لغرض السورة زيادة في تعريف المؤمنين بعظمته المقتضية للمزيد من خشيته. وبالصفات الحسنى الموجبة لمحبته، وزيادة في إرهاب المعاندين المعرضين من صفات بطشه وجبروته، ولذلك ذكر في هذه الآيات الخواتم للسورة من صفاته تعالى ما هو مختلف التعلق والآثار للفريقين حظ ما يليق به منها.
وفي غضون ذلك كله دلائل على بطلان إشراكهم ب? أصنامهم. وسنذكر مراجع هذه الأسماء إلى ما اشتملت عليه السورة فيما يأتي.
فضمير الغيبة الواقع في أول الجملة عائد إلى اسم الجلالة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18]، و {هو} مبتدأ واسم الجلالة خبر عنه {الذي} صفة لاسم الجلالة.
وكان مقتضى الظاهر الاقتصار على الضمير دون ذكر اسم الجلالة لأن المقصود الإخبار عن الضمير بـ {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وبما بعد ذلك من الصفات العليا، فالجمع بين الضمير وما يساوي معادة اعتبار بأن اسم الجلالة يجمع صفات الكمال لأن أصله الإله ومدلول الإله يقتضي جمع صفات الكمال.
ويجوز أن يجعل الضمير ضمير الشأن ويكون الكلام استئنافا قصد منه تعليم المسلمين هذه الصفات ليتبصروا فيها وللرد على المشركين إشراكهم بصاحب هذه الصفات معه أصنافا ليس لواحد منها سيء من مثل هذه الصفات، ولذلك ختمة طائفة منها بجملة {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] لتكون خاتما لهذه السورة الجليلة التي تضمنت منه عظيمة، وهي منه الفتح الواقع والقتح الميسر في المستقبل، لا جرم أنه حقيق بأن
(28/105)
يعرفوا جلائل صفاته التي لتعلقانها آثار في الأحوال الحاصلة والتي ستحصل من هذه الفتوح وليعلم المشركون والكافرون من اليهود أنهم ما تعاقبت هزائمهم إلا من جراء كفرهم. ولما كان شأن هذه الصفات عظيما ناسب أن تفتتح الجملة بضمير الشأن، فيكون اسم الجلالة مبتدأ و {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر. والجملة خبر عن ضمير الشأن فيكون اسم الجلالة مبتدأ و {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر والجملة خبرا عن ضمير الشأن.
وابتدئ في هذه الصفات العلية بصفة الوحانية وهي مدلول {الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهي الأصل فيما يتبعها من الصفات. ولذلك كثر في القرآن ذكرها عقب اسم الجلالة كما في آية الكرسي. وفاتحة آل عمران.
وثني بصفة {عَالِمُ الْغَيْبِ} لأنها التي تقتضيها صفة الإلهية إذ علم الله هو العلم الواجب وهي تقتضي جمع الصفات إذ لا تتقوم حقيقة العلم الواجب إلا بالصفات السلبية، وإذ هو يقتضي الصفات المعنوية، وإنما من متعلقات علمه أمور الغيب لأنه فارق به علم الله تعالى علم غيره، وذكر معه علم الشهادة للاحتراس توهم أنه يعلم الحقائق العالية الكلية فقط كما ذهب إليه فريق من الفلاسفة الأقدمين ولأن التعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق. أي كل غيب وشهادة، وذلك مما لا يشاركه فيه غيره. وهو علم الغيب والشهادة، أي الغائب عن إحساس الناس والمشاهد لهم. فالمقصود فيها بمعنى اسم الفاعل، أي عالم ما ظهر وما غاب عنهم من كل غائب يتعلق به العلم على ما هو عليه.
والتعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} للاستغراق الحقيقي.
وفي ذكر الغيب إيماء إلى ضلال الذين قصروا أنفسهم على المشاهدات وكفروا بالمغيبات من البعث والجزاء وإرسال الرسل، أما ذكر علم الشهادة فتتميم على أن المشركين يتوهمون الله لا يطلع على ما يخفونه. قال تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} إلى قوله: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:22، 23].
وضمير {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ضمير فصل يفيد قصر الرحمة عليه تعالى لعدم الاعتداد برحمة غيره لقصورها قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [االأعراف:156]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا. فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه". وقد تقدم الكلام على {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في سورة الفاتحة [3].
(28/106)
ووجه تعقيب صفة عموم العلم بصفة الرحمة أن عموم العلم يقتضي أن لا يغيب عن علمه شيء من أحوال خلقه وحاجتهم إليه، فهو يرحم المحتاجين إلى رحمته ويهمل المعاندين إلى عقاب الآخرة، فهو رحمان بهم في الدنيا، وقد كثر إتباع اسم الجلالة بصفتي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في القرآن كما في الفاتحة.
[23] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} .
القول في ضمير {هو} كالقول في نظيره في الجملة الأولى. وهذا تكرير للاستئناف لأن المقام مقام عظيم وهو من مقامات التكرير، وفيه اهتمام بصفة الوحدانية.
و{الملك} : الحاكم في الناس، على الإطلاق إلا الله تعالى وأما وصف غيره بالملك فهو بالإضافة إلى طائفة معينة من الناس. وعقب وصفا الرحمة بوصف {الملك} للإشارة إلى أن رحمته فضل وأنه مطلق التصرف كما وقع في سورة الفاتحة.
و {القدوس} بضم القاف في الأفصح، وقد تفتح القاف قال ابن جني: فعول في الصفة قليل، وإنما هو في الأسماء مثل تنور وسفود وعبود. وذكر سيبويه السبوح بالفتح، وقال ثعلب لم يرد فعول بضم أوله إلا القدوس والسبوح. وزاد غيره الذروح، وهو ذباب أحمر متقطع الحمرة بسواد يشبه الزبور. ويسمى في اصطلاح الأطباء ذباب الهند. وما عداهما مفتوح مثل سفود وكلوب. وتنور وسمور وشبوط صنف من الحوت وكأنه يريد أن سبوح وقدوس صارا اسمين.
وعقب ب {القدوس} وصف {الملك} للاحتراس إشارة إلى أنه منزه عن نقائض الملوك المعروفة من الغرور، والاسترسال في الشهوات ونحو ذلك من نقائض النفوس.
و {السلام} مصدر بمعنى المسالمة وصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة في الوصف، أي ذو السلام، أي السلامة، وهي أنه تعالى سالم الخلق من الظلم والجور. وفي الحديث "إن الله هو السلام ومنه السلام". وبهذا ظهر تعقيب وصف {الملك} بوصف {السلام} فإنه بعد أن عقب ب {القدوس} للدلالة على نزاهة ذاته،
(28/107)
عقب بـ {السلام} للدلالة على العدل في معاملته الخلق، وهذا احتراس أيضا.
و {المؤمن} اسم فاعل نن آمن الذي همزته للتعدية، أي جعل غيره آمنا.
فالله هو الذي جعل الأمان في غالب أحوال الموجودات، إذ خلق نظام المخلوقات بعيدا عن الأخطار والمصاءب، وإنما تعرض للمخلوقات للمصائب بعوارض تتركب من تقارن مصالح، فيرجع أقواها ويدحض أدناها، وقد تأتي من جراء أفعال الناس.
وذكر وصف {المؤمن} عقب الأوصاف التي قبله إتمام للاحتراس من توهم وصفه تعالى بـ {الملك} أنه كالملوك المعروفين بالنقائص. فأفيد أولا نزاهة ذاته بوصف {القدوس} ، ونزاهة تصرفاته المغية عن الغدر والكيد بوصف {المؤمن} ، ونزاهة تصرفاته الظاهرة عن الجور والظلم بوصف {السلام} .
و {المهيمن} : الرقيب بلغة قريش، والحافظ في لغة بقية العرب.
واختلف في اشتقاقه فقيل مشتق من أمن الداخل عليه همزة التعدية فصار ءامن وأن وزن الوصف مؤيمن قلبت همزته هاء، ولعل موجب القلب إرادة نقله من الوصف إلى الاسمية بقطع النظر عن معنى الأمن، بحيث صار كالاسم الجامد. وصار معناه: رقب: ألا ترى أنه لم يبق فيه معنى إلا من الذي في المؤمن لما صار اسما للرقيب والشاهد، وهو قلب نادر مثل قلب همزته: أراق إلى الهاء فقالوا: هراق، وقد وضعه الجوهري في فصل الهمزة من باب النون ووزنه مفعلل اسم فاعل من آمن مثل مدحرج، فتصريفه مؤآمن بهمزتين بعد الميم الأولى المزيدة، فأبدلت الهمزة الأولى هاء كما أبدلت همزة آراق فقالوا: هراق.
وقيل: أصله هيمن بمعنى: رقب، كذا في لسان العرب وعليه فالهاء أصلية ووزنه مفيعل. وذكره صاحب القاموس في فصل الهاء من باب النون ولم يذكره في فصل الهمزة منه. وذكره الجوهري في فصل الهمزة وفصل الهاء من باب النون مصرحا بأن هاءه أصلها همزة. وعدل الراغب وصاحب الأساس عن ذكره. وذلك يشعر بأنهما يريان هاءه مبدلة من الهمزة وأنه مندرج في معاني الأمن.
وفي "المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى" للغزالي {المهيمن} في حق الله: القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه
(28/108)
وحفظه. والإشراف، أي الذي هو الاطلاع يرجع إلى العلم، والاستيلاء يرجع إلى كمال القدرة، والحفظ يرجع إلى الفعل. والجامع بين هذه المعاني اسمه {المهيمن} ولن يجتمع على ذلك الكمال والإطلاق إلا الله تتعالى، ولذلك قيل: أنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة اهـ. وفي هذا التعريف بهذا التفصيل نظر ولعله جرى من حجة الإسلام مجرى الاعتبار بالصفة لا تفسير مدلولها.
وتعقيب {المؤمن} ب {المهيمن} لدفع توهم أن تأمينه عن ضعف أو عن مخافة غيره، فأعلموا أن تأمينه لحكمته مع أنه رقيب مطلع على أحوال خلقه فتأمينه إياهم رحمة بهم.
و {العزيز} الذي لا يغلب ولا يذله أحد، ولذلك فسر بالغالب.
و {الجبار} : القاهر المكره غيره على الانفعال بفعله، فالله جبار كل مخلوق على الافعال لما كونه عليه لا تستطيع مخلوق اجتيازه ما حده له في خلقته فلا يستطيع الإنسان الطيران ولا يستطيع ذوات الأربع المشي على رجلين فقط، وكذلك هو جبار للموجودات على قبول ما أراده بها وما تعلقت به قدرته عليها.
وإذا وصف الإنسان بالجبار كان وصف ذم لأنه يشعر بأنه يحمل غيره على هواه ولذلك قال تعالى: {إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} [القصص:19]. فالجبار من أمثلة المبالغة لأنه مشتق من أجبره، وأمثله المبالغة تشتق من المزيد بقلة مثل الحكيم بمعنى المحكم. قال الفراء: لم اسمع فعالا في أفعل إلا جبارا ودراكا. وكان القياس يقال: المجبر والمدرك، وقيل: الجبار معناه المصلح من جبر الكسر، إذ أصلحه، فاشتقاقه لا نذرة فيه.
و {المتكبر} : الشديد الكبرياء، أي العظمة والجلالة. وأصل صيغة التفعل أن تدل على التكلف لكنها استعملت هنا في لازم التكلف وهو القوة لأن الفعل الصادر عن تأنق وتكلف يكون أتقن.
ويقال: فلان يتظلم على الناس، أي يكثر ظلمهم.
ووجه ذكر هذه الصفات الثلاث عقب صفة {المهبيمن} أن جميع ما ذكره آنفا من الصفات لا يؤذن إلا باطمئنان العباد لعناية ربهم بهم وإصلاح أمورهم وأن صفة {المهيمن} تؤذن بأمر مشترك فعقبت بصفة {العزيز} ليعلم الناس أن الله غالب لا يعجزه
(28/109)
شيء. واتبعت بصفة {الجبار} الدالة على أنه مسخر المخلوقات لإرادته ثم صفة {المتكبر} الدالة على أنه ذو الكبرياء يصغر كل شيء دون كبريائه فكانت هذه الصفات في جانب التخويف كما كانت قبلها في جانب الإطماع.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
ذيلت هذه الصفات بتنزيه الله تعالى عن أن يكون له شركاء بأن أشرك به المشركون. فضمير {يشركون} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون الذين لم يزل القرآن يقرعهم بالمواعظ.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}.
القول في ضمير {هو} المفتتح به وفي تكرير الجملة كالقول في التي سبقها فإن كان ضمير الغيبة شأن فالجملة بعده خبر عنه.
وجملة {اللَّهُ الْخَالِقُ} تفيد قصرا بطريق تعريف جزأي الجملة هو الخالق لا شركاؤهم. وهذا إبطال لإلهية ما لا يخلق. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل:20]، وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، وإن كان عائدا على اسم الجلالة المتقدم فاسم الجلالة بعده خبر عنه و {الخالق} صفة.
و {الخالق} : اسم فاعل من الخلق، وأصل الخلق في اللغة إيجاد شيء على صورة مخصوصة. وقد تقدم عند قوله تعالى: حكاية عن عيسى عليه السلام {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الآية [49] في سورة آل عمران. ويطلق الخلق على معنى أخص من إيجاد الصور وهو ايجاد ما لم يكن موجودا. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [قّ: 38]. وهذا هو المعنى الغالب من اطلاق اسم الله تعالى {الخالق} .
قال في الكشاف المقدر لما يوجده. ونقل عنه في بيان مراده بذلك أنه قال لما كانت إحداثات الله مقدرة بمقادير الحكمة عبر عن إحداثه بالخلق اهـ. يشير إلى أن
(28/110)
الخالق في صفة الله بمعنى المحدث الأشياء عن عدم، وبهذا يكون الخلق أعم من التصوير. ويكون ذكر {الباري} و {المصور} بعد {الخالق} تنبيها على أحوال خاصة في الخلق. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] على أحد التأويلين.
وقال الراغب: الخلق التقدير المستقيم واستعمل في إياع الشيء من غير أصل ولا احتذاء اهـ.
وقال أبو بكر ابن العربي في عارضة الأحوذي على سنن الترمذي : {الخالق} : المخرج الأشياء من العدم إلى الوجود المقدر لها على صفاتها فخلط بين المعنين ثم قال: فالخالق عام، والباريء أخص منه، والمصور أخص من الأخص وهذا قريب من كلام صاحب الكشاف . وقال الغزالي في المقصد الأسني : الخالق الباريء المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى تقدير أولا وإلى الايجاد على وفق التقدير ثانيا وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا. والله خالق من حيث أنه مقدر وبارئ من حيث إنه مخترع موجود، ومصور من حيث إنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب اهـ. فجعل المعاني متلازمة وجعل الفرق بينها بالاعتبار، ولا أحسبه ينطبق على مواقع استعمال هذه الأسماء.
و {البارئ} اسم فاعل من برأ مهموزا. قال في الكشاف المميز لما يوجده بعضه من بعض بالأشكال المختلفة اهـ. وهو مغاير لمعنى الخالق بالخصوص. وفي الحديث "من شر ما خلق وذرأ وبرأ". ومن كلام علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، فيكون اسم البريئة غير خاص بالناس في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ البريئة} [البينة:6، 7] {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ البريئة} . وقال الراغب: البريئة: الخلق.
وقال ابن العربي في العارضة: {البارئ} : خالق الناس من البرى مقصورا وهو التراب خاصا بخلق جنس الإنسان، وعليه يكون اسم البريئة خاصا بالبشر في قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} .
وفسره ابن عطية بمعنى الخالق. وكذبك صاحب القاموس . وفسره الغزالي بانه الموجود المخترع، وقد علمت أنه غير منطبق فأحسن تفسير له ما في الكشاف .
و {المصور} : مكون الصور لجميع المخلوقات ذوات الصور المرئية.
وإنما ذكرت هذه الصفات متتابعة لأن من مجموعها يحصل تصور الإبداع الإلهي
(28/111)
للإنسان فابتدئ بالخلق الذي هو الإيجاد الأصلي ثم بالبرء الذي هو تكوين جسم الإنسان ثم بالتصور الذي هو إعطاء الصورة الحسنة، كما أشار إليه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} [الانفطار:7،8]، {الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران: 6].
ووجه ذكرها عقب الصفات المتقدمة، أي هذه الصفات الثلاث أريد منها الإشارة إلى تصرفه في البشر بالإيجاد على كيفية البديعة ليثير داعية شكرهم على ذلك. ولذلك عقبت بجملة {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
واعلم أن وجه إرجاع هذه الصفات الحسنى إلى ما يناسبها مما اشتملت عليه السورة ينقسم إلى ثلاثة أقسام ولكنها ذكرت في الآية بحسب تناسب مواقع بعضها عقب بعض من تنظير أو احتراس أو تتميم كما علمته آنفا.
القسم الأول يتعلق بما يناسب أحوال المشركين وأحلافهم اليهود المتألبين على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بالحرب والكيد والأذى، وأنصارهم من المنافقين المخادعين للمسلمين.
وإلى هذا القسم تنضوي صفة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الحشر:23] وهذه الصفة هي الأصل في التهيؤ للتدبر والنظر في بقية الصفات، فإن الإشراك أصل الضلالات، والمشركون هم الذين يغرون اليهود، والمنافقون بين يهود ومشركين تستروا بإظهار الإسلام، فالشرك هو الذي صد الناس عن الوصول إلى مسالك الهدى، قال تعالى: {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} [هود:101].
وصفة {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر:22] فإن من أصول الشرك إنكار الغيب الذي من آثاره إنكار البعث والجزاء، وعلى الاسترسال في الغي وإعمال السيئات وإنكار الوحي والرسالة. وهذا ناظر إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [لأنفال:13] الآية.
وكذلك ذكر صفات الملك، والعزيز، والجبار، والمتكبر، لأنها تناسب ما أنزله ببني النضير من الرعب والخزي والبطشة.
القسم الثاني متعلق بما اجتناه المؤمنون من ثمرة النصر في قصة بني النضير، وتلك صفات: {السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [الحشر:23] لقوله {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر:6]، أي لم يتجشم المسلمون للغنى مشقة ولا أذى ولا قتالا.
(28/112)
وكذلك صفتا {الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] لمناسبتهما لإعطاء حظ في الفيء للضعفاء.
القسم الثالث متعلق بما يشترك فيه الفريقان المذكوران في هذه السورة فيأخذ كل فريق حظه منها، وهي صفات: القدوس، المهيمن، الخالق، الباريء، المصور.
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
تذييل لما عدد من صفات الله تعالى، أي له جميع الأسماء الحسنى التي بعضها الصفات المذكورة آنفا.
والمراد بالأسماء الصفات، عبر عنها بالأسماء لأنه متصف بها على ألسنة خلقه ولكونها بالغة منتهى حقائقها بالنسبة لوصفه تعالى بها فصارت كالاعلام على ذاته تعالى.
والمقصود: أن له مدلولات الأسماء الحسنى كما في قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} بعد قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]، أي عرض المسميات على الملائكة.
وقد تقدم قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} في سورة الأعراف [180].
{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
جملة {يسَبِّحُ لَهُ} الخ في موضع الحال من ضمير {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} يعني أن اتصافه بالصفات الحسنى يضطر ما في السماوات والأرض من العقلاء على تعظيمه بالتسبيح والتنزيه عن النقائص فكل صنف يبعثه علمه ببعض أسماء الله على أن ينزهه ويسبحه بقصد أو بغير قصد. فالدهري أو الطبائعي إذا نوه بنظام الكائنات وأعجب بانتساقها فإنما يسبح في الواقع للفاعل المختار وإن كان هو يدعوه دهرا أو طبيعة، وهذا إذا حمل التسبيح على معناه الحقيقي وهو التنزيه بالقول، فأما إن حمل على ما يشمل المعنيين الحقيقي والمجازي من دلالة على التنويه ولو بلسان الحال. فالمعنى: أن ما ثبت له من صفات الخلق والإمداد والقهر تدل عليه شواهد المخلوقات وانتظام وجودها.
وجملة {َهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عطف على جملة الحال وأوثر هاتان الصفتان لشدة مناسبتهما لنظام الخلق.
وفي هذه الآية رد العجز على الصدر لأن صدر السورة مماثل لآخرها.
(28/113)
روى الترمذي بسند حسن عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا. ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة". فهذه فضيلة لهذه الآيات أخروية.
وروى الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده إلى إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرات على خلف راوي حمزة فلما بلغت هذه الآية {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] إلى آخر السورة قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الاعمش. فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب، فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك، فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإنا قرانا على عبد الله فلما بلغنا هذه الآية قال: ضعا أيديكما على رؤوسكما، فإني قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: "ضع يدك على رأسك فإن جبريل لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام". والسام الموت. قلت: هذا حديث أغر مسلسل إلى جبريل عليه السلام.
وأخرج الديلمي عن علي وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ} [الحشر: 21] إلى آخر السورة: "هي رقية الصداع"، فهذه مزية لهذه الآيات.
(28/114)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة
عرفت هذه السورة في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف بـ"سورة الممتحنة". قال القرطبي: والمشهور على الألسنة النطق في كلمة الممتحنة بكسر الحاء وهو الذي جزم به السهيلي.
ووجه التسمية أنها جاءت فيها آية امتحان إيمان النساء اللاتي يأتين من مكة مهاجرات إلى المدينة وهي آية {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} إلى قوله: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]. فوصف الناس تلك الآية بالممتحنة لأنها شرعت الامتحان. وأضيفت السورة إلى تلك الآية.
وقال السهيلي: أسند الامتحان إلى السورة مجازا كما قيل لسورة براءة الفاضحة. يعني أن ذلك الوصف مجاز عقلي.
وروي بفتح الحاء على اسم المفعول قال ابن حجر: وهو المشهور أي المرأة الممتحنة على أن التعريف تعريف العهد والمعهود أول امرأة امتحنت في إيمانها، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط امرأة عبد الرحمان بن عوف. كما سميت سورة قد سمع الله سورة المجادلة بكسر الدال.
ولك أن تجعل التعريف تعريف الجنس، أي النساء الممتحنة.
قال في الإتقان : وتسمى سورة الامتحان، وسورة المودة، وعزا ذلك إلى كتاب جمال القراء لعلي السخاوي ولم يذكر سنده. وهذه السورة مدنية بالاتفاق.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثلاث عشرة آية. وآياتها طوال.
واتفقوا على أن الآية الأولى نزلت في شأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى
(28/115)
المشركين من أهل مكة.
روى البخاري من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار يبلغ به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه قصة كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ثم قال: قال عمرو بن دينار: نزلت فيه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الممتحنة: 1] قال سفيان: هذا في حديث الناس لا أدري في الحديث أو قول عمرو. حفظته من عمرو وما تركت منه حرفا اهـ.
وفي صحيح مسلم وليس في حديث أبي بكر وزهير من الخمسة الذين روى عنهم مسلم يروون عن سفيان بن عيينة ذكر الآية. وجعلها إسحاق أي بن إبراهيم أحد من روى عنهم مسلم هذا الحديث في روايته من تلاوة سفيان اهـ. ولم يتعرض مسلم لرواية عمرو الناقد وابن أبي عمر عن سفيان فلعلهما لم يذكرا شيئا في ذلك.
واختلفوا في آن كتابة إليهم أكان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية وهو قول قتادة ودرج عليه ابن عطية وهو مقتضى رواية الحارث عن علي بن أبي طالب عند الطبري، قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي مكة أفشى في الناس أنه يريد خيبر وأسر إلى ناس من أصحابه منهم حاطب بن أبي بلتعة أنه يريد مكة. فكتب حاطب إلى أهل مكة... إلى آخره، فإن قوله: أفشى، أنه يريد خيبر يدل على أن إرادته مكة إنما هي إرادة عمر الحديبية لا غزو مكة لأن خيبر فتحت قبل فتح مكة. ويؤيد هذا ما رواه الطبري أن المرأة التي أرسل معها حاطب كتابه كان مجيئها المدينة بعد غزوة بدر بسنتين: وقال ابن عطية: نزلت هذه السورة سنة ست.
وقال جماعة: كان كتاب حاطب إلى أهل مكة عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، وهو ظاهر صنيع جمهور أهل السير وصنيع البخاري في كتاب المغازي من صحيحه في ترتيبه للغزوات، ودرج عليه معظم المفسرين.
ومعظم الروايات ليس فيها تعيين ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من تجهزه إلى مكة أهو لأجل العمرة أم لأجل الفتح فإن كان الأصح الأول وهو الذي نختاره كانت السورة جميعها نازلة في مدة متقاربة فإن امتحان أم كلثوم بنت عقبة كان عقب صلح الحديبية. ويكون نزول السورة مرتبا على ترتيب آياتها وهو الأصل في السور.
وعلى القول الثاني يكون صدور السورة نازلا بعد آيات الامتحان وما بعدها حتى
(28/116)
قال بعضهم: إن أول السورة نزل بمكة بعد الفتح، وهذا قول غريب لا ينبغي التعويل عليه.
وهذه السورة قد عدت الثانية والتسعين في تعداد نزول السور. عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة العقود وقبل سورة النساء.
أغراض هذه السورة
اشتملت من الأغراض على تحذير المؤمنين من اتخاذ المشركين أولياء مع أنهم كفروا بالدين الحق وأخرجوهم من بلادهم.
وإعلامهم بأن اتخاذهم أولياء ضلال وأنهم لو تمكنوا من المؤمنين لأساؤوا إليهم بالفعل والقول، وأن ما بينهم وبين المشركين من أواصر القرابة لا يعتد به تجاه العداوة في الدين، وضرب لهم مثلا في ذلك قطيعة إبراهيم لأبيه وقومه.
وأردف ذلك باستئناس المؤمنين برجاء أن تحصل مودة بينهم وبين الذين أمرهم الله بمعاداتهم أي هذه معاداة غير دائمة.
وأردف بالرخصة في حسن معاملة الكفرة الذين لم يقاتلوا المسلمين قتال عداوة في دين ولا أخرجوهم من ديارهم. وهذه الأحكام إلى نهاية الآية التاسعة.
وحكم المؤمنات اللاء يأتين مهاجرات واختبار صدق إيمانهن وأن يحفظن من الرجوع إلى دار الشرك ويعوض أزواجهن المشركون ما أعطوهن من المهور ويقع التراد كذلك مع المشركين.
ومبايعة المؤمنات المهاجرات ليعرف التزامهن لأحكام الشريعة الإسلامية. وهي الآية الثانية عشرة.
وتحريم تزوج المسلمين المشركات وهذا في الآيتين العاشرة والحادية عشرة.
والنهي عن موالاة اليهود وأنهم أشبهوا المشركين وهي الآية الثالثة عشرة.
[1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ
(28/117)
سَوَاءَ السَّبِيلِ}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي}.
اتفق المفسرون وثبت في صحيح الأحاديث أن هذه الآية نزلت في قضية الكتاب الذي كتب به حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من قريش. وكان حاطب من المهاجرين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل بدر.
وحاصل القصة مأخوذة مما في صحيح الآثار ومشهور السيرة: أن رسول الله كان قد تجهز قاصدا مكة. قيل لأجل العمرة عام الحديبية، وهو الأصح، وقيل لأجل فتح مكة وهو لا يستقيم، أيامئذ من مكة إلى المدينة امرأة تسمى سارة مولا' لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف وكانت على دين الشرك فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة وقد ذهب الموالي تعني من قتل من مواليها يوم بدر. وقد اشتدت بي الحاجة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب وبني المطلب على إعطائها، فكسوها وأعطوها وحملوها، وجاءها حاطب بن أبي بلتعة فأعطاها كتابا لتبلغه إلى من كتب إليهم من أهل مكة يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج إليهم، وآجرها على إبلاغه فخرجت، وأوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث عليا والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي، وكانوا فرسانا. وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلوا سبيلها. فخرجوا تتعادى بهم خيلهم حتى بلغوا روضة خاخ فإذا هم بالمرأة. فقالوا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقالوا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب يعنون أنهم يجردونها فأخرجته من عقاصها، وفي رواية من حجزتها.
فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا صاحب هذا ما هذا"? قال: لا تعجل علي يا رسول الله. فإني كنت امرأ ملصقا في قريش وكان لمن كان معك من المهاجرين قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي يريد أمه وأخوته ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "صدق". فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدرا وما يدريك ربك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وقال: "لا تقولوا لحاطب إلا خيرا" فأنزل الله تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ
(28/118)
آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ أولياء} الآيات.
والظاهر أن المرأة جاءت متجسسة إذ ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمن يوم الفتح أربعة منهم هذه المرأة لكن هذا يعارضه ما جاء في رواية القصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا منها الكتاب وخلو سبيلها".
وقد وجه الخطاب بالنهي إلى جميع المؤمنين تحذيرا من إتيان فعل حاطب.
والعدو: ذو العداوة، وهو فعول بمعنى فاعل من: عدا يعدو، مثل عفو. وأصله مصدر. على وزن فعول مثل قبول ونحوه من مصادر قليلة. ولكنه على زنة المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الصف به المذكر والمؤنث والواحد والمثنى والجمع. قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77]، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء. [92]
والمعنى: لا تتخذوا أعدائي وأعداءكم أولياء. والمراد العداوة في الدين فإن المؤمنين لم يبدأوهم بالعداوة وإنما أبدى المشركون عداوة المؤمنين انتصارا لشركهم فعدوا من خرجوا عن الشرك أعداء لهم. وقد كان مشركو العرب متفاوتين في مناورتة المسلمين فإن خزاعة كانوا مشركين وكانوا موالين النبي صلى الله عليه وسلم. فمعنى إضافة عدو إلى ياء المتكلم على تقدير: عدو ديني، أو رسولي.
والاتخاذ: افتعال من الأخذ صيغ الافتعال للمبالغة في الأخذ المجازي فأطلق على التلبس والملازمة. وقد تقدم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} في سورة النساء. [71] ولذلك لزمه ذكر حال بعد مفعوله لتدل على تعيين جانب المعاملة من خير أو شر. فعومل هذا الفعل معاملة صير. واعتبرت الحال التي بعده بمنزلة المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني للزوم ذكرها وهل المفعول الثاني من باب ظن وأخواته إلا حال في المعنى، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام [74].
وجملة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} في موضع الحال من ضمير {لا تَتَّخِذُوا} ، أو في موضع الصفة ل {أولياء} أو بيان لمعنى أتخاذهم أولياء.
ويجوز أن تكون جملة في موضع الحال من ضمير {لا تَتَّخِذُوا} لأن جعلها حالا يتوصل منه إلى التعجيب من إلقائهم إليهم بالمودة.
والإلقاء حقيقته رمي ما في اليد على الأرض. واستعير لإيقاع الشيء بدون تدبر في
(28/119)
موقعه، أي تصرفون إليهم مودتكم بغير تأمل. قال تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} في سورة النحل [86].
والباء في {بالمودة} لتأكيد اتصال الفعل بمفعوله. وأصل الكلام: تلقون إليهم المودة، كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6] وذلك تصوير لقوة مودتهم لهم.
وزيد في تصوير هذه الحالة بجملة الحال التي بعدها وهي {قَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} وهي حال من ضمير {إليهم} أو من {عدوي} .
"وما جاءكم من الحق" هو القرآن والدين فذكر بطريق الموصولية ليشمل كل ما أتاهم به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإيجاز مع ما في الصلة من الإيذان بتشنيع كفرهم بأنه كفر بما ليس من شأنه أن يكفر به طلاب الهدى فإن الحق محبوب مرغوب.
وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين وهم الذين آمنوا لأنهم الذين انتفعوا بذلك الحق وتقبلوه فكأنه جاء إليهم لا إلى غيرهم وإلا فإنه جاء لدعوة الذين آمنوا والمشركين فقبله الذين آمنوا ونبذه المشركون.
وفيه إيماء إلى أن كفر الكافرين به ناشئ عن حسدهم الذين آمنوا قبلهم.
وفي ذلك أيضا إلهاب القلوب المؤمنين ليحذروا من موالاة المشركين.
وجملة {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُم} حال من ضمير {كفروا} ، أي لم كتفوا بكفرهم بما جاء من الحق فتلبسوا معه بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجكم من بلدكم لأن تؤمنوا بالله ربكم، أي هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم. وأن ذلك لا عذر لهم فيه لأن إيمانكم لا يضيرهم. ولذلك أجري على اسم الجلالة وصف ربكم على حد قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1، 3]ثم قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
وحكيت هذه الحالة بصيغة المضارع لتصوير الحالة لأن الجملة لما وقعت حالا من ضمير {وَقَدْ كَفَرُوا} كان إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تلك الحالة عملا فظيعا، فأريد استحضار صورة ذلك الإخراج العظيم فظاعة اعتلالهم له.
والإخراج أريد به: الحمل على الخروج بإتيان أسباب الخروج من تضييق على
(28/120)
المسلمين وأذى لهم.
وأسند الإخراج إلى ضمير العدو كلهم لأن جميعهم كانوا راضين بما يصدر من بعضهم من أذى المسلمين. وربما أغروا به سفهاءهم، ولذلك فالإخراج مجاز في أسبابه، وإسناده إلى المشركين إسناد حقيقي.
وهذه الصفات بمجموعها لا تنطبق إلا على المشركين من أهل مكة ومجموعها هو عليه النهي عن موادتهم.
وجيء بصيغة المضارع في قوله تعالى: {أَنْ تُؤْمِنُوا} لإفادة استمرار إيمان المؤمنين وفيه إيماء إلى الثناء على المؤمنين بثباتهم على دينهم، وأنهم لم يصدهم عنه ما سبب لهم الخروج من بلادهم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} شرط ذيل به النهي من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} . وهذا مقام يستعمل في مثله الشرط بمنزلة التتميم لما قبله دون قصد تعليق ما قبله بمضمون فعل الشرط، أي لا يقصد أنه إذا انتفى فعل الشرط انتفى ما علق عليه كما هو الشأن في الشروط بل يقصد تأكيد الكلام الذي قبله بمضمون فعل الشرط فيكون كالتعليل لما قبله، وإنما يؤتى به في صورة الشرط مع ثقة المتكلم بحصول مضمون فعل الشرط بحيث لا يتوقع من السامع أن يحصل منه غير مضمون فعل الشرط فتكون صيغة الشرط مرادا بها التحذير بطريق المجاز المرسل في المركب لأن معنى الشرط يلزمه التردد غالبا. ولهذا يؤتى بمثل هذا الشرط إذا كان المتكلم واثقا بحصول مضمونه متحققا صحة ما يقوله قبل الشرط. كما ذكر في الكشاف في قوله تعالي: {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الشعراء [51]، في قراءة من قرأ {إَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} بكسر همزة "إن" وهي قراءة شاذة فتكون "إن" شرطية مع أنهم متحققون أنهم أول المؤمنين فطمعوا في مغفرة خطاياهم لتحققهم أنهم أول المؤمنين، فيكون الشرط في مثله بمنزلة التعليل وتكون أداة الشرط مثل "إذ" أو لام التعليل.
وقد يأتي بمثل هذا الشرط من يظهر وجوب العمل على مقتضى ما حصل من فعل الشرط وأن لا يخالف مقتضاه كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [لأنفال:41] إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [لأنفال:41] أي فإيمانكم ويقينكم مما أنزلنا يوجبان أن ترضوا بصرف الغنيمة للأصناف المعينة من عند
(28/121)
الله. ومنه كثير في القرآن إذا تتبعت مواقعه.
ويغلب أن يكون فعل الشرط في مثله فعل كون إيذانا بأن الشرط محقق الحصول.
وما وقع في هذه السورة من هذا القبيل فالمقصود استقرار النهي عن أتخاذ عدو الله أولياء وعقب بفرض شرطه موثوق بأن الذين نهوا متلبسون بمضمون فعل الشرط بلا ريب، فكان ذكر الشرط مما يزيد تأكيد الانكفاف.
ولذلك يجاء بمثل هذا الشرط في آخر الكلام إذ هو يشبه التتميم والتذييل، وهذا من دقائق الاستعمال في الكلام البليغ.
قال في الكشاف في قوله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} في سورة الفرقان [42] و لولا في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث الصنعة مجرى التقييد للحكم المطلق. وقال هنا {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلق بـ {لا تَتَّخِذُوا} وقول النحويين في مثله على أنه شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه. اهـ. يعني أن فرقا بين كلام النحويين وبين ما اختاره هو من جعله متعلقا ب {لا تَتَّخِذُوا} فإنه جعل جواب الشرط غير منوي. قلت: فينبغي أن يعد كلامه من فروق استعمال الشروط مثل فروق الخبر وفروق الحال المبوب لكليهما في كتاب دلائل الإعجاز . وكلام النحاة جرى على غالب أحوال الشروط التي تتأخر عن جوابها نحو: اقبل شفاعة فلان إن شفع عندك، وينبغي أن يتطلب لتقديم ما يدل على الجواب المحذوف إذا حذف نكتة في غير ما جرى على استعمال الشرط بمنزلة التذييل والتتميم.
وأداة الشرط في مثله تشبه {إن} الوصلية و {لو} الوصلية، ولذلك قال في الكشاف هنا: إن جملة {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} متعلقة بـ {لا تَتَّخِذُوا} يعني تعلق الحال بعاملها، أي والحال حال خروجكم في سبيل الله وابتغائكم مرضاته بناء على أن شرط "إن". و"لو" الوصليتين يعتبر حالا. ولا يعكر عليه أن شرطهما يقترن بواو الحال لأن ابن جني والزمخشري سوغا خلو الحال في مثله عن الواو والاستعمال يشهد لهما.
والمعنى: لا يقع منكم اتخاذ عدوي وعدوكم أولياء ومودتهم، مع أنهم كفروا بما جاءكم من الحق، وأخرجوكم لأجل إيمانكم. {إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} من بلادكم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي، فكيف توالون من أخرجوكم وكان إخراجهم إياكم لأجلي وأنا ربكم.
(28/122)
والمراد بالخروج في قوله تعالى: {إنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} الخروج من مكة مهاجرة إلى المدينة. فالخطاب خاص بالمهاجرين على طريقة تخصيص العموم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} روعي في هذا التخصيص قرينة سبب نزول الآية على حادث حاطب بن أبي بلتعة.
و {جهادا} ، {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} مصدران منصوبان على المفعول لأجله.
{تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} .
يجوز أن تكون الجملة بيانا لجملة {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ، أو بدل استمال منها فإن الإسرار إليهم بالمودة مما اشتمل عليه الإلقاء إليهم بالمودة. والخبر مستعمل في التوبيخ والتعجيب، فالتوبيخ مستفاد من إيقاع الخبر عقب النهي المتقدم، والتعجيب مستفاد من تعثيبه بجملة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} ، أي كيف تظنون أن إسراركم إليهم يخفى علينا ولا نطلع عليه رسولنا.
والإسرار: التحدث والإخبار سرا.
ومفعول {تسرون} يجوز أن يكون محذوفا يدل عليه السياق، أي تخبرونهم أحوال المسلمين سرا.
وجيء بصيغة المضارع لتصوير حالة الإسرار إليه تفظيعا لها.
والباء في {بالمودة} للسببية، أي تخبرونهم سرا بسبب المودة أي بسبب طلب المودة لهم كما هو في قضية كتاب حاطب.
ويجوز أن يكون {بالمودة} في محل المفعول لفعل {تسرون} والباء زائدة لتأكيد المفعولية كالباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
وجملة {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} في موضع الحال من ضمير {تسرون} أو معترضة، والواو اعتراضية.
وهذا مناط التعجيب من فعل المعرض به وهو حاطب بن أبي بلتعة. وتقديم الإخفاء لأنه المناسب لقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ} . ولموافقته للقصة.
و {أعلم} اسم تفضيل والمفضل عليه معلوم من قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ} فالتقدير: أعلم منهم ومنكم بما أخفيتم وما أعلنتم.
(28/123)
والباء متعلقة باسم التفضيل وهي بمعنى المصاحبة.
{وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
عطف على جملة النهي في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} ، عطف على النهي التوعد على عدم الانتهاء بان من لم ينته عما نهي عنه هو ضال عن الهدى.
وضمير الغيبة في {يفعله} عائد إلى الاتخاذ المفهوم من فعل {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي} أي ومن يفعل ذلك بعد هذا النهي والتحذير فهو قد ضل عن سواء السبيل.
و {سَوَاءَ السَّبِيلِ} مستعار لأعمال الصلاح والهدى لشبهها بالطريق المستوي الذي يبلغ من سلكه إلى بغيته ويقع من انحرف عنه في هلكة. والمراد به هنا ضل عن الإسلام وضل عن الرشد.
و {من} شرطية الفعل بعدها مستقبل وهو وعيد للذين يفعلون مثل ما فعل حاطب بعد أن بلغهم النهي والتحذير والتوبيخ والتفظيع لعمله.
[2] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} .
تفيد هذه الجملة معنى التعليل لمفاد قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] باعتبار بعض ما أفادته الجملة، وهو الضلال عن الرشد، فإنه قد يخفى ويظن أن في تطلب مودة العدو فائدة، كما هو حال المنافقين المحكي في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، فقد يظن أن موالاتهم من الدهاء والحزم رجاء نفعهم إن دالت لهم الدولة، فبين الله لهم خطأ هذا الظن، وأنهم إن استفادوا من مودتهم إياهم إطلاعا على قوتهم فتأهبوا لهم وظفروا بهم لم يكونوا ليرقبوا فيهم إلا ولا ذمة، وأنهم لو أخذوهم وتمكنوا منهم لكانوا أعداء لهم لأن الذي أضمر العداوة زمنا يعسر أن ينقلب ودودا، وذلك لشدة الحنق على ما لقوا من المسلمين من إبطال دين الشرك وتحقير أهله وأصنامهم.
وفعل {يكونوا} مشعر بأن عداوتهم قديمة وأنها تستمر.
والبسط: مستعار للإكثار لما شاع من تشبيه الكثير بالواسع والطويل، وتشبيه ضده
(28/124)
وهو القبض بضد ذلك، فبسط اليد الإكثار من عملها.
والمراد به هنا: عمل اليد الذي يضر مثل الضرب والتقييد والطعن، وعمل اللسان الذي يؤذي مثل الشتم والتهكم, ودل على ذلك قوله: {بالسوء} ، فهو متعلق بـ {يبسطوا} الذي مفعوله {أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ} .
وجملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} حال من ضمير {يكونوا}، والواو واو الحال، أي وهم قد ردوا من الآن أن تكفروا فكيف لو يأسرونكم أليس أهم شيء عندهم حينئذ أن يردوكم كفارا، فجملة الحال دليل على معطوف مقدر على جواب الشرط كأنه قيل: إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء إلى آخره، ويردوكم كفارا، وليست جملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} معطوفة على جملة الجواب، لأن محبتهم أن يكفر المسلمون محبة غير مقيدة بالشرط، ولذلك وقع فعل {ودوا} ماضيا ولم يقع مضارعا مثل الأفعال الثلاثة قبله {يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ} ليعلم أنه ليس معطوفا على جواب الشرط.
وهذا الوجه أحسن مما في كتاب الإيضاح للقزويني في بحث تقييد المسند بالشرط، إذ استظهر أن يكون {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} عطفا على جملة {إن يَثْقَفُوكُمْ} .
ونظره بجملة {ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} من قوله تعالى: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} . [آل عمران: 111] في آل عمران. فإن المعطوف ب"ثم" فيها عطف على مجموع الشرط وفعله وجوابه لا على جملة فعل الشرط.
و {لو} هنا مصدرية ففعل{تكفرون} مؤول بمصدر، أي ودوا كفركم.
[3] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
تخلص من تبيين سوء عاقبة موالاة أعداء الدين في الحياة الدنيا، إلى بيان سوء عاقبة تلك الموالاة في الآخرة، ومناسبة حسن التخلص قوله: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] الدال على معنى: أن ودادتهم كفركم من قبل أن يثقفوكم تنقلب إلى أن يكرهوكم على الكفر حين يثقفوكم، فلا تنفعكم ذوو أرحامكم مثل الأمهات والإخوة الأشقاء، وللأم، ولا أولادكم، ولا تدفع عنكم عذاب الآخرة إن كانوا قد نفعوكم في الدنيا بصلة ذوي الأرحام ونصرة الأولاد.
(28/125)
فجملة {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن سؤال مفروض ممن يسمع جملة {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، أي من حق ذلك أن يسأل عن آثاره لخطر أمرها.
وإذا كان ناشئا عن كلام جرى مجرى التعليل لجملة {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1]، فهو أيضا مفيد تعليلا ثانيا بحسب المعنى، ولولا إرادة الاستئناف البياني لجاءت هذه الجملة معطوفة بالواو على التي قبلها، وزاد ذلك حسنا أن ما صدر من حاطب ابن أبي بلعتة مما عد عليه هو موالاة للعدو، وأنه اعتذر بأنه أراد أن يتخذ عند المشركين يدا يحمون بها قرابته أي أمه وإخوته. ولذلك ابتدئ في نفي النفع بذكر الأرحام لموافقة قصة حاطب لأن الأم ذات رحم والإخوة أبناؤها هم إخوته من رحمه.
وأما عطف {وَلا أَوْلادُكُمْ} فتتميم لشمول النهي قوما لهم أبناء في مكة.
والمراد بالأرحام: ذوو الأرحام على حذف مضاف لظهور القرينة.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ظرف يتنازعه كل من فعل {لَنْ تَنْفَعَكُمْ} ، وفعل {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . إذ لا يلزم تقدم العاملين على المعمول المتنازع فيه إذا كان ظرفا لأن الظروف تتقدم على عواملها وأن أبيت هذا التنازع فقل هو ظرف {تنفعكم} واجعل لـ {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . ظرفا محذوفا دل عليه المذكور.
والفصل هنا: التفريق، وليس المراد به القضاء. والمعنى: يوم القيامة يفرق بينكم وبين ذوي أرحامكم وأولادكم فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34، 37].
والمعنى: أنهم لا ينفعونكم يوم القيامة فما لكم ترفضون حق الله مراعاة لهم وهم يفرون منكم يوم اشتداد الهول، خطأ رأيهم في موالاة المفار أولا بما يرجع إلى حال من والوه. ثم خطاه ثانيا بما يرجع إلى حال من استعملوا الموالاة لأجلهم، وهو تقسيم حاصر إشارة إلى أن ما أقدم عليه حاطب من أي جهة نظر إليه يكون خطأ وباطلا.
وقرأ الجمهور {يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} . ببناء {يفصل} للمجهول مخففا. وقرأه عاصم ويعقوب {يفصل} بالبناء الفاعل، وفاعله ضمير عائد إلى الله لعلمه من المقام، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {يفصل} مشدد الصاد مكسورة مبنيا للفاعل مبالغة في الفصل، والفاعل ضمير يعود إلى الله المعلوم من المقام.
(28/126)
وقرأه ابن عامر {يفصل} بضم التحتية وتشديد الصاد مفتوحة مبنيا للنائب من فصل المشدد.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعيد ووعد.
[4] {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}.
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}
صدر هذه الآية يفيد تأكيدا لمضمون جملة {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} [الممتحنة:2] وجملة {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة:3]، لأنها بما تضمنته من أن الموجه إليهم التوبيخ خالفوا الأسوة الحسنة تقوي إثبات الخطأ المستوجب للتوبيخ.
ذلك أنه بعد الفراغ من بيان خطأ من يوالي عدو الله بما يجر إلى أصحابه من مضار في الدنيا وفر الآخرة تحذيرا لهم من ذلك، انتقل إلى تمثيل الحالة الصالحة بمثال من فعل أهل الإيمان الصادق والاستقامة القويمة وناهيك بها أسوة.
وافتتاح الكلام بكلمتي {قَدْ كَانَتْ} لتأكيد الخبر، فإن {قد} مع فعل الكون يراد بهما التعريض بالإنكار على المخاطب ولومه في الإعراض عن العمل بما تضمنه الخبر كقول عمر لابن عباس يوم طعنه غلام المغيرة: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن يكثر هؤلاء الأعلاج بالمدينة، ومن قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [قّ:22] توبيخا على ما كان منهم في الدنيا من إنكار للبعث، وقوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] وقوله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].
ويتعلق {لكم} بفعل {كان} ، أو هو ظرف مستقر وقع موقع الحال من {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وإبراهيم عليه السلام مثل في اليقين بالله والغضب له، عرف ذلك العرب واليهود
(28/127)
والنصارى من الأمم، وشاع بين الأمم المجاورة من الكنعانيين والأراميين، ولعله بلغ إلى الهند. وقد قيل: إن اسم برهما معبود البراهة من الهنود محرف عن اسم إبراهيم وهو احتمال.
وعطف {وَالَّذِينَ مَعَهُ} ليتم التمثيل لحال المسلمين مع رسولهم صلى الله عليه وسلم بحال إبراهيم عليه السلام والذين معه، أي أن يكون المسلمون تابعين لرضى رسولهم صلى الله عليه وسلم كما كان الذين مع إبراهيم عليه السلام.
والمراد ب {الَّذِينَ مَعَهُ} الذين آمنوا به واتبعوا هديه وهم زوجه سارة وابن أخيه لوط ولم يكن لإبراهيم أبناء، فضمير {إِذْ قَالُوا} عائد إلى إبراهيم والذين معه فهم ثلاثة.
و {إذ} ظرف زمان بمعنى حين، أي الأسوة فيه وفيهم في ذلك الزمن.
والمراد بالزمن: الأحوال الكائنة فيه، وهو ما تبينه الجملة المضاف إليها الظرف وهي جملة {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الخ.
والإسوة بكسر الهمزة وضمها: القدوة التي يقتدى بها في فعل ما. فوصفت في الآية ب {حسنة} وصفا للمدح لأن كونها حسنة قد علم من سياق ما قبله وما بعده.
وقرأ الجمهور {إسوة} بكسر الهمزة، وقرأه عاصم بضمها. وتقدمت في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رسول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} في سورة الأحزاب[21].
وحرف {في} مستعار لقوة الملابسة إذ جعل تلبس إبراهيم والذين معه بكونهم أسوة حسنة، بمنزلة تلبس الظرف بالمظروف في شدة التمكن من الوصف. ولذلك كان المعنى: قد كان لكم إبراهيم والذين معه أسوة في حين قولهم لقومهم. فليس قوله: {إسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} من قبيل التجريد مثل قول أبي خالد العتابي.
وفي الرحمان للضعفاء كاف1
لأن الأسوة هنا هي قول إبراهيم والذين معه لا أنفسهم.
ـــــــ
1 من شواهد الكشاف وصدر البيت:
ولولا هن قد سؤمت مهري
وقبله:
لقد زاد الحياة إلي حبا ... بناتي إنهن من الضيعاف
(28/128)
و {برءاء} بهمزتين بوزن فعلاء جمع بريء مثل كريم وكرماء.
وبريء فعيل بمعنى فاعل من بريء إذا خلا منه سواء بعد ملابسته أو بدون ملابسة.
والمراد هنا التبرؤ من مخاطبتهم وملابستهم..وعطف عليه {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من الأصنام التي تعبدونها من دون الله والمراد برآء من عبادتها.
وجملة {كَفَرْنَا بِكُمْ} وما عطف عليها بيان لمعنى جملة {إِنَّا بُرَآءُ} . وضمير {بكم} عائد إلى مجموع الخاطبين من قومهم مع ما يعبدونه من دون الله، ويفسر الكفر بما يناسب المعطوف، أي كفرنا بجميعكم فكفرهم بالقوم غير بما يعبده قومهم.
وعطف عليه {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً} ويا معناه: ظهر ونشأ، أي أحثنا معكم العداوة ظاهرة لا مواربة فيها، أي ليست عداوة في القلب خاصة بل هي عداوة واضحة علانية بالقول والقلب. وهو اقصى ما يستطيعه أمثالهم من درجات تغيير المنكر وهو التغيير باللسان إذ ليسوا بمستطيعين تغيير ما عليه قومهم باليد لقلتهم وضعفهم بين قومهم.
و {العداوة} المعاملة بالسوء والاعتداء.
و {البغضاء} : نفرة النفس، والكراهية وقد تطلق إحداهما في موضع الأخرى إذا افترقنا، فذكرهما معا هنا مقصود به حصول الحالتين في أنفسهم: حالة المعاملة بالعدوان، وحالة النفرة والكراهية، أي نسيء معاملتكم ونضمر لكم الكراهية حتى يؤمنوا بالله وحده دون إشراك.
والمراد بقولهم هذا لقومهم أنهم قالوه مقال الصادق في قوله، فالائتساء بهم في ذلك القول والعمل بما يترجم عليه القول مما في النفوس، فالمؤتسى به أنهم كاشفوا قومهم بالمنافرة، وصرحوا لهم بالبغضاء لأجل كفرهم بالله ولم يصانعوهم ويغضوا عن كفرهم لاكتساب مودتهم كما فعل الموبخ بهذه الآية.
{إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} .
(28/129)
الأظهر أن هذه الجملة معترضة بين جمل حكاية مقال إبراهيم والذين معه وجملة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6]، والاستثناء منقطع إذ ليس هذا القول من جنس قولهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الخ، فإن قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك رفق بأبيه وهو يغاير التبرؤ منه، فكان الاستثناء في معنى الاستدراك عن قوله {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} الشامل لمقالة إبراهيم معهم لاختلاف جنسي القولين.
قال في الكشاف في قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر1:58، 59]. أنه استثناء منقطع من {قوم} لأن القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان اهـ. فجعل اختلاف جنسي المستثنى والمستثنى منه موجبا اعتبار الاستثناء منقطعا. وفائدة الاستدراك هنا التعريض بخطإ حاطب ابن أبي بلتعة، أي إن كنتم معتذرين فليكم عذركم في مواصلة أعداء الله بأن تودوا لهم مغفرة كفرهم باستدعاء سبب المغفرة وهو أن يهديهم الله إلى الدين الحق كما قال إبراهيم لأبيه {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} ، ولا يكون ذلك بمصانعة لا يفهمون منها أنهم منكم بمحل المودة والعناية فيزدادوا تعنتا في كفرهم.
وحكاية قول إبراهيم لأبيه {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} إكمال لجملة ما قاله إبراهيم لأبيه وإن كان المقصود من الاستثناء مجرد وعده بالاستغفار له فبني عليه ما هو من بقية كلامه لما فيه من الدلالة على أن الاستغفار له قد لا يقبله الله.
والوا في {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يجوز أن يكون للحال أو للعطف. والمعنى متقارب، ومعنى الحال أوضح وهو تذييل.
ومعنى الملك في قوله: {وَمَا أَمْلِكُ} القدرة، وتقدم في قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة العقود[17].
و {مِنْ شَيْءٍ} عام للمغفرة المسؤولة وغيرها مما يريده الله به.
{رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} .
الأظهر أن يكون هذا من كلام إبراهيم وقومه وجملة {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ} إلى آخرها معترضة بين أجزاء القول فهو مما أمر المسلمون أن يأتسوا به، وبه يكون الكلام شديد
ـــــــ
1 في المطبوعة الشعراء وهو خطأ.
(28/130)
الاتصال مع قوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6].
ويحتمل أن يكون تعليما للمؤمنين أن يقولوا هذا الكلام ويستحضروا معانيه ليجري عملهم بمقتضاه فهو على تقدير أمر بقول محذوف والمقصود من القول العمل بالقول فإن الكلام يجدد المعنى في نفس المتكلم به ويذكر السامع من غفلته. وهذا تتميم لما أوصاهم به من مقاطعة الكفار بعد التحريض على الائتساء بإبراهيم ومن معه.
فعلى المعنى الأول يكون حكاية لما قاله إبراهيم وقومه بما يفيد حاصل معانيه فقد يكون هو معنى ما حكاه الله عن إبراهيم من قوله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:78 ،82].
فإن التوكل على الله في أمور الحياة بسؤاله النجاح في ما يصلح أعمال العبد في مساعيه وأعظمه النجاح في دينه وما فيه قوام عيشه ثم ما فيه دفع الضر. وقد جمعها قول إبراهيم هناك { فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} . وهذا جمعه قوله هنا {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} جمعه قوله: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فإن المصير مصيران مصير بعد الحياة ومصير بعد البعث.
وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} فإن وسيلة الطمع هو التوبة وقد تضمنه قوله: {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} .
وعلى المعنى الثاني هو تعليم للمؤمنين أن يصرفوا توجههم إلى الله بإرضائه ولا يلتفتوا إلى ما لا يرضاه وإن حسبوا أنهم ينتفعون به فإن رضى الله مقدم على ما دونه.
والقول في معنى التوكل تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[159].
والإنابة: التوبة، وتقدمت عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} في سورة هود[75]، وعند قوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في سورة الروم [31].
وتقديم المجرور على هذه الأفعال لإفادة القصر، وهو قصر بعضه ادعائي وبعضه حقيقي كما تصرف إليه القرينة.
وإعادة النداء بقولهم {ربنا} إظهار للتضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث.
(28/131)
[5] {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
{رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}.
الفتنة: اضطراب الحال وفساده، وهو اسم مصدر فتجيء بمعنى المصدر كقوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، وتجيء وصفا للمفتون والفاتن.
ومعنى جعلهم فتنة للذين كفروا: جعلهم مفتونين يفتنهم الذين كفروا، فيصدق ذلك بأن يتسلط عليهم الذين كفروا فيفتنون كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] الخ. ويصدق أيضا بأن تحتل أمور دينهم بسبب الذين كفروا، أي بمحبتهم والتقرب نتهم كقوله تعالى: حكاية عن دعاء موسى {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} [االأعراف: 155].
وعلى الوجهين فالفتنة من إطلاق المصدر على اسم المفعول. وتقدم في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} في سورة يونس [85].
واللام في {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} على الوجهين للملك، أي مفتونين مسخرين لهم.
ويجوز عندي أن تكون {فتنة} مصدرا بمعنى اسم الفاعل، أي لا تجعلنا فاتنين، أي سبب فتنة للذين كفروا، فيكون كتابة عن معنى لا تغلب الذين كفروا علينا واصرف عنا ما يكون به اختلال أمرنا وسوء الأحوال كيلا يكون شيء من ذلك فاتنا الذين كفروا، أي مقويا فتنتهم فيفتتنوا في دينهم، أي يزدادوا كفرا وهو فتنة في الدين، أي فيظنوا أنا على الباطل وأنهم على الحق، وقد تطلق الفتنة على ما يفضي إلى غور في الدين كما في قوله تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] في سورة الزمر وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} في سورة الأنبياء [111].
واللام على هذا الوجه لام التبليغ وهذه معان جمة أفادتها الآية.
{وَاغْفِرْ لَنَا} .
أعقبوا دعواتهم التي تعود إلى إصلاح دينهم في الحياة الدنيا بطلب ما يصلح أمورهم في الحياة الآخرة وما يوجب رضى الله عنهم في الدنيا فإن رضاه يفضي إلى عنايته بهم بتيسير أمورهم في الحياتين. وللإشعار بالمغايرة بين الدعوتين عطفت هذه الواو ولم تعطف التي قبلها.
(28/132)
{إنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
تعليل للدعوات كلها فإن التوكل والإنابة والمصير تناسب صفة {العزيز} إذ مثله يعامل نمثل ذلك، وطلب أن لا يجعلهم فتنة باختلاف معانيه يناسب صفة {الحكيم} ، وكذلك طلب المغفرة لأنهم لما ابتهلوا إليه أن لا يجعلهم فتنة الكافرين وأن يغفر لهم رأوا أن حكمته تناسبها إجابة دعائهم لما فيه من صلاحهم وقد جاؤوا سائلينه.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
تكرير قوله آنفا {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] الخ، أعيد لتأكيد التحريض والحث على عدم إضاعة الائتساء بهم، وليبنى عليه قوله: { لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} الخ.
وقرن هذا التأكيد بلام القسم مبالغة في التأكيد. وإنما لم تتصل بفعل {كان} تاء تأنيث مع أن اسمها مؤنث اللفظ لأن تأنيث أسوة غير حقيقي، ولوقوع الفصل بين الفعل ومرفوعه بالجار والمجرور.
والإسوة هي التي تقدم ذكرها واختلاف القراء في همزتها في قوله: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .
وقوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} بدل من ضمير الخطاب في قوله: {لكم} وهو شامل لجميع المخاطبين، لأن المخاطبين بضمير {لكم} المؤمنون في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] فليس ذكر {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} تخصيصا لبعض المؤمنين ولكنه ذكر للتذكير بأن الإيمان بالله واليوم الآخر يقتضي تأسيهم بالمؤمنين السابقين وهم إبراهيم والذين معه.
وأعيد حرف الجر العامل في المبدل منه لتأكيد أن الإيمان يستلزم ذلك.
والقصد هو زيادة الحث على الائساء بإبراهيم ومن معه، وليترتب عليه قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وهذا تحذير من العود لما نهو عنه.
ففعل {يتول} مضارع تولى، فيجوز أن يكون ماضيه بمعنى إعراض، أي من لا يرجو الله واليوم الآخر ويعرض عن نهي الله فإن الله غني عن امتثاله. ويجوز عندي أن
(28/133)
يكون ماضيه من التولي بمعنى اتخاذ الولي، أي من يتخذ عدو الله أولياء فإن الله غني عن ولايته كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} في سورة العقود[51].
وضمير الفصل في قوله: {هُوَ الْغَنِيُّ} توكيد للحصر الذي أفاده تعريف الجزأين، وهو حصر ادعائي لعدم الاعتداد بغنى غيره ولا بحمده، أي هو الغني عن المتولين لأن النهي عما نهوا عنه إنما لفائدتهم لا يفيد الله شيئا فهو الغني عن كل شيء.
واتباع {الغني} بوصف {الحميد} تتميم، أي الحميد لمن يمتثل أمره ولا يعرض عنه أو الحميد لمن لا يتخذ عدوه وليا على نحو قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
اعتراض وهو استئناف متصل بما قبله من أول السورة خوطب به المؤمنون تسلية لهم على ما نهوا عنه من مواصلة أقربائهم، بأن يرجوا من الله أن يجعل قطيعتهم آيلة إلى مودة بأن يسلم المشركون من قرابة المؤمنين وقد حقق الله ذلك يوم فتح مكة بإسلام أبي سفيان والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام.
قال ابن عباس: كان من هذه المودة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، تزوجها بعد وفاة زوجها عبد الله بن جحش بأرض الحبشة بعد أن تنصر زوجها فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لانت عريكة أبي سفيان وصرح بفضل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه روي بدال بعد القاف يقال: قدع أنفه. إذا ضرب أنفه بالرمح وهذا تمثيل، وكانوا إذا نزا فحل غير كريم على ناقة كريمة دفعوه عنها بضرب أنفه بالرمح لئلا يكون نتاجها هجينا. وإذا تقدم أن هذه السورة نزلت عام فتح مكة وكان تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة في مدة مهاجرتها بالحبشة وتلك قبل فتح مكة كما صرح به ابن عطية وغيره. يعني فتكون آية {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ} الخ نزلت أول السورة ثم ألحقت بالسورة.
وإما أن يكون كلام ابن عباس على وجه المثال لحصول المودة بعد بعض المشركين، وحصول مثل تلك المودة يهئ صاحبه إلى الإسلام واستبعد ابن عطية صحة ما روي عن ابن عباس.
(28/134)
و {عسى} فعل مقاربة وهو مستعمل هنا في رجاء المسلمين ذلك من الله أو مستعملة في الوعد مجردة عن الرجاء. قال في الكشاف: كما يقول الملك في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك.
وضمير {منهم} عائد إلى العدو من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] وجملة {اللَّهُ قَدِيرٌ} تذييل. والمعنى: أنه شديد القدرة على أن يغير الأحوال فيصير المشركون مؤمنين صادقين وتصيرون أوداء لهم.
وعطف على التذييل جملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، أي يغفر لمن أنابوا إليه ويرحمهم فلا عجب أن يصيروا أوداء لكم كما تصيرون أوداء لهم.
[8] {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
استئناف هو منطوق لمفهوم الأوصاف التي وصف بها العدو في قوله تعالى: {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] وقوله: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2]، المسوقة مساق التعليل للنهي عن اتخاذ عدو الله أولياء، استثنى الله أقواما من المشركين غير مضمرين العداوة للمسلمين وكان دينهم شديد المنافرة مع دين الإسلام.
فإن نظرنا إلى وصف العدو من قوله: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} وحملناه على حالة معاداة من خالفهم في الدين ونظرنا مع ذلك إلى وصف {يخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أ}، كان مضمون قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخره، بيانا لمعنى العداوة المجعولة علة للنهي عن الموالاة وكان المعنى أن مناط النهي هو مجموع الصفات المذكورة لكل صفة على حيالها.
وإن نظرنا إلى أن وصف العدو هو عدو الدين، أي مخالفة في نفسه مع ضمينة وصف {وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} ، كان مضمون {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى آخره تخصيصا للنهي بخصوص أعداء الدين الذين لم يقاتلوا المسلمين لأجل الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم.
وأياما كان فهذه الجملة قد أخرجت من حكم النهي القوم الذين لم يقاتلوا في
(28/135)
الدين ولم يخرجوا المسلمين من ديارهم. واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها يجعل الاعتبارين سواء فدخل في حكم الآية أصناف وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم مثل خزاعة، وبني الحارث بن كعب عبد مناة بن كنامة، ومزينة كان هؤلاء كلهم مظاهرين النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون ظهوره على قريش، ومثل النساء والصبيان من المشركين، وقد جاءت قتيلة بالتصغير ويقال لها: قتلة، مكبرا بنت عبد العزي من بني عامر بن لؤي من قريش وهي أم أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى المدينة زائرة ابنتها وقتيلة يومئذ مشركة في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش بعد صلح الحديبية وهي المدة التي نزلت فيها هذه السورة فسألت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصل أمها? قال: نعم صلي أمك، وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في شأنها.
وقوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} بدل اشتمال من {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الخ، لأن وجود ضمير الموصول في المبدل وهو الضمير المنصوب في {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} يجعل بر المسلمين بهم مما تشتمل عليه أحوالهم. فدخل في الذين لم يقاتلوكم المسلمين في الدين نفر من بني هاشم منهم العباس بن عبد المطلب، والذين شملتهم أحكام هذه الآية كلهم قد قيل إنهم سبب نزولها وإنما هو شمول وما هو بسبب نزول.
ولبر: حسن المعاملة والإكرام. وهو يتعدى بحرف الجر، يقال: بر به، فتعديته هنا بنفسه على نزع الخافض.
والقسط: العدل. وضمن تقسطوا معنى تفضلوا فعدي ب" إلى" وكان حقه أن يعدى باللام. على أن اللام و"إلى" يتعاقبان كثيرا في الكلام، أي أن تعاملوهم بمثل ما يعاملونكم به من التقرب، فإن أحد يمثل ما عامل به من العدل.
وجملة و {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} تذييل، أي يحب كل مقسط فيدخل الذين يقسطون للذين حالفوهم في الدين إذا كانوا مع المخالفة محسنين معاملتهم.
وعن أبي وهب قال سألت ابن زيد عن قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية قال: نسخها القتال، قال الطبري لا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ، لأن بر المؤمنين بمن بينه وبينه قرابة من أهل الحرب أو بمن لا قرابة بينه وبينه محرم إذا لم يكن في ذلك دلالة على عورة لأهل الإسلام. اهـ.
ويؤخذ من هذه الآية جواز معاملة أهل الذمة بالإحسان وجواز الاحتفاء بأعيانهم.
(28/136)
[9] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فذلك لما تقدم وحصر الآية المتقدمة. وهي تؤذن بانتهاء الغرض المسوق له الكلام من أوله.
والقصر المستفاد من جملة {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} إلى آخرها قصر قلب لرد اعتقاد من ظن أو شك في جواز صلة المشركين على الإطلاق. والذين تحققت فيهم هذه الصفات يوم نزول الآية هم مشركوا أهل مكة، و {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} بدل اشتمال من {الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} .
{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} شرط وجيء في جواب الشرط باسم الإشارة لتمييز المشار إليهم زيادة في إيضاح الحكم.
والمظاهرة: المعاونة. وذلك لأن أهل مكة فريقان منهم من يأتي بالأسباب التي لا يحتمل المسلمون معها البقاء بمكة، ومنهم من بعين على ذلك ويغري عليه.
والقصر المستفاد من قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} قصر ادعائي، أي أن ظلمهم لشده ووقوعه بعد النهي الشديد والتنبيه على الأخطاء والعصيان ظلوا لا يغفر لأنه اعتداء على حقوق الله وحقوق المسلمين وعلى حق الظالم نفسه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
لا خلاف في أن هذه الآيات آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمن أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية.
ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجا لمشركة
(28/137)
وتكون المسلمة زوجا لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها.
وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ست مجيء أبي جندل بن عمرو يوسف في الحديد وكان مسلما موثقا في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط هاربة من زوجها عمرو بن العاص، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشمراخ وقيل: حسان بن الدحداح. وطلبهن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال: إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أم كلثوم بنت عقبة زيد بن حارثة. وتزوج سبيعة عمر رضي الله عنه1 وتزوج أميمة سهل بن حنيف2.
وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العص بن الربيع بن عبد العزي بعد سنين مشركا ثم اسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
وقد اختلف: هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخا لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملا وكان النهي الذي في هذه الآية بيانا لذلك المجمل. وقد قيل: إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وله من رجل أو امرأة يرد إلى وليه. فإذا صح ذلك كان صريحا وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملا لإرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير.
ـــــــ
1 في المطبوعة سهل بن حنيف والمثبت من تفسير البغوي 4/333 و الإصابة 4/325.
2 انظر الإصابة 4/239.
(28/138)
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصلح: "إنما الشرط في الرجال لا في النساء" فكانت هذه الآية تشريعا للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذانا للمشركين بأن شرطهم غير نص وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجا وتأييدا لرسوله صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاونا على إظهار الحق، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم.
والامتحان: الأخبار. والمراد اختبار إيمانهن.
وجملة {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} معترضة، أي أن الله يعلم سرائرهن ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل.
ولذلك فرع ما قبل الاعتراض قوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} الخ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن. وهذا الالتحاق هو الذي سمي المبايعة في قوله في الآية الآتية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ} الآية [الممتحنة: 12].
وفي صحيح البخاري عن عائشة أن رسول الله كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12] وزاد ابن عباس فقال: كانت الممتحنة أن تستحلف أنها ما خرجت بغضا لزوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منا، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية. {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} .
وموقع قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} تحقيقا لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر.
وإذا قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} إلى آخره، تعين أن يقوم بتنفيذ من إليه تنفيذ أمور
(28/139)
المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به مثل هذه الأمور العامة إلا على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور.
وإذا كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه كلام الشارع منصرفا إلى معنى الإباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم.
ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خطابات التكليف بأمور الإسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلق به قصد الشريعة، ولذلك تعد المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة: خطاب الكفار بالفروع، مسألة لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بله التفريع عليها.
وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} . ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما. وذلك أن نقول: إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الكافر يقع على صورتين:
إحداهما: أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر، وذلك ما ألح الكفار في طلبه لما جاءت بعض المؤمنات مهاجرات.
والثانية: أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإسلام بأن يخلي بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإسلام إذا جاء يطلبها ومنع من تسلمها. وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} إذ جعل فيها وصف حل خبرا عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال، وهي لام تعدية الحل وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال، أي لم يحللهن الإسلام لهم.
وقدم {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا.
(28/140)
وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي {حل} المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهن حل لهم.
وعبر عن الثانية بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فعكس الإخبار بالحل إذ جعل خبرا عن ضمير الرجال، وعدي الفعل إلى المحلل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهن لا يحل لهن أواجهن الكافرون ولو بقى الزوج في بلاد الإسلام.
ولهذا ذكرت الجملة الثانية {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} كالتتمة لحكم الجملة الأولى، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لإفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإسلام خلافا لأبي حنيفة إذ قال: إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين.
ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} وهو الأصل كما علمت آنفا أكد بجملة {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي أن انتفاء الحل حاصل من كل جهة كما بقال: لست منك ولست مني.
ونظيره قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} في سورة البقرة[187] تأكيدا لشدة التلبس والاتصال من كل جهة.
وفي الكلام محسن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين {حل} و {يحلون} اقتضاه المقام، وإنما يوفر حظ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة.
{وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} .
المراد ب {مَا أَنْفَقُوا} . ما أعطوه من المهور، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات. فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم.
وقد سمى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجورا بقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
(28/141)
والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة.
{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
وإنما قال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} للتنبيه على خصوص قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء.
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} .
نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة، فطلق عمر امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين، وهما: قريبة بنت أبي أمية، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية.
والمراد بالكوافر: المشركات. وهن موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يؤخذ حكم ذلك بالقياس.
قال ابن عطية: رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال: سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} أنه في الرجال والنسوان، فقلت له: النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة، فقال: وآيش يمنع من هذا، أليس الناس يقولون: طائفة كافرة، وفرقة كافرة، فبت وقلت: هذا تأييد اهـ. وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله: {وَلا تُمْسِكُوا} فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم. ومن العجيب قول أبي علي: فبهت وقلت... الخ. وقرأ الجمهور {وَلا تُمْسِكُوا} بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة. وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مضارع مسك بمعنى أمسك.
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} .
عطف على قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} وهو تتميم لحكمه، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررن منهم مسلمات، فكذلك إذا فرت إليهم امرأة مسلم كافرة ولا قدرة
(28/142)
لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاع مهرها إلى زوجها المسلم الذي فرت منه وهذا إنصاف بين الفريقين، والأمر للإباحة.
وقوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} تكملة لقوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} لإفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} لو أريد حكنة بمفرده لكان مغنيا عند قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ، فلما ككر عقب قوله: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا. فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة. وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية. قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو: اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية. وقد زل الفريقان اهـ. وقد أشار إليه في مغني اللبيب ولم يرده. وقال المازري في شرح البرهان: وأما قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإعراب مختلفا فإذا قال: وتشرب اللبن بفتح الباء كان نهيا عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف أن اهـ. وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة.
فأفاد قوله: {وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرون إليهم كان ذلك مخولا للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فروا من أزواجهم إلى المسلمين، كما يقال في الفقه خيرته تنفي ضروه.
{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
أي هذا حكم الله، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر. قال الزهري: لولا العهد لأمسك النساء ولم يرد إلى أزواجهم صداق. وجملة {يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} يجوز كونها حالا من اسم الجلالة أو حالا من {حُكْمُ اللَّهِ} مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره: يحكمه بينكم، وأن تكون استئنافا.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقه.
وقد كانت هذه الأحكام التي غي هذه الآيات من التراد في المهور شرعا في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإسلام خاصا بذلك الزمان بإجماع أهل العلم، قاله
(28/143)
ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص.
[11] {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} .
عطف على جملة {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة:10] فإنها لما ترتب على نزولها إباء المشركين من أن يردوا إلى أزواج النساء اللاء بقين على الكفر بمكة واللاء فررن من المدينة والتحقن بأهل الكفر بمكة مهورهم التي كانوا أعطوها نساءهم، عقبت بهذه الآية لتشريع رد تلك المهور من أموال المسلمين فيما بينهم.
روي أن المسلمين كتبوا إلى المشركين يعلمونهم بما تضمنته هذه الآية من التراد بين الفريقين في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10].
فامتنع المشركون من دفع مهور النساء اللاتي ذهبت إليهم فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} الآية.
وأصل الفوت: المفارقة والمباعدة، والتفاوت: المتباعد. والفوت هنا مستعار لضياع الحق كقول رويشد بن كثير الطائي أو عمرو بن معد يكرب:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
أي فلا ضياع علي بما أذنتم، أي فإنا كمن لم يضع له حق.
والمعنى: إن فرت بعض أزواجكم ولحقت بالكفار وحصل التعاقب بينكم وبين الكفار فعقبتم على أزواج الكفار وعقب الكفار على أزواجكم وأبى الكفار من دفع مهور بعض النساء اللاء ذهبن إليهم، فادفعوا أنتم لمن حرمه الكفار مهر امرأته، أي ما هو حقه، واحتجزوا بذلك على الكفار. وهذا يقتضي أنه إن أعطي جميع المؤمنين مهور من فاتهم من نسائهم وبقي للمشركين فضل يرده المسلمون إلى الكفار. وهذا تفسير الزهري في رواية يونس عنه وهو أظهر ما فسرت به الآية.
وعن ابن عباس والجمهور: الذين فاتهم أزواجهم إلى الكفار يعطون مهور نسائهم من مغانم المسلمين. وهذا يقتضي أن تكون الآية منسوخة بآية سورة براءة[7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ} .
والوجه أن لا يصار إلى الإعطاء من الغنائم إلا إذا لم يكن في ذمم المسلمين شيء
(28/144)
من مهور نساء المشركين اللاء أتين إلى بلاد الإسلام وصرن أزواجا للمسلمين.
والكلام إيجاز حذف شديد دل عليه مجموع الألفاظ وموضع الكلام عقب قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} .
ولفظ {شيء} هنا مراد به: بعض {مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} بيان ل {شيء} ، وأريد ب {شيء} تحقير الزوجات اللاء أبين الإسلام، فإن المراد قد فاتت ذاتها عن زوجها فلا انتفاع له بها.
وضمن فعل {فاتكم} معنى الفرار فعدي بحرف إلى أي فررن إلى الكفار.
و {عاقبتم} صيغة تفاعل من العقبة بضم العين وسكون القاف وهي النوبة، أي مصير أحد إلى حال كان فيها غيره. وأصلها في ركوب الرواحل والدواب أن يركب أحد عقبة وآخر عقبة شبه ما حكم به على الفريقين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك في بعض الأحوال ومن أداء أولئك مهور نساء هؤلاء في أحوال أخرى مماثلة بمركوب يتعاقبون فيه.
ففعل {ذهبت} مجاز مثل فعل {فاتكم} في معنى عدم القدرة عليهن.
والخطاب في قوله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} وفي قوله: {فآتوا} خطاب للمؤمنين والذين ذهبت أزواجهم هم أيضا من المؤمنين.
والمعنى: فليعط المؤمنون لإخوانهم الذين ذهبت أزواجهم ما يماثل ما كانوا أعطوه من المهور لزوجاتهم.
والذي يتولى الإعطاء هنا هو كما قررنا في قوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة:10] أي يدفع ذلك من أموال المسلمين كالغنائم والأخماس ونحوها كما بينته السنة، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب، وعياض بن أبي شداد الفهري، وشماس بن عثمان، وهشام بن العاص، مهور نسائهم اللاحقات بالمشركين من الغنائم.
وأفاد لفظ {مثل} أن يكون المهر المعطى مساويا لما كان أعطاه زوج المرأة من قبل لا نقص فيه.
وأشارت الآية إلى نسوة من نساء المهاجرين لم يسلمن وهن ثمان نساء: أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية ويقال: قريبة وهي أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، وأم كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر،
(28/145)
وبروع بفتح الباء على الأصح والمحدثون يكسرونها بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان وشبهة بنت غيلان. وعبدة بنت عبد العزى كانت تحت هشام بن العاص، وقيل تحت عمرو بن عبد. وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص، وأروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كانت تحت طلحة بن عبيد الله، وكان قد هاجر وبقيت زوجه مشركة بمكة فلما نزلت الآية طلقها طلحة بن عبيد الله.
وقد تقدم أن عمر طلق زوجتيه قريبة وأمجرول، فلم تكونا ممن لحقن بالمشركين، وإنما بقيتا بمكة إلى أن طلقهما عمر. وأحسب أن جميعهن إنما طلقهن أزواجهن عند نزول قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة:10].
والتذييل بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} تحريض للمسلمين على الوفاء بما أمرهم الله وأن لا يصدهم عن الوفاء ببعضه معاملة المشركين لهم بالجور وقلة النصفة، فأمر بأن يؤدي المسلمون لإخوانهم مهور النساء اللاء فارقوهن ولم يرض المشركون بإعطائهم مهورهن ولذلك اتبع اسم الجلالة بوصف {الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} لأن الإيمان يبعث على التقوى والمشركون لما لم يؤمنوا بما أمر الله انتفى منهم وازع الإنصاف، أي فلا تكونوا مثلهم.
والجملة الاسمية في الصلة للدلالة على ثبات إيمانهم.
[12] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هذه تكملة لامتحان النساء المتقدم ذكره في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة:10] الآية. وبيان لتفصيل آثاره. فكأنه يقول: فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وبينوا لهن شرائع الإسلام. وآية الامتحان عقب صلح الحديبية في شأن من هاجرن من مكة إلى المدينة بعد الصلح وهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وسبيعة الأسلمية، وأميمة بنت بشر، وزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا صحة للأخبار التي تقول: إن الآية نزلت في فتح مكة ومنشؤها التخليط في الحوادث واشتباه المكرر بالأنف.
روى البخاري ومسلم عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من
(28/146)
المؤمنات بهذه الآية {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله: قد بايعتك.
والمقتضى لهذه البيعة بين الامتحان أنهن دخلن في الإسلام بعد أن استقرت أحكام الدين في مدة سنين لم يشهدن فيها ما شهده الرجال من اتساع التشريع آنا فآنا، ولهذا ابتدئت هذه البيعة بالنساء المهاجرات كما يؤذن به قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ، أي قدمن عليك من مكة فهي على وزان قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة:10]. قال ابن عطية: كانت هذه البيعة ثاني يوم الفتح على جبل الصفا.
وأجرى النبي صلى الله عليه وسلم هذه البيعة على نساء الأنصار أيضا. روى البخاري عن أم عطية قالت: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} الحديث.
وفيه عن ابن عباس قال: شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الخطبة فنزل نبي الله فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ} حتى فرغ من الآية كلها. ثم قال حين فرغ: "أنتن على ذلك" فقالت امرأة منهن واحدة لم يجبه غيرها: نعم يا رسول الله. قال: "فتصدقن".
وأجرى هذه المبايعة على الرجال أيضا. ففي صحيح البخاري عن عبادة بن الصامت قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرفوا"، وقرأ آية النساء أي النازلة بخطاب النساء في سورة الممتحنة "فمن وفى منكم فأجره على الله. ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له. ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شار عذبه وإن شاء غفر له".
واستمر العمل بهذه المبايعة إلى يوم فتح مكة وقد أسلم أهلها رجالا ونساء فجلس ثاني يوم الفتح على الصفا يأخذ البيعة من الرجال على ما في هذه الآية، وجلس عمر بن الخطاب يأخذ البيعة من النساء على ذلك، وممن بايعته من النساء يومئذ هند بنت عتبة زوج أبي سفيان وكبشة بنت رافع.
وجملة {يبايعنك} يجوز أن تكون حالا من {المؤمنات} على معنى: يردن المبايعة وهي المذكورة في هذه الآية. وجواب {إذا} {فبايعهن} .
ويجوز أن تكون جملة {يبايعنك} جواب {إذا} .
(28/147)
ومعنى {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} ، أي الداخلات في جماعة المؤمنين على الجملة والإجمال، لا يعلمن أصول الإسلام وبينه بقوله: {يبايعنك} فهو خير مراد به الأمر، أي فليبايعنك وتكون جملة {فبايعهن} تفريعا لجملة {يبايعنك} وليبنى عليها قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} .
وقد شملت الآية التخلي عن خصال في الجاهلية وكانت السرقة فيهن أكثر منها في الرجال. قال الأعرابي لما ولدت زوجه بنتا: والله ما هي بنعم الولد بزها بكاء ونصرها سرقة.
والمراد بقتل الأولاد أمران: أحدهما الوأد الذي كان يفعله أهل الجاهلية ببناتهم، وثانيهما إسقاط الأجنة وهو الإجهاض.
وأسند القتل إلى النساء وإن كان بعضه يفعله الرجال لأن النساء كن يرضين به أو يسكتن عليه.
والبهتان: الخبر المكذوب الذي لا شبهة لكاذبه فيه لأنه يبهت من ينقل عنه.
والافتراء: اختلاق الكذب، أي لا يختلقن أخبارا بأشياء لم تقع.
وقوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} يتعلق ب {يأتين} ، وهذا من الكلام الجامع لمعان كثيرة باختلاف محامله من حقيقة ومجاز وكناية، فالبهتان حقيقته: الإخبار بالكذب وهو مصدر. ويطلق المصدر على اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
وحقيقة بين الأيدي والأرجل: أن يكون الكذب حاصلا في مكان يتوسط الأيدي والأرجل فإن كان البهتان على حقيقته وهو الخبر الكاذب كان افتراؤه بين أيديهن وأرجلهن أنه كذب مواجهة في وجه المكذوب عليه كقولها: يا فلانة زنيت مع فلان، أو سرقت حلي فلانة. لتبهتها في ملأ من الناس، أو أنت بنت زنى، أو نحو ذلك.
وإن كان البهتان بمعنى المكذوب كان معنى افترائه بين أيديهن وأرجلهن كناية عن ادعاء الحمل بأن تشرب ما ينفخ بطنها فتوهم زوجها أنها حامل ثم تظهر الطلق وتأتي بولد تلتقطه وتنسبه إلى زوجها لئلا يطلقها، أو لئلا يرثه عصبته، فهي تعظم بطنها وهو بين يديها، ثم إذا وصل إبان إظهار الطلق وضعت الطفل بين رجليها وتحدثت وتحدث الناس بذلك فهو مبهوت عليه. فالافتراء هو ادعاؤها ذلك تأكيدا لمعنى البهتان.
(28/148)
وإن كان البهتان مستعارا للباطل الشبيه بالخبر البهتان، كان {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} محتملا للكناية عن تمكين المرأة نفسها من غير زوجها يقبلها أو يجسها، فذلك بين يديها أو يزني بها، وذلك بين أرجلها.
وفسره أبو مسلم الأصفهاني بالسحر إذ تعالج أموره بيديها، وهي جالسة تضع أشياء السحر بين رجليها.
ولا يمنع من هذه المحامل أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع الرجال بمثلها. وبعض هذه المحامل لا يتصور في الرجال إذ يؤخذ لكل صنف ما يصلح له منها.
وبعد تخصيص هذه المنهيات بالذكر لخطر شأنها عمم النهي بقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} والمعروف هو ما لا تنكره النفوس. والمراد هنا المعروف في الدين، فالتقييد به إما لمجرد الكشف فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يامر إلا بالمعروف، وإما لقصد التوسعة عليهن في أمر لا يتعلق بالدين كما فعلت بريرة إذ لم تقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إرجاعها زوجها مغيثا إذ بانت منه بسبب عتقها وهو رقيق.
وقد روى في الصحيح عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن في هذه المبايعة عن النياحة فقبضت امرأة يدها وقالت: اسعدتني فلانة أريد أن أجزيها. فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلقت ورجعت فبايعها. وإنما هذا مثال لبعض المعروف الذي يأمرهن به النبي صلى الله عليه وسلم تركه فاش فيهن.
وورد في أخبار أنه نهاهن عن تبرج الجاهلية وعن أن يحدثن الرجال الذين ليسوا بمحرم فقال عبد الرحمان بن عوف يا نبي الله إن لنا أضيافا وإنا تغيب، قال رسول الله: "ليس أولئك عنيت". وعن ابن عباس: نهاهن عن تمزيق الثياب وخدش الوجوه وتقطيع الشعور والدعاء بالويل والثبور، أي من شؤون النياحة في الجاهلية.
وروى الطبري بسنده إلى ابن عباس لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعة على النساء كانت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان جالسة مع النساء متنكرة خوفا من رسول الله أن يقتص منها على شقها بطن حمزة وأخراجها كبده يوم أحد. فلما قال: {أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} ، قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا شيئا لم يقبله من الرجال. فلما قال: {وَلا يَسْرِقْنَ} . قالت هند: والله إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات فما أدري أتحل لي أم لا? فقال: أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال. فضحك
(28/149)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فدعاها فأتته فعاذت به، وقالت: فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك. فقال: {وَلا يَزْنِينَ} . فقالت: أو تزني الحرة. قال: {وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ} . فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا فأنتم وهم أعلم. تريد أن المسلمين قتلوا ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ} . فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق. فقال: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} . فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
فقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} جامع لكل ما يخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر به مما يرجع إلى واجبات الإسلام. وفي الحديث عن أم عطية قالت: كان من ذلك: أن لا ننوح. قالت: فقلت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد أن أسعدهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إلا آل فلان"، وهذه رخصة خاصة بأم عطية وبمن سمتهم. وفي يوم معين.
وقوله: {فبايعهن} جواب {إذا} تفريع على {يبايعنك} ، أي فأقبل منهن ما بايعنك عليه لأن البيعة عنده من جانبين ولذلك صيغت لها صيغة المفاعلة.
{وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} ، أي فيما فرط منهن في الجاهلية مما خص بالنهي في شروط البيعة وغير ذلك. ولذلك حذف المفعول الثاني لفعل {استغفر} .
[13 ] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ}.
بعد أن استقصت السورة إرشاد المسلمين إلى ما يجب في المعاملة مع المشركين، جاء في خاتمتها الإرشاد إلى المعاملة مع قوم ليسوا دون المشركين في وجوب الحذر منهم وهم اليهود، فالمراد بهم غير المشركين إذ شبه يأسهم من الآخرة ييأس الكفار، فتعين أن هؤلاء غير المشركين لئلا يكون من تشبيه الشيء بنفسه.
وقد نعتهم الله بأنهم قوم غضب الله عليهم، وهذه صفة تكرر في القرآن إلحاقها باليهود كما جاء في سورة الفاتحة أنهم المغضوب عليهم. فتكون هذه الآية مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} في سورة العقود[57].
(28/150)
ذلك أن يهود خيبر كانوا يومئذ بجوار المسلمين من أهل المدينة. وذكر الواحدي في أسباب النزول : أنها نزلت في ناس من فقراء المسلمين يعملون عند اليهود ويواصلونهم ليصيبوا بذلك من ثمارهم، وربما أخبروا اليهود بأحوال المسلمين عن غفلة وقلة حذر فنبههم الله إلى أن لا يتولوهم.
واليأس: عدم توقع الشيء فإذا علق بذات كان دالا على عدم توقع وجودها. وإذ قد كان اليهود لا ينكرون الدار الآخرة كان معنى يأسهم من الآخرة محتملا أن يراد به الإعراض عن العمل للآخرة فكأنهم في إهمال الاستعداد لها آيسون منها، وهذا في معنى قوله تعالى: في شأنهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} في سورة البقرة[86].
وتشبيه إعراضهم هذا بيأس الكفار من أصحاب القبور وجهه شدة الإعراض وعدم التفكر في الأمر، شبه إعراضهم عن العمل لنفع الآخرة بيأس الكفار من حياة الموتى والبعث وفيه تشنيع المشبه، و {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} على هذا الوجه متعلق ب {يئسوا} . {والكفار} : المشركون.
ويجوز أن يكون {مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} بيانا للكفار، أي الكفار الذين هلكوا ورأوا أن لا حظ لهم في خير الآخرة فشبه إعراض اليهود عن الآخرة بيأس الكفار من نعيم الآخرة، ووجه الشبه تحقق عدم الانتفاع بالآخرة. والمعنى كيأس المفار الأموات، أي يأسا من الآخرة.
والمشبه به معلوم للمسلمين بالاعتقاد فالكلام من تشبيه المحسزس بالمعقول.
وفي استعارة اليأس للإعراض ضرب من المشاكلة أيضا.
ويحتمل أن يكون يأسهم من الآخرة أطلق على حرمانهم من نعيم الحياة الآخرة. فالمعنى: قد أيأسناهم من الآخرة على نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} في سورة العنكبوت[23].
ومن المفسرين الأولين من حمل هذه الآية على معنى التأكيد لما في أول السورة من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] فالقوم الذين غضب الله عليهم هم المشركون فإنهم وصفوا بالعدو لله والعدو مغضوب عليه ونسب هذا إلى ابن عباس. وجعل يأسهم من الآخرة هو إنكارهم البعث.
(28/151)
وجعل تشبيه يأسهم من الآخرة بيأس المفار من أصحاب القبور أن يأس الكفار الأحياء كيأس الأموات من الكفار، أي كيأس أسلافهم الذين هم في القبور إذ كانوا في مدة حياتهم آيسين من الآخرة فتكون {من} بيانية صفة للكفار، وليست متعلقة بفعل {يئس} فليس في لفظ {الكفار} إظهار في مقام الإضمار وإلا لزم أن يشبه الشيء بنفسه كما قد توهم.
(28/152)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
اشتهرت هذه السورة باسم سورة الصف وكذلك سميت في عصر الصحابة.
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى أن قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة سبح لله الصف الحديث، رواه ابن كثير، وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي ، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.
ووجه التسمية وقوع لفظ {صفا} [الصف:4] فيها وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد.
وذكر السيوطي في الإتقان : أنها تسمى سورة الحواريين ولم يسنده. وقال الآلوسي تسمى سورة عيسى ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ سورة عيسى. وهو حديث موسوم بأنه موضوع. والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة. فتسميتها سورة الحواريين لذكر الحواريين فيها. ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وإذا ثبت تسميتها سورة عيسى فلما فيها من ذكر {عِيسَى} [الصف:6 ،14] مرتين.
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام. وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر. وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي.
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.
(28/153)
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:1،2] قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله. وأخرجه الحاكم وأحمد في مسنده وابن أبي حاتم والدرامي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقراها كلها.
فهذا يقتضي أنهم قيل لهم: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به.
وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به فأخبر الله أن أحب الأعمال: إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .
ومثله عن أبي صالح أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة. وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه. وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3].
وعن مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4]، فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها.
وعن الكلبي: أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآية. فابتلوا يوم أحد فنزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تعيرهم بترك الوفاء. وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها.
(28/154)
وهي السورة الثامنة والمائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة التغابن وقبل سورة الفتح. وكان نزولها بعد وقعة أحد.
وعدد آيها أربع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.
والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه، وصدق الإيمان.
والثبات في نصرة الدين.
والائتساء بالصادقين مثل الحواريين.
والتحذير من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف.
وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما السلام.
والتعريض بالمنافقين.
والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح.
[1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بان تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية. وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدوا حق تسبيح الله، لأن الله مستحق لأن يوفى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوهم.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ} إلى {الحكيم} في أول سورة الحشر وسورة الحديد.
وفي إجراء وصف {العزيز} عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوه فما كان لكم أن ترهبوا أعداءه فتفروا منهم عند اللقاء.
وإجراء صفة {الحكيم} إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدو عبثا ولا يخليهم يغلبونكم. وإن حملت على معنى
(28/155)
المحكم للأمور فكذلك.
[2،3 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}.
ناداهم بوصف الإيمان تعريضا بأن الإيمان من شأنه أن يزغ المؤمن عن أن يخالف فعله قوله في الوعد بالخير.
واللام لتعليل المستفهم عنه وهو الشيء المبهم الذي هو مدلول {ما} الاستفهامية لأنها تدل على أمر مبهم يطلب تعيينه.
والتقدير: تقولون ما لا تفعلون لأي سبب أو لأية علة.
وتتعلق اللام بفعل {تقولون} المجرور مع حرف الجر لصدارة الاستفهام.
والاستفهام عن العلة مستعمل هنا في إنكار أن يكون سبب ذلك مرضيا لله تعالى، أي أن ما يدعوهم إلى ذلك هو أمر منكر وذلك كناية عن اللوم والتحذير من ذلك كما في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} في سورة البقرة[91].
فيجوز أن يكون القول الذي قالوه وعدا وعدوه ولم يفوا به. ويجوز أن يكون خبرا أخبروا به عن أنفسهم لم يطابق الواقع. وقد مضى استيفاء ذلك في الكلام على صدر السورة.
وهذا كناية عن تحذيرهم من الوقوع في مثل ما فعلوه يوم أحد بطريق الرمز، وكناية عن اللوم على ما فعلوه يوم أحد بطريق التلويح.
وتعقيب الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4] إلخ. يؤذن بأن اللوم على وعد يتعلق بالجهاد في سبيل الله. وبذلك يلتئم معنى الآية مع حديث الترمذي في سبب النزول وتندحض روايات أخرى رويت في سبب نزولها ذكرها في الكشاف.
وفيه تعريض بالمنافقين إذ يظهرون الإيمان بأقوالهم وهم لا يعملون أعمال أهل الإيمان بالقلب ولا بالجسد. قال ابن زيد: هو قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك.
وجملة {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} بيان لجملة {لمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} تصريحا بالمعنى المكنى عنه بها.
(28/156)
وهو خبر عن كون قولهم {مَا لا تَفْعَلُونَ} أمرا كبيرا في جنس المقت.
والكبر: مستعار للشدة لأن الكبير فيه كثرة وشدة في نوعه.
و {أَنْ تَقُولُوا} فاعل {كبر}.
والمقت: البغض الشديد. وهو هنا بمعنى اسم المفعول.
وانتصب {مقتا} على التمييز لجهة الكبر. وهو تمييز نسبة.
والتقدير: كبر ممقوتا قولكم ما لا تفعلونه.
ونظم هذا الكلام بطريقة الإجمال ثم التفصيل بالتمييز لتهويل هذا الأمر في قلوب السامعين لكون الكثير منهم بمظنة التهاون في الحيطة منه حتى وقعوا فيما وقعوا يوم أحد. ففيه وعيد على تجدد مثله، وزيد المقصود اهتماما بأن وصف المقت بأنه عند الله، أي مقت لا تسامح فيه.
وعدل عن جعل فاعل {كبر} ضمير القول بأن يقتصر على {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} أو يقال: كبر ذلك مقتا، لقصد زيادة التهويل بإعادة لفظه، ولإفادة التأكيد.
و {ما} في قوله: {مَا لا تَفْعَلُونَ} في الموضعين موصولة، وهي بمعنى لام العهد، أي الفعل الذي وعدتم أن تفعلوه وهو أحب الأعمال إلى الله أو الجهاد. فاقتضت الآية أن الوعد في مثل هذا يجب الوفاء به لأن الموعود به طاعة فالوعد به من قبيل النذر المقصود منه القربة فيجب الوفاء به.
[4] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
هذا جواب على تمنيهم معرفة أحب الأعمال إلى الله كما في حديث عبد الله بن سلام عند الترمذي المتقدم وما قبله توطئة له على أسلوب الخطب ومقدماتها.
والصف: عدد من أشياء متجانبة منتظمة الأماكن، فيطلق على صف المصلين، وصف الملائكة، وصف الجيش في ميدان القتال بالجيش إذا حضر القتال كان صفا من رجالة أو فرسان ثم يقع تقدم بعضهم إلى بعض فرادى أو زرافات.
فالصف هنا: كناية عن الانتظام والمقاتلة عن تدبر.
(28/157)
وأما حركات القتال فتعرض بحسب مصالح الحرب في اجتماع وتفرق وكر وفر. وانتصب {صفا} على الحال بتأويل: صافين، أو مصفوفين.
والمرصوص: المتلاصق بعضه ببعض. والتشبيه في الثبات وعدم الانفلات وهو الذي اقتضاه التوبيخ السابق في قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
[5] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
موقع هذه الآية هنا خفي المناسبة. فيجوز أن تكون الجملة معترضة استئنافا ابتدائيا انتقل به من النهي عن عدم الوفاء بما وعدوا الله عليه إلى التعريض بقوم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم بالقول أو بالعصيان أو نحو ذلك، فيكون الكلام موجها إلى المنافقين، فقد وسموا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب:57] الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:61] وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61].
وعلى هذا الوجه فهو اقتضاب نقل به الكلام من الغرض الذي قبله لتمامه إلى هذا الغرض، أو تكون مناسبة وقعه في هذا الموقع حدوث سبب اقتضى نزوله من أذى قد حدث لم يطلع عليه المفسرون ورواة الأخبار وأسباب النزول.
والواو على هذا الوجه عطف غرض على غرض. وهو المسمى بعطف قصة على قصة.
ويجوز أن يكون من تتمة الكلام الذي قبلها ضرب الله مثلا للمسلمين لتحذيرهم من إتيان ما يؤذي رسوله صلى الله عليه وسلم ويسوؤوه من الخروج عن جادة الكمال الذيني مثل عدم الوفاء بوعدهم في الإتيان بأحب الأعمال إلى الله تعالى. وأسفقهم من أن يكون ذلك سببا للزيغ والضلال كما حدث لقوم موسى لما آذوه.
وعلى هذا الوجه فالمراد بأذى قوم موسى إياه: عدم توخي طاعته ورضاه، فيكون ذلك مشيرا إلى ما حكاه الله عنه من قوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، إلى قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
(28/158)
فإن قولهم ذلك استخفاف يدل لذلك قوله عقبه {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].
وقد يكون وصفهم في هذه الآية بقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ناظرا إلى وصفهم بذلك مرتين في آية سورة العقود في قوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25] وقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26].
فيكون المقصود الأهم من القصة هو ما تفرع على ذكرها من قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} . ويناسب أن تكون هذه الآية تحذيرا من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وعبرة بما عرض لهم من الهزيمة يوم أحد لما خالفوا أمره من عدم ثبات الرماة في مكانهم.
وقد تشابهت القصتان في أن القوم فروا يوم أحد كافر قوم موسى يوم أريحا، وفي أن الرماة الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا يبرحوا مكانهم ولو تخطفنا الطير" وأن ينضحوا عن الجيش بالنبال خشية أن يأتيه العدو من خلفه لم يفعلوا ما أمرهم به وعصوا أمر أميرهم عبد الله بن جبير وفارقوا موقفهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب هزيمة المسلمين يوم أحد.
والواو على هذا الوجه عطف تحذير مأخوذ من قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} على النهي الذي في قوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] الآية.
ويتبع ذلك تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حصل من مخالفة الرماة حتى تسببوا في هزيمة الناس.
و {إذ} متعلقة بفعل محذوف تقديره: اذكر، وله نظائر كثيرة في القرآن، أي اذكر لهم أيضا وقت قول موسى لقومه أو اذكر لهم مع هذا النهي وقت قول موسى لقومه.
وابتداء كلام موسى عليه السلام ب {يا قوم} تعريض بأن شأن قوم الرسول أن يطيعوه بله أن لا يؤذوه. ففي النداء بوصف {قوم} تمهيد للإنكار في قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} .
والاستفهام للإنكار، أي إنكار أن يكون للإذاية سبب كما تقدم في قوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .
وقد جاءت جملة الحال من قوله: {َقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ} مصادفة المحل من الترقي في الإنكار.
(28/159)
و {قد} لتحقيق معنى الحالية، أي وعلمكم برسالتي عن الله أمر محقق لما شاهدوه من دلائل رسالته، وكما أكد علمهم ب {قد} أكد حصول المعلوم ب "أن" المفتوحة، فحصل تأكيدان للرسالة. والمعنى: فكيف لا يجري أمركم على وفق هذا العلم.
والإتيان بعد {قد} بالمضارع هنا للدلالة على أن علمهم بذلك مجدد بتجدد الآيات والوحي، وذلك أجدى بدوام امتثاله لأنه لو جيء بفعل المضي لما دل على أكثر من حصول ذلك العلم فيما مضى. ولعله قد طرأ عليه ما يبطله، وهذا كالمضارع في قوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} في سورة الأحزاب[18].
والزيغ: الميل عن الحق، أي لما خالفوا ما أمرهم رسولهم جعل الله في قلوبهم زيغا، أي تمكن الزيغ من نفوسهم فلم ينفكوا عن الضلال.
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تذييل، أي وهذه سنة الله في الناس فكان قوم موسى الذين آذوه من أهل ذلك العموم.
وذكر وصف {الفاسقين} جاريا على لفظ {القوم} للإيماء إلى الفسوق الذي دخل في مقومات قوميتهم. كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في البقرة[164].
فالمعنى: الذين كان الفسوق عن الحق سجية لهم لا يلطف الله بهم ولا يعتني بهم عناية خاصة تسوقهم إلى الهدى، وإنما هو طوع الأسباب والمناسبات.
[6] {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
عطف على جملة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [الصف:5] فعلى الوجه الأول في موقع التي قبلها فموقع هذه مساو له.
وأما على الوجه الثاني في الآية السابقة فإن هذه مسوقة مساق التتميم لقصة موسى بذكر مثال آخر لقوم حادوا عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم من غير إفادة تحذير للمخاطبين من المسلمين، وللتخلص إلى ذكر أخبار عيسى بالرسول الذي يجيء بعده.
ونادى عيسى قومه بعنوان {بَنِي إِسْرائيلَ} دون {يا قوم} [الصف:5] لأن بني إسرائيل
(28/160)
بعد موسى اشتهروا بعنوان "بَنِي إِسْرائيلَ" ولم يطلق عليهم عنوان: قوم موسى، إلا في مدة حياة موسى خاصة فإنهم إنما صاروا أمة وقوما بسببه وشريعته.
فأما عيسى فإنما كان مرسلا بتأييد شريعة موسى، والتذكير بها وتغيير بعض أحكامها، ولأن عيسى حين خاطبهم لم يكونوا قد اتبعوه ولا صدقوه فلم يكونوا قوما له خالصين.
وتقدم القول في معنى {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في أوائل سورة آل عمران[50] وفي أثناء سورة العقود.
والمقصود من تنبيههم على هذا التصديق حين ابتداءهم بالدعوة تقريب إجابتهم واستنزال طائرهم لشدة تمسكهم بالتوراة واعتقادهم أن أحكامها لا تقبل النسخ، وأنها دائمة. ولذلك لما ابتداءهم بهذه الدعوة لم يرد عليها ما حكى عنه في سورة آل عمران من قوله: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} ، فيحمل ما هنالك على أنه خطاب واقع بعد أول الدعوة فإن الله لم يوح إليه أول مرة بنسخ بعض أحكام التوراة ثم أوحاه إليه بعد ذلك. فحينئذ أخبرهم بما أوحى إليه.
وكذلك شأن التشريع أن يلقى إلى الأمة تدريجا كما في حديث عائشة في صحيح البخاري أنها قالت: إنما أنزل أول ما أنزل منه أي القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو أنزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا نترك الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا: لقالوا: لا ندع الزنى أبدا. لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده اهـ.
فمعنى قوله: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} في كلتا الآيتين هو التصديق بمعنى التقرير والأعمال على وجه الجملة، أي أعمال مجموعها وجمهرة أحكامها ولا ينافي ذلك أنه قد تغير بعض أحكامها بوحي من الله في أحوال قليلة.
والتبشير: الإخبار بحادث يسر، وأطلق هنا على الإخبار بأمر عظيم النفع لهم لأنه يلزمه السرور الحق فإن مجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة.
ووجه إيثار هذا اللفظ الإشارة إلى ما وقع في الإنجيل من وصف رسالة الرسول
(28/161)
الموعود به بأنها بشارة الملكوت1.
وإنما أخبرهم بمجيء رسول من بعده لأن بني إسرائيل لم يزالوا ينتظرون مجيء رسول من الله يخلصهم من براثن المتسلطين عليهم وهذا الانتظار ديدنهم، وهم موعودون لهذا المخلص لهم على لسان أنبيائهم بعد موسى. فكان وعد عيسى به كوعد من سبقه من أنبيائهم، وفاتحهم به في أول الدعوة اعتناء بهذه الوصية.
وفي الابتداء بها تنبيه على أن ليس عيسى هو المخلص المنتظر وأن المنتظر رسول يأتي من بعده وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
ولعظم شأن هذا الرسول الموعود به أراد الله أن يقيم للأمم التي يظهر فيها علامات ودلائل ليتبينوا بها شخصه فيكون انطباقها فاتحة لإقبالهم على تلقي دعوته، وإنما يعرفها حق معرفتها الراسخون في الدين من أهل الكتاب لأنهم الذين يرجع إليهم الدهماء من أهل ملتهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:146]. وقال {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43].
وقد وصف الله بعض صفات هذا الرسول لموسى عليه السلام في قوله تعالى: حكاية عن إجابته دعاء موسى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 57].
فلما أراد الله تعالى إعداد البشر لقبول رسالة هذا الرسول العظيم الموعود به صلى الله عليه وسلم استودعهم أشراطه وعلاماته على لسان كل رسول أرسله إلى الناس. قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81،82] أي أأخذتم إصري من أممكم على الإيمان بالرسول الذي يجيء مصدقا للرسل. وقوله:
ـــــــ
1 في الإصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى فقرة 11 ويكرر ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة.
(28/162)
{فاشهدوا} [آل عمران:81]، أي على أممكم وسيجيء من حكاية كلام عيسى في الإنجيل ما يشرح هذه الشهادة.
وقال تعالى في خصوص ما لقنه إبراهيم عليه السلام {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] الآية.
وأوصى به عيسى عليه السلام في هذه الآية وصية جامعة لما تقدمها من وصايا الأنبياء وأجملها إجمالا على طريق الرمز. وهو أسلوب من أساليب أهل الحكمة والرسالة في غير بيان الشريعة قال السهرودي قي تلك حكمة الإشراق وكلمات الأولين مرموزة فقال قطب الدين الشيرازي في شرحه : كانوا يرمزون في كلامهم إما تشحيذا للخاطر باستكداد الفكر أو تشبيها بالباري تعلى وأصحاب النواميس فيما أتوا به من الكتب المنزلة المرموزة لتكون أقرب إلى فهم الجمهور فينتفع الخواص بباطنها والعوام بظاهرها. اهـ، أي ليتوسمها أهل العلم من أهل الكتاب فيتحصل لهم من مجموع تفصيلها شمائل الرسول الموعود به ولا يلتبس عليهم بغيره ممن يدعي ذلك كذبا. أو يدعيه له طائفة من الناس كذبا أو اشتباها.
ولا يحمل قوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} على ما يتبادر من لفظ اسم من أنه العلم المجهول للدلالة على ذات معينة لتميزه من بين من لا يشاركها في ذلك الاسم لأن هذا الحمل يمنع منه وأنه ليس بمطابق للواقع لأن الرسول الموعود به لم يدعه الناس أحمد فلم يكن أحد يدعوا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم باسم أحمد لا قبل نبوءته ولا بعدها ولا يعرف ذلك.
وأما ما وقع في الموطأ و الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب"1 فتأويله أنه أطلق الأسماء على ما يشمل الاسم العلم والصفة الخاصة به على طريقة التغليب. وقد رويت له أسماء غيرها استقصاها أبو بكر ابن العربي في العارضة و القبس .
فالذي نوقن به أن محمل قوله: {اسْمُهُ أَحْمَدُ} يجري على جميع ما تحمله جزءا هذه الجملة من المعاني.
ـــــــ
1 وقع هذا الحديث مرسلا في أكثر الروايات عن مالك ووقع في رواية معن بن عيسى، وأبي مصعب الزهري، وعبد الله بن نافع عن مالك أن محمد بن جبير رواه عن أبيه فهو مسند.
(28/163)
فأما لفظ اسم استعماله في كلام العرب ثلاثة استعمالات:
أحدها : أن يكون بمعنى المسمى. قال أبو عبيدة: الاسم المسمى. ونسب ثعلب إلى سيبويه أن الاسم غير المسمى أي إذا أطلق لفظ اسم في الكلام فالمعنى به مسمى ذلك الاسم لكن جزم ابن السيد البطليوسي في كتابه الذي جعله في معاني الاسم هل هو عين المسمى، أنه وقع في بعض مواضع من كتاب سيبويه أن الاسم هو المسمى، ووقع في بعضها أنه غير المسمى، فحمله ابن السيد البطليوسي على أنهما إطلاقان، وليس ذلك باختلاف في كلام سيبويه، وتوقف أبو العباس ثعلب في ذلك فقال: ليس لي فيه قول. ولما في هذا الاستعمال من الاحتمال بطل الاستدلال به.
الاستعمال الثاني: أن يكون الاسم بمعنى شهرة في الخير وأنشد ثعلب:
لأعظمها قدرا وأكرمها أبا ... وأحسنها وجها وأعلنها سمى
سمى لغة في اسم.
الاستعمال الثالث: أن يطلق على لفظ جعل دالا على ذات لتميز من كثير من أمثالها، وهذا هو العلم.
ونحن نجري على أصلنا في حمل ألفاظ القرآن على جميع المعاني التي يسمح بها الاستعمال الفصيح كما في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير، فنحمل الاسم في قوله {اسْمُهُ أَحْمَدُ} ما يجمع بين هذه الاستعمالات الثلاثة، أي مسماة أحمد، وذكره أحمد، وعلمه أحمد، ولنحمل لفظ أحمد على ما لا يأباه واحد من استعمالات اسم الثلاثة إذا قرن به وهو أن أحمد اسم تفضيل يجوز أن يكون مسلوب المفاضلة معنيا به القوة فيم هو مشتق منه، أي الحمد وهو الثناء، فيكون أحمد هنا مستعملا في قوة مفعولية الحمد، أي حمد الناس إياه، وهذا مثل قولهم. العود أحمد، أي محمود كثيرا. فالوصف ب{أحمد} بالنسبة للمعنى الأول في اسم أن مسمى هذا الرسول ونفسه موصوفة بأقوى ما يحمد عليه محمود فيشمل ذلك جميع صفات الكمال النفسانية والخلقية والخلقية والنسبية والقومية وغير ذلك مما هو معدود من الكمالات الذاتية والغرضية.
ويصح اعتبار {احمد} تفضيلا حقيقيا في كلام عيسى عليه السلام، أي مسماه أحمد مني، أي أفضل، أي في رسالته وشريعته. وعبارات الإنجيل تشعر بهذا التفضيل ففي إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وأنا أطلب من الأب أي من ربنا فيعطيكم
(28/164)
فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. ثم قال: وأما الفارقليط الروح القدس الذي سيرسله الأب الله فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم، أي في جملة ما يعلمكم أن يذكركم بكل ما قلته لكم. وهذا يفيد تفضيله على عيسى بفضيلة دوام شريعته المعبر عنها بقول الإنجيل ليثبت معكم إلى الأبد وبفضيلة عموم شرعه للأحكام المعبر عنه بقوله يعلمكم كل شيء.
والوصف ب {أحمد} على المعنى الثاني في الاسم. أن سمعته وذكره في جيله والأجيال بعده موصوف بأنه أشد ذكر محمود وسمعة محمودة.وهذا معنى قوله في الحديث "أنا حامل لواء الحمد يوم القيامة وأن الله يبعثه مقاما محمودا".
ووصف {أحمد} بالنسبة إلى المعنى الثالث في الاسم رمز إلى أنه اسمه العلم يكون بمعنى: أحمد، فإن لفظ محمد اسم مفعول من حمد اسم مفعول من حمد المضاعف الدال على كثرة حمد الحامدين إياه كما قالوا: فلان ممدح، إذا تكرر مدحه من مادحين كثيرين.
فاسم محمد يفيد معنى: المحمود حمدا كثيرا ورمز إليه بأحمد.
وهذه الكلمة الجامعة التي أوحى الله بها إلى عيسى عليه السلام أراد الله بها أن تكون شعارا لجماع صفات الرسول الموعود به صلى الله عليه وسلم، صيغت بأقصى صيغة تدل على ذلك إجمالا بحسب ما تسمح اللغة بجمعه من معاني. ووكل تفصيلها إلى ما يظهر من شمائله قبل بعثته وبعدها ليتوسمها المتوسمون ويتدبر مطاويها الراسخون عند المشاهدة والتجربة.
جاء في إنجيل متي في الإصحاح الرابع والعشرين قول عيسى ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرا ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويكرز1 ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى، ومعنى يكرز يدعو وينبيء،
ـــــــ
1 كذا وقعت كلمة يكرز في ترجمة الإنجيل ولم أحقق مأخذ المترجم لهاته الكلمة ولعلها مأخوذة من اسم الكراز بتشديد الراء اسم الكبش الذي يضع عليه الراعي كرزه فيحمله. أو من الكرز بضم الكاف وسكون الراء ضرب من الجوالق كبير يحمل فيه الراعي زاده ومتاعه. ومن المعلوم تشبيه الرسل برعاة الغنم. ومن كلام عيسى عليه السلام: "إنما بعثت لخرفان بني إسرائيل" وأما فعل كرز فلعله من باب قعد.
(28/165)
ومعنى يصير إلى المنتهى يتأخر إلى قرب الساعة.
وفي الإنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم آخر يثبت معكم إلى الأبد. و فارقليط كلمة رومية، أي بوانية تطلق بمعنى المدافع أو المسلي، أي الذي يأتي بما يدفع الأحزان والمصائب، أي يأتي رحمة، أي رسول مبشر، وكلمة آخر صريحة في أنه رسول مثل عيسى.
وفي الصحاح الرابع عشر والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل الذي أرسلني وبهذا كلمتكم وأنا عندكم أي مدة وجودي بينكم، وأما الفارقليط الروح القدسي الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته، ومعنى باسمي أي بصفة الرسالة لا أتكلم معكم كثيرا لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء ولكن ليفهم العالم أني أحب الأب وكما أوصاني الأب أفعل.
وفي الإصحاح الخامس عشر منه ومتى جاء الفارقليط1 الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي.
وفي هذه الأخبار إثبات أن هذا الرسول المبشر به تعم رسالته جميع الأمم في جميع الأرض، وأنه الخاتم، وأن لشريعة ملكا لقول إنجيل متي هو يكرز ببشارة الملكوت والملكوت هو الملك، وأن تعاليمه تتعلق بجميع الأشياء العارضة للناس، أي شريعته تتعلق أحكامها بجميع الأحوال البشرية، وجميعها مما تشمله الكلمة التي جاءت على لسان عيسى عليه السلام وهي كلمة {اسْمُهُ أَحْمَدُ} فكانت من الرموز الإلهية ولكونها مرادة لذلك ذكرها الله تعالى في القرآن تذكيرا وإعلانا.
وذكر القرآن تبشير بمحمد عليهما الصلاة والسلام في خلال المقصود
ـــــــ
1 لفظ فارقليط وقع في تراجم الأناجيل، وخاصة إنجيل يوحنا كما في طبعة الكتاب المقدس بعناية واطس في لندن سنة 1848. وكذلك أثبتها مرارا البقاعي عن نظم الدرر وغيره. وهو لفظ يوناني أصله باركليتوس أوله باء فارسية مخرجها بين الباء والفاء. وتاؤه المثناة مفخمة ولذلك قالوا هي روحية. ووقع في شرح الشيرازي على حكمة الإشراق للسهروردي أنها عبرية. وهم وهَم. ومعناها المدافع وكذلك المسلي والمعزي، أي من الرسل. وبهذا الأخير ترجمت في طبعة الرهبان الأمريكان في بيروت سنة 1896. طبعة ثامنة. وقد قيل إن كلمة فارقليط تطلق على جبريل ولعل من تأويلات النصارى للتفصي عن مجيء رسول بعد عيسى.
(28/166)
الذي هو تنظير ما أوذي به موسى من قومه وما أوذي به عيسى من قومه إدماجا يؤيد به النبي صلى الله عليه وسلم ويثبت فؤاده ويزيده تسلية. وفيها تخلص إلى أن ما لقيه من قومه نظير ما لقيه عيسى من بني إسرائيل.
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} هو مناط الأذى.
فإن المتبادر أن يعود ضمير الرفع في قوله: {جاءهم} إلى عيسى، وأن يعود ضمير النصب إلى الذين خاطبهم عيسى. والتقدير: فكذبوه، فلما جاءهم بالمعجزات قالوا هذا سحر أو هو ساحر.
ويحتمل أن يكون ضمير الرفع عائدا إلى رسول يأتي من بعدي. وضمير النصب عائدا إلى لفظ بني إسرائيل، أي بني إسرائيل غير الذين دعاهم عيسى عليه السلام من باب: عندي درهم ونصفه، أي نصف ما يسمى بدرهم، أي فلما جاءهم الرسول الذي دعاه عيسى باسم أحمد بالبينات، أي دلائل انطباق الصفات الموعود بها قالوا هذا سحر أو هذا ساحر مبين فيكون هذا التركيب مبين من قبيل الكلام الموجه.
وحصل أذاهم بهذا القول لكلا الرسولين.
فالجملة على هذا الاحتمال تحمل على أنها اعتراض بين المتعاطفات وممهدة للتخلص إلى مذمة المشركين وغيرهم ممن لم يقبل دعوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بفتح الياء من قوله: {بعدي} . وقرأه الباقون بسكونها. قال في الكشاف: واختار الخليل وسيبوبه الفتح.
وقرأ الجمهور {هَذَا سِحْرٌ} بكسر السين. وقرأه حمزة والكسائي وخلف {هَذَا سَاحِرٌ} فعلى الأولى الإشارة للبنات، وعلى الثانية الإشارة إلى عيسى أو إلى الرسول.
[7] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مماثلة دعوة عيسى عليه السلام وكان جواب الذين دعاهم إلى الإسلام من أهل الكتابين والمشركين مماثلا لجواب الذين دعاهم عليه السلام. فلما أدمج في حكاية دعوة عيسى بشارته برسول يأتي من بعده ناسب أن ينقل الكلام إلى ما قابل به قوم الرسول الموعود رسولهم فلذلك ذكر في دعوة هذا الرسول دين الإسلام فوصفوا
(28/167)
بأنهم أظلم الناس تشنيعا لحالهم.
فالمراد من هذا الاستفهام هم الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك عطف هذا الكلام بالواو ودون الفاء لأنه ليس مفرعا على دعوة عيسى عليه السلام.
وقد شمل هذا التشنيع جميع الذين كذبوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين والمشركين.
والمقصود الأول هم أهل الكتاب، وسيأتي عند قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8، 9] فهما فريقان.
والاستفهام ب {مَنْ أَظْلَمُ} إنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء فالمكذبون من قبلهم، إما أن يكونوا أظلم منهم وإما أن يساووهم على كل حال، فالكلام مبالغة.
وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول صلى الله عليه وسلم بنسبته إلى ما ليس فيه إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة، فيعرضوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم على النظر الصحيح حتى يعلموا صدقه، وظلموا ربهم إذ نسبوا ما جاءهم من هديه وحجج رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما ليس منه فسموا الآيات والحجج سحرا، وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإنجيل مثبتة صدق رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم وكمل لهم هذا الظلم بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، فيعلم أنه ظلم مستمر.
وقد كان لجملة الحال {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} موقع متين هنا، أي فعلوا ذلك في حين أن الرسول يدعوهم إلى ما فيه خيرهم فعاضوا الشكر بالكفر.
وإنما جعل افتراؤهم الكذب على الله لأنهم كذبوا رسولا يخبرهم أنه مرسل من الله فكانت حرمة هذه النسبة تقتضي أن يقبلوا على التأمل والتدبر فيما دعاهم إليه ليصلوا إلى التصديق، فلما بادروها بالإعراض وانتحلوا للداعي صفات النقص كانوا قد نسبوا ذلك إلى الله دون توقير.
فأما أهل الكتاب فجحدوا الصفات الموصوفة في كتابهم كما قال تعالى فيهم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} في سورة البقرة [140]. وذلك افتراء.
وأما المشركون فإنهم افتروا على الله إذ قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
(28/168)
واسم {الإسلام} علم للدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وسلم، وهو جامع لما فيه خير الدنيا والآخرة فكان ذكر هذا الاسم في الجملة الحالية زيادة في تشنيع حال الذين أعرضوا عنه، أي وهو يدعى إلى ما فيه خيره وبذلك حق عليه وصف {أظلم} .
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تأييس لهم من الإقلاع عن هذا الظلم، أي أن الذين بلغوا هذا المبلغ من الظلم لا طمع في صلاحهم لتمكن الكفر منهم حتى خالط سجاياهم وتقوم مع قوميتهم، ولذلك أقحم لفظ {القوم} للدلالة على أن الظلم بلغ حد أن صار من مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة. وتقدم غير مرة.
وهذا يعم المخبر عنهم وأمثالهم الذين افتروا على عيسى، ففيها معنى التذييل.
وأسند نفي هديهم إلى الله تعالى لأن سبب انتفاء هذا الهدي عنهم أثر من آثار تكوين عقولهم ومداركهم على المكابرة بأسباب التكوين التي أودعها الله في نظام تكون الكائنات وتطورها من ارتباط المسببات بأسبابها مع التنبيه على أن الله لا يتدارك أكثرهم بعنايته، فمغير فيهم بعض القوى المانعة لهم من الهدى غضبا عليهم إذ لم يخلفوا بدعوة تستحق التبصر بسبب نسبتها إلى جانب الله تعالى حتى يتميز لهم الصدق من الكذب والحق من الباطل.
[8] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في حال أنهم يدعون إلى الإسلام لأنه يثير سؤال سائل عما دعاهم إلى هذا الافتراء. فأجيب بأنهم يريدون أن يخفوا الإسلام عن الناس ويعوقوا انتشاره ومثلت حالتهم بحالة نفر يبتغون الظلام للتلصص أو غيره مما يراد فيه الاختفاء.
فلاحت له ذبالة مصباح تضيء للناس، فكرهوا ذلك وخشوا أن يشع نوره على الناس فتفتضح ترهاتهم، فعمدوا إلى إطفائه بالنفخ عليه فلم ينطفيء، فالكلام تمثيل دال على حالة الممثل لهم. والتقدير: يريدون عوق ظهور الإسلام كمثل قوم يريدون إطفاء النور، فهذا تشبيه الهيئة بالهيئة تشبيه المعقول بالمحسوس.
ثم إن ما تضمنه من المحاسن أنه قابل لتفرقة التشبيه على أجزاء الهيئة، فاليهود في
(28/169)
حال إرادتهم عوق الإسلام عن الظهور مشبهون بقوم يريدون إطفاء نور. الإسلام فشبه بمصباح. والمشركون مثلهم وقد مثل حال أهل الكتاب بنظير هذا التمثيل في قوله تعالى: : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} الآية في سورة براءة[30 ،32]، ووصفهم القرآن بأنه سحر ونحو ذلك من تمويهاتهم، فشبه بنفخ النافخين على المصباح فكان لذكر {بأفواههم} وقع عظيم في هذا التمثيل لأن الإطفاء قد يكون بغير الأفواه مثل المروحة والكير، وهم أرادوا إبطال آيات القرآن بزعم أنها من أقوال السحر.
وإضافة نور إلى اسم الجلالة إضافة تشريف، أي نورا أوقده الله، أي أوجده وقدره فما ظنكم بكماله.
واللام من قوله: {ليطفئوا} تسمى اللام الزائدة، وتفيد التأكيد. وأصلها لام التعليل، ذكرت علة فعل الإرادة عوضا عن مفعوله بتنزيل المفعول منزلة العلة.
والتقدير: يريدون إطفاء نور الله ليطفئوا. ويكثر وقوع هذا اللام بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وقد سماها بعض أهل العربية: لام أن لأن معنى أن المصدرية ملازم لها. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء[26]. فلذلك قيل: إن هذه اللام بعد فعل الإرادة مزيدة للتأكيد.
وجملة {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} معطوفة على جملة {يريدون} وهي إخبار بأنهم لا يبلغون مرادهم وأن هذا الدين سيتم، أي يبلغ تمام الانتشار. وفي الحديث "والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" .
والجملة الاسمية تفيد ثبوت هذا الإتمام. والتمام: هو حصول جميع ما للشيء من كيفية أو كمية، فتمام النور: حصول أقوى شعاعة وإتمامه إمداد آلته بما يقوى شعاعه كزيادة الزيت في المصباح وإزالة ما يغش اهـ.
وجملة {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} حالية و {لو} وصلية، وهي تدل على أن مضمون شرطها أجدر ما يظن أن لا يحصل عند حصوله مضمون الجواب. ولذلك يقدر المعربون قبله ما يدل على تقدير حصول الشرط. فيقولون هذا إذا لم يكن كذا بل وإن كان كذا، وهو تقدير معنى لا تقدير حذف لأن مثل ذلك المحذوف لا يطرد في كل موقع فإنه
(28/170)
لا يستقيم في مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]، إذ لا يقال: إذا كنا كاذبين، بل ولو كنا صادقين. وكذلك ما في هذه الآية لأن المعنى: والله متم نوره على فرض كراهة الكافرين، ولما كانت كراهة الكافرين إتمام هذا النور محققة كان سياقها في صورة الأمر المفروض تهكما. وتقدم استعمال "لو" هذه عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
وإنما كانت كراهية الكافرين ظهور نور الله حالة يظن انتفاء تمام النور معها، لأن تلك الكراهية تبعثهم على أن يتألبوا على إحداث العراقيل وتضليل المتصدين للاهتداء وصرفهم عنه بوجود المكر والخديعة والكيد والإضرار.
وشمل لفظ {الكافرون} جميع الكافرين بالإسلام من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم.
ولكن غلب اصطلاح القرآن على تخصيص وصف الكافرين بأهل الكتاب ومقابلتهم بالمشركين أو الظالمين ويتجه على هذا أن يكون الاهتمام بذكر هؤلاء بعد {لو} الوصلية لأن المقام لإبطال مرادهم إطفاء نور الله فإتمام الله نوره إبطال لمرادهم إطفاءه. وسيرد بعد هذا ما يبطل مراد غيرهم من المعاندين وهم المشركون.
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم {مُتِمُّ نُورِهِ} بتنوين {متم} ونصب {نوره} . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي وحفص وخلف بدون تنوين وجر {نوره} على إضافة اسم الفاعل على مفعوله وكلاهما فصيح.
[9] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
هذا زيادة تحد للمشركين وأحلافهم من أهل الكتاب فيه تقوية لمضمون قوله: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، وفيه معنى التعليل للجملة التي قبله. فقد أفاد تعريف الجزأين في قوله: {هوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} قصرا إضافيا لقلب زعم الكافرين أن محمدا صلى الله عليه وسلم أتى من قبل نفسه، أي الله لا غيره أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق. وأن شيئا تولى الله فعله لا يستطيع أحد أن يزيله.
(28/171)
وتعليل ذلك بقوله: {ليُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} إعلام بأن الله أراد ظهور هذا الدين وانتشاره كيلا يطمعوا أن يناله ما نال دين عيسى عليه السلام من القمع والخفت في أول أمره واستمر زمانا طويلا حتى تنصر قسطنطين سلطان الروم، فلما أخبر الله بأنه أراد إظهار دين الإسلام على جميع الأديان علم أن أمره لا يزال في ازدياد حتى يتم المراد.
والإظهار: النصر ويطلق على التفضيل والإعلاء المعنوي.
والتعريف في قوله: {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي ليعلي هذا الدين الحق على جميع الأديان وينصر أهله على أهل الأديان الأخرى الذين يتعرضون لأهل الإسلام.
ويظهر أن لفظ {الدين} مستعمل في كلا معنييه: المعنى الحقيقي وهو الشريعة. والمعنى المجازي وهو أهل الدين كما تقول: دخلت قرية كذا وأكرمتني، فإظهار الدين على الأديان بكونه أعلى منها تشريعا وآدابا، وأصلح بجميع الناس لا يخص أمة دون أخرى ولا جيلا دون جيل.
وإظهار أهله على أهل الأديان بنصر أهله على الذين يشاقونهم في مدة ظهوره حتى يتم أمره ويستغني عمن ينصره.
وقد تم وعد الله وظهر هذا الدين وملك أهله أمما كثيرة ثم عرضت عوارض من تفريط المسلمين في إقامة الدين على وجهه فغلبت عليهم أمم، فأما الدين فلم يزل عاليا مشهودا له من علماء الأمم المتصفين بأنه أفضل دين للبشر.
وخص المشركون بالذكر هنا إتماما للذين يكرهون إتمام هذا النور، وظهور هذا الذين على جميع الأديان. ويعلم أن غير المشركين يكرهون ظهور هذا الذين لأنهم أرادوا إطفاء نور الدين لأنهم يكرهون ظهور هذا الدين فحصل في الكلام احتباك.
[10، 12] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [11] يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . هذا تخلص إلى الغرض الذي افتتحت به السورة من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} إلى قوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2، 4 ]. فبعد أن ضربت
(28/172)
لهم الأمثال، وانتقل الكلام من مجال إلى مجال، أعيد خطابهم هنا بمثل ما خوطبوا به بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، أي هل أدلكم على أحب العمل إلى الله لتعملوا به كما طلبتم إذ قلتم لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به فجاءت السورة في أسلوب الخطابة.
والظاهر أن الضمير المستتر في {أدلكم} عائد إلى الله تعالى لأن ظاهر الخطاب أنه موجه من الله تعالى إلى المؤمنين. ويجوز أن يجعل الضمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم على تقدير قول محذوف وعلى اختلاف الاحتمال يختلف موقع قوله الآتي {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف:13].
والاستفهام مستعمل في العرض مجازا لأن العارض قد يسأل المعروض عليه ليعلم رغبته في الأمر المعروض كما يقال: هل لك في كذا? أو هل لك إلى كذا?
والعرض هنا كناية عن التشويق إلى الأمر المعروض، وهو دلالته إياهم على تجارة نافعة. وألفاظ الاستفهام تخرج عنه إلى معان كثيرة هي من ملازمات الاستفهام كما نبه عليه السكاكي في المفتاح ، وهي غير منحصرة فيما ذكره.
وجيء بفعل {أدلكم} لإفادة ما يذكر بعده من الأشياء التي لا يهتدي إليها بسهولة.
وأطلق على العمل الصالح لفظ التجارة على سبيل الاستعارة لمشابهة العمل الصالح التجارة في طلب النفع من ذلك العمل ومزاولته والكد فيه، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة[16].
ووصف التجارية بأنها تنجي من عذاب أليم، تجريد للاستعارة لقصد الصراحة بهذه الفائدة لأهميتها وليس الإنجاء من العذاب من شأن التجارة فهو من مناسبات المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
وجملة {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر الدلالة مجمل والتشويق الذي سبقها مما يشير في أنفس السامعين التساؤل عن هذا الذي تدلنا عليه وعن هذه التجارة.
وإذ قد كان الخطاب لقوم مؤمنين فإن فعل {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} مع {وتجاهدون} مراد به تجمعون بين الإيمان بالله ورسوله وبين الجهاد في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم تنويها بشأن الجهاد. وفي التعبير بالمضارع إفادة الأمر بالدوام على الإيمان وتجديده في كل آن، وذلك تعريض بالمنافقين وتحذير من التغافل عن ملازمة الإيمان وشؤونه.
(28/173)
وأما {تجاهدون} فإنه لإرادة تجدد الجهاد إذا استنفروا إليه.
ومجيء {يغفر} مجزوما تنبيه على أن {تؤمنون} {وتجاهدون} وإن جاءا في صيغة الخبر فالمراد الأمر لأن الجزم إنما يكون في جواب الطلب لا في جواب الخبر. قال المبرد والزمخشري.
وقال الفراء: جزم {يغفر} لأنه جواب {هل أدلكم} ، أي لأن متعلق {أدلكم} هو التجارة المفسرة بالإيمان والجهاد، فكأنه قيل: هل تنجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم ذنوبكم.
وإنما جيء بالفعلين الأولين على لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال حتى يفرض المأمور كأنه سمع الأمر وأمتثله.
وقرأ الجمهور {تنجيكم} بسكون النون وتخفيف الجيم. وقرأه ابن عامر بفتح النون وتشديد الجيم، يقال: أنجاه ونج اهـ.
والإشارة ب {ذلكم} إلى الإيمان والجهاد بتأويل: المذكور: خير.
و {خير} هذا ليس اسم تفضيل الذي أصله أخير ووزنه: أفعل، بل هو اسم لضد الشر ووزنه: فعل.
وجمع قوله: {خير} ما هو خير الدنيا وخير الآخرة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعريض لهم بالعتاب على توليهم يوم أحد بعد أن قالوا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فتدبوا إلى الجهاد فكان ما كان منهم يوم أحد، كما تقدم في أول السورة، فنزلوا منزلة من يشك في عملهم بأنه خير لعدم جريهم على موجب العلم.
والمساكن الطيبة: هي القصور التي في الجنة، قال تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً} [الفرقان:10].
وإنما خصت المساكن بالذكر هنا لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة المؤقتة بمساكن أبدية. قال تعالى {قلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [ التوبة:24]الآية.
(28/174)
[13] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} .
عطف على جملة {يَغْفِرْ لَكُمْ} {وَيُدْخِلْكُمْ} عطف الاسمية على الفعلية. وجيء بالاسمية لإفادة الثبوت والتحقق. ف {أخرى} مبتدأ خبره محذوف دل عليه قوله: {لكم} من قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ} . والتقدير: أخرى لكم، ولك أن تجعل الخبر قوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} .
وجيء به وصفا مؤنثا بتأويل نعمة، أو فضيلة، أو حصله مما يؤذن به قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12]إلى آخره من معنى النعمة والخصلة كقوله تعالى: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} في سورة الفتح [21].
ووصف {أخرى} بجملة {تحبونها} إشارة إلى الامتنان عليهم بإعطائهم ما يحبون في الحياة الدنيا قبل إعطاء نعيم الآخرة. وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144].
و {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} بدل من {أخرى} ، ويجوز أن يكون خبرا عن {أخرى} . والمراد به النصر العظيم، وهو نصر فتح مكة فإنه كان نصرا على أشد أعدائهم الذين فتنوهم وآذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم وألبوا عليهم العرب والأحزاب. وراموا تشويه سمعتهم، وقد انضم إليه نصر الدين بإسلام أولئك الذين كانوا من قبل أئمة الكفر ومساعير الفتنة، فأصبحوا مؤمنين إخوانا وصدق الله وعده بقوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7 ] وقوله كنتم {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
وذكر اسم الجلالة يجوز أن يكون إظهارا في مقام الإضمار على احتمال أن يكون ضمير التكلم في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} [الصف: 10] كلاما من الله تعالى، ويجوز أن يكون جاريا على مقتضى الظاهر إن كان الخطاب أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقدير قل.
ووصف الفتح ب {قريب} تعجيل بالسمرة.
وهذه الآية من معجزات القرآن الراجعة إلى الإخبار بالغيب.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}
(28/175)
يجوز أن تكون عطفا على مجموع الكلام الذي قبلها ابتداء من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} [الصف: 10] على احتمال أن ما قبلها كلام صادر من جانب الله تعالى، عطف غرض على غرض فيكون الأمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبشر المؤمنين. ولا يتأتى في هذه الجملة فرض عطف الإنشاء على الإخبار إذ ليس عطف جملة على جملة بل جملة على مجموع جمل على نحو ما اختاره الزمخشري عند تفسير قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [البقرة: الآية في أوائل سورة البقرة [25] وما بينه من كلام السيد الشريف في حاشية الكشاف.
وأما على احتمال أن يكون قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} إلى آخره مسوقا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} بتقدير قول محذوف، أي قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم، إلى آخره، فيكون الأمر في {وبشر} التفاتا من قبيل التجريد. والمعنى: وابشر المؤمنين.
وقد تقدم القول في عطف الإنشاء على الإخبار عند قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: في أوائل سورة البقرة[25].
والذي استقر عليه رأيي الآن أن الاختلاف بين الجملتين بالخبرية والإنشائية اختلاف لفظي لا يؤثر بين الجملتين اتصالا ولا انقطاعا لأن الاتصال والانقطاع أمران معنويان وتابعان للأغراض فالعبرة بالمناسبة المعنوية دون الصيغة اللفظية وفي هذا مقنع حيث فاتني التعرض لهذا الوجه عند تفسير آية سورة البقرة.1
ـــــــ
1في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .
في الكشاف فإن قلت: علام عطف هذا الأمر- {أي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} - ولم يسبق أمر أو نهي يصح عطفه عليه؟ قلت: ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي - أي مشاكل إنشائي- يعطف عليه إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين اهـ.
قال السيد في حاشية الكشاف: العطف قد يكون بين المفردات وما في حكمها من الجمل التي لها محل من الإعراب. وقد يكون بين الجمل التي لا محل لها، وقد يكون بين قصتين بأن يعطف مجموع جمل متعددة مسوقة لمقصود، على مجموع جمل أخرى مسوقة لمقصود آخر، فيعتبر حينئذ التناسب بين القصتين دون آحاد الجمل الواقعة فيهما.
(28/176)
[14]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}.
ـــــــ
= ثم إن السكاكي لم يتعرض في كتابه لعطف القصة على القصة أصلا فالجامدون على كلامه تعريض بالسعد في كلامه في المطول إذ ذكر بحثا ودفعه وبنى البحث على أن كلام الكشاف مبني على جعل هذا العطف من عطف الجمل - تحيروا في هذا المقام، وزعموا أن ما ذكر أولا في الكشاف من قبيل عطف الجملة على الجملة الأخرى فلا بد من تضمين الخبر معنى الطلب أو العكس، وما ذكر فيه ثانيا من عطف المفرد على المفرد وهو عطف الفعل وحده على الفعل وحده.
وعبارة العلامة صريحة في أن المعطوف ههنا مجموع وصف ثواب المؤمنين كما فصل في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ} إلى قوله {خالدون} أي في هذه السورة [البقرة:25] فلا حاجة حينئذ في صحة العطف إلى جملة إنشائية سابقة.
ولو كان المعطوف الأمر: يعني الجملة الأمرية التي هي {بشر} لاحتيج إلى طلب ما تشاكله من أمر أو نهي حتى يصح عطفه عليه، وأما توهم العطف بين الفعلين وحدهما فلا مساغ له فيما نحن فيه أصلا اهـ المقصود من كلام السيد.
وفي الكشاف عند قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الصف، فإن قلت علام عطف قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قلت: على {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأنه في معنى الأمر كأنه قيل آمنوا وجاهدوا يثبكم الله وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك اهـ.
وظاهر كلامه هنا أنه يكتفي في صحة العطف أن تكون الجملتان إنشائيتين ولو كان متعلقا الإنشائين مختلفين.
قول صاحب التلخيص : {وهو حسبي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
قال في المطول {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} عطف إما على جملة {هو حسبي} والخصوص محذوف فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية على الإسمية الإخبارية. ثم عطف الجملة على المفرد إن صح باعتبار تضمن المفرد معنى الفعل كما في قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} في قراءة عاصم - لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار أي لأن قوله: {حسبي} لما تضمن معنى الفعل وهو كافئ صار في قوة الفعل وحيث كان إخبارا كان عطف نعم الوكيل عليه عطف جملة إنشائية على جملة خبرية.
(28/177)
هذا خطاب آخر للمؤمنين تكملة لما تضمنه الخطاب بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} إلى قوله {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف: 10، 11] الآية الذي هو المقصود من ذلك الخطاب، فجاء هذا الخطاب الثاني تذكيرا بأسوة عظيمة من أحوال المخلصين من المؤمنين السابقين وهم أصحاب عيسى عليه السلام مع قلة عددهم وضعفهم.
فأمر الله المؤمنين بنصر الدين وهو نصر غير النصر الذي بالجهاد لأن ذلك تقدم التحريض عليه في قوله: {تُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف:11] الآية ووعدهم عليه بأن ينصرهم الله، فهذا النصر المأمور به هنا نصر دين الله الذي آمنوا به بأن يبثوه ويثبتوا على الأخذ به دون اكتراث بما يلاقونه من أذى من المشركين وأهل الكتاب، قال تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
ـــــــ
قال السيد استصعب الشارح هذا العطف والأمر هين لأنا نختار أولا أنه معطوف على مجموع جملة {وهو حسبي} .
ونختار ثانيا أنه معطوف على حسبي، ولا حاجة إلى تضمينه معنى يحسبني فإن الجمل التي لها محل من الإعراب واقعة موقع المفردات فيجوز عطفها على المفردات وعكسه.
وأما قوله أي الشارح لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار فجوابه: أن ذلك جائز في الجمل التي لها محل من الإعراب نص عليه العلامة في سورة نوح وكفاك حجه قاطعة على جوازه قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} فإن هذه الواو من الحكاية لا من المحكي، أي قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل اهـ.
قلت: ومراد صاحب الكشاف في الموضعين: التفصي من الإقصاء إلى عطف الإنشاء على الخبر.
قلت:ظاهر كلام التفتزاني في قوله: فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية على الاسمية الإخبارية وفي قوله: لكنه في الحقيقة من عطف الإنشاء على الإخبار، أن التفتزاني لا يري ذلك العطف مانعا من جعل جملة {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}معطوفة على جملة {وهو حسبي} وبذلك يكون كلامه دالا على جواز ذلك العطف. ويحتمل وهو الأظهر أن قوله: فيكون من عطف الجملة الفعلية الإنشائية الخ، أرادبه التنبيه على أن ذلك الإعراب يفصي إلا لازم ممنوع عندهم ولذلك جعل السيد كلام التفتزاني استصعابا لذلك العطف وقال: فجوابه: أن ذلك جائز في الجمل التي لها محل الخ.
ولم يصرح السيد برأيه في أصل مسألة عطف الإنشاء على الخبر عدا ما ألحقه بها من القيود.
والوجه عندي في عطف الإنشاء على الخبر ما علمت آنفا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً} إلى قوله :{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} في سورة الأحزاب.
(28/178)
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]. وهذا هو الذي شبه بنصر الحواريين دين الله الذي جاء به عيسى عليه السلام، فإن عيسى لم يجاهد من عاندوه، ولا كان الحواريون ممن جاهدوا ولكنه صبر وصبروا حتى أظهر الله دين النصرانية وانتشر في الأرض ثم دب إليه التغيير حتى جاء الإسلام منسخة من أصله.
والأنصار: جمع نصير، وهو الناصر الشديد النصر.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر {كونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} بتنوين {أنصارا} وقرن اسم الجلالة باللام الجارة فيكون {أنصارا} مرادا به دلالة اسم الفاعل المفيد للإحداث، أي محدثين النصر، واللام للأجل، أي لأجل الله، أي ناصرين له كما قال تعالى: {فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
وقرأه الباقون بإضافة {أنصار} إلى اسم الجلالة بدون لام على اعتبار أنصار كاللقب على نحو قوله: {مَنْ أَنْصَارِي}.
والتشبيه بدعوة عيسى ابن مريم للحواريين وجواب الحواريين تشبيه تمثيل، أي كونوا عند ما يدعوكم محمد صلى الله عليه وسلم إلى نصر الله كحالة قول عيسى ابن مريم للحواريين واستجابتهم له.
والتشبيه لقصد التنظير والتأسي فقد صدق الحواريون وعدهم وثبتوا على الدين ولم تزعزعهم الفتن والتعذيب.
و"ما" مصدرية، أي كقول عيسى وقول الحواريين. وفيه حذف مضاف تقديره: لكون قول عيسى وقول الحواريين. فالتشبيه بمجموع الأمرين قول عيسى وجواب الحواريين لأن جواب الحواريين بمنزلة الكلام المفرع على دعوة عيسى وإنما تحذف الفاء في مثله من المقاولات والمحاورات للاختصار، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
وقول عيسى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} استفهام لاختبار انتدابهم إلى نصر دين الله معه نظير قول طرفه:
إذا القوم قالوا من فتى خلت إنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وإضافة {أنصار} إلى ياء المتكلم وهو عيسى باعتبارهم أنصار دعوته.
(28/179)
و {إِلَى اللَّهِ} متعلق ب {أنصاري} . ومعنى {إلى} الانتهاء المجازي، أي متوجهين إلى الله، شبه دعاؤهم إلى الدين وتعليمهم الناس ما يرضاه الله لهم بسعي ساعتين إلى الله لينصروه كما يسعى المستنجد بهم إلى مكان مستنجدهم لينصره على من غلبه.
ففي حرف {إلى} استعارة تبعية، ولذلك كان الجواب المحكي عن الحواريين مطابقا للاستفهام إذ قالوا: نحن أنصار الله، أي نحن ننصر الله على من حاده وشاقه، أي ننصر دينه.
{والحواريون} : جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي كلمة معربة عن الحبشية حواريا وهو الصاحب الصفي، وليست عربية الأصل ولا مشتقة من مادة عربية، وقد عدها الضحاك في جملة الألفاظ المعربة لكنه قال: إنها نبطية. ومعنى الحواري الغسال، كذا في الإتقان.
{والحواريون} : اسم أطلقه القرآن على أصحاب عيسى الاثنى عشر، ولا شك أنه كان معروفا عند نصارى العرب أخذوه من نصارى الحبشة. ولا يعرف هذا الاسم في الأناجيل.
وقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام حواريه على التشبيه بأحد الحواريين فقال: "لكل نبي حواري وحواري الزبير". وقد تقدم ذكر الحواريين في قوله تعالى: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[52].
واعلم أن مقالة عيسى عليه السلام المحكية في هذه الآية غير مقالته المحكية في آية آل عمران فإن تلك موجهة إلى جماعة بني إسرائيل الذين أحس منهم الكفر لما دعاهم إلى الإيمان به. أما مقالته المحكية هنا فهي موجهة للذين آمنوا به طالبا منهم نصرته لقوله تعالى: {كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} الآية، فلذلك تعين اختلاف مقتضى الكلامين المتماثلين.
وعلى حسب اختلاف المقامين يجرى اختلاف اعتبار الخصوصيات في الكلامين وإن كانا متشابهين فقد جعلنا هنالك إضافة {أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران: 52] إضافة لفظية وبذلك لم يكن قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} مفيدا للقصر لانعدام تعريف المسند. فأما هنا فالأظهر أن كلمة {أَنْصَارُ اللَّهِ} اعتبرت لقبا للحواريين غرفوا أنفسهم به وخلعوه على أنفسهم فلذلك أرادوا الاستدلال به على أنهم أحق الناس بتحقيق معناه، ولذلك تكون إضافة {أنصار}
(28/180)
إلى اسم الجلالة هنا إضافة معنوية مفيدة تعريفا فصارت جملة {نحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} هنا مشتملة على صيغة قصر على خلاف نظيرتها التي في سورة آل عمران.
ففي حكاية جواب الحواريين هنا خصوصية صيغة القصر بتعريف المسند إليه والمسند. وخصوصية التعريف بالإضافة. فكان إيجازا في حكاية جوابهم بأنهم أجابوا بالانتداب إلى نصر الرسول ويجعل أنفسهم محقوقين بهذا النصر لأنهم محضوا أنفسهم لنصر الدين وعرفوا بذلك وبحصر نصر الذين فيهم حصرا يفيد المبالغة في تمحضهم له حتى كأنه لا ناصر للدين غيرهم مع قلتهم وإفادته التعريض بكفر بقية قومهم من بني إسرائيل.
وفرع على قول الحوارين {نحْنُ أَنْصَارُ} الأخبار بأن بني إسرائيل افترقوا طائفتين طائفة آمنت بعيسى وما جاء به، وطائفة كفرت بذلك وهو التفريع يقتضي كلاما مقدرا وهو فنصروا الله بالدعوة والمصابرة عليها فاستجاب بعض بني إسرائيل وكفر بعض وإنما استجاب لهم من بني إسرائيل عدد قليل فقد جاء في إنجيل "لوقا" أن أتباع عيسى كانوا أكثر من سبعين.
والمقصود من قوله: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} التوطئة لقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} والتأييد النصر والتقوية، أيد الله أهل النصرانية بكثير ممن اتبع النصرانية بدعوة الحواريين وأتباعهم مثل بولس.
وإنما قال: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} ولم يقل: فأيدناهم لأن التأييد كان لمجموع المؤمنين بعيسى لا لكل فرد منهم إذ قد قتل من أتباعه خلق كثير ومثل بهم والقوا إلى السباع في المشاهد العامة تفترسهم، وكان ممن قتل من الحواريين الحواري الأكبر الذي سماه عيسى بطرس، أي الصخرة في ثباته في الله.
ويزعمون أن جثته في الكنيسة العظمى في رومة المعروفة بكنيسة القديس بطرس والحكم على المجموع في مثل هذا شائع كما تقول: نصر الله المسلمين يوم بدر مع أن منهم من قتل. والمقصود نصر الدين.
والمقصود من هذا الخبر وعد المسلمين الذين أمروا أن يكونوا أنصار الله بأن الله مؤيدهم على عدوهم.
والعدو يطلق على الواحد والجمع، قال تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ} [الكهف:50]وتقدم
(28/181)
عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} في سورة الممتحنة[1].
والظاهر هو : الغالب، يقال: ظهر عليه، أي غلبه، وظهر به أي غلب بسببه، أي بإعانته وأصل فعله مشتق من الاسم الجامد. وهو الظهر الذي هو العمود الوسط من جسد الإنسان، والدواب لأن بالظهر قوة الحيوان. وهذا مثل فعل "عضد" مشتقا من العضد. و "أيد" مشتقا من اليد ومن تصاريفه ظاهر عليه واستظهر وظهير له قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]. فمعنى {ظاهرين} أنهم منصورون لأن عاقبة النصر كانت لهم فتمكنوا من الحكم في اليهود الكافرين بعيسى ومزقوهم كل ممزق.
(28/182)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجمعة
سميت هذه السورة عند الصحابة وفي كتب السنة والتفاسير "سورة الجمعة" ولا يعرف لها اسم غير ذلك. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي فأنزلت عليه سورة الجمعة الحديث. وسيأتي عند تفسير قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة:3].
ووجه تسميتها وقوه لفظ {الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] فيها وهو اسم لليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام.
وقال ثعلب: إن قريشا كانت تجتمع فيه عند قصي بدار الندوة. ولا يقتضي في ذلك أنهم سموا ذلك اليوم الجمعة.
ولم أر في كلام العرب قبل الإسلام ما يثبت أن اسم الجمعة أطلقوه على هذا اليوم.
وقد أطلق اسم {الجمعة} على الصلاة المشروعة فيه على حذف المضاف لكثرة الاستعمال. وفي حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" ، ووقع في كلام عائشة كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي الخ.
وفي كلام أنس كنا نقيل بعد الجمعة، ومن كلام ابن عمر كان رسول الله لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، أي من المسجد. ومن كلام سهل بن سعد ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. فيحتمل أن يكون لفظ الجمعة الذي في اسم هذه السورة معنيا به صلاة الجمعة لأن في هذه السورة أحكاما لصلاة الجمعة. ويحتمل أن يراد به يوم الجمعة لوقوع لفظ يوم الجمعة في السورة في آية صلاة الجمعة.
(28/183)
وهي مدنية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت سنة ست وهي سنة خيبر، فظاهر حديث أبي هريرة الذي أشرنا إليه آنفا أن هذه السورة نزلت بعد فتح خيبر لأن أبا هريرة أسلم يوم خيبر.
وظاهره أنها نزلت دفعة واحدة فتكون قصية ورود العير من الشام هي سبب نزول السورة وسيأتي ذكر ذلك.
وكان فرض صلاة الجمعة متقدما على وقت نزول السورة فإن النبي صلى الله عليه وسلم فرضها في خطبة خطب بها للناس وصلاها في أول يوم جمعة بعد يوم الهجرة في دار لبني سالم بن عوف. وثبت أن أهل المدينة صلوها قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كما سيأتي. فكان فرضها ثابتا بالسنة قولا وفعلا. وما ذكر في هذه السورة من قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ورد مورد التأكيد لحضور صلاة الجمعة وترك البيع، والتحذير من الانصراف عند الصلاة قبل تمامها كما سيأتي.
وقد عدت هذه السورة السادسة بعد المائة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة التحريم وقبل سورة التغابن.
وظاهر حديث أبي هريرة يقتضي أن هذه السورة أنزلت دفعة واحدة غير منجمة.
وعدت آيها إحدى عشرة آية باتفاق العادين من قراء الأمصار.
أغراضها
أول أغراضها ما نزلت لأجله وهو التحذير من التخلف عن صلاة الجمعة والأمر بترك ما يشغل عنها في وقت أدائها. وقدم لذلك: التنويه بجلال الله تعالى.
والتنويه بالرسول صلى الله عليه وسلم. وأنه رسول إلى العرب ومن سيلحق بهم.
وأن رسالته لهم فضل من الله.
وفي هذا توطئة لذم اليهود لأنهم حسدوا المسلمين على تشريفهم بهذا الدين.
ومن جملة ما حسدوهم عليه ونقموه أن جعل يوم الجمعة اليوم الفاضل في الأسبوع بعد أن كان يوم السبت وهو المعروف في تلك البلاد.
وإبطال زعمهم أنهم أولياء الله.
(28/184)
وتوبيخ قوم انصرفوا عنها لمجيء عير تجارة من الشام.
[1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
افتتاح السورة بالإخبار عن تسبيح أهل السماوات والأرض لله تعالى براعة استهلال لأن الغرض الأول من السورة التحريض على شهود الجمعة والنهي عن الأشغال التي تشغل عن شهودها وزجر فريق من المسلمين انصرفوا عن صلاة الجمعة حرصا على الابتياع من عير وردت المدينة في وقت حضورهم لصلاة الجمعة.
وللتنبيه على أن أهل السماوات والأرض يجددون تسبيح الله ولا يفترون عنه أوثر المضارع في قوله: {يسبح} .
ومعاني هذه الآية تقدمت مفرقة في أوائل سورة الحديد وسورة الحشر.
سوى أن هذه السورة جاء فيها فعل التسبيح مضارعا وجيء به في سواها ماضيا لمناسبة فيها وهي: أن الغرض منها التنويه بصلاة الجمعة والتنديد على نفر قطعوا عن صلاتهم وخرجوا لتجارة أو لهو فمناسب أن يحكى تسبيح أهل السماوات والأرض بما فيه دلالة على استمرار تسبيحهم وتجدده تعريضا بالذين لم يتموا صلاة الجمعة.
ومعاني صفات الله تعالى المذكورة هنا تقدمت في خواتم سورة الحشر.
ومناسبة الجمع بين هذه الصفات هنا أن العظيم لا ينصرف عن مجلسه من كان عنده إلا عند انفضاض مجلسه أو إيذانه بانصرافهم.
{والقدوس} : المنزه عن النقص وهو يرغب في حضرته. {والعزيز} : يعتز الملتفون حوله. فمفارقتهم حضرته تفريط في العزة. وكذلك {الحكيم} إذا فارق أحد حضرته فاته في كل آن شيء من الحكمة كما فات الذين انفضوا إلى العير ما خطب به النبي صلى الله عليه وسلم إذ تركوه قائما في الخطبة.
[2] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
استئناف بياني ناشئ عن إجراء الصفات المذكورة آنفا على اسم الجلالة إذ يتساءل السامع عن وجه تخصيص تلك الصفات بالذكر من بين صفات الله تعالى فكأن الحال
(28/185)
مقتضيا أن يبين شيء عظيم من تعلق تلك الصفات بأحوال خلقه تعالى إذ بعث فيهم رسولا يطهر نفوسهم ويزكيهم ويعلمهم. فصفة {الْمَلِكِ} [ الجمعة:1} تعلقت بأن يدبر أمر عباده ويصلح شؤونهم، وصفة {الْقُدُّوسِ} [الجمعة: 1] تعلقت بأن يزكي نفوسهم، وصفة {الْعَزِيزِ} [الجمعة: 1] اقتضت أن يلحق الأميين من عباده بمراتب أهل العلم ويخرجهم من ذلة الضلال فينالوا عزة العلم وشرفه، وصفة {الْحَكِيمِ} [الجمعة:1 ] اقتضت أن يعلمهم الحكمة والشريعة.
وابتداء الجملة بضمير اسم الجلالة لتكون جملة اسمية فتفيد تقوية هذا الحكم وتأكيده، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث من الله لا محالة.
و {في} من قوله: {ِفي الْأُمِّيِّينَ} للظرفية، أي ظرفية الجماعة ولأحد أفرادها. ويفهم من الظرفية معنى الملازمة، أي رسولا لا يفارقهم فليس مارا بهم كما يمر المرسل بمقالة أو بمالكة يبلغها إلى القوم ويغادرهم.
والمعنى: أن الله أقام رسوله للناس بين العرب يدعوهم وينشر رسالته إلى جميع الناس من بلاد العرب فإن دلائل عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلومة من مواضع أخرى من القرآن كما في سورة الأعراف[158] {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وفي سورة سبأ[28] {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} .
والمراد ب{الأميين} : العرب لأن وصف الأمية غالب على الأمة العربية يومئذ. ووصف الرسول ب{منهم}، أي لم يكن غريبا عنهم كما بعث لوطا إلى أهل سلوم ولا كما بعث يونس إلى أهل نينوى، وبعث اليأس إلى أهل صيدا من الكنعانيين الذين يعبدون بعل، ف{من} تبعيضية، أي رسولا من العرب.
وهذه منة موجهة للعرب ليشكروا نعمة الله على لطفه بهم، فإن كون رسول القوم منهم نعمة زائدة على نعمة الإرشاد والهدي، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم إذ قال {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ} [البقرة: 129] فتذكيرهم بهذه النعمة استنزال لطائر نفوسهم وعنادهم.
وفيه تورك عليهم إذ أعرضوا عن سماع القرآن فإن كون الرسول منهم وكتابه بلغتهم هو أعون على تلقي الإرشاد منه إذ ينطلق بلسانهم وبحملهم على ما يصلح أخلاقهم ليكونوا حملة هذا الدين إلى غيرهم.
و {الأميين} : صفة لموصوف محذوف دل عليه صيغة جمع العقلاء، أي في الناس
(28/186)
الأميين. وصيغة جمع المذكور في كلام الشارع تشمل النساء بطريقة التغليب الاصطلاحي، أي في الأميين والأميات فإن أدلة الشريعة قائمة على أنها تعم الرجال والنساء إلا في أحكام معلومة.
والأميون: الذين لا يقرؤون الكتابة ولا يكتبون، وهو جمع أمي نسبة إلى الأمة، يعنون بها أمة العرب لأنهم لا يكتبون إلا نادرا، فغلبت هذا التشبيه في الإطلاق عند العرب حتى صارت تطلق على من لا يكتب ولو من غيرهم قال تعالى في ذكر بني إسرائيل {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} وقد تقدم في سورة البقرة[78].
وأوثر التعبير به هنا توركا على اليهود لأنهم كانوا يقصدون به الغض من العرب ومن النبي صلى الله عليه وسلم جهلا منهم فيقولون: هو رسول الأميين وليس رسولا إلينا. وقد قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال له "أتشهد أني رسول الله". أشهد أنك رسول الأميين. وكان ابن صياد متدينا باليهودية لأن أهله كانوا حلفاء لليهود.
وكان اليهود ينتقصون المسلمين بأنهم أميون قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] فتحدى الله اليهود بأنه بعث رسولا إلى الأميين وبأن الرسول أمي، وأعلمهم أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء كما في آخر الآية وأن فضل الله ليس خاصا باليهود ولا يغيرهم وقد قال تعالى من قبل لموسى {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 5، 6].
ووصف الرسول بأنه منهم، أي من الأميين شامل لمماثلته لهم في الأمية وفي القومية. وهذا من إيجاز القرآن البديع.
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله، أي وحيه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب، أي يلقنهم إياه كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب باكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي هو مع كونه أمي قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم ولم ينقص عنهم شيئا، فتمحضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى.
وفي وصف الأمي بالتلاوة وتعليم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس ضرب من محسن
(28/187)
الطباق لأن المتعارف أن هذه مضادة للأمية.
وابتدئ بالتلاوة لأن أول تبليغ الدعوة بإبلاغ الوحي، وثني بالتزكية لأن ابتداء الدعوة بالتطهير من الرجي المعنوي وهو الشرك، وما يعلق به من مساوي الأعمال والطباع.
وعقب بذكر تعليمهم الكتاب لأن الكتاب بعد إبلاغه إليهم تبين لهم مقاصده ومعانيه كما قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:18، 19]، وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتعليم الحكمة هو غاية ذلك كله لأن من تدبر القرآن وعمل به وفهم خفاياه نال الحكمة قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ونظيرها قوله: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في سورة آل عمران[164].
وجملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} في موضع الحال من الأميين، أي ليست نعمة إرسال هذا الرسول إليهم قاصرة على رفع النقائص عنهم وعلى تحليتهم بكمال علم آيات الله وزكاة أنفسهم وتعليمهم الكتاب والحكمة بل هي أجل من ذلك إذ كانت منقذة لهم من ضلال مبين كانوا فيه وهو ضلال الإشراك بالله. وإنما كان ضلالا مبينا لأنه أفحش ضلال وقد قامت على شناعته الدلائل القاطعة، أي فأخرجهم من الضلال المبين إلى أفضل الهدى، فهؤلاء هم المسلمون الذين نفروا إسلامهم في وقت نزول هذه السورة.
و {إن} مخففة من الثقيلة وهي مهملة عن العمل في اسمها وخبرها. وقد سد مسدها فعل كان كما هو غالب استعمال {إن} المخففة. واللام في قوله: {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} تسمى اللام الفارقة، أي التي تفيد الفرق بين {إن} النافية و {إن} المخففة من الثقيلة وما هي إلا اللام التي أصلها أن تقترن بخبر {إن} إذ الأصل: وإنهم لفي ضلال مبين، لكن ذكر اللام مع المخففة واجب غالبا لئلا تلتبس بالنافية، إلا إذا أمن اللبس.
[3] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
لا يجوز أن يكون {وآخرين} عطفا على {الأميين} [الجمعة:2] لأن آخرين يقتضي المغايرة لما يقابله فيقتضي أنه صادق على غير الأميين، أي غير العرب والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بين غير العرب فتعين أن لا يعطف {وآخرين} على {الأميين} لئلا يتعلق بفعل
(28/188)
{بعث} مجرور القي ولا على الضمير في قوله: {منهم} كذلك.
فهو إما معطوف على الضمير في {عليهم} من قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ} [الجمعة:2] والتقدير: يتلو على آخرين وإذا كان يتلو عليهم فقد علم أنه مرسل إليهم لأن تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا تلاوة تبليغ لما أوحى به إليه.
وإما أن يجعل {وآخرين} مفعولا معه. والواو للمعية ويتنازعه الأفعال الثلاثة وهي يتلو، ويزكي، ويعلم. والتقدير: يتلو على الأميين آياتنا ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة مع آخرين.
وجملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] معترضة بين المعطوف والمعطوف عليها أو بين الضمائر والمفعول معه. و {آخرين} : جمع آخر وهو المغاير في وصف مما دل عليه السياق. وإذ قد جعل {آخرين} هنا مقابلا للأميين كان مرادا به آخرون غير الأميين، أي من غير العرب المعنيين بالأميين.
فلو حملنا المغايرة على المغايرة بالزمان أو المكان، أي مغايرين للذين بعث فيهم الرسول، وجعلنا قوله: {منهم} بمعنى أنهم من الأميين، وقلنا: أريد وآخرين من العرب غير الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، أي عربا آخرين غير أهل مكة، وهم بقية قبائل العرب ناكده ما روى البخاري ومسلم والترمذي يزيد أخرهم على الأولين عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال له رجل: من هم يا رسول الله? فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا، وفينا سلمان الفارسي ووضع رسول الله يده على سلمان وقال: "لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء"? وهذا وارد مورد التفسير لقوله تعالى: {وآخرين} .
والذي يلوح أنه تفسير بالجزئي على وجه المثال ليفيد أن {آخرين} صادق على أمم كثيرة منها أمة فارس، وأما شموله لقبائل العرب فهو بالأولى لأنهم مما شملهم لفظ الأميين.
ثم بنا أن ننظر إلى تأويل قوله تعالى: {منهم} . قلنا أن نجعل {من} تبعيضية كما هو المتبادر من معانيها فنجعل الضمير المجرور ب {من} عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {كانوا} من قوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، فالمعنى: وآخرين من الضالين يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الكتاب والحكمة ولنا أن نجعل {من} اتصالية كالتي
(28/189)
في قوله تعالى: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159].
والمعنى: وآخرين يتصلون بهم ويصيرون في جملتهم، ويكون قوله: {منهم} موضع الحال، وهذا الوجه يناسب قوله تعالى: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} لأن اللحوق هو معنى الاتصال.
وموضع جملة {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} موضع الحال، وينشأ عن هذا المعنى إيماء إلى أن الأمم التي تدخل في الإسلام بعد المسلمين الأولين يصيرون مثلهم، وينشأ منه أيضا رمز إلى أنهم يتعربون لفهم الدين والنطق بالقرآن فكم من معان جليلة حوتها هذه الآية سكت عنها أهل التفسير.
وهذه بشارة غيبية بأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ستبلغ أمما ليسوا من العرب وهم فارس. والأرمن. والأكراد. والبربر. والسودان. والروم. والترك. والتتار. والمغول. والصين. والهنود، وغيرهم وهذا من معجزات القرآن من صنف الإخبار بالمغيبات.
وفي الآية دلالة على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لجميع الأمم.
والنفي ب {لما} يقتضي أن المنفي بها مستمر الانتفاء إلى زمن التكلم فيشعر بأنه مترقب الثبوت كقوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، أي وسيدخل كما في الكشاف، والمعنى: أن آخرين هم في وقت نزول هذه الآية لم يدخلوا في الإسلام ولم يلتحقوا بمن أسلم من العرب وسيدخلون في أزمان أخرى.
واعلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم "لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء" الإيماء إلى مثال مما يشمله قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} لأنه لم يصرح في جواب سؤال السائل بلفظ يقتضي انحصار المراد ب {آخرين} في قوم سلمان. وعن عكرمة: هم التابعون. وعن مجاهد: هم الناس كلهم الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: هم أهل اليمن.
وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل للتعجيب من هذا التقدير الإلهي لانتشار هذا الدين في جميع الأمم. فإن {العزيز} لا يغلب قدرته شيء. {والحكيم} تأتي أفعاله عن قدر محكم.
[4] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
الإشارة إلى جميع المذكور من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بالآيات والتزكية وتعليم الكتاب
(28/190)
والحكمة والإنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة، وهذا أجدع لأنفهم إذا حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.
وقال: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:73] يختص به. وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة:5] الآيات.
[5] {مثل مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوما أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاف في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهروا المشركين.
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بحال حمار يحمل أسفارا لا حظ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم.
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطا بأخطاء وضلالات ومتبعا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. وقال في الكشاف عن بعضهم: افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب. والعرب لا كتاب لهم. فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارا.
ومعنى {حملوا} : عهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا، يقال: حملت فلانا أمر كذا فاحتمله، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} سورة الأحزاب[72].
(28/191)
وإطلاق الحمل وما تصرف منه على هذا المعنى استعارة، بتشبيه إيكال، الأمر بحمل الجمل على ظهر الدابة، وبذلك كان تمثيل حالهم بحال الحمار يحمل أسفارا تمثيلا للمعنى المجازي بالمعنى الحقيقي. وهو من لطائف القرآن.
و {ثم} للتراخي الرتبي فإن عدم وفائهم بما عهد إليهم أعجب من تحملهم إي اهـ. وجملة {يَحْمِلُ أَسْفَاراً} في موضع الحال من الحمار أو في موضع الصفة لأن تعريف الحمار هنا تعريف جنس فهو معرفة لفظا نكرة معنى، فصح في الجملة اعتبار الحالية والوصف.
وهذا التمثيل مقصود منه تشنيع حالهم وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس المتعارف، ولذلك ذيل بذم حالهم {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} .
و {بئس} فعل ذم، أي ساء حال الذين كذبوا بكتاب الله فهم قد ضموا إلى جهلهم بمعاني التوراة تكذيبا بآيات الله وهي القرآن.
و {مَثَلُ الْقَوْمِ} ، فاعل {بئس} . وأفنى هذا الفاعل عن ذكر المخصوص بالذم لحصول العلم بأن المذموم هو حال القوم المكذبين فلم يسلك في هذا التركيب طريق الإيهام على شرط التفسير لأنه قد سبقه ما بينه بالمثل المذكور قبله في قوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} . فصار إعادة لفظ المثل ثقيلا في الكلام أكثر من ثلاث مرات. وهذا من تفننات القرآن. و {الَّذِينَ كَذَّبُوا} صفة {القوم} .
وجملة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل إخبارا عنهم بأن سوء حالهم لا يرجى لهم منه انفكاك لأن الله حرمهم اللطف والعناية بإنقاذهم لظلمهم بالاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم بالتكذيب دون نظر، وعلى آيات الله بالجحد دون تدبر.
قال في الكشاف: وعن بعضهم قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، أي آيات من هذه السورة: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم في قوله: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]. وبأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
[6] {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
(28/192)
أعقب تمثيل حال جهلهم بالتوراة بذكر زعم من آثار جهلهم بها إبطالا لمفخرة مزعومة عندهم أنهم أولياء الله وبقية الناس ليسوا مثلهم. وذلك أصل كانوا يجعلونه حجة على أن شؤونهم أفضل من شؤون غيرهم. ومن ذلك أنهم كانوا يفتخرون بأن الله جعل لهم السبت أفضل أيام الأسبوع وأنه ليس للأميين مثله فلما جعل الله الجمعة للمسلمين اغتاظوا، وفي الكشاف افتخر اليهود بالسبت وأنه للمسلمين مثله فشرع الله لهم الجمعة.
وافتتح بفعل {قل} للاهتمام.
و {الَّذِينَ هَادُوا} : هم الذين كانوا يهودا، وتقدم وجه تسمية اليهود يهودا عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} [البقرة:62] في سورة البقرة. ويجوز أن يكون {هادوا} بمعنى تابوا لقول موسى عليه السلام بعد أن أخذتهم الرجفة: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} كما تقدم في سورة الأعراف [156]. وأشهر وصف بني إسرائيل في القرآن بأنهم هود جمع هائد مثل قعود جمع قاعد. وأصل هود هوود وقد تنوسي منه هذا المعنى وصار علما بالغلبة على بني إسرائيل فنودوا به هنا بهذا الاعتبار لأن المقام ليس مقام ثناء عليهم أو هو تهكم.
وجيء ب {إن} الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة العقود [18] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} للإشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلا بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعا على طريقة قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] ويفيد ذلك توبيخا بطريق الكناية.
والمعنى: إن كنتم صادقين في زعمكم فتمنوا الموت. وهذا إلجاء لهم حتى يلزمهم ثبوت شكهم فيما زعموه.
والأمر في قوله: {فتمنوا} مستعمل في التعجيز: كناية عن التكذيب مثل قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93].
ووجه الملازمة بين الشرط وجوابه أن الموت رجوع الإنسان بروحه إلى حياة أبدية تظهر فيها آثار رضى الله عن العبد أو غضبه ليجزيه على حسب فعله.
(28/193)
والنتيجة الحاصلة من هذا الشرط تحصل أنهم مثل جميع الناس في الحياتين الدنيا والآخرة وآثارهما، واختلاف أحوال أهلهما، فيعلم من ذلك أنهم ليسوا أفضل من الناس. وهذا ما دل عليه قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة: 18].
وبهذا يندفع ما قد يعرض للناظر في هذه الآية من المعارضة بينها وبين ما جاء في الأخبار الصحيحة من النهي عن تمني الموت. وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" ، فقالت عائشة: إنا نكرة الموت فقال لها "ليس ذلك" الحديث. وما روي عنه أنه قال: "أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت" إلى قوله "قال موسى فالآن".
ذلك أن شأن المؤمنين أن يكونوا بين الرجاء والخوف من الله، وليسوا يتوهمون أن الفوز مضمون لهم كما توهم اليهود.
فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذ، وهم عامة غلبت عليهم الأوقام والغرور بعد انقراض علمائهم، فهو حكاية عن مجموع قوم. وأما الأخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معينة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء.
فعلى الأول يحمل حال عمير بن الحمام في قوله:
جريا إلى الله بغير زاد
وحال جعفر بن أبي طالب يوم موته وقد اقتحم صف المشركين:
يا حبذا الجنة واقترابها
وقول عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمان مغفرة ... وضربة ذات فزغ تقذف الزبدا
المتقدمة في سورة البقرة لأن الشهادة مضمونه الجزاء الأحسن والمغفرة التامة.
وعلى الثاني يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في تأويل قوله "من أحب لقاء الله أحب
(28/194)
الله لقاءه إن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله". وقول موسى عليه السلام لملك الموت: فالآن.
[7] {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
اعتراض بين جملتي القولين قصد به تحيهم لإقامة الحجة عليهم أنهم ليسوا أولياء لله.
وليس المقصود من هذا معذرة لهم من عدم تمنيهم الموت وإنما المقصود زيادة الكشف عن بطلان قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] وإثبات أنهم في شك من ذلك كما دل عليه استدلال القرآن عليهم يتحققهم أن الله يعذبهم بذنوبهم في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} . وقد مر ذلك في تفسير سورة العقود[18].
والباء في {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} سببية متعلقة بفعل {يتمنونه} المنفي فما قدمت أيديهم هو سبب انتفاء تمنيهم الموت ألقى في نفوسهم الخوف مما قدمت أيديهم فكان سبب صرفهم عن تمتي الموت لتقدم الحجة عليهم.
و {ما} موصولة وعائدة الصلة محذوف وحذفه أغلبي في أمثاله.
والأيدي مجاز في اكتساب الأعمال لأن اليد يلزمها الاكتساب غالبا. ومصدق ما قدمته أيديهم سيئاتهم ومعاصيهم بقرينة المقام.
وتقدم نظير هذه الآية في سورة البقرة وما ذكرته هنا أتم مما هنالك فأجمع بينهما.
والتقديم: أصله جعل الشيء مقدما، أي سابقا غيره في مكان يقعوه فيه غيره. واستعير هنا لما سلف من العمل تشبيها له بشيء يسبقه المرء إلى مكان قبل وصوله إليه.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} ، أي عليم بأحوالهم وبأحوال أمثالهم من الظالمين فشمل لفظ الظالمين اليهود فإنهم من الظالمين. وقد تقدم معنى ظلمهم في الآية قبلها. وقد وصف اليهود بالظالمين في آيات كثيرة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:140] والمقصود أن أحجامهم عن تمني الموت لما في نفوسهم من خوف العقاب على ما فعلوه في الدنيا، فكني بعلم الله بأحوالهم عن عدم انفلاتهم من الجزاء عليها ففي هذا وعيد لهم.
(28/195)
[8] {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
تصريح بما اقتضاه التذييل من الوعيد وعدم الانفلات من الجزاء عن أعمالهم ولو بعد زمان وقوعها لأن طول الزمان لا يؤثر في علم الله نسيانا، إذ هو عالم الغيب والشهادة. وموقع هذه الجملة موقع بدل الاشتمال من جملة {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6]، وإعادة فعل {قل} من قبيل إعادة العامل في المبدل منه كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا لأولنا وأخرنا} في سورة العقود[114].
ووصف {الموت} ب {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} للتنبيه على أن هلعهم من الموت خطأ كقول علقمة:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
وأطلق الفرار على شدة الحذر على وجه الاستعارة.
واقتران خبر {إن} بالفاء في قوله: {فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} لأن اسم {إن} نعت باسم الموصول والموصول كثيرا ما يعامل معاملة الشرط فعومل اسم {إن} المنعوت بالموصول معاملة نعته.
وإعادة {إن} الأولى لزيادة التأكيد كقول جرير:
إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف[30]. وفي سورة الحج أيضا.
والإنباء بما كانوا يعملون كناية عن الحساب عليه، وهو تعريض بالوعيد.
[9،10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
هذه الآيات هي المقصود من السورة وما قبلها مقدمات وتوطئات لها كما ذكرناه آنفا. وقد تقدم ما حكاه الكشاف من أن اليهود افتخروا على المسلمين بالسبت فشرع الله
(28/196)
للمسلمين الجمعة. فهذا وجه اتصال هذه الآية بالآيات الأربع التي قبلها فكن لهذه الآية تمهيدا وتوطئة. واللام في قوله {للصلاة} لام التعليل، أي نادى مناد لأجل الصلاة من يوم الجمعة، فعلم أن النداء هنا هو أذان الصلاة.
والجمعة بضم الجيم وضم الميم في لغة جمهور العرب وهو لغة أهل الحجاز. وبنو عقيل بسكون الميم.
والتعريف في {الصلاة} تعريف العهد وهي الصلاة المعروفة الخاصة بيوم الجمعة. وقد ثبتت شرعا بالتواتر ثم تقررت بهذه الآية فصار دليل وجوبها في الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة.
وكانت صلاة الجمعة مشروعة من أول أيام الهجرة. روي عن ابن سيرين أن الأنصار جمعوا الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قالوا: إن اليهود يوما يجتمعون فيه وللنصارى يوم مثل ذلك فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه. وقالوا: أن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم.
وروى البيهقي عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعين أن يكون ذلك قد علم به النبي صلى الله عليه وسلم ولعلهم بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث فضل يوم الجمعة وأنه يوم المسلمين.
فمشروعية صلاة الجمعة والتجميع فيه إجابة من الله تعالى رغبة المسلمين مثل أجابته رغبة النبي صلى الله عليه وسلم استقبال الكعبة المذكورة في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144].
وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال أهل السير: كانت في اليوم الخامس للهجرة لأن رسول الله قدم المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول فأقام بقباء ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركه وقت الجمعة في بطن واد لبني سالم بن عوف كان لهم فيه مسجد، فجمع بهم في ذلك المسجد، وخطب فيه أول خطبة خطبها بالمدينة وهي طويلة ذكر نصها القرطبي في تفسيره .
وقولهم: "فأدركه وقت الجمعة"، يدل على أن صلاة الجمعة كانت مشروعة يومئذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عازما أن يصليها بالمدينة فضاق عليه الوقت فأداها في مسجد بني
(28/197)
سالم، ثم صلى الجمعة القابلة في مسجده بالمدينة وكانت جمعة المسجد النبوي بالمدينة الثانية بالأخبار الصحيحة.
وأول جمعة جمعت في مسجد من مساجد بلاد الإسلام بعد المدينة كانت في مسجد جؤاثاء1 من بلاد البحرين وهي مدينة الخط قرية لعبد القيس. ولما ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ثبت أهل جؤاثاء على الإسلام.
وتقرر أن يوم الجمعة اليوم السابع من أيام الأسبوع في الإسلام وهو الذي كان يسمى في الجاهلية عروبة. قال بعض الأئمة: ولا تدخل عليه اللام. قال السهيلي: معنى العروبة الراحة فيما بلغني عن بعض أهل العلم اهـ. قلت وذلك مروي عن ثعلب، وهو قبل يوم السبت وقد كان يوم السبت عيد الأسبوع عند اليهود وهو آخر أيام الأسبوع. وقد فرضت عليهم الراحة فيه عن الشغل بنص التوراة فكانوا يبتدئون عدد أيام الأسبوع من يوم الأحد وهو الموالي للسبت وتبعهم العرب في ذلك لأسباب غير معروفة ولذلك سمي العرب القدماء يوم الأحد أول.
فأيام الأسبوع عند العرب في القديم هي: أول، أهون جبار، كغراب وكتاب، دبار كذلك، مؤيس مهموزا، عروبة، شيار بشين معجمة مكسورة بعدها تحتية مخففة.
ثم أحدثوا أسماء لهذه الأيام هي: الأحد، الاثنين، الثلاثاء بفتح المثلثة الأولى وبضمها، الأربعاء بكسر الهمزة وكسر الموحدة، الخميس، عروبة أو الجمعة في قول بعضهم السبت. وأصل السبت: القطع، سمي سبتا عند الإسرائيليين لأنهم يقطعون فيه العمل، وشاع ذلك الاسم عند العرب.
وسموا الأيام الأربعة بعده بأسماء مشتقة عن أسماء العدد على ترتيبها وليس في التوراة ذكر أسماء للأيام. وفي سفر التكوين منها ذكرت أيام بدء الخلق بأعدادها أول
ـــــــ
1 جؤاثاء بضم الجيم وهمزة مفتوحة بعدها ألف وفي آخره ألف ممدودة وقد تقصر. مدينة بلاد الخط من البحرين الذي تنسب إليه الرماح الخطية لأنها تجلب إليه من بلاد الهند والخط الساحل وهذا الخط يسمى سيف عمان لأنه يمتد إلى عمان. ومن قطر والقطيف بفتح القاف وكسر الطاء، والفقير مصغرا وهذه البلاد تعرف في زماننا سنة 1385هـ بعضها ببلاد الكويت وبعضها بجزائر البحرين، وبعضها ببلاد عمان وبعضها من البلاد السعودية مثل القطيف وهجرا.
(28/198)
وثان الخ، وأن الله لم يخلق شيئا في اليوم الذي بعد اليوم السادس. وسمته التوراة سبتا، قال السهيلي: قيل أول من سمى يوم عروبة الجمعة كعب بن لؤي جد أبي قصي. وكان قريش يجتمعون فيه إلى كعب قال: وفي قول بعضهم. لم يسم يوم عروبة يوم الجمعة إلا مذ جاء الإسلام.
جعل الله يوم الجمعة للمسلمين عيد الأسبوع فشرع لهم اجتماع أهل البلد في المسجد وسماع الخطبة ليعلموا ما يهمهم في إقامة شؤون دينهم وإصلاحهم.
قال القفال: لما جعل الله الناس أشرف العالم السفلي لم يخف عظم المنة وجلالة قدر موهبته لهم فأمرهم بالسكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله به عليهم. ولكل أهل ملة معروفة يوم من الأسبوع معظم، فلليهود يوم السبت وللنصارى الأحد وللمسلمين يوم الجمعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون"، أي آخر الدنيا "السابقون يوم القيامة" يوم القيامة يتعلق ب "السابقون". "بيد أنهم" أي اليهود والنصارى "أوتوا الكتاب من قبلنا ثم كان هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه، فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد".
ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وتعظيم نعمة احتج فيه إلى الاجتماع الذي تقع به شهرته فجمعت الجماعات لذلك، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثا على استدامتها. ولما كان مدار التعظيم إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى الاجتماع اهـ. كلام القفال. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والنصارى بعد غد"، إشارة إلى ما عمله النصارى بعد المسيح وبعد الحواريين من تعويض يوم السبت بيوم الأحد لأنهم زعموا أن يوم الأحد فيه قام عيسى من قبره. فعوضوا الأحد عن يوم السبت بأمر من قسطنطين سلطان الروم في سنة 321 المسيحي. وصار دينا لهم بأمر أحبارهم.
وصلاة الجمعة هي صلاة ظهر يوم الجمعة، وليست صلاة زائدة على الصلوات الخمس فأسقط من صلاة الظهر ركعتان لأجل الخطبتين. روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: وإنما قصرت الجمعة لأجل الخطبة.1
وأحسب أن ذلك تخفيف على الناس إذ وجبت عليهم خطبتان مع الصلاة فكانت كل
ـــــــ
1 رواه أبو بكر الرازي الجصاص في أحكام القرآن له جزء 3 ص 548.
(28/199)
خطبة بمنزلة ركعة وهذا سبب الجلوس بين الخطبتين للإيماء إلى أنهما قائمتان مقام الركعتين ولذلك كان الجلوس خفيفا. غير أن الخطبتين لم تعطيا أحكام الركعتين فلا يضر فوات إحداهما أو فواتهما معا ولا يجب على المسبوق تعويضهما ولا سجود لنقصهما عند جمهور فقهاء الأمصار، روي عن عطاء ومجاهد وطاووس: أن من فاتته الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا صلاة الظهر. وعن عطاء: أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة أضاف إليها ثلاث ركعات وهو أراد أن فاتته الخطبة وركعة من صلاة الجمعة1.
وجعلت القراءة في الصلاة جهرا مع أن شأن صلوات النهار إسرار القراءة لفائدة إسماع الناس سورا من القرآن كما أسمعوا الخطبة فكانت صلاة إرشاد لأهل البلد في يوم من كل أسبوع.
والإجماع على أن صلاة الجمعة قائمة مقام صلاة الظهر في يوم الجمعة فمن صلاها لا يصلي معها ظهرا فأما من لم يصلها لعذر أو لغيره فيجب عليه أن يصلي الظهر. ورأيت في الجامع الأموي في دمشق قام إمام يصلي بجماعة ظهرا بعد الفراغ من صلاة الجمعة وذلك بدعة.
وإنما اختلف الأئمة في أصل الفرض في وقت الظهر يوم الجمعة فقال مالك والشافعي في آخر قوليه وأحمد وزفر من أصحاب أبي حنيفة: صلاة الجمعة المعروفة فرض وقت الزوال في يوم الجمعة وصلاة الظهر في ذلك اليوم لا تكون إلا بدلا عن صلاة الجمعة، أي لمن لم يصل الجمعة لعذر ونحوه.
وقال أبو حنيفة والشافعي في أول قوليه المرجوع عنه وأبو يوسف ومحمد في رواية: الفرض بالأصل هو الظهر وصلاة الجمعة بدل عن الظهر، وهو الذي صححه فقهاء الحنفية.
وقال محمد في رواية عنه: الفرض إحدى الصلاتين من غير تعيين والتعيين للمكلف فأشبه الواجب المخبر لأن الواجب المخير لا يأثم فيه فاعل أحد الأمرين وتارك الجمعة بدون عذر آثم.
قالوا: تظهر فائدة الخلاف في حر مقيم صلى الظهر في أول الوقت؛ فقال أبو حنيفة
ـــــــ
1 ذكره الجصاص في أحكام القرآن ص 548 ج 3.
(28/200)
وأصحابه: له صلاة الظهر مطلقا حتى لو خرج بعد أن صلى الظهر أو لم يخرج لم يبطل فرضه، لكن عند أبي حنيفة يبطل ظهره بمجرد السعي مطلقا وعند صاحبيه لا يبطل ظهره إلا إذا أدرك الجمعة.
وقال مالك والشافعي: لا يجوز أن يصلي الظهر يوم الجمعة سواء أدرك الجمعة أم لا، خرج إليها أم لا يعني فإن أدرك الجمعة فالأمر ظاهر وإن لم يدركها وجب عليه أن يصلي ظهرا آخر.
والنداء للصلاة: الأذان المعروف وهو أذان الظهر ورد في الصحيح عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. قال السائب بن يزيد: فلما كان عثمان وكثر الناس بالمدينة زاد أذانا على الزوراء الزوراء موضع بسوق المدينة. وربما وصف في بعض الروايات بالأذان الثاني. ومعنى كونه ثانيا أنه أذان مكرر للأذان الأصلي فهو ثان في المشروعية ولا يريد أنه يؤذن به بعد الفراغ من الأذان الذي يؤذن به وقت جلوس الإمام على المنير، أي يؤذن به في باب المسجد، إذ لم يكن للناس يومئذ صومعة، وربما وقع في بعض الروايات وصفه بالنداء الثالث وإنما يعني بذلك أنه ثالث بضميمه الأذان الأول. ولا يراد أن الناس يؤذنون أذانين في المسجد وإنما زاده عثمان ليسمع النداء من في أطراف المدينة، وربما سموه الأذان الأول.
والذي يظهر من تحقيق الروايات أن هذا الأذان الثاني يؤذن به عقب الأذان الأول، لأن المقصود حضور الناس للصلاة في وقت واحد ووقع في بعض عبارات الروايات والرواة أنه كان يؤذن بأذان الزوراء أولا ثم يخرج الإمام فيؤذن بالأذان بين يديه.
قال ابن العربي في العارضة : لما كثر الناس في زمن عثمان زاد النداء على الزوراء ليشعر الناس بالوقت فيأخذوا بالإقبال إلى الجمعة ثم يخرج عثمان فإذا جلس على المنبر أذن الثاني الذي كان أولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يخطب. ثم يؤذن الثالث يعني به الإقامة اهـ.
وقال في الأحكام : وسماه في الحديث أي حديث السائب بن يزيد ثالث لأنه إضافة إلى الإقامة فجعله ثالث الإقامة، أي لأنه أحدث بعد أن كانت الإقامة مشروعة وسمى الإقامة أذانا مشاكلة أو لأنها إيذان بالدخول في الصلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" يعني بين الأذان والإقامة، فتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا
(28/201)
الأذانات ثلاثة فكان وهما. ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم اهـ. فتوهم كثير من أهل الأمصار أن الأذان لصلاة الجمعة ثلاث مرات لهذا تراهم يؤذنون في جوامع تونس ثلاثة أذانات وهو بدعة.
قال ابن العربي في العارضة : فأما بالمغرب أي بلاد المغرب فيؤذن ثلاثة من المؤذنين لجهل المفتين في الرسالة : وهذا الأذان الثاني أحدثه بنو أمية فوصفه بالثاني وهو التحقيق، ولكنه نسبة إلى بني أمية لعدم ثبوت أن الذي زاده عثمان، ورواه البخاري وأهل السنن عن السائب بن يزيد ولم يره مسلم ولا مالك في الموطأ .
والسبب في نسبته إلى بني أمية: أن علي بن أبي طالب لما كان بالكوفة لم يؤذن الجمعة إلا أذانا واحدا كما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألغي الأذان الذي جعله عثمان بالمدينة. فلعل الذي أرجع الأذان الثاني بعض خلفاء بني أمية قال مالك في المجموعة : إن هشام بن عبد الملك أحدث أذانا ثانيا بين يديه في المسجد.
واعلم أن النداء الذي نيط به الأمر بالسعي قي هذه الآية هو النداء الأول، وما كان النداء الثاني إلا تبليغا للأذان لمن كان بعيد فيجب على من سمعه السعي إلى الجمعة للعلم بأنه قد نودي للجمعة.
والسعي: أصله الاشتداد في المشي. وأطلق هنا على المشي بحرص التأخر مجازا.
و {ذكر الله} فسر بالصلاة وفسر بالخطبة، بهذا فسره سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير. قال أبو بكر بن العربي والصحيح أنه الجميع أوله الخطبة.
قلت: وإيثار {ذِكْرِ اللَّهِ} هنا دون أن يقول: إلى الصلاة، كما قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} لتتأتى إرادة الأمرين الخطبة والصلاة. وفيه دليل على وجوب الخطبة في صلاة الجمعة وشرطيته على الجملة. وتفصيل أحكام التخلف عن الخطبة ليست مساوية للتخلف عن الصلاة إلا في أصل حرمة التخلف عن حضور الخطبة بغير عذر.
وفي حديث الموطأ "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" ولا شك أن الإمام إذا خرج ابتداء بالخطبة فكانت الخطبة من الذكر وفي ذلك تفسير للفظ الذكر في هذه الآية. وإنما نهوا عن البيع لأنه الذي يشغلهم ولأن سبب نزول الآية كان لترك فريق
(28/202)
منهم الجمعة إقبالا على عير تجارة وردت كما سيأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
ومثل البيع كما يشغل عن السعي إلى الجمعة، وبعد كون البيع وما قيس عليه منها فقد اختلف في نسخ العقود التي انعقدت وقت الجمعة. وهو مبني على الخلاف في اقتضاء النهي فساد المنهي عنه، ومذهب مالك أن النهي يقتضي الفساد إلا لدليل. وقول مالك في المدونة: إن البيع الواقع في وقت صلاة الجمعة بين من تجب عليهم الجمعة يفسخ. وقال الشافعي: لا يفسخ. وجعله كالصلاة في الأرض المغصوبة وهو قول أبي حنيفة أيضا.
وأما النكاح المعقود في وقت الجمعة: ففي العتيبة عن ابن القاسم: لا يفسخ. ولعله اقتصر على ما ورد النهي عنه في القرآن ولم ير القياس موجبا لفسخ المقيس. وكذلك قال أئمة المالكية: لا تفسخ الشركة والهبة والصدقة الواقعة في وقت الجمعة وعللوا ذلك بندرة وقوع أمثالها بخلاف البيع.
وخطاب الآية جميع المؤمنين فدل على أن الجمعة واجبة على الأعيان. وشذ قوم قالوا: إنها واجبة على الكفاية قال ابن الفرس: ونسب إلى بعض الشافعية وخطاب القرآن الذين آمنوا عام خصصته السنة بعدم وجوب الجمعة على النساء والعبيد والمسافر إذا حل بقرية الجمعة ومن لا يستطيع السعي إليها.
و {من} في قوله: {مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} تبعيضية فإن يوم الجمعة زمان تقع فيه أعمال منها الصلاة المعهودة فيه، فنزل ما يقع في الزمان بمنزلة أجزاء الشيء.
ويجوز كون {من} للظرفية مثل التي في قوله تعالى: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40]، أي فيها من المخلوقات الأرضية.
والإشارة ب {ذلكم} إلى المذكور، أي ما ذكر من أمر بالسعي إليها، وأمر بترك البيع حينئذ، لأي ذلك خير لكم مما يحصل لكم من البيوعات. فلفظ {خير} اسم تفضيل أصله: أخير، حذفت همزته لكثرة الاستعمال.
والمفضل عليه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمفضل: الصلاة، أي ثوابها. والمفضل عليه: منافع البيع للبائع والمشتري.
وإنما أعقب بقوله تعالى: {فإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ
(28/203)
فَضْلِ اللَّهِ} تنبيها على أن لهم سعة من النهار يجعلونها للبيع ونحوه من ابتغاء أسباب المعاش فلا يأخذوا ذلك من وقت الصلاة، وذكر الله، والأمر في {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} للإباحة.
والمراد ب {فضل الله} : اكتساب المال والرزق.
وأما قوله: {واذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} فهو احتراس من الانصباب في أشغال الدنيا انصبابا ينسي ذكر الله، أو يشغل عن الصلوات فإن الفلاح في الإقبال على مرضاة الله تعالى.
[11] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
عطف على جملة {وذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] الآية. عطف التوبيخ على ترك المأمور به بعد ذكر الأمر وسلكت في المعطوفة طريقة الالتفاف لخطاب إيذانا بأنهم أحرياء أن يصرف للخطاب عنهم فحرموا من الحضور. وأخبر عنهم بحال الغائبين، وفيه تعريض بالتوبيخ.
ومقتضى الظاهر أن يقال: وإذا رأيتم تجارة أو لهوا فلا تنفضوا إليها. ومن مقتضيات تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر هنا أن يكون هذا التوبيخ غير شامل لجميع المؤمنين فإن نفرا منهم بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين خطبته ولم يخرجوا للتجارة ولا للهو.
وفي الصحيح عن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير من الشام تحمل طعاما فانفتل الناس إليها حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم. وفي رواية وفيهم أبو بكر وعمر، فأنزل الله فيهم هذه الآية التي في الجمعة {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} اهـ. وقد ذكروا في روايات أخرى أنه بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمان بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وجابر بن عبد الله، فهؤلاء أربعة عشر. وذكر الدارقطني في حديث جابر: أنه قال ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعون رجلا.
(28/204)
وعن مجاهد ومقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة فتلقاه أهله بالدفوف فخرج الناس. وفي رواية أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد فقدم دحية بتجارة من زيت الشام. وفي رواية وطعام وغير ذلك فخرج الناس من المسجد خشية أن يسبقوا إلى ذلك. وقال جابر بن عبد الله: كانت الجواري إذا نكحن يمررن بالمزامير والطبل فانفضوا إليها، فلذلك قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ، فقد قيل إن ذلك تكرر منهم ثلاث مرات، فلا شك أن خروجهم كان تارة لأجل مجيء العير وتارة لحضور اللهو.
وروي أن العير نزلت بموضع يقال له: أحجار الزيت فتوهم الراوي فقال: بتجارة الزيت.
وضمير {إليها} عائد إلى التجارة لأنها أهم عندهم من اللهو ولأن الحدث الذي نزلت الآية عنده هو مجيء عير دحية من الشام. واكتفى به عن ضمير اللهو كما في قول قيس بن الخطيم، أو عمرو بن الحارث بن امرئ القيس:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
ولعل التقسيم الذي أفادته {أو} في قوله: {أو لهوا} تقسيم لأحوال المنفضين إذ يكون بعضهم من ذوي العائلات خرجوا ليمتاروا لأهلهم، وبعضهم من الشباب لا همة لهم في الميرة ولكن أحبوا حضور اللهو.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي مجرد عن معنى الشرط لأن هذا الانفضاض مضى. وليس المراد أنهم سيعودون إليه بعد ما نزل هذا التوبيخ وما قبله من الأمر والتحريض. ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] وقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا} [التوبة:92] الآية.
والانقضاض: مطاوع فضه إذا فرقه، وغلب إطلاقه على غير معنى المطاوعة، أي بمعنى مطلق كما تفرق. قال تعالى {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7].
وقوله: {أو لهوا} فيه للتقسيم، أي منهم من انفض لأجل التجارة، ومنهم من انفض لأجل اللهو، وتأنيث الضمير في قوله: {إليها} تغليب للفظ تجارة لأن التجارة
(28/205)
كانت الداعي الأقوى لانفضاضهم.
وجملة {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} تفظيع لفعلهم إذ فرطوا في سماع وعظ النبي صلى الله عليه وسلم، أي تركوك قائما على المنير. وذلك في خطبة الجمعة، والظاهر أنها جملة حالية، أي تركوك في حال الموعظة والإرشاد فأضاعوا علما عظيما بانفضاضهم إلى التجارة واللهو. وهذه الآية تدل على وجوب حضور الخطبة في صلاة الجمعة إذ لم يقل: وتركوا الصلاة.
وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعظهم بأن ما عند الله من الثواب على حضور الجمعة خير من فائدة التجارة ولذة اللهو. وكذلك ما أعد الله من الرزق للذين يؤثرون طاعة الله على ما يشغل عنها من وسائل الارتزاق جزاء لهم على إيثارهم جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، فرب رزق لم ينتفع به الحريص عليه وإن كان كثيرا، ورب رزق قليل ينتفع به صاحبه ويعود عليه بصلاح، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97]. وقال حكاية عن خطاب نوع قومه {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10، 12].
وذيل الكلام بقوله: {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لأن الله يرزق الرزق لمن يرضى عنه سليما من الأكدار والآثام، ولأنه يرزق خير الدنيا وخير الآخرة، ليس غير الله قادرا على ذلك، والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله وهو العالم بالسرائر
(28/206)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
سميت هذه السورة في كتب السنة وكتب التفسير سورة المنافقين اعتبارا بذكر أحوالهم وصفاتهم فيها.
ووقع هذا الاسم في حديث زيد بن أرقم عند الترمذي قوله: "فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين" . وسيأتي قريبا، وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين، وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرع بها المنافقين.
ووقع في صحيح البخاري وبعض كتب التفسير تسميتها سورة المنافقون على حكاية اللفظ الواقع في أولها وكذلك ثبت في كثير من المصاحف المغربية والمشرقية.
وهي مدنية بالاتفاق.
واتفق العادون على عد آيها إحدى عشرة آية.
وقد عدت الثانية بعد المائة في عداد نزول السور عند جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الحج وقبل سورة المجادلة.
والصحيح أنها نزلت في غزوة بني المصطلق ووقع في جامع الترمذي عن محمد بن كعب القرظي أنها نزلت في غزوة تبوك. ووقع فيه أيضا عن سفيان: أن ذلك في غزوة بني المصطلق وغزوة بني المصطلق سنة خمس، وغزوة تبوك سنة تسع.
ورجح أهل المغازي وابن العربي في العارضة وابن كثير: أنها نزلت في غزوة بني المصطلق وهو الأظهر. لأن قول عبد الله بن أبي بن سلول: ليخرجن الأعز منها الأذل، يناسب الوقت الذي لم يضعف فيه شأن المنافقين وكان أمرهم كل يوم في ضعف
(28/207)
وكانت غزوة تبوك في آخر سني النبوة وقد ضعف أمر المنافقين.
وسبب نزولها ما روي عن زيد بن أرقم أنه قال: كنا في غزاة فكسع1 رجل من المهاجرين رجلا جهنيا حليفا للأنصار فقال الجهني: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين: فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما بال دعوى الجاهلية،" قالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال "دعوها فإنها منتنة" أي اتركوا دعوة الجاهلية: يآل كذا فسمع هذا الخبر عبد الله بن أبي فقال: أقد فعلوها أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وقال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، قال زيد بن أرقم: فسمعت ذلك فأخبرت به عمي فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا، فكذبت رسول الله وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله فقال عمي ما أردت إلا أن كذبك رسول الله، وفي رواية: إلى أن كذبك، فلما أصبحنا قرأ رسول الله سورة المنافقين وقال لي: "إن الله قد صدقك".
وفي رواية للترمذي في هذا الحديث: أن المهاجري أعرابي وأن الأنصاري من أصحاب عبد الله بن أبي، وأن المهاجري ضرب الأنصاري على رأسه بخشبة فشجه، وأن عبد الله بن أبي قال: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله يعني الأعراب، وذكر أهل السير أن المهاجري من غفار اسمه جهجاه أجير لعمر بن الخطاب. وأن الأنصاري جهني اسمه سنان حليف لبن أبي، ثم يحتمل أن تكون الحادثة واحدة. واضطرب الراوي عن زيد بن أرقم في صفتها؛ ويجوز أن يكون قد حصل حادثتان في غزاة واحدة.
وذكر الواحدي في أسباب النزول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى عبد الله بن أبي وقال له: "أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني"، فقال عبد الله بن أبي: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من هذا وإن زيدا لكاذب.
والظاهر أن المقالة الأولى قالها ابن أبي في سورة غضب تهييجا لقومه ثم خشي انكشاف نفاقه فأنكرها.
وأما المقالة الثانية فإنما أدرجها زيد بن أرقم في حديثه وإنما قالها ابن أبي في سورة
ـــــــ
1 كسع ضربه دبره، وكان ذلك لخصومة في حوض ماء شربت منه ناقة الأنصاري.
(28/208)
الناصح كما سيأتي في تفسير حكايتها.
وعلى الأصح فهي قد نزلت قبل سورة الأحزاب، وعلى القول بأنها نزلت في غزوة تبوك تكون نزلت مع سورة براءة أو قبلها بقليل وهو بعيد.
أغراضها
فضح أحوال المنافقين بعد كثير من دخائلهم وتولد بعضها عن بعض من كذب، وخيس بعهد الله، واضطراب في العقيدة، ومن سفالة نفوس في أجسام تغر وتعجب، ومن تصميم على الإعراض عن طلب الحق والهدى، وعلى صد الناس عنه، وكان كل قسم من آيات السورة المفتتح ب {إذا} خص بغرض من هذه الأغراض. وقد علمت أن ذلك جرت إليه الإشارة إلى تكذيب عبد الله بن أبي بن سلول فيما حلف عليه من التنصل مما قاله.
وختمت بموعظة المؤمنين وحثهم على الإنفاق والادخار للآخرة قبل حلول الأجل.
[1] {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
لما كان نزول هذه السورة عقب خصومة المهاجرين والأنصارى ومقالة عبد بن أبي في شأن المهاجرين. تعين أن الغرض من هذه الآية التعريض بكذب عبد الله بن أبي وبنفاقه فصيغ الكلام بصيغة تعم المنافقين لتجنب التصريح بالمقصود على طريقة قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" ومراده مولى بريرة لما أراد أن يبيعها لعائشة أم المؤمنين واشترط أن يكون الولاء له، وابتدئ بتكذيب من أريد تكذيبه في ادعائه الإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن ذلك هو المقصود إشعارا بأن الله أطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم، وهو تمهيد لما بعده من قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن المنافقين قالوا: نشهد إنك لرسول الله.
فيجوز أن يكون قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} محكيا بالمعنى لأنهم يقولون عبارات كثيرة تفيد معنى أنهم يشهدون بأنه رسول الله مثل نطقهم بكلمة الشهادة.
ويجوز أن يكونوا توطؤوا على هذه الكلمة كلما أعلن أحدهم الإسلام. وهذا أليق بحكاية كلامهم بكلمة {قالوا} دون نحو: زعموا.
و {إذا} ظرف للزمان الماضي بقرينة جعل جملتيها ماصيتي، والظرف متعلق بفعل
(28/209)
{قالوا} وهو جواب {إذا} .
فالمعنى: إنك تعلم أنهم يقولون نشهد إنك لرسول الله.
و {نشهد} خبر مؤكد لأن الشهادة الإخبار عن أمر مقطوع به إذ هي مشتقة من المشاهدة أي المعاينة. والمعاينة أقوى طرق العلم، ولذلك كثر استعمال: أشهد ونحوه من أفعال اليقين في معنى القسم. وكثر أن يجاب بمثل ما يجاب به القسم قاله أبن عطيه. ومعنى ذلك: أن قوله: {نشهد} ليس إنشاء. وبعض المفسرين جعله صيغة يمين. وروي عن أبي حنيفة.
والمقصود من قوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} إعلام النبي صلى الله عليه وسلم وإعلام المسلمين بطائفة مبهمة شأنهم النفاق ليتوسموهم ويختبروا أحوالهم وقد يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي تعيينهم أو تعيين بعضهم.
والمنافقون جمع منافق وهو الذي يظهر الإيمان ويسر الكفر وقد مضى القول فيه مفصلا في سورة آل عمران.
وجملة {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} بيان لجملة {نشهد}.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وهذا الاعتراض لدفع إيهام من يسمع جملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أنه تكذيب لجملة {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فإن المسلمين كانوا يومئذ محفوفين بفئام من المنافقين مبثوثين بينهم هجيراهم فتنة المسلمين فكان المقام مقتضيا دفع الإيهام وهذا من الاحتراس.
وعلق فعل {يعلم} عن العمل لوجود {إن} في أول الجملة وقد عدوا إن التي في خبرها لم ابتداء من المعلقات لأفعال القلب عن العمل بناء على أن لام الابتداء هي في الحقيقة لام جواب القسم وأن حقها أن تقع قبل {إن} ولكنها زحلقت في الكلام كراهية اجتماع مؤكدين متصلين، وأخذ ذلك من كلام سيبويه.
وجملة {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} عطف على جملة {قَالُوا نَشْهَدُ} .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم.
وجيء بفعل {يشهد} في الإخبار عن تكذيب الله تعالى إياهم للمشاكلة حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم.
(28/210)
والكذب: مخالفة ما يفيده الخبر للواقع في الخارج، أي الوجود فمعنى كون المنافقين كاذبون هنا انهم كاذبون في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله لأن خبرهم ذلك مخالف لما في أنفسهم فهم لا يشهدون به ولا يوافق قولهم ما في نفوسهم. وبهذا بطل احتجاج النظام بظاهر هذه الآية على رأيه أن الكذب مخالفة الخبر لاعتقاد المخبر لأنه غفل عن قوله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ} . وقد أشار إلى هذا الرد القزويني في تلخيص المفتاح وفي الإيضاح.
وجملة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} مبينة لجملة {يشهد} مثل سابقتها.
[2] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
استئناف بياني لأن تكذيب الله تعالى إياهم في قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، يثير في أنفس السامعين سؤالا عن أيمانهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم مؤمنون به وأنهم لا يضمرون بغضه فأخبر الله عنهم بأنهم اتخذوا أيمانهم تقية يتقون بها وقد وصفهم الله بالحلف بالأيمان الكاذبة في آيات كثيرة من القرآن.
والجنة: ما يستتر به ويتقى ومنه سميت الدرع جنة.
والمعنى: جعلوا أيمانهم كالجنة يتقي بها ما يلحق من أذى. فلما شبهت الأيمان بالجنة على طريقة التشبيه البليغ، أتبع ذلك بتشبيه الحلف باتخاذ الجنة، إي استعمالها، ففي {اتخذوا} استعارة تبعية، وليس هذا خاصا بحلف عبد الله بن أبي أنه ما قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، كما تقدم في ذكر سبب نزولها، بل هو أعم، ولذلك فالوجه حمل ضمائر الجمع في قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية على حقيقتها، أي اتخذ المنافقون كلهم أيمانهم جنة، أي كانت تلك تقيتهم، أي تلك شنشنة معروفة فيهم.
{فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} تفريع لصدهم عن سبيل الله على الحلف الكاذب لأن اليمين الفاجرة من كبائر الإثم لما فيها من الاستخفاف بجانب الله تعالى ولأنهم لما حلفوا على الكذب ظنوا أنهم قد آمنوا اتهام المسلمين إياهم بالنفاق فاستمروا على الكفر والمكر بالمسلمين وذلك صد عن سبيل الله، أي إعراض عن الأعمال التي أمر الله بسلوكها.
وفعل {صدوا} هنا قاصر الذي قياس مضارعة يصد بكسر الصاد.
(28/211)
وجملة {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تذييل لتفظيع حالهم عن السامع. وساء من أفعال الذم تلحق ببئس على تقدير تحويل صيغة فعلها عن فعل المفتوح العين إلى فعل المضمومها لقصد إفادة الذم مع إفادة التعجب بسبب ذلك التحويل كما نبه عليه صاحب الكشاف وأشار إليه صاحب التسهيل.
[3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} .
جملة في موضع العلة لمصمون جملة {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون:2].
والإشارة إلى مضمون قوله: {إنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2]، أي سبب إقدامهم على الأعمال السيئة المتعجب من سوئها، هو استخفافهم بالأيمان ومراجعتهم الكفر مرة بعد أخرى، فرسخ الكفر في نفوسهم فتجرأت أنفسهم على الجرائم وضربت بها، حتى صارت قلوبهم كالمطبوع عليها أن لا يخلص إليها الخير.
فقوله: {بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} خبر عن اسم الإشارة. ومعنى الباء السببية. و {ثم} للتراخي الرتبي فإن إبطال الكفر مع إظهار الإيمان أعظم من الكفر الصريح. وأن كفرهم أرسخ فيهم من إظهار أيمانهم.
ويجوز أن يراد مع ذلك التراخي في الزمن وهو المهلة.
فإسناد فعل {آمنوا} إليهم مع الإخبار عنهم قبل ذلك بأنهم كاذبون في قولهم: {نشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1] مستعمل في حقيقته ومجازة فإن مراتب المنافقين متفاوتة في النفاق وشدة الكفر فمنهم من آمنوا لما سمعوا آيات القرآن أو لاحت لهم أنوار من النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت في قلوبهم. ثم رجعوا إلى الكفر للوم أصحابهم عليهم أو لإلقائهم الشك في نفوسهم قال ابن عطية: وقد كان هذا موجود. فقلت: ولعل الذين تابوا وحسن إسلامهم من هذا الفريق. فهؤلاء إسناد الإيمان إليهم حقيقة.
ومنهم من خالجهم خاطر الإيمان فيرددوا وقاربوا أن يؤمنوا ثم نكصوا على أعقابهم فشابه أول حالهم المؤمنين حين خطور الإيمان في قلوبهم.
ومنهم من أظهروا الإيمان كذبا وهذا هو الفريق الأكثر. وليس ما أظهروه في سيء من الإيمان وقد قال الله تعالى في مثلهم {وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} [التوبة:74] مسماة إسلاما ولم يسمه إيمانا. ومنهم الذين قال الله تعالى فيهم {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
(28/212)
وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14]. وإطلاق الإيمان على مثل هذا الفريق مجاز بعلاقة الصورة وهو كإسناد فعل {يحذر} في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ} الآية، في سورة براءة [64].
وعلى هذا الاعتبار يجوز أن يكون {ثم} مستعملا في معنييه الأصلي والمجازي على ما يناسب محمل فعل {آمنوا} .
ولو حمل المنافقون على واحد معين وهو عبد الله بن أبي جاز أن يكون ابن أبي آمن ثم كفر فيكون إسناد {آمنوا} حقيقة وتكون {ثم} للتراخي في الزمان.
وتفريع {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} على قوله: {آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} ، فصار كفرهم بع الإيمان على الوجوه السابقة سببا في سوء أعمالهم بمقتضى باء السببية، وسببا في انتفاء إدراكهم الحقائق النظرية بمقتضى فاء التفريع.
والفقه: فهم للحقائق الخفية.
والمعنى: أنهم لا يدركون دلائل الإيمان حتى يعلموا أحقيته.
[4] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} .
هذا انتقال إلى وضح بعض أحوالهم التي لا يبرزونها إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنها تبرز من مشاهدتهم، فكان الوضح الأول مفتتحا ب {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] وهذا الوضح مفتتحا ب {إِذَا رَأَيْتَهُمْ}
فجملة {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} معطوفة على جملة {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3] واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم.
واتبع انتفاء فقه عقولهم بالتنبيه على عدم الاغترار بحسن صورهم فإنها أجسام خالية عن كمال الأنفس كقول حسان ولعله أخذه من هذه الآية:
لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ ... جسم البغال وأحلام العصافير
وتفيد مع الاحتراس تنبيها على دخائلهم بحيث لو حذف حرف العطف من الجملتين
(28/213)
لصح وقوعهما موقع الاستئناف الابتدائي. ولكن أوثر العطف للتنبيه على أن هاتين صفتان تحسبان كمالا وهما نقيصتان لعدم تناسقهما مع ما شأنه أن يكون كمالا. فإن جمال النفس كجمال الخلقة إنما يحصل بالتناسب بين المحاسن وإلا فربما انقلب الحسن موجب نقص.
فالخطاب في هذه الآية لغير معين يشمل كل من يراهم ممن يظن أن تغره صورهم فلا يدخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله قد أطعمه على أحوالهم وأوقفه على تعيينهم فهو كالخطاب الذي في قوله في سورة الكهف[18] {لوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} .
والظاهر أن المراد بضمير الجمع واحد معين أو عدد محدود إذ يبعد أن يكون جميع المنافقين أحاسن الصور. وعن ابن عباس كان ابن أبي جسيما صحيحا صبيحا ذلق اللسان. وقال الكلبي: المراد ابن أبي والجد بن قيس ومعتب بن قشير كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة. وقال في الكشاف: وقوم من المنافقين في مثل صفة ابن أبي رؤساء المدينة.
وأجسام: جمع جسم بكسر الجيم وسكون السين وهو ما يقصد بالإشارة إليه أو ما له طول وعرض وعمق. وتقدم في قوله تعالى: {وزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} في سورة البقرة [247]. وجملة {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} معترضة بين جملة {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ} الخ وبين جملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}.
والمراد بالسماع في قوله: {تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} الإصغاء إليهم لحسن إبانتهم وفصاحة كلامهم مع تغريرهم بحلاوة معانيهم تمويه حالهم على المسلمين.
فاللام في قوله: {لقولهم} لتضمين {تسمع} معنى: تصغ أيها السامع، إذ ليس في الإخبار بالسماع للقول فائدة لولا أنه ضمن معنى الإصغاء لوعي كلامهم.
وجملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال ينشأ عن وصف حسن أجسامهم وذلاقة كلامهم، فإنه في صورة مدح فلا يناسب ما قبله من ذمهم فيترقب السامع ما يرد بعد هذا الوصف.
ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضميري الغيبة في قوله: {رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}.
ومعناه أن حسن صورهم لا نفع فيه لأنفسهم ولا للمسلمين.
(28/214)
و {خشب} بضم الخاء وضم الشين جمع خشبة بفتح الخاء وفتح الشين وهو جمع نادر لم يحفظ إلا في ثمرة، وقيل ثمر جمع ثمار الذي هو جمع ثمرة فيكون ثمر جمع جمع. فيكون خشب على مثال جمع الجمع وإن لم يسمع بدنه.
وقرأه الجمهور بضمتين. وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب بضمة فسكون.
والمسندة التي سندت إلى حائط أو نحوه، أي أميلت إليه فهي غليظة طويلة قوية لكنها غير منتفع بها في سقف ولا مشدود بها جدار. شبهوا بالخشب المسندة تشبيه التمثيل في حسن المرأى وعدم الجدوى، أفيد بها أن أجسامهم المعجب بها ومقالهم المصغى إليه خاليان عن النفع كخلو الخشب المسندة عن الفائدة، فإذا رأيتموهم حسبتموهم أرباب لب وشجاعة وعلم ودراية. وإذا اختبرتموهم وجدتموهم على خلاف ذلك فلا تحتفلوا بهم.
{يحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} .
هذه الجملة بمنزلة بدل البعض من مضمون جملة {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} ، أي من مخالفة باطنهم المشوه للظاهر المموه، أي هم أهل جبن في صورة شجعان.
وهذا من جملة ما فضحته هذه السورة من دخائلهم ومطاوي نفوسهم كما تقدم في الآيات السابقة وإن اختلفت مواقعها من تفنن أساليب النظم، فهي مشتركة في التنبيه على أسرارهم.
والصيحة: المرة من الصياح، أي هم لسوء ما يضمرونه للمسلمين من العداوة لا يزالون يتوجسون خيفة من أن ينكشف أمرهم عند المسلمين فهم في خوف وهلع إذا سمعوا صيحة في خصومة أو أنشدت ضالة خشوا أن يكون ذلك غارة من المسلمين عليهم للإيقاع بهم.
و {كل} هنا مستعمل في معنى الأكثر لأنهم إنما يتوجسون خوفا من صيحات لا يعلمون أسبابها كما استعمله النابغة في قوله:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وقوله {عليهم} ظرف مستقر هو المفعول الثاني لفعل {يحسبون} وليس متعلقا ب {صيحة} .
(28/215)
{هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}.
يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} لأن تلك الجملة لغرابة معناها تثير سؤالا عن سبب هلعهم وتخوفهم من كل ما يتخيل منه بأس المسلمين فيجاب بأن ذلك لأنهم أعداء ألداء للمسلمين ينظرون للمسلمين بمرآة نفوسهم فكما هم يتربصون بالمسلمين الدوائر ويتمنون الوقيعة بهم في حين يظهرون لهم المودة كذلك يظنون بالمسلمين التربص بهم وإضمار البطش بهم على نحو ما قال أبو الطيب:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم
ويجوز أن تكون الجملة بمنزلة العلة لجملة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} على هذا المعنى أيضا.
ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا لذكر حالة من أحوالهم تهم المسلمين معرفتها ليترتب عليها تفريع {فأحذرهم} وعلى كل التقادير فنظم الكلام واف بالغرض من فضح دخائلهم.
والتعريف في {العدو} تعريف الجنس الدال على معين كمال حقيقة العدو فيهم، لأن أعدى الأعادي العدو المتظاهر بالموالاة وهو مداح وتحت ضلوعه الداء الدوي. وعلى هذا المعنى رتب عليه الأمر بالحذر منهم.
و{العدو}: اسم يقع على الواحد والجمع. والمراد: الحذر من الاغترار بظواهرهم الخلابة لئلا يخلص المسلمون إليهم بسرهم ولا يتقبلوا نصائحهم خشية المكائد.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ليبلغه المسلمين فيحذروهم.
{قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
تذييل فإنه جمع على الإجمال ما يغني عن تعداد مذامهم كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء:63]، مسوق للتعجيب من حال توغلهم في الضلالة والجهالة بعدولهم عن الحق.
فافتتح التعجيب منهم بجملة اصلها دعاء بالإهلاك والاستئصال ولكنها غلب استعمالها في التعجب أو التعجيب من سوء الحال الذي جره صاحبه لنفسه فإن كثيرا من
(28/216)
الكلم التي هي دعاء بسوء تستعمل في التعجيب من فعل أو قول مكروه مثل قولهم: ثكلته أمه، وويل أمه. وتربت يمينه. واستعمال ذلك في التعجب مجاز مرسل للملازمة بين بلوغ الحال في السوء وبين الدعاء على صاحبه بالهلاك وبين التعجب من سوء الحال. فهي ملازمة بمرتبتين كناية رمزية.
و {أنى} هنا اسم استفهام عن المكان. وأصل {أنى} ظرف مكان وكثر تضمينه معنى الاستفهام في استعمالاته، وقد يكون للمكان المجازي فيفسر بمعنى {كيف} كقوله تعالى: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} في سورة آل عمران[165]، وفي قوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} في سورة الدخان [13]. ومنه قوله هنا: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب على وجه المجاز المرسل لأن الأمر العجيب من شأنه أن يستفهم عن حال حصوله. فالاستفهام عنه من لوازم أعجوبته. فجملة {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ، بيان للتعجيب الإجمالي المفاد بجملة {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ}.
و {يؤفكون} يصرفون يقال: أفكه، إذا صرفه وأبعده، والمراد: صرفهم عن الهدى، أي كيف أمكن لهم أن يصرفوا أنفسهم عن الهدى، أو كيف أمكن لمضليهم أن يصرفوهم عن الهدى مع وضوح دلائله.
وتقدم نظير الآية في سورة براءة.
[5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . هذا حالهم في العناد ومجافاة الرسول صلى الله عليه وسلم والإعراض عن التفكر في الآخرة، بله الاستعداد للفوز فيها.
و {تعالوا} طلب من المخاطب بالحضور عند الطالب، وأصله فعل أمر من التعالي، وهو تكلف العلو، أي الصعود، وتنوسي ذلك وصار لمجرد طلب الحضور، فلزم حالة واحدة فصار اسم فعل، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية في سورة الأنعام [151].
وهذا الطلب يجعل {تعالوا} مشعر بأن هذه حالة من أحوال انفرادهم في جماعتهم
(28/217)
فهي ثالث الأغراض من بيان مختلف أنواع تلك الأحوال، وقد ابتدأت ب {إذا} كما ابتدئ الغرضان السابقان ب {إذا} {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1]. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4].
والقائل لهم ذلك أن يكون بعض المسلمين وعظوهم ونصحوهم، ويحتمل أنه بعض منهم اهتدى وأراد الإنابة.
قيل المقول له هو عبد الله بن أبي بن سلول على نحو ما تقدم من الوجوه في ذكر المنافقين بصيغة الجمع عند قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] وما بعده.
والمعنى: اذهبوا إلى رسول الله وسلوه الاستغفار لكم. وهذا يدل دلالة اقتضاء على أن المراد تربوا من النفاق وأخلصوا الإيمان وسلوا رسول الله ليستغفر لكم ما فرط منكم، فكان الذي قال لهم ذلك مطلعا على نفاقهم وهذا كقوله تعالى: في سورة البقرة [13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}.
وليس المراد من الاستغفار الصفح عن قول عبد الله بن أبي ليخرجن الأعز منها الأذل. لأن ابن أبي ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ من أن يكون قال ذلك ولأنه لا يلتئم مع قوله تعالى: {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6].
ولي الرؤوس: إمالتها إلى جانب غير وجاه المتكلم. إعراضا عن كلامه، أي أبوا أن يستغفروا لأنهم ثابتون على النفاق، أو لأنهم غير راجعين فيما قالوه من كلام بذيء في جانب المسلمين، أو لئلا يلزموا بالاعتراف بما نسب إليهم من النفاق.
وقرأ الجمهور {لووا} بتشديد الواو الأولى مضاعف لوى للدلالة على الكثرة فيقتضي كثرة اللي منهم، أي لوى جمع كثير منهم رؤوسهم، وقرأ نافع وروج عن يعقوب بتخفيف الواو الأولى اكتفاء بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة.
والخطاب في {ورأيتهم} لغير معين، أي ورأيتهم يا من يراهم حينئذ.
وجملة {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} في موضع الحال من ضمير يصدون، أي يصدون صد المتكبر عن طلب الاستغفار.
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
(28/218)
{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.
جملة معترضة بين حكاية أحوالهم نشأت لمناسبة قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ رؤوسهم} [المنافقون:5] الخ.
واعلم أن تركيب: سواء عليه أكذا أم كذا، ونحوه مما جرى مجرى المثل فيلزم هذه الكلمات مع ما يناسبها من ضمائر المخبر عنه. ومدلوله استواء الأمرين لدى المجرور بحرف {على} ، ولذلك يعقب بجملة تبين جهة الاستواء كجملة {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. وجملة {لا يُؤْمِنُونَ} في سورة البقرة [6]. وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يس [10] وأما ما ينسب إلى بثينة في رثاء جميل بن معمر من قولها:
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
فلا أحسبه صحيح الرواية.
وسواء اسم بمعنى مساو يعامل معاملة الجامد في الغالب فلا يتغير خبره نقول: هما سواء، وهم سواء. وشذ قوله: سواءين.
و {على} من قوله: {عليهم} بمعنى تمكن الوصف: سواء فيهم.
وهمزة {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} أصلها همزة استفهام بمعنى: سواء عندهم سؤال السائل عن وقوع الاستغفار لهم وسؤال السائل عن عدم وقوعه. وهو استفهام مجازي مستعمل كناية عن قلة الاعتناء بكلا الحالين بقرينة لفظ سواء ولذلك يسمى النحاة هذه الهمزة التسوية. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في سورة البقرة،[6] أي سواء عندهم استغفارك لهم وعدمه. ف {على} للاستعلاء المجازي الذي هو التمكن والتلبس فتؤول إلى معنى عند كما تقول سواء علي أرضيت أم غضب. وقوله تعالى: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} في سورة الشعراء[136].
وجملة {لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} معترضة بين جملة {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} وجملة {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} [المنافقون: 7] وهي وعيد لهم وجزاء على استخفافهم بالاستغفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.
(28/219)
جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عن حال من أحوالهم.
وجملة {إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تعليل لانتفاء مغفرة الله لهم بأن الله غضب عليهم فحرمهم اللطف والعناية.
[7 ] {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ}
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} .
هذا أيضا من مقالاتهم في مجامعهم وجماعتهم يقولونها لإخوانه الذين كانوا ينفقون على فقراء المسلمين تظاهرا بالإسلام كأنهم يقول بعضهم لبعض تظاهر الإسلام بغير الإنفاق مثل قولهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله وذلك عقبت بها. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أن قائل هذه المقالة عبد الله بن أبي سلول كما تقدم في طالعة تفسير هذه السورة فإسناد هذا القول إلى ضمير المنافقين لأنهم تقبلوه منه إذ هو رأس المنافقين أو فشا هذا القول بين المنافقين فأخذوا يبثونه في المسلمين.
وموقع الجملة الاستئناف الابتدائي المعرب عن مكرهم وسوء طواياهم انتقالا من وصف إعراضهم عند التقرب من الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى وصف لون آخر مكن كفرهم وهو الكيد للدين في صورة النصيحة.
وافتتحت الجملة بضميرهم الظاهر دون الاكتفاء بالمستتر في {يقولون} معاملة لهم بنقيض مقصودهم فإنهم ستروا كيدهم بإظهار قصد النصيحة ففضح الله أمرهم بمزيد التصريح، أي قد علمت أنكم تقولون هذا. وفي إظهار الضمير أيضا تعريض بالتوبيخ كقوله تعالى: {أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص:60 ]. وليكون للجملة الاسمية إفادة ثبات الخبر، وليكون الإتيان بالموصول مشعرا بأنهم عرفوا بهذه الصلة. وصيغة المضارع في {يقولون} يشعر بأن في هذه المقالة تتكرر منهم لقصد إفشائها.
و {مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} من كانوا في رعايته مثل أهل الصفة ومن كانوا يلحقون بالمدينة من الأعراب العفاة أوفريق من الأعراب كان يمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق. روي البخاري عن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر أصاب الناس فيه شدة فقال عبد الله بن أبي: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من
(28/220)
حوله وهذا كلام مكر لأن ظاهره قصد الرفق برسول الله صلى الله عليه وسلم من كلفة إنفاق الأعراب الذين ألموا به في غزوة بني المصطلق، وباطنه إرادة إبعاد الأعراب عن تلقي الهدى النبوي وعن أن يتقوى بهم المسلمون أو تفرق فقراء المهاجرين لتضعف بتفرقهم بعض قوة المسلمين. وروايات حديث زيد مختلط.
وقوله: {رَسُولَ اللَّهِ} يظهر أنه صدر من عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين بهذا اللفظ إذا كانوا قالوا ذلك جهرا في ملإ المسلمين إذ هم يتظاهرون ساعتئذ بالإسلام.
و {حتى} مستعملة في التعليل بطريقة المجاز المرسل لأن معنى {حتى} انتهاء الفعل المذكور قبلها وغاية الفعل ينتهي الفاعل عن الفعل إذا بلغها، فهي سبب للانتهاء وعلة له، وليس المراد فإذا نفضوا فأنفقوا عليهم.
والانفاض: التفرق والابتعاد.
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} .
عطف على جملة {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إبطال لمكر المنافقين فيما قصدوه من قولهم المتظاهرين بأنهم قصدوا به نصح المسلمين، أي لو تمشت حيلتهم على المسلمين فأمسكوا هم وبعض المسلمين عن إنفاق الأعراب ومن يأوون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العفاة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقطع عنهم الإنفاق وذلك دأبه كما دل عليه حديث عمر بن الخطاب أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءني شيء قضيته". فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه البشر لقول الأنصاري ثم قال: "بهذا أمرت". رواه الترمذي في كتاب الشمائل.
وهذا جواب من باب طريقة النقض لكلامهم في مصطلح آداب البحث.
وخزائن جمع خزانة بكسر الخاء. وهي البيت الذي نخزن فيه الطعام قال تعالى {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} تقدم في سورة يوسف[55]. وتطلق على الصندوق الكبير الذي يخزن فيه المال على سبيل التوسع وعلى بيوت الكتب وصناديقها، ومن هذا
(28/221)
ما جاء في حديث الصرف من الموطأ حتى يحضر خازني من الغابة.
{خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ} مقار أسباب حصول الأرزاق من غيوث رسمية وأشعة الشمس والرياح الصالحة فيأتي ذلك بتوفير الثمار والحبوب وخصب المرعى وتزايد النتاج. وأما خزائن الأرض فيما فيها من أهربه ومطامير وأندر، ومن كنوز الأحوال وما يفتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من البلاد وما يفي عليه من أهل القرى.
واللام في {لله} للملك أي التصرف في ذلك ملك لله تعالى. ولما كان الإنفاق على فقراء المسلمين مما يعين على ظهور الذين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كان الإخبار بأن الخزائن لله كناية عن تيسير الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حصول ما ينفق منه كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لما قال الأنصاري ولا تخش من ذي العرش إقلالا "بهذا أمرت". وذلك بما سيره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من زكوات المسلمين وغنائم الغزوات، وما فتح الله عليه من البلاد بخيراتها، وما أفاء الله عليه بغير قتال.
وتقديم المجرور من قوله: {خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لإفادة قصر القلب وهو قلب للازم قولهم لا لصريحه لأن المنافقين لما قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه} حسبوا أنهم إذا قطعوا الإنفاق على من عند رسول الله لا يجد الرسول صلى الله عليه وسلم ما ينفق منه عليهم فأعلم الله رسوله مباشرة وأعلمهم تبعا بأن ما عند الله من الرزق أعظم وأوسع.
واستدراك قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} لرفع ما يتوهم من أنهم حين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} كانوا قالوه عن بصيرة ويقين بأن انقطاع إنفاقهم على الذين يلوذون ب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعط رزقهم فينفضون عنه بناء على أن القدرة على الإنفاق منحصرة فيهم لأنهم أهل الأحوال وقد غفلوا عن تعدد أسباب الغنى وأسباب الفقر.
والمعنى: أنهم لا يدركون دقائق المدركات وخفاياها.
ومفعول {يفقهون} محذوف، أي لا يفقهون ذلك وهو مضمون {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، أو نزل الفعل منزلة اللازم مبالغة في انتفاء فقه الأشياء عنهم في كل حال.
[8] {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُون}
(28/222)
استئناف ثان على أسلوب التعداد والتكرير ولذلك لم يعطف. ومثله يكثر في مقام التوبيخ. وهذا وصف لخبث نواياهم إذ أرادوا التهديد وإفساد إخلاص الأنصار وأخوتهم مع المهاجرين بإلقاء هذا الخاطر في نفوس الأنصار بذرا للفتنة والتفرقة وانتهاز لخصومة طفيفة حدثت بين شخصين من موالي الفريقين، وهذا القول المحكي هنا صدر من عبد الله بن أبي بن سلول حين كسع حليف المهاجرين حليف الأنصار كما تقدم في ذكر سبب نزول هذه السورة، وعند قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون: 7]، فإسناد القول إلى ضمير المنافقين هنا كإسناده هناك.
وصيغة المضارع في حكاية هذه المقالة لاستحضار الحالة العجيبة كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} هود: 74]. والمدينة هي مدينتهم المعهودة وهي يثرب.
و {الأعز} : القوي العزة وهو الذي لا يقهر ولا يغلب على تفاوت في مقدار العزة إذ هي من الأمور النسبية. والعزة تحصل بوفرة العدد وسعة المال والعدة، وأراد ب {الأعز} فريق الأنصار فإنهم أهل المدينة وأهل الأموال وهم أكثر عددا من المهاجرين فأراد ليخرجن الأنصار من مدينتهم من جاءها من المهاجرين.
وقد أبطل الله كلامهم بقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وهو جواب بالطريقة التي تسمي القول بالموجب في علم الجدل وهي مما يسمى بالتسليم الجدلي في علم آداب البحث.
والمعنى: إن كان الأعز يخرج الأذل فإن المؤمنين هم الفريق الأعز. وعزتهم بكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وبتأييد الله رسوله صلى الله عليه وسلم وأولياءه لأن عزة الله هي العزة الحق المطلقة، وعزة غيره ناقصة، فلا جرم أن أولياء الله هم الذين لا يفقهون إذا أراد الله نصرهم ووعدهم به. فإن كان إخراج من المدينة فإنما يخرج منها أنتم يا أهل النفاق.
وتقديم المسند على المسند إليه في {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} لقصد القصر وهو قصر قلب، أي العزة لله ولرسوله وللمؤمنين لا لكم كما تحسبون.
وإعادة اللام في قوله: {ولرسوله} مع أن حرف العطف مغن عنها لتأكيد عزة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنها بسبب عزة الله ووعده إياه، وإعادة اللام أيضا في قوله: {وللمؤمنين} للتأكيد أيضا إذ قد تخفى عزتهم وأكثرهم في حال قلة وحاجة.
والقول في الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} نظير القول آنفا في
(28/223)
قوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} المنافقين:7].
وعدل عن الإضمار في {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [7].
وقد سبق اسمهم في نظيرها قبلها لتكون الجملة مستقلة الدلالة بذاتها فتسير سير المثل.
وإنما نفي عنهم هنا العلم تجهيلا بسوء التأمل في أمارات الظهور والانحطاط فلم يفطنوا للإقبال الذي في أحوال المسلمين وازدياد سلطانهم يوما فيوما وتناقص من أعدائهم فإن ذلك أمر مشاهد فكيف يظن المنافقون أن عزتهم أقوى من غزة قبائل العرب الذين يسقطون بأيدي المسلمين كلما عزوهم من يوم بدر فما بعده.
[9 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
انتقال من كشف أحوال المنافقين المسوق للحذر منهم والتحذير من صفاتهم. إلى الإقبال على خطاب المؤمنين بينهم عما شانه أن يشغل عن التذكر لما أمر الله ونهى، ثم الأمر بالإنفاق في سبل الخير في سبيل الله ومصالح المسلمين وجماعتهم وإسعاف آحادهم، لئلا يستهويهم قول المنافقين {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7] والمبادرة إلى ذلك قبل إتيان الموت الذي لا يدري وقت حلوله حين تمنى أن يكون قد تأخر أجله ليزيد من العمل الصالح فلا ينفعه التمني وهو تمهيد لقوله بعده {وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون:10]، فالمناسبة لهذا الانتقال هو حكاية مقال المنافقين ولذلك قدم ذكر الأقوال على ذكر الأولاد لأنها أهم بحسب السياق.
ونودي المخاطبون بطريق الموصول لما تؤذن به الصلة من التهمم لامتثال النهي.
وخص الأموال والأولاد بتوجه النهي عن الاشتغال بها اشتغالا يلهي عن ذكر الله لأن الأموال مما يكثر إقبال الناس على إنمائها والتفكير في اكتسابها بحيث تكون أوقات الشغل بها أكثر من أوقات الشغل بالأولاد. ولأنها كما تشغل عن ذكر الله بصرف الوقت في كسبها ونمائها، تشغل عن ذكره أيضا بالتذكير لكنزها بحيث ينسى ذكر ما دعا الله إليه من إنفاقها.
وأما ذكر الأولاد فهو إدماج لأن الاشتغال بالأولاد والشفقة عليهم وتدبير شؤونهم وقضاء الأوقات في التأنس بهم من شأنه أن ينسي عن تذكر أمر الله ونهيه في أوقات كثيرة
(28/224)
فالشغل بهذين أكثر من الشغل بغيرهما.
وصيغ الكلام في قالب توجيه النهي عن الإلهاء عن الذكر، إلى الأموال والأولاد والمراد نهي أصحابها، وهو استعمال معروف وقرينته هنا قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وأصله مجاز عقلي مبالغة في نهي أصحابها عن الاشتغال بسببها عن ذكر الله، فنزل سبب الإلهاء منزلة اللاهي للملابسة بينهما وهو كثير في القرآن وغيره كقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [االأعراف: 27] وقولهم لا أعرفنك تفعل كذا.
و {لا} في قوله: {وَلا أَوْلادُكُمْ} نافية عاطفة {أولادكم} على {أموالكم} ، والمعطوف عليه مدخول {لا}الناهية لأن النهي يتضمن النفي إذ هو طلب عدم الفعل ف {لا} الناهية أصلها {لا} النافية أشربت معنى النهي عند قصد النهي فجزمت الفعل حملا على مضادة معنى لام الأمر فأكد النهي عن الاشتغال بالأولاد بحرف النفي ليكون للاشتغال بالأولاد حظ مثل حظ الأموال.
و {ذِكْرِ اللَّهِ} مستعمل في معنييه الحقيقي والمجازي. فيشمل الذكر باللسان كالصلاة وتلاوة القرآن، والتذكر بالعقل كالتدبر في صفاته واستحضار امتثاله قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
وفيه أن الاشتغال بالأموال والأولاد الذي لا يلهي عن ذكر الله ليس بمذموم وله مراتب.
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، دليل على قول علماء أصول الفقه النهي اقتضاء كف عن فعل.
والإشارة {بذلك} إلى اللهو عن ذكر الله بسبب الأموال والأولاد، أي ومن يله عن ذكر الله، أي يترك ذكر الله الذي أوجبه مثل الصلاة في الوقت ويترك تذكر الله، أي مراعاة أوامره ونواهيه.
ومتى كان اللهو عن ذكر الله بالاشتغال بغير الأموال وغير الأولاد كان أولى بحكم النهي والوعيد عليه.
وأفاد ضمير الفصل في قوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قصر صفة الخاسر على الذين يفعلون الذي نهوا عنه، وهو قصر ادعائي للمبالغة في اتصافهم بالخسران كأن خسران غيرهم لا يعد خسرانا بالنسبة إلى خسرانهم.
(28/225)
والإشارة إليهم ب {أولئك} للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة، أعني اللهو عن ذكر الله.
[10] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
هذا إبطال ونقض لكيد المنافقين حين قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [المنافقون:7]، وهو يعم الإنفاق على الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم والإنفاق على غيرهم فكانت الجملة كالتذييل.
وفعل {أنفقوا} مستعمل في الطلب الشامل للواجب والمستحب فإن مدلول صيغة: افعل، مطلق الطلب، وهو القدر المشترك بين الوجوب والندب.
وفي قوله: {مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} إشارة إلى أن الإنفاق المأمور به شكر الله على ما رزق المنفق فإن الشكر صرف العبد ما أنعم الله به عليه فيما خلق لأجله، ويعرف ذلك من تلقاء الشريعة.
و {من} للتبعيض، أي بعض ما رزقناكم، وهذه توسعة من الله على عباده، وهذا البعض منه هو معين المقدار مثل مقادير الزكاة وصدقة الفطر. ومنه ما يتعين بسد الخلة الواجب سدها مع طاقة المنفق كنفقات الحج والجهاد والرباط ونفقات العيال الواجبة ونفقات مصالح المسلمين الضرورية والحاجية، ومنه ما يتعين بتعين سببه كالكفارات، ومنه ما وكل للناس تعيينه مما ليس بواجب من الإنفاق ذلك موكول إلى رغبات الناس في نوال الثواب فإن ذلك باب عظيم من القربى من رضى الله تعالى، وفي الحديث "الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار".
وقد ذكر الله المؤمنين بما في الإنفاق من الخير بأن عليهم أن يكثروا منه ما داموا مقتدرين قبل الفوت، أي قبل تعذر الإنفاق والإتيان بالأعمال الصالحة، وذلك حين يحس المرء بحالة تؤذن بقرب الموت ويغلب على قواه فيسأل الله أن يؤخر موته ويشفيه ليأتي بكثير مما فرط فيه من الحسنات طمعا أن يستجاب له فإن كان في أجله تأخير فلعل الله أن يستجيب له فإن لم يكن في الأجل تأخير أو لم يقدر الله له الاستجابة فإنه خير كثير.
و {لولا} حرف تحضيض، والتحضيض الطلب الحثيث المضطر إليه، ويستعمل
(28/226)
{لولا} للعرض أيضا والتوبيخ والتنديم والتمني على المجاز أو الكناية، وتقدم عند قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} في سورة يونس[98].
وحق الفعل بعدها أن يكون مضارعا وإنما جاء ماضيا هنا لتأكيد إيقاعه في دعاء الداعي حتى كأنه قد تحقق مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وقرينة ذلك ترتيب فعلي {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} عليه.
والمعنى: فيسأل المؤمن ربه سؤالا حثيثا أن يحقق تأخير موته إلى أجل يستدرك فيه ما اشتغل عنه من إنفاق وعمل صالح.
ووصف الأجل ب {قريب} تمهيد لتحصيل الاستجابة بناء على متعارف الناس أن الأمر اليسير أرجى لأن يستجيبه المسؤول فيغلب ذلك على شعورهم حين يسألون الله تنساق بذلك نفوسهم إلى ما عرفوا، ولذلك ورد في الحديث "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت وليعزم المسألة فإنه لا مكره له" . تنبيها على هذا التوهم فالقرآن حكى عن الناس ما هو الغالب على أقوالهم.
وانتصب فعل {فأصدق} على إضمار "أن" المصدرية إضمارا واجبا في جواب الطلب.
وأما قوله: {وأكن} فقد اختلف فيه القراء.
فأما الجمهور فقرأوه مجزوما بسكون آخره على اعتباره جوابا للطلب مباشرة لعدم وجود فاء السببية فيه، واعتبار الواو عاطفة جملة على جملة وليست عاطفة مفردا على مفرد. وذلك لقصد تضمين الكلام معنى الشرط زيادة على معنى التسبب فيغني الجزم عن فعل شرط. فتقديره: إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين، جمعا بين التسبب المفاد بالفاء. والتعليق الشرطي المفاد بجزم الفعل.
وإذا قد كان الفعل الأول هو المؤثر في الفعلين الوقع أحدهما بعد فاء السببية والآخر بعد الواو العاطفة عليه. فقد أفاد الكلام التسبب والتعليق في كلا الفعلين وذلك يرجع إلى محسن الاحتباك. فكأنه قيل: لولا أخرتني إلى أجل قريب فاصدق وأكون من الصالحين. إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين.
ومن لطائف هذا الاستعمال أن هذا السائل بعد أن حث سؤاله أعقبه بأن الأمر ممكن فقال: إن تؤخرني إلى أجل قريب أصدق وأكن من الصالحين. وهو من بدائع
(28/227)
الاستعمال القرآني لقصد الإيجاز وتوفير المعاني.
ووجه أبو علي الفارسي والزجاج قراءة الجمهور بجعل {وأكن} معطوفا على محل {فأصدق} . وقرأه أبو عمرو وحده من بين العشرة {وأكون} بالنصب والقراءة رواية متواترة وإن كانت مخالفة لرسم المصاحف المتواترة. وقيل: إنها يوافقها رسم مصحف أبي بن كعب ومصحف ابن مسعود.
وقرأ بذلك الحسن والأعمش وابن محيض من القراءات غير المشهورة. ورويت عن مالك بن دينار وابن جيبر وأبي رجاء. تلك أقل شهرة.
واعتذر أبو عمر عن مخالفة قراءته للمصحف بأن الواو حذفت في الخط اختصارا يريد انهم حذفوا صورة إشباع الضمة وهو الواو اعتمادا على نطق القارئ كما تحذف الألف اختصارا بكثرة في المصاحف. وقال القراء العرب: قد تسقط الواو في بعض الهجاء كما أسقطوا الألف من سليمان وأشباهه، أي كما أسقطوا الواو الثانية من داوود وبكثرة يكتبونه داود. قال الفراء: ورأيت في مصاحب عبد الله فقولا نقلا بغير واو، وكل هذا لا حاجة إليه لأن القرآن متلقى بالتواتر لا بهجاء المصاحف وإنما المصاحف معينة على حفظه.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}.
اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيرا للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد. فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي استجاب لأن الله قدر الآجال.
وهذا سر عظيم لا يعلم حكمه تحديده إلا الله تعالى.
والنفس: الروح، سميت نفسا أخذا من النفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة، فسميت النفس لأن النفس يتولد منها، كما سمي مرادف النفس روحا لأنه مأخوذ الروح بفتح الراء لأن الروح به. قال أبو بكر بن الأنباري.
(28/228)
و {أجلها} الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإنساني.
ويجوز أن يراد بالنفس الذات، أي شخص الإنسان وهو من معاني النفس. كما في قوله تعالى: { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأجلها الوقت المعين مقداره لبقاء الحياة.
و {لن} لتأكيد نفي التأخير، وعموم {نفسا} في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم.
ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حيا بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة.
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل لصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم.
{وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
عطف على جملة {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} [المنافقون: 9]. أو تذييل والواو اعتراضية.
ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيق علم الله بما يعمله المؤمنون. ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوي راجعا إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإنفاق المأمور به منه الواجب المندوب. وفعلهما يستحق الوعد. وترك أولهما يستحق الوعيد.
وإيثار وصف {خبير} دون: عليم، لما تؤذن به مادة {خبير} من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيات، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعا ممتدا كالعمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طرو مانع. وكالوقت المختار للصلوات، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يرزئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزبا أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره.
(28/229)
ومن هذا القبيل: أن من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصحيح.
وقرأ الجمهور {بِمَا تَعْمَلُونَ} بالمثناة الفوقية. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائدا إلى {نفسا} الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى.
(28/230)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
سميت هذه السورة سورة التغابن ولا تعرف بغير هذا الاسم ولم ترد تسميتها بذلك في خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما ذكره ابن عطية عن الثعلبي عن ابن عمر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا وفي تشابيك مكتوب خمس آيات فاتحة سورة التغابن". والظاهر أن منتهى هذه الآيات قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [التغابن: 4] فتأمله. ورواه القرطبي عن ابن عمر ولم ينسبه إلى التعليق فلعله أخذه من تفسير ابن عطية.
ووجه التسمية وقوع لفظ {التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] فيها ولم يقع في غيرها من القرآن.
وهي مدنية في قول الجمهور وعن الضحاك هي مكية. وروى الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس أن تلك الآيات نزلت في رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا الهجرة فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. وقال مجاهد: نزلت في شأن عوف الأشجعي كما سيأتي.
وهي معدودة السابعة والمائة في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الجمعة وقبل سورة الصف بناء على أنها مدنية.
وعدد آيها ثمان عشرة.
أغراضها
واشتملت هذه السورة على التذكير بأن من في السماء ومن في الأرض يسبحون لله، أي تنزهونه عن النقائض تسبيحا متجددا.
وأن الملك لله وحده فهو الحقيق بأفراده بالحمد لأنه خالق الناس كلهم فآمن
(28/231)
بوحدانيته ناس وكفر ناس ولم يشكروا نعمة إذ خلقهم في أحسن صورة وتحذيرهم من إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنذارهم على ذلك ليعتبروا بما حل بالأمم الذين كذبوا رسلهم وجحدوا بيناتهم تكبرا أن يهتدوا بإرشاد بشر مثلهم.
والإعلام بأن الله عليم بالظاهر والخفي في السماوات والأرض فلا يجري أمر في العالم إلا على ما اقتضته حكمته.
وأنحى عليهم إنكار البعث وبين لهم عدم استحالته وهددهم بأنهم يلقون حين يبعثون جزاء أعمالهم فإن أرادوا النجاة فليؤمنوا بالله وحده وليصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم والكتاب الذي جاء به ويؤمنوا بالبعث فإنهم إن آمنوا كفرت عنهم سيئاتهم وإلا فجزاؤهم النار خالدين فيها.
ثم تثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من ضر أهل الكفر بهم فليتوكلوا على الله في أمورهم.
وتحذير المؤمنين من بعض قرابتهم الذين تغلغل الإشراك في نفوسهم تحذيرا من أن يثبطوهم عن الإيمان والهجرة.
وعرض لهم بالصبر على أموالهم التي صادرها المشركون.
وأمرهم بإنفاق المال في وجوه الخير التي يرضون بها ربهم وبتقوى الله والسمع له والطاعة.
[1] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
لما كان جل ما اشتملت عليه هذه السورة إبطال إشراك المشركين وزجرهم عن دين الإشراك بأسره وعن تفاريعه التي أعظمها إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيب القرآن وتلك أصول ضلالهم ابتدئت السورة بالإعلان بضلالهم وكفرانهم المنعم عليهم، فإن ما في السماوات والأرض يسبح لله تعالى عن النقائص: إما بلسان المقال مثل الملائكة والمؤمنين أو بلسان الحال مثل عبادة المطيعين من المخلوقات المدركة كالملائكة والمؤمنين، وإما بلسان الحال مثل دلالة حال الاحتياج إلى الإيجاد والإمداد كحاجة
(28/232)
الحيوان إلى الرزق وحاجة الشجرة إلى المطر وما يشهد به حال جميع تلك الكائنات من أنها مربوبة لله تعالى ومسخرة لما أراده منها، وكل تلك المخلوقات لم تنقض دلالة حالها بنفائض كفر مقالها فلم يخرج عن هذا التسبيح إلا أهل الضلال من الإنس والشياطين فإنهم حجبوا بشهادة حالهم لما غشوها به من صرح الكفر.
فالمعنى: يسبح لله ما في السماوات والأرض وأنتم بخلاف ذلك.
وهذا يفيد ابتداء تقرير تنزيه الله تعالى وقوة سلطانه ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويكون لهم تعليما وامتنانا ويفيد ثانيا بطريق الكناية تعريضا بالمشركين الذين لم ينزهوه ولا وقروه فنسبوا إليه شركاء.
وجيء بفعل التسبيح مضارعا للدلالة على تجدد ذلك التسبيح ودوامه وقد سبق نظيره في فاتحة سورة الجمعة.
وجيء به في فواتح سور: الحديد، والحشر، والصف بصيغة الماضي للدلالة على أن التسبيح قد استقر في قديم الأزمان. فحصل من هذا التفنن في وفاتح هذه السور كلا المعنيين زيادة على ما بيناه من المناسبة الخاصة بسورة الجمعة، وما في هاته السورة من المناسبة بين تجدد التسبيح والأمر بالعفو عن ذوي القربى والأمر بالتقوى بقدر الاستطاعة والسمع والطاعة لكي لا يكتفي المؤمنون بحصول إيمانهم ليجتهدوا في تعزيزه بالأعمال الصالحة.
وإعادة {ما} الموصولة في قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لقصد التوكيد اللفظي.
وجملة {لَهُ الْمُلْكُ} استئناف واقع موقع التعليل والتسبب لمضمون تسبيح لله ما في السماوات وما في الأرض فإن ملابسة جميع الموجودات لدلائل تنزيه الله تعالى عن الشركاء وعن النقائض لا مقتضى لها إلا انفراده بتملكها وإيجادها وما فيها من الاحتياج إليه وتصرفه فيها تصرف المالك المتفرد في ملكه.
وفي هذه الجملة تنويه بإقبال أهل السماوات والأرض على تسبيح الله وتجديد ذلك التسبيح.
فتقديم المسند على المسند إليه لإفادة تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر تعلق لام الاستحقاق بالملك عليه تعالى فلا ملك لغيره وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بما لغير الله من ملك لنقصه وعدم خلوه عن الحاجة إلى غيره من هو له بخلاف ملكه
(28/233)
تعالى فهو الملك المطلق الداخل في سلطانه كل ذي ملك.
وجملة {وَلَهُ الْحَمْدُ} مضمونها سبب لتسبيح الله ما في السماوات وما في الأرض، إذ التسبيح من الحمد، فلا جرم أن كان حمد ذوي الإدراك مختصا به تعالى إذ هو الموصوف بالجميل الاختياري المطلق فهو الحقيق بالحمد والتسبيح.
فهذا القصر ادعائي لعدم الاعتداد بحمد غيره لنقصان كمالاتهم وإذا أريد بالحمد ما يشمل الشكر أو يفضي إليه كما في الحديث "الحمد رأس الشكر لم يشكر الله عبد لم يحمده" وهو مقتضى المقام من تسفيه أحلام المشركين في عبادتهم غيره فالشكر أيضا مقصور عليه تعالى لأنه المنعم الحق بنعم لا قبل لغيره بإسدائها، وهو المفيض على المنعمين ما ينعمون به في الظاهر، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] كما تقدم في تفسير أول سورة الفاتحة.
وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على اللتين قبلها وهي بمنزلة التذييل لهما والتبيين لوجه القصرين فيهما، فإن التقدير على كل شيء هو صاحب الملك الحق وهو المختص بالحمد الحق.
وفي هذا التذييل وعد للشاكرين ووعيد وترهيب للمشركين.
والاقتصار على ذكر وصف {قدير} هنا لأن المخلوقات التي تسبح الله دالة على صفة القدرة أولا لأن من يشاهد المخلوقات يعلم أن خالقها قادر.
[2] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
هذا تقرير لما أفاده قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن: 1]، وتخلص للمقصود منه على وجه التصريح بأن الذين أشركوا بالله قد كفروا بنعمته وبخلقهم زيادة على جحدهم دلائل تنزهه تعالى عن النقص الذي اعتقدوه له. ولذلك قدم {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} على {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} لأن الشق الأول هو المقصود بهذا الكلام تعريضا وتصريحا.
وأفاد تعريف الجزأين من جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} قصر صفة الخالقية على الله تعالى، وهو قصر حقيقي قصد به الإشارة بالكناية بالرد على المشركين إذ عمدوا إلى عبادة أصنام يعلمون أنها لم تخلقهم فما كانت مستحقة لأن تعبد، لأن العبادة شكر. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {النحل:17].
(28/234)
والخطاب في قوله: {خلقكم} لجميع الناس الذين يدعوهم القرآن بقرينة قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ، فإن الناس لا يعدون هذين القسمين.
والفاء في {َمِنْكُمْ كَافِرٌ} عاطفة على جملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ} وليست عاطفة على فعل {خلقكم} وهي للتفريع في الوقوع دون تسبب.
ونظيره قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26] ومثل هذا التفريع يستتبع التعجيب من جري أحوال بعض الناس على غير ما يقتضيه الطبع {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82] فجملة {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} هي المقصود من التفريع، وهو تفريع في الحصول. وقدم ذكر الكافر لأنه الأهم في هذا المقام كما يشير إليه قوله تعالى: في {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن:5].
وجملة {وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} تتميم وتنويه بشأن أهل الإيمان ومضادة حالهم لحال أهل الكفر ومقابلة الحال بالحال.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تتميم واحتراس واستطراد، فهو تتميم لما يكمل المقصود من تقسيمهم إلى فريقين لإبداء الفرق بين الفريقين في الخير والشر وهو عليم بذلك وعليم بأنه يقع وليس الله مغلوبا على وقوعه ولكن حكمته وعلمه اقتضيا ذلك. ودون تفصيل هذا تطويل نخصه بتأليف في معنى القدر وجريان أعمال الناس في الدنيا إن شاء الله. وتقتصر هنا على أن نقول: خلق الله الناس وأودع فيهم العقول التي تتوصل بالنظر السليم من التقصير وشوائب الهوى وغشاوات العناد إلى معرفة الله على الوصف اللائق به وخلق فيهم القدرة على الأعمال الصالحة وغيرها المسماة عند الأشعري بالكسب وعند المعتزلة بقدرة العبد والخلاف في التعبير. وأرشدهم إلى الصلاح وحذرهم من الفساد، والله عالم بما يكتسبه كل أحد ولو شاء لصرف مقترف الفساد عن فعله ولكنه أوجد نظما مرتبطا بعضها ببعض ومنتشرة فقضت حكمته بالحفاظ على تلك النظم الكثيرة بأن لا يعوق سيرها في طرائقها ولا يعطل عملها لأجل إصلاح أشخاص هم جزء من كل لأن النظم العامة أعم فالحفاظ على اطرادها أصلح وأرجح، فلا تتنازل إرادة الله وقدرته إلى التدخل فيما سمي بالكسب على أصولنا أو بالقدوة الحادثة على أصول المعتزلة، بل جعل بحكمته بين الخلق والكسب حاجزا هو نظام تكوين الإنسان بما فيه من إرادة وإدراك وقدرة، وقد أشار إلى هذا قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو بصير به من قبل أن تعملوه، وبعد أن عملتموه.
(28/235)
فبصير:أريد به العلم علم انكشاف لا يقبل الخفاء فهو كعلم المشاهدة وهذا إطلاق شانع في القرآن لاسيما إذا أفردت صفة {بصير} بالذكر ولم تذكر معها صفة "سميع".
واصطلح بعض المتكلمين على أن صفة البصيرة: العالم بالمرئيات. وقال بعضهم: هي تعلق العلم الإلهي بالأمور عند وقوعها. والحق أنها استعمالات مختلفة. وبهذا يتضح وجه الجمع بين ما يبدو من تعارض بين آيات القرآن وإخبار من السنة فاجعلوه مثالا يحتذى، وقولوا هكذا. هكذا.
وهو احتراس من أن يتوهم من تقسيمهم إلى فريقين أن ذلك رضى بالحالين كما حكي عن المشركين {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20].
وهو استطراد بطريق الكناية به عن الوعد والوعيد.
وشمل قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} أعمال القلوب كالإيمان وهي المقصود ابتداء هنا.
[3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {َمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] يبين أن انقسامهم إلى قسمي الكافرين والمؤمنين نشأ عن حياد فريق من الناس عن الحق الذي أقيم عليه خلق السماوات والأرض لأن الحق أن يؤمن الناس بوجود خالقهم، وبأنه واحد وأن يفردوه بالعبادة فذلك الذي أراده الله من خلقهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذار يا ت:56] وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] فمن حاد عن الإيمان ومال إلى الكفر فقد حاد عن الحق والفطرة.
{بالحق}
وقوله: {بالحق} معترض بين جملة {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وجملة {وصوركم} .
وفي قوله: {بالحق} إيماء إلى إثبات البعث والجزاء لأن قوله بالحق متعلق بفعل {خلق} تعلق الملابسة المفاد بالباء، أي خلقا ملابسا للحق، والحق ضد الباطل، ألا
(28/236)
ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله: {ِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران:190، 191]. والباطل ما صدقه هنالك هو العبث لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38، 39] فتعين أن ما صدق الحق في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أنه ضد العبث والإهمال.
والمراد بـ {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خلق ذواتهن وخلق ما فيهن من المخلوقات كما أنبأ عنه قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} ، أي ما خلقناهما وما بينهما إلا بالحق، فكذلك يكون التقدير في الآية من هذه السورة.
وملابسة الحق لخلق السماوات والأرض يلزم أن تكون ملابسة عامة مطردة لأنه لو اختلت ملابسة حال من أحوال مخلوقات السماوات للحق لكان ناقضا لمعنى ملابسة خلقها للحق، فكان نفي البعث للجزاء لى أعمال المخلوقات موجبا اختلال تلك الملابسة في بعض الأحوال. وتخلف الجزاء عن الأعمال في الدنيا مشاهد إذ كثيرا ما نرى الصالحين في كرب ونرى أهل الفساد في نعمة، فلو كانت هذه الحياة الدنيا قصارى حياة المكلفين لكان كثير من أهل الصلاح غير لاق جزاء على صلاحه. وانقلب أكثر أهل الفساد متمتعا بإرضاء خباثة نفسه ونوال مشتهياته، فكان خلق كلا هذين الفريقين غير ملابس للحق، بالمعنى المراد.
ولزيادة الإيقاظ لهذا الإيماء عطف عليه قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وكل ذلك توطئة إلى ما سبقه من قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الآية.
وفي قوله: {بالحق} رمز إلى الجزاء وهو وعيد ووعد.
وفي قوله: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} إلى آخره إظهار أيضا لعظمة الله في ملكوته.
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُم} .
إدماج امتنان على الناس بأنهم مع ما خلقوا عليه من ملابسة الحق على وجه الإجمال وذلك من الكمال وهو ما اقتضته الحكمة الإلهية فقد خلقوا في أحسن تقويم إذ كانت صورة الإنسان مستوفية الحسن متماثلة فيه لا يعتورها من فظاعة بعض أجزائها ونقصان الانتفاع بها ما يناكد محاسن سائرها بخلاف محاسن أحاسن الحيوان من الدواب والطير والحيتان من مشي على أربع مع انتكاس الرأس غالبا، أو زحف، أو نقز في
(28/237)
المشي في البعض.
ولا تعتور الإنسان نقائص في صورته إلا من عوارض تعرض في مدة تكوينه من صدمات لبطون الأمهات، أو علل تحل بهن، أو بالأجنة أو من عوارض تعرض له في مدة حياته فتشوه بعض محاسن الصور. فلا يعد ذلك من أصل تصوير الإنسان على أن ذلك مع ندرته لا يعد فظاعة ولكنه نقص نسبي في المحاسن فقد جمع بين الإيماء إلى ما اقتضته الحكمة قد نبههم إلى ما اقتضاه الإنعام. وفيه إشارة إلى دليل إمكان البعث كما قال: {فأَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} قّ: 15]، وقال {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يّس: 81].
{وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} عطف على جملة {وصوركم} لأن التصوير يقتضي الإيجاد فأعقب بالتذكير بأن بعد هذا الإيجاد فناء ثم بعثا للجزاء.
والمصير مصدر ميمي لفعل صار بمعنى رجع وانتهى، ولذلك يعدى بحرف الانتهاء، أي ومرجعكم إليه يعني بعد الموت وهو مصير الحشر للجزاء.
وتقديم {إليه} على {المصير} للرعاية على الفاصلة مع إفادة الاهتمام بتعلق ذلك المصير بتصرف الله المحض. وليس مرادا بالتقديم قصر لأن المشركين لا يصدقون بهذا المصير من أصله بله أن يدعوا أنه مصير إلى غيره حتى يرد عليهم بالقصر.
وهذه الجملة أشد ارتباطا بجملة {خلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} منها بجملة {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} كما يظهر بالتأمل.
[4] {يعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها .{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] فكان قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} دحضا لشبهتهم، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها. والذي يعلم السر في نفس الإنسان، والسر أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة، لا تخفى
(28/238)
عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3، 4].
فالمقصود هو قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح. وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله: و {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} تهديد على ما يبطنه الناس من الكفر.
وأما عطف {وَمَا تُعْلِنُونَ} فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال.
وقد تضمن قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وعيدا ووعدا ناظرين إلى قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
وإعادة فعل {يعلم} للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله: {يعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تنبيها على الوعيد والوعد بوجه خاص.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تذييل لجملة {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} لأنه يعلم ما سيره جميع الناس من المخاطبين وغيرهم.
و {ذَاتِ الصُّدُورِ} صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها، أي صاحبات الصدور، أي المكتومة فيها.
والتقدير: بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ} [القمر: 13] وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في سورة الأنفال[43].
[5] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
انتقال من التعريض الرمزي بالوعيد الأخروي في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2]، إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن: 4]، إلى تعريض أوضح منه بطريق الإيماء إلى وعيد لعذاب دنيوي وأخروي معا فأن ما يسمى في باب الكناية بالإيمان أقل لازم من العريض والرمز فهو أقرب إلى التصريح. وهذا الإيماء بضرب المثل بحال أمم تلقوا رسلهم بمثل ما تلقى به المشركون محمد صلى الله عليه وسلم
(28/239)
تحذيرا لهم من أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك، فالجملة ابتدائية لأنها عد لصنف ثان من أصناف كفرهم وهو إنكار الرسالة.
فالخطاب لخصوص الفريق الكافر بقرينة قوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} فهذا الخطاب موجه للمشركين الذين حالهم كحال من لم يبلغهم نبأ الذين كفروا مثل كفرهم، مثل عاد وثمود ومدين وقوم إبراهيم.
والاستفهام تقريري، والتقريري يؤتى معه بالجملة منفية توسعة على المقرر إن كان يريد الإنكار حتى إذا أقر لم يستطع بعد إقراره إنكارا لأنه قد أعذر له من قبل بتلقينه النفي وقد تقدم غير مرة.
وحذف ما أضيف إليه {قبل} ونوي معناه، والتقدير: من قبلكم، أي في الكفر بقرينة قوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ} [التغابن: 2]. والكافرون يعلمون أنهم المقصود لأنهم مقدمون
على الكفر ومستمرون عليه.
والوبال: السوء وما يكره.
والأمر: الشأن والحال.
والذوق مجاز في مطلق الإحساس والوجدان، شبه ما حل بهم من العذاب بشيء ذي طعم كريه يذوقه من حل به ويبتلعه لأن الذوق باللسان أشد من اللمس باليد أو الجلد. والمعنى: أحسوا العذاب في الدنيا إحساسا مكنيا.
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مراد به عذاب الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.
[6] {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .
ارتقاء في التعريض إلى ضرب منه قريب من الصريح. وهو المسمى في الكناية بالإشارة. كانت مقالة الذين من قبل مماثلة لمقالة المخاطبين فإذا كانت هي سبب ما ذاقوه من الوبال فيوشك أن يذوق مماثلوهم في المقالة مثل ذلك الوبال.
فاسم الإشارة عائد إلى المذكور من الوبال والعذاب الأليم.
(28/240)
فهذا عد لكفر آخر من وجوه كفرهم وهو تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم بالقرآن فإن القرآن بينة من البينات لأنه معجزة.
والباء للسببية في موقع العلة. والضمير الشأن لقصد تهويل ما يفسر الضمير، وهو جملة {كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} إلى آخرها.
والاستفهام في {أبشر} استفهام إنكار وإبطال فهم أحالوا أن يكون بشر مثلهم يهدون بشرا أمثالهم، وهذا من جهلهم بمراتب النفوس البشرية ومن يصطفيه الله منها، ويخلقه مضطلعا بتبليغ رسالته إلى عباده. كما قال: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7] وجهلوا أنه لا يصلح لإرشاد الناس إلا من هو من نوعهم قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [الإسراء:95] ولما أحالوا أن يكون البشر أهلا لهداية بشر مثله جعلوا ذلك كافيا في إعراضهم من قبول القرآن والتدبر فيه.
والبشر: اسم جنس للإنسان يصدق على الواحد كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] ويقال على الجمع كما هنا. وتقدم في قوله: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً} في سورة يوسف [31]وفي سورة مريم [17]عند قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} .
وتنكير {بشر} للنوعية لأن محط الإنكار على كونهم يهدونهم، وهو نوع البشرية.
وتقديم المسند إليه على الخبر لقصد تقوى الإنكار، وما قالوا ذلك حتى اعتقدوه فلذلك أقدموا على الكفر برسلهم إذ قد اعتقدوا استحالة إرسال الله إياهم فجزموا بكذبهم في دعوى الرسالة فلذلك فرع عليه {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} .
والتولي أصله: الانصراف عن المكان الذي أنت فيه، وهو هنا مستعار للإعراض عن قبول دعوة رسلهم، وتقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} في سورة البقرة[64].
{واستغنى} غني فالسين والتاء للمبالغة كقوله: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس:5]. والمعنى: غني الله عن إيمانهم قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر: 7].
والواو واو الحال، أي والحال أن الله غني عنهم من زمن مضى فإن غني الله عن إيمانهم مقرر في الأزل.
(28/241)
ويجوز أن يراد: واستغنى الله عن إعادة دعوتهم لأن فيما أظهر لهم من البينات على أيدي رسلهم ما هو كاف لحصول التصديق بدعوة رسلهم لولا المكابرة فلذلك عجل لهم العذاب.
وعلى الوجهين متعلق {استغنى} محذوف دل عليه قوله: {فكفروا} . وقوله: {بالبينات} والتقدير: واستغنى الله عن إيمانهم.
وجملة {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} تذييل، أي غني عن كل شيء فيما طلب منهم، حميد لمن امتثل وشكر.
[7] {ز َعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . هذا ضرب ثالث من ضروب كفر المشركين المخاطبين بقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [التغابن:5] الخ، وهو كفرهم بإنكارهم البعث والجزاء.
والجملة ابتدائية. وهذا الكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله: {قُلْ بَلَى} . وليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار ولا من الالتفات بل هو ابتداء غرض مخاطب به غير من كان الخطاب جاريا معهم.
وتتضمن الجملة تصريحا بإثبات البعث وذلك الذي أوتي إليه فيما مضى يفيد بالحق في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [التغابن: 3] وبقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [التغابن: 4 ] كما علمته آنفا.
والزعم: القول الموسوم بمخالفة الواقع خطأ فمنه الكذب الذي لم يتعمد قائله أن يخالف الواقع في ظن سامعه. ويطلق على الخبر المستغرب المشكوك في وقوع ما أخبر به، وعن شريح: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا أراد بالكنية الكناية. فبين الزعم والكذب عموم وخصوص وجهي.
وفي الحديث "بئس مطية الرجل إلى الكذب زعموا" 1، أي قول الرجل زعموا كذا. وروي أهل الأدب أن الأعشى لما أنشد قيس بن معد يكرب: الكندي قوله في مدحه:
ـــــــ
رواه أبو داود عن حذيفة بن اليمان بسند فيه انقطاع.
(28/242)
ونبئت قيسا ولم أبله ... كما زعموا خير أهل اليمن
غضب قيس وقال له: "وما هو إلا الزعم".
ولأجل ما يصاحب الزعم من توهم قائله صدق ما قاله الحق فعل زعم بأفعال الظن فنصب مفعولين. وليس كثيرا في كلامهم، ومنه قول أبي ذؤيب:
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم ... فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
ومن شواهد النحو قول أبي أمية أوس الحنفي:
زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدب دبيبا
والأكثر "أن" يقع بعد فعل الزعم أن المفتوحة المشددة أو المخففة مثل التي في هذه الآية فيسد المصدر المنسبك مسد المفعولين. والتقدير: زعم الذين كفروا انتفاء بعثهم.
وتقدم الكلام على فعل الزعم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60] الآية في سورة النساء[60]، وقوله: {ثَّم نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} في سورة الأنعام[22] وما ذكرته هنا أوفى.
والمراد بـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا المشركون من أهل مكة ومن على دينهم.
واجتلاب حرف {لن} لتأكيد النفي فكانوا موقنين بانتفاء البعث.
ولذلك جيء إبطال زعمهم مؤكدا بالقسم لينقض نفيهم بأشد منه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم عن الله أن البعث واقع وخاطبهم بذلك تسجيلا عليهم أن لا يقولوا ما بلغناه ذلك.
وجملة {قلْ بَلَى} معترضة بين جملة {زعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا} وجملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التغابن: 8].
وحرف {بلى} حرف جواب للإبطال خاص بجواب الكلام المنفي لإبطاله.
وجملة {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} ارتقاء في الإبطال.
{ثم} للتراخي الرتبي فإن إنباءهم بما عملوا أهم من إثبات البعث إذ هو العلة للبعث.
والإنباء: الإخبار، وإنباؤهم بما عملوا كناية عن محاسبتهم عليه وجزائهم عما
(28/243)
عملوه، فإن الجزاء يستلزم علم المجازي بعمله الذي جوزي عليه فكان حصول الجزاء بمنزلة إخباره بما عمله كقوله تعالى: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} [لقمان: 23].
وهذا وعيد وتهديد بجزاء سيء لأن المقام دليل على أن عملهم سيء وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإنكار ما دعاهم إليه.
وجملة {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} تذييل، والواو اعتراضية.
واسم الإشارة: إما عائد إلى البعث المفهوم من {لتبعثن} مثل قوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] أي العدل أقرب للتقوى، وإما عائد إلى معنى المذكور من مجموع {لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} .
وأخبر عنه ب {يسير} دون أن يقال: واقع كما قال: {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6]، لأن الكلام لرد إحالتهم البعث بعلة أن أجزاء الجسد تفرقت فيتعذر جمعها فذكروا بأن العسير في متعارف الناس لا يعسر على الله وقد قال في الآية الأخرى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]
[8 ] {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
من جملة المأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوله.
والفاء فصيحة تفصح عن شرط مقدر، والتقدير: فإذا علمتم هذه الحجج وتذكرتم ما حل بنظرائكم من العقاب وما ستنبؤون به من أعمالكم فآمنوا بالله ورسوله والقرآن، أي بنصه.
والمراد بالنور الذي أنزل الله القرآن، وصف بأنه نور على نور على طريقة الاستعارة لأنه أشبه النور في إيضاح المطلوب باستقامة حجته وبلاغه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:174]. وأشبه النور في الإرشاد إلى السلوك القويم وفي هذا الشبه الثاني تشاركه الكتب السماوية، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44]، وقرينة الاستعارة قوله: {الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، لأنه من مناسبات المشبه لاشتهار القرآن بين الناس كلهم بالألقاب المشتقة من الإنزال والتنزيل عرف ذلك المسلمون والمعاندون. وهو إنزال مجازي أريد به تبليغ مراد الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} في سورة البقرة[4] وفي آيات كثيرة.
(28/244)
وإنما جعل الإيمان بصدق القرآن داخلا في حيز فاء التفريع لأن ما قبل الفاء تضمن أنهم كذبوا بالقرآن من قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن:6] كما قال المشركون من أهل مكة والإيمان بالقرآن يشمل الإيمان بالبعث فكان قوله تعالى: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} شاملا لما سبق الفاء من قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن: 7] الخ.
وفي قوله: {الَّذِي أَنْزَلْنَا} التفات من الغيبة إلى المتكلم لزيادة الترغيب في الإيمان بالقرآن تذكيرا بأنه منزل من الله لأن ضمير التكلم أشد دلالة على معاده من ضمير الغائب، ولتقوية داعي المأمور.
وجملة {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تذييل لجملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يقتضي وعدا إن آمنوا ووعيدا إن لم يؤمنوا.
وفي ذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة جارية مجرى المثل والكلم الجوامع، ولأن الاسم الظاهر أقوى دلالة من الضمير لاستغنائه عن تطلب المعاد.وفيه من تربية المهابة ما في قول الخليفة أمير المؤمنين يأمركم بكذا.
والخبير: العليم، وجيء هنا بصفة {الخبير} دون: البصير، لأن ما يعلمونه منه محسوسات ومنه غير محسوسات كالمعتقدات، ومنها الإيمان بالبعث، فعلق بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالموجودات كلها، بخلاف قوله فيما تقدم و {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن:2] فإن لكفر الكافرين وإيمان المؤمنين آثارا ظاهرة محسوسة فعلقت بالوصف الدال على تعلق العلم الإلهي بالمحسوسات.
[9، 10] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} .
متعلق بفعل {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن:7] الذي هو كناية عن {تجازون} على
(28/245)
تكذيبكم بالبعث فيكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم ابتداء من قوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].
والضمير المستتر في {يجمعكم} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8].
ومعنى {يجمعكم} يجمع المخاطبين والأمم من الناس كلهم، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38].
ويجوز أن يراد الجمع الذي في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، وهذا زيادة تحقيق للبعث الذي أنكروه.
واللام في {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} يجوز أن يكون للتعليل، أي يجمعكم لأجل اليوم المعروف بالجمع المخصوص. وهو الذي لأجل جمع الناس، أي يبعثكم لأجل أن يجمع الناس كلهم للحساب، فمعنى {الجمع} هذا غير معنى الذي في {يجمعكم}. فليس هذا من تعليل الشيء بنفسه بل هو من قبيل التجنيس.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى {في} على نحو ما قيل في قوله تعالى: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [االأعراف:178]، وقوله: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] وقول العرب: مضى لسبيله، أي في طريقه وهو طريق الموت.
والأحسن عندي أن يكون اللام للتوقيت، وهي التي بمعنى "عند" كالتي في قولهم: كتب لكذا مضين مثلا، وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء:78]. وهو استعمال يدل على شدة الاقتراب ولذلك فسروه بمعنى "عند"، ويفيد هنا: أنهم مجموعون في الأجل المعين دون تأخير ردا على قولهم: {أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7]، فيتعلق قوله: {لِيَوْمِ الْجَمْعِ} بفعل {يجمعكم} .
ف"يوم الجمع" هو يوم الحشر. وفي الحديث "يجمع الله الأولين والآخرين" الخ. جعل المركب الإضافي لقبا ليوم الحشر، قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ]الشورى:7].
وقرأ الجمهور {يجمعكم} بياء الغائب. وقرأ يعقوب بنون العظمة.
{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} .
(28/246)
اعتراض بين جملة {ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} [التغابن: 7] بمتعلقها وبين جملة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} اعتراضا يفيد تهويل هذا اليوم تعريضا بوعيد المشركين بالخسارة في ذلك اليوم: أي بسوء المنقلب.
والإتيان باسم الإشارة في مقام الضمير لقصد الاهتمام بتمييزه أكمل تمييز مع ما يفيد اسم إشارة البعيد من علو المرتبة على نحو ما تقدم في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} في سورة البقرة[2].
و{التغابن}: مصدر غابنة من باب المفاعلة الدالة على حصول الفعل من جانبين أو أكثر.
وحقيقة صيغة المفاعلة أن تدل على حصول الفعل الواحد من فاعلين فاكثر على وجه المشاركة في ذلك الفعل.
والغبن أن يعطى البائع ثمنا دون حق قيمته التي يعوض بها مثله.
فالغبن يؤول إلى خسارة البائع في بيعه، فلذلك يطلق الغبن على مطلق الخسران مجازا مرسلا كما في قول الأعشى:
لا يقبل الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
فليست مادة التغابن في قوله: {يوْمُ التَّغَابُنِ} مستعملة في حقيقتها إذ لا تعارض حتى يكون فيه غبن بل هو مستعمل في معنى الخسران على وجه المجاز المرسل.
وأما صيغة التفاعل فحملها جمهور المفسرين على حقيقتها من حصول الفعل من جانبين ففسروها أهل الجنة غبنوا أهل النار إذ أهل الجنة أخذوا الجنة وأهل جهنم أخذوا جهنم قاله مجاهد وقتادة والحسن. فحمل القرطبي وغيره كلام هؤلاء الأيمة على أن التغابن تمثيل لحال الفريقين بحال متبايعين أخذ أحدهما الثمن الوافي، وأخذ الآخر الثمن المغبون، يعني وقول عقبه {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} ، إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قرينة على المراد من الجانبين وعلى كلا المعنيين يكون قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} تفصيلا للفريقين، فيكون في الآية مجازا وتشبيه ونمثيل، فالمجاز في مادة الغبن، والتمثيل في صيغة التغابن، وهو تشبيه مركب بمنزلة التشبيه البليغ إذ التقدير: ذلك يوم مثل التغابن.
وحمل قليل من المفسرين وهو ما فسر كلام الراغب في مفرداته وصرح ابن
(28/247)
عطية صيغة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل كما في قولنا عافاك الله وتبارك الله فتكون استعارة، أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإنذار. وهذا في معنى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة [16]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية في سورة الصف[10].
فصيغة التفاعل مستعملة مجازا في كثرة حصول الغبن للكثرة بفعل من يحصل من متعدد.
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع، إذ المعنى: ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن:8]. والغابن لهم هو الله تعالى.
ولولا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحا عظيما للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن، فوزان هذا القصر وزان قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة:16] وقول النبي صلى الله عليه وسلم1: "إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة" .
وأفاد تعريف جزأي جملة {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} قصر المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإشارة، وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصرا ادعائيا، أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرها، فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصرا فيه جنس الغبن.
وأما لام التعريف في قوله: {التغابن} فهي لام الجنس، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]. وقوله في ضده {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر: 29]. هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مر بها مرا. ولم يحتلب منها درا. وها أنا ذا كددت ثمادي، فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي، والله الهادي.
{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
ـــــــ
1 ذكره البخاري تعليقا في بعض أبواب الأدب من صحيحه.
(28/248)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
معطوفة على جملة {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التغابن: 8] وهو تفصيل لما أجمل في قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الذي هو تذييل.
و {من} شرطية والفعل بعدها مستقبل، أي من يؤمن من المشركين بعد هذه الموعظة نكفر عنه ما فرط من سيئاته.
والمراد بالسيئات: الكفر وما سبقه من الأعمال الفاسدة.
وتكفير السيئات: العفو عن المؤاخذة بها وهو مصدر كفر مبالغة في كفر. وغلب استعماله في العفو عما سلف من السيئات وأصله: استعارة الستر للإزالة مثل الغفران أيضا.
وانتصب {صالحا} على الصفة لمصدر وهو مفعول مطلق محذوف تقديره: عملا صالحا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {نكفر} و {ندخله} بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى التكلم لأن مقام إقبال فناسبه ضمير المتكلم.
وقرأهما الباقون بياء الغيبة على مقتضى الظاهر لأن ضمير الجلالة يؤذن بعناية الله بهذا الفريق.
وجملة {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} تذييل.
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا} ، أي كفروا وكذبوا من قبل واستمروا على كفرهم وتكذيبهم فلم يستجيبوا لهذه الدعوة ثبت لهم أنهم أصحاب النار. ولذلك جيء في جانب الخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبات لعراقتهم في الكفر والتكذيب.
وجيء لهم باسم الإشارة لتميزهم تمييزا لا يلتبس معه غيرهم بهم مثل قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] مع ما يفيده اسم الإشارة من أن استحقاقهم لملازمة النار ناشئ عن الكفر والتكذيب بآيات الله وهذا وعيد.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} اعتراض تذييلي لزيادة تهويل الوعيد.
(28/249)
[11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
استئناف انتقل إليه بعد أن توعد المشركون بما يحصل لهم من التغابن يوم يجمع الله الناس يوم الحساب. ويشبه أن يكون استئنافا بيانيا لأن تهديد المشركين بيوم الحساب يثير في نفوس المؤمنين التساؤل عن الانتصاف من المشركين في الدنيا على ما يلقاه المسلمون من إضرارهم بمكة فإنهم لم يكفوا عن أذى المسلمين وإصابتهم في أبدانهم وأموالهم والفتنة بينهم وبين أزواجهم وأبنائهم.
فالمراد: المصائب التي أصابت المسلمين من معاملة المشركين فأنبأهم الله بما يسليهم عن ذلك بأن الله عالم بما ينالهم. وقال القرطبي قيل سبب نزولها أن الكفار قالوا لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب.
واختصت المصيبة في استعمال اللغة بما يلحق الإنسان من شر وضر وإن كان أصل فعلها يقال كما يصيب الإنسان مطلقا ولكن غلب إطلاق فعل أصاب على لحاق السوء، وقد قيل في قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، أن إسناد الإصابة إلى الحسنة من قبيل المشاكلة.
وتأنيث المصيبة لتأويلها بالحادثة وتقدم عند قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} في سورة آل عمران[165].
والإذن: أصله إجازة الفعل لمن يفعله وأطلق على إباحة الدخول إلى البيت وإزالة الحجاب لأنه مشتق من أذن له إذا سمع كلامه. وهو هنا مستعار لتكوين أسباب الحوادث. وهي الأسباب التي تفضي في نظام العادة إلى وقوع واقعات، وهي من آثار صنع الله في نظام هذا العالم من ربط المسببات بأسبابها مع علمه بما تفضي إليه تلك الأسباب فلما كان هو الذي أوجد الأسباب وأسباب أسبابها، وكان قد جعل ذلك كله أصولا وفروعا بعلمه وحكمته، أطلق على ذلك التقدير والتكوين لفظ الإذن، والمشابهة ظاهرة، وهذا في معنى قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].
ومقتضى هذه الاستعارة تقريب حقيقة التقلبات الدنيوية إلى عقول المسلمين باختصار العبارة لضيق المقام عن الإطناب في بيان العلل والأسباب، ولأن أكثر ذلك لا تبلغ إليه
(28/250)
عقول عموم الأمة بسهولة. والقصد من هذا تعليم المسلمين الصبر على ما يغلبهم من مصائب الحوادث لكيلا تفل عزائمهم ولا يهنوا ولا يلهيهم الحزن عن مهمات أمورهم وتدبير شؤونهم كما قال في سورة الحديد[23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} .
ولذلك أعقبه هنا بقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} ، أي يهد قلبه عندما تصيبه مصيبة، فحذف هذا المتعلق لظهوره من السياق قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:139،140].
والمعنى: أن المؤمن مرتاض بالأخلاق الإسلامية متبع لوصايا الله تعالى فهو مجاف لفساد الأخلاق من الجزع والهلع يتلقى ما يصيبه من مصيبة بالصبر والتفكر في أن الحياة لا تخلوا من عوارض مؤلمة أو مكدرة. قال تعلى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155،157] أي أصحاب الهدى الكامل لأنه هدى متلقى من التعاليم الإلهية الحق المعصومة من الخطل كقوله هنا {يَهْدِ قَلْبَهُ} .
وهذا الخبر في قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إيماء إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب لأنه يلزم من هدى الله قلب المؤمن عند المصيبة ترغيب المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلو المصائب فلذلك ذيل بجملة {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ} فهو تذييل للجملة التي قبلها وارد على مراعاة جميع ما تضمنته من أن المصائب بإذن الله، ومن أن الله يهدي قلوب المؤمنين للثبات عند حلول المصائب ومن الأمر بالثبات والصبر عند المصائب، أي يعلم جميع ذلك.
وفيه كناية عن مجازاة الصابرين بالثواب لأن فائدة علم الله التي تهم الناس هو التخلق ورجاء الثواب ورفع الدرجات.
[12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
عطف على جملة {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] لأنها تضمنت أن المؤمنين متهيؤون لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما يدعوانهم إليه من صالح الأعمال كما يدل عليه تذييل الكلام بقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122]، ولأن طلب الطاعة فرع عن
(28/251)
تحقق الإيمان كما في حديث معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال له: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فأول ما تدعوهم إليه فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدفة " الحديث.
وتفريع {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} تحذير من عصيان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
والتولي مستعار للعصيان وعدم قبول دعوة الرسول.
وحقيقة التولي الانصراف عن المكان المستقر فيه واستعير التولي للعصيان تشنيعا له مبالغة في التحذير منه، ومثله قوله تعالى: في خطاب المؤمنين {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال:20].
والتعريف في قوله: {رسولنا} بالإضافة لقصد تعظيم شأنه بأنه صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين. وهذا الضمير التفات من الغيبة إلى التكلم يفيد تشريف الرسول بعز الإضافة إلى المتكلم.
ومعنى الحصر قوله: {فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} قصر الرسول صلى الله عليه وسلم على كون واجبه البلاغ، قصر موصوف على صفة فالرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على لزوم البلاغ له لا يعدو ذلك إلى لزوم شيء آخر. وهو قصر قلب تنزيلا لهم في حالة العصيان المفروض منزلة من يعتقد أن الله لو شاء لألجأهم إلى العمل بما أمرهم به إلهابا لنفوسهم بالحث على الطاعة.
ووصف {البلاغ} بـ {المبين} ، أي الواضح عذر للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ادعى ما أمر به على الوجه الأكمل قطعا للمعذر عن عدم امتثال ما أمر به.
وباعتبار مفهوم القصر جملة فإنما على رسولنا البلاغ المبين كانت جوابا للشرط دون حاجة إلى تقدير جواب تكون هذه الجملة دليلا عليه أو علة له.
[13] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} .
جملة معترضة بين جملة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن:12] وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
(28/252)
واسم الجلالة مبتدأ وجملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر. وهذا تذكير للمؤمنين بما يعلمونه. أي من آمن بأن الله لا إله إلا هو كان حقا عليه أن يطيعه وأن لا يعبأ بما يصيبه في جانب طاعة الله من مصائب وأذى كما قال حبيب بن عدي:
لست أبالي حيت أقتل مسلما
على أي جنب كان الله مصرعي
ويجوز أن تكون جملة {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في موقع العلي لجملة {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} [التغابن:12] وتفيد أيضا تعليل جملة {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] لأن طاعة الرسول ترجع إلى طاعة الله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80].
وافتتاح الجملة باسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار إذ لم يقل هو لا إله إلا هو لاستحضار عظمة الله تعالى بما يحويه اسم الجلالة من معاني الكمال، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتكون جارية مجرى الأمثال والكلم الجوامع.
{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
عطف على {وَأَطِيعُوا اللَّهَ} فهو في معنى: وتوكلوا على الله، فإن المؤمنين يتوكلون على الله لا على غيره وأنتم مؤمنون فتوكلوا عليه.
وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص، أي أن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله.
وجيء في ذلك بصيغة أمر المؤمنين بالتوكل على الله دون غيره ربطا على قلوبهم وتثبيتا لنفوسهم كيلا يأسفوا من إعراض المشركين وما يصيبهم منهم وأن ذلك لن يضرهم.
فإن المؤمنين لا يعتزون بهم ولا يتقوون بأمثالهم، لأن الله أمرهم أن لا يتوكلوا إلا عليه، وفيه إيذان بأنهم لا يخالفون أمر الله وذلك يغيظ الكافرين.
والإتيان باسم الجلالة في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة فتسير مسرى المثل، ولذلك كان إظهار لفظ {المؤمنون} ولم يقل: وعلى الله فليتوكلوا، ولما في {المؤمنون} من العموم الشامل للمخاطبين وغيرهم ليكون معنى التمثيل.
[14] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
إقبال على خطاب المؤمنين بما يفيدهم كمالا ويجنبهم ما يفتنهم.
(28/253)
أخرج الترمذي عن ابن عباس أن رجلا سأله عن هذه الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أي بعد مدة وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين أي سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة فهموا أن يعاقبوهم على ما تسببوا لهم حتى سبقهم الناس إلى الفقه في الدين فأنزل الله هذه الآية أي حتى قوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وهو الذي اقتصر عليه الواحدي في أسباب النزول ومقتضاه أن الآية مدنية.
وعن عطاء بن يسار وابن عباس أيضا أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا، فيرق لهم فيقعد عن الغزو. وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنهم. فهذه الآية مستأنفة استئنافا ابتدائيا ويكون موقعها هذا سبب نزولها صادف أن كان عقب ما نزل قبلها من هذه السورة.
والمناسبة بينها وبين الآية التي قبلها لأن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غم من معاملة أعدائهم إياهم ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم.
وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام، أو نحو ذلك ليوفى الطرفان حقيهما، وكانت تنبيها للمسلمين لأحوال في عائلاتهم قد تخفى عليهم ليأخذوا حذرهم، وهذا هو المناسب لما قبل الهجرة كان المسلمون بمكة ممتزجين مع المشركين بوشائج النسب والصهر والولاء فلما ناصبهم المشركون العداء لمفارقتهم دينهم وأضمروا لهم الحقد وأصبحوا فريقين كان كل فريق غير خال من أفراد متفاوتين في المضادة تبعا للتفاوت في صلابة الدين، وفي أواصر القرابة والصهر، وقد بلغ العداء إلى نهاية طرفه فتندحض أمامه جميع الأواصر فيصبح الأشد قربا أشد مضرة على قريبه من مضرة البعيد.
فأيقظت هذه الآية المؤمنين لئلا يغرهم أهل قرابتهم فيما توهم من جانب غرورهم فيكون ضرهم أشد عليهم وفي هذا الإيقاظ مصلحة للدين وللمسلمين ولذلك قال تعالى: {فَاحْذَرُوهُمْ} ولم يأمر بأن يضروهم، وأعقبه بقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ
(28/254)
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، جمعا بين الحذر وبين المسالمة وذلك من الحزم.
و {من} تبعيضية. وتقديم خبر {إن} على اسمها للاهتمام بهذا الخبر ولما فيه من تشويق إلى الاسم ليتمكن مضمون هذا الخبر في الذهن أتم تمكن لما فيه من الغرابة والأهمية. وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} في سورة البقرة[8].
وعدو وصف من العداوة بوزن فعول بمعنى فاعل فلذلك لزم حالة الإفراد والتذكير إذا كان وصفا، وقد مضى ذلك عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} في سورة النساء [92]. فأما إذا أريد منه معنى الاسمية فيطابق ما أجري عليه، قال تعالى: {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2].
والإخبار عن بعض الأزواج والأولاد بأنهم عدو يجوز أن يحمل على الحقيقة فإن بعضهم قد يضمر عداوة لزوجه وبعضهم لأبويه من جراء المعاملة بما لا يروق عنده مع خباثة في النفس وسوء تفكير فيصير عدوا لمن حقه أن يكون له صديقا، ويكثر أن تأتي هذه العداوة من اختلاف الدين ومن الانتماء إلى الأعداء.
ويجوز أن يكون على معنى التشبيه البليغ، أي كالعدو في المعاملة بما هو من شأن معاملة الأعداء كما قيل في المثل يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو لعدوه. وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وعطف على قوله: {فَاحْذَرُوهُمْ} جملة {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا} إلى آخرها عطف الاحتراس لأنه إذا كان العفو مطلوبا محبوبا إلى الله تعالى وهو لا يكون إلا بعد حصول الذنب فإن عدم المؤاخذة على مجرد ظن العداوة أجدر بالطلب ففهم النهي عن معاملة الأزواج والأنباء معاملة الأعداء لأجل إيجاس العداوة، بل المقصود من التحذير التوقي وأخذ الحيطة لابتداء المؤاخذة، ولذلك قيل الحزم سوء الظن بالناس، أي لكن دون أن يبنى على ذلك الظن معاملة من صدر منه ما ظننت به قال تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] وقال: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
والعفو: ترك المعاقبة على الذنب بعد الاستعداد لها. ولو مع توبيخ.
والصفح: الإعراض عن المذنب، أي ترك عقابه على ذنبه دون التوبيخ.
(28/255)
والغفر: ستر الذنب وعدم إشاعته.
والجمع بينها هنا إيماء إلى تراتب آثار هذه العداوة وما تقتضيه آثارها من هذه المعاملات الثلاث. وحذف متعلق الأفعال الثلاثة لظهور أن المراد من أولادكم وأزواجكم فيما يصدر منهم مما يؤذيكم، ويجوز أن يكون حذف المتعلق لإرادة عموم الترغيب في العفو.
وإنما يعفو المرء ويصفح ويغفر عن المذنب إذا كان ذنبه متعلقا بحق ذلك المرء وبهذه الأفعال المذكورة هنا مطلقة وفي أدلة الشريعة تقييدات لها.
وجملة {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط المحذوف المؤذن بالترغيب في العفو والصفح والغفر فالتقدير وأن تعفوا وتصفحوا وتغفروا يحب الله ذلك منكم لأن الله غفور رحيم، أي للذين يغفرون ويرحمون، وجمع وصف رحيم الخصال الثلاث.
[15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
تذييل لأن فيه تعميم أحوال الأولاد بعد أن ذكر حال خاص ببعضهم.
وأدمج فيه الأموال لأنها لم يشملها طلب الحذر ولا وصف العداوة. وقدم ذكر الأموال على الأولاد لأن الأموال لم يتقدم ذكرها بخلاف الأولاد.
ووجه إدماج الأموال هنا أن المسلمين كانوا قد أصيبوا في أموالهم من المشركين فغلبوهم على أموالهم ولم تذكر الأموال في الآية السابقة لأن الغرض هو التحذير من أشد الأشياء اتصالا بهم وهي أزواجهم وأولادهم. ولأن فتنة هؤلاء مضاعفة لأن الداعي إليها يكون من أنفسهم ومن مساعي الآخرين وتسويلهم. وجرد عن ذكر الأزواج هنا اكتفاء لدلالة فتنة الأولاد عليهن بدلالة فحوى الخطاب، فإن فتنتهن أشد من فتنة الأولاد لأن جرأتهن على التسويل لأزواجهن ما يحاولنه منهم أشد من جرأة الأولاد.
والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي ليست أموالكم وأولادكم إلا فتنة. وهو قصر ادعائي للمبالغة في كثرة ملازمة هذه الصفة للموصوف إذ يندر أن تخلو أفراد هذين النوعين، وهما أموال المسلمين وأولادهم عن الاتصاف بالفتنة لمن يتلبس بهما.
والإخبار ب {فتنة} للمبالغة. والمراد: أنهم سبب فتنة سواء سعوا في فعل الفتن أم
(28/256)
لم يسعوا. فإن الشغل بالمال والعناية بالأولاد فيه فتنة.
ففي هذه الآية من خصوصيات علم المعاني التذييل والإدماج، وكلاهما من الإطناب، والاكتفاء وهو من الإيجاز، وفيها الإخبار بالمصدر وهو {فتنة} ، والإخبار به من المبالغة فهذه أربعة من المحسنات البديعية، وفيها القصر، وفيها التعليل، وهو من خصوصيات الفصل، وقد يعد من محسنات البديع أيضا فتلك ست خصوصيات.
وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها اشتملت على التذييل والتعليل وكلاهما من مقتضيات الفصل.
والفتنة: اضطراب النفس وحيرتها من جراء أحوال لا تلائم من عرضت له، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191].
أخرج أبو داود عن بريدة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة حتى جاء الحسن والحسين يعثران ويقومان فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فأخذهما وجذبهما ثم قرأ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} . وقال "رأيت هذين فلم أصبر"، ثم أخذ في خطبته.
وذكر ابن عطية: أن عمر قال لحذيفة: كيف أصبحت فقال: أصبحت أحب الفتنة وأكره الحق. فقال عمر: ما هذا? فقال: أحب ولدي وأكره الموت.
وقوله: {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} عطف على جملة {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لأن قوله: {عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} كناية عن الجزاء عن تلك الفتنة لمن يصابر نفسه على مراجعة ما تسوله من الانحراف عن مرضاة الله إن كان في ذلك تسويل. والأجر العظيم على إعطاء حق المال والرأفة بالأولاد، أي والله يؤجركم عليها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من ابتلى من هذه البنات بشيء وكن له سترا من النار". وفي حديث آخر "إن الصبر على سوء خلق الزوجة عبادة".
والأحاديث كثيرة في هذا المعنى منها ما رواه حذيفة فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة.
[16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
فاء فصيحة وتفريع على ما تقدم، أي إذا علمتم هذا فاتقوا الله فيما يجب من التقوى
(28/257)
في معاملة الأولاد والأزواج ومصارف في الأموال فلا يصدكم حب ذلك والشغل به عن الواجبات، ولا يخرجكم الغضب ونحوه عن حد العدل المأمور به، ولا حب المال عن أداء حقوق الأموال وعن طلبها من وجوه الحلال. فالأمر بالتقوى شامل للتحذير المتقدم وللترغيب في العفو كما تقدم ولما عدا ذلك.
والخطاب للمؤمنين.
وحذف متعلق {اتقوا} لقصد تعميم ما يتعلق بالتقوى من جميع الأحوال المذكورة وغيرها وبذلك يكون هذا الكلام كالتذييل لأن مضمونه أعم من مضمون ما قبله.
ولما كانت التقوى في شأن المذكورات وغيرها قد يعرض لصاحبها التقصير في إقامتها حرصا على إرضاء شهوة النفس في كثير من أحوال تلك الأشياء زيد تأكيد الأمر بالتقوى بقوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} .
و {ما} مصدرية ظرفية، أي مدة استطاعتكم ليعم الأزمان كلها ويعم الأحوال تبعا لعموم الأزمان ويعم الاستطاعات، فلا يتخلوا عن التقوى في شيء من الأزمان. وجعلت الأزمان ظرفا للاستطاعة لئلا يقصروا بالتفريط في شيء يستطيعونه فيما أمروا بالتقوى في شأنه ما لم يخرج عن حد الاستطاعة إلى حد المشقة قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
فليس في قوله: {ما استطعتم} تخفيف ولا تشديد ولكنه عدل. وإنصاف. ففيه ما عليهم وفيه ما لهم.
روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت، وعن ابن عمر كنا إذا بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا "فيما استطعت".
وعطف {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} على {اتَّقُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام للاهتمام به، ولأن التقوى تتبادر في ترك المنهيات فإنها مشتقة من وقى. فتقوى الله أن يقي المرء نفسه مما نهاه الله عنه، ولما كان ترك المأمورات فيؤول إلى إتيان المنهيات، لأن ترك الأمر منهي عنه إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده. كان التصريح به بخصوصه اهتماما بكلا الأمرين لتحصل حقيقة التقوى الشرعية وهي اجتناب المنهيات وامتثال المأمورات.
(28/258)
والمراد: اسمعوا الله، أي أطيعوا بالسمع للرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
والأمر بالسمع أمر يتلقى الشريعة والإقبال على سماع مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وسيلة التقوى قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17، 18].
وعطف عليه {وأطيعوا} : أي أطيعوا ما سمعتم من أمر ونهي.
وعطف {وأنفقوا} تخصيص بعد تخصيص فإن الإنفاق مما أمر الله به فهو من المأمورات.
وصيغة الأمر تشتمل واجب الإنفاق والمندوب ففيه التحريض على الإنفاق بمرتبتيه وهذا من الاهتمام بالنزاهة من فتنة المال التي ذكرت في قوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15].
وانتصب {خيرا} على الصفة لمصدر محذوف دل عليه {أنفقوا} . والتقدير: إنفاقا خيرا لأنفسكم. هذا قول الكسائي والفراء فيكون {خير} اسم تفضيل. وأصله: أخير، وهو محذوف الهمزة لكثرة الاستعمال، أي الإنفاق خير لكم من الإمساك. وعن سيبويه أنه منصوب على أنه مفعول به لفعل مضمر دل عليه {أنفقوا} . والتقدير: ائتوا خيرا لأنفسكم.
وجملة {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} تذييل.
و {من} اسم شرط وهي من صيغ العموم: أي كل من يوق شح نفسه والعموم يدل على أن {من} مراد بها جنس لا شخص معين ولا طائفة، وهذا حب اقتضاه حرص أكثر الناس على حفظ المال وادخاره والإقلال من نفع الغير به وذلك الحرص يسمى الشح.
والمعنى: أن الإنفاق يقي صاحبه من الشح المنهي عنه فإذا يسر على المرء الإنفاق فيما أمر الله به فقد وقي شح نفسه وذلك من الفلاح.
ولما كان ذلك فلاحا عظيما جيء في جانبه بصيغة الحصر بطريقة تعريف المسند، وهو قصر جنس المفلحين على جنس الذين وقوا شح أنفسهم، وهو قصر ادعائي للمبالغة في تحقق وصف المفلحين الذين وقوا شح أنفسهم نزل الآن فلاح غيرهم بمنزلة العدم.
وإضافة {شح} إلى النفس للإشارة إلى أن الشح من طباع النفس فإن النفوس شحيحة بالأشياء المحببة إليها قال تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} [النساء: 128].
(28/259)
وفي الحديث لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصدقة قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. وأن لا تدع حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" وتقدم نظير {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة الحشر[9].
[17،18] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
استئناف بياني ناشئ عن قوله: {وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن:16]، فإن مضاعفة الجزاء على الإنفاق مع المغفرة خير عظيم، وبهذا الموقع يعلم السامع أن القرض أطلق على الإنفاق المأمور به إطلاقا بالاستعارة، والمقصود الاعتناء بفضل الإنفاق المأمور به. اهتماما مكررا فيعد أن جعل خيرا جعل سبب الفلاح وعرف بأنه قرض من العبد لربه وكفى بهذا ترغيبا وتلطفا في الطلب إذ جعل المنفق كأنه يعطي الله تعالى مالا وذلك من معنى الإحسان في معاملة العبد ربه وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل إذ قال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام: أخبرني عن الإحسان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك" فمما ينضوي تحت معنى عبادة الله عبادة من يراه أن يستشعر العبد أن امتثال أمر ربه بالإنفاق المأمور به منه كأنه معاملة بين مقرض ومستقرض.
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} في سورة البقرة[245].
وقرأ الجمهور {يضاعفه} بألف بعد الضاد وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب { يضعفه } بتشديد العين مضارع ضعف، وهما بمعنى واحد وهو لفظي الضعف.
والمضاعفة: إعطاء الضعف بكسر الضاد وهو مثل الشيء في الذات أو الصفة. وتصدق بمثل وبعده أمثال كما قال تعالى {أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة:245].
وجعل الإنفاق سبب للغفران كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصدقة تطفئ الخطايا كما يطفئ الماء النار" .
والشكور: فعول بمعنى فاعل مبالغة، أي كثير الشكر وأطلق الشكر فيه على الجزاء
(28/260)
بالخير على فعل الصالحات تشبيها لفعل المتفضل بالجزاء بشكر المنعم عليه على نعمة ولا نعمة على الله فيما يفعله عباده من الصالحات. فإنما نفعها لأنفسهم ولكن الله تفضل بذلك حثا على صلاحهم فرتب لهم الثواب بالنعيم على تزكية أنفسهم، وتلطف لهم فسمي ذلك الثواب شكرا وجعل نفسه شاكرا.
وقد أومأ إلى هذا المقصد إتباع صفة {شكور} بصفة {حليم} تنبيها على أن ذلك من حلمه بعبادة دون حق لهم عليه سبحانه.
وأما وصف ب {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فتتميم للتذكير بعظمة الله تعالى مع مناسبتها للترغيب والترهيب الذين اشتملت عليهما الآيات السابقة كلها لأن العالم بالأفعال ظاهرها وخفيها لا يفيت شيئا من الجزاء عليها بما رتب لها، ولأن العزيز لا يعجزه شيء.
و {الحكيم} : الموصوف بالحكمة لا يدع معاملة الناس بما يقتضيه الحكمة من وضع الأشياء مواضعها ونوط الأمور بما يناسب حقائقها.
والحكيم فعيل بمعنى: المحكم، أي المتقن في صنعه ومعاملته وهما معا من صفاته تعالى فهو وصف جامع للمعنيين.
(28/261)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطلاق
سورة {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [لطلاق:1] الخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة: سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوم بالقبول.
وذكر في الإتقان أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال: كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر، وأجل الأربعة الأشهر وعشر فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] اهـ. وفي الاتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق. وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1]. وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها. وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود. وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء.
وهي مدنية بالاتفاق.
وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر. وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية.
(28/262)
وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة.
وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمان بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: "ليراجعها"، فردها وقال: "إذا طهرت فليطلق أو ليمسك". قال ابن عمر وقرأ النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1].
وظاهر قوله وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الخ. إنها نزلت عليه ساعتئذ. ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة. وقال الواحدي عن السدي: أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح. وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدأ.
أغراضها
الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدة والإرضاع والإنفاق والإسكان. تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة.
والإيماء إلى حكمة شرع العدة والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن.
والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة.
وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله.
والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما.
وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته.
وأن الله وضع لكل شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه.
وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حث
(28/263)
للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر.
وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً}.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}.
توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} {لأنفال:65} لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها. فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملا على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وإن كان التشريع خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} .
قال أبو بكر بن العربي: وهذا قولهم أن الخطاب له لفظا. والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} اهـ. ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعدة سنذكره عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} .
فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وما بعده من الضمائر مثله مراد بها هو وأمته. وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون.
وظاهر كلمة {إذا} أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن، أي في أطهارهن كما سيأتي.
وتكرير فعل {فطلقوهن} لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلطهرهن وقد
(28/264)
تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} في سورة الشعراء [130]، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} في سورة الفرقان [72].
واللام في {لعدتهن} لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كتب ليوم كذا من شهر كذا. ومنه قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسرا:78] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام. ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان علم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر.
ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتا لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالإظهار.
وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمه هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العدة وإنما تبتدأ العدة بأول طهر من أطهار ثلاثة لدفع المضرة عن الطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يبن منهم.
وفعل {طلقتم} مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [امائدة:6] الآية والقرينة ظاهرة.
والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدر حصول فعل محرم من دون أن يبين منعه.
والطلاق مباح لأنه قد يكون حاجيا لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشارا حديثا في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديدا ويعسر تذليله، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجي ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإذن فيه ذريعة للنكاية من أحد الزوجين بالآخر. أو من ذوي قرابتهما، أو لقصد تبديل المذاق. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .
وتعليق {طلقتم} بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين
(28/265)
التي قال الله فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في شرح سنن أبي داود ولم يثبت تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبران، أولهما ما رواه ابن ماجه عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زراره ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها. وفي هذا السند ضعف لأن سويد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي. وقبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم. وكذلك مسروق ابن المرزبان يضعف أيضا. وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحا لمنه غريب وهو لا يقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا. وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراده سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضية الإيلاء بسبب حفصة.
والمعروف في الصحيح عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه. قال عمر: فقلت يا رسول الله أطلقت نساءك، قال: "لا آليت منهن شهرا". فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفيئة بلفظ راجع على أن ابن ماجة يضعف عند أهل النقد.
وثانيهما حديث الجونية أسماء أو أميمة بنت شراحيل الكندية في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له: أعوذ بالله منك، فقال: "قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك" وأمر أبا أسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خلق شائع في النساء.
والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} في سورة الأحزاب [28]. فلا يعارض ذلك قوله "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". إذ يكون قوله ذلك مخصوصا بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم ابتداء تجنبا من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وبالا عليها، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها.
(28/266)
وعلم من قوله تعالى: {لعدتهن} أنهن النساء الدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعا بنص آية الأحزاب.
وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالإظهار لا بالحيض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمرا بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض. واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافا يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم.
وحكمة العدة تقدم بيانها.
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} .
الإحصاء: معرفة العد وضبطه. وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاة ثم عدوا ذلك الحصى قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [الجن:28].
والمعنى: الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين. إما التزويج قبل انتهائها فربما اختلط النسب، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها.
وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته.
والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفا والكلام على تقدير مضاف لأن المحصى أيام العدة.
والمخاطب بضمير {أحصوا} هم المخاطبون بضمير {إِذَا طَلَّقْتُمُ} فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة. وقد بينا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي مقاصد الشريعة .
(28/267)
ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلق والمطلقة وهي تستتبع حقوقا للمسلمين وولاة أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} .
اعتراض بين جملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وجملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} . والواو اعتراضية.
وحذف متعلق {اتَّقُوا اللَّهَ} ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله.
فقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة. وذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزنا وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدي، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى اتبع اسم الجلالة بوصف {ربكم} للتذكير بأنه حقيق بأن يتقي غضبه.
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} .
استئناف أو حال من ضمير {أحْصُوا الْعِدَّة} ، أي حالة كون العدة في بيوتهن، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة {أحْصُوا الْعِدَّة} لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة.
ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو وجوازا أو وجوبا.
وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه ملك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاتي كن فيها أزواجا استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب ربة البيت وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق.
وهذا الحكم سببه مركب من قصد المكارمة بين المطلق والمطلقة. وقصد الانضباط في على الاعتداد تكميلا لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلق حتى يبرأ النسب من
(28/268)
كل شك.
وجملة {وَلا يَخْرُجْنَ} عطف على جملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ} وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يخرجها فترغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج. فإذا كان البيت مكترى سكنته المطلقة زكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة.
وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعرضه فهذا مقتضى الآية. ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وقال ابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور: حفظ النسب، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها. وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق:6] الآية. وتعلم أن ذلك تأكيدا لما في هذه الآية من وجوب الإسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله: {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6] وما عطف عليه.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول. ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقا لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة. وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} {وَلا يَخْرُجْنَ} . فالمعنى: إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجن، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه.
والفاحشة: الفعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنى كما في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية في سورة النساء[15].
وشمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28]. وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} في سورة الأعراف[33]. قال ابن عطية: قال بعض الناس الفاحشة متى وردت في القرآن معرفة فهي الزنى يريد أو ما يشبهه كما في قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [االأعراف:80] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي.
(28/269)
وقرأ الجمهور {مبينة} بكسر الياء التحتية، أي هي تبين لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازا عقليا وإنما المبين ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين.
وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم {مبينة} بفتح التحتية، أي كانت فاحشة بينتها الحجة أو بينها الخارج ومحمل القراءتين واحد.
ووصفها ب {مبينة} إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفا. وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج.
وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعد وأبي يوسف: أن الفاحشة الزنى، قالوا ومعاد الاستثناء الإذن في إخراجهن، أي ليقام عليهن الحد.
وفسرت الفاحشة بالبذاء على الجيران والإحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ إلا أن يفحشن عليكم بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش وروي ابن عباس أيضا واختاره الشافعي.
وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بله الزنى ونسب إلى ابن عباس أيضا وابن عمر وقاله السدي وأبو جنيفة.
وعن قتادة الفاحشة: النشوز، أي إذا طلقها لأجل النشوز فلا سكنى لها.
وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة {وَلا يَخْرُجْنَ} أي هم منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
(28/270)
فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي بفتح الخاء فيكون هذا الاستثناء منعا لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي.
ومحمل فعل {يأتين} على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6].
وقد ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عمرو وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع علي إلى اليمن فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها مالك نفقة إلا أن تكون حاملا، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا نفقة لك" فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم. وفي رواية أنها قالت: أخاف أن يقتحم علي بالبناء للمجهول، وفي رواية أنها كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال.
واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة هو رخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك، روى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمها مروان بن الحكم أمير المدينة يومئذ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشة أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتق الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس قالت عائشة لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان إن كان بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه.
وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت. وقالت عائشة: ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشد العيب. وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال. ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال. قال مالك: وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في المنتقى .
وقال ابن العربي: إن الخروج للحدث والبذاء والحاجة إلى المعايش وخوف العودة من المسكن جائز بالسنة.
(28/271)
ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبذاء قال سعيد بن المسيب تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لسنة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافا لفظيا لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس.
أما قول عمر بن الخطاب لا ندع كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة أحفظت أم نسيت. فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشك له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص. وقال ابن العربي: قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد.
وأما تحديد منه خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام. وأما خروجها نهارا لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقا.
وقال الشافعي: المطلقة الرجعية لا تخرج ليلا ولا نهارا والميتوتة تخرج نهارا. وقال أبو حنيفة: تخرج المعتدة عدة الوفاة نهارا ولا تخرج غيرها، لا ليلا ولا نهارا.
وفي صحيح مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس. فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} . هذا لمن كان له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحسبونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجل الإنفاق.
والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الأعراض فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت
(28/272)
من ذلك المسكن وجرى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظنة قد عارضتها مئنة. ومن الحكم أيضا في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقا على مفارقها استصحابا للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها. ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعله أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها. فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} .
الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة {لا تُخْرِجُوهُنَّ} ، وجملة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامة لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها، وخاصة المطلقة والمطلق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفرادا أو اشتراكا.
والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا.
والحدود: جمع حد وهو ما يحد، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقا مثل حدود الحمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة.
والمعنى: أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا.
ووجه الشبه إنما يراعي بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم النحو في الكلام كالملح في الطعام فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسدا ككثرة الملح في الطعام.
ووقوع {حُدُودُ اللَّهِ} خبرا عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مرادا منها تشريف المضاف وتعظيمه.
والمعنى: وتلك مما حد الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموما لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله.
(28/273)
{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
عطف على جملة، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعا معرفا بالإضافة كان مفيدا للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق.
والمعنى: من يتعد شيئا من حدود الله فقد ظلم نفسه، وبهذا تعلم أن ليس في قوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي.
وأخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيرا من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب شيئة تنجر من مخالفة أحكام الذين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها.
قال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].
ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدين قال تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:56-58] فإن للمؤمنين حظا من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم.
{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} .
هذه الجملة تعليل لجملة {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها. ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها.
ويجوز كونها بدلا من جملة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها. وقد
(28/274)
سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شانها مسلك الترهيب من مخالفتها.
فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فبعد ما أضجرهما من بعض خلقهما شيئا تافها بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما.
والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع. أي أمرا موصوفا بصفة محذوفة، أي أمرا نافعا لهما.
وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة، ومن غضب إلى رضى، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلز ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة. على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفا.
والخطاب في قوله: {لا تَدْرِي} لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فكره بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
ولعل كلمة {لا تَدْرِي} تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين.
و {لعل} ومعمولاها سادة معلقة فعل {تَدْرِي} عن العمل.
[2، 3] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
(28/275)
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}.
تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . [الطلاق:1] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها.
وبلوغ الأجل أصله انتهاء المدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الانتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به.
وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل.
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} في سورة البقرة.[231].
والإمساك: اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه.
ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقا جديدا في قوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} .
والأمر في {فامسكوهن} {أو فارقوهن} للإباحة، وأو فيه للتخيير.
والباء في {بمعروف} للملابسة أي ملابسة كل من الإمساك والفراق للمعروف.
والمعروف: هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق.
فالمعروف في الإمساك: حسن اللقاء والاعتذار لها عما فرط والعود إلى حسن المعاشرة.
(28/276)
والمعروف في الفراق: كف اللسان عن غيبتها وإظهار الاستراحة منها.
والمعروف في الحالين من عمل الرجل لأنه هو المخاطب بالإمساك أو الفراق.
وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228].
وتقديم الإمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأوفق بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبغض الحلال إلى الله الطلاق.
ولما قيد أمر الإباحة من قوله: {فامسكوهن} {أو فارقوهن} ، بقيد بالمعروف، فهم منه أنه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياما ثم طلقها بفعل ذلك ثلاثا ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضرار بها.
وقد تقدم هذا عند قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ، إلى قوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} في سورة البقرة[321].
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإمساك أو الفراق، أنه راجع إلى كليهما لأن الإشهاد جعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيدا وشأن الشروط الواردة بعد جمل أن تعود إلى جميعها.
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروى عن عمران بن حصين وطاووس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بت الطلاق.
أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدم جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم، وقياسه
(28/277)
على الإشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإشهاد دونها منع، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الانساب، وما في البيوعات مما يغني عن الإشهاد وهو التقايض في الاعواض. وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابن بكير.
واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما وتجنبا لنوازل الخصومات خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور، على أن جعل الشيء شرطا لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة. وبالثوب المغصوب. قال الموجبون للإشهاد لو راجع ولم يشهد أو بت الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك.
قال يحي بن بكير: معنى الاستشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إن راجعها، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت.
ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلا على المراجعة عند من جعله كذلك.
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}
عطف على {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من الشهود عليهم والشهود كل يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين. وليس هو من قبيل {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة.
فتعريف الشهادة لاستغراق، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمر به الشهادة الشرعية.
(28/278)
ومعنى إقامة الشهادة: إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعا مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} في سورة البقرة[282].
وقوله: {لله} ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته. وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} في سورة البقرة[282].
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
الإشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق:1]، إلى قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} .
والوعظ: التحذير مما يضر والتذكير الملين للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ}في سورة البقرة:[232] وعند قوله تعالى: : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} في سورة النور[17].
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .
اعتراض بين جملة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وجملة {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق:4] الآية، فأن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أعقب ذلك بقضية عامة، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب.
ولما كان أمر الطلاق غير حال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده أن يجعل لهم مخرجا من الضائقات شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحال فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعل منفذ في المكان المغلق بتخلص منه المتضائق فيه.
ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المخرج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضا بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار
(28/279)
فالمخرج لهم في الآخرة هو الإسراع بهم إلى النعيم.
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضا كثيرا للناس بعد التطليق، أتبع الوعد بجعل المخرج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق.
وقوله: {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} احتراس لئلا يتوهم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالا ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهئ له أسبابا غير مترقبة.
فمعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه.
و {حيث} مستعملة مجازا في الأحوال والوجوه تشبيها للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يرد منه الوارد ولذلك كانت {من} هنا للابتداء المجازي تبعا لاستعارة حيث. ففي حرف {من} استعارة تبعية. وذكر الواحدي في أسباب النزول أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذ أسر المشركون ابنه سالما فأتى عوف النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتق الله واصبر" وأمره وزوجته أن يكثرا قولا لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فساق عنزا كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} .
تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريح الكرب والخلاص من المضائق، وملاحظة المسلم ذلك ويقينه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى ويحقق وعد اله إياه بأن يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وحسب: وصف بمعنى كاف. وأصله اسم مصدر أو مصدر.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} في موضع العلة لجملة {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعدا فقد أراده وإذا أراد الله أمرا يسر أسبابه.
(28/280)
ولعل قوله {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} إشارة إلى هذا المعنى، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمة فقدر لذلك أسبابه كما قدر أسباب الأشياء كلها فلا تشكوا في إنجاز وعده فإنه إذا أراد أمرا يسر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة.
ومعنى {بَالِغُ أَمْرِهِ} : واصل إلى مراده. والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد. والأمر هنا بمعنى الشأن.
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أي بعضهم : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ}، أي فيكم وعليكم اهـ.
وقرأ الجمهور {بالغ } بالتنوين و {أمره} بالنصب. وقرأه حفص عن عاصم {بَالِغُ أَمْرِهِ} بإضافة {بالغ} إلى {أمره} .
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} .
لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} ، إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل يعرضها على ارتباك أحواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يتبع نظره فيرى بونا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس.
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيرا بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدرا.
ولها موقع التعليل لجملة {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فإن العدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها غلل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله، فلا يسوغ التهاون فيه.
ولها موقع التذييل لجملة {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدرا لا يعدوه كما جعل الحدود.
(28/281)
ولها موقع التعليل لجملة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ، لأن المعنى إذا بلغن القدر الذي جعله الله لمدة العدة فقد حصل المقصد الشرعي الذي أشار إليه قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] فالمعنى: فإن لم يحدث الله أمر المراجعة فقد رفق بكم وحط عنكم امتداد العدة.
ولها موقع التعليل لجملة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} فإن الله جعل الشهادة قدرا لرفع النزاع.
فهذه الجملة جزء آية وهي تحتوي على حقائق من الحكمة.
ومعنى {لكُلِّ شَيْءٍ} لكل موجود، أي لكل حادث فالشيء الموجود سواء كان ذاتا أو معنى من المعاني قال تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52]. فعموم قوله: {لكُلِّ شَيْءٍ} صريح في أن ما وعد الله به يجعل له حين تكوينه قدرا.
قال الراغب في مفرداته: وذلك أن فعل الله ضربان: ضرب أوجده بالفعل، ومعنى إيجاده بالفعل أنه أبدعه كاملا دفعة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يغنيه أو يبدله كالسماوات وما فيها. ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالصلاحية وقدره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون أن ينبت منها تفاح أو زيتون. وتقديره نطفة الإنسان لأن يكون منها إنسان دون حيوان آخر. فتقدير الله على وجهين: أحدهما بالحكم منه أن تكون كذا أو لا يكون كذا: إما على سبيل الوجوب وإما على سبيل الإمكان. وعلى ذلك قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} . والثاني بإعطاء القدرة عليه، وعلى ذلك قوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات:23] أو يكون من قبيل قوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} اهـ.
والقدر: مصدر قدره المتعدي إلى مفعول بتخفيف الدال الذي معناه وضع فيه بمقدار كمية ذاتية أو معنوية تجعل على حسب ما يتحمله المفعول. فقدر كل مفعول لفعل قدر ما تتحمله طاقته واستطاعته من أعمال، أو تتحمله مساحته من أشياء أو يتحمله وعيه لما يكد به ذهنه من مدارك وأفهام. ومن فروع هذا المعنى ما في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في سورة البقرة [286]. وقوله هنا {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
ومن جزئيات معنى القدر ما يسمى التقدير: مصدر قدر المضاعف إذا جعل شيئا أو
(28/282)
أشياء على مقدار معين مناسب لما جعل لأجله كقوله تعالى: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} في سورة سبأ[11].
[4 ،5] {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} .
عطف على قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1] فإن العدة هنالك أريد بها الإقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة. وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض، أي في ذلك الوقت.
والوقف على قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} ، أي هن معطوفات على الآيسين.
واليأس: عدم الأمل. والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق:1]، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع. وهذا السن يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك. وقد اختلف في تحديد هذا السن بعدد السنين فقيل: ستون سنة، وقيل: خمس وخمسون، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبان اليأس.
والمقصود من الآية بين وهي مخصصة لعموم قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} من سورة البقرة[228]. وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.
وقد خفي مفاد الشرط من قوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} وما هو متصل به. وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلا بالكلام الذي وقع هو في أثنائه، وإنه ليس متصلا بقوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] في أول هذه السورة خلافا لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام، ثم خفي المراد من هذا الشرط بقوله {إِنِ ارْتَبْتُمْ} .
وللعلماء فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف
(28/283)
المتعلق، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القروء وذوات الحمل، أي في سورة البقرة، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أمرهما فنزلت هذه الآية. ومثله مروي عن مجاهد، وروى الطبري حبرا عن أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة، فنزلت هذه الآية. فجعلوا حرف {إن} بمعنى إذ وأن الاتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيناه بهذه الآية قال ابن العربي: حديث أبي غير صحيح. وأنا أقول: رواه البيهقي في سنته والحاكم في المستدرك وصححه . والطبراني بسنده عن عمرو بن سالم أن أبيا قال: وليس في رواية الطبري ما يدل على إسناد الحديث.
وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عمر بن سالم الأنصاري1 عن أبي بن كعب وهو منقطع، لأن أبا عثمان لم يلق أبي بن كعب وأحسب أنه في مستدرك الحاكم كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي: هو غير صحيح. فإن رجال سنده ثقات.
وفي أسباب النزول للواحدي عن قتادة أن خلاد2 بن النعمان وأبيا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية. وقيل: إن السائل معاذ بن جبل سأل عن عدة الآيسة.
فالريبة على هذه الطريقة تكون مرادا بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدإ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} .
والفاء في {فعدتهن} داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] ومثله كثير في الكلام.
والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون {إن} مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة.
والطريقة الثانية: مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الاتياب واحد، وهو حالة المطلقة من المحيض، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير
ـــــــ
1 هو قاضي مرو، وروى عن القاسم بن محمد.
2 خلاد بخاء معجمة في أوله ابن النعمان الأنصاري. قال في الإصابة : لم يذكر إلا في تفسير مقاتل.
(28/284)
وإسماعيل بن هاد من المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى داود الظاهري.
وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة.
وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خبر عن {اللَّائِي يَئِسْنَ} ، أي إن ارتبن هن وارتبتم أنتم لأجل ارتيابهن، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليبا ويبقى الشرط على شرطيته. والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب.
وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطا بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطدم أصحابه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلا فنسب ابن لبابة من فقهاء المالكية إلى داود الظاهري أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يوقن أنها يائسة.
قلت ولا تعرف نسبة هذا إلى داود. فإن ابن حزم: لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء، قال ابن لبابة: وهو شذوذ، وقال ابن لبابة: وأما ابن بكير وإسماعيل بن جماد، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقن يأسها ملحقة بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم، وانتظار المراجعة، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه.
وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها: فقال عكرمة وابن زيد وقتادة: ليس على المرأة المرتاب في معودة الحيض إليها عدة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقا بظاهر للآية ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبين فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة، لأن الحمل بعد سن اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية.
وقال الأكثرون من أهل العلم: إن المرتاب في ]أسها نمكث تسعة أشهر أي أمد الحمل المعتاد فإن لم يظهر بها حمل ابتدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنة كاملة. وأصل ذلك ما رواه سعيد بن المسيب من قضاء عمر بن الخطاب ولم يخالف أحد من الصحابة، وأخذ به مالك. وعن مالك في المدونة : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة. ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها عمر بن الخطاب لعله بالاجتهاد، وهو تقييد للإطلاق
(28/285)
الذي في الآية.
وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة الشافعي: تعتد المرتاب في يأسها بالإقراء أي تنتظر الدم إلى أن يبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة انتظارها على تسعة أشهر. فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدت بثلاثة أشهر من يومئذ. ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام: فعدتهن ثلاثة أشهر، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبد، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتد. إلا أن نعتذر لهم بأن مدو الانتظار لا يتحفز في خلالها المطلق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيزاد في المدة لأجل ذلك، وفي تفسير القرطبي: قال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض في أول الشهر مرارا، وفي الأشهر مرة أي بدون انضباط اهـ. ونقل الطبري مثل هذا الكلام عن الزهري وابن زيد، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية. والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها الحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غبا بدون انتظام ثم ينقطع تماما.
وقوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} عطف على {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} والتقدير: عدتهن ثلاثة أشهر. ويحسن الوقف على قوله: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} .
{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
معطوفة على جملة {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} فهي إتمام العدة المجمل في قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وتقدير الكلام: وأولات الأحمال منهن، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن.
فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضا منها بيان الإجمال الآية التي في سورة البقرة.
{وأولات} اسم جمع لذات بمعنى: صاحبة. وذات: مؤنث ذو، بمعنى: صاحب. ولا مفرد ل {أولات} من الفظه كما لا مفرد للفظ "أولو" و {أولات} مثل ذوات كما أن أولو مثل ذوو. ويكتب {أولات} بواو بعد الهمزة في الرسم تبعا لكتابة لفظ "أولو" بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولى في حالة النصب والجر وبين حرف "إلى". وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو
(28/286)
المجرور وتركوا التكلف في غيرهما.
وجعلت عدة المطلقة الحامل منهاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولد للمطلق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له. وضم إلى ذلك غرض آخر وهو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة، فلما حصل الأهم ألغي ما عداه رعيا لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار، على أن الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلا بالغالب دون النادر، خلافا لمن قال في المتوفى عنها: عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس.
وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة البقرة [234] {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . لأن تلك في واد وهذه في واد، تلك شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات.
ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرة حكمته في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولد له إذ لا فائدة فيه غير ذلك ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بيناه في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الخ في سورة البقرة[234].
وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحامل إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشرا كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك.
من أجل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة في وفاة.
ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم: إن عدة الحامل المتوفى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العام المتأخر منهما ينسخ العام الآخر وهي طريقة المتقدمين.
(28/287)
روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن علي بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفى عنها: إن عليها أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر قال ابن مسعود: لنزلت سورة النساء القصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة، أي ليست ىية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق. ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفى زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملا فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة. فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التزوج فقال لها: "قد حللت فانكحي إن شئت". روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم. وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفا.
واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمرجح والحنفية جعلوا المتأخر من العمودين ناسخا للمتقدم. فقوله {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة الطلاق أو في عدة وفاة، وقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] تعم كل امرأة تركها الميت سواء كانت حاملا أو غير حامل، لأن {أواجا} نكرة وقعت مفعول الصلة وهي {يذرون} المشتملة على ضمير الموصول الذي هو عام فمفعوله تبع له عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم {أُولاتُ الْأَحْمَالِ} فتعارض العمومان كل من وجه، فآية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشرا. وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل.
فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} على عموم {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:234] من وجوه.
أحدها أن عموم{وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} حاصل بذات اللفظ لأن الموصل مع صلته من صيغ العموم، وأما قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} فإن {أزواجا} نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعا لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض.
(28/288)
وثانيها: أن الحكم في عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة، فما كان عمومه معللا بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل.
وثالثها: قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة سبيعة الأسلمية.
وذهب الحنيفية إلى أن عموم {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} ناسخ لعموم قوله {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة:234] في مقدار ما تعارضا فيه.
ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها.
والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفى عنها إن لم تكن حاملا ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشر.
وقال قليل من أهل العلم بالجمع الآيتين بما يحقق العمل بهما معا فأوجبوا على الحامل المتوفى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر. وأجل وضع الحمل، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس. وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخر وزيادة فيصير معنى هذه الآية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ما لم تكن في عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفين يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حوامل فيزدن تربصا إلى وضع الحمل. ولا يجوز تخصيص عموم {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] بما في آية {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفى عنهن، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عدة زوجها، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى.
وفي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عظم من الأنصار أي بالكوفة وفيهم عبد الرحمان بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظونه فذكر آخر الأجلين، فحدثت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمان
(28/289)
لكن عمه أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود كان لا يقول ذلك أي لم يحدثنا به فقلت: إني إذن لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة وكان عبد الله بن عتبة ساكنا بظاهر الكوفة فخرجت فلقيت عامرا أو مالك بن عوف فقلت: كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: قال ابن مسعود: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى أي البقرة.
وفي البخاري عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال: أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس: آخر الأجلين. فقلت أنا {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي أي مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتل كذا والتحقيق أنه مات حجة الوداع زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله. وقد قال بعضهم: إن ابن عباس رجع عن قوله. ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
تكرير للموعظة وهو اعتراض. والقول فيه كالقول في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [2، 3]. والمقصود موعظة الرجال والنساء على الأخذ بما في هذه الأحكام مما عسى أن يكون فيه مشقة على أحد بأن على كل أن يصبر لذلك امتثالا لأمر الله فإن الممتثل وهو مسمى المتقي يجعل الله له يسرا فيما لحقه من عسر.
والأمر: الشأن والحال. والمقصود: يجعل له من أمره العسير في نظره يسرا بقرينة جعل اليسر لأمره.
و {من} للابتداء المجازي المراد به المقارنة والملابسة.
واليسر: انتفاء الصعوبة، أي انتفاء المشاق والمكروهات.
والمقصود من هذا تحقيق الوعد باليسر فيما شأنه العسر لحث الأزواج على امتثال ما أمر الله به الزوج من الإنفاق في مدة العدة ومن المراجعة وترك منزله لأجل سكناها إذا كان لا يسعهما وما أمر المرأة من تربص أمد العدة وعدم الخروج ونحو ذلك.
(28/290)
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ} إلى الأحكام المتقدمة من أول السورة. وهذه الجملة معترضة بين المتعاطفتين.
والأمر في قوله {أَمَرَ اللَّهُ} : حكمه وما شرعه لكم كما قال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
وإنزاله: إبلاغه إلى الناس بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم أطلق عليه الإنزال تشبيها لشرف معانيه وألفاظه بالشيء الرفيع لأن الشريف يتخيل رفيعا. وهو استعارة كثيرة في القرآن. ففي قوله: {أَنْزَلَهُ} استعارة مكنية.
والكلام كناية عن الحث على التهمم برعايته والعمل به وبعث الناس على التنافس في العلم به إذ قد اعتنى الله بالناس حيث أنزل إليهم ما فيه صلاحهم.
وأعيد التحريض على العمل بما أمر الله بالوعد بما هو أعظم من الأرزاق وتفريج الكرب وتيسر الصعوبات في الدنيا. وذلك هو تكفير للسيئات وتوفير الأجور.
والجملة معطوفة على الجملة المعترضة فلها حكم الاعتراض.
وجيء بالوعد من الشرط لتحقيق تعليق الجواب على شرطه.
[6] {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} .
هذه الجملة وما ألحق بها من الجمل إلى قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ} [الطلاق: 8] الخ.
تشريع مستأنف فيه بيان لما أجمل في الآيات السابقة من قوله: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وقوله: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:2]، وقوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فتتنزل هذه الجمل من اللاتي قبلها منزلة البيان لبعض، ويدل الاشتمال لبعض وكل ذلك مقتضى للفصل. وابتدئ ببيان ما في {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] من إجمال.
والضمير المنصوب في {أسكنوهن} عائد إلى النساء المطلقات في قوله: {إذا طلقتم} [الطلاق:1]. وليس فيما تقدم من الكلام ما يصلح لأن يعود عليه هذا الضمير إلا لفظ النساء وإلا لفظ {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ} [الطلاق: 4]، ولكن لم يقل أحد بأن الإسكان
(28/291)
خاص بالمعتدات الحوامل فإنه ينافي قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ} [الطلاق:1] فتعين عود الضمير إلى النساء المطلقات كلهن، وبذلك يشمل المطلقة الرجعية والبائنة والحامل، لما علمته في أول السورة من إرادة الرجعية والبائنة من لفظ {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1].
وجمهور أهل العلم قائلون بوجوب السكنى لهن جميعا. قال أشهب: قال مالك يخرج عنها إذا طلقها وتبقى هي في المنزل. وروى ابن نافع قال مالك: فأما التي لم تبن فإنها زوجة يتوارثان والسكنى لهن لازمة لأزواجهن اهـ. يريد أنها مستغنى عن أخذ حكم سكناها من هذه الآية. ولا يريد أنها ميتثناة من حكم الآية. وقال قتادة وابن أبي ليلى وإسحاق وأبو ثور وأحمد بن حنبل: لا سكنى للمطلقة طلاقا بائنا. ومتمسكهم في ذلك ما روته فاطمة بنت قيس: أن زوجها طلقها ثلاثا وأن أخا زوجها منعها من السكنى والنفقة، وأنها رفعت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة". وهو حديث غريب لم يعرفه أحد إلا من رواية فاطمة بنت قيس. ولم يقبله عمر بن الخطاب. فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أو شبه عليها. وأنكرته عائشة على فاطمة بنت قيس فيما ذكرته من أنه أذن لها في الانتقال إلى مكان غير الذي طلقت فيه كما تقدم.
وروي أن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن للمطلقة البائنة سكنى"1. ورووا أن قتادة وابن أبي ليلى أخذا بقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1] إذ الأمر هو المراجعة، فقصرا الطلاق في قوله {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق:1]، على الطلاق الرجعي لأن البائن لا تترقب بعده مراجعة وسبقها إلى هذا المأخذ فاطمة بنت قيس المذكورة.
روى مسلم أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن الحديث فحدثته فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من المرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا عليها الناس فبلغ قول مروان فاطمة بنت قيس فقالت: بيني وبينكم القرآن، قال الله عز وجل {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} ، إلى قوله {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق:1]. قالت: هذا لمن كانت له رجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث اهـ.
ويرد على ذلك أن إحداث الأمر ليس قاصرا على المراجعة فإن من الأمر الذي يحدثه الله أن يرفق قلوبهما فيرغبا معا في إعادة المعاشرة بعقد جديد. وعلى تسليم اقتصار
ـــــــ
1 هكذا يروي المفسرون عن عمر: أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم أقف عليه مسندا.
(28/292)
ذلك على إحداث أمر المراجعة فذكر هذه الحكمة لا يقتضي تخصيص عموم اللفظ الذي قبلها إذ يكفي أن تكون حكمة لبعض أحوال العام. فالصواب أن حق السكنى للمطلقات كلهن، وهو قول جمهور العلماء.
وقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ، أي في البيوت التي تسكنونها، أي لا يكلف المطلق بمكان للمطلقة غير بيته ولا يمنعها السكنى ببيته. وهذا تأكيد لقوله {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1].
فإذا كان المسكن لا يسع مبيتين متفرقين خرج المطلق منه وبقيت المطلقة، كما تقدم فيما رواه أشهب عن مالك.
و {من} الواقعة في قوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} للتبعيض، أي في بعض ما سكنتم ويؤخذ منه أن المسكن صالح للتبعيض بحسب عرف السكنى مع تجنب التقارب في المبيت إن كانت غير رجعية، فيؤخذ منه أنه إن لم يسعهما خرج الزوج المطلق.
و {من} في قوله {مِنْ وُجْدِكُمْ} بدل مطابق، وهو بيان لقوله {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} فإن مسكن المرء هو وجده الذي وجده غالبا لمن لم يكن مقترا على نفسه.
والوجد: مثلث الواو هو الوسع والطاقة. وقرأه الجمهور بضم الواو. وقرأه روح عن يعقوب بكسرها.
{وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} .
أتبع الأمر بإسكان المطلقات بنهي عن الإضرار بهن في شيء مدة العدة من ضيق محل أو تقتير في الإنفاق أو مراجعة يعقبها تطليق لتطويل العدة عليهن قصدا للكناية والتشفي كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} في سورة البقرة [231]. أو للإلجاء إلى افتدائها من مراجعته بخلع.
والضارة: الإضرار القوي فكأن المبالغة راجعة إلى النهي لا إلى المنهي عنه، أي هو نهي شديد كالمبالغة في قوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] في أنها مبالغة في النفي ومثله كثير في القرآن.
والمراد بالتضييق: التضييق المجازي وهو الحرج والأذى.
واللام في {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} لتعليل الإضرار وهو قيد جرى على غالب ما يعرض
(28/293)
للمطلقين من مقاصد أهل الجاهلية، كما تقرر في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا} [البقرة:231] وإلا فإن الإضرار بالمطلقات منهي عنه وإن لم يكن لقصد التضييق عليهن.
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
ضمير {كن} يعود إلى ما عاد إليه ضمير {أسكنوهن} كما هو شأن ترتيب الضمائر، وكما هو مقتضى عطف الجمل، وليس عائدا على خصوص النساء الساكنات لأن الضمير لا يصلح لأن يكون معادا لضمير آخر.
وظاهر نظم الآية يقتضي أن الحوامل مستحقات الإنفاق دون بعض المطلقات أخذا بمفهوم الشرط، وقد أخذ بذلك الشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى.
ولكن المفهوم معطل في المطلقات الرجعيات لأن إنفاقهن ثابت بأنهن زوجات. ولذلك قال مالك: إن ضمير {أسكنوهن} للمطلقات البوائن كما تقدم. ومن لم يأخذ بالمفهوم قالوا الآية تعرضت للحوامل تأكيدا للنفقة عليهن لأن مدة الحمل طويلة فربما سئم المطلق الإنفاق، فالمقصود من هذه الجملة هو الغاية التي بقوله: {حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وجعلوا للمطلقة غير ذات الحمل الإنفاق. وبه أخذ أبو حنيفة والثوري. ونسب إلى عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما.
وهذا الذي يرجح هو هذا القول وليس للشرط مفهوم وإنما الشرط مسوق لاستيعاب الإنفاق جميع أمد الحمل.
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} .
لما كان الحمل ينتهي بالوضع انتقل إلى بيان ما يجب لهن بعد الوضع فإنهن بالوضع يصرن بائنات فتنقطع أحكام الزوجية فكان السامع بحيث لا يدري هل يكون إرضاعها ولدها حقا عليها كما كان في زمن العصمة أو حقا على أبيه فيعطيها أجر إرضاعها كما كان يعطيها النفقة لأجل ذلك الولد حين كان حملا. وهذه الآية مخصصة لقوله في سورة البقرة.[233] {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} الآية.
وأفهم قوله {لكم} أن إرضاع الولد بعد الفراق حق على الأب وحده لأنه كالإنفاق والأم ترضع ولدها في العصمة تبعا لإنفاق أبيه عليها عند مالك خلافا لأبي حنيفة
(28/294)
والشافعي، إذ قالا: لا يجب الإرضاع على الأم حتى في العصمة فلما انقطع إنفاق الأب عليها بالبينونة تمحضت إقامة غذاء ابنه عليه فإن أرادت أن ترضعه فهي أحق بذلك، ولها أجر الإرضاع وإن أبت فعليه أن يطلب ظئرا لابنه فإن كان الطفل غير قابل ثدي غير أمه وجب عليها إرضاعه ووجب على أبيه دفع أجرة رضاعه.
وقال أبو ثور: يجب إرضاع الابن على أمه ولو بعد البينونة. نقله عنه أبو بكر ابن العربي في الأحكام وهو عجيب. وهذه الآية أمامه.
والائتمار: التشاور والتداول في النظر. وأصله مطاوع أمره لأن المتشاورين يأمر أحدهما الآخر فيأتمر الآخر بما أمره. ومنه تسمية مجامع أصحاب الدعوة أو النحلة أو القصد الموحد مؤتمرا لأنه يقع الاستئمار فيه، أي التشاور وتداول الآراء.
وقوله {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ} خطاب للرجال والنساء الواقع بينهم الطلاق ليتشاوروا في أمر إرضاع الأم ولدها. وما يبذله الأب لها من الأجرة على ذلك.
وقيد الائتمار بالمعروف، أي ائتمرا ملابسا لما هو المعروف في مثل حالهم وقومهم، أي معتاد مقبول، فلا يشتط الأب في الشح ولا تشتط الأم في الحرص.
وقوله {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} عتاب وموعظة للأب والأم بأن ينزل كل منهما نفسه منزلة ما لو اجتلبت للطفل ظئر، فلا تسأل الأم أكثر من أجر أمثالها، ولا يشح الأب عما يبلغ أجر أمثال أم الطفل، ولا يسقط حق الأم إذا وجد الأب من يرضع له مجانا لأن الله قال {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} وإنما يقال أرضعت له، إذا استؤجرت لذلك، كما يقال: استرضع أيضا، إذا آجر من يرضع له ولده. وتقدم في سورة البقرة قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} [233] الآية.
والتعاسر صدور العسر من الجانبين. وهو تفاعل من قولكم: عسرت فلانا، إذا أخذته على عسره، ويقال: تعاسر البيعان إذا لم يتفقا.
فمعنى {تَعَاسَرْتُمْ} اشتد الخلاف بينكم ولم ترجعوا إلى وفاق، أي فلا يبقى الولد بدون رضاعة.
وسين الاستقبال مستعمل في معنى التأكيد، كقوله {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف[98]. وهذا المعنى ناشئ عن جعل علامة الاستقبال كناية عن تجدد ذلك الفعل في أزمنة المستقبل تحقيقا لتحصيله.
(28/295)
وهذا الخبر مستعمل كناية أيضا عن أمر الأب باستئجار ظئر للطفل بقرينة تعليق {له} . بقوله {فسترضع} .
فاجتمع فيه ثلاث كنايات: كناية عن موعظة الأب، وكناية عن موعظة الأم، وكناية عن أمر الأب بالاسترضاع لولده.
[7] {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} .
تذييل لما سبق من أحكام الإنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعم ذلك. ويعم كل إنفاق يطالب به المسلم من مفروض ومندوب، أي الإنفاق على قدر السعة.
والسعة: هي الجدة من المال أو الرزق.
والإنفاق: كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يحتاج إليه.
و {من} هنا ابتدائية لأن الإنفاق يصدر عن السعة في الاعتبار، وليست {من} هذه ك {من} التي في قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الأنفال:3] لأن النفقة هنا ليست بعضا من السعة، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون {من} من قوله: {فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} تبعيضية.
ومعنى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ} جعل رزقه مقدورا، أي محدودا بقدر معين وذلك كناية عن التضييق. وضده {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:40]، يقال: قدر عليه رزقه، إذا قتره، قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} وتقدم في سورة الرعد[26] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإنفاق ومراتبه في التقديم. وهذا مجمل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان: "خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف".
والمعروف: هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة.
والرزق: اسم لما ينتفع به الإنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل. سواء كان أعيانا أو أثمانا. ويطلق الرزق كثيرا على الطعام كما في قوله تعالى: {عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس
(28/296)
والأزمان والبلاد. وإنما اختلفوا في التوسع في الإنفاق في مال المؤسر هل يقضي عليه بالتوسعة على من ينفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافا في أحوال الناس وعوائدهم ولا بد من اعتبار حال المنفق عليه ومعتاده، كالزوجة العالية القدر. وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: "ما يكفيك وولدك بالمعروف".
وجملة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} تعليل لقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} . لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} في سورة البقرة[286]، وهي قبل سورة الطلاق.
والمقصود منه إقناع المنفق عليه بأن لا يطلب من المنفق أكثر من مقدرته. ولهذا قال علماؤنا: لا يطلق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشطف، أي دون ضر.
و {مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان من يجب عليه الإنفاق قادرا على الاكتساب لينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمل له ما ضاق عنه ماله، يجبر على الاكتساب. وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين. وقد قال عمر بن الخطاب: وأن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين، افتاركهم أينا، رواه مالك في الموطأ.
وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف. فمن الفقهاء من رأى ذلك موجبا للتفرقة بينهما بعد أجل رجاء يسر الزوج وقدر بشهرين، وهو قول مالك. ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة، أي وتنفق من بيت مال المسلمين.
والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائما فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يتوصل إلى الإنفاق من بيت المال كان حقا أن يفرق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوجها في احتياج. ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه.
وجملة {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} تكملة للتذييل فإن قوله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} يناسب مضمون جملة {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} .
وقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ} الخ تناسب مضمون {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} الخ. وهذا
(28/297)
الكلام خبر مستعمل في بعث الترجي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال. ومعناه: عسى أن يجعل الله بعد عسركم يسرا لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسرا. وهذا الخبر لا يقتضي إلا أن من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسرا لهم، فمن كان في عسر رجا أن يكون ممن يشمله فضل الله، فيبدل عسره باليسر.
وليس في هذا الخبر وعد لكل معسر بأن يصير عسره يسرا. وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر، أو وعد للمنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحون بشيء مما يسعه مالهم. وانظر قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5].
ومن بلاغة القرآن الإتيان ب "عسر ويسرا" نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
[8، 11] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً فذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
[8، 9] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً َفذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} .
لما شرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاق ولواحقه، وكانت كلها تكاليف قد تحجم بعض الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلا أو تقصيرا رغب في الامتثال لها بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] وقوله: {َ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4]، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5]، وقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7].
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1]، وقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } [الطلاق: 2] أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية
(28/298)
بمراقبتهم، لأن الصغير يثير الجليل، فذكر المسلمين وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم بما حل بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة، فيلقي بهم ذلك في مهواة الضلال.
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} الآيات فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض.
و {كَأَيِّنْ} اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و {كَأَيِّنْ} بمعنى كم الخبرية. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في آل عمران[146].
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لجزائهم على عتوهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم.
و {كأين} في موضع رفع على الابتداء، وهو مبني.
وجملة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا} في موضع الخبر ل {كأين} .
والمعنى: الإخبار بكثرة 1لك باعتبار ما فرع عليه من قوله: {فَحَاسَبْنَاهَا} فالمفرع هو المقصود من الخبر.
والمراد بالقرية: أهلها على حد قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82]
بقرينة قوله عقب ذلك {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيدا} إذ جيء بضمير جمع العقلاء.
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضا بالمشركين من أهل مكة ومشايعة لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4].
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوهم.
والعتو ويقال العتي: تجاوز الحد في الاستكبار والعناد. وضمن معنى الإعراض فعدي بحرف {عن} .
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب، تشبيها لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين، وهو الحساب في الدنيا، ولذلك جاء
(28/299)
{فَحَاسَبْنَاهَا} و {عذبناها} بصيغة الماضي.
والمعنى: فجازيناها على عتوها جزاء يكافئ طغيانها.
والعذاب النكر: هو عذاب الاستئصال بالغرق، والخسف، والرجم، ونحو ذلك.
وعطف العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به.
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة. وشدته قوة المناقشة فيه والانتهار على كل سيئة يحاسبون عليها.
والعذاب: عذاب جهنم، ويكون الفعل الماضي مستعملا في معنى المستقبل تشبيها للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، وقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44].
والنكر بضمتين، وبضم فسكون: ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا.
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {نكرا} بضمتين. وقرأه الباقون بسكون الكاف. وتقدم في سورة الكهف.
والفاء في قوله: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} لتفريع {فَحَاسَبْنَاهَا} {وَعَذَّبْنَاهَا} .
والذوق: هنا الإحساس مطلقا، وهو مجاز مرسل.
والوبيل: صفة مشبهة. يقال: وبل بالضم : المرعى، إذا كان كلأه وخيما ضارا لما يرع اهـ.
والأمر: الحال والشأن، وإضافة الوبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه.
وعاقبة الأمر: آخره وأثره. وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله: {أعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} .
وشبهت عاقبتهم السوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضوا أنفسهم بإعراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره.
(28/300)
وجيء بفعل {كان} بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليبا. وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه.
وجملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً} بدل اشتمال من جملة {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} أو بدل بعض من كل.
والمراد عذاب الآخرة لأن الإعداد التهيئة وإنما يهيأ الشيء الذي لم يحصل.
وإن جعلت الحساب والعذاب المذكورين آنفا حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفا فجملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} استئنافا لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30]
{فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا} .
هذا التفريع المقصود على التكاليف السابقة وخاصة على قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1] وهو نتيجة ما مهد له به من قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} .
وفي نداء المؤمنين بوصف {أُولِي الْأَلْبَابِ} إيماء إلى أن العقول الراجحة تدعو إلى تقوى الله لأنها كمال نفساني، ولأن فوائدها حقيقية دائمة، ولأن بها اجتناب المضار في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ألَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62، 63]، وقوله: {أولي} معناه ذوي، وتقدم بيانه عند قوله {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] آنفا، و {الَّذِينَ آمَنُوا} بدل من {أُولِي الْأَلْبَابِ} . وهذا الاتباع يومئ إلى أن قبولهم الإيمان عنوان على رجاحة عقولهم. والإتيان بصلة الموصول إشعار بأن الإيمان سبب للتقوى وجامع لمعظمها ولكن للتقوى درجات هي التي أمروا بأن يحيطوا بها.
{قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}
في هذه الجملة معنى العلة للأمر بالتقوى لأن إنزال الكتاب نفع عظيم لهم مستحق شكرهم عليه.
وتأكيد الخبر ب {قد} للاهتمام به وبعث النفوس على تصفح هذا الكتاب ومتابعة
(28/301)
إرشاد الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذكر: القرآن. وقد سمي بالذكر في آيات كثيرة لأنه يتضمن تذكير الناس بما هم في غفلة عنه من دلائل التوحيد وما يتفرع عنها من حسن السلوك، ثم تذكيرهم بما تضمنه من التكاليف وبيناه عند قوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة الحجر[6]. وأنزل القرآن تبليغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك واستعير له الإنزال لأن الذكر مشبه بالشيء المرفوع في السماوات، كما تقدم في سورة الحجر وفي آيات كثيرة.
وجعل إنزال الذكر إلى المؤمنين لأنهم الذين انتفعوا به وعلموا بما فيه فخصصوا هنا من بين جميع الأمم لأن القرآن أنزل إلى الناس كلهم.
وقوله: {رسولا} بدل من {ذكرا} بدل اشتمال لأن بين القرآن والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ملازمة وملابسة فإن الرسالة تحققت له عند نزول القرآن عليه، فقد أعمل فعل {أنزل} في {رسولا} تبعا لإعماله في المبدل منه باعتبار هذه المقارنة واشتمال مفهوم أحد الاسمين على مفهوم الآخر. وهذا كما أبدل {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ} [البينة:2] من قوله: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} في سورة البينة[1].
والرسول: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسير الذكر بجبريل، وهو مروي عن الكلبي لتصحيح إبدال {رسولا} منه ففيه تكلفات لا داعي إليها فإنه لا محيص عن اعتبار بدل الاشتمال، ولا يستقيم وصف جبريل بأنه يتلو على الناس الآيات فإن معنى التلاوة بعيد من ذلك، وكذلك تفسير الذكر بجبريل.
ويجوز أن يكون {رسولا} مفعولا لفعل محذوف يدل عليه {أَنْزَلَ اللَّهُ} وتقديره: وأرسل إليكم رسولا، ويكون حذفه إيجازا إلا أن الوجه السابق أبلغ وأوجز.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم {مبينات} بفتح الياء. وقرأه الباقون بكسرها ومآل القراءتين واحد.
وجعلت علة إنزال الذكر إخراج المؤمنين الصالحين من الظلمات إلى النور وإن كانت علة إنزاله إخراج جميع الناس من ظلمات الكفر وفساد الأعمال إلى نور الإيمان والأعمال الصالحات، نظرا لخصوص الفريق الذي انتفع بهذا الذكر اهتماما بشأنهم. وليس ذلك بدال على أن العلة مقصورة على هذا الفريق ولكنه مجرد تخصيص بالذكر. وقد تقدم نظير هذه الجملة في مواضع كثيرة منها أول سورة الأعراف.
(28/302)
{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
عطف على الأمر بالتقوى والتنويه بالمتقين والعناية بهم هذا الوعد على امتثالهم بالنعيم الخالد بصيغة الشرط للدلالة على أن ذلك نعيم مقيد حصوله لراغبيه بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات.
و{صالحا} نعت لموصوف محذوف دل عليه {يعمل} أي عملا صالحا، وهو نكرة في سياق الشرط تفيد العموم كإفادته في سياق النفي. فالمعنى: ويعمل جميع الصالحات، أي المأمور بها أمرا جازما بقرينة استقراء أدلة الشريعة.
وتقدم نظير هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.
وجملة {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} حال من الضمير المنصوب في {ندخله} ولذلك فذكر اسم الجلالة إظهار في مقام الإضمار لتكون الجملة مستقلة بنفسها.
والرزق: كل ما ينتفع به وتنكيره هنا للتعظيم، أي رزقا عظيما.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر {ندخله} بنون العظمة. وقرأه الباقون بالتحتية على أنه عائد إلى اسم الجلالة من قوله {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} وعلى قراءة نافع وابن عامر يكون فيه سكون الالتفات.
[12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
اسم الجلالة خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو الله. وهذا من حذف المسند إليه لمتابعة الاستعمال كما سماه السكاكي، فإنه بعد أن جرى ذكر شؤون من عظيم شؤون الله تعالى ابتداء من قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق:1] إلى هنا، فقد تكرر اسم الجلالة وضميره والإسناد إليه زهاء ثلاثين مرة فاقتضى المقام عقب ذلك أن يزاد تعريف الناس بهذا العظيم، ولما صار البساط مليئا بذكر اسمه صح حذفه عند الإخبار عنه إيجازا وقد تقدم عند قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} في سورة مريم[65]، وكذلك عند قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18]، وقوله: {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} في سورة البقرة [125].
فالجملة على هذا الوجه مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
(28/303)
والموصول صفة لاسم الجلالة وقد ذكرت هذه الصلة لما فيها من الدلالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى أن الناس وهم من جملة ما في الأرض عبيده، فعليهم أن يتقوه، ولا يتعدوا حدوده، ويحاسبوا أنفسهم على مدى طاعتهم إياه فإنه لا تخفى عليه خافية، وأنه قدير على إيصال الخير إليهم إن أطاعوه وعقابهم إن عصوه.
وفيه تنويه بالقرآن لأنه من جملة الأمر الذي يتنزل بين السماء والأرض.
والسبع السماوات تقدم القول فيها غير مرة، وهي سبع منفصل بعضها عن الآخر لقوله تعالى: في سورة نوح[15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
وقوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} عطف على {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} وهو يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون المعطوف قوله {مِنَ الْأَرْضِ} على أن يكون المعطوف لفظ الأرض ويكون حرف {من} مزيدا للتوكيد بناء على قول الكوفيين والأخفش أنه لا يشترط لزيادة {من} أن تقع في سياق النفي والنهي والاستفهام والشرط وهو الأحق بالقبول وإن لم يكن كثيرا في الكلام، وعدم الكثرة لا ينافي الفصاحة، والتقدير: وخلق الأرض، ويكون قوله: {مثلهن} حالا من {الأرض} .
ومماثلة الأرض للسماوات في دلالة خلقها على عظيم قدرة الله تعالى، أي أن خلق الأرض ليس أضعف دلالة على القدرة من خلق السماوات لأن لكل منهما خصائص دالة على عظيم القدرة.
وهذا أظهر ما يؤول به الآية.
وفي إفراد لفظ {الأرض} دون أن يؤتى به جمعا كما أتي بلفظ السماوات إيذان بالاختلاف بين حاليهما.
الوجه الثاني: أن يكون المعطوف {مثلهن} ويكون قوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ} بيانا للمثل فما صدق {مثلهن} هو {الأرض} . وتكون {من} بيانية وفيه تقديم البيان على المبين، وهو وارد غير نادر.
فيجوز أن تكون مماثلة في الكروية، أي مثل واحدة من السماوات، أي مثل كوكب من الكواكب السبعة في كونها تسير حول الشمس مثل الكواكب فيكون ما في الآية من الإعجاز العلمي الذي قدمنا ذكره في المقدمة العاشرة.
(28/304)
وجمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا: إن الأرض سبع طبقات فمنهم من قال هي سبع طبقات منبسطة تفرق بينها البحار. وهذا مروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، ومنهم من قال هي سبع طباق بعضها فوق بعض وهو قول الجمهور. وهذا يقرب من قول علماء طبقات الأرض الجيولوجيا، من إثبات طبقات أرضية لكنها لا تصل إلى سبع طبقات.
وفي الكشاف قيل ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه اهـ. وقد علمت أنها لا دلالة فيها على ذلك.
وقال المازري في كتابة المعلم على صحيح مسلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الشفعة: "من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين يوم القيامة".
كان شيخنا أبو محمد عبد الحميد كتب إلي بعد فراقي له هل وقع في الشرع عما يدل على كون الأرض سبعا، فكتبت إليه قول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} وذكرت له هذا الحديث فأعاد كتابه إلي يذكر فيه أن الآية محتملة هل مثلهن في الشكل والهيئة أو مثلهن في العدد. وأن الخبر من أخبار الآحاد، والقرآن إذا احتمل والخبر إذا لم يتواتر لم يصح القطع بذلك، والمسألة ليست من العمليات فيتمسك فيها بالظاهر وأخبار الآحاد، فأعدت إليه المجاوبة أحتج لبعد الاحتمال عن القرآن وبسطت القول في ذلك وترددت في آخر كتابي في احتمال ما قال. فقطع المجاوبة اهـ.
وأنت قد تبينت أن إفراد الأرض مشعر بأنها أرض واحدة وأن المماثلة في قوله: {مثلهن} راجعة إلى المماثلة في الخلق العظيم، وأما الحديث فإنه في شأن من شؤون الآخرة وهي مخالفة للمتعارف، فيجوز أن يطوق الغاصب بالمقدار الذي غصبه مضاعفا سبع مرات في الغلظ والثقل، على أن عدد السبع يجوز أن يراد به المبالغة في المضاعفة. ولو كان المراد طبقات معلومة لقال: طوقه من السبع الأرضين بصيغة التعريف. كلام عبد الحميد أدخل في التحقيق من كلام المازري.
وعلى مجاراة تفسير الجمهور لقوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} من المماثلة في عدد السبع، فيجوز أن يقال: إن السبع سبع قطع واسعة من سطح الأرض يفصل بينها البحار نسميها القارات ولكن لا نعني بهذه التسمية المعنى الاصطلاحي في كتب الجغرافيا القديمة أو الحديثة بل هي قارات طبيعية كان يتعذر وصول سكان بعضها إلى بعضها الآخر في الأزمان التي لم يكن فيها تنقل بحري وفيما بعدها مما كان ركوب البحر فيها مهولا. وهي
(28/305)
أن آسيا مع أوروبا قارة، وإفريقيا قارة، وأستراليا قارة، وأميريكا الشمالية قارة، وأميريكا الجنوبية قارة، وجرولندة في الشمال، والقارة القطبية الجنوبية. ولا التفات إلى الأجزاء المتفرقة من الأرض في البحار، وتكون {من} تبعيضية لأن هذه القارات الاصطلاحية أجزاء من الأرض.
وقرأ الجميع {مثلهن} بالنصب. وقرأه عاصم في غير المتواتر بالرفع على أنه مبتدأ.
ومعنى {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أمر الله بالتكوين أو بالتكليف يبلغ إلى الذين يأمرهم الله به من الملائكة ليبلغوه. أو لمن يأمرهم الله من الرسل ليبلغوه عنه، أو من الناس ليعلموا بما فيه، كل ذلك يقع فيما بين السماء والأرض.
واللام في قوله {لتعلموا} لام كي وهي متعلقة بـ {خلق} .
والمعنى: أن مما أراده الله من خلقه السماوات والأرض، أن يعلم الناس قدرة الله على كل شيء وإحاطة علمه بكل شيء. لأن خلق تلك المخلوقات العظيمة وتسخيرها وتدبير نظامها في طول الدهر يدل أفكار المتأملين على أن مبدعها يقدر على أمثالها فيستدلوا بذلك على أنه قدير على كل شيء لأن دلالتها على إبداع ما هو دونها ظاهرة، ودلالتها على ما هو أعظم منها وإن كانت غير مشاهدة، فقياس الغائب على الشاهد يدل على أن خالق أمثالها قادر على ما هو أعظم. وأيضا فإن تدبير تلك المخلوقات بمثل ذلك الإتقان المشاهد في نظامها، دليل على سعة علم مبدعها وأحاطته بدقائق ما هو دونها، وأن من كان علمه بتلك المثابة لا يظن بعلمه إلا الإحاطة بجميع الأشياء.
فالعلم المراد من قوله: {لتعلموا} صادق على علمين: علم يقيني مستند إلى أدلة يقينية مركبة من الدلالة الحسية والعقلية، وعلم ظني مستند إلى الأدلة الظنية والقرائن. وكلا العلمين موصل إلى الاستدلال في الاستدلال الخطابي بفتح الخاء.
(28/306)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
سورة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الخ سميت سورة التحريم في كتب السنة وكتب التفسير. ووقع في رواية أبي ذر الهروي لصحيح البخاري تسميتها باسم سورة اللم تحرم بتشديد اللام، وفي الإتقان وتسمى سورة اللم تحرم، وفي تفسير الكواشي أي بهمزة وصل وتشديد اللام مكسورة وبفتح الميم وضم التاء محققه وتشديد الراء مكسورة بعدها ميم على حكاية جملة {لم تحرم} وجعلها بمنزلة الاسم وإدخال لام تعريف العهد على ذلك اللفظ وإدغام اللامين.
وتسمى سورة النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآلوسي: إن ابن الزبير سماها سورة النساء. قلت ولم أقف عليه ولم يذكر صاحب الإتقان هذين في أسمائها.
واتفق أهل العدد على أن عدة آيها اثنتا عشرة.
وهي مدنية. قال ابن عطية: بإجماع أهل العلم وتبعه القرطبي. وقال في الإتقان عن قتادة: إن أولها إلى تمام عشر آيات وما بعدها مكي، كما وقعت حكاية كلامه. ولعله أراد إلى عشر آيات، أي أن الآية العاشرة من المكي إذ من البعيد أن تكون الآية العاشرة مدنية والحادية عشر مكية.
وهي معدودة الخامسة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الحجرات وقبل سورة الجمعة.
ويدل قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] أنها نزلت بعد سورة المائدة كما سيأتي.
(28/307)
وسبب نزولها حادثتان حدثتا بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
إحداهما: ما ثبت في الصحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شرب عسلا عند إحدى نسائه اختلف في أنها زينب بنت جحش، أو حفصة، أو أم سلمة، أو سودة بنت زمعة. والأصح أنها زينب. فعلمت بذلك عائشة فتواطأت هي وحفصه على أن أيتهما دخل عليها تقول له إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير والمغافير صمغ شجر العرفط وله رائحة مختمرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه رائحة وإنما تواطأتا على ذلك غيرة منهما أن يحتبس عند زينب زمانا يشرب فيه عسلا. فدخل على حفصة فقالت له ذلك، فقال: "بل شربت عسلا عند فلانة ولن أعود له"، أراد بذلك استرضاء حفصة في هذا الشأن وأوصاها أن لا تخبر بذلك عائشة لأنه يكره غضبها فأخبرت حفصة عائشة فنزلت الآيات.
هذا أصح ما روي في سبب نزول هذه الآيات. والتحريم هو قوله: "ولن أعود له" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا صدقا وكانت سودة تقول لقد حرمناه.
والثانية ما رواه ابن القاسم في المدونة عن مالك عن زيد بن أسلم قال: حرم رسول الله أم إبراهيم جاريته فقال "والله لا أطؤك" ثم قال: "هي علي حرام" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1].
وتفصيل هذا الخبر ما رواه الدارقطني عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها، وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها. فقالت حفصة: تدخلها بيتي ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: "لا تذكري هذا لعائشة فهي علي حرام إن قربتها". قيل: فقالت له حفصة: كيف تحرم عليك وهي جاريتك فحلف لها أن لا يقربها فذكرته حفصة لعائشة فآلى أن لا يدخل على نسائه شهرا فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} . وهو حديث ضعيف.
أغراض هذه السورة
ما تضمنه سبب نزولها أن أحدا لا يحرم على نفسه ما أحل الله له لإرضاء أحد إذ ليس ذلك بمصلحة له ولا للذي يسترضيه فلا ينبغي أن يجعل كالنذر إذ لا قربة فيه وما هو بطلاق لأن التي حرمها جارية ليست بزوجة، فإنما صلاح كل جانب فيما يعود بنفع على
(28/308)
نفسه أو ينفع به غيره نفعا مرضيا عند الله وتنبيه نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن غيرة الله على نبيه أعظم من غيرتهن عليه وأسمى مقصدا.
وأن الله يطلعه على ما يخصه من الحادثات.
وأن من حلف على يمين فرأى حنثها خيرا من برها أن يكفر عنها ويفعل الذي هو خير. وقد ورد التصريح بذلك في حديث وقد عبد القيس عن رواية أبي موسى الأشعري، وتقدم في سورة براءة.
وتعليم الأزواج أن لا يكثرن من مضايقة أزواجهن فإنها ربما أدت إلى الملال فالكراهية فالفراق.
وموعظة الناس بتربية بعض الأهل بعضا ووعظ بعضهم بعضا.
وأتبع ذلك بوصف عذاب الآخرة ونعيمها وما يفضي إلى كليهما من أعمال الناس صالحاتها وسيئاتها.
وذيل ذلك بضرب مثلين من صالحات النساء وضدهن لما في ذلك من العظمة لنساء المؤمنين ولأمهاتهم.
[1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
افتتاح السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء تنبيه على أن ما سيذكر بعده مما يهتم به النبي صلى الله عليه وسلم والأمة ولأن سبب النزول كان من علائقه.
والاستفهام فيقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ} مستعمل في معنى النفي، أي لا يوجد ما يدعو إلى أن تحرم على نفسك ما أحل الله لك ذلك أنه لما التزم عدم العود إلى ما صدر منه التزاما بيمين أو بدون يمين أراد الامتناع منه في المستقبل قاصدا بذلك تطمين أزواجه اللاء تمالأن عليه لفرط غيرتهن، أي ليست غيرتهن مما تجب مراعاته في المعاشرة إن كانت فيما لا هضم فيه لحقوقهم، ولا هي من إكرام إحداهن لزوجها إن كانت الأخرى لم تتمكن من إكرامه بمثل ذلك الإكرام في بعض الأيام.
وهذا يومئ إلى ضبط ما يراعي من الغيرة وما لا يراعى.
(28/309)
وفعل {تحرم} مستعمل في معنى: تجعل ما أحل لك حراما، أي تحرمه على نفسك كقوله تعالى: {إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ} [آل عمران: 93] وقرينته قوله هنا {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
وليس معنى التحريم هنا نسبة الفعل إلى كونه حراما كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، وقوله: {يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً} [التوبة:37]، فإن التفعيل يأتي بمعنى التصبير كما يقال: وسع هذا الباب ويأتي بمعنى إيجاد الشيء على حالة مثل ما يقال للخياط: وسع طوق الجبة.
ولا يخطر ببال أحد أن يتوهم منه أنك غيرت إباحته حراما على الناس أو عليك. ومن العجيب قول الكشاف: ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله لأن الله إنما أحله لمصلحة عرفها في إحلاله الخ.
وصيغة المضارع في قوله: {لم تحرم} لأنه أوقع تحريما متجددا.
فجملة {تبتغي}حال من ضمير {تحرم}. فالتعجيب واقع على مضمون الجملتين مثل قوله: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130].
وفي الإتيان بالموصول في قوله: {مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} لما في الصلة من الإيماء إلى تعليل الحكم هو أن ما أحله الله لعبده ينبغي له أن يتمتع به ما لم يعرض له ما يوجب قطعه من ضر أو مرض لأن تناوله شكر لله واعتراف بنعمته والحاجة إليه.
وفي قوله: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} عذر للنبي صلى الله عليه وسلم فيما فعله من أنه أراد به خيرا وهو جلب رضا الأزواج لأنه أهون على معاشرته مع الإشعار بأن مثل هذه المرضاة لا يعبأ بها لأن الغيرة نشأت عن مجرد معاكسة بعضهن بعضا وذلك مما يختل به حسن المعاشرة بينهن، فأنبأه الله أن هذا الاجتهاد معارض بأن تحريم ما أحل الله له يفضي إلى قطع كثير من أسباب شكر الله عند تناول نعمه وأن ذلك ينبغي إبطاله في سيرة الأمة.
وذيل بجملة {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استئناسا للنبي صلى الله عليه وسلم من وحشة هذا الملام، أي والله غفور رحيم لك مثل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
[2] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
استئناف بياني بين الله به لنبيه صلى الله عليه وسلم أن له سعة في التحلل مما التزم تحريمه على
(28/310)
نفسه، وذلك فيما شرع الله من كفارة اليمين فأفتاه الله بأن يأخذ برخصته في كفارة اليمين المشروعة للأمة كلها ومن آثار حكم هذه الآية ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس بعد أن استحملوه وحلف أن لا يحملهم إذ ليس عنده ما يحملهم عليه، فجاءه ذود من إبل الصدقة فقال لهم: "وإني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير".
وافتتاح الخبر بحرف التحقيق لتنزيل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة من لا يعلم أن الله فرض تحلة الأيمان بآية الكفارة بناء على أنه لم يأخذ بالرخصة تعظيما للقسم. فأعلمه الله أن الأخذ بالكفارة لا تقصير عليه فيه فإن في الكفارة ما يكفي للوفاء بتعظيم اليمين بالله إلى شيء هذا قوله تعالى: في قصة أيوب {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص:44] كما ذكرناه في تفسيرها و {فرض} عين ومنه قوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} [النساء:7]. وقال: فرض له في العطاء والمغنى: قد بين الله لكن تحلة أيمانكم.
واعلم أنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدر منه في تلك الحادثة إلا أنه التزم أن لا يعود لشرب شيئا عند بعض أزواجه في غير يوم نوبتها أو كان وعد أن يحرم مارية على نفسه بدون يمين على الرواية الأخرى. كان ذلك غير يمين فكان أمر الله إياه بأن يكفر عن يمينه إما لأن ذلك يجري مجرى اليمين لأنه إنما وعد لذلك تطمينا لخاطر أزواجه فهو التزام لهن فكان بذلك ملحقا باليمين وبذلك أخذ أبو حنيفة ولم يره مالك يمينا ولا نذرا فقال في الموطأ : ومعنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه" أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام أو إلى مصر مما ليس لله في بطاعة إن كلم فلانا، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمة لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة فإن حلف فقال: والله لا آكل هذا الطعام ولا ألبس هذا الثوب فإنما عليه كفارة يمين اهـ.
وقد اختلف هل كفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه تلك.
فالتحلة على هذا التفسير عند مالك هي: جعل الله ملتزم مثل هذا في حل من التزام ما التزمه. أي موجب التحلل من يمينه.
وعند أبي حنيفة هي ما شرعه الله من الخروج من الأيمان بالكفارات وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم صدر منه يمين عند ذلك على أن لا يعود فتحلة اليمين هي الكفارة عند الجميع.
وجملة {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} تذييل لجملة {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . والمولى:
(28/311)
الولي، وهو الناصر ومتولي تدبير ما أضيف إليه، وهو هنا كناية عن الرؤوف والميسر، كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
وعطف عليها جملة {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي العليم بما يصلحكم فيحملكم على الصواب والرشد والسداد وهو الحكيم فيما يشرعه، أي يجري أحكامه على الحكمة. وهي إعطاء الأفعال ما تقتضيه حقائقها دون الأوهام والتخيلات.
واختلف فقهاء الإسلام فيمن حرم على نفسه شيئا مما أحل الله له على أقوال كثيرة أنهاها القرطبي إلى ثمانية عشر قولا وبعضها متداخل في بعض باختلاف الشروط والنيات فيؤول إلى سبعة.
أحدها: لا يلزمه شيء سواء كان المحرم زوجا أو غيرها. وهو قول الشعبي ومسروق وربيعة من التابعين وقاله أصبغ بن الفرج من أصحاب مالك.
الثاني: تجب كفارة مثل كفارة اليمين. وروى عن أبي بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة وسعيد بن جبير، وبه قال الأوزاعي والشافعي في أحد قوليه. وهذا جار على ظاهر الآية من قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} .
الثالث: لا يلزمه في غير الزوجة وأما الزوجة فقيل: إن كان دخل بها كان التحريم ثلاثا، وإن لم يدخل بها ينو فيما أراد وهو قول الحسن والحكم ومالك في المشهور. وقيل هي ثلاث تطليقات دخل بها أم لم يدخل. ونسب إلى علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة. وقاله ابن أبي ليلى وهو عن عبد الملك بن الماجشون في المبسوط. وقيل طلقة بائنة. ونسب إلى زيد بن ثابت وحماد بن سليمان ونسبه ابن خويز منداد إلى مالك وهو غير المشهور عنه. وقيل طلقة رجعية في الزوجة مطلقا، ونسب إلى عمر بن الخطاب فيكون قيدا لما روي عنه في القول الثاني. وقاله الزهري وعبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماحشون، وقال الشافعي يعني في أحد قوليه إن نوى الطلاق فعليه ما نوى من أعداده وإلا فهي واحدة رجعية. وقيل: هي ثلاث في المدخول بها وواحدة في التي لم يدخل بها دون تنوية.
الرابع: قال أبو حنيفة وأصحابه إن نوى بالحرام الظهار كان ما نوى فإن نوى الطلاق فواحدة بائنة إلا أن يكون نوى الثلاث. وإن لم ينو شيئا كانت يمينا وعليه كفارة فإن أباها كان موليا.
(28/312)
وتحريم النبي صلى الله عليه وسلم سريته مارية على نفسه هو أيضا من قبيل تحريم أحد شيئا مما أحل الله له غير الزوجة لأن مارية لم تكن زوجة له بل هي مملوكته فحكم قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} جار في قضية تحريم مارية بيمين أو بغير يمين بلا فرق. و {تحلة} تفعلة من حلل جعل الفعل حلالا. واصله تحللة فأدغم اللامان وهو مصدر سماعي لأن الهاء في آخره ليست بقياس إذ لم يحذف منه حرف حتى يعوض عنه الهاء مثل تزكية ولكنه كثير في الكلام مثل تعلة.
[3] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
هذا تذكير وموعظة بما جرى في خلال تينك الحادثتين ثني إليه عنان الكلام بعد أن قضي ما يهم من التشريع للنبي صلى الله عليه وسلم بما حرم على نفسه من جرائهما.
وهو معطوف على جملة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] بتقدير واذكر.
وقد أعيد ما دلت عليه الآية السابقة ضمنا بما تضمنته هذه الآية بأسلوب آخر ليبنى عليه ما فيه من عبر ومواعظ وأدب، ومكارم وتنبيه وتحذير.
فاشتملت هذه الآيات على عشرين من معاني ذلك إحداها ما تضمنه قوله: {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} .
الثاني: قوله {فلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} .
الثالث: {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} .
الرابع: {عَرَّفَ بَعْضَهُ}.
الخامس: {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ}.
السادس: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا}
السابع: {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}.
الثامن والتاسع والعاشر: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} إلى {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} [التحريم:4].
الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ} [التحريم:4].
(28/313)
الرابع عشر والخامس عشر: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً} [التحريم:5].
السادس عشر: {خَيْراً مِنْكُنَّ} [التحريم:5].
السابع عشر: {مُسْلِمَاتٍ} الخ. [التحريم:5]
الثامن عشر: {سَائِحَاتٍ} . [التحريم:5]
التاسع عشر: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:5]، ويتأتي بيانها عند تفسير كل آية منها.
العشرون: ما في ذكر حفصة أو غيرها بعنوان {بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} دون تسميته من الاكتفاء في الملام بذكر ما تستشعر به أنها المقصودة باللوم.
وإنما نبأها النبي صلى الله عليه وسلم بأنه علم إفشاءها الحديث بأمر من الله ليبني عليه الموعظة والتأديب فإن الله ما أطلعه على إفشائها إلا لغرض جليل.
و الحديث هو ما حصل من اختلاء النبي صلى الله عليه وسلم بجاريته مارية وما دار بينه وبين حفصة وقوله لحفصة "هي علي حرام ولا تخبري عائشة" وكانتا متصافيتين وأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أن حفصة أخبرت عائشة بما أسر إليها.
والواو عاطفة قصة على قصة لأن قصة إفشاء حفصة السر غير قصة تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه بعض ما أحل له.
ولم يختلف أهل العلم في أن التي أسر إليها النبي صلى الله عليه وسلم الحديث هي حفصة ويأتي أن التي نبأتها حفصة هي عائشة. وفي الصحيح عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجا فخرجت معه فلما رجع ببعض الطريق قلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله من أزواجه? فقال: تلك حفصة وعائشة وساق القصة بطولها.
وأصل إطلاق الحديث على الكلام مجاز لأنه مشتق من الحدثان فالذي حدث هو الفعل ونحوه شاع حتى صار حقيقة في الخبر عنه وصار إطلاقه على الحادثة هو المجاز فانقلب حال وضعه واستعماله.
و {أسر} أخبر بما يراد كتمانه عن غير المخبر أو سأله عدم إفشاء شيء وقع بينهما وإن لم يكن إخبارا وذلك إذا كان الخبر أو الفعل يراد عدم فشوه فيقوله صاحبه سرا والسر ضد الجهر، قال تعالى {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [التغابن:4] فصار {أسر} يطلق
(28/314)
بمعنى الوصاية بعدم الإفشاء، أي عدم الإظهار قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف:77].
وأسر: فعل مشتق من السر فإن الهمزة فيه للجعل، أي جعله ذا سر، يقال: أسر في نفسه، إذا كنتم سره. ويقال: أسر إليه، إذا حدثه بسر فكأنه أنهاه إليه، ويقال: أسر له إذا أسر أمرا لأجله، وذلك في إضمار الشر غالبا وأسر بكذا، أي أخبر بخبر سر، إذا وضع شيئا خفيا. وفي المثل يسر حسوا في ارتغاء.
و {بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} هي حفصة بنت عمر بن الخطاب. وعدل عن ذكر اسمها ترفعا عن أن يكون القصد معرفة الأعيان وإنما المراد العلم بمغزى القصة وما غيها مما يجتنب مثله أو يقتدى به. وكذلك طي تعيين المنبأة بالحديث وهي عائشة.
وذكرت حفصة بعنوان أزواجه للإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع سره في موضعه لأن أولى الناس بمعرفة سر الرجل زوجه. وفي ذلك تعريض بملامها على إفشاء سره لأن واجب المرأة أن تحفظ سر زوجها إذا أمرها بحفظه أو كان مثله مما يحب حفظه.
وهذا المعنى الأول من المعاني التهذيبية التي ذكرناها آنفا.
ونبأ: بالتضعيف مرادف أنبأ بالهمز ومعناهما: أخبر، وقد جمعهما قوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .
وقد قيل: السر أمانة، أي وإفشاؤه خيانة.
وفي حديث أم زرع من آدابهم العربية القديمة قالت الحادية عشرة: جارية أبي زرع فما جارية أبي زرع لا تبث حديثنا تبثيثا ولا تنفث ميرثنا تنفيثا.
وكلام الحكماء والشعراء في السر وحفظه أكثر من أن يحصى. وهو المعنى الثاني من المعاني التهذيبية التي ذكرناها.
ومعنى {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أطلعه عليه وهو مشتق من الظهور بمعنى التغلب.
استعير الإظهار إلى الإطلاع لأن اطلاع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على السر الذي بين حفصة وعائشة كان غلبة له عليهما فيما دبرتاه فشبهت الحالة الخاصة من تآمر حفصة وعائشة على معرفة سر النبي صلى الله عليه وسلم ومن علمه بذلك بحال من يغالب غيره فيغلبه الغير ويكشف أمره. فالإظهار هنا من الظهور بمعنى الانتصار. وليس هو من الظهور ضد الخفاء، لأنه لا
(28/315)
يتعدى بحرف {على} .
وضمير {عليه} عائد على الإنباء المأخوذ من {نَبَّأَتْ بِهِ} أو على الحديث بتقدير مضاف يدل عليه قوله: {نَبَّأَتْ بِهِ} تقديره: أظهره الله على إفشائه.
وهذا تنبيه إلى عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم وانتصاره له لأن إطلاعه على ما لا علم له به مما يهمه، عناية ونصح له.
وهذا حاصل المعنى الثالث من المعاني التي اشتملت عليها الآيات وذكرناها آنفا.
ومفعول {عرف} الأول محذوف لدلالة الكلام عليه، أي عرفها بعضه، أي بعض ما أطلعه الله عليه، وأعرض عن تعريفها ببعضه. و الحديث يحتوي على أشياء: اختلاء النبي بسريته مارية، وتحريمها على نفسه، وتناوله العسل في بيت زينب، وتحريمه العودة إلى مثل ذلك، وربما قد تخلل ذلك كلام في وصف عثور حفصة على ذلك بغتة، أو في التطاول بأنها استطاعت أن تريهن من ميله إلى مارية. وإنما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليوقفها على مخالفتها واجب الأدب من حفظ سر زوجها.
وهذا هو المعنى الرابع من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وإعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعريف زوجه ببعض الحديث الذي أفشته من كرم خلقه صلى الله عليه وسلم في معاتبة المفشية وتأديبها إذ يحصل المقصود بأن يعلم بعض ما أفشته فتوقن أن الله يغار عليه.
قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريم قط، وما زاد على المقصود يقلب العتاب من عتاب إلى تقريع.
وهذا المعنى الخامس من مقاصد ذكر هذا الحديث كما أشرنا إليه آنفا.
وقولها: {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} يدل على ثقتها بأن عائشة لا تفشي سرها وعلمت أنه لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بعلم ذلك إلا من قبل عائشة أو من طريق الوحي فرامت التحقق من أحد الاحتمالين.
والاستفهام حقيقي ولك أن تجعله للتعجيب من علمه بذلك.
وفي هذا كفاية من تيقظها بأن إفشاءها سر زوجها زلة خلقية عظيمة حجبها عن مراعاتها شدة الصفاء لعائشة وفرط إعجابها بتحريم مارية لأجلها، فلم تتمالك عن أن تبشر
(28/316)
به خليلتها ونصيرتها ولو تذكرت لتبين لها أن مقتضى كتم سر زوجها أقوى من مقتضى إعلامها خليلتها فإن أواصر الزوجية أقوى من أواصر الخلة وواجب الإخلاص لرسول الله أعلى من فضيلة الإخلاص للخلائل.
وهذا هو الأدب السادس من معاني الآداب التي اشتملت عليها القصة وأجملنا ذكرها آنفا.
وإيثار وصفي {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} هنا دون الاسم العلم لما فيهما من التذكير بما يجب أن يعلمه الناس من أحاطه الله تعالى علما وخبرا بكل شيء.
و {العليم} : القوي العلم وهو في أسمائه تعالى دال على أكمل العلم، أي العلم المحيط بكل معلوم.
و {الخبير} : أخص من العليم لأنه مشتق من خبير الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله ولذلك يقال خبرته، أي بلوته وتطلعت بواطن أمره، قال ابن برحان بضم الموحدة وبجيم مشددة في شرح الأسماء: الفرق بين الخبر والعلم وسائر الأشياء الدالة على صفة العلم أن تتعرف حصول الفائدة من وجه وأضف ذلك إلى تلك الصفة وسم الفائدة بذلك الوجه الذي عنه حصلت فمتى حصلت من موضع الحضور سميت مشاهدة والمتصف بها هو الشاهد والشهيد. وكذلك إن حصلت من وجه سمع أو بصر فالمتصف بها سميع وبصير. وكذلك إن حصلت من علم أو علامة فهو العلم والمتصف به العالم والعليم، وإن حصلت عن استكشاف ظاهر المخبور عن باطنه ببلوى أو امتحان أو تجربة أو تبليغ فهو الخبر. والمسمى به الخبير اهـ. وقال الغزالي في المقصد الأسنى: العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا اهـ.
فيتضح أن اتباع وصف {العليم} بوصف {الخبير} إيماء إلى أن الله علم دخيلة المخاطبة وما قصدته من إفشاء السر للأخرى.
وقد حصل من هذا الجواب تعليمها بأن الله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما غاب إن شاء قال تعالى {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26،27] وتنبيها على ما أبطنته من الأمر.
وهو الأدب السابع مع آداب هذه الآيات.
واعلم أن نبأ وأنبأ مترادفان وهما بمعنى أخبر وأن حقهما التعدية إلى مفعول واحد
(28/317)
لأجل ما فيهما من همزة تعدية أو تضعيف. وإن كان لم يسمع فعل مجرد لهما وهو مما أميت في كلامهم استغناء بفعل علم. والأكثر أن يتعديا إلى ما زاد على المفعول بحرف جر نحو: نبأت به. وقد يحذف حرف الجر فيعديان إلى مفعولين، كقوله هنا {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أي بهذا، وقول الفرزدق:
نبئت عبد الله بالجو أصبحت ... كراما مواليها لآما ما صميمها
حمله سيبويه على حذف الحرف.
وقد يضمنان معنى: اعلم، فيعديان إلى ثلاثة مفاعيل كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلي غرائب الأشعار
ولكثرة هذا الاستعمال ظن أنه معنى لهما وأغفل التضمين فنسب إلحاقهما ب{اعلم} إلى سيبويه والفارسي والجرجاني وألحق الفراء خبر وأخبر، وألحق الكوفيون حدث.
قال زكريا الأنصاري: لم تسمع تعديتها إلى ثلاثة في كلام العرب إلا إذا كانت مبنية إلى المجهول.
وقرأ الجمهور {عرف} بالتشديد. وقرأه الكسائي {عرف} بتخفيف الراء، أي علم بعضه وذلك كناية عن المجازاة، أي جازى عن بعضه التي أفشته باللوم أو بالطلاق على رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح وقد يكنى عن التوعد بفعل العلم. ونحوه كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [النساء:63]. وقول العرب للمسيء: لأعرفن لك هذا. وقولك: لقد عرفت ما صنعت.
[4] {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} .
التفات من ذكر القصتين إلى موعظة من تعلقت بهما فهو استئناف خطاب وجهة الله إلى حفصة وعائشة لأن إنباء النبي صلى الله عليه وسلم بعلمه بما أفشته القصد منه الموعظة والتحذير والإرشاد إلى رأب ما انثلم من واجبها نحو زوجها. وإذ قد كان ذلك إثما لأنه إضاعة لحقوق الزوج وخاصة بإفشاء سره ذكرها بواجب التوبة منه.
وخطاب التثنية عائد إلى المنبئة والمنأبة فأما المنبئة فمعادها مذكور في الكلام بقوله: {إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} [التحريم:3].
(28/318)
وأما المنبأة فمعادها ضمني لأن فعل {نبأت} [التحريم:3] يقتضيه فأما المنبئة فأمرها بالتوبة ظاهر. وأما المذاع إليها فلأنها شريكة لها في تلقي الخبر السر ولأن المذيعة ما أذاعت به إليها إلا لعلمها بأنها ترغب في تطلع مثل ذلك فهاتان موعظتان لمذيع السر ومشاركة المذاع إليه في ذلك وكان عليها أن تنهاها عن ذلك أو أن تخبر زوجها بما أذاعته عنه ضرتها.
و {صغت} : مالت، أي مالت إلى الخير وحق المعاشرة مع الزوج، ومنه سمي سماع الكلام إصغاء لأن المستمع يميل سمعه إلى من يكلمه، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} في سورة الأنعام[113]. وفيه إيماء إلى أن فيما فعلتاه انحرافا عن أدب المعاشرة الذي أمر الله به وأن عليهما أن تتوبا مما صنعتاه ليقع بذلك صلاح ما فسد من قلوبهما.
وهذان الأدبان الثامن والتاسع من الآداب التي اشتملت عليها هذه الآيات.
والتوبة: الندم على الذنب، والعزم على عدم العودة إليه وسيأتي الكلام عليها في هذه السورة.
وإذ كان المخاطب مثنى كانت صيغة الجمع في قلوب مستعملة في الاثنين طلبا لخفة اللفظ عند إضافته إلى ضمير المثنى كراهية اجتماع مثنيين فإن صيغة التثنية تقيلة لقلة دورانها في الكلام. فلما أمن اللبس ساغ التعبير بصيغة الجمع عن التثنية.
وهذا استعمال للعرب غير جار على القياس. وذلك في كل اسم مثنى أضيف إلى اسم مثنى فإن المضاف يصير جمعا كما في هذه الآية وقول خطام المجاشعي:
ومهمهين قذفين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين
وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك أن يعبروا بلفظ الجمع مضافا إلى اسم المثنى لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام فهما يتعاوران. ويقل أن يؤتى بلفظ المفرد مضافا إلى الاسم المثنى. وقال ابن عصفور: هو مقصور على السماع.
وذكر له أبو حيان ساهدا قول الشاعر:
حمامة بطن الواديين ترنمي ... سقاك من الغر الغوادي مطيرها
وفي التسهيل ترجيح التعبير عن المثنى المضاف إلى مثنى باسم مفرد، على
(28/319)
التعبير عنه بلفظ المثنى. وقال أبو حيان في البحر المحيط إن ابن مالك غلط في ذلك. قلت: وزعم الجاحظ في كتاب البيان والتبيين ، أن قول القائل اشتر رأس كبشين يريد رأسي كبشين خطأ. قال: لأن ذلك لا يكون اهـ. وذلك يؤيد قول ابن عصفور بأن التعبير عن المضاف المثنى بلفظ الإفراد مقصور على السماع، أي فلا يصار إليه. وقيد الزمخشري في المفصل هذا التعبير بقيد أن لا يكون اللفظان متصلين. فقال: ويجعل الاثنان على لفظ جمع إذا كانا متصلين كقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} ولم يقولوا في المنفصلين: أفراسهما ولا غلمانهما. وقد جاء وضعت رحالهما. فخالف إطلاق ابن مالك في التسهيل وطريقة صاحب المفصل أظهر.
وقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} هو ضد {إِنْ تَتُوبَا} أي وإن تصرا على العود إلى تألبكما عليه فإن الله مولاه الخ.
والمظاهرة: التعاون، يقال: ظاهره، أي أيده وأعانه. قال تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} في سورة براءة [4]. ولعل أفعال المظاهر ووصف ظهير كلها مشتقة من الاسم الجامد، وهو الظهر لأن المعين والمؤيد كأنه يشد ظهر من يعينه ولذلك لم يسمع لهذه الأفعال الفرعية والأوصاف المتفرعة عنها فعل مجرد. وقريب من هذا فعل عضد لأنهم قالوا: شد عضده.
وأصل {تظاهرا} تتظاهرا فقلبت التاء ظاء لقرب مخرجيها وأدغمت في ظاء الكلمة وهي قراءة الجمهور. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي {تظاهرا} بتخفيف الظاء على حذف إحدى التاءين للتخفيف.
{وصالح} مفرد أريد به معنى الفريق الصالح أو الجنس الصالح من المؤمنين كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} [الحديد:26]. والمراد ب {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} المؤمنون الخالصون من النفاق والتردد.
وجملة {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} قائمة من مقام جواب الشرط معنى لأنها تفيد معنى يتولى جزاءكما على المظاهرة عليه، لأن الله مول اهـ. وفي هذا الحذف مجال تذهب فيه نفس السامع كل مذهب من التهويل.
وضمير الفصل في قوله {هُوَ مَوْلاهُ} يفيد القصر على تقدير حصول الشرط، أي إن تظاهرتما متناصرتين عليه فإن الله هو ناصره لا أنتما، أي وبطل نصركما الذي هو
(28/320)
واجبكما إذ أخللتما به على هذا التقدير. وفي هذا تعريف بأن الله ناصر رسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يقع أحد من بعد في محلولة التقصير من نصره.
فهذا المعنى العاشر من معاني الموعظة والتأديب التي في هذه الآيات.
وعطف {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} في هذا المعنى تنويه بشأن رسول الوحي من الملائكة وشأن المؤمنين الصالحين. وفيه تعريض بأنهما تكونان على تقدير حصول هذا الشرط من غير الصالحين.
وهذان التنويهان هما المعنيان الحادي عشر والثاني عشر من المعاني التي سبقت إشارتي إليها.
وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} عطف جملة على التي قبلها، والمقصود منه تعظيم هذا النصر بوفرة الناصرين تنويها بمحبة أهل السماء للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن ذكره بينهم فإن ذلك مما يزيد نصر الله إياه شأنا.
وفي الحديث "إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في أهل السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في أهل الأرض".
فالمراد بأهل الأرض فيه المؤمنون الصالحون منهم لأن الذي يحبه الله يحبه لصلاحه والصالح لا يحبه أهل الفساد والضلال. فهذه الآية تفسيرها ذلك الحديث.
وهذا المعنى الثالث عشر من معاني التعليم التي حوتها الآيات.
وقوله: {بَعْدَ ذَلِكَ} اسم الإشارة فيه للمذكور، أي بعد نصر الله وجبريل وصالح المؤمنين.
وكلمة {بعد} هنا بمعنى مع فالبعدية هنا بعدية في الذكر كقوله {عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13].
وفائدة ذكر الملائكة بعد ذكر تأييد الله وجبريل وصالح والمؤمنين أن المذكورين قبلهم ظاهره آثار تأييدهم بوحي الله للنبي صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل ونصره إياه بواسطة المؤمنين فنبه الله المرأتين على تأييد آخر غير ظاهرة آثاره وهو تأييد الملائكة بالنصر في يوم بدر وغير النصر من الاستغفار في السماوات، فلا يتوهم أحد أن هذا يقتضي تفضيل نصرة
(28/321)
الملائكة على نصرة جبريل بله نصرة الله تعالى.
و {ظهير} وصف بمعنى المظاهر، أي المؤيد وهو مشتق من الظهر،فهو فعيل بمعنى فمفاعل مثل حكيم بمعنى محكم كما تقدم آنفا في قوله {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} ، وفعيل الذي ليس بمعنى مفعول أصله أن يطابق موصوفه في الإيراد وغيره فإن كان هنا خبرا عن الملائكة كما هو الظاهر كان إفراده على تأويل جمع الملائكة بمعنى الفوج المظاهر أو هو من إجراء فعيل الذي بمعنى فاعل مجرى فعيل بمعنى مفعول. كقوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [االأعراف:56]، وقوله {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان:55] وقوله {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]، وإن كان خبرا عن جبريل كان {صَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ} عطفا على جبريل وكان قوله {بَعْدَ ذَلِكَ} حالا من الملائكة.
وفي الجمع بين {أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} وبين {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وبين {ظهير} تجنيسات.
[5] {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} .
ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عقبت بها جملة {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد هذا الإيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهم يأمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين.
وفي قوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن. فالتقدير: عسى أن يطلقكن هو وإنما يطلق بإذن ربه أن يبدله ربه بأزواج خير منكن.
وفي هذا ما يشير إلى المعنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة
(28/322)
والإرشاد التي ذكرناها آنفا.
و {عسى} هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الارعواء عما حذرن منه، وفي قوله {خَيْراً مِنْكُنَّ} تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو {خَيْراً مِنْكُنَّ} للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكمل اللاء يتزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجا للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه الآية إلى قوله {خَيْراً مِنْكُنَّ} نزلت موافقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقا لقول عمر أو رأيه تنويها بفضله. وقد وردت في حديث في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125]، وقلت: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله أية الحجاب. وبلغني معاتبة النبي بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتين أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن فأنزل الله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآية.
وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواج خير منهن.
وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي.
وقرأ الجمهور {أَنْ يُبْدِلَهُ} بتسديد الدال مضارع بدل. وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل.
والمسلمات: المتصفات بالإسلام. والمؤمنات: المصدقات في نفوسهن. والقانتات: القائمات بالطاعة أحسن قيام. وتقدم القنوت في قوله تعالى: {وقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} في سورة البقرة[238]. وقوله {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} في سورة الأحزاب[31].
وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة.
والتائبات: المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه. وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أمرتا بها بقوله {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4].
(28/323)
والعابدات: المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات.
والسائحات: المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبههن على أنهن إن كن يمتن بالهجرة فإن المهاجرات غيرهن كثير، والمهاجرات أفضل من غيرهن، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي.
وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل {أزواجا} ، ولم يعطف بعضها على بعض بالواو، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قوله {وأبكارا} لأن الثيبات لا يوصفن بأبكار. والأبكار لا يوصفن بالثيبات. قلت وفي قوله تعالى: {مسلمات} ، إلى قوله {سائحات} محسن الكلام المتزن إذ يلتثم من ذلك بيت من بحر الرمل التام:
فاعلتن فاعلتن فاعلتن ... فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن
ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال؛ فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لعابا وأبهى زينة وأحلى غنجا.
والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلا وفي ذلك مجلبة للنفس، والبكر لا تعرف رجلا قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم.
فما اعتزت واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيرا منها في تلك المزية أيضا.
وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات.
وتقديم وصف {ثيبات} لأن أكثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجهن كن ثيبات. ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكرا. وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل الحر تكفيه الإشارة.
وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات.
(28/324)
ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} زعمها ابن خالويه1 واوا لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون وتبعه جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل. أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه سواء كان وصفا مشتقا من عدد ثمانية أو كان ذاتا ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية سواء كان مفردا أو كان جملة. فقد مثلوا بقوله تعالى: في سورة براء [112] {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي {وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} . وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله: {مسلمات} إلا الثامنة وهي {وأبكارا} ومثلوا لما فيه بوصف ثامن بقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} في سورة الكهف [22]. فلم يعطف {رابعهم} ولا {سادسهم} وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل. ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} في سورة الحاقة[7]. ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى: في سورة الزمر[73] {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} ، قالوا جاءت جملة {وفتحت} هذه بالواو ولم تجيء أختها المذكورة قبلها وهي {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71]. لأن أبواب الجنة ثمانية.
وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة.
وذكر الدماميني في الحواشي الهندية على المغني أنه رأى في تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة نسبة القول بإثبات واو
ـــــــ
هو الحسن بن أحمد بن خالويه بن حمدان الهمذاني، قرأ ببغداد ثم سكن حلب واتصل بسيف الدولة. وتوفي بحلب سنة سبعين وثلاثمائة. ولم أقف على تعيين الموضع الذي استظهر فيه معنى واو الثمانية.
(28/325)
الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حبوس بموحدة بعد الحاء المهملة وهو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420.
وذكر السهيلي في الروض الأنف عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفراد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية بابا طويلا ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها. ويظهر أنه غير موافق على إثبات هذا الاستعمال لها. ومن عجب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهه للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو. ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا.
وذكر ابن المنير في الانتصاف أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى: {وأبكارا} وهي الواو التي سماها بعض ضعفه النحاة واو الثمانية. وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوما بحضيرة أبي الجود النحوي المقري، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد. فأنصفه الفاضل وقال: أرشدنا يا أبا الجود.
قلت: وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجود إذ كان له أن يقول: إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلا أو قسيما لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية.
ونقل الطيبي والقزويني في حاشيتي الكشاف أنه روى عن صاحب الكشاف أنه قال: الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]، وقوله {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك، وليس بشيء. قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع: أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اهـ.
قلت: وهذا يخالف صريح كلامه في الكشاف فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب الكشاف، أو لعل صاحب الكشاف لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق.
(28/326)
وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية في سورة براءة[112]. وعند قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} في سورة الكهف[22]، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة.
[6] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
كانت موعظة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مناسبة لتنبيه المؤمنين لعدم الغفلة عن موعظة أنفسهم وموعظة أهليهم وأن لا يصدهم استبقاء الود بينهم عن إسداء النصح لهم وإن كان في ذلك بعض الأذى.
وهذا نداء ثان موجه إلى المؤمنين بعد استيفاء المقصود من النداء الأول نداء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} .
وجه الخطاب إلى المؤمنين ليأتنسوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في موعظة أهليهم.
وعبر عن الموعظة والتحذير بالوقاية من النار على سبيل المجاز لأن الموعظة سبب في تجنب ما يفضي إلى عذاب النار أو على سبيل الاستعارة بتشبيه الموعظة بالوقاية من النار على وجه المبالغة في الموعظة.
وتنكير {نار} للتعظيم وأجرى عليها وصف بجملة {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} زيادة في التحذير لئلا يكونوا من وقود النار. وتذكرا بحال المشركين الذي في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} في سورة الأنبياء [98]. وتفظيعا للنار إذ يكون الحجر عوضا لها عن الحطب.
ووصف النار بهذه الجملة لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر في علم المسلمين من قبل نزول هذه الآية بما تقدم في سورة البقرة [24]من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وبما تقدمهما معا من قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} في سورة الأنبياء [98].
و {الْحِجَارَةُ} : جمع الحجر على غير قياس فإن قياسه أحجار فجمعوه على حجار بوزن فعال وألحقوا به هاء التأنيث كما قالوا: بكارة جمع بكر، ومهارة جمع مهر.
وزيد في تهويل النار بأن عليها ملائكة غلاظا شدادا وجملة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ} إلى
(28/327)
آخرها صفة ثانية.
ومعنى {عليها} أنهم موكلون بها. فالاستعلاء المفاد من حرف على مستعار للتمكن كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]. وفي الحديث "فلم يكن على بابه بوابون".
و {غلاظ} جمع غليظ وهو المتصف بالغلظة. وهي صفة مشبهة وفعلها مثل كرم. وهي هنا مستعارة لقساوة المعاملة كقوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] أي لو كنت قاسيا لما عاشروك.
و {شداد} : جمع شديد. والشدة بكسر الشين حقيقتها قوة العمل المؤذى والموصوف بها شديد. والمعنى: أنهم أقوياء في معاملة أهل النار الذين وكلوا بهم: يقال: اشتد فلان على فلان، أي أساء معاملته، ويقال: اشتدت الحرب، واشتدت البأساء. والشدة من أسماء البؤس والجوع والقحط.
وجملة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} ثناء عليهم أعقب به وصفهم بأنهم غلاظ شداد تعديلا لما تقتضيانه من كراهية نفوس الناس إياهم، وهذا مؤذن بأنهم مأمورون بالغلظة والشدة في تعذيب أهل النار.
وأما قوله {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} فهو تصريح بمفهوم {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} دعا إليه مقام الإطناب في الثناء عليهم، مع ما في هذا التصريح من استحضار الصورة البديعة في امتثالهم لما يؤمرون به. وقد عطف هذا التأكيد عطفا يقتضي المغايرة تنويها بهذه الفضيلة لأن فعل المأمور أوضح في الطاعة من عدم العصيان واعتبار لمغايرة المعنيين وإن كان قالها واحد ولك أن تجعل مرجع {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} أنهم لا يعصون فيما يكلفون به من أعمالهم الخاصة بهم ومرجع {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} إلى ما كلفوا بعمله في العصاة في جهنم.
[7 ]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
هو من قبل الملائكة الذين على النار. وذكر هذه المقالة هنا استطراد يفيد التنفير من جهنم بأنها دار أهل الكفر كما قال تعالى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، وإلا فإن سياق الآية تحذير للمؤمنين من الموبقات في النار.
(28/328)
ومعنى {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مماثل {مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وأفادت {إنما} قصر الجزاء على مماثلة العمل المجرى عليه قصر قلب لتنزيلهم منزلة من اعتذر وطلب أن يكون جزاؤه أهون مما شاهده.
والاعتذار: افتعال مشتق من العذر. ومادة الافتعال فيه دالة على تكلف الفعل مثل الاكتساب والاختلاق، والعذر: الحجة التي تبرئ صاحبها من تبعة عمل ما. وليس لمادة الاعتذار فعل مجرد دال على إيجاد العذر وإنما الموجود عذر بمعنى قبل العذر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} في سورة براءة [90].
[8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .
أعيد خطاب المؤمنين وأعيد نداؤهم وهو نداء ثالث في هذه السورة. والذي قبله نداء للواعظين. وهذا نداء للموعوظين وهذا الأسلوب من أساليب الإعراض المهتم بها.
أمر المؤمنون بالتوبة من الذنوب إذا تلبسوا بها لأن ذلك من إصلاح أنفسهم بعد أن أمروا بأن يجنبوا أنفسهم وأهليهم ما يزج بهم في عذاب النار، لأن اتقاء النار يتحقق باجتناب ما يرمي بهم فيها، وقد يذهلون عما فرط من سيئاتهم فهدوا إلى سبيل التوبة التي يمحون بها ما فرط من سيئاتهم.
وهذا ناظر إلى ما ذكر من موعظة امرأتي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4].
والتوبة: العزم على عدم العود إلى العصيان مع الندم على ما فرط منه فيما مضى. وتقدمت عند قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} في سورة البقرة [37]. وفي مواضع أخرى وخاصة عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} في سورة النساء[17]. وتعديتها بحرف إلى لأنها في معنى الرجوع لأن تاب أخو ثاب.
(28/329)
والنصوح: ذو النصح.
والنصح: الإخلاص في العمل. والقول، أي الصدق في إرادة النفع بذلك. ووصف التوبة بالنصوح مجاز جعلت التوبة التي لا تردد فيها ولا تخالطها نية العودة إلى العمل المتوب منه بمنزلة الناصح لغيره ففي "نصوح" استعارة وليس من المجاز العقلي إذ ليس المراد نصوحا صاحبها.
وإنما لم تلحق وصف "نصوح" هاء التأنيث المناسبة لتأنيث الموصوف به لأن فعولا بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير.
وقرأ الجمهور {نصوحا} بفتح النون على معنى الوصف كما علمت. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم النون على أنه مصدر نصح مثل: القعود من قعد. وزعم الأخفش أن الضم غي معروف والقراءة حجة عليه.
ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردها. روي عن علي رضي الله عنه يجمع التوبة سنة أشياء: الندامة على الماضي من الذنوب، وإعادة الفرائض. ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي.
وتقوم مقام رد المظالم استحلال المظلوم حتى يعفو عنه.
ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب. قال إمام الحرمين: هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منعه من تمكين نفسه معصية متجددة تستدعي توبة.
وهو كلام وجيه إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة فلها عذر في الإحجام عن التمكين منه.
وتصح التوبة من ذنب دون ذنب خلافا لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر.
وأما التوبة من الكفر بالإيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر واو بقي متلبسا ببعض الكبائر بإجماع علماء الإسلام.
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداء، وكذلك الصغائر وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين وأصول الفقه والفقه.
(28/330)
إلا أن الله تفضل على المسلمين فغفر الصغائر لمن أجتنب الكبائر، أخذ ذلك من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} وقد مضى القول فيه في تفسير سورة النجم[32].
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المعود إليه ولا تنتقض فيما سو اهـ. وأن العود معصية تجب التوبة منها. وقال المعتزلة، تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب فتعود إليه ذنوبه ووافقهم الباقلاني.
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين.
والرجاء المستفاد من فعل {عسى} مستعمل في الوعد الصادر عن المتفضل على طريقة الاستعارة وذلك النائب لا حق له في أن يعفى عنه ما اقترفه لأن العصيان قد حصل وإنما التوبة عزم على عدم العودة إلى الذنب ولكن ما لصاحبها من الندم والخوف الذي بعث على العزم دل على زكاء النفس فجعل الله جزاءه أن يمحو عنه ما سلف من الذنوب تفضلا من الله فلذلك معنى الرجاء المستفاد من {عسى} .
وقد أجمع علماء الإسلام على أن التوبة من الكفر بالإيمان مقبولة قطعا لكثرة أدلة الكتاب والسنة، واختلفوا في تعين قبول توبة العاصي من المؤمنين، فقال جمهور أهل السنة قبولها مرحو غير مقطوع وممن قال به الباقلاني وإمام الحرمين. وعن الأشعري أنه مقطوع به سمعا والمعتزلة مقطوع به عقلا.
وتكفير السيئات: غفرانها، وهو مبالغة في كفر المخفف المتعدي الذي هو مشتق من الكفر بفتح الكاف، أي الستر.
{يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يوم} ظرف متعلق ب {يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ} وهو تعليق تخلص إلى الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه. وهو يوم القيامة وهذا الثناء عليهم بانتفاء خزي الله عنهم تعريض بأن الذين لم يؤمنوا معه يخزيهم الله يوم القيامة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين آمنوا لتشريف المؤمنين ولا علاقة له بالتعريض.
والخزي: هو عذاب النار، وحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87] على أن انتفاء الخزي يومئذ يستلزم الكرامة إذ لا واسطة بينهما كما
(28/331)
أشعر به قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
وفي صلة {الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو إيمانهم.
ومعية المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
و {مع} يجوز تعلقها بمحذوف حال من {الَّذِينَ آمَنُوا} أي حال كونهم مع الشيء في انتفاء خزي الله عنهم فيكون عموم {الَّذِينَ آمَنُوا} مخصوصا بغير الذين يتحقق فيهم خزي الكفر وهم الذين ارتدوا وماتوا على الكفر.
وفي هذه الآية دليل على المغفرة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز تعلق "مع" بفعل {آمنوا} أي الذين آمنوا به وصحبوه، فيكون مرادا به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يرتدوا بعده، فتكون الآية مؤذنة مفصلة للصحابة.
وضمير {نورهم} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه.
وإضافة نور إلى ضمير هم مع أنه لم يسبق إخبار عنهم بنور لهم ليست إضافة تعريف إذ ليس المقصود تعريف النور وتعيينه ولكن الإضافة مستعملة هنا في لازم معناها وهو اختصاص النور بهم في ذلك اليوم بحيث يميزه الناس من بين الأنوار يومئذ.
وسعي النور: امتداده وانتشاره. شبه ذلك باشتداد مشي الماشي وذلك أنه يحف بهم حيثما انتقلوا تنويها بشأنهم كما تنشر الأعلام بين يدي الأمير والقائد وكما تساق الجياد بين يدي الخليفة.
وإنما خص بالذكر من الجهات الأمام واليمين لأن النور إذا كان بين أيديهم تمتعوا بمشاهدته وشعروا بأنه كرامة لهم ولأن الأيدي هي التي تمسك بها الأمور النفيسة وبها بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان والنصر. وهذا النور نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين يوم القيامة. والباء للملابسة، ويجوز أن تكون بمعنى عن.
وقد تقدم نظير هذا في سورة الحديد وما ذكرناه هنا أوسع.
وجملة {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} إلى آخرها حال من ضمير {نورهم} ، وظاهرة أن يكون حالا مقارنة، أي يقولون ذلك في ذلك اليوم، ودعاؤهم طلب للزيادة من ذلك النور، فيكون ضمير {يقولون} عائد إلى جميع الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، أو يقول ذلك من كان نوره أقل من نور غيره ممن هو أفضل منه يومئذ فيكون ضمير {يقولون} على
(28/332)
إرادة التوزيع على طوائف الذين آمنوا في ذلك اليوم.
وإتمام النور إدامته أو الزيادة منه على الوجهين المذكورين آنفا وكذلك الدعاء بطلب المغفرة لهم هو لطلب دوام المغفرة، وذلك كله أدب مع الله وتواضع له مثل ما قبل في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم سبعين مرة.
ويظهر بذلك وجه التذييل بقولهم {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} المشعر بتعليل الدعاء كناية عن رجاء إجابته لهم.
[9] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
لما أبلغ الكفار ما سيحل بهم في الآخرة تصريحا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} [التحريم:7] وتعريضا بقوله: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بمسمع منهم بأن يجاهدهم ويجاهد المستترين لكفرهم بظاهر الإيمان نفاقا، حتى إذا لم تؤثر فيهم الموعظة بعقاب الآخرة يخشون أن يسلط عليهم عذاب السيف في العاجلة فيقلعوا عن الكفر فيصلح نفوسهم وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الكفار تألبوا مع المنافقين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوهم عيونا لهم وأيدي يدسون بها الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
فهذا نداء ثان للنبي صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح عموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج.
وجهاد الكفر ظاهر، وأما عطف {المنافقين} على {الكفار} المفعول ل {جاهد} فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد المنافقين وكان حال المنافقين ملتبسا إذ لم يكن أحد من المنافقين معلنا بالكفر ولا شهد على أحد منهم بذلك ولم يعين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منافقا يوقن بنفاقه وكفره أو أطلعه خاصا ولم يأمره بإعلانه بين المسلمين كما يؤخذ ذلك من أخبار كثيرة في الآثار.
فتعين تأويل عطف {المنافقين} على {الكفار} إما بأن يكون فعل {جاهد} مستعملا في حقيقته ومجازة وهما الجهاد بالسيف والجهاد بإقامة الحجة والتعريض للمنافق بنفاقه فإن ذلك يطلق عليه الجهاد مجازا كما في قوله صلى الله عليه وسلم "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى
(28/333)
الجهاد الأكبر"، وقوله للذي سأله الجهاد فقال له: "ألك أبوان"? قال: نعم: "ففيهما فجاهد".
وعندي أن الأقرب في تأويل هذا العطف أن يكون المراد منه إلقاء الرعب في قلوب المنافقين ليشعروا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمرصاد منهم فلو بدت من أحدهم بادرة يعلم منها نفاقه عومل معاملة الكافر في الجهاد بالقتل والأسر فيحذروا ويكفوا عن الكيد للمسلمين خشية الإفضاح فتكون هذه الآية من قبيل قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60،61].
والغلظة: حقيقتها صلابة الشيء وهي مستعارة هنا للمعاملة بالشدة بدون عفو ولا تسامح، أي كن غليظا، أي شديدا في إقامة ما أمر الله به أمثالهم. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} في سورة براءة[123]، وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ} في سورة آل عمران [159].
والماوى: المسكن، وهو مفعل من أوى إذا رجع لأن الإنسان يرجع إلى مسكنه.
[10] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} .
أعقب جملة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم:9] الآية المقصود منها تهديدهم بعذاب السيف في الدنيا وإنذارهم بعذاب الآخرة وما قارن ذلك من مقابلة حالهم بحال المؤمنين، بأن ضرب مثلين للفريقين بنظرين في حاليهما لتزداد الموعظة وضوحا ويزداد التنويه بالمؤمنين استنارة. وقد تقدمت فائدة ذكر الأمثال في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17].
وضرب المثل: إلقاؤه وإيضاحه، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} في سورة البقرة[26].
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. وهذا المثل لا يخلوا من تعريض بحث زوجي النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته وبأن رضى الله تعالى يتبع رضى رسله. فقد كان الحديث عن
(28/334)
زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم قريبا وكان عملهما ما فيه بارقة من مخالفة، وكان في المثلين ما فيه إشعار بالحالين.
وتعدية ضرب اللام الدال على العلة تفيد أن إلقاء المثل لأجل مدخولا اللام. فمعنى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أنه ألقى هذا التنظير لأجلهم، أي اعتبارهم بهم وقياس حالهم على حال المثل به، فإذا قيل: ضرب لفلان مثلا، كان المعنى: أنه قصده به وأعلمه إياه، كقوله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً} [الزخرف:58] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الروم:58]. ونحو ذلك وتقديم المجرور باللام على المفعولين للاهتمام بإيقاظ الذين كفروا.
فمعنى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} ، أن الله جعل حالة هاتين المرأتين عظة وتنبيها للذين كفروا، أي ليذكرهم بأن الله لا يصرفه عن وعيده صارف فلا يحبسوا أن لهم شفعاء عند الله، ولا أن مكانهم من جوار بينه وعمارة مسجده وسقاية حجيجه تصرف غضب الله عنهم، فإن هم أقلعوا عن هذا الحسبان أقبلوا على التدبر في النجاة من وعيد بالنظر في دلائل دعوة القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فلو كان صارف يصرف الله عن غضبه لكان أولى الأشياء بذلك مكانة هاتين المرأتين من زوجيها رسولي رب العالمين.
ومناسبة ضرب المثل بامرأة لوط دون غيرها من قرابة الأنبياء نحو أبي إبراهيم وابن نوح عليهما السلام لأن ذكر هاتين المرأتين لم يتقدم. وقد تقدم ذكر أبي إبراهيم وابن نوح، لتكون في ذكرهما فائدة مستجدة، وليكون في ذكرهما عقب ما سبق من تملوء أمي المؤمنين على زوجها صلى الله عليه وسلم تعريض لطيف بالتحذير من خاطر الاعتزاز بغناء الصلة الشريفة عنهما في الوفاء بحق ما يجب من الإخلاص للنبي صلى الله عليه وسلم ليكون الشبه في التمثيل وأقوى. فعن مقاتل يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم. ووضحه في الكشاف بأنه من قبيل التعريض. ومنعه الفخر، وقال ابن عطية: قال بعض الناس في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن. وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا اهـ.
ويدفع استبعاده أن دلالة التعريض لا تنافي اللفظ الصريح، ومن لطائف التقيد بقوله تعالى: {للَّذِينَ كَفَرُوا} أن المقصد الأصلي هو ضرب المثل للذين كفروا وذلك من الاحتراس من أن تحمل التمثيل على المشابهة من جميع الوجوه والاحتراس بكثرة
(28/335)
التشبيهات ومنه تجريد للاستعارة.
وقصة امرأة نوح لم تذكر في القرآن في غير هذه الآية والذي يظهر أنها خانت زوجها بعد الطوفان وأن نوحا لم يعلم بخونها لأن الله سمى عملها خيانة.
وقد ورد في سفر التكوين من التوراة ذكر امرأة نوح مع الذين ركبوا السفينة وذكر خروجها من السفينة بعد الطوفان ثم طوى ذكرها لما ذكر الله بركته نوحا وبنيه وميثاقه معهم فلم تذكر معهم زوجه. فلعلها كفرت بعد ذلك أو لعل نوحا تزوج امرأة أخرى بعد الطوفان لم تذكر في التوراة.
ووصف الله فعل امرأة نوح بخيانة زوجها، فقال المفسرون: هي خيانة في الدين، أي كانت كافرة مسرة الكفر، فلعل الكفر حدث مرة أخرى في قوم نوح بعد الطوفان ولم يذكر في القرآن.
وأما حديث امرأة لوط في القرآن مرات. وتقدم في سورة الأعراف ويقال: فلانة كانت تحت فلان، أي كانت زوجا له.
والتحتية هنا مجاز في معنى الصيانة ومنه قول أنس بن مالك في الحديث المروي في الموطأ وفي صحيح البخاري عن أم حرام بنت ملحان وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت.
ومن بدائع الأجوبة أن أحد الأمراء من الشيعة سأل أحد علماء السنة: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم? فأجابه: الذي كانت ابنته تحته فظن أنه فضل عليا إذ فهم أن الضمير المضاف إليه ابنة ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الضمير المضاف إليه تحت ضمير اسم الموصول، وإنما أراد السني العكس بأن يكون ضمير ابنته ضمير الموصول تحته ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو أبو بكر.
وقد ظهر أن المراد بالعبدين نوح ولوط وإنما خصا بوصف عبدين صالحين مع أن وصف النبوة من وصف الصلاح تنويها بوصف الصلاح وإيماء إلى أن النبوة صلاح ليعظم شأن الصالحين كما في قوله تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:112]. ولتكون الموعظة سارية إلى نساء المسلمين في معاملتهن أزواجهن فإن وصف النبوة قد انتهى بالنسبة للامة الإسلامية مع ما في ذلك من تهويل الأذى لعباد الله الصالحين وعناية ربهم بهم ومدافعته عنهم.
(28/336)
والخيانة والخون ضد الأمانة وضد الوفاء، وذلك تفريط المرء ما أوتمن عليه وما عهد به إليه. وقد جمعها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [لأنفال:27].
وانتصب {شيئا} على المفعولية المطلقة {يغنيا} لأن المعنى شيئا من الغنى، وتنكير {شيئا} للتحقير، أي عنى وأجحفه بله الغنى المهم، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة الجاثية [19].
وزيادة {مَعَ الدَّاخِلِينَ} لإفادة مساواتها في العذاب لغيرهما من الكفرة الخونة. وذلك تأييس من أن ينتفعا من حظوة زوجهما كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22].
[11] {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
لما ضرب المثل {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:10] أعقب بضرب مثل للذين آمنوا لتحصل المقابلة فيتضح مقصود المثلين معا، وجريا على عادة القرآن في إتباع الترهيب بالترغيب.
وجعل المثل للذين آمنوا بحال امرأتين لتحصل المقابلة للمثلين السابقين، فهذا مراعاة النظير في المثلين.
وجاء أحد المثلين للذين آمنوا لإخلاص الإيمان. والمثل الثاني لشدة التقوى.
فكانت امرأة فرعون مثلا لمتانة المؤمنين ومريم مثلا للقانتين لأن المؤمنين تبرأوا من ذوي قرابتهم الذي بقوا على الكفر بمكة.
وامرأة فرعون هذه هي امرأة فرعون الذي أرسل إليه موسى وهو منفطح الثالث وليست امرأة فرعون التي تبنت موسى حين التقطته من اليم، لأن ذلك وقع في زمن فرعون رعمسيس الثاني وكان بين الزمنين ثمانون سنة. ولم يكن عندهم علم بدين قبي أي يرسل إليهم موسى.
ولعل امرأة فرعون هذه كانت من بنات إسرائيل تزوجها فرعون فكانت مؤمنة برسالة موسى عليه السلام. وقد حكى بعض المفسرين أنها عمة موسى أو تكون هداها الله إلى الإيمان كما هدى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي تقدم ذكره في سورة غافر.
(28/337)
وسماها النبي صلى الله عليه وسلم آسية في قوله: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون" رواه البخاري.
وأرادت بعمل فرعون ظلمه، أي نجني من تبعه أعماله فيكون معنى نجني {نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ} من صحبته طلبت لنفسها فرجا وهو عطف الخاص على العام.
ومعنى {قالت} أنها أعلنت به، فقد روى أن فرعون اطلع عليها وأعلن ذلك لقومه وأمر بتعذيبها فماتت في تعذيبه ولم تحس ألما.
والقوم الظالمون: هم قوم فرعون. وظلمهم: إشراكهم بالله.
والظاهر أن قولها {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} مؤذن بأن فرعون وقومه صدوها عن الإيمان به وزينوا لها أنها آمنت بموسى تضيع ملكا عظيما وقصرا فخيما أو أن فرعون وعظها بأنها أصرت على ذلك تقتل، فلا يكون مدفنها الهرم الذي بناه فرعون لنفسه لدفنه في بادئ الملوك. ويؤيد هذا ما رواه المفسرون أن بيتها في الجنة من درة واحدة فتكون مشابهة الهرم الذي كان معدا لحفظ جثتها بعد موتها وزوجها. فقولها ذلك كقول السحرة الذين آمنوا جوابا عن تهديد فرعون {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} الآية في سورة طه[72].
[12] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} .
عطف على {امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ} ، أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران، فضرب مثلين في الشر ومثلين في الخير.
ومريم ابنة عمران تقدم الكلام على نسبها وكرامتها في سورة آل عمران وغيرها، وقد ذكر الله باسمها في عدة مواضع من القرآن وقال ابن التلمساني في شرح الشفاء لعياض: لم يذكر الله امرأة في القرآن باسمها إلا مريم على أنها أمة الله إبطالا لعقائد النصارى.
والإحصان: جعل الشيء حصينا، أي لا يسلك إليه. ومعناه: منعت فرجها عن الرجال.
وتفريع {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} تفريع العطية على العمل لأجله. أي جزيناها على
(28/338)
إحصان فرجها، أي بأن كون الله فيه نبيا بصفة خارقة للعادة فخلد بذلك ذكرها في الصالحات.
والنفخ: مستعار لسرعة إبداع الحياة في المكون في رحمها. وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة لأن تكوين المخلوق الحي في رحمها كان دون الأسباب المعتادة، أو أريد بالروح الملك الذي يؤمر بنفخ الأرواح في الأجنة، فعلى الأول تكون {من} تبعيضية، وعلى الثاني تكون ابتدائية، وتقدم قوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} في سورة الأنبياء [91].
وتصديقها: يقينها بأن ما أبلغ إليها من الملك من إرادة الله حملها.
و {كَلِمَاتِ رَبِّهَا} : هي الكلمات التي ألقاها إليها بطريق الوحي.
و {كتابه} يجوز أن يكون المراد به الإنجيل الذي جاء به ابنها عيسى وهو وإن لم يكن مكتوبا في زمن عيسى فقد كتبه الحواريون في حياة مريم.
ويجوز أن يراد ب {كتابه} ، أراده الله وقدره أن تحمل من دون مس رجل إياها من باب وكان كتابا مفعولا.
والقانت: المتحمض للطاعة. يجوز أن يكون و {من} للابتداء.
والمراد بالقانتين: المكثرون من العبادة. والمعنى أنها كانت سليلة قوم صالحين، أي فجاءت على طريقة أصولها في الخير والعفاف.
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وهذا إيماء إلى تبرئتها مما رماها به القوم البهت.
وهذا نظير قوله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26].
ويجوز أن تجعل {من} للتبعيض، أي هي بعض من قنت لله. وغلبت صيغة جمع الذكور ولم يقل: من القانتات، جريا على طريقة التغليب وهو تخريج الكلام على مقتضى الظاهر. وهذه الآية مثال في علم المعاني.
ونكتته هنا الإشارة إلى أنها في عداد أهل الإكثار من العبادة وأن شأن ذلك أن يكون للرجال لأن نساء بني إسرائيل كن معفيات من عبادات كثيرة.
(28/339)
ووصف مريم بالموصول وصلته لأنها عرفت بتلك الصلة من قصتها المعروفة من تكرر ذكرها فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة.
وفي ذكر {القانتين} إيماء إلى ما أوصى الله به أمهات المؤمنين بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31] الآية.
وقرأ الجمهور {وكتابه} . وقرأه حفص وأبو عمرو ويعقوب {وكتبه} بصيغة الجمع، أي آمنت بالكتب التي أنزلت قبل عيسى وهي التوراة و الزبور وكتب الأنبياء من بني إسرائيل، و الإنجيل إن كان قد كتبه الحواريون في حياتها.
(28/340)
المجلد التاسع والعشرون
سورة الملك
...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
سماها النبي صلى الله عليه وسلم "سورة تبارك الذي بيده الملك" في حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفرت له وهي "سورة تبارك الذي بيده الملك" قال الترمذي هذا حديث حسن.
فهذا تسمية للسورة بأول جملة وقعت فيها فتكون تسمية بجملة كما سمي ثابت بن جابر تأبط شرا. ولفظ سورة مضاف إلى تلك الجملة المحكية.
وسميت أيضا "تبارك الملك" بمجموع الكلمتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبسمع منه فيما رواه الترمذي عن ابن عباس أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له ضربت خبائي على قبر وأنا لا أحسب أنه قبر فإذا فيه إنسان أي دفين فيه يقرأ سورة "تبارك الملك" حتى ختمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" حديث حسن غريب يكون اسم السورة مجموع هذين اللفظين على طريقة عد الكلمات في اللفظ دون إضافة إحداهما إلى الأخرى مثل تسمية لام ألف. ونظيره أسماء السور بالأحرف المقطعة التي في أولها على بعض الأقوال في المراد منها وعليه فيحكى لفظ "تبارك" بصيغة الماضي ويحكى لفظ "الملك" مرفوعا كما هو في الآية، فيكون لفظ سورة مضافا من إضافة المسمى إلى الاسم. لأن المقصود تعريف السورة بهاتين الكلمتين على حكاية اللفظين الواقعين في أولها مع اختصار ما بين الكلمتين وذلك قصدا للفرق بينهما وبين تبارك الفرقان. كما قالوا: عبيد الله الرقيات، بإضافة مجموع عبيد الله إلى الرقيات تمييزا لعبيد الله بن قيس العامر1 الشاعر عن غيره ممن يشبه اسمه اسمه مثل عبيد الله
ـــــــ
1 هو من بني عامر بن لؤي شاعر مجيد من شعراء العصر الأموي.
(29/5)
ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود أو لمجرد اشتهاره بالتشبيه في نساء كان اسم كل واحدة منهن رقية1 وهن ثلاث. ولذلك يجب أن يكون لفظ "تبارك" في هذا المركب مفتوح الآخر. ولفظ "الملك" مضموم الكاف. وكذلك وقع ضبطه في نسخة جامع الترمذي وكلتاهما حركة حكاية.
والشائع في كتب السنة وكتب التفسير وفي أكثر المصاحف تسمية هذه السورة سورة الملك وكذلك ترجمها الترمذي: باب ما جاء في فضل سورة الملك. وكذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه .
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال كنا نسميها على عهد رسول الله المانعة، أي أخذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم إياها بأنها المانعة المنجية كما في حديث الترمذي المذكور آنفا وليس بالصريح في التسمية.
وفي الإتقان عن تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها "المنجية" ولعل ذلك من وصفه إياها بالمنجية في حديث الترمذي وليس أيضا بالصريح في أنه اسم.
وفي الإتقان عن كتاب جمال القراء تسمى أيضا الواقية، وتسمى المناعة بصيغة المبالغة.
وذكر الفخر: أن ابن عباس كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها عند سؤال الملكين ولم أره لغير الفخر.
فهذه ثمانية أسماء سميت بها هذه السورة.
وهي مكية قال ابن عطية والقرطبي: باتفاق الجميع.
وفي الإتقان أخرج جويبر2 في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس نزلت
ـــــــ
1 هي رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد من بني عامر بن لؤي، وابنة عم لها يقال لها: رقية، ورقية أخرى امرأة من بني أمية وكن في عصر واحد.
2 كتب في نسخة مخطوطة جويبر بصيغة تصغير جابر والذي في المطبوعة جبير بصيغة تصغير جبر ترجمه في طبقات المفسرين في اسم جبير بن غالب يكنى أبا فراس كان فقيها شاعرا خطيبا فصيحا، له كتاب "أحكام القرآن" . وكتاب "السنن والأحكام" . و "الجامع الكبير" في الفقه، وله رسالة كتب بها إلى مالك بن أنس، ذكره ابن النديم وعده من الشراة من الخوارج.
(29/6)
تبارك الملك في أهل مكة إلا ثلاث آيات اه. فيحتمل أن الضحاك عنى استثناء ثلاث آيات نزلت في المدينة. وهذا الاحتمال هو الذي يقتضيه إخراج صاحب الإتقان هذا النقل في عداد السور المختلف في بعض آياتها، ويحتمل أن يريد أن ثلاث آيات منها غير مخاطب بها أهل مكة، وعلى كلا الاحتمالين فهو لم يعين هذه الآيات الثلاث وليس في آيات السورة ثلاث آيات لا تتعلق بالمشركين خاصة بل نجد الخمس الآيات الأوائل يجوز أن يكون القصد منها الفريقين من أول السورة إلى قوله: {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5].
وقال في "الإتقان" أيضا فيها قول غريب لم يعزه أن جميع السورة مدني. وهي السادسة والسبعون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة المؤمنين وقبل سورة الحاقة.
وآيها في عد أهل الحجاز إحدى وثلاثون وفي عد غيرهم ثلاثون.
أغراض السورة
والأغراض التي في هذه السورة جارية على سنن الأغراض في السور المكية.
ابتدأت بتعريف المؤمنين معاني من العلم بعظمة الله تعالى وتفرده بالملك الحق؛ والنظر في إتقان صنعه الدال على تفرده بالإلهية فبذلك يكون في تلك الآيات حظ لعظة المشركين.
ومن ذلك التذكير بأنه أقام نظام الموت والحياة لتظهر في الحالين مجاري أعمال العباد في ميادين السبق إلى أحسن الأعمال ونتائج مجاريها.
وأنه الذي يجازي عليها.
وانفراده بخلق العوالم خلقا بالغا غاية الإتقان فيما تراد له.
وأتبعه بالأمر بالنظر في ذلك وبالإرشاد إلى دلائله الإجمالية وتلك دلائل على انفراده بالإلهية.
متخلصا من ذلك إلى تحذير الناس من كيد الشياطين، والارتباق معهم في ربقة عذاب جهنم وأن في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم نجاة من ذلك وفي تكذيبه الخسران، وتنبيه المعاندين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى علم الله بما يحوكونه للرسول ظاهرا وخفية بأن علم الله محيط بمخلوقاته.
والتذكير بمنة خلق العالم الأرضي، ودقة نظامه، وملاءمته لحياة الناس، وفيها
(29/7)
سعيهم ومنها رزقهم.
والموعظة بأن الله قادر على إفساد ذلك النظام فيصبح الناس في كرب وعناء يتذكروا قيمة النعم بتصور زوالها.
وضرب لهم مثلا في لطفه تعالى بهم بلطفه بالطير في طيرانها.
وأيسهم من التوكل على نصرة الأصنام أو على أن ترزقهم رزقا.
وفظع لهم حالة الضلال التي ورطوا أنفسهم فيها.
ثم وبخ المشركين على كفرهم نعمة الله تعالى وعلى وقاحتهم في الاستخفاف بوعيده وأنه وشيك الوقوع بهم.
ووبخهم على استعجالهم موت النبي صلى الله عليه وسلم ليستريحوا من دعوته.
وأوعدهم بأنهم سيعلمون ضلالهم حين لا ينفعهم العلم، وأنذرهم بما قد يحل بهم من قحط وغيره.
[1] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
افتتحت السورة بما يدل على منتهى كمال الله تعالى افتتاحا يؤذن بأن ما حوته يحوم حول تنزيه الله تعالى عن النقص الذي افتراه المشركون لما نسبوا إليه شركاء في الربوبية والتصرف معه والتعطيل لبعض مراده. ففي هذا الافتتاح براعة الاستهلال كما تقدم في طالع سورة الفرقان.
وفعل {تَبَارَكَ} يدل على المبالغة في وفرة الخير وهو في مقام الثناء يقتضي العموم بالقرينة، أي يفيد أن كل وفرة من الكمال ثابتة لله تعالى بحيث لا يتخلف نوع منها عن أن يكون صفة له تعالى.
وصيغة تفاعل إذا أسندت إلى واحد تدل على تكلف فعل ما اشتقت منه نحو تطاول وتغابن، وترد كناية عن قوة الفعل وشدته مثل: تواصل الحبل.
وهو مشتق من البركة، وهي زيادة الخير ووفرته، وتقدمت البركة عند قوله تعالى: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} في [سورة هود48].
وتقدم {تَبَارَكَ} عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} في أول [الأعراف: 54]
(29/8)
وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه، وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]: إما على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء، وإما باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها، ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هذين المعنيين، وقد تقدم في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1].
وجعل المسند إليه اسم موصول للإيذان بأن معنى الصلة، مما اشتهر به كما هو غالب أحوال الموصول فصارت الصلة مغنية عن الاسم العلم لاستوائهما في الاختصاص به إذ يعلم كل أحد أن الاختصاص بالملك الكامل المطلق ليس إلا لله.
وذكر {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} هنا نظير ذكر مثله عقب نظيره في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} إلى قوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:158].
والباء في {بِيَدِهِ} يجوز أن تكون بمعنى في مثل الباء التي تدخل على أسماء الأمكنة نحو {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ} [آل عمران:123] وقول أمرء القيس:
بسقط اللوى
فالظرفية هنا مجازية مستعملة في معنى إحاطة قدرته بحقيقة الملك، الملك على هذا اسم للحالة التي يكون صاحبها ملكا.
والتعريف في { الْمُلْكُ} على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس، وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.
واليد على هذا الوجه استعارة للقدرة والتصرف كما في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذريات: 47] وقول العرب: ما لي بهذا الأمر يدان.
ويجوز أن تكون الباء للسببية، ويكون {الْمُلْكُ} اسما فيأتي في معناه ما قرر في الوجه المتقدم.
وتقديم المسند وهو {بِيَدِهِ} على المسند إليه لإفادة الاختصاص، أي الملك بيده لا
(29/9)
بيد غيره.
وهو قصر ادعائي مبني على عدم الاعتداد بملك غيره، ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الاصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك ملك غير تام لأنه لا يعم المملوكات كلها، ولأنه معرض للزوال، وملك الله هو الملك الحقيقي، قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114].
فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون.
واليد: تمثيل بأن شبهت الهيئة المعقولة المركبة من التصرف المطلق في الممكنات الموجودة والمعدومة بالإمداد والتغيير والإعدام والإيجاد؛ بهيئة إمساك اليد بالشيء المملوك تشبيه معقول بمحسوس في المركبات.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} في [سورة آل عمران: 26].
و { الْمُلْكِ } بضم الميم: اسم لأكمل أحوال الملك بكسر الميم، والملك بالكسر جنس للملك بالضم، وفسر الملك المضموم بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وهو تفسير قاصر. وأرى أن يفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفا كاملا بتدبير ورعاية، فكل ملك بالضم ملك بالكسر وليس كل ملك ملكا.
وقد تقدم في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} في [الفاتحة:4] وعند قوله: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا} في [البقرة:247]. وجملة {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} معطوفة على جملة {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة، إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات، وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات، فيكون قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تفادي من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وتكون هذه الجملة تتميما للصلة. وفي معنى صلة ثانية ثم عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ} [الملك:2] وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [الملك:3].
و"شيء": ما يصح أن يعلم ويخبر عنه. وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق "الشيء" على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات. وأما التزام
(29/10)
الأشاعرة: أن الشيء لا يطلق إلا على الموجود فهو التزام ما لا يلزم دعا إليه سد باب الحجاج مع المعتزلة في أن الوجود عين الموجود أو زائد على الموجود، فتفرعت عليه مسألة: أن المعدوم شيء عند جمهور المعتزلة وأن الشيء لا يطلق إلا على الموجود عند الأشعري وبعض المعتزلة وهي مسألة لا طائل تحتها، والخلاف فيها لفظي، والحق أنها مبنية على الاصطلاح في مسائل علم الكلام لا على تحقيق المعنى في اللغة.
وتقديم المجرور في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} للاهتمام بما فيه من التعميم، ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنه لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.
[2] {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} .
صفة لـ {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] فلما شمل قوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] تعلق القدرة بالموجود والمعدوم أتبع بوصفه تعالى بالتصرف الذي منه خلق المخلوقات وأعراضها لأن الخلق أعظم تعلق القدرة بالمقدور لدلالته على صفة القدرة وعلى صفة العلم.
وأوثر بالذكر من المخلوقات الموت والحياة لأنهما أعظم العوارض لجنس الحيوان الذي هو أعجب الموجود على الأرض والذي الإنسان نوع منه، وهو المقصود بالمخاطبة بالشرائع والمواعظ، فالإماتة تصرف في الموجود بإعداده للفناء، والإحياء تصرف في المعدوم بإيجاده ثم إعطائه الحياة ليستكمل وجود نوعه.
فليس ذكر خلق الموت والحياة تفصيلا لمعنى الملك بل هو وصف مستقل.
والاقتصار على خلق الموت والحياة لأنهما حالتان هما مظهرا تعلق القدرة بالمقدور في الذات والعرض لأن الموت والحياة عرضان والإنسان معروض لهما.
والعرض لا يقوم بنفسه فلما ذكر خلق العرض علم من ذكره خلق معروضه بدلالة الاقتضاء.
وأوثر ذكر الموت والحياة لما يدلان عليه من العبرة بتداول العرضين المتضادين على معروض واحد، وللدلالة على كمال صنع الصانع، فالموت والحياة عرضان يعرضان للموجود من الحيوان، والموت يعد الموجود للفناء والحياة تعد الموجود للعمل للبقاء
(29/11)
مدة. وهما عند المتكلمين من الأعراض المختصة بالحي، وعند الحكماء من مقولة الكيف ومن قسم الكيفيات النفسانية منه.
فالحياة: قوة تتبع اعتدال المزاج النوعي لتفيض منها سائر القوى.
و {الموت} : كيفية عدمية هو عدم الحياة عما شأنه أن يوصف بالحياة أو الموت، أي زوال الحياة عن الحي، فبين الحياة والموت تقابل العدم والملكة.
ومعنى خلق الحياة: خلق الحي لأن قوام الحي هو الحياة، ففي خلقه خلق ما به قوامه، وأما معنى {خَلَقَ الْمَوْتَ} فإيجاد أسبابه وإلا فإن الموت عدم لا يتعلق به الخلق بالمعنى الحقيقي، ولكنه لما كان عرضا للمخلوق عبر عن حصوله بالخلق تبعا كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
وأيضا لأن الموت تصرف في الموجود القادر الذي من شأنه أن يدفع عن نفسه ما يكرهه. والموت مكروه لكل حي فكانت الإماتة مظهرا عظيما من مظاهر القدرة لأن فيها تجلي وصف القاهر.
فأما الإحياء فهو من مظاهر وصف القادر ولكن مع وصفه المنعم.
فمعنى القدرة في الإماتة أظهر وأقوى لأن القهر ضرب من القدرة.
ومعنى القدرة في الإحياء خفي بسبب أمرين بدقة الصنع وذلك من آثار صفة العلم، وبنعمة كمال الجنس وذلك من آثار صفة الإنعام. وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} في [البقرة:28].
وفي ذكرهما تخلص إلى ما يترتب عليهما من الآثار التي أعظمها العمل في الحياة والجزاء عليه بعد الموت، وذلك ما تضمنه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له وهو الجزاء على العمل للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين في الحيوان لتظهر حكمة خلق الإنسان ويفضيا به إلى الوجود الخالد، كما أشار إليه قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
وهذا التعليل من قبيل الإدماج.
وفيه استدلال على الوحدانية بدلالة في أنفسهم قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
(29/12)
والمعنى: أنه خلق الموت والحياة ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات، ثم أمواتا يخلصون إلى يوم الجزاء فيجزون على أعمالهم بما يناسبها.
فالتعريف في {الموت} و {الحياة} تعريف الجنس. وفي الكلام تقدير: هو الذي خلق الموت والحياة لتحيوا فيبلوكم أيكم أحسن عملا، وتموت فتجزوا على حسب تلك البلوى، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة.
وجملة {لِيَبْلُوَكُمْ} إلى آخرها معترضة بين الموصولين.
واللام في {لِيَبْلُوَكُمْ} لام التعليل، أي في خلق الموت والحياة حكمة أن يبلوكم. الخ.
وتعليل فعل بعلة لا يقتضي انحصار علله في العلة المذكورة فإن الفعل الواحد تكون له علل متعددة فيذكر منها ما يستدعيه المقام، فقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} تعليل لفعل {خَلَقَ} باعتبار المعطوف على مفعوله، وهو {وَالْحَيَاةَ} لأن حياة الإنسان حياة خاصة تصحح للموصوف بمن قامت به الإدراك الخاص الذي يندفع به إلى العمل باختياره، وذلك العمل هو الذي يوصف بالحسن والقبح، وهو ما دل عليه بالمنطوق والمفهوم قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي وأيكم أقبح عملا.
ولذلك فذكر خلق الموت إتمام للاستدلال على دقيق الصنع الإلهي وهو المسوق له الكلام، وذكر خلق الحياة إدماج للتذكير، وهو من أغراض السورة.
ولا أشك في أن بناء هذا العالم على ناموس الموت والحياة له حكمة عظيمة يعسر على الإفهام الاطلاع عليها.
والبلوى: الاختبار وهي هنا مستعارة للعلم أي ليعلم علم ظهور أو مستعارة لإظهار الأمر الخفي، فجعل إظهار الشيء الخفي شبيها بالاختبار.
وجملة {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} مرتبطة بـ {يبلوكم} .
و"أي" اسم استفهام ورفعه يعين أنه مبتدأ وأنه غير معمول للفظ قبله فوجب بيان موقع هذه الجملة، وفيه وجهان:
أحدهما قول الفراء والزجاج والزمخشري في تفسير أول سورة هود أن جملة الاستفهام سادة مسد المفعول الثاني، وأن فعل {يبلوكم} المضمن معنى "يعلمكم" معلق
(29/13)
عن العمل في المفعول الثاني، وليس وجود المفعول الأول مانعا من تعليق الفعل عن العمل في المفعول الثاني وأن لم يكن كثيرا في الكلام.
والوجه الثاني أن تكون الجملة واقعة في محل المفعول الثاني {لِيَبْلُوَكُمْ} أي تؤول الجملة بمعنى مفرد تقديره: ليعلمكم أهذا الفريق أحسن عملا أم الفريق الآخر.
وهذا مختار صاحب الكشاف في تفسير هذه الآية. ومبناه على أن تعليق أفعال العلم عن العمل لا يستقيم إلا إذا لم يذكر للفعل مفعول فإذا ذكر مفعول لم يصح تعليق الفعل عن المفعول الثاني، وحاصله: أن التقدير ليعلم الذين يقال في حقهم {أَيُّهم أَحْسَنُ عَمَلاً} على نحو قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} [مريم:69] أي لننزعن الذين يقال فيهم: أيهم أشد.
وجوز صاحب التقريب أن يكون التقدير: ليعلم جواب سؤال سائل: أيكم أحسن عملا.
قلت: ولك أن تجعل جملة {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} مستأنفة وتجعل الوقف على قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} ويكون الاستفهام مستعملا في التحضيض على حسن العمل كما هو في قول طرفة:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني ... عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
فجعل الاستفهام تحضيضا.
و {أَحْسَنُ} تفضيل، أي أحسن عملا من غيره، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأولى لأن إحصاءها والإحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع، ومن الفساد في النفس، وفي نظام العالم، وذلك أولى بالعقاب عليه ففي قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} إيجاز.
وجملة: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} تذييل لجملة {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} إشارة إلى صفاته تعالى تقتضي تعلقا بمتعلقاتها لئلا تكون معطلة في بعض الأحوال والأزمان فيفضي ذلك إلى نقائضها. فأما "العزيز" فهو الغالب الذي لا يعجز عن شيء، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} كما تقدم آنفا، أي ليجزيكم جزاء العزيز، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة. وهذا
(29/14)
حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} .
وأما {الغفور} فهو الذي يكرم أولياءه ويصفح عن فلتاتهم فهو مناسب للجزاء على الطاعات وكناية عنه، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين.
[3-4] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور،ٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} .
صفة ثانية للذي بيده الملك، أعقب التذكير بتصرف الله بخلق الإنسان وأهم أعراضه بذكر خلق أعظم الموجودات غير الإنسان وهي السماوات، ومفيدة وصفا من عظيم صفات الأفعال الإلهية ولذلك أعيد فيها اسم الموصول لتكون الجمل الثلاث جارية على طريقة واحدة.
والسماوات تكرر ذكرها في القرآن. والظاهر أن المراد بها الكواكب التي هي مجموع النظام الشمسي ما عدا الأرض. كما تقدم عند قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في [البقرة:29] فإنها هي المشاهدة بأعين المخاطبين، فالاستدلال بها استدلال بالمحسوس.
والطباق يجوز أن يكون مصدر طابق وصفت به السماوات للمبالغة، أي شديدة المطابقة، أي مناسبة بعضها لبعض في النظام.
ويجوز أن تكون {طِبَاقاً} جمع طبق، والطبق المساوي في حالة ما، ومنهم قولهم في المثل وافق شن طبقة.
والمعنى: أنها مرتفع بعضها فوق بعض في الفضاء السحيق، أو المعنى: أنها متماثلة في بعض الصفات مثل التكوير والتحرك المنتظم في أنفسها وفي تحرك كل واحدة منها بالنسبة إلى تحرك بقيتها بحيث لا ترتطم ولا يتداخل سيرها.
وليس في قوله: {طِبَاقاً} ما يقتضي أن بعضها مظروف لبعض لأن ذلك ليس من مفاد مادة الطباق "فلا تكن طباقاء".
وجاءت جملة {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} تقريرا لقوله: {خَلَقَ سَبْعَ
(29/15)
سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
فإن نفي التفاوت يحقق معنى التطابق، أي التماثل. والمعنى: ما ترى في خلق الله السماوات تفاوتا. وأصل الكلام: ما ترى فيهن ولا في خلق الرحمن من تفاوت فعبر بخلق الرحمن لتكون الجملة تذييلا لمضمون جملة {خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ، لأن انتفاء التفاوت عما خلقه الله متحقق في خلق السماوات وغيرها، أي كانت السماوات طباقا لأنها من خلق الرحمن، وليس فيما خلق الرحمن من تفاوت ومن ذلك نظام السماوات.
والتفاوت بوزن التفاعل: شدة الفوت، والفوت: البعد، وليست صيغة التفاعل فيه لحصول فعل من جانبين ولكنها مفيدة للمبالغة.
ويقال: تفوت الأمر أيضا، وقيل: إن تفوت، بمعنى حصل فيه عيب.
وقرأ الجمهور {مِنْ تَفَاوُتٍ} ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف {من تفوّت} بتشديد الواو دون ألف بعد الفاء، وهي مرسومة في المصحف بدون ألف كما هو كثير في رسم الفتحات المشبعة.
وهو هنا مستعار للتخالف وانعدام التناسق لأن عدم المناسبة يشبه البعد بين الشيئين تشبيه معقول بمحسوس.
والخطاب لغير معين، أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا.
والمقصود منه التعريض بأهل الشرك إذ أضاعوا النظر والاستدلال بما يدل على وحدانية الله تعالى بما تشاهده أبصارهم من نظام الكواكب، وذلك ممكن لكل من يبصر، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] فكأنه قال: ما ترون في خلق الرحمن من تفاوت، فيجوز أن يكون {خَلْقِ الرَّحْمَنِ} بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان: 11]، ويراد منه السماوات، والمعنى: ما ترى في السماوات من تفاوت، فيكون العدول عن الضمير لتتأتى الإضافة إلى اسمه {الرَّحْمَنِ} المشعر بأن تلك المخلوقات فيها رحمة بالناس كما سيأتي.
ويجوز أن يكون {خَلْقِ} مصدرا فيشمل خلق السماوات وخلق غيرها فإن صنع الله رحمة للناس لو استقاموا كما صنع لهم وأوصاهم، فتفيد هذه الجملة مفاد التذييل في أثناء
(29/16)
الكلام على وجه الاعتراض ولا يكون إظهارا في مقام الإضمار.
والتعبير بوصف {الرَّحْمَنِ} دون اسم الجلالة إيماء إلى أن هذا النظام مما اقتضته رحمته بالناس لتجري أمورهم على حالة تلائم نظام عيشهم، لأنه لو كان فيما خلق الله تفاوت لكان ذلك التفاوت سببا لاختلال النظام فيتعرض الناس بذلك لأهوال ومشاق، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [يونس:5].
وأيضا في ذلك الوصف تورك على المشركين إذ أنكروا اسمه تعالى: {الرَّحْمَنِ} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان:60].
وفرع عليه قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} الخ. والتفريع للتسبب، أي انتفاء رؤية التفاوت، جعل سببا للأمر بالنظر ليكون نفي التفاوت معلوما عن يقين دون تقليد للمخبر.
ورجع البصر: تكريره والرجع: العود إلى الموضع الذي يجاء منه، وفعل: رجع يكون قاصرا ومتعديا إلى مفعول بمعنى: أرجع، فأرجع هنا فعل أمر دون رجع المتعدي.
والرجع يقتضي سبق حلول بالموضع، فالمعنى: أعد النظر، وهو النظر الذي دل عليه قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي أعد رؤية السماوات وأنها لا تفاوت فيها إعادة تحقيق وتبصر، كما يقال: أعد نظرا.
والخطاب في قوله: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} وقوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} الخ. خطاب لغير معين.
وصيغة الأمر مستعملة في الإرشاد للمشركين مع دلالته على الوجوب للمسلمين فإن النظر في أدلة الصفات واجب لمن عرض له داع إلى الاستدلال. والبصر مستعمل في حقيقته. والمراد به البصر المصحوب بالتفكر والاعتبار بدلالة الموجودات على موجدها.
وهذا يتصل بمسألة إيمان المقلد وما اختلف فيه من الرواية عن الشيخ أبي الحسن الأشعري.
والاستفهام في {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} تقريري ووقع ب {هَلْ} لأن {هَلْ} تفيد تأكيد
(29/17)
الاستفهام إذ هي بمعنى "قد" في الاستفهام، وفي ذلك تأكيد وحث على التبصر والتأمل، أي لا تقنع بنظرة ونظرتين، فتقول: لم أجد فطورا، بل كرر النظر وعاوده باحثا عن مصادفة فطور لعلك تجده.
والفطور: جمع فطر بفتح الفاء وسكون الطاء، وهو الشق والصدع، أي لا يسعك إلا أن تعترف بانتفاء الفطور في نظام السماوات فتراها ملتئمة محبوكة لا ترى في خلالها انشقاقا، ولذلك كان انفطار السماء وانشقاقها علامة على انقراض هذا العالم ونظامه الشمسي، قال تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً} [النبأ:19] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار:1].
وعطف {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} دال على التراخي الرتبي كما هو شأن {ثُمَّ} في عطف الجمل، فإن مضمون الجملة المعطوفة ب {ثُمَّ} هنا أهم وأدخل في الغرض من مضمون الجملة المعطوف عليها لأن إعادة النظر تزيد العلم بانتفاء التفاوت في الخلق رسوخا ويقينا.
و {كَرَّتَيْنِ} تثنية كرة وهي المرة وعبر عنها هنا بالكرة مشتقة من الكر وهو العود لأنها عود إلى شيء بعد الانفصال عنه ككرة المقاتل يحمل على العدو بعد أن يفر فرارا مصنوعا. وإيثار لفظ كرتين في هذه الآية دون مرادفة نحو مرتين وتارتين لأن كلمة كرة لم يغلب إطلاقا على عدد الاثنين، فكان إيثارها في مقام لا يراد فيه اثنين أظهر في أنها مستعملة في مطلق التكرير دون عدد اثنين أو زوج وهذا من خصائص الإعجاز، ألا ترى أن مقام إرادة عدد الزوج كان مقتضيا تثنية مرة في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] لأن أظهر في إرادة العدد إذ لفظ مرة أكثر تداولا.
وتثنية {كَرَّتَيْنِ} ليس المراد بها عدد الاثنين الذي هو ضعف الواحد إذ لا يتعلق غرض بخصوص هذا العدد، وإنما التثنية مستعملة كناية عن مطلق التكرير فإن من استعمالات صيغة التثنية في الكلام أن يراد بها التكرير وذلك كما في قولهم لبيك وسعديك، يريدون تلبيات كثيرة وإسعادا كثيرا، وقولهم: دواليك، ومنه المثل دهدرين، سعد القين الدهدر الباطل، أي باطلا على باطل، أي أتيت يا سعد القين دهدرين وهو تثنية دهدر الدال مهملة في أوله مضمومة فهاء ساكنة فدال مهملة مضمومة فراء مشددة. وأصله كلمة فارسية نقلها العرب وجعلوها بمعنى الباطل. وسبب النقل مختلف فيه وتثنيته مكنى بها عن مضاعفة الباطل، وكانوا يقولون هذا المثل عند تكذيب الرجل صاحبه وأما
(29/18)
سعد القين فهو اسم رجل كان قينا وكان يمر على الأحياء لصقل سيوفهم وإصلاح أسلحتهم فكان يشيع أنه راحل غدا ليسرع أهل الحي بجلب ما يحتاج للإصلاح فإذا أتوه بها أقام ولم يرحل فضرب به المثل في الكذب فكان هذا المثل جامعا لمثلين، وقد ذكره الزمخشري في المستقصى، والميداني في مجمع الأمثال وأطال.
وأصل استعمال التثنية في معنى التكرير أنهم اختصروا بالتثنية تعداد ذكر الاسم تعدادا مشيرا إلى التكثير.
وقريب من هذا القبيل قولهم: وقع كذا غير مرة، أي مرات عديدة.
فمعنى {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} عاود التأمل في خلق السماوات وغيرها غير مرة. والانقلاب: الرجوع يقال: انقلب إلى أهله، أي رجع إلى منزله قال تعالى: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] وإيثار فعل {ينقلب} هنا دون: يرجع، لئلا يلتبس فعل {ارْجِعِ} المذكور قبله. وهذا من خصائص الإعجاز نظير إيثار كلمة {كَرَّتَيْنِ} كما ذكرناه آنفا.
والخاسئ: الخائب، أي الذي لم يجد ما يطلبه. وتقدم عند قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} في سورة [البقرة:29].
والحسير: الكليل، وهو كلل ناشئ عن قوة التأمل والتحديق مع التكرير، أي يرجع البصر غير واجد ما أغري بالحرص على رؤيته بعد أن أدام التأمل والفحص حتى عيي وكل، أي لا تجد بعد اللأي فطورا في خلق الله.
[5] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} .
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقه السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذم بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالة على إتقان الصنع لكنها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم. وتأكيد الخبر ب"قد" لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب"هل" أخت "قد" في الاستفهام.
(29/19)
والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات.
وسميت النجوم هنا مصابيح على التشبيه على حسن المنظر فهو تشبيه بليغ.
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيناها لكم مثل الامتنان في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} في سورة [النحل:6].
والمقصد: التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم.
وعدل عن تعريف "مصابيح" باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.
والرجوم: جمع رجم وهو اسم لما يرجم به، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسمية للمفعول بالمصدر مثل الخلق بمعنى المخلوق في قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان:11].
والذي جعل رجوما للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقظة، وتسمى الشهب ومضى القول عليها في سورة الصافات.
وضمير الغائبة في {جعلناها} المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي أن المصابيح رجوم للشياطين.
ومعنى جعل المصابيح رجوما جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:85] وقول العرب: قتلت هذيل رضيع بني ليث تمام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في {جعلناها} عائد إلى {السَّمَاءَ الدُّنْيَا} على تقدير: وجعلنا منها رجوما إما على حذف حرف الجر. وإما على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} في سورة [البقرة:66] ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعا إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف
(29/20)
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} وقصتها هي المشار إليها بقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة65] فالتقدير: فجعلنا منها، أي من القرية نكالا، وهم القوم الذين قيل لهم {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة65].
والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات.
وأصل {اعتدنا} أعددنا أي هيأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيها ليأتي الإدغام طلبا للخفة.
و {السعير} : اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من: سعر النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقدا فإن جهنم طبقات.
وكان السعير عذابا لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأن نار جهنم أشد من نار طبعهم، فإذا أصابتهم صارت لهم عذابا.
وتسمية عذابهم {السعير} دون النار، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] وقال: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] يعني الشيطان.
ومعنى الإعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث.
[6] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أعد للشياطين خاصة، والمعنى: ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملة التي قبلها فلذلك عطفت عليها.
وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به.
وجملة {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} حال أو معترضة لإنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل {بِئْسَ} عليه. والتقدير: وبئس المصير عذاب جهنم.
(29/21)
والمعنى: بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.
[7-9] {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} .
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ، تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ} .
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان ذم مصيرهم في جهنم، أي من جملة مذام مصيرهم مذمة ما يسمعونه فيها من أصوات مؤلمة مخيفة.
و {إذا} ظرف متعلق ب {سمعوا} يدل على الاقتران بين زمن الإلقاء وزمن سماع الشهيق.
والشهيق: تردد الأنفاس في الصدر لا تستطيع الصعود لبكاء ونحوه أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق نفضيعا له لأن قوله: {سَمِعُوا لَهَا} يقتضي أن الشهيق شهيقا لأن أصل اللام أن تكون لشبه الملك.
وجملة {وَهِيَ تَفُورُ} حال من ضمير {فيها} وتفور: تغلي وترتفع ألسنة لهيبها.
و {الغيظ} أشد الغضب. وقوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} خبر ثان عن ضمير {وهي} مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يلقون إليها، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلا سلط عليه ما يستطيع من الأضرار.
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم: يكاد فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، أي يكاد تتفرق أجزاءه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة [البقرة: 5]
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} في سورة [الكهف: 77] إذ مثل الجدار بشخص له إرادة.
و {تميز} أصله تمييز، أي تنفصل، أي تتجزأ أجزاء تخييلا لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع، وهذا كقولهم: غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة
(29/22)
في السماء.
{كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} .
أتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فضائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يتساءل السامع عن سبب عن وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسل إليهم، مع ما انضم إلى من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءهم به.
و {كلما} مركب من "كل" اسم دال على الشمول ومن "ما" الظرفية المصدرية وهو حرف يؤول مع الفعل الذي بعده بمصدره.
والتقدير: في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتها الفوج.
وباتصال "كل" بحرف "ما" المصدرية الظرفية اكتسب التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مرتبة إحداهما على الأخرى.
وجيء بفعلي {ألقى} و {سألهم} ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد {كلما} أن يكون بصيغة المضي بأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.
والفوج: الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود، وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} في سورة [النمل: 83].
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله: {سألهم} الخ. لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9].
وخزنة النار: الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن: الذي يخزن شيئا، أي يحفظه في مكان حصين، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل.
(29/23)
وجملة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} بيان لجملة سألهم كقوله: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} [طه:120].
والاستفهام في {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة.
والنذير: المنذر، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع.
والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} الخ بمعنى التذليل.
وجملة {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضا يشير إلى أن الفوج قاطع كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبخوهم عليه وذلك من شدة الخوف.
وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض، ولوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة [البقرة: 30] وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف {بلى} المفيد نفيض النفي في الاستفهام فهو مفيد معنى: جاءنا نذير. ولذلك كان قولهم: {قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} مؤكدا لما دلت عليه {بلى} ، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق بـ {قَدْ} وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطا.
وجملة: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراض جواب الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفا، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} الخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته.
ويجوز أن تكون جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} من تمام كلام كل فوج لنذيرهم. وأوتي بضمير جمع المخاطبين مع إن لكل قوم رسولا واحدا في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس، أما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج، أي قال جميع الأفواج: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} إلى قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} ، على طريقة المثال المشهور ركب القوم دوابهم، وإما
(29/24)
على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعه الذين يؤمنون بما جاء به.
وعموم {شيء} في قوله: {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} والمراد منه شيء من التنزيل، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن ينزل الله وحيا على بشر، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قد تقدم في آخر [الأنعام: 91].
ووصف الضلال بـ {كبير} معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.
ومعنى القصر لمستفاد من النفي والاستثناء {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} قصر قلب، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلا الضلال، وليس الوحي الإلهي والهدى كما تزعمون.
والظرفية مجازية لتشبيههم تمحضهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف.
[10] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
أعيد فعل القول للإشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جوابا على سؤال خزنة جهنم وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسرا وتندما، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ ِلأَولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38]. لتأكيد الإخبار على حسب الوجهين المتقدمين في موقع جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9].
وذكروا ما يدل على انتفاء السمع والعقل عنهم في الدنيا، وهم يريدون سمعا خاصا وعقلا خاصا، فانتفاء السمع بإعراضهم عن تلقي دعوة الرسل مثل ما حكى الله عن المشركين {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت: 26] وانتفاء العقل بترك التدبر في آيات الرسل ودلائل صدقهم فيما يدعون إليه.
ولا شك أن أقل الناس عقلا المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال، فكان حكم العقل قاضيا بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإنذار للامتثال إذ لا معارض له في دينهم لولا الإلف
(29/25)
والتكبر بخلاف حال أهل الأديان اتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئا فكانوا إلى المعذرة أقرب لولا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض.
وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا} [الطور: 32] من سورة الطور عن كتاب الحكيم الترمذي إنه أخرج حديثا إن رجلا قال: يا رسول الله ما أعقل فلانا النصراني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مه، إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} " قال وفي حديث ابن عمر فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "مه، إن العاقل من يعمل بطاعة الله" ولم أقف عليه فيما رأيت من كتب التفسير ولم يذكره السيوطي في التفسير بالمأثور في سورة الطور ولا في سورة الملك.
ويؤخذ في هذه الآية أن أقوام الصلاح في حسن التلقي وحسن النظر وأن الأثر والنظر، أي القياس هما أصلا الهدى، ومن العجيب ما ذكره صاحب الكشاف: إن من المفسرين من قال: أن المراد من الآية لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي. ولم أقف على تعيين من فسر الآية بهذا و لا أحسبه إلا من قبيل الاسترواح.
و {أَوْ} للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد، وحسن التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها، أو من دواعي أنفسها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
ووجه تقديم السمع على العقل بمنزلة الكلي والسمع بمنزلة الجزئي ورعيا للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذرون، ثم يعملون عقولهم في التدبير فيها.
[11] {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
الفاء الأولى فصيحة، والتقدير: إذ قالوا ذلك إذ تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب.
والسحق: اسم مصدر معناه البعد، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله، أي أسحقهم الله إسحاقا ويجوز أن يراد من هذا الدعاء
(29/26)
التعجب من حالهم كما يقال: قاتله الله، وويل له، في مقام التعجب.
والفاء الثانية للتسبب، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجب من بعدهم عن الحق أو عن رحمة الله تعالى. ويحتمل أيضا أن يقال لهم يوم الحساب عقب اعترافهم، تنديما يزيدهم ألما في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم.
واللام الداخلة على "سحقا" لام التقوية إن جعل "سحقا" داء عليهم بالإبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم: شكرا لك، فكل من "سحقا" واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه.
و {ِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} يعم المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعا للجمل التي قبله.
وقرأ الجمهور {فسحقا} بسكون الحاء. وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لاتباع ضمة السين.
[12] {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} .
اعتراض يفيد استئنافا بيانيا جاء على سنن أساليب القرآن من تعقيب الرهبة بالرغبة، فلما ذكر ما أعد للكافرين المعرضين عن خشية الله أعقبه بما أعد للذين يخشون ربهم بالغيب من المغفرة والثواب للعلم بأنهم يترقبون ما يميزهم عن أحوال المشركين.
وقدم المغفرة تطمينا لقلوبهم لأنهم يخشون المؤاخذة على ما فرط منهم من الكفر قبل الإسلام ومن اللمم ونحوه، ثم أعقبت بالبشارة بالأجر العظيم، فكان الكلام جاريا على قانون تقديم التخلية، أو تقديم دفع الضر على جلب النفع، والوصف بالكبير بمعنى العظيم نظير ما تقدم آنفا في قوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9].
وتنكير {مغفرة} للتعظيم بقرينة مقارنته ب {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وبقرينة التقديم.
وتقديم المسند على المسند إليه في جملة {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ليأتي تنكير المبتدأ، ولإفادة الاهتمام، وللرعاية على الفاصلة وهي نكت كثيرة.
[13-14] {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
(29/27)
عطف على الجملة السابقة عطف غرض على غرض، وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الله يطلعهم على أقوالهم فيخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنكم قلتم كذا وكذا، فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد فأنزل الله {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} كذا روي عن ابن عباس.
وصيغة الأمر في {وأسروا} و {اجهروا} مستعملة في التسوية كقوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: من الآية16]، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها {أو} عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.
فنقول: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول، أي فسواء في علم الله الإسرار والإجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بله ما يسرون به من الكلام، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القوي علمه.
وضمير {إنه} عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير، لأن الاسم الذي في جملة {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الملك: من الآية12] لا يكون معادا لكلام آخر.
و {ذَاتِ الصُّدُورِ} ما يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال. وهو مركب من "ذات" التي هي مؤنث "ذو" بمعنى صاحب، و { الصُّدُورِ} بمعنى العقول وشأن "ذو" أن يضاف إلى ما فيه رفعة.
وجملة {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} استئناف بياني ناشئ عن قوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بأن يسأل سائل منهم: كيف يعلم ذات الصدور، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه? فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالا لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خلدها، فالإتيان بـ {من} الموصولة لإفادة التعليل بالصلة.
فيجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} مفعول {يَعْلَمُ} ، فيكون {يَعْلَمُ} و {خَلَقَ} رافعين
(29/28)
ضميرين عائدين إلى ما عاد إليه ضمير {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ، فيكون {من} الوصولة صادقة على المخلوقين وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير نصب يكثر حذفه. والتقدير: من خلفهم.
ويجوز أن يكون {مَنْ خَلَقَ} فاعل {يَعْلَمُ} والمراد الله تعالى، وحذف مفعول "يعلم" لدلالة قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} . والتقدير: ألا يعلم خالقكم سركم وجهركم وهو الموصوف بلطيف خبير.
والعلق يتعلق بذوات الناس وأحوالهم لأن الخلق إيجاد وإيجاد الذوات على نظام مخصوص دال على إرادة ما أودع فيه من النظام وما ينشأ عن قوى ذلك النظام، فالآية دليل على عموم علمه تعالى ولا دلالة فيها على أنه تعالى خالق أفعال العباد للانفكاك الظاهر بين تعلق العلم وتعلق القدرة.
وجملة {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأحسن أن تجعل عطفا على جملة {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} لتفيد تعليما للناس بأن علم الله محيط بذوات الكائنات وأحوالها فبعد أن أنكر ظنهم انتفاء على الله بما يسرون، أعلمهم أنه يعلم ما هو أعم من ذلك وما هو أخفى من الإسرار من الأحوال.
و {اللطيف} : العالم بخبايا الأمور والمدبر لها برفق وحكمة.
و {الخبير} : العليم الذي لا تعزب عنه الحوادث الخفية التي من شأنها أن يخبر الناس بعضهم بعضا بحدوثها فلذلك اشتق هذا الوصف من مادة الخبر، وتقدم عند قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في [الأنعام:103] وعند قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} في سورة [لقمان: 16].
[15] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .
استئناف فيه عود إلى الاستدلال، وإدماج للامتنان، فإن خلق الأرض التي تحوي الناس على وجهها أدل على قدرة الله تعالى وعلمه من خلق الإنسان إذ ما الإنسان إلا جزء من الأرض أو كجزء منها قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} [طه: 55]، فلما ضرب لهم بخلق أنفسهم دليلا على علمه الدال على وحدانيته شفعه بدليل خلق الأرض التي هم عليها، مع
(29/29)
المنة بأنه خلقها هينة لهم صالحة للسير فيها مخرجة لأرزاقهم، وذيل ذلك بأن النشور منها وأن النشور إليه لا إلى غيره. والذلول من الدواب المنقادة المطاوعة، مشتق من الذل وهو الهوان والانقياد، فعول بمعنى فاعل يستوي فيه المذكر والمؤنث، وتقدم في قوله تعالى: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ} الآية في سورة [البقرة: 71]، فاستعير الذلول للأرض في تذليل الانتفاع بها مع صلابة خلقها تشبيها بالدابة المسوسة المرتاضة بعد الصعوبة على طريقة المصرحة.
والمناكب: تخييل للاستعارة لزيادة بيان تسخير الأرض للناس فإن المنكب هو ملتقى الكتف مع العضد، جعل المناكب استعارة لأطراف الأرض أو لسعتها.
وفرع على هذه الاستعارة الأمر في {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} فصيغة الأمر مستعملة في معنى الإدامة تذكيرا بما سخر الله لهم في المشي في الأرض امتنانا بذلك.
ومناسبة {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} أن الرزق من الأرض. والأمر مستعمل في الإدامة أيضا للامتنان، وبذلك تمت استعارة الذلول للأرض لأن فائدة تذليل الذلول ركوبها والأكل منها. فالمشي على الأرض شبيه بركوب الذلول، والأكل مما تنبته الأرض شبيه بأكل الألبان والسمن وأكل العجول والخرفان ونحو ذلك. وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان والأرض ذات متسعات كثيرة.
وكل هذا تذكير بشواهد الربوبية والإنعام ليتدبروا فيتركوا العناد، قال تعالى: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].
وأما عطف {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهو تتميم وزيادة عبر استطرون لمناسبة ذكر الأرض فإنها مثوى الناس بعد الموت.
والمعنى: إليه النشور منها، وذلك يقتضي حذفا، أي وفيها تعودون.
وتعريف {النشور} تعريف الجنس فيعم أي كل نشور، ومنه نشور المخاطبين فكان قوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} بمنزلة التذييل.
والقصر المستفاد من تعريف جزأي {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن الأصنام خلقت الأرض لأن اعتقادهم إلهيتها يقتضي إلزامهم بهذا الظن الفاسد وإن لم يقولوه.
(29/30)
وتقديم المجرور في جملة {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} للاهتمام.
ومناسبة ذكر النشور هو ذكر خلق الأرض فإن البعث يكون من الأرض.
[16] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} .
انتقال من الاستدلال إلى التخويف لأنه لما تقرر أنه خالق الأرض ومذللها للناس وتقرر أنهم ما رعوا خالقها حق رعايته فقد استحقوا غضبه وتسليط عقابه بأن يصير مشيهم في مناكب الأرض إلى تجلجل في طبقات الأرض. فالجملة معترضة والاستفهام إنكار وتوبيخ وتحذير.
و {مَنْ} اسم موصول وصلته صادق على موجود ذي إدراك كائن في السماء. وظاهر وقوع هذا الموصول عقب جمل {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] أن الإتيان بالموصول من قبيل الإظهار في مقام الإضمار، وأن مقتضى الظاهر أن يقال أأمنتموه أن يخسف بكم الأرض؛ فيتأتى أن الإتيان بالموصول لما تؤذن به الصلة من عظيم تصرفه في العالم العلوي الذي هو مصدر القوى والعناصر وعجائب الكائنات فيصير قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} في الموضعين من قبيل المتشابه الذي يعطي ظاهره معنى الحلول في مكان وذلك لا يليق بالله، ويجيء فيه ما في أمثاله من طريقتي التفويض للسلف والتأويل للخلف رحمهم الله أجمعين.
وقد أولوه بمعنى: من في السماء عذابه أو قدرته أو سلطانه على نحو تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وأمثاله، وخص ذلك بالسماء لأن إثباته لله تعالى ينفيه عن أصنامهم.
ولكن هذا الموصول غير مكين في باب المتشابه لأنه مجمل قابل للتأويل بما يحتمله { مَنْ} أن يكون ما صدقه مخلوقات ذات إدراك مقرها السماء وهي الملائكة فيصح أن تصدق {مَنْ} على طوائف من الملائكة الموكلين بالأمر التكويني في السماء والأرض قال تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ويصح أن يراد باسم الموصول ملك واحد معين وظيفته فعل هذا الخسف، فقد قيل: إن جبريل هو الملك الموكل بالعذاب.
وإسناد فعل { يَخْسِفَ} إلى "الملائكة" أو إلى واحد منهم حقيقة لأنه فاعل الخسف قال تعالى حكاية عن الملائكة {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ... إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ...إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} [العنكبوت:31- 34].
(29/31)
وإفراد ضمير {يخسف} مراعاة للفظ {من} إذا أريد طائفة من الملائكة أو مراعاة للفظ والمعنى إذا كان ما صدق {من} ملكا واحدا.
والمعنى: توبيخهم على سوء معاملتهم ربهم كأنهم آمنون من أن يأمر الله ملائكته بأن يخسفوا الأرض بالمشركين.
والخسف: انقلاب ظاهر السطح من بعض الأرض باطنا وباطنه ظاهرا وهو شدة الزلزال.
وفعل خسف يستعمل قاصرا ومتعديا وهو من باب ضرب، وتقدم عند قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} [النحل: 45].
والباء في قوله: {بكم} للمصاحبة، أي يخسف الأرض مصاحبة لذواتكم. وفي الجمع بين السماء والأرض محسن الطباق.
والمصدر المنسبك من {أَنْ يَخْسِفَ} يجوز أن يكون بدل اشتمال من اسم الموصول لأن الخسف من شأن من في السماء، ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو مطرد مع {أن} ، والخافض المحذوف حرف "من".
وفرع على الخسف المتوقع المهدد به أن تمور الأرض تفريع الأثر على المؤثر لأن الخسف يحدث المور، فإذا خسفت الأرض فاجأها المور لا محالة، لكن نظم الكلام جرى على ما يناسب جعل التهديد بمنزلة حادث وقع فلذلك جيء بعده بالحرف الدال على المفاجأة لأن حق المفاجأة أن تكون حاصلة زمن الحال لا الاستقبال كما في مغني اللبيب فإذا أريد تحقيق حصول الفعل المستقبل نزل منزلة الواقع في الحال كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25]، وإذا أريد احتضار حالة فعل حصل فيما مضى نزل كذلك منزلة المشاهد في الحال كقوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [يونس: 21]، فكان قوله: {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} مؤذنا بتشبيه حالة الخسف المتوقع المهدد به بحالة خسف حصل بجامع التحقق كما قالوا في التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، وحذف المركب الدال على الحالة المشبه بها ورمز إليه بما هو من آثاره ويتفرع عنه فكان في الكلام تمثيلية مكنية.
والمور: الارتجاج والاضطراب وتقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً} في سورة [الطور:9].
(29/32)
[17] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} .
{أَمْ} لاضطراب الانتقال من غرض إلى غرض، وهو انتقال من الاستفهام الإنكاري التعجيبي إلى آخر مثله باعتبار اختلاف الأثرين الصادرين عن مفعول الفعل المستفهم عنه اختلافا يوجب تفاوتا بين كنهي الفعلين وإن كانا متحدين في الغاية، فالاستفهام الأول إنكار على أمنهم الذي في السماء من أن يفعل فعلا أرضيا.
والاستفهام الواقع من {أَمْ} إنكار عليهم أن يأمنوا من أن يرسل عليهم من السماء حاصب وذلك أمكن لمن في السماء وأشد وقعا على أهل الأرض. والكلام على قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} تقدم في الآية قبلها ما يغني عنه.
وتفريع جملة {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} على الاستفهام الإنكاري كتفريع جملة {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي فحين يخسف بكم أو يرسل عليهم حاصب تعلمون كيف نذير، وحرف التنفيس حقه الدخول على الأخبار التي ستقع في المستقبل، وإرسال الحاصب غير مخبر بحصوله وإلا لما تخلف لأن خبر الله لا يتخلف، وإنما هو تهديد وتحذير فإنهم ربما آمنوا وأقلعوا فسلموا من إرسال الحاصب عليهم ولكن لما أريد تحقيق هذا التهديد شبه بالأمر الذي وقع فكان تفريع صيغة الإخبار على هذا مؤذنا بتشبيه المهدد به بالأمر الواقع على طريقة التمثيلية الكنية، وجملة {فَسَتَعْلَمُونَ} قرينتها لأنها من روادف المشبه به كما تقدم.
و {كَيْفَ نَذِيرِ} استفهام معلق فعل "تعلمون" عن العمل، وهو استفهام للتهديد والتهويل، والجملة مستأنفة.
وحذفت ياء المتكلم من {نذيري} تخفيفا وللرعي على الفاصلة.
والنذير مصدر بمعنى الإنذار مثل النكير بمعنى الإنكار.
وقدم التهديد بالخسف على التهديد بالحاصب لأن الخسف من أحوال الأرض، والكلام على أحوالها أقرب هنا فسلك شبه طريق النشر المعكوس، ولأن إرسال الحاصب عليهم جزاء على كفرهم بنعمة الله التي منها رزقهم في الأرض المشار إليه بقوله: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] فإن منشأ الأرزاق الأرضية من غيوث السماء قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22].
(29/33)
[18] {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} .
بعد أن وجه الله إليهم الخطاب تذكيرا واستدلالا وامتنانا وتهديدا وتهويلا ابتداء من قوله: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13] التفت عن خطابهم إلى الإخبار عنهم بحالة الغيبة، تعريضا بالغضب عليهم بما أتوه من كل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا جديرين بإبعادهم عز الحضور للخطاب، فلذلك لم يقل ولقد كذب الذين من قبلكم ولم يقطع توجيه التذكير إليهم والوعيد لعلهم يتدبرون في أن الله لم يدخرهم نصحا.
فالجملة عطف على جملة {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك: 17] لمناسبة أن مما عوقب به بعض الأمم المكذبين من خسف أو إرسال حجارة من السماء وهم قوم لوط، ومنهم من خسف بهم مثل أصحاب الرس.
ولك أن تجعل الواو للحال، أي كيف تأمنون ذلك عندما تكذبون الرسول في حال أنه قد كذب الذين من قبلكم فهل علمتم ما أصابهم على تكذيبهم الرسل.
ضرب الله لهم مثلا بأمم من قبلهم كذبوا الرسل فأصابهم من الاستئصال ما قد علموا أخباره لعلهم أن يتعضوا بقياس التمثيل إن كانت عقولهم لم تبلغ درجة الانتفاع بأقيسة الاستنتاج، فإن المشركين من العرب عرفوا آثار عاد وثمود وتناقلوا أخبار قوم نوح وقوم لوط وأصحاب الرس وفرع {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهاما تقريريا وتنكيريا وهو كناية عن تحقيق وقوعه وأنه وقع في حال فظاعة.
وقد أكد الخبر باللام و"قد" لتنزيل المعرض بهم منزلة من يظن أن الله عاقب الذين من قبلهم لغير جرم أو لجرم غير التكذيب. فهو مفرع مؤكد، فالمعنى: لقد كذب الذين من قبلهم ولقد كان نكيري عليهم بتلك الكيفية.
و {نكير} : أصله نكيري بالإضافة إلى ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا، كما في قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17]، والمعنى: كيف رأيتم أثر نكيري عليهم فاعلموا أن نكيري عليكم صائر بكم إلى مثل ما صار بهم نكيري عليهم.
والمراد بالنكير المنظر بنكير الله على الذين من قبلهم، ما أفاده استفهام الإنكار في قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [الملك: 16] وقوله: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك: 17]
(29/34)
[19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
عطف على جملة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً} [الملك: من الآية15] استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} تصور صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصبا، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلقة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفه الصحف قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت.ْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 20]، وقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21].
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير، ولم يكن شاهده من قبل، كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحد ممن ألفوه معشاره.
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل في قوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} . وذلك بحسب مقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسلك في هذه السورة مسلك الإطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة:
فالوصف الأول: ما أفاده قوله: {فوقهم} فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في
(29/35)
الجو بواسطة تحريك جناحيه ذلك سر قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] بعد قوله: {وَلا طَائِرٍ} في سورة الأنعام لقصد تصوير تلك الحالة.
والوصف الثاني: {صافات} وهو وصف بوزن اسم الفاعل مشتق من الصف، وهو كون أشياء متعددة متقاربة الأمكنة وباستواء، وهو قاصر ومتعد، يقال: صفوا بمعنى اصطفوا كما حكى الله عن الملائكة {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:165] وقال تعالى في البدن: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36]. ويقال: صفهم إذا جعلهم مستوين في الموقف، وفي حديث ابن عباس في الجنائز مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر منبوذ إلى قوله "فصفنا خلفه وكبر" .
والمراد هنا أن الطير صافة أجنحتها فحذف المفعول لعلمه من الوصف الجاري على الطير إذ لا تجعل الطير أشياء مصفوفة إلا ريش أجنحتها عند الطيران فالطائر إذا طار بسط جناحيه، أي مدها فصف ريش الجناح فإذا تمدد الجناح ظهر ريشه مصطفا فكان ذلك الاصطفاف من أثر فعل الطير فوصفت به، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} في سورة النور [41]. وبسط الجناحين يمكن الطائر من الطيران فهو كمد اليدين للسابح في الماء.
الوصف الثالث: {ويقبضن} وهو عطف على {صافات} من عطف الفعل على الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق وإفادة الاتصاف بحدوث المصدر في فاعله، فلم يفت بعطفه تماثل المعطوفين في الاسمية والفعلية الذي هو من محسنات الوصل.
والقبض: ضد البسط. والمراد به هنا ضد الصف المذكور قبله، إذ كان ذلك الصف صادقا على معنى البسط ومفعوله المحذوف هنا هو عين المحذوف في المعطوف عليه، أي قابضات أجنحتهن حين يدنينها من جنوبهن للازدياد من تحريك الهواء للاستمرار في الطيران.
وأوثر الفعل المضارع في {يقبضن} لاستحضار تلك الحالة العجيبة وهي حالة عكس بسط الجناحين إذ بذلك العكس يزداد الطيران قوة امتداد زمان.
وجيء في وصف الطير بـ {صافات} بصيغة الاسم لأن الصف هو أكثر أحوالها عند الطيران فناسبه الاسم الدال على الثبات، وجيء في وصفهن بالقبض بصيغة المضارع لدلالة الفعل على التجدد، أي ويجددن القبض أجنحتهن في خلال الطيران للاستعانة بقبض
(29/36)
الأجنحة على زيادة التحرك عندما يحسسن بتغلب جاذبية الأرض على حركات الطيران، ونظيره قوله تعالى في الجبال والطير: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [صّ:18- 19] لأن التسبيح في وقتين والطير محشورة دوما.
وانتصب {فوقهم} على الحال من {الطَّيْرَ } وكذلك انتصب {صافات} .
وجملة {ويقبضن} في موضع نصب على الحال لعطفها على الوصف الذي هو حال فالرؤية بصرية مضمنة معنى النظر، ولذلك عديت إلى المرئي ب"إلى". والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري، نزلوا منزلة من لم ير هاته الأحوال في الطير لأنهم لم يعتبروا بها ولم يهتدوا إلى دلالتها على انفراد خالقها بالإلهية.
وجملة {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} مبينة لجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} وما فيها من استفهام إنكار، أي كان حقهم أن يعلموا أنهن ما يمسكهن إلا الرحمان إذ لا ممسك لها ترونه كقوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65].
وفي هذا إيماء إلى أن الذي أمسك الطير عن الهوي المفضي إلى الهلاك هو الذي أهلك الأمم الذين من قبل هؤلاء فلو لم يشركوا به ولو استعصموا بطاعته لأنجاهم من الهلاك كما أنجى الطير من الهوي.
ومعنى إمساك الله إياها: حفظها من السقوط على الأرض بما أودع في خلقتها من الخصائص في خفة عظامها وقوة حركة الجوانح وما جعل لهن من القوادم، وهي ريشات عشر هي مقاديم ريش الجناح، وفي الخوافي وهي ما دونها من الجناح إلى منتهى ريشه، وما خلقه من شكل أجسادها المعين على نفوذها في الهواء فإن ذلك كله بخلق الله إياها مانعا لها من السقوط وليس ذلك بمعاليق يعلقها بها أحد كما يعلق المشعوذ بعض الصور بخيوط دقيقة لا تبدو للناظرين.
وإيثار اسم {الرحمان} هنا دون الاسم العلم بخلاف ما في سورة النحل {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} لعله للوجه الذي ذكرناه آنفا في خطابهم بطريقة الإطناب من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} الآية.
فمن جملة عنادهم إنكارهم اسم {الرحمان} فلما لم يرعووا عما هم عليه ذكر وصف "الرحمان" في هذه السورة أربع مرات.
وجملة {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} تعليل لمضمون {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} أي
(29/37)
أمسكهن الرحمان لعموم علمه وحكمته ولا يمسكهن غيره لقصور علمه أو انتفائه.
والبصير: العليم، مشتق من البصيرة، فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو: السميع البصير، وإنما هو هنا من باب قولهم: فلان بصير بالأمور. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم. وتقديم {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} على متعلقه لإفادة القصر الإضافي وهو قصر قلب ردا على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} [الملك: 13].
[20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} .
"أم" منقطعة وهي للاضطراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه، انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوجه إليهم استفهام أن يدلوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله، فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلا إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره.
وهذا الكلام ناشئ عن قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال.
و"أم" المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام، والأكثر أن يكون مقدارا فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين.
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء، والإشارة مشار بها إلى مفهوم {جُنْدٌ} مفروض في الأذهان استحضر للمخاطبين، فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون، فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا بنو فلان. ولما كان الاستفهام مستعملا في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن.
وقريب من ذلك قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ونحوه.
(29/38)
و"من" في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ.
وكتب في المصحف {أمن} بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم "أم" وميم "من" المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] بميم واحدة بعد العين، ولا تقرأ إلا بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته.
و {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ} صفة لاسم الإشارة، و {لكم} صفة لـ {جند} و {يَنْصُرُكُمْ} جملة في موضع الحال من {جند} أو صفة ثانية لـ {جند} .
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولها الذي اتخذتموه جندا فمن هو حتى ينصركم من دون الله.
فتكون "من" استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله: {مِنْ فِرْعَوْنَ} [الدخان: 31] في قراءة فتح ميم "من" ورفع فرعون، أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف، واسم الإشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له، و {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} صفة لاسم الإشارة. وجملة {يَنْصُرُكُمْ} خبر عن اسم الاستفهام، أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان. وجيء بالجملة الاسمية {الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكونوا على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيؤ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها" أي هيعة جهاد.
فالمعنى: ينصركم عند احتياجكم إلى نصره، فهذا وجه الجمع بين جملة {هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} وجملة {يَنْصُرُكُمْ} ولم يستغن بالثانية عن الأولى.
و {دون} أصله ظرف للمكان الأسفل ضد فوق، ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل.
فقوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من الضمير المستتر في {يَنْصُرُكُمْ} . أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله، أي من مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا} [الانبياء: 43] فتكون {مِنْ } زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة، ولا تجر تلك الظروف بغير {مِنْ} ، قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين وما منصوب
(29/39)
على الظرف لا يخفضه سوى حرف وفسره بظرف عند ولا خصوصية ل عند بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة.
وتكرير وصف {الرحمان} عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة.
وذيل هذا الاعتراض بقوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} ، أي ذلك شأن الكافرين كلهم وهم أهل الشرك من المخاطبين وغيرهم، أي في غرور من الغفلة عن توقع بأس الله تعالى، أو في غرور من اعتمادهم على الأصنام كما غر الأمم السالفة دينهم بأن الأوثان تنفعهم وتدفع عنهم العذاب فلم يجدوا ذلك منهم وقت الحاجة فكذلك سيقع لأمثالهم قال تعالى: {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] وقال: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43] فتعريف { الْكَافِرُونَ} للاستغراق. وليس المراد به كافرون معهودون حتى يكون من وضع المظهر موضع الضمير.
والغرور: ظن النفس وقوع أمر نافع لها بمخائل تتوهمها، وهو بخلاف ذلك أو هو غير واقع.
وتقدم في قوله تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ} في آخر آل عمران [196] وقوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} في [الأنعام: 112] وقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة [فاطر: 5].
والظرفية مجازية مستعملة في شدة التلبس بالغرور حتى كأن الغرور محيط بهم إحاطة الظرف.
والمعنى: ما الكافرون في حال من الأحوال إلا في حال الغرور، وهذا قصر إضافي لقلب اعتقادهم أنهم في مأمن من الكوارث بحماية آلهتهم.
[21] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} .
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} .
انتقال آخر والكلام على أسلوب قوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20]، وهذا الكلام ناظر إلى قوله: {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] على طريقة اللف والنشر المعكوس.
(29/40)
والرزق: ما ينتفع به الناس، ويطلق على المطر، وعلى الطعام، كما تقدم في قوله تعالى: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37].
وضمير {أمسك} وضمير {رزقه} عائدان إلى لفظ {الرحمان} الواقع في قوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20].
وجيء بالصلة فعلا مضارعا لدلالته على التجدد لأن الرزق يقتضي التكرار إذ حاجة البشر إليه مستمرة. وكتب {أمن} في المصحف بصورة كلمة واحدة كما كتب نظيرتها المتقدمة آنفا.
{بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} .
استئناف بياني وقع جوابا عن سؤال ناشئ عن الدلائل والقوارع والزواجر والعظات والعبر المتقدمة ابتداء من قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] إلى هنا، فيتجه للسائل أن يقول: لعلهم نفعت عندهم الآيات والنذر، واعتبروا بالآيات والعبر، فأجيب بإبطال ظنه بأنهم لجوا في عتو ونفور.
و {بل} للاضطراب أو الإبطال عما تضمنه الاستفهامان السابقان أو للانتقال من غرض التعجيز إلى الإخبار عن عنادهم.
يقال: لج في الخصومة من باب سمع، أي اشتد في النزاع والخصام، أي استمروا على العناد يكتنفهم العتو والنفور، أي لا يترك مخلصا للحق إليهم، فالظرفية مجازية، والعتو: التكبر والطغيان.
والنفور: هو الاشمئزاز من الشيء والهروب منه.
والمعنى: اشتدوا في الخصام متلبس بالكبر عن اتباع الرسول حرصا على بقاء سيادتهم وبالنفور عن الحق لكراهية ما يخالف أهواءهم وما ألفوه من الباطل.
[22] {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
هذا مثل ضربه الله للكافرين والمؤمنين أو لرجلين: كافر ومؤمن، لأنه جاء مفرعا على قوله: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] وقوله: {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} وما اتصل ذلك به من الكلام الذي سيق مساق الحجة عليهم بقوله: {أَمَّنْ هَذَا
(29/41)
الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21]، وذلك مما اتفق عليه المفسرون على اختلاف مناحيهم ولكن لم يعرج أحد منهم على بيان كيف يتعين التمثيل الأول للكافرين والثاني للمؤمنين حتى يظهر وجه إلزام الله المشركين بأنهم أهل المثل الأول مثل السوء، فإذا لم يتعين ذلك من الهيئة المشبهة لم يتضح إلزام المشركين بأن حالهم حال التمثيل الأول، فيخال كل من الفريقين أن خصمه هو مضرب المثل السوء. ويتوهم أن الكلام ورد على طريقة الكلام المنصف نحو {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] بذلك ينبو عنه المقام هنا لأن الكلام هنا وارد في مقام المحاجة والاستدلال وهنالك في مقام المتاركة أو الاستنزال.
والذي انقدح لي: أن التمثيل جرى على تشبيه حال الكافر والمؤمن بحالة مشي إنسان مختلفة وعلى تشبيه الدين بالطريق المسلوكة كما يقتضيه قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلا بد من اعتبار مشي المكب على وجهه مشيا على صراط معوج، وتعين أن يكون في قوله: {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} استعارة أخرى بتشبيه حال السالك صراطا معوجا في تأمله وترسمه آثار السير في الطريق غير المستقيم خشية أن يضل فيه، بحال المكب على وجهه يتوسم حال الطريق وقرينة ذلك مقابلته بقوله: {سَوِيّاً} المشعر بأن {مكبا} أطلق على غير السوي وهو المنحني المطاطئ يتوسم الآثار اللائحة من آثار السائرين لعله يعرف الطريق الموصلة إلى المقصود.
فالمشرك يتوجه بعبادته إلى آلهة كثيرة لا يدري لعل بعضها أقوى من بعض وأعطف على بعض القبائل من بعض، فقد كانت ثقيف يعبدون اللات، وكان الأوس والخزرج يعبدون مناة ولكل قبيله إله أو آلهة فتقسم الحاجات عندها واستنصر كل قوم بآلهتهم وطمعوا في غنائها عنهم وهذه حالة يعرفونها فلا يمترون في نهم مضرب المثل الأول، وكذلك حال أهل الإشراك في كل زمان. ألا تسمع ما حكاه الله عن يوسف عليه السلام من قوله: { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. وينور هذا التفسير أنه يفسره قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فقابل في الآية الأولى الصراط المستقيم المشبه به الإسلام بالسبل المتفرقة المشبه بها تعداد الأصنام، وجعل في الآية الثانية الإسلام مشبها بالسبيل وسالكه يدعو ببصيرة ثم قابل بينه وبين المشركين بقوله {وَمَا أَنَا
(29/42)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
فالآية تشتمل على ثلاث استعارات تمثيلية فقوله: {يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} تشبيه لحال المشركين في تقسم أمره بين الآلهة طلبا للذي ينفعه منها الشاك في انتفاعه بها، بحال السائر قاصدا أرضا معينة ليس لها طريق جادة فهو يتتبع بنيات الطريق الملتوية وتلتبس عليه ولا يوقن بالطريقة التي تبلغ إلى مقصده فيبقى حائرا متوسما يتعرف آثار أقدام الناس وأخفاف الإبل فيعلم بها أن الطريق مسلوكة أو متروكة.
وفي ضمن هذه التمثيلية تمثيلية أخرى مبنية عليه بقوله: {مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ} بتشبيه حال المتحير المتطلب للآثار في الأرض بحال المكب على وجهه في شدة اقترابه من الأرض.
وقوله: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} تشبيه لحال الذي آمن برب واحد الواثق بنصر ربه وتأييده وبأنه مصادف للحق، بحال الماشي في طريق جادة واضحة لا ينظر إلا إلى اتجاه وجهه فهو مستو في سيره.
وقد حصل في الآية إيجاز حذف إذ استغني عن وصف الطريق بالالتواء في التمثيل الأول لدلالة مقابلته بالاستقامة في التمثيل الثاني.
والفاء في صدر الجملة للتفريع على جميع ما تقدم من الدلائل والعبر من أول السورة إلى هنا، والاستفهام تقريري.
والمكب: اسم فاعل من أكب، إذا صار ذا كب، فالهمزة فيه أصلها لإفادة المصير في الشيء مثل همزة: أقشع السحاب، إذا دخل في حالة القشع، ومنه قولهم: أنفض القوم إذا هلكت مواشيهم، وأرملوا إذا فني زادهم، وهي أفعال قليلة فيما جاء فيه المجرد متعديا والمهموز قاصرا.
و{أهدى} مشتق من الهدى، وهو معرفة الطريق وهو اسم تفضيل مسلوب المفاضلة لأن الذي يمشي مكبا على وجهه لا شيء عنده من الاهتداء فهو من باب قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] في قول كثير من الأيمة. ومثل هذا لا يخلو من تهكم أو تمليح بحسب المقام.
والسوي: الشديد الاستواء فعيل بمعنى فاعل قال تعالى: {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [مريم: 43]. و"أم" في قوله {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} حرف عطف وهي "أم" المعادلة لهمزة
(29/43)
الاستفهام. و"من" الأولى والثانية في قوله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً} أو قوله: {أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً} موصولتان ومحملهما أن المراد منهما فريق المؤمنين وفريق المشركين وقيل: أريد شخص معين أريد بالأولى أبو جهل، وبالثانية النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أو حمزة رضي الله عنهما.
[23] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} .
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما سيذكر تفننا في البيان وتنشيطا للاذهان حتى كأن الكلام صدر من قائلين وترفيعا لقدر نبيه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظا من التذكير معه كما قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58].
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإنسان ومداركه، وقد اتبع الأمر بالقول بخمسة مثله بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماما بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} الخ.
والضمير {هو} إلى الرحمان من قوله: {مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20].
والإنشاء:الإيجاد.
وإفراد {السمع} لأن أصله مصدر، أي جعل لكم حالة السمع، وأما {الأبصار} فهو جمع البصر بمعنى العين، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة [البقرة: 7]. و {الأفئدة} القلوب، والمراد بها العقول، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب.
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} إلى آخره قصر إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلة من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإنشاء وإعطاء الإحساس والإدراك.
و {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} حال من ضمير المخاطبين، أي أنعم عليكم بهذه النعم في
(29/44)
حال إهمالكم شكرها.
و {ما} مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل {قَلِيلاً} لاعتماد {قَلِيلاً} على صاحب حال. و {قَلِيلاً} صفة مشبهة.
وقد استعمل {قَلِيلاً} في معنى النفي والعدم. وهذا الإطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} في [البقرة: 88] وقوله تعالى: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} في [النساء: 46]، وتقول العرب: هذه أرض قلما تنبت.
[24] {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
إعادة فعل {قُلْ} من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال.
والذرء: الإكثار من الموجود، فهذا أخص من قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} أي هو الذي كثركم على الأرض كقوله: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} أي أعمركم إياها.
والقول في صيغة القصر في قوله: {هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} مثل القول في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} الآية.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أنذروا به لا يكون إلا بعد البعث والبعث بعد الموت، فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة، وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لابد منه، وإنذارهم بالبعث والحشر.
فتقديم المعمول في {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للاهتمام والرعاية على الفاصلة، وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله.
[25-26] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين،َ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] إلى
(29/45)
{هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} [الملك: 24] انحصر عنادهم في مضمون قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك: 24] فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به، وقال بعضهم لبعض: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7-8]} وكانوا يقولون: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ:29] واستمروا على قوله، فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير.
و {الْوَعْدُ} مصدر بمعنى اسم المفعول، أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الملك: 24] فالإشارة إليه بقوله: {هَذَا} ظاهرة، ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين، فالإشارة إلى وعيد سمعوه.
والاستفهام بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الاسراء: من الآية51].
وأتوا بلفظ {الْوَعْدُ} استنجازا له لأن شأن الوعد الوفاء.
وضمير الخطاب في {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لأنهم يلهجون بإنذارهم بيوم الحشر، وتقدم نظيره في سورة النبأ.
وأمر الله رسوله بأن يجيب سؤالهم بجلة على خلاف مرادهم بل على ظاهر الاستفهام عن وقت الوعد على طريقة الأسلوب الحكيم، بأن وقت هذا الوعد لا يعلمه إلا الله، فقوله: {قُلِ} هنا أمر بقول يختص بجواب كلامهم وفصل دون عطف يجريان المقول في سياق المحاورة، ولم يعطف فعل {قُلِ} بالفاء جريا على سنن أمثاله الواقعة في المجاوبة والمحاورة، كما تقدم في نظائره الكثيرة وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في [البقرة: 30 ].
ولام التعريف في {الْعِلْمُ} للعهد، أي العلم بهذا الوعد. وهذه هي اللام التي تسمى عوضا عن المضاف إليه. وهذا قصر حقيقي.
{وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} قصر إضافي، أي ما أنا إلا نذير بوقوع هذا الوعد لا أتجاوز ذلك إلى كوني عالما بوقته.
والمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي، أي مبين لما أمرت بتبليغه.
(29/46)
[27] {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} .
"لما" حرف توقيت، أي سيئت وجوههم في وقت رؤيتهم الوعد.
والفاء فصيحة لأنها اقتضت جملة محذوفة تقديرها: فحل بهم الوعد فلما رأوه الخ، أي رأوا الموعد به.
وفعل {رَأَوْهُ} مستعمل في المستقبل، وجيء به بصيغة الماضي لشبهه بالماضي في تحقق الوقوع مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] لأنه صادر عمن لا إخلاف في أخباره فإن هذا الوعد لم يكن قد حصل حين نزول الآية بمكة سواء أريد بالوعد الوعد بالبعث كما هو مقتضى السياق أم أريد به وعد النصر، بقرينة قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25] فإنه يقتضي أنهم يقولونه في الحال وأن الوعد غير حاصل حين قولهم لأنهم يسألون عنه ب {مَتَى} .
ونظير هذا الاستعمال قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في [النساء:41]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} في [النحل: 89]، إذ جمع في الآيتين بين فعل {نَبْعَثُ} مضارعا وفعل {وَجِئْنَا} ماضيا.
وأصل المعنى: فإذا يرونه تساء وجوه الذين كفروا الخ، فعدل عن ذلك إلى صوغ الوعيد في صورة الإخبار عن أمر وقع فجيء بالأفعال الماضية.
وضمير {رَأَوْهُ} عائد إلى {الْوَعْدُ} [الملك: 25] بمعنى: رأوا الموعود به.
والزلفة بضم الزاي: اسم مصدر زلف إذا قرب وهو من باب تعب. وهذا إخبار بالمصدر للمبالغة، أي رأوه شديد القرب منهم، أي أخذ ينالهم.
و {سِيئَتْ} بني للنائب، أي ساء وجوههم ذلك الوعد بمعنى الموعد. وأسند حصول السوء إلى الوجوه لتضمينه معنى كلحت، أي سوء شديد تظهر آثار الانفعال منه على الوجوه، كما أسند الخوف إلى الأعين في قول الأعشى:
وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
{وَقِيلَ} أي لهم.
(29/47)
و {تَدَّعُونَ} بتشديد الدال مضارع ادعى. وقد حذف مفعوله لظهوره من قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الملك:25]، أي تدعون أنه لا يكون.
و {بِهِ} متعلق ب {تَدَّعُونَ} لأنه ضمن معنى {تكذبون} فإنه إذا ضمن عامل معنى عامل آخر يحذف معمول العامل المذكور ويذكر معمول ضمنه ليدل المذكور على المحذوف. وذلك ضرب من الإيجاز.
وتقديم المجرور على العامل للاهتمام بإخطاره وللرعاية على الفاصلة. والقائل لهم {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} ملائكة المحشر أو خزنة جهنم، فعدل عن تعيين القائل، إذ المقصود المقول دون القائل فحذف القائل من الإيجاز.
والقصر المستفاد من تعريف جزأي الإسناد تعريض بهم بأنهم من شدة جحودهم بمنزلة من إذا رأوا الوعد حسبوه شيئا آخر على نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الاحقاف: 24].
وقرأ الجمهور {سيئت} بكسرة السين خالصة. وقرأه ابن عامر والكسائي ونافع بإشمال الكسرة ضمة، وهما لغتان في فاء كل ثلاثي معتل العين إذا بني للمجهول.
وقرأ الجمهور {تَدَّعُونَ} بفتح الدال المشددة. وقرأه يعقوب بسكون الدال من الدعاء، أي الذي كنتم تدعون الله أن يصيبكم به تهكما وعنادا كما قالوا : {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لأنفال: 32].
[28] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
هذا تكرير ثان لفعل {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23].
كان من بذاءة المشركين أن يجهروا بتمني هلاك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهلاك من معه من المسلمين، وقد حكى القرآن عنهم {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] وحكى عن بعضهم {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة: 98]، وكانوا يتآمرون على قتله، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ} [الأنفال: 30] فأمره الله بأن يعرفهم حقيقة تدحض أمانيهم، وهي أن موت أحد أو حياته لا يغني عن غيره ما جره إليه عمله، وقد جرت إليهم أعمالهم غضب الله ووعيده فهو نائلهم حيي الرسول صلى الله عليه وسلم أو بادره المنون،
(29/48)
قال تعالى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف:41-42] وقال {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الانبياء:34] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] أي المشركين، وقد تكرر هذا المعنى وما يقاربه في القرآن وينسب إلى الشافعي:
تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقد يكون نزول هذه الآيات السابقة صادف مقالة من مقالاتهم هذه فنزلت الآية في أثنائها وقد يكون نزولها لمناسبة حكاية قولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [الملك: 25] بأن قارئه كلام بذيء، مثل أن يقولوا: أبعد هلاكك يأتي الوعد.
والإهلاك: الإماتة، ومقابلة {أَهْلَكَنِيَ} ب {رَحِمَنَا} يدل على أن المراد: أو رحمنا بالحياة، فيفيد أن الحياة رحمة، وأن تأخير الأجل من النعم، وإنما لم يؤخر الله أجل نبيه صلى الله عليه وسلم مع أنه أشرف الرسل لحكم أرادها كما دل عليه قوله "حياتي خير لكم وموتي خير لكم" ، ولعل حكمة ذلك أن الله أكمل الدين الذي أراد إبلاغه فكان إكماله يوم الحج الأكبر من سنة ثلاث وعشرين من البعثة، وكان استمرار نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم خصيصية خصت الله بها من بين الأنبياء، فلما أتم الله دنينه ربا برسوله صلى الله عليه وسلم أن يبقى غير متصل بنزول الوحي فنقله الله إلى الاتصال بالرفيق الأعلى مباشرة بلا واسطة، وقد أشارت إلى هذا سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} من قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر1-3] ولله در عبد بني الحسحاس في عبرته بقوله:
رأيت المنايا لم يدعن محمدا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
وقد عوضه الله تعالى بحياة أعلى وأجل، إذ قال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4]، وبالحياة الأبدية العاجلة وهي أنه يرد عليه روحه الزكية كلما سلم عليه أحد فيرد عليه السلام كما ثبت بالحديث الصحيح.
وإنما سمى الحياة رحمة له ولمن معه، لأن في حياته نعمة له وللناس ما دام الله مقدرا حياته، وحياة المؤمن رحمة لأنه تكثر له فيها بركة الإيمان والأعمال الصالحة.
والاستفهام في {أَرَأَيْتُمْ} إنكاري أنكر اندفاعهم إلى أمنيات ورغائب لا يجتنون منها نفعا ولكنها مما تمليه عليهم النفوس الخبيثة من الحقد والحسد.
والرؤيا علمية، وفعلها معلق عن العمل فلذلك لم يرد بعده مفعولاه، وهو معلق
(29/49)
بالاستفهام الذي هو في جملة جواب الشرط، فتقدير الكلام: أرأيتم أنفسكم ناجين من عذاب أليم إن هلكت وهلك من معي، فهلاكنا لا يدفع عنكم العذاب المعد للكافرين.
وأقحم الشرط بين فعل الرؤيا وما سد مسد مفعوليه.
والفاء في قوله: {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ} [الملك: 30] رابطة الجواب الشرط لأنه لما وقع بعد ما أصله المبتدأ والخبر وهو المفعولان المقدران رجح جانب الشرط.
والمعية في قوله: {مَنْ مَعِيَ} معية مجازية، وهي الموافقة والمشاركة في الاعتقاد والدين، كما في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] الآية، أي الذين آمنوا معه، وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التحريم: 8]، كما أطلقت الموافقة على الرأي والفهم في قول أبي هريرة أنا مع ابن أخي يعني موافق لأبي سلمة بن عبد الرحمان، وذلك حين اختلف أبو سلمة وابن عباس في المتوفي عنها الحامل إذا وضعت حملها قبل مضي عدة الوفاة.
والاستفهام بقوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} الخ إنكاري، أي لا يجيرهم منه مجير، أي أظننتم أن تجدوا مجيرا لكم إذا هلكنا فذلك متعذر فماذا ينفعكم هلاكنا.
والعذاب المذكور هنا ما عبر عنه بالوعد في الآية قبلها.
وتنكير {عَذَابٍ} للتهويل.
والمراد ب {الْكَافِرِينَ} جميع الكافرين فيشمل المخاطبين.
والكلام بمنزلة التذييل، وفيه حذف، تقديره: من يجيركم من عذاب فإنكم كافرون ولا مجير للكافرين.
وذكر وصف {الْكَافِرِينَ} لما في من الإيماء إلى علة الحكم لأنه وصف إذا علق به حكم أفاد تعليل ما منه اشتقاق الوصف.
وقرأ الجمهور بفتحة على ياء {هْلَكَنِيَ} ، وقرأها حمزة بإسكان الياء.
وقرأ الجمهور ياء {مَعِيَ} بفتحة. وقرأها أبو بكر عن عاصم وحمزة والكسائي بسكون الياء.
[29] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
(29/50)
هذا تكرير ثالث لفعل {قل} من قوله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ} [الملك: 23] الآية.
وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله: {أَوْ رَحِمَنَا} [الملك: 28] فأنه بعد أن سوى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أي الحالين فرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمن، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة، فيعلم المشركون علم اليقين أي الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة.
وضمير {هُوَ} عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله، أي الله هو الذي وصفه {الرَّحْمَنُ} فهو يرحمنا، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تحرموا آثار رحمته. ونحن توكلنا عليه دون غيره غركم عزكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم.
وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى جانب المهتدي والجانب الضال من قوله: {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لأنه يظهر بادئ تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف {الرَّحْمَنُ} وتوكلوا على الأوثان.
و {مَنْ} موصولة، وما صدق {مَنْ} فريق مبهم متردد من فريقين تضمنها قوله: {إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} [الملك: 28] وقوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ} [الملك: 28]، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، والآخر فريق الكافرين، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين.
وتقديم معمول {تَوَكَّلْنَا} عليه لإفادة الاختصاص، أي توكلنا عليه دن غيره تعريضا بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوا في التوكل مع الله، أو نسوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الأصنام.
وإنما لم يقدم معمول {آمَنَّا} عليه فلم يقل: به آمنا، لمجرد الاهتمام إلى الإخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله: {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] فإن هذا جواب آخر على تمنيهم له الهلاك وسلك به طريق التبكيت، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإشراك وإثبات التوحيد، إذ الكلام في الإهلاك والإنجاء المعبر عنه ب {رَحِمَنَا} ، فجيء بجملة {آمَنَّا} على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص، بخلاف قوله {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} لأن التوكل يقتضي منجيا وناصرا،
(29/51)
والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم، فقيل: نحن لا نتكل ما أنتم متوكلون عليه، بل على الرحمن وحده توكلنا.
وفعل {فَسَتَعْلَمُونَ} معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده.
وقرأ الجمهور {فَسَتَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخبارا من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالين.
[30] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} .
إيماء إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم، كما دل عليه خبر تعجب القافلة من جرهم التي مرت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجر بابنه إسماعيل ففجر الله لها زمزم ولمحت القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء، ثم حفر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئرا تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قبيل البعثة، وكانت بها بئر أخرى تسمى الجفر بالجيم لبني تيم بن مرة، وبئر تسمى الجم ذكرها ابن عطية وأهملها القاموس وتاجه، ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
فماء هذه الآبار هو الماء الذي أنذروا به بأنه يصبح غورا، وهذا الإنذار نظير الواقع في سورة القلم {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} إلى قوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
والغور: مصدر غارت البئر، إذا نزح ماؤها فلم تنله الدلاء.
والمراد: ماء البير كما في قوله: {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} في ذكر جنة سورة الكهف.
وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض، مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض. والإخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عدل، ورضى. والمعين: الظاهر على وجه الأرض، والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبيه.
والاستفهام في قوله: {مَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ} استفهام إنكاري، أي لا يأتيكم أحد بماء معين: أي غير الله، وأكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله {أَمَّنْ هَذَا
(29/52)
الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20] الآيتين.
وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان. ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: من الآية21] وقال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} [البقرة: 74].
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في الكشاف مع ما نقل عنه في بيانه، قال: وعن بعض الشطار هو محمد بن زكريا الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه أنها أي هذه الآية تليت عنده فقال تجيء به أي الماء الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته. والله أعلم.
(29/53)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القلم
سميت هذه السورة في معظم التفاسير وفي "صحيح البخاري" "سورة نْ وَالْقَلَمِ" على حكاية اللفظين الواقعين في أولها، أي سورة هذا اللفظ.
وترجمها الترمذي في جامعه وبعض المفسرين سورة {نْ} بالاقتصار على الحرف المفرد الذي افتتحت به مثل ما سميت سورة {ص} وسورة {ق} .
وفي بعض المصاحف سميت "سورة وَالْقَلَمِ" وكذلك رأيت تسميتها في مصحف مخطوط بالخط الكوفي في القرن الخامس.
وهي مكية قال ابن عطية: لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
وذكر القرطبي عن الماوردي: أن ابن عباس وقتادة قالا: أولها مكي، إلى قوله: {عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16]، ومن قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17- 33]مدني، ومن قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مكي ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] مدني، ومن قوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [االقلم: 51] إلى آخر السورة مكي.
وفي الإتقان عن السخاوي: أن المدني منها من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} إلى {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم:17 33] ومن قوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:48- 50] فلم يجعل قوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى قوله: {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور:34- 41] مدنيا خلافا لما نسبه الماوردي إلى ابن عباس.
وهذه السورة عدها جابر بن زيد ثانية السور نزولا قال: نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وبعدها سورة المزمل ثم سورة المدثر، والأصح حديث عائشة أن أول ما أنزل
(29/54)
سورة اقرأ باسم ربك ثم فتر الوحي ثم نزلت سورة المدثر.
وما في حديث جابر بن عبد الله أن سورة المدثر نزلت بعد فترة الوحي يحمل على أنها نزلت بعد سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} جمعا بينه وبين حديث عائشة رضي الله عنها.
وفي "تفسير القرطبي" : أن معظم السورة نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل.
واتفق العادون على عد آيها ثنتين وخمسين.
أغراضها
جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.
وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.
وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم.
وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.
وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.
ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.
وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.
ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.
وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك
(29/55)
ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام.
[1-4] {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
{نْ}
افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبينة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.
ورسموا حرف {نْ} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمى اسمه الذي هو "نون" بنون بعدها واو ثم نون وكان القياس أن تكتب الحروف الثلاثة لأن الكتابة تبع للنطق والمنطوق به وهو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردت كتابة سيف مثلا فإنما ترسم سينا، وياء، وفاء، ولا ترسم صورة سيف.
وإنما يقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.
وينطق باسم نون ساكن الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها.وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.
{وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.
و {الْقَلَمِ} المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله. وعن مجاهد وقتادة: أنه القلم الذي في قوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]. قلت: وهذا هو المناسب لقوله: {وَمَا يَسْطُرُونَ} في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب.
ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين
(29/56)
المسلمين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه. وتعريف {الْقَلَمِ} تعريف الجنس.
فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.
وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
و {مَا يَسْطُرُونَ} هي السطور المكتوبة بالقلم
و {مَا} يجوز أن تكون موصولة، أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية. والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورا.
ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن، {وَمَا يَسْطُرُونَ} قسما بكتابتهم، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى: {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} في [سورة الزخرف:2-3] وتنظيره بقول أبي تمام:
وثناياك إنها أغريض... البيت
و {يَسْطُرُونَ} : مضارع سطر، يقال: سطر من باب نصر، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة. وأصله مشتق من السطر وهو القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع.
وضمير {يَسْطُرُونَ} راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة، والمقصود: المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول. فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين، فكأنه قيل: والمسطور، نضير قوله تعالى: {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3-2].
ومن فسر {الْقَلَمِ} بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير {يَسْطُرُونَ} راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا
(29/57)
النقصان، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير.
وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب.
والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام: هو مجنون، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة [القلم:51] {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} . وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]. وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه.
والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه.
وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف "إن" ولام الابتداء إذ قالوا {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات.
وقوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} جعله في "الكشاف" حالا من الضمير الذي في مجنون المنفي. والتقدير: انتفى وصف المجنون بنعمة ربك عليك. والباء للملابسة أو السببية، أي بسبب إنعام الله إذ برأك من النقائص. والذي أرى أن تكون جملة معترضة وأن الباء متعلقة بمحذوف يدل عليه المقام وتقديره: أن ذلك بنعمة ربك، على نحو ما قيل في تعلق الباء في قوله: {بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] وهو الذي يقتضيه استعمالهم كقول الحماسي الفضل بن عباس اللهبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
وذهب ابن الحاجب في "أماليه" أن {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} متعلق ما يتضمنه حرف {ما} النافية من معنى الفعل وقدره: انتفى أن تكون مجنونا بنعمة ربك. ولا يصح تعلقه بقوله "مجنون" إذ لو علق به لأوهم نفي جنون خاص وهو الجنون الذي يكون من نعمة الله
(29/58)
وليس ذلك بمستقيم. واستحسن هذا ابن هشام في مغني اللبيب في الباب الثالث لولا أنه مخالف لاتفاق أن النحاة على عدم صحة تعلق الظرف بالحرف ولم يخالفهم في ذلك إلا أبو علي وأبو الفتح في خصوص تعلق المجرور والظرف بمعنى الحرف النائب عن فعل مثل حرف النداء في قولك: يا لزيد "يريد في الاستغاثة"، وتقدم نظيره في قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} في سورة [الطور: 29].
ولما ثبت الله رسوله صلى الله عليه وسلم فدفع بهتان أعدائه أعقبه بإكرامه بأجر عظيم على ما لقيه من المشركين من أذى بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} بقرينة وقوعه عقب قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} ، مؤكدا ذلك بحرف {إن} وبلام الابتداء وبتقديم المجرور وهو في قوله: {لَكَ} .
وهذا الأجر هو ثواب الله في الآخرة وعناية الله به ونصره في الدنيا.
و {مَمْنُونٍ} يجوز أن يكون مشتقا من من المعطي على المعطى إذا عد عليه عطاءه وذكر له، أو افتخر عليه به فإن ذلك يسوء المعطى، قال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
أي ليس فيها أذى،والمن من الأذى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].
وقد انتزع من هذه الآية عبد الله بن الزبير "بكسر الموحدة" أو غيره في قوله:
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
قبله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي
ومراده عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق.
ويجوز أن يكون {مَمْنُونٍ} مشتقا من قولهم: من الحبل، أي أجرا غير مقطوع عنك، وهو الثواب المتزايد كل يوم، أو أجرا أبديا في الآخرة، ولهذا كان لإيثار كلمة {مَمْنُونٍ} هنا من الإيجاز بجمع معنيين بخلاف قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} في سورة [هود: 108] لأن ما هنا تكرمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن آنس نفس رسوله صلى الله عليه وسلم بالوعد عاد إلى تسفيه قول الأعداء فحقق أنه متلبس
(29/59)
بخلق عظيم وذلك ضد الجنون مؤكدا ذلك بثلاثة مؤكدات مثل ما في الجملة قبله.
والخلق: طباع النفس، وأكثر إطلاقه على طباع الخير إذا لم تتبع بنعت، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} في سورة [الشعراء:137].
والعظيم: الرفيع القدر وهو مستعار من ضخامة الجسم، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة.
و {على} للاستعلاء المجازي المراد به التمكن كقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] ومنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]، {إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67].
وفي حديث عائشة أنها سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن أي ما تضمنه القرآن من إيقاع الفضائل والمكارم والنهي عن أضدادها.
والخلق العظيم: هو الخلق الأكرم في نوع الأخلاق وهو البالغ أشد الكمال المحمود في طبع الإنسان لاجتماع مكارم الأخلاق في النبي صلى الله عليه وسلم فهو حسن معاملته الناس إلى اختلاف الأحوال المقتضية لحسن المعاملة، فالخلق العظيم أرفع من مطلق الخلق الحسن.
ولهذا قالت عائشة كان خلقه القرآن، ألست تقرأ {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] الآيات العشر. وعن علي الخلق العظيم: هو أدب القرآن ويشمل ذلك كل ما وصف به القرآن محامد الأخلاق وما وصف به النبي صلى الله عليه وسلم من نحو قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [لأعراف:199] وغير ذلك من آيات القرآن. وما أخذ به من الأدب بطريق الوحي غير القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، فجعل أصل شريعته إكمال ما يحتاجه البشر من مكارم الأخلاق في نفوسهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مظهر لما في شرعه قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18] وأمره أن يقول {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163].
فكما جعل الله رسوله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم جعل شريعته لحمل الناس على التخلق بالخلق العظيم بمنتهى الاستطاعة.
وبهذا يزداد وضوحا معنى التمكن الذي أفاده حرف الاستعلاء في قوله: {وَإِنَّكَ
(29/60)
لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} فهو متمكن منه الخلق العظيم في نفسه، ومتمكن منه في دعوته الدينية.
واعلم أن جماع الخلق العظيم الذي هو أعلى الخلق الحسن هو التدين، ومعرفة الحقائق، وحلم النفس، والعدل، والصبر على المتاعب، والاعتراف للمحسن، والتواضع، والزهد، والعفة، والعفو، والجمود، والحياء، والشجاعة، وحسن الصمت، والتؤدة، والوقار، والرحمة، وحسن المعاملة والمعاشرة.
والأخلاق كامنة في النفس ومظاهرها تصرفات صاحبها في كلامه، وطلاقة وجهه، وثباته، وحكمه، وحركته وسكونه، وطعامه وشرابه، وتأديب أهله ومن لنظره، وما يترتب على ذلك من حرمته عند الناس وحسن الثناء عليه والسمعة.
وأما مظاهرها في رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي ذلك كله وفي سياسيته أمته، وفيما خص به من فصاحة كلامه وجوامع كلمه.
[5-6] {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} .
الفاء للتفريع على قوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] باعتبار ما اقتضاه قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} [القلم: من الآية2] من إبطال مقالة قيلت في شأنه قالها أعداؤه في الدين، ابتدأ بإبطال بهتانهم، وفرع عليه أنهم إذا نظروا الدلائل وتوسموا الشمائل علموا أي الفريقين المفتون أهم مفتونون بالانصراف عن الحق والرشد، أم هو باختلال العقل كما اختلقوا.
والمقصود هو ما في قوله: {وَيُبْصِرُونَ} ولكن أدمج فيه قوله: {فَسَتُبْصِرُ} ليأتي بذر الجانبين إيقاع كلام منصف أي داع إلى الإنصاف على طريقة قوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] لأن القرآن يبلغ مسامعهم ويتلى عليهم.
وفعلا {تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} ، بمعنى البصر الحسي. وروي عن ابن عباس: إن معناه فستعلم ويعلمون، فجعله مثل استعمال فعل الرؤيا في معنى الضن، فلعله أراد تفسير حاصل المعنى إذ قد قيل إن الفعل المشتق من "أبصر" لا يستعمل بمعنى الضن والاعتقاد عند جمهور اللغويين والنحاة خلافا لهشام كذا في "التسهيل" 1 فالمعنى: سترى ويرون رأي العين أيكم المفتون فإذا كان بمعنى العلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رأى ذلك فالسين في قوله: {فَسَتُبْصِرُ} للتأكيد وأما المشركون فسيرون ذلك، أي يعلمون آثار فتونهم وذلك
ـــــــ
1 هو هشام بن معاوية الكوفي من أصحاب الكسائي توفي سنة 209.
(29/61)
فيما يرونه يوم بدر ويوم الفتح.
وإن كان بمعنى البصر الحسي فالسين والتاء في كلا الفعلين للاستقبال.
وضمير {يُبْصِرُونَ} عائد إلى معلوم مقدر عند السامع وهم المشركون القائلون: هو مجنون.
و"أي" اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه، ويظهر أن مدلول "أي" فرد أو طائفة متميز عن مشارك في طائفته من جنس أو وصف بمييز واقعي أو جعلي. فهذا مدلول "أي" في جميع مواقعه. وله مواقع كثيرة في الكلام، فقد يشرب "أي" معنى الموصول، ومعنى الشرط، ومعنى الاستفهام، ومعنى التنويه بكامل، ومعنى المعرف ب"ال" إذا وصل بندائه. وهو في جميع ذلك يفيد شيئا متميزا عما يشاركه في طائفته المدلولة بما أضيف هو إليه، فقوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} معناه: أي رجل، أو أي فريق منكم المفتون، فـ"أي" في موقعه هنا اسم في موقع المفعول لـ"تبصر ويبصرون" أو متعلق به تعلق المجرور.
وقد تقدم استعمال "أي" في الاستفهام عند قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} في سورة الأعراف[185].
و {الْمَفْتُونُ} : اسم مفعول وهو الذي أصابته فتنة، فيجوز أن يراد بها الجنون فإن الجنون يعد في كلام العرب من قبيل الفتنة يقولون للمجنون فتنته الجن ويجوز أن يراد مايصدق على المضطرب في أمره المفتون في عقله حيرة وتقلقلا، بإيثار هذا اللفظ، دون لفظ المجنون من الكلام الموجه أو التورية ليصح فرضه للجانبين.
فإن لم يكن بعض المشركين بمنزلة المجانين الذين يندفعون إلى مقاومة النبي صلى الله عليه وسلم بدون تبصر يكن في فتنة اضطراب أقواله وأفعاله كأبي جهل والوليد ابن المغيرة وأضرابهما الذين أغروا العامة بالطعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأقوال مختلفة.
والباء على هذا الوجه مزيدة لتأكيد تعلق الفعل بمفعوله والأصل: أيكم المفتون، فهي كالباء في قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. ويجوز أن تكون الباء للظرفية. والمعنى: في أي الفريقين منكم يوجد المجنون، أي من يصدق عليه هذا الوصف فيكون تعريضا بأبي جهل والوليد ابن المغيرة وغيرهما من مدبري السوء على دهماء قريش بهذه الأقوال الشبيهة بأقوال المجانين ذلك أنهم وصفوا رجلا معروفا بين العقلاء مذكورا برجاحة العقل والأمانة في الجاهلية فوصفوه بأنه مجنون فكانوا كمن زعم أن النهار ليل
(29/62)
ومن وصف اليوم الشديد البرد بالحرارة، فهذا شبه بالمجنون ولذلك يجعل {الْمَفْتُونُ} في الآية وصفا ادعائيا على طريقة التشبيه البليغ كما جعل المتنبي القوم الذين تركوا نزيلهم يرحل عنهم مع قدرتهم على إمساكه راحلين عن نزيلهم في قوله:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لاتفارقهم فالراحلون همو
ويجوز أن يكون {الْمَفْتُونُ} مصدرا على وزن المفعول مثل المعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلد: والميسور لليسر، والمعسور لضده، وفي المثل "خذ من ميسوره ودع معسوره".
والباء على هذا للملابسة في محل خبر مقدم على {الْمَفْتُونُ} وهو مبتدأ.
يضمن فعل "تبصر ويبصرون" معنى: توقن ويوقنون، على طريق الكناية بفعل الإبصار عن التحقق لأن أقوى طرق الحس حاسة البصر ويكون الإتيان بالباء للإشارة إلى هذا التضمين. والمعنى: فستعلم يقينا ويعلمون يقينا بأيكم المفتون، فالباء على أصلها من التعدية متعلقة ب"يبصر ويبصرون".
[7] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
تعليل لجملة {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُون، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} باعتبار ما تضمنته من التعريض بأن الجانب المفتون هو الجانب القائل له {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وأن ضده بضده هو الراجع العقل أي الذي أخبرك بما كنى عنه قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} من أنهم المجانين هو الأعلم بالفريقين وهو الذي أنبأك بأن سيتضح الحق لأبصارهم فتعين أن المفتون هو الفريق الذين وسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون المردود عليهم بقوله تعالى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] إذ هم الضالون عن سبيل رب النبي صلى الله عليه وسلم لا محالة، وينتظم بالتدرج من أول السورة إلى هنا أقيسة مساواة مندرج بعضها في بعض تقتضي مساواة حقيقة من ضل عن سبل رب النبي صلى الله عليه وسلم بحقيقة المفتون. ومساواة حقيقة المفتون بحقيقة المجنون، فتنتج أن فريق المشركين هم المتصفون بالجنون بقاعدة قياس المساواة أن مساوي المساوي لشيء مساو لذلك الشيء.
وهذا الانتقال تضمن وعدا ووعيدا، بإضافة السبيل إلى الله ومقابلة من ضل عنه بالمهتدين.
(29/63)
وعموم من ضل عن سبيله وعموم المهتدين يجعل هذه الجملة مع كونها كالدليل هي أيضا من التذييل.
وهو بعد هذا كله تمهيد وتوطئة لقوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8].
8-9 {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
تفريع على جملة {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النحل: 125] إلى آخرها، باعتبار ما تضمنته من أنه على هدى، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى، وتصلب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لينا ولكن يستأهلون إغلاظا.
روي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه، ويصانع بعضهم بعضا فنهاه الله عن إجابتهم لما ودوا.
ومعنى {وَدُّوا} : أحبوا.
وليس المراد أنهم ودوا ذلك في نفوسهم فأطلع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} .
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة.
فينتظم في هذا أن قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} إلى قوله: {الْمُهْتَدِينَ} فلعلهم تحدثوا أو أوعزوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحا بينهم ويترك كل فريق فريقا وما عبده.
والطاعة: قبول ما يبتغى عمله، ووقوع فعل {تُطِعِ} في حيز النهي يقتضي النهي عن
(29/64)
جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم، فالطاعة مراد بها المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، أي لا تلن لهم.
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإيماء إلى وجه بناء الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فأن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته.
ومن هنا يتضح أن جملة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف.
وفعل {تُدْهِنُ} مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهنا إما لتليينه وإما لتلوينه، ومن هذين المعنيين تفرعت معاني الإدهان كما أشار إليه الراغب، أي ودوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك، أي لو تواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها.
والفاء في {فَيُدْهِنُونَ} للعطف، والتسبب عن جملة {لَوْ تُدْهِنُ} جوابا لمعنى التمني المدلول علي بفعل {وَدُّوا} بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار "أن" لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره: فهم يدهنون. وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدما على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص، أي فالإدهان منهم لا منك، أي فاترك الإدهان لهم ولا تتخلق أنت به. وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى: {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن: 13]، أي فهو لا يخاف بخسا ولا رهقا.
وحرف {لو} يحتمل أن يكون شرطيا ويكون فعل {تُدْهِنُ} شرطا، وأن يكون جواب الشرط محذوفا ويكون التقدير: لو تدهن لحصل لهم ما يودون. ويحتمل أن يكون {لو} حرفا مصدريا على رأي طائفة من علماء العربية أن {لو} يأتي حرفا مصدريا مثل "أن" فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير: ودوا إدهانك.
ومفعول {وَدُّوا} محذوف دل عليه {لَوْ تُدْهِنُ} ، أو هو المصدر بناء على أن {لو} تقع حرفا مصدريا، وتقدم في قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} في سورة
(29/65)
البقرة. وقد يفيد موقع الفاء تعليلا لمودتهم منه أن يدهن، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله.
[10] {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} .
{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} .
إعادة فعل النهي عن الطاعة لمن هذه صفاتهم للاهتمام بهذا الأدب فلم يكتف بدخول أصحاب هذه الأوصاف في عموم المكذبين، ولا بتخصيصهم بالذكر بمجرد عطف الخاص على العام بأن يقال: ولا كل حلاف، بل جيء في جانبهم بصيغة نهي أخرى مماثلة للأولى.
وليفيد تسليط الوعيد الخاص وهو في مضمون قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] على أصحاب هذه الصفات الخاصة زيادة على وعيد المكذبين.
وقريب منه قول الحارث بن همام الشيباني:
أيا ابن زيابة إن تلقني ... لا تلقني في النعم العازب
وتلقني يشتد بي أجرد ... مستقدم البركة كالراكب
فلم يكتف بعطف: ب"ل" أو "كن" بأن يقول: بل تلقني يشتد بي أجرد، أو لكن تلقني يشتد بي أجرد، وعدل عن ذلك فأعاد فعل "لقني".
وكلمة {كُلَّ} موضوعة لإفادة الشمول والإحاطة لأفراد الاسم التي تضاف هي إليه، فهي هنا تفيد النهي العام عن طاعة كل فرد من أفراد أصحاب هذه الصفات التي أضيف إليها {كُلَّ} بالمباشرة وبالنعوت.
وقد وقعت كلمة {كُلَّ} معمولة للفعل الداخلة عليه أداة النهي ولا يفهم منه أن النهي منصب إلى طاعة من اجتمعت فيه هذه الصفات بحيث لو أطاع بعض أصحاب هذه الصفات لم يكن مخالفا للنهي إذ لا يخطر ذلك بالبال ولا يجري على أساليب الاستعمال، بل المراد النهي عن طاعة كل موصوف بخصلة من هذه الخصال بله من اجتمع له عدة منها.
وفي هذا ما يبطل ما أصله الشيخ عبد القادر في "دلائل الإعجاز" من الفرق بين أن
(29/66)
تقع {كُلَّ} في حيز النفي، أي أو النهي فتفيد ثبوت الفعل أو الوصف لبعض مما أضيف إليه {كُلَّ} إن كانت {كُلَّ} مسندا إليها، أو تفيد تعلق الفعل أو الوصف ببعض ما أضيف إليه {كُلَّ} إن كانت معمولة للمنفي أو المنهي عنه، وبين أن تقع {كُلَّ} في غير حيز النفي، وجعل رفع لفظ "كله" في قول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ... علي ذنبا كله لم أصنع
متعينا، لأنه لو نصبه لأفاد تنصله من أن يكون صنع مجموع ما ادعته عليه من الذنوب، فيصدق بأنه صنع بعض تلك الذنوب وهو لم يقصد ذلك كما صرح بإبطاله العلامة التفتزاني في المطول، واستشهد للإبطال بقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 276] وقوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} .
وأجريت على المنهي عن الإطاعة بهذه الصفات الذميمة لأن أصحابها ليسوا أهلا لأن يطاعوا إذ لا ثقة بهم ولا يأمرون إلا بسوء.
قال جمع من المفسرين المراد بالحلاف المهين: الوليد بن المغيرة، وقال بعضهم: الأخنس بن شريق، وقال آخرون: الأسود بن عبد يغوث، ومن المفسرين من قال المراد: أبو جهل، وإنما عنوا أن المراد التعريض بواحد من هؤلاء، وإلا فإن لفظ {كُلَّ} المفيد للعموم لا يسمح بأن يراد النهي عن واحد معين، وأما هؤلاء فلعل أربعتهم اشتركوا في معظم هذه الأوصاف فهم ممن أريد بالنهي عن إطاعته ومن كان على شاكلتهم من أمثالهم.
وليس المراد من جمع هذه الخلال بل من كانت له واحدة منها، والصفة الكبيرة منها هي التكذيب بالقرآن الذي ختم بها قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]، لكن الذي قال في القرآن إنه {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} هو الوليد بن المغيرة، فهو الذي اختلف هذا البهتان في قصة معلومة، فلما تلقف الآخرون منه هذا البهتان وأعجبوا به أخذوا يقولونه فكان جميعهم ممن يقوله ولذلك أسند الله إليهم هذا القول في آية {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الفرقان: 5].
وذكرت عشر خلال من مذامهم التي تخلقوا بها:
الأول: {حَلَّافٍ} ، والحلاف: المكثر من الأيمان على وعوده وأخباره، وأحسب أنه أريد به الكناية عن عدم المبالاة بالكذب وبالأيمان الفاجرة فجعلت صيغة المبالغة كناية
(29/67)
عن تعمد الحنث، وإلا لم يكن ذمه بهذه المثابة، ومن المفسرين من جعل {مَهِينٍ} قيدا لـ {حَلَّافٍ} على جعل النهي عن طاعة صاحب الوصف مجتمعين.
{مَهِينٍ}
هذه خصلة ثانية وليست قيدا لصفة {حَلَّافٍ} .
والمهين: بفتح الميم فعيل من مهن بمعنى حقر وذل، فهو صفة مشبهة، وفعله مهن بضم الهاء، وميمه أصلية وياؤه زائدة، وهو فعيل بمعنى فاعل، أي لا تطع الفاجر الحقير. وقد يكون {مَهِينٍ} هنا بمعنى ضعيف الرأي والتمييز، وكل ذلك من المهانة.
و {مَهِينٍ} : نعت لـ {حَلَّافٍ} ، وكذلك بقية الصفات إلى {زَنِيمٍ} [القلم: 13] فهو نعت مستقل. وبعضهم جعله قيدا لـ {حَلَّافٍ} وفسر المهين بالكذاب أي في حلفه.
[11] {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .
{هَمَّازٍ} .
الهماز كثير الهمزة. وأصل الهمز: الطعن بعود أو يد، وأطلق على الأذى بالقول في الغيبة على وجه الاستعارة وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة وفي التنزيل {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
وصيغة المبالغة راجعة إلى قوة الصفة، فإذا كان أذى شديدا فصاحبه {هَمَّازٍ} ، وإذا تكرر الأذى فصاحبه {هَمَّازٍ} .
{مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} .
المشاء بالنميم: الذي ينم بين الناس، ووصفه بالمشاء للمبالغة. والقول في هذه المبالغة مثل القول في {هَمَّازٍ} وهذه رابعة المذام.
والمشي: استعارة لتشويه حاله بأنه يتجشم المشقة لأجل النميمة مثل ذكر السعي في قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة: 33]. ذلك أن أسماء الأشياء المحسوسة أشد وقعا في تصور السامع من أسماء المعقولات، فذكر المشي بالنميمة فيه تصوير لحال النمام، ألا ترى أن قولك: قطع رأسه أوقع في النفس من قولك: قتل. ويدل لذلك أنه
(29/68)
وقع مثله في قول النبي صلى الله عليه وسلم "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" .
والنميم: اسم مرادف للنميمة، وقيل: النميم جمع نميمة، أي اسم جمع لنميمة إذا أريد بها الواحدة وصيرورتها اسما.
[12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} .
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} .
هذه مذمة خامسة.
{مَنَّاعٍ} : شديد المنع. والخير: المال، أي شحيح، والخير من أسماء المال قال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] وقد روعي تماثل الصيغة في هذه الصفات الأربع وهي حلف، هماز، مشاء، مناع وهو ضرب من محسن الموازنة.
والمراد بمنع الخير: منعه عمن أسلم من ذويهم وأقاربهم، يقول الواحد منهم لمن أسلم من أهله أو مواليه: من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا، وهذه شنشنة عرفوا بها من بعد، قال الله تعالى في شن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]. وأيضا فمن منع الخير ما كان أهل الجاهلية يعطون العطاء للفخر والسمعة فلا يعطون الضعفاء وإنما يعطون في المجامع والقبائل قال تعالى: {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18]. قيل: كان الوليد ابن المغيرة ينفق في الحج في كل حجة عشرين ألفا يطعم أهل منى، ولا يعطي المسكين درهما واحدا.
{مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} .
هما سادسة وسابعة قرن بينهما لمناسبة الخصوص والعموم.
والاعتداء: مبالغة في العدوان فالافتعال فيه للدلالة على الشدة.
والأثيم: كثير الإثم وهو فعيل من أمثلة المبالغة قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43-44]. والمراد بالإثم هنا ما يعد خطيئة وفسادا عند أهل العقول والمروءة وفي الأديان المعروفة.
قال أبو حيان: وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء {حَلَّافٍ}
(29/69)
[القلم:10] وبعده {مَهِينٍ} [القلم:10] لأن النون فيها تواخ مع الميم، أي ميم {أثيم} ، ثم جاء {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ} [القلم:11] بصفتي المبالغة، ثم جاء {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} صفات مبالغة اه. يرد أن الافتعال في {مُعْتَدٍ} للمبالغة.
[13] {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} .
ثامنة وتاسعة.
والعتل: بضمتين وتشديد اللام اسم وليس بوصف لكنه يتضمن معنى صفة لأنه مشتق من العتل بفتح فسكون، وهو الدفع بقوة قال تعالى: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] ولم يسمع عاتل. ومما يدل على أنه من قبيل الأسماء دون الأوصاف مركب من وصفين في أحوال مختلفة أو من مركب أوصاف في حالتين مختلفتين.
وفسر العتل بالشديد الخلقة الرحيب الجوف، وبالأكول الشروب، وبالغشوم الظلوم، وبالكثير اللحم المختال. روى الماوردي عن شهر بن حوشب هذا التفسير عن ابن مسعود وعن شداد بن أوس وعن عبد الرحمان بن غنيم، يزيد بعضهم على بعض عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند غير قوي، وهو على هذا التفسير إتباع لصفة {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم:12] أي يمنع السائل ويدفعه ويغلظ له على نحو قوله تعالى: { فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:2].
ومعنى {بَعْدَ ذَلِكَ} علاوة على ما عدد له من الأوصاف هو سيء الخلقة سيء المعاملة، فالبعدية هنا بعدية في الارتقاء في درجات التوصيف المذكورة، فمفادها مفاد التراخي الرتبي كقوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} النازعات:30] على أحد الوجهين فيه.
وعلى تفسير العتل بالشديد الخلقة والرحيب الجوف يكون وجه ذكره أن قباحة ذاته مكملة لمعائبه لأن العيب المشاهد أجلب إلى الاشمئزاز وأوغل في النفرة من صاحبه.
وموقع {بَعْدَ ذَلِكَ} موقع الجملة المعترضة، والظرف خبر لمحذوف تقديره: هو بعد ذلك.
ويجوز اتصال {بَعْدَ ذَلِكَ} بقوله: {زَنِيمٍ} على أنه حال من {زَنِيمٍ} .
والزنيم: اللصيق وهو من يكون دعيا في قومه ليس من صريح نسبهم: إما بمغمز في نسبه، وإما بكونه حليفا في قوم أو مولى، مأخوذ من الزنمة بالتحريك وهي قطعة من أذن
(29/70)
البعير لا تنزع بل تبقى معلقة بالأذن علامة على كرم البعير. والزنمتان بضعتان في رقاب المعز.
قيل أريد بالزنيم الوليد بن المغيرة لأنه ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل أريد الخنس بن شريق لأنه كان من ثقيف محالف قريشا وحل بينهم، وأياما كان فإن المراد به خاص فدخوله في المعطوف على ما أضيف إليه {كُلَّ} [القلم: 10] إنما هو على فرض وجود أمثال هذا الخاص وهو ضرب من الرمز كما يقال: ما بال أقوام يعملون كذا، ويراد واحد كعين. قال الخطيم التميمي جاهلي، أو حسام بن ثابت:
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
ويطلق الزنيم على من في نسبة غضاضة من قبل الأمهات، ومن ذلك قول حسان في هجاء أبي سفيان بن حرب، قبل إسلام أبي سفيان، وكانت أمه مولاة خلافا لسائر بني هاشم إذ كانت أمهاتهم من صريح نسب قومهن:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وإن سنام المجد من آل هاشم ... بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
يريد جده أبا أمه وهو موهب غلام عبد مناف وكانت أم أبي سفيان سمية بنت موهب هذا.
والقول في هذا الإطلاق والمراد به مماثل للقول في الإطلاق الذي قبله.
[14-15] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
يتعلق قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} بفعل {قَالَ} بتقدير لام التعليل محذوفة قبل {أَنْ} ، وهو حذف مطرد تعلق بذلك الفعل ظرف هو {إِذَا تُتْلَى} ومجرور هو {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ} ، ولا بدع في ذلك وليست {إِذَا} بشرطية هنا فلا يهولنك قولهم: إن "ما" بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، على أنها لو جعلت شرطية لما امتنع ذلك لأنهم يتوسعون في المجرورات ما لا يتوسعون في غيرها وهذا مجرور باللام المحذوفة.
والمراد: كل من كان ذا مال وبنين من كبراء المشركين كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11]. وقيل: أريد به الوليد بن المغيرة إذ هو الذي أختلق
(29/71)
أن يقول في القرآن {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} وقد علمت ذلك عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10]. وكان الوليد بن المغيرة ذا سعة من المال كثير الأبناء وهو المعني بقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً} إلى قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]. والوجه أن لا يختص هذا الوصف به. وأن يكون تعريضا به.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأسطورة كلمة معربة عن الرومية كما تقدم عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في [الأنعام: 25] وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [النحل:24] في سورة النحل.
وختمت الأوصاف المحذر عن إطاعة أصحابها بوصف التكذيب ليرجع إلى صفة التكذيب التي انتقل الأسلوب منها من قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8].
وقرأ الجمهور {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ} بهمزة واحدة على أنه خبر. وقرأه حمزة وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بهمزتين مخففتين فهو استفهام إنكاري. وقرأه ابن عامر بهمزة ومدة بجعل الهمزة الثانية ألفا للتخفيف.
[16] {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} .
استئناف بياني جوابا لسؤال ينشأ عن الصفات الذميمية التي وصفوا بها أن يسأل السامع: ما جزاء أصحاب هذه الأوصاف من الله على ما أتوه من القبائح والاجتراء على ربهم.
وضمير المفرد الغائب في قوله: {سَنَسِمُهُ} عائد إلى كل حلاف باعتبار لفظه وإن كان معناه الجماعات فإفراد ضميره كإفراد ما أضيف إليه {كُلَّ} [القلم: 10] من الصفات التي جاءت بحالة الإفراد.
والمعنى: سنسم كل هؤلاء على الخراطيم، وقد علمت آنفا أن ذلك تعريض بمعين بصفة قوله: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] وبأنه ذو مال وبنين.
و {الْخُرْطُومِ} : أريد به الأنف. والظاهر أن حقيقة الخرطوم الأنف المستطيل كأنف الفيل والخنزير ونحوهما من كل أنف مستطيل. وقد خلط أصحاب اللغة في ذكر معانيه خلطا لم تتبين منه حقيقته من مجازه.
(29/72)
وذكر الزمخشري في الأساس معانيه المجازية ولم يذكر معناه الحقيقي، وانبهم كلامه في الكشاف إلا أن قوله فيه: وفي لفظ {الْخُرْطُومِ} استخفاف وإهانة، يقتضي أن إطلاقه على أنف الإنسان مجاز مرسل. وجزم ابن عطية: أن حقيقة الخرطوم مخطم السبع، أي أنف مثل الأسد، فإطلاق الخرطوم على أنف الإنسان هنا استعارة كإطلاق المشفر وهو شفة البعير على شفة الإنسان في قول الفرزدق:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي غليظ المشافر
وكإطلاق الجحفلة على شفة الإنسان وهي للخيل والبغال والحمير في قول النابغة يهجو لبيد ابن ربيعة:
ألا من مبلغ عني لبيدا ... أبا الورداء جحفلة الأتان
والوسم للإبل ونحوها، جعل سمة لها أنها من مملوكات القبيلة أو المالك المعين.
فالمعنى: سنعامله معاملة يعرف بها أنه عبدنا وأنه لا يغني عنه ماله وولده منا شيئا.
فالوسم: تمثيل تتبعه كناية عن التمكن منه وإظهار عجزه.
وأصل "نسمه" نوسمه مثل: يعد ويصل.
وذكر الخرطوم فيه جمع بين التشويه والإهانة فإن الوسم يقتضي التمكن وكونه في الوجه إذلالا وإهانة، وكونه على الأنف أشد إذلالا. والتعبير عن الأنف بالخرطوم تشويه، والضرب والوسم ونحوهما على الأنف كناية عن قوة التمكن وتمام الغلبة وعجز صاحب الأنف عن المقاومة لأن الأنف أبرز ما في الوجه وهو مجرى النفس، ولذلك غلب ذكر الأنف في التعبير عن إظهار العزة في قولهم: شمخ بأنفه، وهو أشم الأنف، وهم شم العرانين. وعبر عن ظهور الذلة والاستكانة بكسر الأنف، وجدعه، ووقوعه في التراب في قولهم: رغم أنفه، وعلى رغم أنفه، قال جرير:
لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
ومعظم المفسرين على أن المعني بهذا الوعيد هو الوليد بن المغيرة، وقال أبو مسلم الأصفهاني في تفسيره قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} هو ما ابتلاه الله به في نفسه وماله وأهله من سوء وذل وصغار. يريد: ما نالهم يوم بدر وما بعده إلى فتح مكة. وعن ابن عباس معنى {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} سنخطمه بالسيف قال: وقد خطم الذي نزلت فيه بالسيف يوم بدر فلم يزل مخطوما إلى أن مات ولم يعين ابن عباس من هو.
(29/73)
وقد كانوا إذا ضربوا ضربوا بالسيوف قصدوا الوجوه والرؤوس. قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لعمر بن الخطاب لما بلغه قول أبي حذيفة لئن لقيت العباس لألجمنه بالسيف، فقال رسول الله: "يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف?" .
وقيل هذا وعيد بتشويه أنفه يوم القيامة مثل قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وجعل تشويهه يومئذ في أنفه لأنه إنما بالغ في عداوة الرسول والطعن في الدين بسبب الأنفة والكبرياء، وقد كان الأنف مظهر الكبر ولذلك سمي الكبر أنفة اشتقاقا من اسم الأنف فجعلت شوهته في مظهر آثار كبريائه.
[17-25] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ}.
ضمير الغائبين في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} يعود إلى {الْمُكَذِّبِينَ} في قوله: {فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم:8]. والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعت إليه مناسبة قوله: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 14-15] فإن الازدهار والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقع من قديم الزمان أصحابهما في بطر النعمة وإهمال الشكر فجر ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلا بحال أصحاب هذه الجنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم. كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف، وضرب مثلا بقارون في سورة القصص.
والبلوى حقيقتها: الاختبار وهي هنا تمثل بحال المبتلى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمد أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطغوا ولم يتوجهوا بالنظر إلى النعم السالفة ولا النعمة الكاملة التي أكملت لهم النعم.
(29/74)
ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنة المذكورة هنا هو الإعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته.
وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعم والقحط بعد الخصب، وأن اختلف السبب في نوعه فقد احتد جنسه. وقد حصل ذلك بعد سنين إذ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له: ضروان "بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون" من بلاد اليمن بقرب صنعاء. وقيل: ضروان اسم هذه الجنة، وكانت جنة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس. ولم يبين من أي أهل الكتاب هو: أمن اليهود أم من النصارى? فقيل: كان يهوديا، أي لأن أهل اليمن كانوا تدينوا باليهودية في عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بهجرة بعض جنود سليمان، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإصلاح السادس والعشرين من سفر اللاويين.
وقال بعض المفسرين: كان أصحاب هذه الجنة بعد عيسى بقليل، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلا بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القليس وكان ذلك زمان عام الفيل. وعن عكرمة: كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقا للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمرها فكان يعيش منها اليتامى والأرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحا وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأرامل وقالوا: لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين. فبيتوا ذلك وأقسموا أيمانا على ذلك، ولعلهم أقسموا ليلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعوا إليه. وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28]، قيل كان يقول لهم اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين، وذكرهم انتقام الله من المجرمين، أي فغلبوه ومضوا إلى ما عزموا عليه، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة.
(29/75)
فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودة قد أصابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيرا منها.
قيل: كانت هذه الجنة من أعناب.
والصرم: قطع الثمرة وجذاذها.
ومعنى {مُصْبِحِينَ} داخلين في الصباح أي في أوائل الفجر.
ومعنى {لا يَسْتَثْنُونَ} : أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين، أي أقسموا ليصرمن جميع الثمر ولا يتركون منه شيئا. وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلا فإن الصرم لا ينافي إعطاء شيء من المجذوذ لمن يريدون. وأجمل ذلك اعتمادا على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها.
وقيل معناه: {لا يَسْتَثْنُونَ} لإيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23-24]. ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو "إلا"، فإذا اقتصر أحد على "إن شاء الله" دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناء لأنه على تقدير: إلا أن يشاء الله. على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظرا إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} من قبيل الإدماج، أي لمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا زعموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا. والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بخلهم على الفقراء والأيتام.
وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة.
وقوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ} ، الطواف: المشي حول شيء من كل جوانبه يقال: طاف بالكعبة، وأريد هنا تمثيل حالة الإصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان، قال تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} الآية [لأعراف: 201].
(29/76)
وعدي "طاف" بحرف "على" لتضمينه معنى: تسلط أو نزل.
ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به، فإسناد فعل "طاف" إلى {طائف} بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل: فطيف عليها وهم نائمون.
وعن الفراء: أن الطائف لا يكون إلا بالليل، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طيفا. قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل. وفي هذا نظر.
فقوله: {وَهُمْ نَائِمُونَ} تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى {طائف} على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة.
وتنوين {طائف} للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} فهو طائف سوء، قيل: أصابها عنق من نار فاحترقت.
و {مِنْ رَبِّكَ} أي جائيا من قبل ربك، فـ {مِنْ} للابتداء يعني: إنه عذاب أرسل إليهم عقابا لهم على عدم شكر النعمة.
وعجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين ويؤخذ من الآية موعظة إلى الذين لا يواسون بأموالهم.
وإذ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيويا لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة.
والصريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار ملوا فيقال: الملوان، وعلى هذا ففي الجمع بين "أصبحت" و"الصريم" محسن الطباق.
وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة.
وقيل الصريم: اسم رملة معروفة باليمن لا تنبت شيئا.
وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية.
وبين "يصرمنها" و"الصريم" الجناس.
(29/77)
وفاء {فَتَنَادَوْا} للتفريع على {أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ، أي فلما أصبحوا تنادموا لإنجاز ما بيتوا عليه أمرهم.
والتنادي: أن ينادي بعضهم بعضا وهو مشعر بالتحريض على الغدو إلى جنتهم مبكرين.
والغدو: الخروج ومغادرة المكان في غدوة النهار، أي أوله.
وليس قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغدو قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم. ومنه قول عبد الله ابن عمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواح إن كنت تريد السنة. ونظير ذلك كثير في الكلام.
و {على} من قوله: {عَلَى حَرْثِكُمْ} مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل: اغدوا تكونوا على حرثكم، أي مستقرين عليه.
ويجوز أن يضمن فعل الغدو معنى الإقبال كما يقال: يغدى عليه بالجفنة ويراح. قال الطيبي: "ومثله قيل في حق المطلب تغدو درته "التي يضرب بها" على السفهاء، وجفنته على الحلماء".
والحرث: شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب.
ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإصلاح شجرها، وهو المارد هنا في قوله تعالى: {وَحَرْثٌ حِجْرٌ} في سورة [الأنعام:138] وتقدم في قوله: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} في سورة [آل عمران:14].
والتخافت: تفاعل من خفت إذا أسر الكلام.
و {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} تفسير لفعل {يَتَخَافَتُونَ} ، و {أن} تفسيرية لأن التخافت في معنى القول دون حروفه.
وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه.
وأسند إلى {مِسْكِينٌ } فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضا عن دخول المسكين إلى جنتهم، أي لا يترك أحد مسكينا يدخلها. وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في
(29/78)
استعمال النهي كقولهم: لا أعرفنك تفعل كذا.
وجملة {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} في موضع الحال بتقدير "قد"، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حرد.
وذكر فعل {غَدَوْا} في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدو النحس كقول امرئ القيس:
وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد
بعد قوله:
تطاول ليلك بالأثمد ... وبات الخلي ولم ترقد
يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان.
والحرد: يطلق على المنع وعلى القصد القوي، أي السرعة وعلى الغضب.
وفي إيثار كلمة {حَرْدٍ} في الآية نكتة من نكت الإعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق {عَلَى حَرْدٍ} ب {قَادِرِينَ} ، أو بقوله: {غَدَوْا} ، فإذا علق ب {قَادِرِينَ} ، فتقديم المتعلق يفيد تخصيصا، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع.
والتعبير بقادرين على الحرد دون أن يقول: وغدوا حادرين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا} [البقرة: 264] وقال: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] فقوله: { عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} على هذا الاحتمال من باب قولهم: فلان لا يملك إلا الحرمان أو لا يقدر إلا على الخيبة.
وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان {عَلَى حَرْدٍ} متعلقا ب {غَدَوْا} مبينا لنوع الغدو، أي غدوا غدو سرعة واعتناء، فتكون {على} بمعنى باء المصاحبة، والمعنى: غدوا بسرعة ونشاط، ويكون قادرين حالا من ضمير {غَدَوْا} حالا مقدرة، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا.
وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا دل عليه قوله بعده {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ}
(29/79)
[القلم:26]،وقوله قبله { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} .
وإذا أريد بالحرد الغضب والحنق فإنه يقال: حرد بالتحريك وحرد بسكون الراء ويتعلق المجرور ب {قَادِرِينَ} وتقديمه للحصر، أي غدوا لا قدرة لهم إلا على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلا على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة.
وعن السدي: أن {حَرْدٍ} اسم قريتهم، أي جنتهم. وأحسب أنه تفسير ملفق وكأن صاحبه تصيده من فعلي {اغْدُوا} و {غَدَوْا} .
[26-32] {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ، فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْراً مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} .
أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا إلى أنفسهم باللائمة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم، وعلموا أنهم أخذوا بسبب ذلك، قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [لأعراف: 168]. ومن حكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.
وأفادت "لما" اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة. والمقصود من هذا التعريض للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير.
وإسناد هذه المقالة إلى ضمير {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] يقتضي أنهم قالوه جميعا، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم.
ومعنى {إِنَّا لَضَالُّونَ} أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر فالضلال مجاز.
وأكدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم.
(29/80)
و {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبيينهم إذ بيتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم.
والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أتي به ضمير بارز مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميرا مستترا في اسم المفعول مقدرا مؤخرا عنه لأنه لا يتصور إلا بعد سماع متحمله. فلما أبرز الضمير وقدم كان تقديمه مؤذنا بمعنى الاختصاص، أي القصر، وهو قصر إضافي. وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن.
ويحتمل أن يكون الضلال حقيقيا، أي ضلال طريق الجنة، أي قالوا إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها، قالوا ذلك تحيرا في أمرهم.
ويكون الإضراب إبطاليا، أي أبطلوا أن يكونوا ضلوا طريق جنتهم، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله.
و {أَوْسَطُهُمْ} أفضلهم وأقربهم إلى الخير وهو أحد الإخوة الثلاثة. والوسط: يطلق على الأخير الأفضل، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، وقال {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ويقال هو من سطة قومه، وأعطني من سطة مالك.
وحكي هذا القول بدون عاطف لأنه قول في مجرى المحاورة جوابا عن قولهم: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} قاله لهم على وجه توقيفهم على تصويب رأيه وخطأ رأيهم.
والاستفهام تقريري و {لولا} حرف تحضيض. والمراد ب {تُسَبِّحُونَ} تنزيه الله عن أن يعصى أمره في شأن إعطاءه زكاة ثمارهم.
وكان جوابهم يتضمن إقرار بأنه وعظهم فعصوه ودلوا على ذلك بالتسبيح حين ندمهم على عدم الأخذ بنصيحته فقالوا: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أرادوا إجابة تقريره بإقرار تسبيح الله عن أن يعصى أمره في إعطاء حق المساكين فإن من أصول التوبة تدارك ما يمكن تداركه، واعترافهم بظلم المساكين من أصول التوبة لأنه خبر مستعمل في التندم، والتسبيح مقدمة الاستغفار من الذنب قال تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
(29/81)
تَوَّاباً} [النصر:3].
وجملة {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} قرار بالذنب، والتأكيد لتحقيق الإقرار والاهتمام به. ويفيد حرف "إن" مع ذلك تعليلا للتسبيح الذي قبله. وحذف مفعول {ظَالِمِينَ} ليعم ظلمهم أنفسهم بما جروه على أنفسهم من سلب النعمة، وظلم المساكين بمنعهم من حقهم في المال.
وجرت حكاية جوابهم على طريقة المحاورة فلم تعطف وهي الطريقة التي نبهنا عليها عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في [البقرة: 30].
ولما استقر حالهم على المشاركة في منع المساكين حقهم أخذ بعضهم يلوم بعضا على ما فرط من فعلهم: كل يلوم غيره بما كان قد تلبس به في هذا الشأن من ابتكار فكرة منع المساكين ما كان حقا لهم في حياة الأب، ومن الممالاة على ذلك، ومن الاقتناع بتصميم البقية، ومن تنفيذ جميعهم ذلك العزم الذميم، فصور قوله {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} هذه الحالة والتقاذف الواقع بينهم بهذا الإجمال البالغ غاية الإيجاز، ألا ترى أن إقبال بعضهم على بعض يصور حالة تشبه المهاجمة والتقريع، وأن صيغة التلاوم مع حذف متعلق التلاوم تصور في ذهن السامع صورا من لوم بعضهم على بعض.
وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} إلى آخره، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك.
فجملة { قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة {يَتَلاوَمُونَ} أي يلوم بعضهم بعضا بهذا الكلام فتكون خبرا مستعملا في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإقرار على نفسه، مع التحسر والتندم بما أفاده {يَا وَيْلَنَا} . وذلك كلام جامع للملامة كلها ولم تعطف الجملة لأنها مبينة.
ويجوز أن تكون جواب بعضهم بعضا عن لومه غيره، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضا كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضا عن ذلك الملام فقال كل ملوم للائمه {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} الخ جوابا بتقرير ملامة والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضهم عن جنتهم خيرا منها إذ قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة.
(29/82)
والإقبال: حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القبل وهو ما يبدو من الإنسان من جهة وجهة ضد الإدبار، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللوم.
واللوم: إنكار متوسط على فعل أو قول وهو دون التوبيخ وفوق العتاب، وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} في سورة [المؤمنين:6].
والطغيان: تجاوز الحد المتعارف في الكبر والتعاظم والمعنى: إنا كنا طاغين على حدود الله.
ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدنيا فيمحو عقابه في الدنيا محوا كاملا بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيرا منها.
وجملة {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} بدل من جملة الرجاء، أي هو رجاء مشتمل على رغبة إليه بالقبول والاستجابة.
والتأكيد في {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} للاهتمام بهذا التوجه.
والمقصود من الإطناب في قولهم بعد حلول العذاب بهم تلقين الذين ضرب لهم هذا المثل بأن في مكنتهم الإنابة إلى الله بنبذ الكفران لنعمته إذ أشركوا به من لا إنعام لهم عليه.
روي عن ابن مسعود أنه قال: بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم جنة يقال لها: الحيوان، ذات عنب يحمل العنقود الواحد منه على بغل.
وعن أبي خالد اليماني1 أنه قال: دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم.
وقرأ الجمهور: {أَنْ يُبْدِلَنَا} بسكون الموحدة وتخفيف الدال. وقرأه نافع وأبو عمرو وأبو جعفر {يُبْدِلَنَا} بفتح الموحدة وتشديد الدال وهما بمعنى واحد.
قال ابن الفرس في "أحكام القرآن" استدل بهذه الآية أبو محمد عبد الوهاب على
ـــــــ
1 كذا في تفسير القرطبي ونفائس المرجان والآلوسي. ووقع في تفسير القرطبي: أنه اليمامي، ولم أقف على ترجمته.
(29/83)
أن من تعمد إلى نقص النصاب قبل الحول قصدا للفرار من الزكاة أو خالط غيره، أو فارقه بعد الخلطة فإن ذلك لا يسقط الزكاة عنه خلافا للشافعي.
ووجه الاستدلال بالآية أن أصحاب الجنة قصدوا بجذ الثمار إسقاط حق المساكين فعاقبهم الله بإتلاف ثمارهم.
[33] {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم:17] الكلام فذلك وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي.
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يكون العذاب في الدنيا، فقوله: {كَذَلِكَ} مسند مقدم و {الْعَذَابُ} مسند إليه. وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع.
والتعريف في {الْعَذَابُ} تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإصابة بقطع الثمرات.
وليس التشبيه في قوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} مثل التشبيه في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف، لوجود ما يصلح لأن يكون مشبها به العذاب وهو كون المشبه به غير المشبه، ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود: 102] بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث أريد تشبهه لا يلجأ إلا إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه.
والمماثلة بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلا فإن ما توعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطول.
وقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} دال على أن المراد بقوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} عذاب الدنيا.
وضمير {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} ،
(29/84)
[القلم: 17]، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته.
[34] {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} .
استئناف بياني لأن من شأن ما ذكر من عذاب الآخرة للمجرمين أن ينشأ عنه سؤال في نفس السامع بقول: فما جزاء المتقين? وهو كلام معترض بين أجزاء الوعيد والتهديد وبين قوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم:16] وقوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} . وقد أشعر بتوقع هذا السؤال قوله بعده: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] كما سيأتي.
وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بشأن المتقين ليسبق ذكر صفتهم العظيمة ذكر جزاءها.
واللام للاستحقاق. و {عند} ظرف متعلق بمعنى الكون الذي يقتضيه حرف الجر، ولذلك قدم متعلقه معه على المسند إليه لأجل ذلك الاهتمام. وقد حصل من تقديم المسند بما معه طول يثير تشويق السامع إلى المسند إليه. والعندية هنا عندية كرامة واعتناء.
وإضافة {جنات} إلى {النعيم} تفيد أنها عرفت به فيشار بذلك إلى ملازمة النعيم لها لأن أصل الإضافة أنها بتقدير لام الاستحقاق ف {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} مفيد أنها استحقها النعيم لأنها ليس في أحوالها إلا حال نعيم أهلها، فلا يكون فيها ما يكون من جنات الدنيا من المتاعب مثل الحر في بعض الأوقات أو شدة البرد أو مثل الحشرات والزنابير، أو ما يؤذي مثل شوك الأزهار والأشجار وروث الدواب وذرق الطير.
[35-36] {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
فاء التفريغ تقتضي أن هذا الكلام متفرع على ما قبله من استحقاق المتقين جنات النعيم، ومقابلته بتهديد المشركين بعذاب الدنيا والآخرة، ولكن ذلك غير مصرح فيه بما يناسب إن يتفرغ عليه هذا الإنكار والتوبيخ فتعين تقدير إنكار من المعرض بهم ليتوجه إليهم هذا الاستفهام المفرع، وهو ما أشرنا إليه آنفا من توقع أو وقوع سؤال.
والاستفهام وما بعده من التوبيخ، والتخطئة،والتهكم على إدلالهم الكاذب، مؤذن بأن ما أنكر عليهم ووبخوا عليه وسفهوا على اعتقاده كان حديثا قد جرى في نواديهم أو
(29/85)
استسخروا به على المسلمين في معرض جحود أن يكون بعث، وفرضهم أنه على تقدير وقوع البعث والجزاء لا يكون للمسلمين مزية وفضل عند وقوعه.
وعن مقاتل لما نزلت آية { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم:34] قالت قريش: إن كان ثمة جنة نعيم فلنا فيها مثل حظنا وحظهم في الدنيا، وعن ابن عباس أنهم قالوا: إنا نعطى يومئذ خيرا مما تعطون فنزل قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} الآية.
والهمزة للاستفهام الإنكاري، فرع إنكار التساوي بين المسلمين والكافرين على ما سبق من اختلاف جزاء الفريقين فالإنكار متسلط على ما دار بين المشركين من القول عند نزول الآية السابقة أو عند نزول ما سبقها من آي القرآن التي قابلت بين جزاء المؤمنين وجزاء المشركين كما يقتضيه صريحا قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} إلى قوله: {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: من الآية39].
وإنكار جعل الفريقين متشابهين كناية عن إعطاء المسلمين جزاء الخير في الأخوة وحرمان المشركين منه، لأن نفي التساوي وارد في معنى التضاد في الخير والشر في القرآن وكلام العرب قال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]، وقال: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20]، وقال: { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صّ:28] وقال السموأل أو الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وإذا انتفى أن يكون للمشركين حظ في جزاء الخير انتفى ما قالوه من أنهم أفضل حظا في الآخرة من المسلمين كما هو حالهم في الدنيا بطريق فحوى الخطاب.
وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} كلام موجه إلى المشركين وهم المقصود ب {الْمُجْرِمِينَ} ، عبر عنهم بطريق الإظهار دون ضمير الخطاب لما في وصف {الْمُجْرِمِينَ} من المقابلة ليكون في الوصفين إيماء إلى سبب نفي المماثلة بين الفريقين.
فلذلك لم يكن ضمير الخطاب في قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} التفاتا عن ضمائر الغيبة من قوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17].
(29/86)
وإنما تغير الضمير إلى ضمير الخطاب تبعا لتغير توجيه الكلام، لأن شرط الالتفات أن يتغير الضمير في سياق واحد.
و {مَا لَكُمْ} استفهام إنكاري لحالة حكمهم، ف {مَا لَكُمْ} مبتدأ وخبر وقد تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة [البقرة: 246].
و {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} استفهام إنكاري ثان في موضع الحال من ضمير {لَكُمْ} ، أي انتفى أن يكون لكم شيء في حال حكمكم، أي فإن ثبت لهم كان منكرا باعتبار حالة حكمهم.
والمعنى: لا تحكمون أنكم مساوون للمسلمين في جزاء الآخرة أو مفضلون عليهم.
[37-38] {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ، إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} .
إضراب انتقال من توبيخ إلى احتجاج على كذبهم.
والاستفهام المقدر مع {أَمْ} إنكار لأن يكون لهم كتاب إنكارا مبنيا على الفرض وإن كانوا لم يدعوه.
وحاصل هذا الانتقال والانتقالات الثلاثة بعده وهي {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا} [القلم: 39] الخ، {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:40] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] الخ أن حكمكم هذا لا يخلو من أن يكون سنده كتابا سماويا نزل من لدنا، وإما أن يكون سنده عهدا منا بأنا نعطيكم ما تقترحون، وإما أن يكون لكم كفيل علينا، وإما أن يكون تعويلا على نصر شركائكم.
وتقديم {لَكُمْ} على المبتدأ وهو {كِتَابٌ} لأن المبتدأ نكرة ونكيره مقصود للنوعية فكان تقديم الخبر لازما.
وضمير {فِيهِ} عائد إلى الحكم المفاد من قوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 36]، أي كتاب في الحكم.
و"في" للتعليل أو الظرفية المجازية كما تقول ورد كتاب في الأمر بهذا أو في النهي عن كذا فيكون {فيه} ظرفا مستقرا صفة ل {كِتَابٌ} . ويجوز أن يكون الضمير عائد إلى {كِتَابٌ} ويتعلق المجرور بفعل {تَدْرُسُونَ} . جعلت الدراسة العميقة بمزيد التبصر في ما يتضمنه الكتاب بمنزلة الشيء المظروف في الكتاب كما تقول: لنا درس في كتاب سيبويه.
(29/87)
وفي هذا إدماج بالتعريض بأنهم أميون ليسوا أهل كتاب وأنهم لما جاءهم كتاب لهديهم وإلحاقهم بالأمم ذات الكتاب كفروا نعمته وكذبوه قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الانبياء:10] وقال: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157].
وجملة {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} في موضع مفعول {تَدْرُسُونَ} على أنها محكي لفظها، أي تدرسون هذه العبارة كما جاء قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 78،79]، أي تدرسون جملة {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} .
ويكون {فِيهِ} توكيدا لفظيا لنظيرها من قوله: {فِيهِ تَدْرُسُونَ} ، قصد من إعادتها مزيد ربط الجملة بالتي قبلها كما أعيدت كلمة "من" في قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وأصله: تتخذون سكرا.
و {تَخَيَّرُونَ} أصله تتخيرون بتاءين، حذفت إحداهما تخفيفا. والتخير: تكلف الخير، أي تطلب ما هو في أخير. والمعنى: إن في ذلك الكتاب لكم ما تختارون من خير الجزاء.
[39] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} .
{أَمْ} للانتقال إلى دليل آخر وهو نفي أن يكون مستند زعمهم عهدا أخذوه على الله لأنفسهم أن يعامله يوم القيامة بما يحكمون به لأنفسهم، فالاستفهام اللازم تقديره بعد {أَمْ} إنكاري و {بَالِغَةٌ} مؤكدة. وأصل البالغة: الواصلة إلى ما يطلب بها، وذلك استعارة لمعنى مغلظة، شبهت بالشيء المبالغ إلى نهاية سيره. وذلك كقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
وقوله: {عَلَيْنَا} صفة ثانية لـ {أَيْمَانٌ} أي أقسمناها لكم لإثبات حقكم علينا.
و {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} صفة ثالثة لـ {أَيْمَانٌ} ، أي أيمان مؤبدة لا تحلة منها فحصل من الوصفين أنها عهود مؤكدة ومستمرة طول الدهر، فليس يوم القيامة منتهى الأخذ بتلك الأيمان بل هو تنصيص على التأييد كما في قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الاحقاف: 5] في سورة الأحقاف.
ويتعلق إلى يوم القيامة بالاستقرار الذي في الخبر في قوله: {لَكُمْ أَيْمَانٌ} ولا
(29/88)
يحسن تعلقه بـ {بَالِغَةٌ} تعلق الظرف اللغو لأنه يصير {بَالِغَةٌ} مستعملا في معنى مشهور قريب من الحقيقة، ومحمل {بَالِغَةٌ} على الاستعارة التي ذكرنا أجزل وجملة {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} بيان لـ {أَيْمَانٌ} ، أي أيمان بهذا اللفظ.
ومعنى ما تحكمون تأمرون به دون مراجعة، يقال: نزلوا على حكم فلان، أي لم يعينوا طلبة خاصة ولكنهم وكلوا تعيين حقهم إلى فلان، قال خطاب أو حطان بن المعلى:
أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عال إلى خفض
أي دون اختيار لي ولا عمل عملته فكأنني حكمت الدهر فأنزلني من معاقلي وتصرف في كما شاء.
ومن أقوالهم السائرة مسرى الأمثال حكمك مسمطا بضم الميم وفتح السين وفتح الميم الثانية مشددة أي لك حكمك نافذا لا اعتراض عليك فيه. وقال ابن عثمة:
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
[40] {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} .
استئناف بياني عن جملة {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39]، لأن الأيمان وهي العهود تقتضي الكفلاء عادة قال الحارث بن حلزة:
واذكروا حلف ذي المجاز وما قد ... م فيه العهود والكفلاء
فلما ذكر إنكار أن يكون لهم عهود، كمل ذلك بأن يطلب منهم أن يعينوا من هم الزعماء بتلك الأيمان.
فالاستفهام في قوله: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} مستعمل في التهكم زيادة على الإنكار عليهم.
والزعيم: الكفيل وقد جعل الزعيم أحدا منهم زيادة في التهكم وهو أن جعل الزعيم لهم واحدا منهم لعزتهم ومناغاتهم لكبرياء الله تعالى.
[41] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} {أَمْ} إضراب انتقالي ثالث إلى إبطال مستند آخر مفروض لهم في سند قولهم: إنا نعطى مثل ما يعطى المسلمون أو خيرا مما يعطونه، وهو أن يفرض أن أصنامهم تنصرهم
(29/89)
وتجعل لهم حظا من جزاء الخير في الآخرة.
والمعنى: بل أثبتت لهم، أي لأجلهم ونفعهم شركاء، أي شركاء لنا في الإلهية في زعمهم، فحذف متعلق {شُرَكَاءُ} لشهرته عندهم فصار شركاء بمنزلة اللقب، أي أم آلهتهم لهم فليأتوا بهم لينفعوهم يوم القيامة.
واللام في {لهم} لام الأجل، أي لأجلهم بتقدير مضاف، أي لأجل نصرهم، فاللام كاللام في قول أبي سفيان يوم أحد "لنا العزى ولا عزى لكم".
وتنكير {شُرَكَاءُ} في حيز الاستفهام المستعمل في الإنكار يفيد انتفاء أن يكون أحد من الشركاء، أي الأصنام لهم، أي لنفعهم فيعم أصنام جميع قبائل العرب المشترك في عبادتها بين القبائل، والمخصوصة ببعض القبائل.
وقد نقل أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة لمناسبة وقوعه بعد {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} ، لأن أخص الناس بمعرفة أحقية هذا الإبطال هو النبي صلى الله عليه وسلم وذلك يستتبع توجيه هذا الإبطال إليهم بطريقة التعريض.
والتفريع في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} تفريع على نفي أن تنفعهم آلهتهم، فتعين أن أمر {فَلْيَأْتُوا} أمر تعجيز.
وإضافة {شُرَكَاءُ} إلى ضميرهم في قوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} لإبطال صفة الشركة في الإلهية عنهم، أي ليسوا شركاء في الإلهية إلا عند هؤلاء فإن الإلهية الحق لا تكون نسبية بالنسبة إلى فريق أو قبيلة.
ومثل هذا الإطلاق كثير في القرآن ومنه قوله: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} [أعراف: 195].
[42-43] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} .
يجوز أن يكون {يَوْمَ يُكْشَفُ} متعلقا بقوله: {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} [القلم: 41] أي فليأتوا بالمزعومين يوم القيامة. وهذا من حسن التخلص إلى ذكر أهوال القيامة عليهم.
ويجوز أن يكون استئنافا متعلقا بمحذوف تقديره: اذكر يو يكشف عن ساق ويدعون
(29/90)
إلى السجود الخ للتذكير بأهوال ذلك اليوم.
وعلى كلا الوجهين في تعلق {يوم} فالمراد باليوم يوم القيامة.
والكشف عن ساق: مثل لشدة الحال لصعوبة الخطب والهول، وأصله أن المرء إذا هلع أن يسرع في المشي ويشمر ثيابه فيكشف عن ساقه كما يقال: شمر عن ساعد الجد، وأيضا كانوا في الروع والهزيمة تشمر الحرائر عن سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن في الهرب أو في العمل فتنكشف سوقهن بحيث يشغلهن هول الأمر عن الاحتراز من إبداء ما لا تبدينه عادة، فيقال: كشفت عن ساقها أو شمرت عن ساقها، أو أبدت عن ساقها. قال عبد الله بن قيس الرقيات:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارة شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
وفي حديث غزوة أحد قال أنس بن مالك انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها إلخ، فإذا قالوا: كشف المرء عن ساقه فهو كناية عن هول أصابه وإن لم يكن كشف ساق. وإذا قالوا: كشف الأمر عن ساق، فقد مثلوه بالمرأة المروعة، وكذلك كشفت الحرب عن ساقها، كل ذلك تمثيل إذ ليس ثمة ساق قال حاتم:
فتى الحرب غضت به لحرب الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال جد طرفة من الحماسة:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشر البواح
وقرأ ابن عباس {يَوْمَ يُكْشَفُ} بمثناة فوقية وبصيغة البناء للفاعل على تقدير تكشف الشدة عن ساقها أو تكشف القيامة، وقريب من هذا قولهم: قامت الحرب على ساق.
والمعنى: يوم تبلغ أحوال الناس منتهى الشدة والروع، قال ابن عباس: يكشف عن ساق: عن كرب وشدة، وهي أشد ساعة في يوم القيامة.
وروى عبد بن حميد وغيره عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن هذا، فقال إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
(29/91)
صبرا عناق إنه لشرباق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق1
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال مجاهد: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} : شدة الأمر.
وجملة {وَيُدْعَوْنَ} ليس عائدا إلى المشركين مثل ضمير {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] إذ لا يساعد قوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} فإن المشركين لم يكونوا في الدنيا يدعون إلى السجود. فالوجه أن يكون عائدا إلى غير مذكور، أي ويدعى مدعوون فيكون تعريضا بالمنافقين بأنهم يحشرون مع المسلمين ويمتحن الناس بدعائهم إلى السجود ليتميز المؤمنون الخلص عن غيرهم تميز تشريف فلا يستطيع المنافقون السجود فيفتضح كفرهم. قال القرطبي عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود: فمن كان يعبد الله مخلصا يخر ساجدا له ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأن في ظهورهم السفافيد اه. فيكون قوله تعالى: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} إدماجا لذكر بعض ما يحصل من أحوال ذلك اليوم.
وفي صحيح مسلم من حديث الرؤية وحديث الشفاعة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد رياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه" الحديث، فيصلح ذلك تفسيرا لهذه الآية.
وقد اتبع فريق من المفسرين هذه الرواية وقالوا يكشف الله عن ساقه، أي عن مثل الرجل ليراها الناس ثم قالوا هذا من المتشابه على أنه روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَنْ سَاقٍ} قال: "يكشف عن نور عظيم يخرون له سجدا" .
ورويت أخبار أخرى ضعيفة لا جدوى في ذكرها.
و { السُّجُودِ} الذي يدعون إليه: سجود الضراعة والخضوع لأجل الخلاص من أهوال الموقف.
وعدم استطاعتهم السجود لسلب الله منهم الاستطاعة على السجود ليعلموا أنهم لا رجاء لهم في النجاة.
والذي يدعوهم إلى السجود الملائكة الموكلون بالمحشر بأمر الله تعالى كقوله
ـــــــ
1 شربق مقلوب شبرق أي مزق ويقال: ثوب شرباق كقرطاس.
(29/92)
تعالى: {وْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} إلى قوله: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر:6-8]، أو يدعو بعضهم بعضا بإلهام من الله تعالى، وهو نضير الدعوة إلى الشفاعة في الأثر المروي "فيقول بعضهم لبعض لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من موقفنا هذا".
وخشوع الأبصار: هيئة النظر بالعين بذلة وخوف، استعير له وصف {خَاشِعَةً} لأن الخاشع يكون مطأطئا مختفيا.
و {ترهقهم} : تحل بهم وتقترب منهم بحرص على التمكن منهم، رهق من باب فرح قال تعالى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:41].
وجملة {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} حال ثانية من ضمير {يَسْتَطِيعُونَ} .
وجملة {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنها، أي كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله وحده وهم سالمون من مثل الحالة التي هم عليها في يوم الحشر. والواو للحال وللاعتراض.
وجملة {وَهُمْ سَالِمُونَ} حال من ضمير {يُدْعَوْنَ} ، أي وهم قادرون لا علة تعوقهم في أجسادهم. والسلامة: انتفاء العلل والأمراض بخلاف حالهم يوم القيامة فإنهم ملجأون لعدم السجود.
[44-45] {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .
الفاء لتفريع الكلام الذي عطفته على الكلام الذي قبله لكون الكلام الأول سببا في ذكر ما بعده، فيعد أن استوفي الغرض من موعظتهم ووعيدهم وتزييف أوهامهم أعقب بهذا الاعتراض تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تكفل بالانتصاف من المكذبين ونصره عليهم.
وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ} ونحوه يفيد تمثيلا لحال مفعول "ذر" في تعهده بأن يكفي مؤونة شيء دون استعانة بصاحب المؤونة بحال من يرى المخاطب قد شرع في الانتصار لنفسه ورأى أنه لا يبلغ بذلك مبلغ مفعول "ذر" لأنه أقدر من المعتدى عليه في الانتصاف من المعتدي فيتفرغ له ولا يطلب من صاحب الحق إعانة له على أخذ حقه، ولذلك يؤتى بفعل يدل على طلب الترك ويؤتى بعده بمفعول معه ومنه قوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} [المزمل: 11] {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] وقال السهيلي في
(29/93)
"الروض الأنف" في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] فيه تهديد ووعيد، أي دعني وإياه فسترى ما أصنع وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاض عليه فمعنى الكلام لا شفاعة في هذا الكافر.
والواو: واو المعية وما بعدها مفعول معه، ولا يصح أن تكون الواو عاطفة لأن المقصود: اتركني معهم.
و {الحديث} يجوز أن يراد به القرآن وتسميته حديثا لما فيه من الإخبار عن الله تعالى، وما فيه من أخبار الأمم وأخبار المغيبات، وقد سمي بذلك في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} في سورة [الأعراف: 185] وقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ} الآية في سورة [النجم: 59-60] وقوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} في سورة [الواقعة: 81].
واسم الإشارة على هذا للإشارة إلى مقدر في الذهن مما سبق نزوله من القرآن.
ويجوز أن يكون المراد بالحديث الإخبار عن البعث وهو ما تضمنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} الآية [القلم: 42].
ويكون اسم الإشارة إشارة إلى ذلك الكلام والمعنى: حسبك إيقاعا بهم أن تكل أمرهم إلي فأنا أعلم كيف أنتصف منهم فلا تشغل نفسك بي وتوكل علي.
ويتضمن هذا تعريضا بالتهديد للمكذبين لأنهم يسمعون هذا الكلام.
وهذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر ووعيد لهم بانتقام في الدنيا لأنه تعجيل لتسلية الرسول.
وجملة {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ، بيان لمضمون {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} باعتبار أن الاستدراج والإملاء يعقبها الانتقام فكأنه قال: سنأخذهم بأعمالهم فلا تستبطئ الانتقام فإنه محقق وقوعه ولكن يؤخر لحكمة تقتضي تأخيره.
والاستدراج: استنزال الشيء من درجة إلى أخرى في مثل السلم، وكان أصل السين والتاء فيه للطلب أي محاولة التدرج، أي التنقل في الدرج، والقرينة تدل على إرادة النزول إذ التنقل في الدرج يكون صعودا ونزولا، ثم شاع إطلاقه على معاملة حسنة لمسيء إلى إبان مقدر عند حلوله عقابه ومعنى {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} أن استدراجهم المفضي إلى حلول العقاب بهم يأتيهم من أحوال وأسباب لا يتفطنون إلى أنها مفضية بهم إلى الهلاك،
(29/94)
وذلك أجلب لقوة حسرتهم عند حدوث المصائب بهم، ف {من} ابتدائية، و {حيث} للمكان المجازي، أي الأسباب والأفعال والأحوال التي يحسبونها تأتيهم بخير فتنكشف لهم عن الضر. ومفعول {لا يَعْلَمُونَ} ضمير محذوف عائد إلى {حيث} .
و {أملي} : مضارع أملي، مقصور بمعنى أمهل وأخر وهو مشتق من الملا مقصورا، وهو الحين والزمن، ومنه قيل الليل والنهار، الملوان، فيكون أملى بمعنى طول في الزمان، ومصدره إملاء.
ولام {لهم} هي اللام المسماة لام التبيين، وهي التي تبين اتصال مدخولها لخفاء فيه فإن اشتقاق فعل أملى من الملوو وهو الزمان اشتقاق غير بين لخفاء معنى الحدث فيه.
ونون {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} نون المتكلم المشارك، والمراد الله وملائكته الموكلون بتسخير الموجودات وربط أحوال بعضها ببعض على وجه يتم به مراد الله فلذلك جيء بنون المتكلم فالاستدراج تعلق تنجيزي لقدرة الله فيحصل بواسطة الملائكة الموكلين كما قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [لأنفال: 12] الآية.
وأما الإملاء فهو علم الله بتأجيل أخذهم. وتعلق العلم ينفرد به الله فلذلك جيء معه بضمير المفرد. وحصل في هذا الاختلاف تفنن في الضميرين.
ونظير هذه الآية قوله في الأعراف [182-183]: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} باعتبار أنهما وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر وتثبيت له بأن استمرار الكافرين في نعمة إنما هو استدراج وإملاء وضرب يشبه الكيد وأن الله بالغ أمره فيهم، وهذا كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196-197].
وموقع {إِنَّ} موقع التسبب والتعليل كما تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} في سورة [آل عمران: 96].
وإطلاق الكيد على إحسان الله لقوم مع إرادة إلحاق السوء بهم إطلاق على وجه الاستعارة لمشابهته فعل الكائد من حيث تعجيل الإحسان وتعقيبه بالإساءة.
[46] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} .
(29/95)
إضراب آخر للانتقال إلى إبطال آخر من إبطال معاذيرهم في إعراضهم عن استجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المبتدئ من قوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} [القلم: 36-37] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} [القلم: 39] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] فإنه بعد أن نفى أن تكون لهم حجة تؤيد صلاح حالهم. أو وعد لهم بإعطاء ما يرغبون، أو أولياء ينصرونهم، عطف الكلام إلى نفي أن يكون عليهم ضر في إجابة دعوة الإسلام، استقصاء لقطع ما يحتمل من المعاذير بافتراض أن الرسول صلى الله عليه وسلم سألهم أجرا على هديه إياهم فصدهن عن إجابته ثقل غرم المال على نفوسهم.
فالاستفهام الذي تؤذن به {أم} استفهام إنكار لفرض أن يكون ذلك مما يخامر نفوسهم فرضا اقتضاه استقراء نواياهم من مواقع الإقبال على دعوة الخير والرشد.
والمغرم: ما يفرض على المرء أداؤه من ماله لغير عوض ولا جناية.
والمثقل: الذي حمل عليه شيء ثقيل، وهو هنا مجاز في الإشفاق.
والفاء للتفريع والتسبب، أي فيتسبب على ذلك أنك شققت عليهم فيكون ذلك اعتذارا منهم عن عدم قبول ما تدعوهم إليه.
و {مِنْ مَغْرَمٍ} متعلق ب {مُثْقَلُونَ} و {من} ابتدائية وهو ابتداء مجازي بمعنى التعليل، وتقديم المعمول على عامله للاهتمام بموجب المشقة قبل ذكرها مع الرعاية على الفاصلة.
[47] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} .
إضراب آخر انتقل به من مدارج إبطال معاذير مفروضة لهم أن يتمسكوا بها تعلة لإعراضهم عن قبول دعوة القرآن، قطعا لما عسى أن ينتحلوه من المعاذير على طريقة الاستقراء ومنع الخلو.
وقد جاءت الإبطالات السالفة متعلقة بما يفرض لهم من المعاذير التي هي من قبيل مستندات من المشاهدات، وانتقل الآن إلى إبطال من نوع آخر، وهو إبطال حجة مفروضة يستندون فيها إلى علم شيء من المعلومات المغيبات عن الناس. وهي مما استأثر الله بعلمه وهو المعبر عنه بالغيب، كما تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة [البقرة: 3] وقد استقر عند الناس كلهم أن أمور الغيب لا يعلمها إلا الله أو من
(29/96)
أطلع من عباده على بعضها.
والكلام هنا على حذف مضاف، أي أعندهم علم الغيب كما قال تعالى: {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} في سورة [النجم: 35].
فالمراد بقوله: {عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أنه حصل في علمهم ومكنتهم، أي باطلاع جميعهم عليه أو بإبلاغ كبرائهم إليهم وتلقيهم ذلك منهم.
وتقديم {عِنْدَهُمُ} على المبتدأ وهو معرفة لإفادة الاختصاص، أي صار علم الغيب عندهم لا عند الله.
ومعنى يكتبون: يفرضون ويعينون كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] وقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، أي فهم يفرضون لأنفسهم أن السعادة في النفور من دعوة الإسلام ويفرضون ذلك على الدهماء من اتباعهم.
ومجيء جملة {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} متفرعة عن جملة {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} ، بناء على أن ما في الغيب مفروض كونه شاهدا على حكمهم لأنفسهم المشار إليه بقوله: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:36] كما علمته آنفا.
[48-50] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ، لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
تفريع على ما تقدم من إبطال مزاعم المشركين ومطاعنهم في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، وما تبعه من تكفل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بعاقبة النصر، وذلك أن شدته على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أن تدخل عليه يأسا من حصول رغبته ونجاح سعيه، ففرع عليه تثبيته وحثه على المصابرة واستمراره على الهدي. وتعريفه بأن ذلك التثبيت يرفع درجته في مقام الرسالة ليكون من أولي العزم، فذكره بمثل يونس عليه السلام إذ استعجل عن أمر ربه، فأدبه الله ثم اجتباه وتاب عليه وجعله من الصالحين تذكيرا مرادا به التحذير.
والمراد بحكم الرب هنا أمره وهو ما حمله إياه من الإرسال والاضطلاع بأعباء الدعوة. وهذا الحكم هو المستقرأ من آيات الأمر بالدعوة التي أولها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} إلى قوله: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1-7] فهذا هو الصبر المأمور به في هذه الآية أيضا. ولا جرم أن الصبر لذلك يستدعي انتظار الوعد بالنصر وعدم الضجر من تأخره إلى
(29/97)
أمده المقدر في علم الله.
وصاحب الحوت: هو يونس بن متى، وقد تقدم ذكره عند قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} إلى قوله: {وَيُونُسَ} في سورة [الأنعام: 84-86].
والصاحب: الذي يصحب غيره، أي يكون معه في بعض الأحوال أو في معظمها، وإطلاقه على يونس لأن الحوت التقمه ثم قذفه فصار "صاحب الحوت" لقبا له على تلك الحالة معية قوية.
وقد كانت مؤاخذة يونس عليه السلام على ضجره من تكذيب قومه وهم أهل نينوى كما تقدم في سورة الصافات.
و {إذ} ظرف زمان وهو وجملته متعلق باستقرار منصوب على الحال أي في حالة وقت ندائه ربه، فإنه ما نادى ربه إلا لإنقاذه من كربه الذي وقع فيه بسبب مغاضبته وضجره من قومه، أي لا يكن منك ما يلجئك إلى مثل ندائه.
والمكظوم: المحبوس المسدودة عليه يقال: كظم الباب أغلقه وكظم النهر إذا سده. والمعنى: نادى في حال حبسه في بطن الحوت.
وجيء بهذه الحال جملة اسمية لدلالتها على الثبات، أي هو في حبس لا يرجى لمثله سراح، وهذا تمهيد للامتنان عليه بالنجاة من مثل ذلك الحبس.
وقوله: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الخ استئناف بياني ناشئ عن مضمون النهي من قوله: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى} الخ لأنه يتضمن التحذير من الوقوع في كرب من قبيل كرب يونس ثم لا يدري كيف يكون انفراجه.
و {أن} يجوز أن تكون مخففة من {أن} ، واسمها ضمير شأن محذوف، وجملة {تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} خبرها. ويجوز أن تكون مصدرية، أي لولا تدارك رحمة من ربه.
والتدارك: تفاعل من الدرك بالتحريك وهو اللحاق، أي أن يلحق بعض السائرين بعضا وهو يقتضي تسابقهم وهو هنا مستعمل في مبالغة إدراك نعمة الله إياه.
والنبذ: الطرح والترك. والعراء ممدودا: الفضاء من الأرض الذي لا نبات فيه ولا بناء.
والمعنى: لنبذه الحوت أو البحر بالفضاء الخالي لأن الحوت الذي ابتلعه من النوع
(29/98)
الذي يرضع فراخه فهو يقترب من السواحل الخالية المترامية الأطراف خوفا على نفسه وفراخه.
والمعنى: أن الله أنعم عليه بأن أنبت عليه شجرة اليقطين كما في سورة الصافات.
وأدمج في ذلك فضل التوبة والضراعة إلى الله، وأنه لولا توبته وضراعته إلى الله وإنعام الله عليه نعمة بعد نعمة لقذفه الحوت من بطنه ميتا فأخرجه الموج إلى الشاطئ فلكان مثلة للناظرين أو حيا منبوذا بالعراء لا يجد إسعافا، أو لنجى بعد لأي والله غاضب عليه فهو مذموم عند الله مسخوط عليه. وهي نعم كثيرة عليه إذ أنقذه من هذه الورطات كلها إنقاذا خارقا للعادة.
وهذا المعنى طوي طيا بديعا وأشير إليه إشارة بليغة بجملة {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} .
وطريقة المفسرين في نشر هذا المطوي أن جملة {وَهُوَ مَذْمُومٌ} في موضع الحال وأن تلك الحال قيد في جواب {لَوْلا} ، فتقدير الكلام: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء نبذا ذميما، أي ولكن يونس نبذ بالعراء غير مذموم.
والذي حملهم على هذا التأويل أن نبذه بالعراء واقع فلا يستقيم أن يكون جوابا للشرط لأن {لَوْلا} تقتضي امتناعا لوجود، فلا يكون جوابها واقعا فتعين اعتبار تقييد الجواب بجملة الحال، أي انتفى ذمه عند نذبه بالعراء.
ويلوح لي في تفصيل النظم وجه آخر وهو أن يكون جواب {لَوْلا} محذوفا دل عليه قوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مع ما تفيده صيغة الجملة الاسمية من تمكن الكظم كما علمت آنفا، فتلك الحالة إذا استمرت لم يحصل نبذه بالعراء، ويكون الشرط ب {لَوْلا} لاحقا لجملة {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ، أي لبقي مكظوما، أي محبوسا في بطن الحوت أبدا وهو معنى قوله في سورة الصافات [143-144] {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، وتجعل جملة {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} استئنافا بيانيا ناشئا عن الإجمال الحاصل من موقع {لَوْلا} .
واللام فيها لام القسم للتحقيق لأنه خارق للعادة فتأكيده لرفع احتمال المجاز. والمعنى: لقد نبذ بالعراء وهو مذموم. والمذموم: إما بمعنى المذنب لأن الذنب يقتضي الذم في العاجل والعقاب في الآجل، وهو معنى قوله: في آية الصافات [142] {فَالْتَقَمَهُ
(29/99)
الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} وإما بمعنى العيب وهو كونه عاريا جائعا فيكون في معنى قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات:145] فإن السقم عيب أيضا.
وتنكير {نِعْمَةٌ} للتعظيم لأنها نعمة مضاعفة مكررة.
وفرع على هذا النفي الإخبار بأن الله اجتباه وجعله من الصالحين.
والمراد ب {الصَّالِحِينَ} المفضلون من الأنبياء، وقد قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83] وذلك إيماء إلى أن الصلاح هو أصل الخير ورفع الدرجات، وقد تقدم في قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} في سورة [التحريم: 10].
قال ابن عباس رد الله إلى يونس الوحي وشفعه في نفسه وفي قومه.
[51-52] {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ، وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .
عطف على جملة {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44]، عرف الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما تنطوي عليه نفوس المشركين نحو النبي صلى الله عليه وسلم من الحقد والغيظ وإضمار الشر عندما يسمعون القرآن.
والزلق: بفتحتين زلل الرجل من ملاسة الأرض من طين عيها أو دهن، وتقدم في قوله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} في سورة [الكهف: 40].
ولما كان الزلق يفضي إلى السقوط غالبا أطلق الزلق وما يشتق منه على السقوط والاندحاض على وجه الكناية، ومنه قوله هنا {لَيُزْلِقُونَكَ} ، أي يسقطونك ويصرعونك.
وعن مجاهد: أن ينفذونك بنظرهم. وقال القرطبي: يقال زلق السهم وزهق، إذا نفذ، ولم أراه لغيره، قال الراغب قال يونس: لم يسمع الزلق والإزلاق إلا في القرآن اه.
قلت: وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل {لَيُزْلِقُونَكَ} . وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران: 155].
(29/100)
وقرأ نافع وأبو جعفر "يزلقونك" بفتح المثناة مضارع زلق بفتح اللام يزلق متعديا، إذا نحاه من مكانه.
وقرأه الباقون بضم المثناة.
وجاء {يكاد} بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل وجاء فعل {سمعوا} ماضيا لوقوعه مع {لَمَّا} وللإشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.
واللام في {لَيُزْلِقُونَكَ} لام الابتداء التي تدخل كثيرا في خبر {إن} المكسورة وهي أيضا تفرق بين {إن} المخففة وبين "إن" النافية.
وضمير {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليس للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.
والمعنى: يقولون ذلك اعتلالا لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلا للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} بقوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، أي ما القرآن إلا ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.
والذكر: التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأنه فيه صلاح للناس.
فضمير {هو} عائد إلى مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينة السياق ترجع كل ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
أي لأحرز الكفار ما جمعه المسلمون.
وفي قوله: {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} مع قوله في أول السورة: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] محسن رد العجز على الصدر.
وقوله: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} إبطالا لقولهم: {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} لأنهم قالوه في سياق تكذيبهم بالقرآن فإذا ثبت أن القرآن ذكر بطل أن يكون مبلغه مجنونا. وهذا من قبيل الاحتباك إذ التقدير: ويقولون إنه لمجنون وإن القرآن كلام مجنون، وما القرآن إلا ذكر وما أنت إلا مذكر.
(29/101)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقة
سميت "سورة الحاقة" في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أحمد بن حنبل أن عمر ابن الخطاب قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله قبل أن أسلم، فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت: هذا والله شاعر، أي قلت في خاطري، فقرأ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:41] قلت: كاهن، فقرأ {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42-43] إلى آخر السورة، فوقع الإسلام في قلبي كل موقع.
وباسم {الحاقة} عنونت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير. وقال الفيروز أبادي في "بصائر ذوي التمييز": إنها تسمى أيضا "سورة السلسلة" لقوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} [الحاقة: 32] وسماها الجعبري في منظومته في ترتيب نزول السور الواعية ولعله أخذه من وقوع قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] ولم أر سلفا في هذه التسمية.
ووجه تسميتها "سورة الحاقة" وقوع هذه الكلمة في أولها ولم تقع في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية بالاتفاق. ومقتضى الخبر المذكور عن عمر بن الخطاب أنها نزلت في السنة الخامسة قبل الهجرة فإن عمر أسلم بعد هجرة المهاجرين إلى الحبشة وكانت الهجرة إلى الحبشة سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة.
وقد عدت هذه السورة السابعة والسبعين في عداد ترتيب النزول. نزلت بعد سورة تبارك وقبل سورة المعارج.
واتفق العادون من أهل الأمصار على عد آيها إحدى وخمسين آية.
(29/102)
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة. وتهديد المكذبين بوقوعه.
وتذكيرهم بما حل بالأمم التي كذبت به من عذاب في الدنيا ثم عذاب الآخرة وتهديد المكذبين برسل الله تعالى بالأمم التي أشركت وكذبت.
وأدمج في ذلك أن الله نجى المؤمنين من العذاب، وفي ذلك تذكير بنعمة الله على البشر إذ أبقى نوعهم بالإنجاء من الطوفان.
ووصف أهوال من الجزاء وتفاوت الناس يومئذ فيه، ووصف فظاعة حال العقاب على الكفر وعلى نبذ شريعة الإسلام، والتنويه بالقرآن.
وتنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أن يكون غير رسول.
وتنزيه الله تعالى عن أن يقر من يتقول عليه.
وتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإنذار المشركين بتحقيق الوعيد الذي في القرآن.
[1-3] { الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} .
{الْحَاقَّةُ} صيغة فاعل من: حق الشيء، إذا ثبت وقوعه، والهاء فيها لا تخلو عن أن تكون هاء تأنيث فتكون {الْحَاقَّةُ} وصفا لموصوف مقدر مؤنث اللفظ، أو أن تكون هاء مصدر على وزن فاعلة مثل الكاذبة للكذب، والخاتمة للختم، والباقية للبقاء، والطاغية للطغيان، والنافلة، والخاطئة، وأصلها تاء المرة، ولكنها لما أريد المصدر قطع النظر عن المرة مثل كثير من المصادر التي على وزن فعلة غير ما رد به المرة مثل قولهم ضربة لازب. فالحاقة إذن بمعنى الحق كما يقال من حاق كذا، أي من حقه.
وعلى الوجهين فيجوز أن يكون المراد بالحاقة المعنى الوصفي، أي حاثة تحقق أو حق يحق.
ويجوز أن يكون المراد بها لقبا ليوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وأصحابه وهو الذي درج عليه المفسرون فلقب بذلك يوم القيامة لأنه يوم محقق وقوعه، كما قال تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7]، أو لأنه تحقق فيه الحقوق ولا يضاع
(29/103)
الجزاء عليها، قال تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].
وإيثار هذه المادة وهذه الصيغة يسمح باندراج معان صالحة بهذا المقام فيكون ذلك من الإيجاز البديع لتذهب نفوس السامعين كل مذهب ممكن من مذاهب الهول والتخويف بما يحق حلوله بهم.
فيجوز أيضا أن تكون {الحاقة} وصفا لموصوف محذوف تقديره: الساعة الحاقة، أو الواقعة الحاقة، فيكون تهديدا بيوم أو وقعة يكون فيها عقاب شديد للمعرض بهم مثل يوم بدر أو وقعته وأن ذلك حق لا ريب في وقوعه؛ أو وصفا للكلمة، أي كلمة الله التي حقت على المشركين من أهل مكة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر:6]، أو التي حقت للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينصره الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات: 171-174].
ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى الحق، فيصح أن يكون وصفا ليوم القيامة بأنه حق كقوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97]، أو وصفا للقرآن كقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران:62]، أو أريد به الحق كله كما جاء به القرآن من الحق قال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] وقال: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ} [الاحقاف: 30].
وافتتاح السورة بهذا اللفظ ترويع للمشركين.
و {الْحَاقَّةُ} مبتدأ و {مَا} مبتدأ ثان. و {الْحَاقَّةُ} المذكورة ثانيا خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول.
و {مَا} اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم كأنه قيل: أتدري ما الحاقة? أي ما هي الحاقة، أي شيء عظيم الحاقة. وإعادة اسم المبتدأ في الجملة الواقعة خبرا عنه تقوم مقام ضميره في ربط الجملة المخبر بها. وهو من الإظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الاسم من التهويل. ونظيره في ذلك قوله تعالى {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27].
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} يجوز أن تكون معترضة بين جملة {مَا الْحَاقَّةُ}
(29/104)
وجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4]، والواو اعتراضية.
ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على جملة {مَا الْحَاقَّةُ} .
و {مَا} الثانية استفهامية، والاستفهام بها مكنى به عن تعذر إحاطة علم الناس بكنه الحاقة لأن الشيء الخارج عن الحد المألوف لا يتصور بسهولة فمن شأنه أن يتساءل عن فهمه.
والخطاب في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} لغير معين. والمعنى: الحاقة أمر عظيم لا تدركون كنهه.
وتركيب "ما أدراك كذا" مما جرى مجرى المثل فلا يغير عن هذا اللفظ وهو تركيب مركب من {مَا} الاستفهامية وفعل "أدرى" الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل من باب أعلم وأرى، فصار فاعل فعله المجرد وهو "درى" مفعولا أول بسبب التعدية. وقد علق فعل {أدراك} عن نصب مفعولين ب {مَا} الاستفهامية الثانية في قوله: {مَا الْحَاقَّةُ} . وصل الكلام قبل التركيب بالاستفهام أن تقول: أدركت الحاقة أمرا عظيما، ثم صار أدركني فلان الحاقة أمرا عظيما.
و {ما} الأولى استفهامية مستعملة في التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل في الحرف، لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه فصار التعظيم والاستفهام متلازمين. ولك أن تجعل الاستفهام إنكاريا، أي لا يدري أحد كنه هذا الأمر.
والمقصود من ذلك على كلا الاعتبارين هو التهويل.
هذا السؤال كما تقول: علمت هل يسافر فلان.
و {ما} الثالثة علقت فعل {أدراك} عن العمل في مفعولين.
وكاف الخطاب فيه خطاب لغير معين فلذلك لا يقترن بضمير تثنية أو جمع أو تأنيث إذا خوطب به غير المفرد المذكر.
واستعمال {مَا أَدْرَاكَ} غير استعمال {مَا يُدْرِيكَ} في قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} في سورة [الشورى: 17].
روي عن ابن عباس: كل شيء من القرآن من قوله: {مَا أَدْرَاكَ} فقد أدراه وكل
(29/105)
شيء من قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} فقد طوي عنه. وقد روي هذا أيضا عن سفيان ابن عيينة وعن يحيى بن سلام فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول {مَا أَدْرَاكَ} محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وإن مفعول {مَا يُدْرِيكَ} غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب: كل موضع ذكر في القرآن من قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ} فقد عقب ببيانه نحو {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10-11]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:2-3]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} [الانفطار: 18-19]، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 3-4]. وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
ولم أرى من اللغويين من وفى هذا التركيب حقه من البيان وبعضه لم يذكره أصلا.
[4] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} .
إن جعلت قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3] نهاية كلام فموقع قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} وما اتصل به استئناف، وهو تذكير لما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليه مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله: {الْحَاقَّةُ} الخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.
وإن جعلت الكلام متصلا بجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} وعينت لفظ {الْحَاقَّةُ} يوم القيامة وكانت هذه الجملة خبرا ثالثا عن {الْحَاقَّةُ} .
والمعنى: الحاقة كذبت بها ثمود وعاد، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير {الْحَاقَّةُ} فيقال: كذبت ثمود وعاد بها، فعدل إلى إظهار اسم {الْقَارِعَةِ} لأن {الْقَارِعَةِ} مرادفة {الْحَاقَّةُ} في أحد محملي لفظ {الْحَاقَّةُ} وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3].
و {الْقَارِعَةِ} مراد منها ما أريد ب {الْحَاقَّةُ} .
وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا.
(29/106)
والقارعة: اسم فاعل من قرعه، إذا ضربه ضربا قويا، يقال: قرع البعير. وقالوا: العبد يقرع بالعصا، وسميت المواعظ التي تنكسر لها النفس قوارع لما فيها من زجر الناس عن أعمال. وفي المقامة الأولى ويقرع الأسماع بزواجر وعظة، ويقال للتوبيخ تقريع، وفي المثل لا تقرع له العصا ولا يقلقل له الحصى، ومورده بعامر بن الضرب العدواني في قصة أشار إليها المتلمس في بيت.
ف"القارعة" هنا صفة لموصوف محذوف يقدر لفظه مؤنثا ليوافق وصفه المذكور نحو الساعة أو القيامة. القارعة: أي التي تصيب الناس بالأهوال والأفزاع، أو التي تصيب الموجودات بالقرع مثل دك الحبال، وخسف الأرض، وطمس النجوم، وكسوف الشمس كسوفا لا انجلاء له فشبه ذلك بالقرع.
ووصف {السَّاعَةِ} [لأعراف: 187] أو {الْقِيَامَةِ} [البقرة: 85] بذلك مجاز عقلي من إسناد الوصف إلى غير ما هو له بتأول لملابسته ما هو له إذ هي زمان القرع قال تعالى: {الْقَارِعَةُ، مَا الْقَارِعَةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ، يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 1-4] الآية. وهي ما سيأتي بيانها في قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة:13] الآيات.
وجيء في الخبر عن هاتين الآيتين بطريقة اللف والنشر لأنهما اجتمعا في موجب العقوبة ثم فصل ذكر عذابهما.
[5] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} .
ابتدئ بذكر ثمود لأن العذاب الذي أصابهم من قبيل القرع إذ أصابتهم الصواعق المسماة في بعض الآيات بالصحيحة. والطاغية: الصاعقة في قول ابن عباس وقتادة: نزلت عليهم صاعقة أو صواعق فأهلكتهم، ولأن منازل ثمود كانت في طريق أهل مكة إلى الشام في رحلتهم فهم يرونها، قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، ولأن الكلام على مهلك عاد أنسب فأخر لذلك أيضا.
وإنما سميت الصاعقة أو الصيحة {بِالطَّاغِيَةِ} لأنها كانت متجاوزة الحال المتعارف في الشدة فشبه فعلها بفعل الطاغي المتجاوز الحد في العدوان والبطش.
والباء في قول: {بِالطَّاغِيَةِ} للاستعانة.
(29/107)
و {ثمود} : أمة من العرب البائدة العاربة، وهم أنساب عاد. وثمود: اسم جد تلك الأمة ولكن غلب إلى الأمة فلذلك منع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار الأمة أو القبيلة.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} في سورة [الأعراف: 73].
[6-7] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} .
الصرصر: الشديدة يكون لها صوت كالصرير وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} في سورة [فصلت: 16]. والعاتية: الشديدة العصف، وأصل العتو والعتي: شدة التكبر فاستعير للشيء المتجاوز الحد المعتاد تشبيها بالتكبر الشديد في عدم الطاعة والجري على المعتاد.
والتسخير: الغصب على عمل واستعير لتكوين الريح الصرصر تكوينا متجاوزا المتعارف في قوة جنسها فكأنها مكرهة عليه.
وعلق به {عَلَيْهِمْ} لأنه ضمن معنى أرسلها.
و"حسوم" يجوز أن يكون جمع حاسم مثل قعود جمع قاعد، وشهود جمع شاهد، غلب فيه الأيام على الليالي لأنها أكثر عددا إذ هي ثمانية أيام وهذا له معان:
أحدهما أن يكون المعنى: يتابع بعضها بعضا، أي لا فصل بينها كما يقال: صيام شهرين متتابعين، وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي1:
ففرق بين بينهم زمان ... تتابع فيه أعوام حسوم
قيل: والحسوم مشتق من حسم الداء بالمكواة إذ يكوى ويتابع الكي أياما، فيكون إطلاقه استعارة، ولعلها من مبتكرات القرآن، وبيت عبد العزيز الكلابي من الشعر الإسلامي فهو متابع لاستعمال القرآن.
ـــــــ
1 شاعر من شعراءصدر الدولة الأموية، كان لأبيه وله حظوة عند الخليفة معاوية وكان سيد أهل البادية توفي في غزوة القسطنطينية سنة 46ه.
(29/108)
المعنى الثاني: أن يكون من الحسم وهو القطع، أي حاسمة مستأصلة. ومنه سمي السيف حساما لأنه يقطع، أي حسمتهم فلم تبق منهم أحدا. وعلى هذين المعنيين فهو صفة لـ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} أو حال منها.
والمعنى الثالث: أن يكون حسوم مصدرا كالشكور والدخول فينتصب على المفعول لأجله وعامله {سَخَّرَهَا} ، أي سخرها عليهم لاستئصالهم وقطع دابرهم.
وكل هذه المعاني صالح لأن يذكر مع هذه الأيام، فإيثار هذا اللفظ من تمام بلاغة القرآن وإعجازه.
وقد سمي أصحاب الميقات من المسلمين أياما ثمانية منصفة بين أواخر فبراير وأوائل مارس معروفة في عادة نظام الجو بأن تشتد فيها الرياح غالبا، أيام الحسوم على وجه التشبيه، وزعموا أنها تقابل أمثالها من العام الذي أصيبت فيه عاد بالرياح، وهو من الأوهام، ومن ذا الذي رصد تلك الأيام.
ومن أهل اللغة من زعم أن أيام الحسوم هي الأيام التي يقال لها: أيام العجوز أو العجز، وهي آخر فصل الشتاء ويعدها العرب خمسا أو سبعة لها أسماء معروفة مجموعة في أبيات تذكر في كتب اللغة، وشتان بينها وبين حسوم عاد في العدة والمدة.
وفرع على {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أنهم صاروا صرعى كلهم يراهم الرائي لو كان حاضرا تلك الحالة.
والخطاب في قوله: {فَتَرَى} خطاب لغير معين، أي فيرى الرائي لو كان راء، وهذا أسلوب في حكاية الأمور العظيمة الغائبة تستحضر فيه تلك الحالة كأنها حاضرة ويتخيل في المقام سامع حاضر شاهد مهلكهم أو شاهدهم بعده، وكلا المشاهدتين منتف في هذه الآية، فيعتبر خطابا فرضيا فليس هو بالتفات ولا هو من خطاب غير المعين، وقريب منه قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الانسان:20]، وعلى دقة هذا الاستعمال أهمل المفسرون التعرض له عدا كلمة للبيضاوي.
والتعريف في {الْقَوْمَ} للعهد الذكري، والقوم: القبيلة، وهذا تصوير لهلاك جميع القبيلة.
وضمير {فِيهَا} عائد إلى الليالي والأيام.
(29/109)
و {صَرْعَى} : جمع صريع وهو الملقى على الأرض ميتا وشبهوا بأعجاز نخل، أي أصول النخل، وعجز النخلة: هو الساق التي تتصل بالأرض من النخلة وهو أغلظ النخلة وأشدها.
ووجه التشبيه بها أن الذين يقطعون النخل إذا قطعوه للانتفاع بأعواده في إقامة البيوت للسقف والعضادات انتقوا منه أصوله لأنها أغلظ وأملأ وتركوها على الأرض حتى تيبس وتزول رطوبتها ثم يجعلوها عمدا وأساطين.
والنخل: اسم جمع نخلة.
والخاوي: الخالي مما كان مالئا له وحالا فيه.
وقوله: {خَاوِيَةٍ} مجرور باتفاق القراء، فتعين أن يكون صفة {نَخْلٍ} .
ووصف {نَخْلٍ} بأنها {خاوية} باعتبار إطلاق اسم "النخل" على مكانه بتأويل الجنة أو الحديقة، ففيه استخدام. والمعنى: خالية من الناس. وهذا الوصف لتشويه المشبه به بتشويه مكانه، ولا أثر له في المشابهة وأحسنه ما كان فيه مناسبة للغرض من التشبيه كما في الآية فإن لهذا الوصف وقعا في التنفير من حالتهم ليناسب الموعظة والتحذير من الوقوع في مثل أسبابها، ومنه قول كعب بن زهير:
لذاك أهيب عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسؤول
من خادر من ليوث الأسد مسكنه ... من بطن عثر غيل دونه غيل
الأبيات الأربعة، وقول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم
[8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} .
تفريع على مجموع قصتي ثمود وعاد، فهو فذلكه لما فصل من حال إهلاكهما، وذلك من قبيل الجمع بعد التفريق، فيكون في أول الآية جمع ثم تفريق ثم جمع وهو كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} [النجم:51]، أي فما أبقاهما.
والخطاب لغير معين.
والباقية: إما اسم فاعل على بابه، والهاء: إما للتأنيث بتأويل نفس، أي فما ترى
(29/110)
منهم نفس باقية أو بتأويل فرقة، أي ما ترى فرقة منهم باقية.
ويجوز أن تكون {بَاقِيَةٍ} مصدرا على وزن فاعلة مثل ما تقدم في الحاقة، أي فما ترى لهم بقاء، أي هلكوا عن بكرة أبيهم.
واللام في قوله: {لَهُمْ} يجوز أن تجعل لشبه الملك، أي باقية لأجل النفع.
ويجوز أن يكون اللام بمعنى "من" مثل قولهم: سمعت له صراخا، وقول الأعشى:
نسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق زجل
وقول جرير:
ونحن لكم يوم القيامة أفضل
أي ونحن منكم أفضل.
ويجوز أن تكون اللام التي تنوى في الإضافة إذا لم تكن الإضافة على معنى "من". والأصل: فهل ترى باقيتهم، فلما قصد التنصيص على عموم النفي واقتضى ذلك جلب "من" الزائدة لزم تنكير مدخول "من" الزائدة فأعطي حق معنى الإضافة بإظهار اللام التي الشأن أن تنوى كما في قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الاسراء: 5] فإن أصله عبادنا.
وموقع المجرور بالام في موقع النعت ل {بَاقِيَةٍ} قدم عليها فصار حالا.
[9-10] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَة، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} .
عطف على جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة:4].
وجمع في الذكر هنا أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالا وتصريحا، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكرا عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم.
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربهم فحصل في الكلام احتباك.
(29/111)
والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو "منفطاح الثاني". وإنما أسند الخطء إليه لأن موسى أرسل إليه ليطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالا لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته.
وشمل قوله: {وَمَنْ قَبْلَهُ} أمما كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم.
وقرأ الجمهور {وَمَنْ قَبْلَهُ} بفتح القاف وسكون الباء. وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء، أي ومن كان من جهته، أي قومه وأتباعه.
والمؤتفكات: قرى قوم لوط الثلاث، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط خصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قراهم في طريقهم إلى الشام، قال تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان:40].
ووصفت قرى قوم لوط بـ {الْمُؤْتَفِكَاتِ} جمع مؤتفكة اسم فاعل أئتفك مطاوع أفكه، إذا قلبه، فهي المنقلبات، أي قلبها قالب أي خسف بها قال تعالى: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82].
والخاطئة: أما مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدرا قطع النظر عن المرة، كما تقدم في قوله: {الْحَاقَّةُ} [الحاقة:1] وهو مصدر خطئ، إذا أذنب. والذنب: الخطء بكسر الخاء، وأما اسم فاعل خطئ وتأنيثه بتأويل: الفعلة ذات الخطء فهاؤه هاء التأنيث.
والتعريف في تعريف الجنس على كلا الوجهين، فالمعنى: جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب. وفرع عنهم تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخاطئة فقال: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة:10]. وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9] في أنه تفريع بيان على المبين.
وضمير {عَصَوْا} يجوز أن يرجع إلى {فِرْعَوْنُ} باعتباره رأس قومه، فالضمير عائد إليه وإلى قومه، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير {عَصَوْا} يكون المراد ب {رَسُولَ رَبِّهِمْ}
(29/112)
موسى عليه السلام. وتعريفه بالإضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياله إلها لهم.
ويجوز أن يرجع ضمير "عصوا" إلى {فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} .
و {رَسُولَ رَبِّهِمْ} هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء.
فإفراد {رَسُولَ} مراد به التوزيع على الجماعات، أي رسول الله لكل جماعة منهم، والقرينة ظاهرة، وهو أجمل نظما من أن يقال: فعصوا رسل ربهم، لما في إفراد {رَسُولَ} من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفاديا مع تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلوا من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} ، وإنما كذبوا رسولا واحدا، وقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} وما بعده في سورة الشعراء، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه.
والأخذ: مستعمل في الإهلاك، وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} في سورة [الأنعام: 44] وفي مواضع أخرى.
و {أَخْذَةً} : واحدة من الأخذ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق، كما قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى {فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} كان إفراد الآخذة كإفراد {رَسُولَ رَبِّهِمْ} ، أي أخذنا كل أمة منهم أخذة.
والرابية: اسم فاعل من ربا يربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة، قلبت الواو ياء لوقوعها متحركة أثر كسرة.
واستعير الربو هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14].
والمراد بالآخذة الرابية: إهلاك الاستئصال، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم.
[11-12] {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ, لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} .
إن قوله تعالى: {وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] لما شمل قوم نوح وهم أول الأمم كذبوا الرسل حسن اقتضاب التذكير بأخذهم لما فيه من إدماج امتنان على جميع الناس الذين
(29/113)
تناسلوا من الفئة الذين نجاهم الله من الغرق ليتخلص من كونه عظة وعبرة إلى التذكير بأنه نعمة، وهذا من قبيل الإدماج.
وقد بني على شهرة مهلك قوم نوح اعتباره كالمذكور في الكلام فجعل شرطا ل {لما} في قوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ، أي في ذلك الوقت المعروف بطغيان الطوفان.
والطغيان: مستعار لشدته الخارقة للعادة تشبيها لها بطغيان الطاغي على الناس تشبيه تقريب فإن الطوفان أقوى شدة من طغيان الطاغي.
و {الْجَارِيَةِ} صفة لمحذوف وهو السفينة وقد شاع هذا الوصف حتى صار بمنزلة الاسم قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ} [الرحمن: 24].
وأصل الحمل وضع جسم فوق جسم لنقله، وأطلق هنا على الوضع في ظرف متنقل على وجه الاستعارة.
وإسناد الحمل إلى اسم الجلالة مجاز عقلي بناء على أنه أوحى إلى نوح بصنع الحاملة ووضع المحمول قال تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [المؤمنون: 27] الآية.
وذكر إحدى الحكم والعلل لهذا الحمل وهي حكمة تذكير البشر به على تعاقب الإعصار ليكون لهم باعثا على الشكر، وعظة لهم من أسواء الكفر، وليخبر بها من علمها قوما لم يعلموها فتعيها أسماعهم.
والمراد ب {إذن} : آذان واعية. وعموم النكرة في سياق الإثبات لا يستفاد إلا بقرينة التعميم كقوله تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18].
والوعي: العلم بالمسموعات، أي ولتعلم خبرها إذن موصوفة بالوعي، أي من شأنها أن تعي.
وهذا تعريض بالمشركين إذ لم يتعظوا بخبر الطوفان والسفينة التي نجا بها المؤمنون فتلقوه كما يتلقون القصص الفكاهية.
[13-18] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ، وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً، فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ
(29/114)
عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
الفاء لتفريع ما بعدها على التهويل الذي صدرت به السورة من قوله: {الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّة،ُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1-3] فعلم أنه تهويل لأمر العذاب الذي هدد به المشركون من أمثال ما نال أمثالهم في الدنيا. ومن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، فلما أتم تهديدهم بعذاب الدنيا فرع عليه إنذارهم بعذاب الآخرة الذي يحل عند القارعة التي كذبوا بها كما كذبت بها ثمود وعاد، فحصل من هذا بيان للقارعة بأنها ساعة البعث وهي الواقعة.
و {الصُّورِ} : قرن ثور يقعر ويجعل في داخله سداد يسد بعض فراغه حتى إذا نفخ فيه نافخ انضغط الهواء فصوت صوتا قويا، وكانت الجنود تتخذه لنداء بعضهم بعضا عند إرادة النفير أو الهجوم، وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة [الأنعام: 73].
والنفخ في الصور: عبارة عن أمر التكوين بإحياء الأجساد للبعث مثل الإحياء بنداء طائفة الجند المكلفة بالأبواق لنداء بقية الجيش حيث لا يتأخر جندي عن الحضور إلى موضع المناداة، وقد يكون للملك الموكل موجود يصوت صوتا مؤثرا.
و {نَفْخَةٌ} مصدر نفخ مقترن بهاء دالة على المرة، أي الوحدة فهو في الأصل مفعول مطلق، أو تقع على النيابة عن الفاعل للعلم بأن فاعل النفخ الملك الموكل بالنفخ بالصور وهو إسرافيل.
ووصف {نَفْخَةٌ} ب {وَاحِدَةٌ} تأكيد لإفادة الوحدة من صيغة الفعلة تنصيصا على الوحدة المفادة من التاء.
والتنصيص على هذا للتنبيه على التعجيب من تأثر جميع الأجساد البشرية بنفخة واحدة دون تكرير تعجيبا عن عظيم قدرة الله ونفوذ أمره لأن سياق الكلام من مبدأ السورة تهويل يوم القيامة فتعداد أهواله مقصود، ولأجل القصد إليه هنا لم يذكر وصف واحدة في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} في سورة [الروم:25].
فحصل في ذكر {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} تأكيد معنى النفخ وتأكيد معنى الوحدة، وهذا يبين ما روي عن صاحب "الكشاف" في تقريره بلفظ مجمل نقله الطيبي، فليس المراد بوصفها
(29/115)
ب {وَاحِدَةٌ} أنها غير متبعة بثانية فقد جاء في آيات أخرى أنهما نفختان، بل المراد أنها غير محتاج حصول المراد منها إلى تكررها كناية عن سرعة وقوع الواقعة، أي يوم الواقعة.
وأما ذكر كلمة {نَفْخَةٌ} فليتأتى إجراء وصف الوحدة عليها فذكر {نَفْخَةٌ} تبع غير مسوق له الكلام فتكون هذه النفخة هي الأولى وهي المؤذنة بانقراض الدنيا ثم تقع النفخة الثانية التي تكون عند بعث الأموات.
وجملة {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} الخ في موضع الحال لأن دك الأرض والجبال قد يحصل قبل النفخ في الصور لأن به فناء الدنيا.
ومعنى {حُمِلَتِ} : أنها أزلت من أماكنها بأن أبعدت الأرض بجبالها عن مدارها المعتاد فارتطمت بأجرام أخرى في الفضاء {فَدُكَّتَا} ، فشبهت هذه الحالة بحمل الحامل شيئا ليلقيه على الأرض، مثل حمل الكرة بين اللاعبين، ويجوز أن يكون تصرف الملائكة الموكلين بنقض نظام العالم في الكرة الأرضية بإبعادها عن مدارها مشبها بالحمل وذلك كله عند اختلال الجاذبية التي جعلها الله لفظ نظام العالم إلى أمد معلوم لله تعالى.
والدك: دق شديد يكسر الشيء المدقوق، أي فإذا فرقت أجزاء الأرض وأجزاء جبالها.
وبنيت لأفعال نفخت، وحملت، ودكتا للمجهول لأن الغرض متعلق ببيان المفعول لا الفاعل وفاعل تلك الأفعال إما الملائكة أو ما أودعه الله من أسباب تلك الأفعال، والكل بإذن الله وقدرته.
وجملة {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} مشتملة على جواب "إذا"، أعني قوله: {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، وأما قوله: {فَيَوْمَئِذٍ} فهو تأكيد لمعنى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} الخ لأن تنوين يومئذ عوض عن جملة تدل عليها جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} إلى قوله: {دَكَّةً وَاحِدَةً} ، أي فيوم إذ نفخ في الصور إلى آخره وقعت الواقعة وهو تأكيد لفظي بمرادف المؤكد، فإن المراد ب"يوم" من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، مطلق الزمان كما هو الغالب في وقوعه مضافا إلى "إذا".
ومعنى {وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} تحقق ما كان متوقعا وقوعه لأنهم كانوا يتوعدون بواقعة عظيمة فيومئذ يتحقق ما كانوا يتوعدون به.
فعبر عنه بفعل المضي تنبيها على تحقيق حصوله.
(29/116)
والمعنى: فحينئذ تقع الواقعة.
و {الْوَاقِعَةُ} : مرادفة للحاقة والقارعة، فذكرها إظهار في مقام الإضمار لزيادة التهويل وإفادة ما تحتوي عليه من الأحوال التي تنبئ عنها موارد اشتقاق أوصاف الحاقة والقارعة والواقعة.
و {الْوَاقِعَةُ} صار علما بالغلبة في اصطلاح القرآن يوم البعث قال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 1-2].
وفعل {انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} يجوز أن يكون معطوفا على جملة {نُفِخَ فِي الصُّورِ} فيكون ملحقا بشرط "إذا"، وتأخير عطفه لأجل ما اتصل بهذا الانشقاق من وصف الملائكة المحيطين بها، ومن ذكر العرش الذي يحيط بالسماوات والأرض وذكر حملته.
ويجوز أن يكون جملة في موضع الحال بتقدير: وقد انشقت السماء.
وانشقاق السماء: مطاوعتها لفعل الشق، والشق: فتح منافذ في محيطها، قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان: 25،26].
ثم يحتمل أنه غير الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37] ويحتمل أنه عينه.
وحقيقة {وَاهِيَةٌ} ضعيفة ومتفرقة، ويستعار الوهي للسهولة وعدم الممانعة، يقال: وهي عزمه، إذا تسامح وتساهل، وفي المثل أوهى من بيت العنكبوت يضرب لعدم نهوض الحجة.
وتقييده {يَوْمَئِذٍ} أن الوهي طرأ عليها بعد أن كانت صلبة بتماسك أجزاءها وهو المعبر عنه في القرآن بالرتق كما عبر عن الشق بالفتق، أي فهي يومئذ مطروقة مسلوكة.
والوهي قريب من الوهن، والأكثر أن الوهي يوصف به الأشياء غير العاقلة، والوهن يوصف به الناس.
والمعنى: أن الملائكة يترددون إليها صعودا ونزولا خلافا لحالها من قبل، قال تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37].
وجملة {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} ، حال من ضمير {فهي} ، أي يومئذ الملك على
(29/117)
أرجائها.
و {الْمَلَكُ} : أصله الواحد من الملائكة، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع، أي جماعة من الملائكة أو جميع من الملائكة إذا أريد الاستغراق، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول، ولذلك قال ابن عباس: الكتاب أكثر من الكتب، ومنه {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4].
والأرجاء: النواحي بلغة هذيل، واحدها رجا مقصورا وألفه منقلبة عن الواو.
وضمير {أَرْجَائِهَا} عائد إلى {السَّمَاءُ} .
والمعنى: أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسوق أهل النار إلى النار.
وعرش الرب: اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات.
والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش: ثمانية من الملائكة، فقيل: ثمانية شخوص، وقيل: ثمانية صفوف، وقيل ثمانية أعشار، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة، وقيل غير ذلك. وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية.
ولعل المقصود بالإشارة إلى ما زاد على الموعظة، هو تعليم الله نبيه صلى الله عليه وسلم شيئا من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يرد تشغيلنا بعلمها.
وكأن الداعي إلى ذكرهم إجمالا هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضابا بعد ذكر الملائكة.
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ذكر فيه أبعاد ما بين السماوات، وفي ذكر جملة لعرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية، وأحد رواته عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس قال البخاري: لا نعلم له سماعا عن الأحنف.
وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها، وقال ابن العربي فيها: إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت، ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشد بين يديه فصدقه. اهـ.
(29/118)
وضمير {فَوْقَهُمْ} يعود إلى الملك.
ويتعلق {فَوْقَهُمْ} ب {يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} وهو تأكيد لما دل عليه يحمل من كون العرش عاليا فهو بمنزلة القيدين في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38].
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الآية [الحج: 26]، والله منزه من الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت.
والخطاب في قوله: {تُعْرَضُونَ} لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل.
والعرض: أصله إمرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة مع جواز إرادة المعنى الصريح.
ومعنى {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} : لا تخفى على الله ولا على ملائكته.وتأنيث {خَافِيَةٌ} لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفعلة من أفعال العباد، أو يقدر بنفس،أي لا تختبئ من الحساب نفس أي أحد، ولا يلتبس كافر بمؤمن، ولا بار بفاجر.
وجملة {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} مستأنفة، أو هي بيان لجملة {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} ، أو بدل اشتمال منها.
و {مِنْكُمْ} صفة لـ {خَافِيَةٌ} قدمت علية فتكون حالا.
وتكرير {يَوْمَئِذٍ} أربع مرات لتهويل ذلك اليوم الذي مبدؤه النفخ في الصور ثم يعقبه ما بعده مما ذكر في الجمل بعده، فقد جرى ذكر ذلك اليوم خمس مرات لأن {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} تكرير ل"إذا" من قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} إذ تقدير المضاف إليه في {يَوْمَئِذٍ} هو مدلول جملة {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} ، فقد ذكر زمان النفخ أولا وتكرر ذكره بعد ذلك أربع مرات.
وقرأ الجمهور {لا تَخْفَى} بمثناة فوقية. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالتحتية لأن تأنيث {خَافِيَةٌ} غير حقيقي، مع وقوع الفصل بين الفعل وفاعله.
(29/119)
[19-24] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}
الفاء تفصيل ما يتضمنه {تُعْرَضُونَ} إذ العرض عرض للحساب والجزاء فإيتاء الكتاب هو إيقاف كل واحد على صحيفة أعماله. و"أما" حرف تفصيل وشرط وهو يفيد مفاد مهما يكن من شيء، والمعنى: مهما يكن عرض {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ... فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، وشأن الفاء الرابطة لجوابها أن يفصل بينها وبين "أما" بجزء من جملة الجواب أو بشيء من متعلقات الجواب مهتم به لأنهم لما التزموا حذف فعل الشرط لاندماجه في مدلول "أما" كرهوا اتصال فاء الجواب بأداة الشرط ففصلوا بينهما بفاصل تحسينا لصورة الكلام، فقوله: {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} أصله صدر جملة الجواب، وهو مبتدأ خبره {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} كما سيأتي.
ودل قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} على كلام محذوف للإيجاز تقديره فيؤتى كل أحد كتاب أعماله، فأما من أوتي كتابه الخ على طريقة قوله تعالى: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63].
والباء في قوله: {بِيَمِينِهِ} للمصاحبة أو بمعنى "في".
وإيتاء الكتاب باليمين علامة على أنه إيتاء كرامة وتبشير، والعرب يذكرون التناول باليمين كناية عن الاهتمام بالمأخوذ والاعتزاز به، قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} الآية [الواقعة: 27-28] ثم قال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} الآية [الواقعة:41-42].
وجملة {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} جواب شرط "أما" وهو مغني عن خبر المبتدأ، وهذا القول قول ذي بهجة وحبور يبعثان على اطلاع الناس على ما في كتاب أعماله من جزاء في مقام الاغتباط والفخار، ففيه كناية عن كونه من حبور ونعيم فإن المعنى الكنائي هو الغرض الأهم من ذكر العرض.
(29/120)
و {هَاؤُمُ} مركب من هاء ممدودة ومقصورة والممدود مبني على فتح الهمزة إذا تجرد عن علامات الخطاب ما عدا الموجه إلى امرأة فهو بكسر الهمزة دون ياء. وإذا خوطب به أكثر من واحد التزم مدة ليتأنى الحاق علامة خطاب كالعلامة التي تلحق ضمير المخاطب وضموا همزته ضمة كضمة ضمير الخطاب إذ لحقته علامة التثنية والجمع، فيقال: هاؤما، كما يقال: أنتما، وهاؤم كما يقال: أنتم وهاؤن كما يقال: أنتن، ومن أهل اللغة من ادعى أن {هَاؤُمُ} أصله: ها أموا مركبا من كلمتين "ها" وفعل أمر للجماعة من فعل أم، إذا قصد، ثم خفف لكثرة الاستعمال، ولا يصح لأنه لم يسمع هاؤمين في خطاب جماعة النساء، وفيه لغات أخرى واستعمالات في اتصال كاف الخطاب به تقصاها الرضي في شرح الكافية وابن مكرم في "لسان العرب" .
و {هَاؤُمُ} بتصاريفه معتبر اسم فعل أمر بمعنى: خذ كما في الكشاف وبمعنى تعال، أيضا كما في "النهاية" .
والخطاب في قوله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا} للصالحين من أهل المحشر.
و {كِتَابِيَهْ} أصله: كتابي بتحريك ياء المتكلم على أحد وجوه في ياء المتكلم إذا وقعت مضافا إليها وهو تحريك أحسب أنه يقصد به إظهار إضافة المضاف إلى تلك الياء للوقوف، محافظة على حركة الياء المقصود اجتلابها.
و {اقْرَأوا} بيان للمقصود من اسم الفعل من قوله: {هَاؤُمُ} .
وقد تنازع كل من {هَاؤُمُ} و {اقْرَأوا} قوله: {كِتَابِيَهْ} . والتقدير: هاؤم كتابيه اقرأوا كتابيه ونظائرها للسكت حين الوقف.
وحق هذه الهاء أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. وقد أثبتت في هذه الآية في الحالين عند جمهور القراء وكتبت في المصاحف، فعلم أنها للتعبير عن الكلام المحكي بلغة ذلك القائل بما يرادفه في الاستعمال العربي لأن الاستعمال أن يأتي القائل بهذه الياء بالوقف على كلتا الجملتين.
ولأن هذه الكلمات وقعت فواصل والفواصل مثل الأسجاع تتبر بحالة الوقف مثل القوافي، فلو قيل: اقرأوا كتابي إني ظننت أني ملاق حسابي، سقطت فاصلتان وذلك تفريط في محسنين.
وقرأها يعقوب ذا وصلها بحذف الهاء والقراء يستحبون أن يقف عليها القارئ
(29/121)
ليوافق مشهور رسم المصحف ولئلا يذهب حسن السجع.
وأطلق الظن في قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} ، على معنى اليقين وهو أحد معنييه. وعن الضحاك: كل ظن في القرآن من المؤمن فهو يقين ومن الكافر فهو شك.
وحقيقة الظن: علم لم يتحقق؛ إما لأن المعلوم به لم يقع بعد ولم يخرج إلى عالم الحس، وإما لأن علم صاحبه مخلوط بشك. وبهذا يكون إطلاق الظن على المعلوم المتيقن إطلاقا حقيقيا. وعلى هذا جرى الأزهري في التهذيب وأبو عمرو واقتصر على هذا المعنى ابن عطية.
وكلام "الكشاف" يدل على أن أصل الظن: علم غير متيقن ولكنه قد يجري مجرى العلم لآن الظن الغالب يقام مقام العلم في العادات والأحكام، وقال: يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت، فهو عنده إذا أطلق على اليقين كان مجازا. وهذا أيضا رأي الجوهري وابن سيده والفيروز ابادي، وأما قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] فلا دلالة فيه لأن تنكير {ظَنَّاً} أريد به التقليل، وأكد ب {مَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} فاحتمل الاحتمالين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} في سورة [الأعراف: 66] وقوله: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} في سورة براءة [118].
والمعنى: إني علمت في الدنيا أني ألقي الحساب، أي آمنت بالبعث. وهذا الخبر مستعمل كناية عن استعداده للحساب بتقديم الإيمان والأعمال الصالحة مما كان سبب سعادته.
وجملة {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} في موقع التعليل للفرح والبهجة التي دل عليها قوله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} وبذلك يكون حرف "إن" لمجرد الاهتمام وإفادة التسبب.
وموقع {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} موقع التفريع على ما تقدم من إيتائه كتابه بيمينه وما كان لذلك من أثر المسرة والكرامة في الحشر، فتكون الفاء لتفريع ذكر هذه الجملة على ذكر ما قبلها. ولك أن تجعلها بدل اشتمال من جملة {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} فإن ذلك القول اشتمل على أن قائله في نعيم كما تقدم وإعادة الفاء مع الجملة من إعادة العامل في المبدل منه مع البدل للتأكيد كقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114].
(29/122)
والعيشة: حالة العيش وهيئته.
ووصف {عِيشَةٍ} ب {رَاضِيَةٍ} مجاز عقلي لملابسة العيشة حالة صاحبها وهو العائش ملابسة الصفة لموصوفها.
والراضي: هو صاحب العيشة لا العيشة، لأن {رَاضِيَةٍ} اسم فاعل رضيت إذا حصل لها الرضى وهو الفرح والغبطة.
والعيشة ليست راضية ولكنها لحسنها رضي صاحبها، فوصفها ب {رَاضِيَةٍ} من إسناد الوصف إلى غير ما هو له، وهو من المبالغة لأنه يدل على شدة الرضى بسببها حتى سرى إليها، ولذلك الاعتبار أرجع السكاكي ما يسمى بالمجاز العقلي إلى الاستعارة المكنية كما ذكر في علم البيان.
و {في} للظرفية المجازية وهي الملابسة.
وجملة {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} بدل اشتمال من جملة {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} .
والعلو: الارتفاع وهو من محاسن الجنات لأن صاحبها يشرف على جهات من متسع النظر ولأنه يبدو له كثير من محاسن جنته حين ينظر إليها من أعلاها أو وسطها مما لا يلوح لنظره لو كانت جنته في أرض منبسطة، وذلك من زيادة البهجة والمسرة، لأن جمال المناظر من مسرات النفس ومن النعم. ووقع في شعر زهير:
كأن عيني في غربي مقتلة ... من النواضح تسقي جنة سحقا
فقد قال أهل اللغة: يجوز أن يكون سحقا، نعتا للجنة بدون تقدير كما قالوا: ناقة علط وامرأة عطل. ولم يعرجوا على معنى السحق فيها وهو الارتفاع لأن المرتفع بعيد، وقالوا: سحقت النخلة ككرم إذا طالت. وفي القرآن {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265].
وجوزوا أن يراد أيضا بالعلو علو القدر مثل فلان ذو درجة رفيعة، وبذلك كان للفظ {عَالِيَةٍ} هنا ما ليس لقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} لأن المراد هنالك جنة من الدنيا.
والقطوف: جمع قطف بكسر القاف وسكون الطاء، وهو الثمر، سمي بذلك لأنه يقطف وأصله فعل بمعنى مفعول مثل ذبح.
ومعنى دنوها: قربها من أيدي المتناولين لأن ذلك أهنأ إذ لا كلفة فيه، قال تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الانسان: 14].
(29/123)
وجملة {كُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى آخر مقول قول محذوف وهو ومقوله في موضع صفة لـ {جَنَّةٍ} . إذ التقدير: يقال للفريق الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم حين يستقرون في الجنة: كلوا واشربوا الخ.
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن الضمير في قوله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} .
وإنما أفردت ضمائر الفريق الذي أوتي كتابه بيمينه فيما تقدم ثم جاء الضمير ضمير جمع عند حكاية خطابهم لأن هذه الضمائر السابقة حكيت معها أفعال مما يتلبس بكل فرد من الفريق عند إتمام حسابه. وأما ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} فهو خطاب لجميع الفريق بعد حلولهم في الجنة، كما يدخل الضيوف إلى المأدبة فيحيي كل داخل منهم بكلام يخصه فإذا استقروا أقبل عليهم مضيفهم بعبارات الإكرام.
و {هَنِيئاً} يجوز أن يكون فعيلا بمعنى فاعل إذا ثبت له الهناء فيكون منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق لأنه وصفه وإسناد الهناء للأكل والشرب مجاز عقلي لأنهما متلبسان بالهناء للآكل والشارب.
ويجوز أن يكون اسم فاعل من غير الثلاثي بوزن ما للثلاثي. والتقدير: مهنئا، أي سبب هناء، كما قال عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع، وكما وصف الله تعالى بالحكيم بمعنى الحكم المصنوعات. ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، أي مهنيئا به.
وعلى الاحتمالات كلها فإفراد {هَنِيئاً} في حال أنه وصف لشيئين بناء على أن فعيلا بمعنى فاعل لا يطابق موصوفه أو على أنه إذا كان صفة لمصدر فهو نائب عن موصوفه، والوصف بالمصدر لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث.
و {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} في موضع الحال من ضمير {كُلُوا وَاشْرَبُوا} .
والباء للسببية.
وما صدق "ما" الموصولة هو العمل، أي الصالح.
والإسلاف: جعل الشيء سلفا، أي سابقا.
(29/124)
والمراد أنه مقدم سابق لإبانه لينتفع به عند الحاجة إليه، ومنه اشتق السلف للقرض، والإسلاف للإقراض، والسلفة للسلم.
و {الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} : الماضية البعيدة مشتق من الخلو وهو الشغور والبعد.
[25-29] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ، يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ، هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} .
هذا قسيم {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فالقول في إيتاء كتابه بشماله قد عرف وجهه مما تقدم.
وتمني كل من أوتي كتابه بشماله أنه لم يؤت كتابه، لأنه علم من الاطلاع على كتابه أنه صائر إلى العذاب فيتمنى أن لا يكون علم بذلك إبقاء على نفسه من حزنها زمنا فإن ترقب السوء عذاب.
وجملة {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} في موضع الحال من ضمير {لَيْتَنِي} .
والمعنى: إنه كان مكذبا بالحساب وهو مقابل قول الذي أوتي كتابه بيمينه: أني ظننت أني ملاق حسابيه.
وجملة الحال معترضة بين جملتي التمني.
ويجوز أن يكون عطفا على التمني، أي يا ليتني لم أدر ما حسابيه، أي لم أعرف كنه حسابي، أي نتيجته، وهذا وإن كان في معنى التمني الذي قبله فإعادته تكرير لأجل التحسر والتحزن.
و {ما} استفهامية، والاستفهام بها هو الذي علق فعل {أَدْرِ} عن العمل، و {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} تمن آخر ولم يعطف على التمني الأول لأن المقصود التحسر والتندم.
وضمير {لَيْتَهَا} عائد إلى معلوم من السياق، أي ليت حالتي، أو ليت مصيبتي كانت القاضية.
والقاضية: الموت وهو معنى قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ: 40]. أي مقبورا في التراب.
وجملة {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} من الكلام الصالح لأن يكون مثلا لإيجازه ووفرة
(29/125)
دلالته ورشاقة معناه عبر بها عما يقوله من أوتي كتابه بشماله من التحسر بالعبارة التي يقولها المتحسر في الدنيا بكلام عربي يودي المعنى المقصود. ونظيره ما حكي عنهم في قوله تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] وقوله: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] وقوله: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} [الكهف: 49] الآية.
ثم أخذ يتحسر على ما فرط من الخير في الدنيا بالإقبال على ما لم يجده في العالم الأبدي فقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} ، أي يقول ذلك من كان ذا مال وذا سلطان من ذلك الفريق من جميع أهل الإشراك والكفر، فما ظنك بحسرة من اتبعوهم واقتدوا بهم إذا رأوهم كذلك. وفي هذا تعريض بسادة مشركي العرب مثل أبي جهل وأمية بن خلف قال تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11].
وفي {أَغْنَى عَنِّي} الجناس الخطي ولو مع اختلاف قليل كما في قولهم غرك عزك فصار قصارى ذلك ذلك.
ومعنى هلاك السلطان: عدم الانتفاع به يومئذ فهو هلاك مجازي. وضمن {هَلَكَ} معنى "غاب" فعدي ب"عن"، أي لم يحضرني سلطاني الذي عهدته.
والقول في هاءات كتابيه، وحسابيه، وماليه، وسلطانيه كالقول فيما تقدم إلا أن حمزة وخلفا قرآ هنا {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} بدون هاء في حالة الوصل.
[30-37] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ، إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ، لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} .
{خُذُوهُ} مقول لقول محذوف موقعه في موقع الحال من ضمير {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} ، والتقدير: يقال: خذوه.
ومعلوم من المقام أن المأمورين بأن يأخذوه هم الملائكة الموكلون بسوق أهل الحساب إلى ما أعد لهم.
والأخذ: الإمساك باليد.
وغلوه: أمر من غله إذا وضعه في الغل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني أو الأسير فهو فعل مشتق من اسم جامد، ولم يسمع إلا ثلاثيا ولعل قياسه أن يقال غلله
(29/126)
بلامين لأن الغل مضاعف اللام، فحقه أن يكون مثل عمم، إذا جعل له عمامة، وأزر، إذا ألبسه إزارا، ودرع الجارية، إذا ألبسها الدرع، فلعلهم قالوا: غله تخفيفا، وعطف بفاء التعقيب لإفادة الإسراع بوضعه في الأغلال عقب أخذه.
و {ثم} في قوله: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} للتراخي الرتبي لأن مضمون الجملة المعطوفة بها أشد في العقاب من أخذه ووضعه في الأغلال.
وصلى: مضاعف تضعيف تعدية لأن صلي بالنار معناه أصابه حرقها أو تدفأ بها، فإذا عدي قيل: أصلاه نارا، وصلاه نارا.
و {ثم} من قوله: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} أعظم من مضمون {فَغُلُّوهُ} .
ومضمون {فَاسْلُكُوهُ} دل على إدخالهم الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم.
ومعنى {اسْلُكُوهُ} : اجعلوه سالكا، أي داخلا في السلسلة وذلك بأن تلف عليه السلسلة فيكون في وسطعا، ويقال: سلكه، إذا أدخله في شيء، أي اجعلوه في الجحيم مكبلا في أغلاله.
وتقديم {الْجَحِيمَ} على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم {فِي سِلْسِلَةٍ} على عامله.
واقترن فعل {اسْلُكُوهُ} بالفاء إما لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل {فَغُلُّوهُ} ، وإما للإيذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالبا كأنه قيل: مهما فعلتم به شيئا فاسلكوه في سلسلة، أو مهما يكن شيء فاسلكوه.
والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحث على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف، ونظيره قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّر، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 3-5]، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} في سورة [يونس: 58].
والسلسلة: اسم لمجموع حلق من حديد داخل بعض تلك الحلق في بعض تجعل لوثاق شخص كي لا يزول من مكانه، وتقدم في قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
(29/127)
وَالسَّلاسِلُ} في سورة [غافر: 71].
وجملة {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} صفة {سِلْسِلَةٍ} وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلقه للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة، وليست الجمل مما خوطب الملائكة الموكلون بسوق المجرمين إلى العذاب، ولذلك فعدد السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80].
والذرع: كيل طول الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإنسان، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع، والأصبع، والأنملة، والقدم، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشبر، والفتر، والرتب بفتح الراء والتاء، والعتب، والبصم والخطوة.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} في موضع العلة للأمر بأخذه وإصلائه الجحيم.
ووصف الله بالعظيم هنا إيماء إلى مناسبة عظم العذاب للذنب إذ كان الذنب كفرانا بعظيم فكان جزاء وفاقا.
والحض على الشيء: أن يطلب من أحد فعل شيء ويلح في ذلك الطلب.
ونفي حضه على طعام المسكين يقتضي بطريق الفحوى أنه لا يطعم المسكين من ماله لأنه إذا كان لا يأمر غيره بإطعام المسكين فهو لا يطعمه من ماله، فالمعنى لا يطعم المسكين ولا يأمر بإطعامه، وقد كان أهل الجاهلية يطعمون في الولائم، والميسر، والأضياف، والتحابب، رياء وسمعة. ولا يطعمون الفقير إلا قليل منهم. وقد جعل عدم الحض على طعام المسكين مبالغة في شح هذا الشخص عن المساكين بمال غيره وكناية عن الشح عنهم بماله، كما جعل الحرص على إطعام الضيف كناية عن الكرم في قول زينب بنت الطفرية ترثي أخاها يزيد:
إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي حتى تستقيل مراجله
تريد أنه يحضر الحي ويستعجلهم على نصف القدور للأضياف حتى توضع قدور الحي على الأثافي ويشرعوا في الطبخ، والعذورة بعين مهملة وذال معجمة كعملس: الشكس الخلق.
(29/128)
إلا أن كناية ما في الآية عن البخل أقوى من كناية ما في البيت عن الكرم لأن الملازمة في الآية حاصلة بطريق الأولوية بخلاف البيت.
وإذ قد جعل عدم حضه على طعام المسكين جزء علة لشدة عذابه، علمنا من ذلك موعظة للمؤمنين زاجرة عن منع المساكين حقهم في الأموال وهو الحق المعروف في الزكاة والكفارات وغيرها.
وقوله: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} من تمام الكلام الذي ابتدئ بقوله: {خُذُوهُ} ، وتفريع عليه.
والمقصود منه أن يسمعه من أوتي كتابه بشماله فييأس من أن يجد مدافعا ويدفع عنه بشفاعة، وتنديم له على ما أضاعه في حياته من التزلف إلى الأصنام وسدنتها وتمويههم عليه أنه يجدهم عند الشدائد وإلمام المصائب. وهذا وجه تقييد نفي الحميم ب {الْيَوْمَ} تعريضا بأن أحمائهم في الدنيا لا ينفعونهم اليوم كما قال تعالى: {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:22] وقوله عنهم: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} [لأعراف: 53] وغير ذلك مما تفوق في آي القرآن.
فقوله {له} هو خبر {لَيْسَ} لأن المجرور بلام الاختصاص هو محط الأخبار دون ظرف المكان. وقوله: {هَاهُنَا} ظرف متعلق بالكون المنوي في الخبر بحرف الجر. وهذا أولى من جعل {هَاهُنَا} خبرا عن {لَيْسَ} وجعل {له} صفة ل {حَمِيمٌ} إذ لا حاجة لهذا الوصف.
والحميم: القريب، وهو هنا كناية عن النصير إذ المتعارف عند العرب أن أنصار المرء هم عشيرته وقبيلته.
{وَلا طَعَامٌ} عطف على {حَمِيمٌ} .
والغسلين: بكسر الغين ما يدخل في أفواه أهل النار من المواد السائلة من الأجساد وماء النار ونحو ذلك مما يعلمه الله فهو علم على ذلك مثل سجين، وسرقين، وعرنين، فقيل أنه فعلين من الغسل لأنه سال من الأبدان فكأنه غسل عنها. ولا موجب لبيان اشتقاقه.
و {الْخَاطِئُونَ} : أصحاب الخطايا يقال: خطئ، إذا أذنب.
(29/129)
والمعنى: لا يأكله إلا هو وأمثاله من الخاطئين.
وتعريف {الْخَاطِئُونَ} للدلالة على الكمال في الوصف، أي المرتكبون أشد الخطأ وهو الإشراك.
وقرأ الجمهور {الْخَاطِئُونَ} بإظهار الهمزة، وقرأ أبو جعفر {الخاطون} بضم الطاء بعدها واو على حذف الهمزة تخفيفا بعد إبدالها ياء تخفيفا. وقال الطيبي: قرأ حمزة عند الوقف الخاطيون بإبدال الهمزة عنه غير الطيبي.
[38-43] {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لا تُبْصِرُونَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
الفاء هناء لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه، تفريعا على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبر بوقوعه، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى.
وابتدئ الكلام بالقسم تحقيقا بمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} [الصافات:1].
وضمير {أُقْسِمُ} عائد إلى الله تعالى.
جمع الله في هذا القسم كل ما الشأن أن يقسم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصلتان {بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} ، فمما يبصرون: الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون: الأرواح والملائكة وأمور الآخرة.
و {لا أُقْسِمُ} صيغة تحقيق قسم، وأصلها أنها امتناع من القسم امتناع تحرج من أن يحلف بالمقسم به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف "لا" في هذا القسم إبطالا لكلام سابق وأن فعل {أُقْسِمُ} بعدها مستأنف، ونقض هذا بوقوع مثله في أوائل السور مثل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] و {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1].
(29/130)
وضمير {إنه} عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه.
وتأكيد الخبر بحرف "إن" واللام للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك.
والمراد بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه عطف قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة:44]، وهذا كما وصف موسى ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان:17]. وإضافة {قَوْلِ} إلى {رَسُولٍ} لأنه الذي بلغه فهو قائله، والإضافة لأدنى ملابسة وإلا فالقرآن جعله الله تعالى وأجراه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} [مريم: 97].
روى مقاتل أن سبب نزولها: أن أبا جهل قال: إن محمد شاعر، وأن عقبة بن أبي معيط قال: هو كاهن، فقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} الآية.
ويجوز أن يراد ب {رَسُولٍ كَرِيمٍ} جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي.
وفي لفظ {رَسُولٍ} إيذان بأن القول قول مرسله، أي الله تعالى. وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ووصف الرسول ب {كَرِيمٌ} لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 29] في سورة النمل.
وقد أثبت للرسول صلى الله عليه وسلم الفضل على غيره من الرسل بوصف {كَرِيمٌ} ، ونفي أن يكون شاعرا أو كاهنا بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم.
وعطف {وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} على جملة الخبر في قوله: {بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، و {لا} النافية تأكيد لنفي {ما} .
وكني بنفي أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا، رد لقولهم: هو شاعر أو هو كاهن.
(29/131)
وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم: إفتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.
والمعنى: ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى.
و {قَلِيلاً} في قوله: {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله: {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 46]، وهو أسلوب عربي، قال ذو الرمة:
أنيحت ألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
فإن استثناء بغام راحلته دال على أنه أراد من قليل عدم الأصوات.
والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعد. وقد تقدم في سورة البقرة [88] قوله: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} .
وانتصب {فَقَلِيلاً} في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه {يُؤْمِنُونَ} و {تَذَكَّرُونَ} ، أي تؤمنون إيمانا قليلا، وتذكرون تذكرا قليلا.
و {ما} مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي:
قليلا به ما يحمدنك وارث ... إذا نال مما كنت تجمع مغنما
وجملتا {قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ} {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} معترضتان، أي انتفى أن يكون قول شاعر، وانتفى أن يكون قول كاهن، وهذا الانتفاء لا يحصل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد.
وقرأ الجمهور {مَا تُؤْمِنُونَ} ، و {مَا تَذَكَّرُونَ} كليهما بالمثناة الفوقية، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسن ذلك كونهما معترضتين.
وأوثر نفي الإيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر، ونفي التذكر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزاءه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخر
(29/132)
الأجزاء، فادعاؤهم أن قول شاعر بهتان متعمد ينادي على أنهم لا يرجى إيمانهم، وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن، فنظمه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم.
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر ثان عن اسم {إن} وهو تصريح بعد الكناية.
ولك أن تجعل {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ، وتجعل الجملة استئنافا بيانيا لأن القرآن لما وصف بأنه {قَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقب السامع معرفة كنهه، فبين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
و {تَنْزِيلٌ} وصف بالمصدر للمبالغة.
والمعنى: إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم.
وعبر عن الجلالة بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} دون اسمه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:26].
[44-47] {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
هذه الجملة عطف على جملة {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38-39] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومن جاء به وقال: إنه وحي من الله تعالى.
(29/133)
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخطابي.
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة، وأنه عليم فلا يقدر أحدا على أن يقول عنه كلاما لم يقله، أي لو لم يكن القرآن منزل من عندنا ومحمد ادعى أنه منزل منا، لما أقررناه على ذلك، ولعجلنا بإهلاكه. فعدم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله، فإن {لو} تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاء مضمون جوابها.
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان:
أحدهما: يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالا جامعا لإبطال النوعين، أي ويوضح مخالفةالقرآن لهذين النوعين من الكلام إن الآتي به ينسبه إلأى وحي الله وما علمتم شاعرا ولا كاهنا يزعم أن كلامه من عند الله.
وثانيهما: إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم {افْتَرَاهُ} [يونس: 38]، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوله على الله قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَ يُؤْمِنُونَ} [الطور:33] فبين لهم أنه لو افترى على الله لما أقره على ذلك.
ثم أن هذا الغرض يستتبع غرضا آخر وهو تيأسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس:15] وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلا ذلك.
والتقول: نسبة قول لمن لم يقله، وهو تفعل من القول صيغت هذه الصيغة الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولا لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام، ولكونه في معنى كذب عدي ب"على".
والمعنى: لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولا لم نقله الخ.
و {بَعْضَ} اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه، وهو هنا منصوب على المفعول به لـ {تَقَوَّلَ} .
و { الأقاويل} : جمع أقوال الذي هو جمع قول، أي بعضا من جنس الأقوال التي
(29/134)
هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة، أي ولو نسب إلينا قليلا من أقوال كثيرة صادقة يعني لو نسب إلينا شيئا قليلا من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين، إلى آخره.
ومعنى {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} لأخذناه بقوة، أي دون إمهال فالباء للسببية.
واليمين: اليد اليمنى كني بها عن الاهتمام بالتمكن من المأخوذ، لأن اليمين أقوى عملا من الشمال لكثرة استخدامها فنسبة التصرف إليها شهيرة.
وتقدم ذلك في مواضع منها قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} في سورة البقرة [224] وقوله {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} في سورة الأعراف [17] وقوله: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} في سورة العنكبوت [48].
وقال أبو الغول الطغوي:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقوا فيهم ظنوني
والمعنى: لأخذناه أخذا عاجلا فقطعنا وتينه، وفي هذا تهويل لصورة الأخذ فلذلك لم يقتصر على نحو: لأهلكناه.
و {مِنْهُ} متعلق ب"أخذنا" تعلق المفعول بعامله. و"من" زائدة في الإثبات على رأي الأخفش والكوفيين وهو الراجح. وقد بينته عند قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنْ النَّخْلِ} [الأنعام:99]، فإن {النَّخْلِ} معطوف على {خَضِرًا} بزيادة "من" ولولا اعتبار الزيادة لما استقام الإعراب إلا بكلفة، وفائدة "من" الزائدة في الكلام أن أصلها التبعيض المجازي على وجه التمليح كأنه يقول: نأخذ بعضه.
و { الوتين} : عرق معلق به القلب ويسمى النياط، وهو الذي يسقي الجسد بالدم ولذلك يقال له: نهر الجسد، وهو إذا قطع مات صاحبه وهو يقطع عند نحر الجزور.
فقطع الوتين من أحوال الجزور ونحرها، فشبه عقاب من يفرض تقوله على الله بجزور تنحر فيقطع وتينها.
ولم أقف على أن العرب كانوا يكنون عن الإهلاك بقطع الوتين، فهذا من مبتكرات القرآن.
و {مِنْهُ} صفة للوتين، أو متعلق ب"قطعنا" أي أنزلناه منه.
(29/135)
وبين {مِنْهُ} الأولى و {مِنْهُ} الثانية محسن الجناس.
وأما موقع تفريع قوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فهو شديد الاتصال بما استتبعه فرض التقول من تأييسهم من أن يتقول على الله كلاما لا يسوءهم، ففي تلك الحالة من أحوال التقول لو أخذنا عنه باليمين فقطعنا منه الوتين، لا يستطيع أحد منكم أو من غيركم أن يحجز عنه ذلك العقاب، وبدون هذا الاتصال لا يظهر معنى تعجيزهم عن نصره إذ ليسوا من الولاء له بمظنة نصره، فمعنى هذه الآية يحوم حول معنى قوله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} [الاسراء: 73-75].
والخطاب في قوله: {مِنْكُمْ} للمشركين.
وإنما أخبر عن {أَحَدٍ} وهو مفرد ب {حَاجِزِينَ} جمعا لأن {أَحَدٍ} هنا وإن كان لفظه مفردا فهو في معنى الجمع لأن {أَحَدٍ} إذا كان بمعنى ذات أو شخص لا يقع إلا في سياق النفي ثم عريب، وديار ونحوهما من النكرات التي لا تستعمل إلا منفية فيفيد العموم، أي كل واحد لا يستطيع الحجز عنه ويستوي في لفظه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال تعالى: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وقال: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ} [الأحزاب:32].
والمعنى: ما منكم أناس يستطيعون الحجز عنه.
والحجز: الدفع والحيلولة، أي لا أحد منكم يحجزنا عنه. والضمير عائد إلى {رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ أَحَدٍ} مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم. وذكر {مِنْكُمْ} مع {عَنْهُ} تجنيس محرف.
وهذه الآية دليل على أن الله تعالى لا يبقي أحدا يدعي أن الله أوحى إليه كلاما يبلغه إلى الناس، وأنه يعجل بهلاكه.
فأما من يدعي النبوة دون ادعاء قول أوحي إليه، فإن الله قد يهلكه بعد حين كما كان في أمر الأسود العنسي الذي ادعى النبوة باليمن، ومسيلمة الحنفي الذي ادعى النبوة في اليمامة، فإنهما لم يأتيا بكلام ينسبانه إلى الله تعالى، فكان إهلاكهما بعد مدة، ومثلهما
(29/136)
من ادعوا النبوة في الإسلام مثل "بابك ومازيار".
وقال الفخر: قيل: اليمين بمعنى القوة والقدرة، والمعنى: لأخذنا منه باليمين، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة. واعلم أن حاصل هذا أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك: إما بواسطة إقامة الحجة فإنا نقيض له من يعارضه فيه وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه فيكون ذلك إبطالا لدعواه وهدما لكلامه، وإما بأن نسلب عنه القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب اه. فركب من تفسير اليمين بمعنى القوة، أن المراد قوة المتقول لا قوة الله وانتزع من ذلك تأويل الباء على معنى الزيادة ولم يسبقه بهذا التأويل أحد من المفسرين ولا تبعه فيه من بعده فيما رأينا. وفيه نظر، وقد تبين بما فسرنا به الآية عدم الاحتجاج إلى تأويل الفخر.
[48] {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} .
عطف على {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40]، والضمير عائد إلى القرآن الذي تقدم ضميره في قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ، فلما أبطل طعنهم في القرآن بأنه قول شاعر، أو قول كاهن أعقب ببيان شرفه ونفعه، إمعانا في إبطال كلامهم بإظهار الفرق البين بينه وبين شعر الشعراء وزمزمة الكهان، إذ هو تذكرة وليس ما ألحقوه به من أقوال أولئك من التذكير في شيء.
والتذكرة: اسم مصدر التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
والإخبار: ب {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ} إخبار بالمصدر للمبالغة في الوصف. والمعنى: أنه مذكر للناس بما يغفلون عنه من العلم بالله وما يليق بجلاله لينتشلهم من هوة التمادي في الغفلة حتى يفوت الفوات، فالقرآن في ذاته تذكرة لمن يريد أن يتذكر سواء تذكر أم لم يتذكر، وقد تقدم تسمية القرآن بالذكر والتذكير في آيات عديدة منها قوله تعالى في سورة طه: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} وقوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} في سورة [الحجر: 6].
والمراد بالمتقين المؤمنون فإنهم المتصفون بتقوى الله لأنهم يؤمنون بالبعث والجزاء دون المشركين. فالقرآن كان هاديا إياهم للإيمان كما قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] وكلما نزل منه شيء أو تلوا منه شيئا ذكرهم بما عملوا لئلا تعتريهم غفلة أو نسيان
(29/137)
فالقرآن تذكرة للمتقين في الماضي والحال والمستقبل، فإن الإخبار عنهم باسم المصدر يتحمل الأزمنة الثلاثة إذ المصدر لا إشعار له بوقت بخلاف الفعل وما أشبهه.
وإنما علق {لِلْمُتَّقِينَ} بكونه تذكرة لأن المتقين هم الذين أدركوا مزيته.
[49-50] {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
هاتان جملتان مرتبطتان، وأولاهما تمهيد وتوطئة للثانية، وهي معترضة بين التي قبلها والتي بعدها، والثانية منها معطوفة على جملة {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48]، فكان تقديم الجملة الأولى على الثانية اهتماما بتنبيه المكذبين إلى حالهم وكانت أيضا بمنزلة التتميم لجملة {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة:48].
والمعنى: إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون له وبه، وعلمنا بذلك لم يصرفنا عن توجيه التذكير إليكم وإعادته عليكم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42]، فقوبلت صفة القرآن التي تنفع المتقين بصفته التي تضر بالكافرين على طريقة التضاد، فبين الجملتين المتعاطفتين محسن الطباق.
والحسرة: الندم الشديد المتكرر على شيء فائت مرغوب فيه، ويقال لها التلهف، اشتقت من الحسر وهو الكشف لأن سببها ينكشف لصاحبها بعد فوات إدراكه ولا يزال يعاوده، فالقرآن حسرة على الكافرين أي سبب حسر عليهم في الدنيا لأنه فضح ترهاتهم ونقض عماد دينهم الباطل وكشف حقارة أصنامهم، وهو حسرة عليهم في الآخرة لأنهم يجدون مخالفته سبب عذابهم، ويقفون على اليقين بأن ما كان يدعوهم إليه هو سبب النجاح لو اتبعوه لا سيما وقد رأوا حسن عاقبة الذين صدقوا به.
والمكذبون: هم الكافرون. وإنما عدل عن الإتيان بضميرهم إلى الاسم الظاهر لأن الحسرة تعم المكذبين يومئذ والذين سيكفرون به من بعد.
[51] {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} .
عطف على { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة:50] فيحتمل أن يكون الضمير عائدا على القرآن لأن هذه من صفات القرآن، ويحتمل أن يكون مرادا به المذكور وهو كون القرآن حسرة على الكافرين، أي أن ذلك حق لا محالة أي هو جالب لحسرتهم في الدنيا
(29/138)
والآخرة.
وإضافة حق إلى اليقين يجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة، أي إنه لليقين الحق الموصوف بأنه يقين لا يشك في كونه حقا إلا من غشي على بصيرته وهذا أولى من جعل الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي لليقين الحق، أي الذي لا تعتريه شبهة.
واعلم أن حق اليقين، وعين اليقين، وعلم اليقين وقعت في القرآن.
فحق اليقين وقع في هذه السورة وفي آخر سورة الواقعة. وعلم اليقين وعين اليقين وقعا في سورة التكاثر، وهذه الثلاثة إضافتها من إضافة الصفة إلى الموصوف أو من إضافة الموصوف إلى الصفة كما ذكرنا. ومعنى كل مركب منها هو محصل ما تدل عليه كلمتاه وإضافة إحداهما إلى الأخرى.
وقد اصطلح العلماء على جعل كلمة "علم اليقين" اسما اصطلاحيا لما أعطاه الدليل بتصور الأمور على ما هي عليه حسب كلام السيد الجرجاني في كتاب "التعريفات". ووقع في كلام أبي البقاء في "الكليات" ما يدل على أن بعض هذه المركبات نقلت في بعض الاصطلاحات العلمية فصارت ألقابا لمعان، وقال: علم اليقين لأصحاب البرهان، وعين اليقين وحق اليقين أيضا لأصحاب الكشف والعيان كالأنبياء والأولياء على حسب تفاوتهم في المراتب، قال: وقد حقق المحققون من الحكماء بأن بعد المراتب الأربع للنفس يعني مراتب تحصيل العلم للنفس المذكورة في المنطق الأوليات، والمشاهدات الباطنية، والتجريبات، والمتواترات مرتبتين: إحداهما مرتبة عين اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تشاهد المعقولات في المعارف التي تفيضها النفس كما هي، والثانية مرتبة حق اليقين وهي أن تصير النفس بحيث تتصل بالمعقولات اتصالا عقليا وتلاقي ذاتها تلاقيا روحانيا. واصطلح علماء التصوف على جعل كل مركب من هذه الثلاثة لقبا لمعنى من الانكشاف العقلي وجرت في كتاب الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي.
[52] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
تفريع على جميع ما تقدم من وصف القرآن وتنزيهه على المطاعن وتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عما افتراه عليه المشركون، وعلى ما أيده الله به من ضرب المثل للمكذبين به بالأمم التي كذبت الرسل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح الله تسبيح ثناء وتعظيم شكرا له على ما أنعم به
(29/139)
عليه من نعمة الرسالة وإنزال هذا القرآن عليه.
واسم الله هو العلم الدال على الذات.
والباء للمصاحبة، أي سبح الله تسبيحا بالقول لأنه يجمع اعتقاد التنزيه والإقرار به وإشاعته.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص بالاعتقاد والعبادة والقول، فتعين أن يجري في التسبيح القولي اسم المنزه فلذلك قال {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ولم يقل فسبح ربك العظيم. وقد تقدم في الكلام على البسملة وجه إقحام اسم في قوله: {بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
وتسبيح المنعم بالاعتقاد والقول وهما مستطاع شكر الشاكرين إذ لا يبلغ إلى شكره بأقصى من ذلك، قال ابن عطية: وفي ضمن ذلك استمرار النبي صلى الله عليه وسلم على أداء رسالته وإبلاغها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية "اجعلوها في ركوعكم" . واستحب التزام ذلك جماعة من العلماء، وكره مالك التزام ذلك لئلا يعد واجبا فرضا اه. وتقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الواقعة.
(29/140)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المعارج
سميت هذه السورة في كتب السنة وفي "صحيح البخاري" و "جامع الترمذي" ، وفي "تفسير الطبري" وان عطية وابن كثير "سورة سأل سائل". وكذلك رأيتها في بعض المصاحف المخطوطة بالخط الكوفي بالقيروان في القرن الخامس.
وسميت في معظم المصاحف المشرقية والمغربية وفي معظم التفاسير "سورة المعارج". وذكر في "الإتقان" أنها تسمى "سورة الواقع".
وهذه الأسماء الثلاثة مقتبسة من كلمات وقعت في أولها، وأخصها بها جملة {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] لأنها لم يرد مثلها في غيرها من سور القرآن إلا أنها غلب عليها اسم "سورة المعارج" لأنه أخف.
وهي مكية بالاتفاق. وشذ من ذكر أن آية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] مدنية.
وهي السورة الثامنة والسبعون في عداد نزول سور القرآن عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الحاقة وقبل سورة النبأ.
وعد جمهور الأمصار آبها أربعا وأربعين. وعدها أهل الشام ثلاثا وأربعين.
أغراضها
حوت من الأغراض تهديد الكافرين بعذاب يوم القيامة، وإثبات ذلك اليوم ووصف أهواله.
ووصف شيء من جلال الله فيه، وتهويل دار العذاب وهي جهنم. وذكر أسباب
(29/141)
استحقاق عذابها.
ومقابلة ذلك بأعمال المؤمنين التي أوجبت لهم دار الكرامة وهي أضداد صفات الكافرين.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم. وتسليته على ما يلقاه من المشركين.
ووصف كثير من خصال المسلمين التي بثها الإسلام فيهم، وتحذير المشركين من استئصالهم وتبديلهم بخير منهم.
[1-3] {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} .
كان كفار قريش يستهزئون فيسألون النبي صلى الله عليه وسلم: متى هذا العذاب الذي تتوعدنا به، ويسألونه تعجيله قال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:48] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] وكانوا أيضا يسألون الله أن يوقع عليهم عذابا إذا كان القرآن حقا من عنده قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
وقيل: إن السائل شخص معين هو النضر بن الحارث قال: {إِنْ كَانَ هَذَا "أي القرآن" هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله أن يعينه على المشركين بالقحط فأشارت الآية إلى ذلك كله، ولذلك فالمراد ب {سَائِلٌ} فريق أو شخص.
والسؤال مستعمل في معنيي الاستفهام عن شيء والدعاء، على أن استفهامهم مستعمل في التهكم والتعجيز. ويجوز أن يكون {سَأَلَ سَائِلٌ} بمعنى استعجل وألح.
وقرأ الجمهور {سَأَلَ} بإظهار الهمزة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر {سال} بتخفيف الهمزة ألفا. قال في الكشاف: وهي لغة قريش وهو يريد قريشا قد يخففون المهموز في مقام الثقل وليس ذلك قياسا في لغتهم بل لغتهم تحقيق الهمزة ولذلك قال سيبويه: وليس ذا بقياس متلب أي مطرد مستقيم وإنما يحفظ عن العرب قال: ويكون قياسا متلئبا إذا اضطر الشاعر، قال الفرزدق:
(29/142)
راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع
يريد لا هنأك بالهمز. وقال حسان:
سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
يريد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة الزنى. وقال القرشي زيد بن عمرو بن نفيل يذكرر زوجيه:
سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جيتماني بنكر
فهؤلاء ليس لغتهم سال ولا يسال وبلغنا أن سلت تسال لغة اه. فجعل إبدال الهمز ألفا للضرورة مطردا ولغير الضرورة يسمع ولا يقاس عليه فتكون قراءة التخفيف سماعا. وذكر الطيبي عن أبي علي في الحجة: أن من قرأ {سَأَلَ} غير مهموز جعل الألف منقلبة عن الواو التي هي عين الكلمة مثل: قال وخاف. وحكى أو عثمان عن أبي زيد أنه سمع من يقول: هما متساولان. وقال في الكشاف: يقولون أي أهل الحجاز: سلت تسال وهما يتسايلان، أي فهو أجوف يائي مثل هاب يهاب. وكل هذه تلتقي في أن نطق أهل الحجاز {سَأَلَ} غير مهموز سماعي، وليس بقياس عندهم وأنه إما تخفيف للهمزة على غير قياس مطرد وهو رأي سيبويه، وإما لغة لهم في هذا الفعل وأفعال أخرى جاء هذا الفعل أجوف واويا كما هو رأي أبي علي أو أجوف يائيا كما هو رأي الزمخشري. وبذلك يندحض تردد أبي حيان جعل الزمخشري قراءة {سَأَلَ} لغة أهل الحجاز إذ قد يكون لبعض القبائل لغتان في فعل واحد.
وإنما اجتلب هنا لغة المخفف لثقل المفتوح بتوالي حركات قبله وبعده وهي أربع فتحات، ولذلك لم يرد في القرآن مخففا في بعض القراءات إلا في هذا الموضع إذ لا نظير له في توالي حركات، وإلا فإنه لم يقرأ أحد بالتخفيف في قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي} [البقرة:186] وهو يساوي {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} به قوله: سالتهم وتسالهم ولا يسالون.
وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} بمنزلة سئل لأن مجيء فاعل الفعل اسم فاعل من لفظ فعله لا يفيد زيادة علم بفاعل الفعل ما هو، فالعدول عن أن يقول: سئل بعذاب، إلى قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ} ، لزيادة تصوير هذا السؤال العجيب، ومثل قول يزيد بن عمرو بن خويلد يهاجي النابغة:
(29/143)
وإن الغدر قد علمت معد ... بناه في بني ذبيان بان
ومن بلاغة القرآن تعدية {سال} بالباء ليصلح الفعل لمعنى الاستفهام والدعاء والاستعجال، لأن الباء تأتي بمعنى "عن" وهو من معاني الباء الواقعة بعد فعل السؤال نحو {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان:59]، وقول علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي إن تسألوني عن النساء، وقال الجوهري عن الأخفش: يقال خرجنا نسأل عن فلان وبفلان. وجعل في الكشاف تعدية فعل سأل بالباء لتضمينه معنى عني واهتم. وقد علمت احتمال أن يكون سال بمعنى استعجل، فيكون تعديته بالباء كما في قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت:53] وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى:18].
وقوله: {لِلْكَافِرِينَ} يجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا ب {وَاقِعٍ} ، ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هو للكافرين.
واللام لشبه الملك، أي عذاب من خصائصهم كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24].
ووصف العذاب بأنه واقع، وما بعده من أوصافه إلى قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} [المعارج:6] إدماج معترض ليفيد تعجيل الإجابة عما سأل عنه سائل بكلا معنيي السؤال لأن السؤال لم يحك فيه عذاب معين وإنما كان مجملا لأن السائل سأل عن عذاب غير موصوف، أو الداعي دعا بعذاب غير موصوف، فحكي السؤال مجملا ليرتب عليه وصفه بهذه الأوصاف والتعلقات، فينتقل إلى ذكر أحوال هذا العذاب وما يحف به من الأهوال.
وقد طويت في مطاوي هذه التعلقات جمل كثيرة كان الكلام بذلك إيجازا إذ حصل خلالها ما يفهم منه جواب السائل، واستجابة الداعي، والإنباء بأنه عذاب واقع عليهم من الله لا يدفعه عنهم دافع، ولا يغرهم تأخره.
وهذه الأوصاف من قبيل الأسلوب الحكيم لأن ما عدد فيه من أوصاف العذاب وهوله ووقته هو الأولى لهم أن يعلموه ليحذروه، دون أن يخوضوا في تعيين وقته، فحصل من هذا كله معنى: أنهم سألوا عن العذاب الذي هددوا به عن وقته ووصفه سؤال استهزاء، ودعوا الله أن يرسل عليهم عذابا إن كان القرآن حقا، إظهارا لقلة اكتراثهم
(29/144)
بالإنذار بالعذاب. فأعلمهم أن العذاب الذي استهزأوا به واقع لا يدفعه عنهم تأخر وقته، فإن أرادوا النجاة فليحذروه.
وقوله: {مِنَ اللَّهِ} يتنازع تعلقه وصفا {وَاقِعٍ} و {دَافِعٌ} . و {مِنَ} للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلق به.
فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة. وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مجازي تتناوله قدرة القادر مثل {مِنَ} في قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ} [التوبة:118] وقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ} [النساء:108].
وبهذا يكون حرف {مِنَ} مستعملا في معنيين مجازيين متقاربين.
وإجراء وصف {ذِي الْمَعَارِجِ} على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلاله ولإدماج الإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى: {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33]. ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين.
والمعارج: جمع معرج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به، أي يصعد من سلم ومدرج.
[4] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
اعتراض لبيان أن المعارج منازل من الرفعة الاعتبارية ترتقي فيها الملائكة وليست معارج يعرج إليه فيها، أي فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها، أي جاعلها، ونظيره قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15].
والروح: هو جبريل عليه السلام الموكل بإبلاغ إرادة الله تعالى وإذنه وتخصيصه بالذكر لتمييزه بالفضل على الملائكة. ونظير هذا قوله: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] أي في ليلة القدر.
(29/145)
و {الرُّوحُ} : يطلق على ما به حياة الإنسان وتصريف أعماله وهو المذكور في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]. فيجوز أن يكون مما شمله قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، أي أرواح أهل الجنة على اختلاف درجاتها في المعارج. وهذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة. وهذه تقريبات لنهاية عظمة تلك المنازل وارتقاء أهل العالم الأشرف إليها وعظمة يوم وقوعها.
وضمير {إِلَيْهِ} عائد إلى الله على تأويل مضاف على طريقة تعلق بعض الأفعال بالذوات، والمراد أحوالها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي أكلها و {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] يتنازع تعلقه كل من قوله: {وَاقِعٍ} وقوله: {تَعْرُجُ} .
[5] {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} .
اعتراض مفرع: أما على ما يومئ إليه {سَأَلَ سَائِلٌ} من أنه سؤال استهزاء، فهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما على {سَأَلَ سَائِلٌ} بمعنى: دعا داع.
فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة {سَأَلَ سَائِلٌ} إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضا بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف.
والصبر الجميل: الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر، أي اصبر صبرا محضا، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعكر معناها من بقايا أضدادها، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} في سورة يوسف [18] وسيجيء قوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} في المزمل [10].
[6-7] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً. وَنَرَاهُ قَرِيباً} .
تعليل لجملتي {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج:1] ولجملة {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} [المعارج:5]، أي سألوا استهزاء لأنهم يرونه محالا وعليك بالصبر لأنا نعلم تحققه، أي وأنت تثق بأنه قريب، أي محقق الوقوع، وأيضا هو تجهيل لهم إذا اغتروا بما هم فيه من الأمن ومسالمة العرب لهم ومن الحياة الناعمة فرأوا العذاب الموعود بعيدا، إن كان في الدنيا فلأمنهم، وإن كان في الآخرة فلإنكارهم البعث، والمعنى: وأنت لا تشبه حالهم
(29/146)
وذلك يهون الصبر عليك فهو من باب {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28].
و {بَعِيداً} هنا كناية عن معنى الإحالة لأنهم لا يؤمنون بوقوع العذاب الموعود به، ولكنهم عبروا عنه ببعيد تشكيكا للمؤمنين فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3].
واستعمل {قَرِيباً} كناية عن تحقق الوقوع على طريق المشاكلة التقديرية والمبالغة في التحقيق. وبين {بَعِيداً} و {قَرِيباً} محسن الطباق.
[8-18] {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً، يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيه، كَلَّا إِنَّهَا لَظَى، نَزَّاعَةً لِلشَّوَى، تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .
يجوز أن يتعلق ب {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} بفعل {تَعْرُجُ} ، وأن يتعلق ب {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} ابتداء الكلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} لأن عم المسائلة مسبب عن شدة الهول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المول لو يفتدي من ذلك العذاب.
و {الْمُهْلِ} : دردي الزيت.
والمعنى: تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمن [37] {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} .
والعهن: الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقا، وقيل المصبوغ ألوانا مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير:
كان فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم
والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر. والعهنة: شجر بالبادية لها ورد أحمر.
(29/147)
ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة [5] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} فإيثار العهن بالذكر لإكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى: {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَ} [فاطر:27]. وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحل تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصير إلى عالم الآخرة.
ومعنى {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق {يَسْأَلُ} لظهوره من المقام ومن قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميما، قال كعب بن زهير:
وقال كل خليل كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
والحميم: الخليل الصديق.
وقرأ الجمهور بفتح ياء {يَسْأَلُ} على البناء للفاعل، وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول. فالمعنى: لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر.
وموقع {يُبَصَّرُونَهُمْ} الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحماء لا يرى بعضهم بعضا لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذابا فوق العذاب.
ويجوز أن تكون جملة {يُبَصَّرُونَهُمْ} في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميما في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له: انظر ماذا يقاسي فلان. و {يُبَصَّرُونَهُمْ} مضارع بصره بالأمر إذا جعله مبصرا له، أي ناظرا فأصله: يبصرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل.
والضميران راجعان إلى {حَمِيمٌ} المرفوع وإلى {حَمِيماً} المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظرا إلى عموم {حَمِيمٌ} و {حَمِيماً} في سياق النفي.
ويود: يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب. وإما بكلام يصدر منه نظير قوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذ فيقول: افتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون
(29/148)
ذلك فضيحة له يومئذ بين أهله.
و {الْمُجْرِمُ} : الذي أتى الجرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع.
و {يَوْمِئِذٍ} هو {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} فإن كان قوله: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ} متعلقا ب {يَوَدُّ} فقوله {يَوْمِئِذٍ} تأكيد ل {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} ، وإن كان متعلقا بقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ} فقوله: {يَوْمِئِذٍ} إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده.
و {لَوْ} مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل {يَوَدُّ} ، أي يوم الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره.
وقرأ الجمهور {يَوْمِئِذٍ} بكسر ميم "يوم" مجرورا بإضافة "عذاب الله". وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإضافة "يوم" إلى "إذ"، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان.
والافتداء: إعطاء الفداء، وهو ما يعطى عوضا لإنقاذ من تبعة، ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ} في [البقرة:85] وقوله: {وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91]، والمعنى: لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض.
ومعنى {مِنْ} الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يتخلص. و {وَصَاحِبَتِهِ} : زوجه.
والفصيلة: الأقرباء الأدنون من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول منهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والمهات قال ابن العربي: قال أشهب سألت مالكا عن قول الله تعالى: {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} فقال هي أمه اه، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأما على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب.
وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة.
(29/149)
ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيله قصدا للإيجاز.
والإيواء: الضم والانحياز. قال تعالى: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: 69] وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود:43].
و {الَّتِي تُؤْوِيهِ} : إن كانت القبيلة، فالإيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئا يومئذ.
وإن كانت الأم فالإيواء على حقيقته باعتبار الماضي وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر:9] أي يود لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذا كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني.
{وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} عطف على {بِبَنِيهِ} ، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعز عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة غي استبقائه على نحو قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوْ افْتَدَى بِهِ} [آل عمران:91].
و {مَنْ} الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء.
و {ثُمَّ} في قوله: {ثُمَّ يُنْجِيه} للتراخي الرتبي، أي يود بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله: {يُنْجِيه} عائد إلى الافتداء المفهوم من {يَفْتَدِي} على نحو قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
والمعطوف ب {ثُمَّ} هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه ب {ثُمَّ} للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة.
ومتعلق {يُنْجِيه} محذوف يدل عليه قوله: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} .
و {كَلَّا} حرف ردع وإبطال بكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو
(29/150)
لإبطال ما يتفوه به من تمني ذلك. قال تعالى: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، ألا ترى أنه عبر عن قوله بذلك في الودادة، في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ} [النساء:42] أي يصيرون من ترابها.
فالتقدير: يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء.
وجملة {إِنَّهَا لَظَى} استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف {كَلَّا} من الإبطال. وضمير {إِنَّهَا} عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى. ولما كان {لَظَى} مقترنا بألف التأنيث أنث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف، والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} ، أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلا بجمع المال.
فحرف "إن" للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، إلا إلى الإخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس بذلك بمحل التردد. و {لَظَى} خبر "إن".
ويجوز أن يكون ضمير {إِنَّهَا} ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي أن قصتك وشأنك لظى، فتكون {لَظَى} مبتدأ.
وقرأ الجمهور {نَزَّاعَةً} بالرفع فهو خبر ثان عن "إن" أن جعل الضمير ضميرا عائدا إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن {لَظَى} إن جعل الضمير ضمير القصة وجعل {لَظَى} مبتدأ.
وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة. والتعريض هو هو، وحرف "إن" أما للتوكيد متوجها إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأخبار المهتم بها.
و {لَظَى} : علم منقول من اسم اللهب، جعل علما ل"جهنم"، وألفه ألف تأنيث، وأصله: لظى بوزن فتى منونا اسم جنس للهب النار. فنقل اسم الجنس إلى جعله علما على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيها بذلك التغيير على نقله إلى العلمية.
والعرب قد يدخلون تغيير على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شمس بفتح الشين. كما قال ابن جني في شرح قول تأبط
(29/151)
شرا:
إني لمهدي من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
وليس من العلم بالغلبة إذ ليس معرفا ولا مضافا، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعا من الصرف فلا تقول: لظى بالتنوين إلا إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول: اللظى إلا إذا أردت لهبا معينا، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف.
والنزاعة: المبالغة في النزع وهو الفصل والقطع.
والشوى: اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غير الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكم أحد من شوى، وقيل الشواة: جلدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس.
وجملة {تَدْعُو} إما خبر ثان حسب قراءة {نَزَّاعَةً} بالرفع، وإما حال على القراءتين. والدعاء في قوله: {تَدْعُو} يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدبة، ورمز إلى ذلك ب {تَدْعُو} وذلك على طريقة التهكم.
ويكون {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى} قرينة، أو تجريدا، أي من أدبر وتولى عن الإيمان بالله. وفيه الطباق لأن الإدبار والتولي يضادان الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون {تَدْعُو} مشتقا من الدعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي:
أمسى بوهبين مختارا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب
الربب بكسر الراء وبموحدتين: جمع ربة بكسر الراء وتشديد الموحدة: نبات ينبت في الصيف أخضر.
ويجوز أن يكون {تَدْعُو} مستعملا حقيقة، و "الذين يدعون": هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسناد الدعاء إلى جهنم إسنادا مجازيا لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعوا حقيقة بأن يخلق الله فيها أصواتا تنادي الذين تولوا أن يردوا عليها فتلتهمهم.
(29/152)
و {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعَى} جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتدوا من العذاب يومئذ. وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإسلام.
وهي ثلاثة: الإدبار، والإعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم.
والإدبار: ترك شيء في جهة الوراء لأن الدبر هو الظهر، فأدبر: جعل شيئا وراءه بأن لا يعرج عليه أصلا أو بأن يقبل عليه ثم يفارقه.
والتولي: والإدبار عن الشيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الولاية وهي الملازمة قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، ثم قالوا: ولى عنه، أرادوا اتخذ غيره وليا، أي ترك ولايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا: رغب فيه ورغب عنه، فصار "ولي" بمعنى: أدبر وأعرض، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم:29] أي عامله بالإعراض عنه.
ففي التولي معنى إيثار غير المتولى عنه، ولذلك يكون بين التولي والإدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عطف و {تَوَلَّى} على {أَدْبَرَ} ، أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل. وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإدبار مرادا به إدبار غير تول، أي إدبارا من أول وهلة، ويكون التولي مرادا به الإعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإدبار مستعارا لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحال الذين قال الله فيهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26]، والتولي مستعار للإعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:31] وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعذاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين.
والمقصود من ذكرهما معا تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلق {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} متحدا يتنازعه، ملا الفعلين، ويقدر بنحو: عن الحق، وفي الكشاف: أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحدا.
ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلق هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي: أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإيمان من أصله، وأعرض عن طاعة
(29/153)
الرسول بعد سماع دعوته، وعن قتادة عكسه: أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله، وتبعه الفخر والنبسابوري.
والجمع والإيعاء في قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتيب الثاني على الأول أن مفعول {جَمَعَ} المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يجعل في وعاء.
والوعاء: الظرف، أي المال فكنزه ولم ينفع به المحاويج، ومنه جاء فعل {أَوْعَى} إذا شح. وفي الحديث "ولا توعي فيوعى عليك" .
وفي قوله: {جَمَعَ} إشارة إلى الحرص، وفي قوله: {فَأَوْعَى} إشارة إلى طول الأمل. وعن قتادة {جَمَعَ فَأَوْعَى} كان جموعا للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يقدر ل {جَمَعَ} مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث. وعليه يكون {فَأَوْعَى} مستعارا لملازمته ما فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنة لا يفرط فيها.
[19-21] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
معترضة بين {مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى، وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 17-18] وبين الاستثناء {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:22] الخ.
وهي تذليل لجملة {جَمَعَ فَأَوْعَى} تنبيها على خصلة تخامر نفوس البشر فتحملهم على الحرص لنيل النافع وعلى الاحتفاظ به خشية نفاذه لما فيهم من خلق الهلع. وهذا تذييل لوم وليس في مسافة عذر لمن جمع فأوعى، ولا هو تعليل لفعله.
وموقع حرف التوكيد ما تتضمنه الجملة من التعجيب من هذه الخصلة البشرية، فالتأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر ولفت الأنظار إليه والتعريض بالحذر منه.
والمقصود من التذييل هو قوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} . وأما قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً} فتمهيد وتتميم لحالتيه.
فالمراد بالإنسان: جنس الإنسان لا فرد معين كقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] وقوله: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن.
(29/154)
وهلوع: فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلع.
والهلع لفظ غامض من غوامض اللغة قد تساءل العلماء عنه، قال الكشاف وعن أحمد بن يحيى وهو ثعلب قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر1: ما الهلع? فقلت: قد فسره الله ولا يكون تفسير أبين من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس اه. فسارت كلمة ثعلب مسيرا أقنع كثيرا من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع. وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} تفسير لمدلول الجزع، تعين أن يكون مدلول الكلمة معنى مركبا من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيرا له، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم، وكثيرا من أيمة اللغة فسر الهلع بالجزع، أو بشدة الجزع، أو بأفحش الجزع، والجزع: أثر من آثار الهلع وليس عينه، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب:
ما إن جزعت ولا هلعت ... ولا يرد بكاي زندا
إذ عطف النفي الهلع على نفي الجزع، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف، ولو كان أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشوا. ولذلك تكلف المرزوقي في "شرح الحماسة" لمعنى البيت تكلفا لم يغن عنه شيئا قال: فكأنه قال: ما حزنت عليه حزنا هينا قريبا ولا فظيعا شديدا، وهذا نفي للحزن رأسا كقولك: ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم اه.
والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاق منه. وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره، وبعضهم بالضجر، وبعضهم بالشح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء. وما ذكرناه في ضبطه يجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع. ومعنى {خُلِقَ هَلُوعاً} : أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقة تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعها البشرية، إذ ليس في تعلق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف
ـــــــ
1 محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان والي شرطة بغداد في زمن المتوكل على الله، وكان شاعرا أدبيا ملازما لأهل العلم توفي سنة 253 وأبوه عبد الله والي خراسان في زمن المأمون وممدوح أبي تمام توفي سنة 229.
(29/155)
صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها، وقد تكون للشيء الحالة وضدها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حال مع تحقيق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه، وإذ ذكر الله الهلع هنا عقب مذمة الجمع والإيعاء، فقد أشعر بأن الإنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله: {خُلِقَ هَلُوعاً} كناية بالخلق عن تمكن ذلك الخلق منه وغلبته على نفسه.
المعنى: أن من مقتضى تركيب الإدراك البشري أن يحدث فيه الهلع.
بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية ركز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف، وساعية إلى الملائم ومعرضة عن المنافر. وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإدراك في استخدامها كما يجب في حدود المقدرة البدنية التي أعطها النوع والتي أعطيها إفراد النوع، كل ذلك ليصلح الإنسان لإعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحا يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعدادا لصلاحيته لإعمار عالم الخلود، ثم جعل له إدراكا يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر. وخلق فيه إلهاما يحب النافع ويكره الضار، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضار فيبتغي ما يظنه نافعا غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل، أو شاعرا بذلك ولكن شغفه بحصول النفع العاجل يرجح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدرا معاذير أو حيلا يقتحم بها ما فيه من ضر آجل. وإن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنه ضر الضار ونفع النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تحدث فيه إيثارا لاتباع الضار لملائمة فيه ولو في وقت أو عند عارض، إعراضا عن اتباع النافع لكلفة في فعله أو منافرة لوجدانه، وذلك من اشتمال تركيب قواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان، وصلاحية لإفساد ذلك أو بعثرته.
غير أن الله جعل للإنسان عقلا وحكمة إن هو أحسن استعمالها نخلت صفاته، وثقفت من قناته، ولم يخله من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يريض جامح نفسه، وكيف يوفق بين إدراكه وحسه، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء.
(29/156)
فإذا أخبر عن الإنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك: إلقاء تبعة ذلك عليه لأنه فرط في إراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء.
وإذا أسند ما يأتيه الإنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود: التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] عقب قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:78]. وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة، وحلكت عليهم الأجواء، ففكروا وقدروا وما استطاعوا مخلصا وما قدروا.
واعلم أن كلمة "خلق الإنسان" إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] بل كان من الأخلاق والغرائز قد يعنى بها التنبيه على جبلة الإنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضا بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} ، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقد ترد لبيان أصل ما فطر عليه الإنسان وما طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:4-5] ففعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة. قال عروة بن أذينة:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
أراد إبطال أن يكون ملها بحجة أنها خلقت حبيبة له كما خلق محبوبها، أي أن محبته إياها لا تنفك عنه.
والهلع: صفة غير محمودة، فوصف الإنسان هنا بها لوم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها، ولذلك ذيل به قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج: 18] على كلا معنييه.
وانتصب {جَزُوعاً} على الحال في الضمير المستتر في {هَلُوعاً} ، أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر.
وقوله: {مَنُوعاً} عطف على {جَزُوعاً} ، أي خلق هلوعا في حال كونه جزوعا إذا مسه الشر، ومنوعا إذا مسه الخير.
(29/157)
و {الشَّرُّ} : الأذى مثل المرض والفقر.
و {الْخَيْرُ} : ما ينفع الإنسان ويلائم رغباته مثل الصحة والغنى.
و {الجَزُوع} : الشديد الجزع، والجزع: ضد الصبر.
و {المَنُوع} : الكثير المنع، أي شديد المنع لبذل شيء مما عنده من الخير.
و {إذا} في الموضعين ظرفان يتعلقان كل واحد بما اتصل به من وصفي {جَزُوعاً} و {مَنُوعاً} .
[22-35] {إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} .
استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ، من قوله: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} [المعارج:11] الآية.
فالمعنى على الاستدراك، والتقدير: لكن المصلين الموصوفين بكيت وكيت أولئك في جنات مكرمون.
فجملة {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} حيث وقعت بعد {إلا} المنقطعة وهي بمعنى "لكن" فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم "لكن" المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد "لكن" المخففة وهو ما حققه الدماميني، وإن كان ابن هشام رأى عد الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محل لها من الإعراب.
والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة.
وهذه صفات ثمان هي من أشعار المسلمين، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطنابا في الثناء عليهم لأن مقام الثناء مقام إطناب، وتنبيها
(29/158)
على أن كل صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات.
وهذه الصفات لا يشاركه المشركون في معظمها بالمرة، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدر، مع أحلافه دون أعدائه، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب، وإذا خشي أن يوصم بالكذب. وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث، وغدر بعضهم بعضا، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة.
ولما كان وصف {الْمُصَلِّينَ} غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42-43] الآية، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} أي مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها.
والدوام على الشيء: عدم تركه، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار.
وفي إضافة "صلاة" إلى ضمير {الْمُصَلِّينَ} تنويه باختصاصها بهم، وهذا الوصف للمسلمين مقابل وصف الكافرين في قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ} [المعارج:1-2].
ومجيء الصلة جملة اسمية دون أن يقال: الذين يدومون. لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام.
وإعادة اسم الموصول مع الصلات المعطوفة على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} لمزيد العناية بأصحاب تلك الصلات.
وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم {حق} للإشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم من مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت.
ومعنى كون الحق معلوما أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم.
ومجيء الصلة جملة اسمية لإفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعا لتوهم
(29/159)
الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشح للنفوس.
والسائل: هو المستعطي، و {الْمَحْرُومِ} : الذي لا يسأل الناس تعففا مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم.
وأصل المحروم: الممنوع من مرغوبه، وتقدم في سورة الذاريات [19] في قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18].
والتصديق بيوم الدين هو الإيمان بوقوع البعث والجزاء، و {الدِّينِ} : الجزاء. وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:6].
ولما كان التصديق من عمل القلب ولم يتصور أ، يكون فيه تفاوت أتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار.
ووصفهم بأنهم {مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} مقابل قوله في حق الكافرين {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ} [المعارج: 1-2] لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله.
والإشفاق: توقع حصول المكروه وأخذ الحذر منه.
وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإشفاق لأنه من المغيبات، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه.
وجملة {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} معترضة، أي غير مأمون لهم، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمن إذ قالوا {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:138]. ووصفهم بأنهم لفروجهم حافظون مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج:10] إذا أخص الأحماء بالرجل وزوجه، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة من غير الأزواج، قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين، أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنى ولا مخالة ولا بغاء، ولذلك عقب بالتفريع بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
(29/160)
والعادي: المفسد، أي هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم، ونشأت بينهم الإححن من الغيرة.
وذكر رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يود الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بواليه وأهل عهده.
والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله.
والرعي: الحفظ والحراسة. وأصله رعي الغنم والإبل.
وقرأ الجمهور: {لِأَمَانَاتِهِمْ} بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير {لِأَمَانَاتِهِمْ} بالإفراد، والمراد الجنس.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد.
ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجبا عليه، قال تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282].
والقيام بالشهادة: الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} في سورة [البقرة:3].
وباء {بِشَهَادَاتِهِمْ} للمصاحبة، أي يقومون مصاحبين للشهادة، ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية.
فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم.
والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريبا أو صديقا، وقد يثير الشهادة على المرء إحنة منه وعداوة.
(29/161)
وقرأ الجمهور {بِشَهَادَاتِهِمْ} بصيغة الإفراد، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها. وقرأ حفص ويعقوب {بِشَهَادَاتِهِمْ} بصيغة الجمع. وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه.
وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل: عافاه الله، وقاتله الله، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها. وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به، بذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجردا تأكيد لجملة {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين.
وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة، وأن الصلوات تكفر الذنوب كحديث "ما يدريكم ما بلغت به صلاته" .
وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع.
ولما أجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مكرمون في الجنة.
وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة [البقرة: 5].
والإكرام: التعظيم وحسن اللقاء، أي هم من جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء، قال تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23-24] وقال: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72].
وهذا يقتضي أن يكون قوله: {فِي جَنَّاتٍ} خبرا عن اسم الإشارة، وقوله: {مُكْرَمُونَ} خبرا ثانيا.
[36-41] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ
(29/162)
كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ، كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ، فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} .
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ، عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ، أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ} .
فرع استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.
فرع ذلك على ما أفاده في قوله: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35].
والمعنى: أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فلماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.
وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلوا عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحروف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاما للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.
ومعنى {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا} في سورة [البقرة: 246]. وتركيب "ماله" لا يخلوا من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصب الاستفهام. فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي {قِبَلَكَ} فيكون ظرفا مستقرا وصاحب الحال هو {للَّذِينَ كَفَرُوا} . ويجوز أن تكون {مُهْطِعِينَ} فيكون {قِبَلَكَ} ظرفا لغوا متعلقا بـ {مُهْطِعِينَ} . وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخر المجرى اللائق به في التركيب. وكتب في المصحف اللام الداخلة على {الَّذِينَ} مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر.
والإهطاع: مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} في سورة [القمر: 8].
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب "الكشاف" : كان المشركون يجتمعون
(29/163)
حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم. فأنزل الله هذه الآية.
وقبل: اسم بمعنى "عند".
وتقديم الظرف على {مُهْطِعِينَ} للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة.
وموقع قوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} مثل موقع {قِبَلَكَ} وموقع {مُهْطِعِينَ} . والمقصود: كثرة الجهات، أي واردين إليك.
والتعريف في {الْيَمِينِ} و {الشِّمَالِ} تعريف الجنس أو الآلف واللام عوض عن المضاف إليه.
والمقصود في ذكر اليمين والشمال: الإحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حولهما، ومثله قول قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني مرة وأمامي
يريد: من كل جهة.
و {عِزِينَ} حال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} . وعزين: جمع عزة بتخفيف الزاي، وهي الفرقة من الناس، اسم بوزن فعله. وأصله عزوة بوزن كسوة، وليست بوزن عدة. وجرى جمع عزة على الإلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سنة من كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر مثل عضة "للقطعة".
وهذا التركيب في قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} إلى قوله: {جَنَّةَ نَعِيمٍ} يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يضن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا طالبوا الاهتداء بهديه.
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها.
ويجوز أن يكون الكلام استفهاما مستعملا في التعجيب من حال إسراعهم ثم
(29/164)
تكذيبهم واستهزائهم.
وجملة {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} بدل اشتمال عن جملة {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} الآية، لأن التفافهم حول النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يمون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأورد استفهام عليه.
وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين: نحن ندخل الجنة قبل المسلمين، فجاز أن يكون الاستفهام إنكارا لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، أو بالتعبير بفعل {يَطْمَعُ} عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:64] أي يتظاهرون بأنهم يحذرون.
وأسند الطمع إلى {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} دون أن يقال: أيطمعون أن يدخلوا الجنة، تصويرا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله: {كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ} تقوية التهكم بهم.
ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما نبي عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي {كَلاَّ} أي لا يكون ذلك. وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعا لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكما.
وهنا تم الكلام على إثبات الجزاء.
{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}
كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإنكار الذي ذكر إجمالا بقوله المتقدم آنفا {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً، وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6-7] فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]. فالخبر بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلقهم بعد فنائهم.
فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفا.
(29/165)
والمعنى: أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.
فما صدق "ما يعلمون"هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشأة الأولى فألهاهم التعود بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكون منها بتكوين آخر.
وعدل عن أن يقال: إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2] وقال {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77-78] وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعلم ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]. وكان في قوله تعالى: {مِمَّا يَعْلَمُونَ} إيماء إلى أنهم يخلقون الخلق الثاني {مِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} كما قال في الآية الأخرى {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} [يس:36] وقال {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] فكان في الخلق الأول سر لا يعلمونه.
ومجيء {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ} موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ} مفرعا على قوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} والتقدير: فإنا لقادرون الآية.
وجملة "ا أقسم برب المشارق"الخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه: ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية لدلالته من عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات،
(29/166)
ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب. أقسم الله به على سنة أقسام القرآن.
وفي إيثار {الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} بالقسم بربها رعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإحياء بعد الموت.
وتقدم القول في دخول حرف النفي مع "لا أقسم" عند قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} في سورة [الحاقة:38-39] وقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} في سورة [الواقعة:75].
وقوله: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} يحتمل معنيين: أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيرا منهم، أي نبدل ذواتهم خلقا خيرا من خلقهم الذي هم عليه اليوم. والخيرية في الإتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقا أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلق الأول مناسبا لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون {نُبَدِّلَ} مضمنا معنى: نعوض، ويكون المفعول الأول ل {نُبَدِّلَ} ضميرا مثل ضمير {مِنْهُمْ} أي نبدلهم والمفعول الثاني {خَيْرًا مِنْهُمْ} .
و"من" تفضيلية، أي خيرا في الخلقة، والتفضيل باعتبار اختلاف زماني الخلق الأول والخلق الثاني، أو اختلاف عالميهما.
والمعنى الثاني: أن نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون {نُبَدِّلَ} على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفا مثل ما في المعنى الأول، ويكون {خَيْرًا} منصوبا على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]، ويكون هذا تهديدا لهم بأن سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين كما قال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم:19] وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
وفي هذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم.
وذيل بقوله: {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق بالحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت:4]، ومنه قول مرة بن عداء الفقعسي:
(29/167)
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
يريد: كأنك لم تغلب إذ تداركت أمرك وأدركت طلبتك.
و {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} متعلق ب {مَسْبُوقِينَ} ، أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة [61] إنا لقادرون {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة:61].
[42-44] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ، خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
تفريع على ما تضمنه قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج:36] من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم: إننا ندخل الجنة، الاستهزاء بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم. وبعد إبطاله إجمالا وتفصيلا فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعلم بأنهم لم يجد فيهم الهدي والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة.
ومعنى الأمر بالترك في قوله: {فَذَرْهُمْ} أنه أمر بترك ما أهم النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإعراض بقوله: {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} .
فجملة {يَخُوضُوا} وجملة {وَيَلْعَبُوا} حالان من الضمير الظاهر في قوله: {فَذَرْهُمْ} . وتلك الحال قيد للأمر في قوله: {فَذَرْهُمْ} . والتقدير: فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم.
وتعدية فعل "ذر" إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات. والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي حرم عليكم أكلها، وقوله {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] أي أن تجمعوهما معا في عصمة نكاح والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} في سورة [الطور: 45].
أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله: {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفا كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] إذ التقدير: فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام.
(29/168)
وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يعده جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافا للكرخي وبعض الشافعية.
وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تلهب أخاها عمرا للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل:
ودع عنك عمرا ان عمرا مسالم ... وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم
وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8].
وبهذا تعلم أن قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ} لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين.
والخوض: الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
واللعب: الهزل والهزء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجد في الأمر لاستطارة رشدهم حسدا وغيظا وحنقا.
وجزم {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر: أن تذرهم يخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك، ومثل هذا الجزم كثير نحو {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية:14] ونحو {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53]. وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثالهم مجزوما بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيد نكتة المبالغة.
و {حَتَّى} متعلقة ب {ذَرْهُمْ} لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه وهو يوم النشور حين يجازون على استهزائهم وكفرهم، فلا يكون غاية لـ {يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} والغاية هنا كناية عن دوام تركهم.
وإضافة "يوم" إلى ضميرهم لأدنى ملابسة.
وقرأ الجمهور {يُلاقُوا} بألف بعد اللام من الملاقاة. وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء.
(29/169)
واللقاء: مجاز على كل تقدير: فعلى قراءة الجمهور وهو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يلقى ولا يلقى. وعلى قراءة أبي جعفر وهو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذوات.
و {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} بدل من {يَوْمَهُمُ} ليس ظرفا.
والخروج: بروز أجسادهم من الأرض.
وقرأ الجمهور {يَخْرُجُونَ} بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول.
والأجداث: جمع جدث بفتحتين وهو القبر، والقبر: حفير يجعل لمواراة الميت.
وضمير {يَخْرُجُونَ} عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة. وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر.
والنصب بفتح فسكون: الصنم، ويقال: نصب بضمتين، ووجه تسميته نصبا أنه ينصب للعبادة، قال الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
و {يُوفِضُونَ} مضارع أوفض، إذا أسرع وعدا في سيره، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم، شبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإسراع اختصاصا بهم، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دع، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام.
وقرأ الجمهور {نُصُبٍ} بفتح النون وسكون الصاد. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد.
وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل، كما قال تعالى: {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى:45] وقال {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7]. وأصل الخشوع: ضهور الطاعة أو المخافة على الإنسان.
والرهق: الغشيان، أي التغطية بساتر، وهو استعارة هنا لأن الذل لا تغشى.
وجملة {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} فذلكه لما تضمنته السورة في أول
(29/170)
أغراضها من قوله: {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} إلى قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ} الآيات [المعارج: 1-4]، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . وفيها محسن رد العجز على الصدر.
(29/171)